روابط مصاحف م الكاب الاسلامي

روابط مصاحف م الكاب الاسلامي
 

Translate

الأربعاء، 1 يونيو 2022

مجلد 3. و4.تفسير البيضاوي البيضاوي

 مجلد 3. و4.تفسير البيضاوي البيضاوي

3.  : مجلد 3.تفسير البيضاوي البيضاوي

112 - { التائبون } رفع على المدح أي هم التائبون والمراد بهم المؤمنون المذكورون ويجوز أن يكون مبتدأ خيره محذوف تقديره التائبون من أهل الجنة وإن لم يجاهدوا لقوله : { وكلا وعد الله الحسنى } أو خبره ما بعده أي التائبون عن الكفر على الحقيقة هم الجامعون لهذه الخصال وقرئ بالياء نصبا على المدح أو جرا صفة للمؤمنين { العابدون } الذين عبدوا الله مخلصين له الدين { الحامدون } لنعمائه أو لما نابهم من السراء والضراء { السائحون } الصائمون لقوله صلى الله عليه و سلم [ سياحة أمتي الصوم ] شبه بها لأنه يعوق عن الشهوات أو لأنه رياضة نفسانية يتوصل بها إلى الاطلاع على حفايا الملك والملكوت أو السائحون للجهاد أو لطلب العلم { الراكعون الساجدون } في الصلاة { الآمرون بالمعروف } بالإيمان والطاعة { والناهون عن المنكر } عن الشرك والمعصية والعاطف فيه للدلالة على أنه بما عطف عليه في حكم خصلة واحدة كأنه قال : الجامعون بين الوصفين وفي قوله تعالى : { والحافظون لحدود الله } أي فيما بينه وعينه من الحقائق والشرائع للتنبيه على أن قبل مفصل الفضائل وهذا مجملها وقيل إنه للإيذان بأن التعداد قد تم بالسابع من حيث أن السبعة هو العدد التام والثامن ابتداء تعداد آخر معطوف عليه ولذلك سمي واو الثمانية { وبشر المؤمنين } يعني به هؤلاء الموصوفين بتلك الفضائل ووضع { المؤمنين } موضع ضميرهم للتنبيه على أن إيمانهم دعاهم إلى ذلك وأن المؤمن الكامل من كان كذلك وحذف المبشر به للتعظيم كأنه قيل : وبشرهم بما يجل عن إحاطة الأفهام وتعبير الكلام

113 - { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } روي : [ أنه صلى لله عليه وسلم قال لأبي طالب لما حضرته الوفاة : ( قل كلمة أحاج لك بها عند الله ) فأبى فقال عليه الصلاة و السلام : لا أزال أستغفر لك ما لم أنه عنه ) فنزلت ] وقيل [ لما افتتح مكة خرج إلى الإيواء فزار قبر أمه ثم قام مستعبرا فقال : إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي وأنزل علي الآيتين ) ] { ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم } بأن ماتوا على الكفر وفيه دليل على جواز الاستغفار لأحيائهم فإنه طلب توفيقهم للإيمان وبه دفع النقيض باستغفار إبراهيم عليه الصلاة و السلام لأبيه الكافر فقال

114 - : { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه } وعدها إبراهيم أباه بقوله : { لأستغفرن لك } أي لأطلبن مغفرتك بالتوفيق للإيمان فإنه يجب ما قبله ويدل عليه قراءة من قرأ ( أباه ) أو ( وعدها إبراهيم أبوه ) وهي الوعد بالإيمان { فلما تبين له أنه عدو لله } بأن مات على الكفر أو أوحي إليه بأنه لن يؤمن { تبرأ منه } قطع استغفاره { إن إبراهيم لأواه } لكثير التأوه وهو كناية عن فرط ترحمه ورقة قلبه { حليم } صبور على الأذى والجملة لبيان ما حمله على الاستغفار له مع شكاسته عليه

115 - { وما كان الله ليضل قوما } أي ليسميهم ضلالا ويؤاخذهم مؤاخذتهم { بعد إذ هداهم } للإسلام { حتى يبين لهم ما يتقون } حتى يبين لهم خطر ما يجب اتقاؤه وكأنه بيان عذر الرسول عليه الصلاة و السلام في يقوله لعمه أو لمن استغفر لأسلافه المشركين قبل المنع وقيل إنه في قوم مضوا على الأمر الأول في القبلة والخمر ونحو ذلك وفي الجملة دليل على أن الغافل غير مكلف { إن الله بكل شيء عليم } فيعلم أمرهم في الحالين

116 - { إن الله له ملك السموات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير } لما منعهم عن الاستغفار للمشركين وإن كانوا أولي قربى وتضمن ذلك وجوب التبرؤ عنهم رأسا بين لهم أن الله مالك كل موجود ومتولي أمره والغالب عليه ولا يتأتى له ولاية ولا نصرة إلا منه ليتوجهوا بشرا شرهم إليه ويتبرؤوا مما عداه حتى لا يبقى لهم مقصود فيما يأتون ويذرون سواه

117 - { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار } من إذن المنافقين في التخلف أو برأهم عن علقة الذنوب كقوله تعالى : { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } وقيل : هو بعث على التوبة والمعنى : ما من أحد إلا وهو محتاج إلى التوبة حتى النبي صلى الله عليه و سلم والمهاجرون والأنصار لقوله تعالى : { وتوبوا إلى الله جميعا } إذ ما من أحد إلا وله مقام يستنقص دونه ما هو فيه والترقي إليه توبة من تلك النقيصة وإظهار لفضلها بأنه مقام الأنبياء والصالحين من عباده { الذين اتبعوه في ساعة العسرة } في وفتها هي حالهم في غزوة تبوك كانوا في عسرة الظهر يعتقب العشرة على بعير واحد والزاد حتى قيل إن الرجلين كانا يقتسمان تمرة والماء حتى شربوا القيظ { من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم } عن الثبات على الإيمان أو اتباع الرسول عليه الصلاة و السلام وفي { كاد } ضمير الشأن أو ضمير القوم والعائد إليه الضمير في { منهم } وقرأ حمزة و حفص { يزيغ } بالياء لأن تأنيث القلوب غير حقيقي وقرئ ( من بعد ما زاغت قلوب فريق منهم ) يعني المتخلفين { ثم تاب عليهم } تكرير للتأكيد وتنبيه على أنه تاب عليه من أدل ما كابدوا من العسرة ن أو المراد أنه تاب نعليهم لكيدودتهم { إنه بهم رؤوف رحيم }

118 - { وعلى الثلاثة } وتاب على الثلاثة كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع { الذين خلفوا } تخلفوا عن الغزو أو خلف أمرهم فإنهم المرجئون { حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت } أي برحبها لإعراض الناس عنهم بالكلية وهو مثل لشدة الحيرة { وضاقت عليهم أنفسهم } قلوبهم من فرط الوحشة والغم بحيث لا يسعها أنس ولا سرور { وظنوا } وعلموا { أن لا ملجأ من الله } من سخطه { إلا إليه } إلا إلى استغفاره { ثم تاب عليهم } بالتوفيق للتوبة { ليتوبوا } أو أنزل قبول توبتهم ليعدوا من جملة التائبين أو رجع عليهم بالقبول والرحمة مرة بعد أخرى ليستقيموا على توبتهم { إن الله هو التواب } لمن تاب ولو عاد في اليوم مائة مرة { الرحيم } المتفضل عليهم بالنعم

119 - { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } فيما لا يرضاه { وكونوا مع الصادقين } في إيمانهم وعهودهم أو في دين الله نية وقولا وعملا وقرئ ( من الصادقين ) أي في توبتهم وإنابتهم فيكون المراد به هؤلاء الثلاثة وأضرابهم

120 - { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله } نهي عبر به بصيغة النفي للمبالغة { ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه } ولا يصونوا أنفسهم عما لم يصن نفسه عنه ويكابدوا معه ما يكابده من الأهوال [ روي أن أبا خيثمة بلغ بستانه وكانت له زوجة حسناء فرشت في الظل وبسطت له الحصير وقربت إليه الرطب والماء البارد فنظر فقال : ظل ظليل ورطب يانع وماء بارد وامرأة حسناء ورسول الله صلى الله عليه و سلم في الضح والريح ما هذا بخير فقام فرحل ناقته وأخذ سيفه ورمحه ومر كالريح فمد رسول الله صلى الله عليه و سلم طرفه إلى الطريق فإذا براكب يزهاه السراب فقال : كن أبا خيثمة فكانه ففرح به رسول الله صلى الله عليه و سلم واستغفر له ] وفي { لا يرغبوا } يجوز النصب والجزم { ذلك } إشارة إلى ما دل عليه قوله ما كان من النهي عن التخلف أو وجوب المشايعة { بأنهم } بسبب أنهم { لا يصيبهم ظمأ } شيء من العطش { ولا نصب } تعب { ولا مخمصة } مجاعة { في سبيل الله ولا يطؤون } ولا يدوسون { موطئا } مكانا { يغيظ الكفار } يغضبهم وطؤه { ولا ينالون من عدو نيلا } كالقتل والأسر والنهب { إلا كتب لهم به عمل صالح } إلا استوجبوا به الثواب وذلك مما يوجب المشايعة { إن الله لا يضيع أجر المحسنين } على إحسانهم وهو تعليل ل { كتب } تنبيه على أن الجهاد إحسان أما في حق الكفار فلأنه سعى في تكميلهم بأقصى ما يمكن كضرب المداوي للمجنون أما في حق المؤمنين فلأنه صيانة لهم عن سطوة الكفار واستيلائهم

121 - { ولا ينفقون نفقة صغيرة } ولو علاقة { ولا كبيرة } مثل ما أنفق عثمان رضي الله تعالى عنه في جيش العسرة { ولا يقطعون واديا } في مسيرهم وهو كل منعرج ينفذ فيه السيل اسم فاعل من ودي إذا سال فشاع بمعنى الأرض { إلا كتب لهم } اثبت لهم ذلك { ليجزيهم الله } بذلك { أحسن ما كانوا يعملون } جزاء أحسن أعمالهم أو أحسن جزاء أعمالهم

122 - { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } وما استقام لهم أن ينفروا جميعا لنحو غزو أو طلب علم كما لا يستقيم لهم أن يتثبطوا جميعا فإنه يخل بأمر المعاش { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } فهلا نفر من كل جماعة كثيرة كقبيلة وأهل بلدة جماعة قليلة { ليتفقهوا في الدين } ليتكلفوا الفقاهة فيه ويتجشموا مشاق تحصيلها { ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم } وليجعلوا غاية سعيهم ومعظم غرضهم من الفقاهة إرشاد القوم وإنذارهم وتخصيصه بالذكر لأنه أهم وفيه دليل على أن التفقه والتذكير من فروض الكفاية وأنه ينبغي أن يكون غذ المتعلم فيه أن يستقيم ويقيم لا الترفع على الناس والتبسط في البلاد { لعلهم يحذرون } إرادة أن يحذروا عما ينذرون منه واستدل به على أن أخبار الآحاد حجة لأن عموم كل فرقة يقتضي أن ينفر من كل ثلاثة تفردوا بقرية طائفة إلى التفقه لتنذر فرقتها كي يتذكر ويحذروا فلو لم يعتبر الأخبار ما لم يتواتر لم يفد ذلك وقد أشبعت القول فيه تقريرا واعتراضا في كتابي المرصاد وقد قيل لآية معنى آخر وهو أنه لما نزل في المتخلفين ما نزل سبق المؤمنون إلى النفير وانقطعوا عن التفقه الذي هو الجهاد الأكبر لأن الجدال بالحجة هو الأصل ولمقصود من البعثة فيكون الضمير في ليتفقهوا ولينذروا لبواقي الفرق بعد الطوائف النافرة للغزو وفي رجعوا للطوائف أي ولينذروا لبواقي قومهم النافرين إذا ردعوا إليهم بما حصلوا أيام غيبتهم من العلوم

123 - { يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } أمروا بقتال الأقرب منهم فالأقرب كما أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أولا بإنذار عشيرته الأقربين فإن الأقرب أحق بالشفقة والاستصلاح وقيل هم يهود حوالي المدينة كقريظة والنضير وخيبر وقيل الروم فإنهم كانوا يسكنون الشأم وهو قريب من المدينة { وليجدوا فيكم غلظة } شدة وصبرا على القتال وقرئ بفتح الغين وضمها وهما لغتان فيها { واعلموا أن الله مع المتقين } بالحراسة و الإعانة

124 - { وإذا ما أنزلت سورة فمنهم } فمن المنافقين { من يقول } إنكار واستهزاء { أيكم زادته هذه } السورة { إيمانا } وقرئ { أيكم } بالنصب على إضمار فعل يفسره { زادته } { فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا } بزيادة العلم الحاصل من تدبر السورة وانضمام الإيمان بها وبما فيها إلى إيمانهم { وهم يستبشرون } بنزولها لأنه سبب لزيادة كمالهم وارتفاع درجاتهم

125 - { وأما الذين في قلوبهم مرض } كفر { فزادتهم رجسا إلى رجسهم } كفرا بها مضموما إلى الكفر بغيرها { وماتوا وهم كافرون } واستحكم ذلك فيهم حتى ماتوا عليه

126 - { أو لا يرون } يعني المنافقين وقرئ بالتاء { أنهم يفتنون } يبتلون بأصناف البليات أو بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فيعاينون ما يظهر عليه من الآيات { في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون } لا ينتهون ولا يتوبون من نفاقهم { ولا هم يذكرون } ولا يعتبرون

127 - { وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض } تغمزوا بالعيون إنكارا لها وسخرية أو غيظا لما فيه من عيوبهم { هل يراكم من أحد } أي يقولون هل يراكم أحد إن قمتم من حضرة الرسول صلى الله عليه و سلم فإن لم يرهم أحد قاموا وإن يرهم أحد أقاموا { ثم انصرفوا } عن حضرته مخافة الفضيحة { صرف الله قلوبهم } عن الإيمان وهو يحتمل الإخبار والدعاء { بأنهم } بسبب أنهم { قوم لا يفقهون } لسوء فهمهم أو لعدم تدبرهم

128 - { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } من جنسكم عربي مثلكم وقرئ من ( أنفسكم ( أي من أشرفكم { عزيز عليه } شديد شاق { ما عنتم } عنتكم ولقاءكم المكروه { حريص عليكم } أي على إيمانكم وصلاح شأنكم { بالمؤمنين } منكم ومن غيركم { رؤوف رحيم } قدم الأبلغ منهما وهو الرؤوف لأن الرأفة شدة الرحمة محافظة على الفواصل

129 - { فإن تولوا } عن الإيمان بك { فقل حسبي الله } فإنه يكفيك معرتهم ويعينك عليهم { لا إله إلا هو } كالدليل عليه { عليه توكلت } فلا أرجو ولا أخاف إلا منه { وهو رب العرش العظيم } الملك العظيم أو الجسم العظيم المحيط الذي تنزل منه الأحكام المقادير وقرئ { العظيم } بالرفع وعن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه : أن آخر ما نزل هاتان الآيتان [ وعن النبي صلى الله عليه و سلم ما نزل القرآن علي إلا آية آية وحرفا حرفا ما خلا سورة براءة وقل هو الله أحد فإنهما أنزلتا علي ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة ] والله أعلم

سورة يونس
عليه السلام مكية وهي مائة وتسع آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
1 - { الر } فخمها ابن كثير و نافع برواية قالون و حفص وقرأ ورش بين اللفظين وأمالها الباقون إجراء لألف الراء مجرى المنقلبة من الياء { تلك آيات الكتاب الحكيم } إشارة إلى ما تضمنته السورة أو القرآن من الآي والمراد من الكتاب أحدهما ووصفه بالحكيم لاشتماله على الحكم أو لأنه كلام حكيم أو محكم آياته لم ينسخ شيء منها

2 - { أكان للناس عجبا } استفهام إنكار للتعجب و { عجبا } خبر كان واسمه : { أن أوحينا } وقرء بالرفع على أن الأمر بالعكس أو على ( أن كان ) تامة { أن أوحينا } بدل من عجب وللام للدلالة على أنهم جعلوه أعجوبة لهم يوجهون نحوه إنكارهم واستهزائهم { إلى رجل منهم } من أفناء رجالهم دون عظيم من عظمائهم قيل كانوا يقولون العجب أن الله تعالى لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب وهو من فرط حماقتهم وقصور نظرهم على الأمور العادلة وجهلهم بحقيقة الوحي والنبوة هذا وأنه عليه الصلاة و السلام لم يكن يقصر عن عظمائهم فيما يعتبرونه إلا في المال وخفة الحال أعون شيء في هذا الباب ولذلك كان أكثر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبله كذلك وقيل تعجبوا من أنه بعث بشرا كما سبق ذكره في سورة ( الأنعام ) { أن أنذر الناس } أن هي المفسرة أو المخففة من الثقيلة فتكون في موقع مفعول أوحينا { وبشر الذين آمنوا } عمم الإنذار إذ قلما من أحد ليس فيه ما ينبغي أن ينذر منه وخصص البشارة بالمؤمنين إذ ليس للكفار ما يصح أن يبشروا به حقيقة { أن لهم } بأن لهم { قدم صدق عند ربهم } سابقة منزلة رفيعة سميت قدما لأن السبق بها كما سميت النعمة يدا لأنها تعطى باليد وإضافتها إلى الصدق لتحققها والتنبيه على أنهم إنما ينالونها بصدق القول والنية { قال الكافرون إن هذا } يعنون الكتاب وما جاء به الرسول عليه الصلاة و السلام { لسحر مبين } وقرأ ابن كثير والكوفيون ( لساحر ) على أن الإشارة إلى الرسول صلى الله عليه و سلم وفيه اعتراف بأنهم صادفوا من الرسول صلى الله عليه و سلم أمورا خارقة للعادة معجزة إياهم عن المعارضة وقرئ ( ما هذا إلا سحر مبين )

3 - { إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض } التي هي أصول الممكنات { في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر } يقدر أمر الكائنات على ما اقتضته حكمته وسبقت به كلمته ويهيء بتحريكه أسبابها وينزلها منه والتدبير النظر في أدبار الأمور لتجيء محمودة العاقبة { ما من شفيع إلا من بعد إذنه } تقرير لعظمته وعز جلاله ورد على من زعم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله وفيه إثبات الشفاعة لمن أذن له { ذلكم الله } أي الموصوف بتلك الصفات المقتضية للألوهية والربوبية { ربكم } لا غير إذ لا يشاركه أحد في شيء من ذلك { فاعبدوه } وحدوه بالعبادة { أفلا تذكرون } تتفكرون أدنى تفكر فينبهكم على أن المستحق للربوبية والعبادة لا ما تعبدونه

4 - { إليه مرجعكم جميعا } بالموت أو النشور لا إلى غيره فاستعدوا للقائه { وعد الله } مصدر مؤكد لنفسه لأن قوله { إليه مرجعكم } وعج من الله { حقا } مصدر آخر مؤكد لغيره وهو ما دل عليه { وعد الله } { إنه يبدأ الخلق ثم يعيده } بعد بدئه وإهلاكه { ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط } أي بعدله أو بعدالتهم وقيامهم على العدل في أمورهم أو بإيمانهم لأنه العدل القويم كما أن الشرك ظلم عظيم وهو الأوجه لمقابلة قوله : { والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون } فإن معناه ليجزي الذين كفروا بشراب من حميم وعذاب أليم بسبب كفرهم لكنه غير النظم للمبالغة في استحقاقهم للعقاب والتنبيه على أن المقصود بالذات من الإبداء والإعادة هو الإثابة والعقاب واقع بالعرض وأنه تعالى يتولى إثابة المؤمنين بما يليق بلطفه وكرمه ولذلك لم يعينه وأما عقاب الكفرة فكأنه داء ساقه إليهم سوء اعتقادهم وشؤم أفعالهم ولآية كالتعليل لقوله تعالى { إليه مرجعكم جميعا } فإنه لما كان المقصود من الإبداء والإعادة مجازاة الله المكلفين على أعمالهم كان مرجع الجميع إليه لا محالة ويؤيده قراءة من قرأ ( أنه يبدأ ) بالفتح أي لأنه ويجوز أن يكون منصوبا أو مرفوعا بما نصب { وعد الله } أو بما نصب { حقا }

5 - { هو الذي جعل الشمس ضياء } أي ذات ضياء وهو مصدر كقيام أو جمع ضوء كسياط وسوط والياء فيه منقلبة عن الواو وقرأ ابن كثير برواية قنبل هنا وفي ( الأنبياء ) وفي ( القصص ) ضئاء ) بهمزتين على القلب بتقديم اللام على العين ؟ ؟ { والقمر نورا } أي ذا نور أو سمي نورا للمبالغة وهو أعم من الضوء كما عرفت وقيل ما بالذات ضوء وما العرض نور وقد نبه سبحانه وتعالى بذلك على أنه خلق الشمس نيرة في ذاتها والقمر نيرا بعرض مقابلة الشمس والاكتساب منها { وقدره منازل } الضمير لكل واحد أي قدر مسير كل واحد منهما منازل أو قدره ذا منازل أو للقمر وتخصيصه بالذكر لسرعة سيره ومعانية منازله وإناطة أحكام الشرع به ولذلك علله بقوله { لتعلموا عدد السنين والحساب } حساب الأوقات من الأشهر والأيام في معاملاتكم وتصرفاتكم { ما خلق الله ذلك إلا بالحق } إلا ملتبسا بالحق مراعيا فيه مقتضى الحكمة البالغة { يفصل الآيات لقوم يعلمون } فإنهم المنتفعون بالتأمل فيها وقرأ ابن كثير والبصريان و حفص ( يفصل ) بالياء

6 - { إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السموات والأرض } من أنواع الكائنات { لآيات } على وجود الصانع ووحدته وكمال علنه وقدرته { لقوم يتقون } العواقب فإنه يحملهم على التفكر والتدبر

7 - { إن الذين لا يرجون لقاءنا } لا يتوقعونه لإنكارهم البعث وذهولهم بالمحسوسات عما وراءها { ورضوا بالحياة الدنيا } من الآخرة لغفلتهم عنها { واطمأنوا بها } وسكنوا إليها مقصرين همهم على لذ ائذها وزخارفها او سكنوا فيها سكون من لا يزعج عنها { والذين هم عن آياتنا غافلون } لا يتفكرون فيها لانهماكهم فيما يضادها والعطف إما لتغاير الوصفين والتنبيه على أن الوعيد على الجمع بين الذهول عن الآيات رأسا والانهماك في الشهوات بحيث لا تخطر ببالهم أصلا وإما لتغاير الفريقين والمراد بالأولين من أنكر البعث ولم ير إلا الحياة الدنيا وبالآخرين من ألهاه حب العاجل عن التأمل في الآجل والإعداد له

8 - { أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون } بما واظبوا عليه وتمرنوا به من المعاصي

9 - { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم } بسبب إيمانهم إلى سلوك سبيل يؤدي إلى الجنة أو لإدراك الحقائق كما قال عليه الصلاة و السلام [ من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم ] أو لما يريدونه في الجنة ومفهوم الترتيب وإن دل على أن سبب الهدية هو الإيمان العمل الصالح كالتتمة والريف { تجري من تحتهم الأنهار } استئناف أو خبر ثان أوحال من الضير المنصوب على المعنى الأخير وقوله : { في جنات النعيم } خبر أو حال أخرى منه أو من { الأنهار } أو متعلق ب { تجري } أو بيهدي

10 - { دعواهم فيها } أي دعاؤهم { سبحانك اللهم } اللهم إنا نسبحك تسبيحا { وتحيتهم } ما يحيي به بعضهم بعضا أو تحية الملائكة إياهم { فيها سلام وآخر دعواهم } وآخر دعائهم { أن الحمد لله رب العالمين } أي أن يقولوا ذلك ولعل المعنى أنهم إذا دخلوا الجنة وعاينوا عظمة الله وكبرياءه مجدوه ونعتوه بنعوت الجلال ثم حياهم الملائكة بالسلامة عن الآفات والفوز بأصناف الكرامات أو الله تعالى فحمدوه وأثنوا عليه بصفات الإكرام و { أن } هي المخففة من الثقلية وقد قرئ بها وبنصب { الحمد }

11 - { ولو يعجل الله للناس الشر } ولو يسرعه إليهم { استعجالهم بالخير } وضع موضع تعجيله لهم بالخير إشعارا بسرعة إجابته لهم في الخير حتى كأن استعجالهم به تعجيل لهم أو بأن المراد شر استعجلوه كقولهم { فأمطر علينا حجارة من السماء } وتقدير الكلام ولو يعجل الله للناس الشر تعجليه للخير حين استعجلوه استعجالا كاستعجالهم بالخير فحذف منه ما حذق لدلالة الباقي عليه { لقضي إليهم أجلهم } لأميتوا وأهلكوا وقرأ ابن عامر و يعقوب ( لقضى ) على البناء للفاعل وهو الله تعالى وقرئ ( لقضينا ) { فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون } عطف على فعل محذوف دلت عليه الشرطية كأن قيل ولكن لا نعجل ولا نقضي فنذرهم إمهالا لهم واستدراجا

12 - { وإذا مس الإنسان الضر دعانا } لإزالته مخلصا فيه { لجنبه } ملقى لجنبه أي مضطجعا { أو قاعدا أو قائما } وفائدة الترديد تعميم الدعاء لجميع الأحوال أو لأصناف المضار { فلما كشفنا عنه ضره مر } يعني مضى على طريقته واستمر على كفره أو مر عن موفق الدعاء لا يرجع إليه { كأن لم يدعنا } كأنه لم يدعنا فخفف وحذف ضمير الشأن كما قال :
( ونحر مشرق اللون ... كأن ثدياه حقان )
{ إلى ضر مسه } إلى كشف ضر { كذلك } مثل ذلك التزيين { زين للمسرفين ما كانوا يعملون } من الانهماك في الشهوات والإعراض عن العبادات

13 - { ولقد أهلكنا القرون من قبلكم } يا أهل مكة { لما ظلموا } حين ظلموا بالتكذيب استعمال القوى والجوارح لا على ما ينبغي { وجاءتهم رسلهم بالبينات } بالحجج الدالة على صدقهم وهو حال من الواو بإضمار قد أو عطف على ظلموا { وما كانوا ليؤمنوا } وما استقام لهم أن يؤمنوا الفساد استعدادهم وخذلان الله لهم وعلمه بأنهم يموتون على كفرهم وللام لتأكيد النفي { كذلك } مثل ذلك الجزاء وهو إهلاكهم بسب تكذيبهم للرسل وإصرارهم عليه بحيث تحقق أنه لا فائدة في إمهالهم { نجزي القوم المجرمين } جزي كل مجرم أو نجزيكم فوضع المظهر موضع الضمير للدلالة على كمال جرمهم وأنهم أعلام فيه

14 - { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم } استخلفناكم فيها بعد القرون التي أهلكناها استخلاف من يختبر { لننظر كيف تعملون } أتعملون خيرا أو شرا فنعاملكم على مقتضى أعمالكم وكيف معمول تعملون فإن معنى الاستفهام بحجب أن يعمل فيه ما قبله وفائدته الدلالة على أن المعتبر في الجزاء جهات الأفعال وكيفياتها لا هي من حيث ذاتها ولذلك يحسن الفعل تارة ويقبح أخرى

15 - { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا } يعني المشركين { ائت بقرآن غير هذا } بكتاب آخر نقرؤه ليس فيه ما نستبعده من البعث والثواب والعقاب بعد الموت أو ما نكرهه من معايب آلهتنا { أو بدله } بأن تجعل مكان الآية المشتملة على ذلك آية أخرى ولعلهم سألوا ذلك كي يسعفهم إليه فيلزموه { قال سبحانك ما يكون لي } ما يصح لي { أن أبدله من تلقاء نفسي } من قبل نفسي وهو مصدر استعمل ظرفا و إنما اكتفى بالجواب عن التبديل لاستلزام امتناعه الإتيان بقرآن آخر { إن أتبع إلا ما يوحى إلي } تعليل لما يكون فإن المتبع لغيره في أمر لا يستبد بالتصرف فيه بوجه وجواب للنقص بنسخ بعض الآيات ببعض ورد لما عرضوا له بهذا السؤال من أن القرآن كلامه واختراعه ولذلك قيد التبديل في الجواب وسماه عصيانا فقال : { إني أخاف إن عصيت ربي } أي بالتبديل { عذاب يوم عظيم } وفيه إيماء بأنهم واستوجبوا العذاب بهذا الاقتراح

16 - { قل لو شاء الله } غير ذلك { ما تلوته عليكم ولا أدراكم به } ولا أعلمكم به على لساني وعن ابن كثير ( ولأدراكم ) بلام التأكيد أي لو شاء الله ما تلوته عليكم ولأعلمكم به على لساني غيري والمعنى أنه الحق الذي لا محيص عنه لو لم أرسل به لأرسل به غيري وقرئ ( ولا أدرأكم ) ( ولا أدرأتكم ) بالهمز فيهما على لغة من يقلب الألف المبدلة من الياء همزة أو على أنه من الدرء بمعنى الدفع أي ولا جعلتكم بتلاوته خصماء تدرؤنني بالجدال والمعنى أن الأمر بمشيئة الله تعالى لا بمشيئتي حتى اجعله على نحو ما تشتهونه ثم قرر ذلك بقوله : { فقد لبثت فيكم عمرا } مقدارا عمر أربعين سنة { من قبله } من قبل القرآن لا أتلوه ولا أعلمه فإنه إشارة إلى أن القرآن معجز خارق للعادة فإن من عاش بين أظهرهم أربعين سنة لم يمارس فيها علما ولم يشاهد عالما ولم ينشئ قريضا ولا خطبة ثم قرأ عليهم كتابا بزت فصاحته فصاحة كل منطبق وعلا من كل منثور ومنظوم واحتوى على قواعد علمي الأصول والفروع وأعرب عن أقاصيص الأولين وأحاديث الآخرين على ما هين عليه علم أنه معلوم به من الله تعالى ز { أفلا تعقلون } أين أفلا تستعملون عقولكم بالتدبر والتفكر فيه لتعلموا أنه ليس إلا من الله

17 - { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا } تقاد مما أضافوه إليه كناية أو تظليم للمشركين بافترائهم على الله تعالى في قولهم إنه لذو شريك وذو ولد { أو كذب بآياته } فكفر بها { إنه لا يفلح المجرمون }

18 - { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم } فإنه جماد لا يقدر على نفع ولا ضر والمعبود ينبغي أن يكون مثيبا ومعاقبا حتى تعود عبادته بجلب نفع أو دفع ضر { ويقولون هؤلاء } الأوثان { شفعاؤنا عند الله } تشفع لنا فيما يهمنا من أمور الدنيا أو في الآخرة إن يكن بعث وكأنهم كانوا شاكين فيه وهذا من فرط جهالتهم حيث تركوا عبادة الموجد الضار النافع إلى عبادة ما يعلم قطعا أنه لا يضر ولا ينفع على توهم أنه بما يشفع لهم عنده { قل أتنبئون الله } أتخبرونه { بما لا يعلم } وهو أن له شريكا أو هؤلاء شفعاء عنده وما لا يعلمه العالم بجميع المعلومات لا يكون له تحقق ما وفيه تقريع وتهكم بهم { في السموات ولا في الأرض } حال من العائد المحذوف مؤكدة للنفي منبهة على أن ما يعبدون من دون الله إما سماوي وإما أرضي ولا شيء من الموجودات فيهما إلا وهو حادث مقهور مثلهم لا يليق أن يشرك به { سبحانه وتعالى عما يشركون } عن إشراكهم أو عن الشركاء الذين يشركونهم به وقرأ حمزة و الكسائي هنا وفي الموضعين نفي أول ( النحل ) و ( الروم ) بالتاء

19 - { وما كان الناس إلا أمة واحدة } موحدين على الفطرة أو متفقين على الحق ولذلك في عهد آدم عليه السلام إلى أن قتل قابيل هابيل أو بعد الطوفان أو على الضلال في فترة من الرسل { فاختلفوا } باتباع الهوى والأباطيل أو ببعثه الرسل عليهم الصلاة والسلام فتبعتهم طائفة وأصرت أخرى { ولولا كلمة سبقت من ربك } بتأخير الحكم بينهم أو العذاب الفاصل بينهم إلى يوم القيامة فإنه يوم الفصل والجزاء { لقضي بينهم } عاجلا { فيما فيه يختلفون } بإهلاك المبطل وإبقاء المحق

20 - { ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه } أي من الآيات التي اقترحوها { فقل إنما الغيب لله } هو المختص بعمله فلعله يعلم في إنزال الآيات المقترحة من مفاسد بصرف عن إنزالها { فانتظروا } لنزول ما اقترحتموه { إني معكم من المنتظرين } لما يفعل الله بكم بجحودكم ما نزل علي من الآيات العظام واقتراحكم غيره

21 - { وإذا أذقنا الناس رحمة } صحة وسعة { من بعد ضراء مستهم } كقحط ومرض { إذا لهم مكر في آياتنا } بالطعن فيها والاحتيال في دفعها قيل قحط أهل مكة سبع سنين حتى كادوا يهلكون ثم رحمهم الله بالحيا فطفقوا يقدحون في آيات الله ويكيدون رسوله { قل الله أسرع مكرا } منكم قد دبر عقابكم قبل أن تدبروا كيدهم وإنما دل على سرعتهم المفضل عليها كلمة المفاجأة الواقعة جوابا لإذا الشرطية والمكر إخفاء الكيد وهو من الله تعالى أما الاستدراج أو الجزاء على المكر { إن رسلنا يكتبون ما تمكرون } تحقيق للانتقام وتنبيه على أن ما دبروا في إخفائه لم يخف على الحفظة فضلا أن يخفى على الله تعالى و عن يعقوب يمكرون بالياء ليوافق ما قبله

22 - { هو الذي يسيركم } بحملكم على السير ويمكنكم منه وقرأ ابن عامر ( ينشركم ) بالنون والشين من النشر { في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك } في السفن { وجرين بهم } بمن فيها عدل عن الخطاب إلى الغيبة للمبالغة كأنه تذكرة لغيرهم ليتعجب من حالهم وينكر عليهم { بريح طيبة } لينة الهبوب { وفرحوا بها } بتلك الريح { جاءتها } جواب إذا والضمير للفلك أو للريح الطيبة بمعنى تلقتها { ريح عاصف } ذات عصف شديدة الهبوب { وجاءهم الموج من كل مكان } يجيء الموج منه { وظنوا أنهم أحيط بهم } أهلكوا وسدت عليهم مسالك الخلاص كمن أحاط به العدو { دعوا الله مخلصين له الدين } من غير إشراك لتراجع الفطرة وزوال المعارض من شدة الخوف وهو بدل من { ظنوا } بدل اشتمال لن دعاءهم من لوازم ظنهم { لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين } على إرادة القول أو مفعول { دعوا } لأنه من جملة القول

23 - { فلما أنجاهم } إجابة لدعائهم { إذا هم يبغون في الأرض } فاجئوا الفساد فيها وسارعوا إلى ما كانوا عليه { بغير الحق } مبطلين فيه وهو احتراز عن تخريب المسلمين ديار الكفرة وإحراق زروعهم وقلع أشجارهم فإنها إفساد بحق { يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم } فإن وباله عليكم أو أنه على أمثالكم وأبناء جنسكم { متاع الحياة الدنيا } منفعة الحياة الدنيا لا تبقى ويبقى عقابها ورفعه على أنه خبر { بغيكم } و { على أنفسكم } صلته أو خبر مبتدأ محذوف تقديره ذلك متاع الحياة الدنيا و { على أنفسكم } خبر { بغيكم } ونصبه حفص على أنه مصدر مؤكد أي تتمتعون متاع الحياة الدنيا أو مفعول البغي لأنه بمعنى الطلب فيكون الجار من صلته والخبر محذوف تقدير بغيكم متاع الحياة الدنيا محذور أو ضلال وأو مفعول فعل دل عليه البغي وعلى أنفسكم خبره { ثم إلينا مرجعكم } في القيامة { فننبئكم بما كنتم تعملون } بالجزاء عليه

24 - { إنما مثل الحياة الدنيا } حالها العجيبة في سرعة تقضيها وذهاب نعيمها بعد إقبالها واغترار الناس بها { كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض } فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضا { مما يأكل الناس والأنعام } من الزروع والبقول والحشيش { حتى إذا أخذت الأرض زخرفها } حسنها وبهجتها { وازينت } تزينت بأصناف النبات وأشكالها وألوانها المختلفة كعروس أخذت من ألوان الثياب والزين فتزينت بها { وازينت } أصله تزينت فأدغم وقد قرأ على الأصل { وازينت } على أفعلت من غير إعلال كاغيلت والمعنى صارت ذات زينة ( وازيانت ) كابياضت { وظن أهلها أنهم قادرون عليها } متمكنون من حصدها ورفع غلتها { أتاها أمرنا } ضرب زرعها ما يحتاجه { ليلا أو نهارا فجعلناها } فجعلنا زرعها { حصيدا } شبيها بما حصد من أصله { كأن لم تغن } كأن لم يغن زرعها أي لم يلبث والمضاف محذوف في الموضعين للمبالغة وقرء بالياء على الأصل { بالأمس } فيما قبيله وهو مثل في الوقت القريب والممثل به مضمون الحكاية وهو زوال خضرة النبات فجأة وذهابه حطاما بعدما كان غضا والتف وزين الأرض حتى طمع فيه أهله وظنوا أنه قد سلم من الجوائح لا الماء وإن وليه حرف التشبيه لأنه من التشبيه المركب { كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون } فإنهم المنتفعون به

25 - { والله يدعو إلى دار السلام } دار السلام من التقضي والآفة أو دار الله وتخصيص هذا الاسم أيضا للتنبيه على ذلك أو دار يسلم الله والملائكة فيها على من يدخلها والمراد الجنة { ويهدي من يشاء } بالتوفيق { إلى صراط مستقيم } هو طريقها وذلك الإسلام و التدرع بلباس التقوى وفي تعميم الدعوة وتخصيص الهداية بالمشيئة دليل على أن الأمر غير الإرادة وأن المصر على الضلالة لم يرد الله رشده

26 - { للذين أحسنوا الحسنى } المثوبة الحسنى { وزيادة } وما يزيد على المثوبة تفضلا لقوله : { ويزيدهم من فضله } وقيل الحسنى مثل حسناتهم والزيادة عشر أمثالها إلى سبعمائة تضعف وأكثر وقيل الزيادة مغفرة من الله ورضوان وقيل الحسنى الجنة والزيادة هي اللقاء { ولا يرهق وجوههم } لا يغشاها { قتر } غبرة فيها سواد { ولا ذلة } هوان والمعنى لا يرهقهم ما يرهق أهل النار أو لا يرهقهم ما يوجب ذلك من حزن وسوء حال { أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } دائمون لا زوال فيها ولا انقرض لنعيمها بخلاف الدنيا وزخارفها

27 - { والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها } عطف على قوله { للذين أحسنوا الحسنى } على مذهب من يجوز : في الدار زيد والحجرة عمرو أو { للذين } مبتدأ والخير { جزاء سيئة بمثلها } على تقدير : وجزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها أي أن تجازى سيئة بسيئة مثلها لا يزاد عليها وفيه تنبيه على أن الزيادة هي الفضل أو التضعيف أو { كأنما أغشيت وجوههم } أو أولئك أصحاب النار وما بينهما اعتراض ف { جزاء سيئة } مبتدأ وخبره محذوف أي فجزاء سيئة بمثلها واقع أو بمثلها على زيادة الباء أو تقدير مقدر بمثلها { وترهقهم ذلة } وقرء بالياء { ما لهم من الله من عاصم } ما من أحد يعصمهم من سخط الله أومن جهة الله ومن عنده كما يكون للمؤمنين { كأنما أغشيت } غطيت { وجوههم قطعا من الليل مظلما } لفرط سوادها وظلمتها ومظلما حال من الليل والعامل فيه { أغشيت } لأنه العامل في { قطعا } وهو موصوف بالجار والمجرور والعامل في الموصوف عامل في الصفة أو معنى الفعل في { من الليل } وقرأ ابن كثير و الكسائي و يعقوب ( قطعا ) بالسكون فعلى هذا يصح أن يكون { مظلما } صفة له أوحالا منه { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } مما يحتج به الوعيدية والجواب أن الآية في الكفار لاشتمال السيئات على الكفر والشرك ولأن الذين أحسنوا يتناول أصحاب الكبيرة من أهل القبلة فلا يتناولهم قسيمه

28 - { ويوم نحشرهم جميعا } يعني الفريقين جميعا { ثم نقول للذين أشركوا مكانكم } الزموا مكانكم حتى تنظروا ما بفعل بكم { أنتم } تأكيد للضمير المنتقل إليه من عامله { وشركاؤكم } عطف عليه وقرئ بالنصب على المفعول معه { فزيلنا بينهم } ففرقنا بينهم وقطعنا الوصل التي كانت بينهم { وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون } مجاز عن براءة ما عبدوه من عبادتهم فإنهم إنما بدوا في الحقيقة أهواءهم لأنها الآمرة بالإشراك لا ما أشركوا به وقيل ينطق الله الأصنام فتشافههم بذلك مكان الشفاعة التي يتوقعون منها وقيل المراد بالشركاء الملائكة والمسيح وقيل الشياطين

29 - { فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم } فإنه العالم بكنه الحال { إن كنا عن عبادتكم لغافلين } { إن } هي المخففة من الثقيلة وللام هي الفارقة

30 - { هنالك } في ذلك المقام { تبلو كل نفس ما أسلفت } تختبر ما قدمت من عمل فتعاين نفعه وضره وقرأ حمزة و الكسائي تتلو من التلاوة أي تقرأ ذكر ما قدمت أو من التلو أيتتبع عملها فيقودها إلى الجنة أو إلى النار وقرئ ( نبلو ) بالنون ونصب { كل } وإبدال { ما } منه والمعنى نختبرها أي نفعل بها فعل المختبر لحالها المتعرف لسعادتها وشقاوتها بتعرف ما أسلفت من أعمالها ويجوز أن يراد به نصيب بالبلاء أي بالعذاب كل نفس عاصية بسبب ما أسلفت من الشر فتكون { ما } منصوبة بنزع الخافض { وردوا إلى الله } إلى جزائه إياهم بما أسلفوا { مولاهم الحق } ربهم ومتولي أمرهم على الحقيقة لا ما اتخذوه مولى وقرئ { الحق } بالنصب على المدح أو المصدر المؤكد { وضل عنهم } وضاع عنهم { ما كانوا يفترون } من أن آلهتهم تشفع لهم أو ما كانوا يدعون أنها آلهة

31 - { قل من يرزقكم من السماء والأرض } أي منهما جميعا فإن الأرزاق تحصل بأسباب سماوية ومواد أرضية أو { من } كل واحد منهما توسعة عليكم وقيل من لبيان من على حذف المضاف أي من أهل السماء والأرض { أمن يملك السمع والأبصار } أم من يستطيع خلقهما وتسويتهما أومن يحفظهما من الآفات مع كثرتها وسرعة انفعالهما من أدنى شيء { ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي } ومن يحيي ويميت أو من ينشئ الحيوان من النطفة منه { ومن يدبر الأمر } ومن يلي تدبير أمر العالم وهو تعميم بعد تخصيص { فسيقولون الله } إذ لا يقدرون على المكابرة والعناد في ذلك لفرط وضوحه { فقل أفلا تتقون } أنفسكم عقابه بإشراككم إياه ما لا يشاركه في شيء من ذلك

32 - { فذلكم الله ربكم الحق } أي المتولي لهذه الأمور المستحق للعبادة هو ربكم الثابت ربوبيته لأنه الذي أنشأكم وأحياكم ورزقكم ودبر أموركم { فماذا بعد الحق إلا الضلال } استفهام إنكار أي ليس بعد الحق إلا الضلال فمن تخطى الحق الذي هو عبادة الله تعالى وقع في الضلال { فأنى تصرفون } عن الحق إلى الضلال

33 - { كذلك حقت كلمة ربك } أي كما حقت الربوبية لله أو أن الحق بعده الضلال أو أنهم مصروفون عن الحق كذلك حقت كلمة الله وحكمه وقرأ نافع و ابن عامر كلمات هنا وفي آخر السورة وفي غافر { على الذين فسقوا } تمردوا في كفرهم وخرجوا عن حد الاستصلاح { أنهم لا يؤمنون } بدل من الكلمة أو تعليل لحقيتها والمراد بها العدة بالعذاب

34 - { قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده } جعل الإعادة كالإبداء في الإلزام بها لظهور برهانها وإن لم يساعدوا عليها ولذلك أمر الرسول صلى الله عليه و سلم أن ينوب عنهم في الجواب فقال { قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده } لأن لجاجهم لا يدعهم أن يعترفوا بها { فأنى تؤفكون } تصرفون عن قصد السبيل

35 - { قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق } بنصب الحجج وإرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام والتوفيق للنظر والتدبر وهدى كما يعدى بإلى لتضمنه معنى الانتهاء يعدى باللام للدلالة على أن المنتهى غاية الهداية وأنها لم تتوجه نحوه على سبيل الاتفاق ولذلك عدي بها ما أسند إلى الله تعالى { قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى } أم الذي لا يهتدي إلا أن يهدى من قولهم : هدي بنفسه إذا اهتدى أو لا يهدي غيره إلا أن يهديه الله وهذا حال أشراف شركائهم كالملائكة والمسيح وعز ير وقرا ابن كثير و ورش عن نافع و ابن عامر ( يهدي ) بفتح الهاء تشديد الدال ويعقوب و حفص بالكسر والتشديد والأصل يهتدي فأدغم وفتحت الهاء بحركة التاء أو كسرت لالتقاء الساكنين وروى أبو بكر ( يهدي ) باتباع الياء الهاء وقرأ أبو عمرو بالإدغام المجرد ولم يبال بالتقاء الساكنين لأن المدغم في حكم المتحرك وعن نافع برواية قالون مثله وقرئ { إلا أن يهدى } للمبالغة { فما لكم كيف تحكمون } بما يقتضي صريح العقل بطلانه

36 - { وما يتبع أكثرهم } فيما يعتقدونه { إلا ظنا } مستندا إلى خيالات فارغة وأقيسة فاسدة كقياس الغائب على الشاهد والخالق على المخلوق بأدنى مشاركة موهومة والمراد بالأكثر الجميع أو من ينتمي منهم إلى تمييز ونظر ولا يرضى بالتقليد الصرف { إن الظن لا يغني من الحق } من العلم والاعتقاد الحق { شيئا } من الإغناء ويجوز أن يكون مفعولا به و { من الحق } حالا منه وفيه دليل على أن تحصيل العلم في الأصول واجب والاكتفاء بالتقليد والظن غير جائز { إن الله عليم بما يفعلون } وعيد على اتباعهم للظن وإعراضهم عن البرهان

37 - { وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله } افتراء من الخلق { ولكن تصديق الذي بين يديه } مطابقا لما تقدمه من الكتب الإلهية المشهود على صدقها ولا يكون كذبا كيف وهو لكونه معجزا دونها عيار عليها شاهد على صحتها ونصبه بأنه خبر لكان مقدرا أو علة لفعل محذوف تقديره : ولكن أنزله الله تصديق الذي وقرئ بالرفع على تقدير ولكن هو تصديق { وتفصيل الكتاب } وتفصيل ما حقق وأثبت من العقائد والشرائع { لا ريب فيه } منتفيا عنه الريب وهو خبر ثالث داخل في حكم الاستدراك ويجوز أن يكون حالا من الكتاب فإنه مفعول في المعنى وأن يكون استئنافا { من رب العالمين } خبر آخر تقديره كائنا من رب العالمين أو متعلق بتصديق أو تفصيل و { لا ريب فيه } اعتراض أو بالفعل المعلل وبهما ويجوز أن يكون حالا من الكتاب أومن الضمير في { فيه } ومساق الآية بعد المنع عن اتباع الظن لبيان ما يجب اتباعه والبرهان عليه

38 - { أم يقولون } بل أيقولون { افتراه } محمد صلى الله عليه و سلم ومعنى الهمزة فيه للإنكار { قل فاتوا بسورة مثله } في البلاغة وحسن النظم وقوة المعنى على وجه الافتراء فإنكم مثلي في العربية والفصاحة وأشد تمرنا في النظم والعبارة { وادعوا من استطعتم } ومع ذلك فاستعينوا بمن أمكنكم أن تستعينوا به { من دون الله } سوى الله تعالى فإنه وحده قادر على ذلك { إن كنتم صادقين } أنه اختلقه

39 - { بل كذبوا } بل سارعوا إلى التكذيب { بما لم يحيطوا بعلمه } بالقرآن أول ما سمعوه قبل أن يتدبروا آياته ويحيطوا بالعلم بشأنه أو بما جهلوه ولم يحيطوا به علما من ذكر البعث والجزاء وسائر ما يخلف دينهم { ولما يأتهم تأويله } ولم يقفوا بعد على تأويله ولم تبلغ أذهانهم معانيه أو ولم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب حتى يتبين لهم أنه صدق أم كذب والمعنى أن القرآن معجز من جهة اللفظ والمعنى ثم إنهم فاجئوا تكذيبه قبل أن يتدبروا نظمه ويتفحصوا معناه ومعنى التوقع في لما أنه قد ظهر لهم بالآخرة إعجازه لما كرر عليهم التحدي فزادوا قواهم في معارضته فتضاءلت دونها أو لما شاهدوا وقوع ما أخبر به طبقا لإخباره مرارا فلم يقلعوا عن التكذيب تمردا وعنادا { كذلك كذب الذين من قبلهم } أنبياءهم { فانظر كيف كان عاقبة الظالمين } فيه وعيد لهم بمثل ما عوقب به من قبلهم

40 - { ومنهم } ومن المكذبين { من يؤمن به } من يصدق به في نفسه ويعلم أنه حق ولكن يعاند أو من سيؤمن به ويتوب عن الكفر { ومنهم من لا يؤمن به } في نفسه لفرط غباوته وقلة تدبره أو فيما يستقبل بل يموت على الكفر { وربك أعلم بالمفسدين } بالمعاندين أو المصرين

41 - { وإن كذبوك } وإن أصروا على تكذيبك بعد إلزام الحجة { فقل لي عملي ولكم عملكم } فتبرأ منهم فقد أعذرت والمعنى لي جزاء عملي ولكم جزاء عملكم حقا كان أو باطلا { أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون } لا تؤاخذون بعملي ولا أؤاخذ بعملكم ولما فيه من إيهام الإعراض عنهم وتخلية سبيلهم قيل إنه منسوخ بآية السيف

42 - { ومنهم من يستمعون إليك } إذا قرأت القرآن وعلمت الشرائع ولكن لا يقبلون كالأصم الذي لا يسمع أصلا { أفأنت تسمع الصم } تقدر على إسماعهم { ولو كانوا لا يعقلون } ولو انضم إلى صممهم عدم تعقلهم وفيه تنبيه على أن حقيقة استماع الكلام فهم المعنى المقصود منه ولذلك لا توصف به البهائم وهو لا يتأتى إلا باستعمال العقل السليم في تدبره وعقولهم لما كانت مؤفة بمعارضة الوهم ومشايعة الإلف ولتقليد تعذر إفهامهم الحكم والمعاني الدقيقة فلم ينتفعوا بسرد الألفاظ عليهم غير ما ينتفع به البهائم من كلام الناعق

43 - { ومنهم من ينظر إليك } يعاينون دلائل نبوتك ولكن لا يصدقونك { أفأنت تهدي العمي } تقدر على هدايتهم { ولو كانوا لا يبصرون } وإن انضم إلى عدم البصر عدم البصيرة فإن المقصود من الأبصار هو الاعتبار والاستبصار والعمدة في ذلك البصيرة ولذلك يحدس الأعمى المستبصر ويتفطن لما لا يدركه البصير الأحمق والآية كالتعليل للآمر بالتبري والإعراض عنهم

44 - { إن الله لا يظلم الناس شيئا } بسلب حواسهم وعقولهم { ولكن الناس أنفسهم يظلمون } بإفسادها وتفويت منافعها عليهم وفيه دليل على أن للعبد كسبا وأنه ليس بمسلوب الاختيار بالكلية كما زعمت المجبرة ويجوز أن يكون وعيدا لهم بمعنى ا ما يحيق بهم يوم القيامة من العذاب عدل من الله لا يظلمهم به ولكنهم ظلموا أنفسهم باقتراف أسبابه وقرأ أبو عمرو و الكسائي بالتخفيف ورفع { الناس }

45 - { ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار } يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا أو في القبور لهول ما يرون والجملة التشبيهية في موضع الحال أي يحشرهم مشبهين بمن لم يلبث إلا ساعة أو صفة ليوم والعائد محذوف تقديره : كأن لم يلبثوا قبله أو المصدر محذوف أي : حشرا كأن لم يلبثوا قبل { يتعارفون بينهم } يعرف بعضهم بعضا كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلا وهذا أول ما نشروا ثم ينقطع التعارف لشدة الأمر عليهم وهي حال أخرى مقدرة أو بيان لقوله : { كأن لم يلبثوا } أو متعلق الظرف والتقدير يتعارفون يوم يحشرهم { قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله } استئناف للشهادة على خسرانهم والتعجب منه ويجوز أن يكون حالا من الضمير في يتعارفون على إرادة القول { وما كانوا مهتدين } لطرق استعمال ما منحوا من المعاون في تحصيل المعارف فاستكسبوا بها جهالات أدت بهم إلى الردى والعذاب الدائم

46 - { وإما نرينك } نبصرنك { بعض الذي نعدهم } من العذاب في حياتك كما أراه يوم بدر { أو نتوفينك } قبل أن نريك { فإلينا مرجعهم } فنريكه في الآخرة وهو جواب { نتوفينك } وجواب { نرينك } محذوف مثل فذاك { ثم الله شهيد على ما يفعلون } مجاز عليه ذكر الشهادة وأراد نتيجتها ومقتضاها ولذلك رتبها على الرجوع ب { ثم } أو مؤد شهادته على أفعالهم يوم القيامة

47 - { ولكل أمة } من الأمم الماضية { رسول } يبعث إليهم ليدعوهم على الحق { فإذا جاء رسولهم } بالبينات فكذبوه { قضي بينهم } بين الرسول ومكذبيه { بالقسط } بالعدل فأنحى الرسول وأهلك المكذبون { وهم لا يظلمون } وقيل معناه لكل أمة يوم القيامة رسول تنسب إليه فإذا جاء رسولهم الموقف ليشهد عليهم بالكفر والإيمان قضى بينهم بإنجاء المؤمنين وعقاب الكفار لقوله : { وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم }

48 - { ويقولون متى هذا الوعد } استبعادا له واستهزاء به { إن كنتم صادقين } خطاب منهم للنبي صلى الله عليه و سلم والمؤمنين

49 - { قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا } فكيف أملك لكم فأستعجل في جلب العذاب إليكم { إلا ما شاء الله } أن أملكه أو ولكن ما شاء الله من ذلك كائن { لكل أمة أجل } مضروب لهلاكهم { إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } لا يتأخرون ولا يتقدمون فلا تستعجلون فسيحين وقتكم وينجز وعدكم

50 - { قل أرأيتم إن أتاكم عذابه } الذي تستعجلون به { بياتا } وقت بيات واشتغال بالنوم { أو نهارا } حين كنتم مشتغلين بطلب معاشكم { ماذا يستعجل منه المجرمون } أي شيء من العذاب يستعجلونه وكله مكروه لا يلائم الاستعجال وهو متعلق ب { أرأيتم } لأنه بمعنى أخبروني والمجرمون وضع موضع الضمير للدلالة على أنهم لحرمهم ينبغي أن يفزعوا من مجيء العذاب لا أن يستعجلوه وجواب الشرط محذوف وهو تندموا على الاستعجال أو تعرفوا خطأه ويجوز أن يكون الجواب ماذا كقولك إن أتيتك ماذا تعطيني وتكون الجملة متعلقة ب { أرأيتم } أو بقوله :

51 - { أثم إذا ما وقع آمنتم به } بمعنى إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان وماذا يستعجل اعتراض ودخول حرف الاستفهام على ( ثم ) لإنكار التأخير { الآن } على إرادة القوم أي قيل لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب آلآن آمنتم به وعن نافع { آلآن } بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام { وقد كنتم به تستعجلون } تكذيبا واستهزاء

52 - { ثم قيل للذين ظلموا } عطف على قيل المقدر { ذوقوا عذاب الخلد } المؤلم على الدوام { هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون } من الكفر والمعاصي

53 - { ويستنبئونك } و يستخبرونك { أحق هو } أحق ما تقول من الوعد أو ادعاء النبوة تقوله بجد أم باطل تهزل به قاله حيي بن أخطب لما قدم مكة والأظهر أن الاستفهام فيه على أصله لقوله : { ويستنبئونك } وقيل إنه للإنكار ويؤيده أن قرئ ( آلحق هو ) فإن فيه تعريضا بأنه باطل وأحق مبتدأ والضمير مرتفع به ساد مسد الخبر أو خبر معدم والجملة في موضع النصب { يستنبئونك } { قل إي وربي إنه لحق } إن العذاب لكائن أو ما ادعيته لثابت وقيل كلا الضميرين للقرآن و إي بمعنى نعم وهو من لوازم القسم ولذلك يوصل بواوه في التصديق فيقال إي والله يقال إي وحده { وما أنتم بمعجزين } بفائتين العذاب

54 - { ولو أن لكل نفس ظلمت } بالشرك أو التعدي على الغير { ما في الأرض } من خزائنها وأمولها { لافتدت به } لجعلته فدية لها من العذاب من قولهم افتداه بمعنى فداه { وأسروا الندامة لما رأوا العذاب } لأنهم بهتوا بما عاينوا مما لم يحتسبوه من فظاعة الأمر وهوله فلم يقدروا أن ينطقوا وقيل { أسروا الندامة } أخلصوها لأن إخفاءها إخلاصها أو لأنه يقال سر الشيء لخاصته من حيث إنها تخفى ويضن بها وقيل أظهروها من قولهم أسرر الشيء وأسره إذا أظهره { وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون } ليس تكريرا لأن الأول قضاء بين الأنبياء ومكذبيهم والثاني مجازاة المشركين على الشرك أو الحكومة بين الظالمين والمظلومين والضمير إنما يتناولهم لدلالة الظلم عليهم

55 - { ألا إن لله ما في السموات والأرض } تقرير لقدرته تعالى على الإثابة والعقاب { ألا إن وعد الله حق } ما وعده من الثواب والعقاب كائن لا خلف فيه { ولكن أكثرهم لا يعلمون } لأنهم لا يعلمون لقصور عقولهم إلا ظاهرا من الحياة الدنيا

56 - { هو يحيي ويميت } في الدنيا فهو يقدر عليهما في العقبى لأن القادر لذاته لا تزول قدرته والمادة القابلة بالذات للحياة والموت لهما أبدأ { وإليه ترجعون } بالموت أو النشور

57 - { يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين } أي قد جاءكم كتاب جامع للحكمة العملية الكاشفة عن محاسن الأعمال و مقابحها المرغبة في المحاسن والزاجرة عن المقابح والحكمة النظرية التي هي شفاء لما في الصدور من الشكوك وسوء الاعتقاد وهدى إلى الحق واليقين ورحمة للمؤمنين حيث أنزلت عليهم فنجوا بها من ظلمات الضلال إلى نور الإيمان وتبدلت مقاعدهم من طبقات النيران بمصاعد من درجات الجنان والتنكير فيها للتعظيم

58 - { قل بفضل الله وبرحمته } بإنزال القرآن والباء متعلقة بفعل يفسره قوله : { فبذلك فليفرحوا } فإن اسم الإشارة بمنزلة الضمير تقديره بفضل الله وبرحمته فليعتنوا أو فليفرحوا فبذلك فليفرحوا وفائدة ذلك التكرير التأكيد والبيان بعد الإجمال وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح أو بفعل دل عليه { قد جاءتكم } وذلك إشارة إلى مصدره أي فبمجيئها فليفرحوا والفاء بمعنى الشرط كأنه قيل : إن فرحوا بشيء فيهما فليفرحوا أو للربط بما قبلها والدلالة على أن مجيء الكتاب الجامع بين هذه الصفات موجب للفرح وتكريرها للتأكيد كقوله :
( وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي )
وعن يعقوب ( فلتفرحوا ) بالتاء على الأصل المرفوض وقد روي مرفوعا ويؤيده أنه قرء ( فافرحوا ) { هو خير مما يجمعون } من حطام الدنيا فإنها إلى الزوال قريب وهو ضمير ذلك وقرأ ابن عامر تجمعون بالتاء على معنى فيذلك فليفرح المؤمنون فهو خير مما تجمعونه أيها المخاطبون

59 - { قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق } جعل الرزق منزلا لأنه مقدر في السماء محصل بأسباب منها وما في موضع النصب ب { أنزل } أو ب { أرأيتم } فإنه بمعنى أخبروني ولكم دل على أن المراد منه ما حل ولذلك وبخ على التبعيض فقال : { فجعلتم منه حراما وحلالا } مثل : { هذه أنعام وحرث حجر } [ وعند قوله تعالى ] { ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا } { قل آلله أذن لكم } في التحريم والتحليل فتقولون ذلك بحكمه { أم على الله تفترون } في بنسبة ذلك إليه ويجوز أن تكون المفصلة متصلة ب { أرأيتم } وقل مكرر للتأكيد وأن يكون الاستفهام للإنكار و { أم } منقطعة ومعنى الهمزة فيها تقرير لافترائهم على الله

60 - { وما ظن الذين يفترون على الله الكذب } أي شيء ظنهم { يوم القيامة } أيحسبون أن لا يجازوا عليه وهو منصوب بالظن ويدل عليه أنه قرئ بلفظ الماضي لأنه كائن وفي إبهام الوعيد تهديد عظيم { إن الله لذو فضل على الناس } حيث أنعم عليهم بالعقل وهداهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب { ولكن أكثرهم لا يشكرون } هذه النعمة

61 - { وما تكون في شأن } ولا تكون في أمر وأصله الهمز من شأنت شأنه إذ قصدت قصده والضمير في { وما تتلوا منه } له لأن تلاوة القرآن معظم شأن الرسول أو لأن القراءة تكون لشأن فيكون التقدير من أجله ومفعول تتلو { من قرآن } على أن { من } تبعيضية أو مزيدة لتأكيد النفي أو لل { قرآن } وإضماره قبل الذكر ثم بيانه تفخيم له أو لله { ولا تعملون من عمل } تعميم للخطاب بعد تخصيصه بمن هو رأسهم ولذلك ذكر حيث خص ما فيه فخامة وذكر حيث عم ما يتناول الجليل والحقير { إلا كنا عليكم شهودا } رقباء مطلعين عليه { إذ تفيضون فيه } تخوضون فيه وتندفعون { وما يعزب عن ربك } ولا يبعد عنه ولا يغيب عن علمه وقرأ الكسائي بكسر الزاي هنا وفي ( سبأ ) { من مثقال ذرة } موازن نملة صغيرة أو هباء { في الأرض ولا في السماء } أي في الوجود ولا إمكان فإن العامة لا تعرف ممكنا غيرهما ليس فيهما ولا متعلقا بهما وتقديم الأرض لأن الكلام في حال أهلها والمقصود منه البرهان على إحاطة علمه بها { ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين } كلام برأسه مقرر لما قبله { لا } نافية و { أصغر } اسمها { في كتاب } خبرها وقرأ حمزة و يعقوب الرفع على الابتداء والخبر ومن عطف على لفظ { مثقال ذرة } وجعل الفتح بدل الكسر لامتناع الصرف أو على محله مع الجار جعل الاستثناء منقطعا والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ

62 - { ألا إن أولياء الله } الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة { لا خوف عليهم } من لحوق مكروه { ولا هم يحزنون } لفوات مأمول والآية كمجمل فسره قوله :

63 - { الذين آمنوا وكانوا يتقون } وقيل الذين آمنوا وكانوا يتقون بيان لتوليهم إياه

64 - { لهم البشرى في الحياة الدنيا } وهو ما بشر به المتقين في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه و سلم وما يرهم من الرؤيا الصالحة وما يسنح لهم من المكاشفات وبشرى الملائكة عند النزع { وفي الآخرة } بتلقي الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرمة بيان لتوليه لهم ومحل { الذين آمنوا } النصب أو الرفع على المدح أو على وصف الأولياء أو على الابتداء وخبره { لهم البشرى } { لا تبديل لكلمات الله } أي لا تغيير لأقواله ولا إخلاف لمواعيده { ذلك } إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين { هو الفوز العظيم } هذه الجملة والتي قبلها اعتراض لتحقيق المبشر به وتعظيم شأنه وليس من شرطه أن يقع بعده كلام يتصل بما قبله

65 - { ولا يحزنك قولهم } إشراكهم وتكذيبهم وتهديدهم وقرأ نافع { يحزنك } من أحزنه وكلاهما بمعنى { إن العزة لله جميعا } استئناف بمعنى التعليل ويدل عليه القراءة بالفتح كأنه قيل لا تحزن بقولهم ولا تبال بهم لأن الغلبة لله جميعا لا يملك غيره شيئا منها فهو يقهرهم وينصرك عليهم { هو السميع } لأقوالهم { العليم } بعزماتهم فيكافئهم عليها

66 - { ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض } من الملائكة ولثقلين وإذا كان هؤلاء الذين هم أشرف الممكنات عبيدا لا يصلح أحد منهم للربوبية فما لا يعقل منها أحق أن لا يكون له ندا أو شريكا فهو كالدليل على قوله : { وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء } أي شركاء على الحقيقة وإن كان يسمونها شركاء ويجوز أن يكون { شركاء } مفعول { يدعون } و مفعول { يتبع } محذوف دل عليه { إن يتبعون إلا الظن } أي ما يتبعون يقينا وإنما يتبعون ظنهم أنها شركاء ويجوز أن تكون { ما } استفهامية منصوبة ب { يتبع } أو موصولة معطوفة على من وقرئ ( تدعون ) بالتاء الخطابية والمعنى : أي شيء يتبع الذين تدعونهم شركاء من الملائكة والنبيين أي أنهم لا يتبعون إلا الله ولا يعبدون غيره فما لكم لا تتبعونهم فيه كقوله : { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة } فيكون إلزاما بعد برهان وما بعده مصروف عن خطابهم لبيان سندهم ومنشأ رأيهم { وإن هم إلا يخرصون } يكذبون فيما ينسبوه إلى الله أو يحزرون ويقدرون أنها شركاء تقديرا باطلا

67 - { هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا } تبينه على كمال قدرته وعظم نعمته المتوحد هو بهما ليدلهم على تفرده باستحقاق العبادة وإنما قال { مبصرا } ولم يقل لتبصروا فيه تفرقة بين الظرف المجرد والظرف الذي هو سبب { إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون } سماع تدبر واعتبار

68 - { قالوا اتخذ الله ولدا } أي تبناه { سبحانه } تنزيه له عن التبني فإنه لا يصح إلا ممن يتصور له الولد وتعجب من كلمتهم الحمقاء { هو الغني } علة لتنزيهه فإن اتخاذ الولد مسبب عن الحاجة { له ما في السموات وما في الأرض } تقرير لغناه { إن عندكم من سلطان بهذا } نفي لمعارض ما أقامه من البرهان مبالغة في تجهيلهم وتحقيقا لبطلان قولهم و { بهذا } متعلق ب { سلطان } أو نعت له أو ب { عندكم } كأنه قيل : إن عندكم في هذا من سلطان { أتقولون على الله ما لا تعلمون } توبيخ وتقريع على اختلافهم وجهلهم وفيه دليل على أن كل قوله لا دليل عليه فهو جهالة وأن العقائد لا بد لها من قاطع وأن التقليد فيها غير سائغ

69 - { قل إن الذين يفترون على الله الكذب } باتخاذ الولد وإضافة الشريك إليه { لا يفلحون } لا ينجون من النار ولا يفوزون بالجنة

70 - { متاع في الدنيا } خبر مبتدأ محذوف أي افتراؤهم متاع في الدنيا يقيمون به رئاستهم في الكفر أو حياتهم أو تقلبهم { متاع } مبتدأ خبره محذوف أي لهم تمتع في الدنيا { ثم إلينا مرجعهم } بالموت فيلقون الشقاء المؤبد { ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون } بسبب كفرهم

71 - { واتل عليهم نبأ نوح } خبره مع قومه { إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم } عظم عليكم وشق { مقامي } نفسي كقولك فعلت كذا لمكان فلان أو كوني وإقامتي بينكم مدة مديدة أو قيامي على الدعوة { وتذكيري } إياكم { بآيات الله فعلى الله توكلت } وثقت به { فأجمعوا أمركم } فاعزموا عليه { وشركاءكم } أي مع شركائكم ويؤيده القراءة بالرفع عطفا على الضمير المتصل وجاز من غير أن يؤكد للفصل وقيل إنه معطوف على { أمركم } بحذف المضاف أي وأمر شركائكم وقيل إنه منصوب بفعل محذوف تقديره وادعوا شركاءكم وقد قرئ به وعن نافع { فأجمعوا } من الجمع والمعنى أمرهم بالعزم أو الاجتماع على قصده والسعي في إهلاكه على أي وجه يمكنهم ثقة بالله وقلة مبالاة بهم { ثم لا يكن أمركم } في قصدي { عليكم غمة } مستورا و اجعلوه ظاهرا مكشوفا من غمه إذا ستره أو ثم لا يكن حالكم عليكم غما إذا أهلكتموني وتخلصتم من ثقل مقامي وتذكيري { ثم اقضوا } أدوا { إلي } ذلك الأمر الذي تريدون بي وقرئ ( ثم أفضوا إلى ) بالفاء أي انتهوا إلى بشركم أو ابرزوا إلى من أفضى إذا خرج إلى القضاء { ولا تنظرون } ولا تمهلوني

72 - { فإن توليتم } أعرضتم عن تذكيري { فما سألتكم من أجر } يوجب توليكم لثقله عليكم واتهامكم إياي لجله أو يفوتني لتوليكم { إن أجري } ما ثوابي على الدعوة والتذكير { إلا على الله } لا تعلق له بكم يثيبني به آمنتم أو توليتم { وأمرت أن أكون من المسلمين } المنقادين لحكمه لا أخالف أمره ولا أرجو غيره

73 - { فكذبوه } فأصروا على تكذيبه بعدما ألزمهم الحجة وبين أن توليهم ليس إلا لعنادهم وتمردهم لا جرم حقت عليهم كلمة العذاب { فنجيناه } من الغرق { ومن معه في الفلك } وكانوا ثمانين { جعلناكم خلائف } من الهالكين به { وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا } بالطوفان { فانظر كيف كان عاقبة المنذرين } تعظيم لما جرى عليهم وتحذير لمن كذب الرسول صلى الله عليه و سلم وتسلية له

74 - { ثم بعثنا } أرسلنا { من بعده } من بعد نوح { رسلا إلى قومهم } كل رسول إلى قومه { فجاؤوهم بالبينات } بالمعجزات الواضحة المثبتة لدعواهم { فما كانوا ليؤمنوا } فما استقام لهم أن يؤمنوا لشدة شكيمتهم في الكفر وخذلان الله إياهم { بما كذبوا به من قبل } أي بسبب تعودهم تكذيب الحق وتمرنهم عليه قبل بعثه الرسل عليهم الصلاة والسلام { كذلك نطبع على قلوب المعتدين } بخذلانهم لانهماكهم في الضلال واتباع المألوف وفي أمثال ذلك دليل على أن الأفعال واقعة بقدرة الله تعالى وكسب العبد وقد مر تحقيق ذلك

75 - { ثم بعثنا من بعدهم } من بعد هؤلاء الرسل { موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا } بالآيات التسع { فاستكبروا } عن اتباعهما { وكانوا قوما مجرمين } معتادين الأجرام فلذلك تهاونوا برسالة ربهم واجترؤوا على ردها

76 - { فلما جاءهم الحق من عندنا } وعرفوه بتظاهر المعجزات الباهرة المزيلة للشك { قالوا } من فرط تمردهم { إن هذا لسحر مبين } ظاهر أنه سحر أو فائق في فنه واضح فيما بين إخوته

77 - { قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم } إنه لسحر فحذف المحكي المقول لدلالة ما قبله عليه ولا يجوز أن يكون { أسحر هذا } لأنهم بتوا القول بل هو استئناف بإنكار ما قالوه اللهم إلا أن يكون الاستفهام فيه للتقرير والمحكي مفهوم قولهم ويجوز أن يكون معنى { أتقولون للحق } أتعيبونه من قولهم فلان يخاف القالة كقوله تعالى : { سمعنا فتى يذكرهم } فيستغني عن المفعول
{ ولا يفلح الساحرون } من تمام كلام موسى للدلالة على أنه ليس بسحر فإنه لو كان سحرا لاضمحل ولم يبطل سحر السحرة ولأن العالم بأنه لا يفلح الساحر لا يسحر أو من تمام قولهم إن جعل أسحر هذا محكيا كأنهم قالوا أجئتنا بالسحر تطلب به الفلاح ولا يفلح الساحرون

78 - { قالوا أجئتنا لتلفتنا } لتصرفنا واللفت والفتل أخوان { عما وجدنا عليه آباءنا } من عبادة الأصنام { وتكون لكما الكبرياء في الأرض } الملك فيها سمي بها لاتصاف الملوك بالكبر أو التكبر على الناس باستتباعهم { وما نحن لكما بمؤمنين } بمصدقين فيما جئتما به

79 - { وقال فرعون ائتوني بكل ساحر } وقرأ حمزة و الكسائي ( بكل سحار ) { عليم } حاذق فيه

80 - { فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون }

81 - { فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر } أي الذي جئتم به هو السحر لا ما سماه فرعون وقومه سحرا وقرأ أبو عمرو { السحر } على أن { ما } استفهامية مرفوعة بالابتداء وجئتم به خبرها و { السحر } بدل منه أو خبر مبتدأ محذوف تقديره أهو السحر أو مبتدأ خبره محذوف أني السحر هو ويجوز أن ينتصب ما يفعل يفسره ما بعده وتقديره أي شيء أتيتم { إن الله سيبطله } سيمحقه أو سيظهر بطلانه { إن الله لا يصلح عمل المفسدين } لا يثبته ولا يقويه وفيه دليل على أن السحر إفساد وتمويه لا حقيقة له

82 - { ويحق الله الحق } ويثبته { بكلماته } بأوامره وقضاياه وقرئ ( بكلمته ) { ولو كره المجرمون } ذلك

83 - { فما آمن لموسى } أي في مبدأ أمره { إلا ذرية من قومه } إلا أولاد من أولاد قومه بني إسرائيل دعاهم فلم يجيبوه خوفا من فرعون إلا طائفة من شبانهم وقيل الضمير ل { فرعون } والذرية طائفة من شبانهم آمنوا به أو مؤمن آل فرعون وامرأته آسية وخازنة وزوجته و ماشطته { على خوف من فرعون وملئهم } أي مع خوف منهم والضمير ل { فرعون } وجمعه على ما هو المعتاد في ضمير العظماء أو على أن المراد ب { فرعون } آله كما يقال : ربيعة ومضر أو للذرية أو للقوم { أن يفتنهم } أن يعذبهم فرعون وهو بدل منه أو مفعول خوف وإفراده بالضمير للدلالة على أن الخوف من الملأ كان بسببه { وإن فرعون لعال في الأرض } لغالب فيها { وإنه لمن المسرفين } في الكبر والعتو حتى ادعى الربوبية واسترق أسباط الأنبياء

84 - { وقال موسى } لما رأى تخوف المؤمنين به { يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا } فثقوا به واعتمدوا عليه { إن كنتم مسلمين } مستسلمين لقضاء الله مخلصين له وليس هذا من تعليق الحكم بشرطين فإن المعلق بالإيمان وجوب التوكل فإنه المقتضي له والمشروط بالإسلام حصوله فإنه لا يوجد مع التخليط ونظيره إن دعاك زيد فأجبه إن قدرت

85 - { فقالوا على الله توكلنا } لأنهم كانوا مؤمنين مخلصين ولذلك أجيبت دعوتهم { ربنا لا تجعلنا فتنة } موضع فتنة { للقوم الظالمين } أي لا تسلطهم عليها فيفتنونا

86 - { ونجنا برحمتك من القوم الكافرين } من كيدهم ومن شؤم مشاهدتهم وفي تقديم التوكل على الدعاء تنبيه على أن الداعي ينبغي له أن يتوكل أولا لتجاب دعوته

87 - { وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا } أي اتخذا مباءة { لقومكما بمصر بيوتا } تسكنون فيها أو ترجعون إليها للعبادة { واجعلوا } أنتما وقومكما { بيوتكم } تلك البيوت ز { قبلة } مصلى وقيل مساجد متوجهة نحو القبلة يعني الكعبة وكان موسى صلى الله عليه و سلم يصلي إليها { وأقيموا الصلاة } فيها أمروا بذلك أول أمرهم لئلا يظهر عليهم الكفرة فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم { وبشر المؤمنين } بالنصرة في الدنيا والجنة في العقبى وإنما ثنى الضمير أولا لأن التبوأ للقوم واتخاذ المعابد مما يتعاطاه رؤوس القوم بتشاور ثم جمع لأن جعل البيوت مساجد والصلاة فيها مما ينبغي أن يفعله كل أحد ثم وحد لأن البشرة في الأصل وظيفة صاحب الشريعة

88 - { وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة } ما يتزين به من الملابس والمراكب ونحوهما { وأموالا في الحياة الدنيا } وأنواعا من المال { ربنا ليضلوا عن سبيلك } دعاء عليهم بلفظ الأمر بما علم من ممارسة أحوالهم أنه لا يكون فيره كقولك : لعن الله إبليس وقيل اللام للعاقبة وهي متعلقة ب { آتيت } ويحتمل أن تكون للعلة لأن إيتاء النعم على الكفر استدراج وتثبيت على الضلال ولأنهم لما جعلوها سببا للضلال فكأنهم أوتوها ليضلوا فيكون { ربنا } تكريرا للأول تأكيدا وتنبيها على أن المقصود عرض ضلالهم وكفرانهم تقدمة لقوله : { ربنا اطمس على أموالهم } أي أهلكها والطمس المحق وقرئ ( اطمس ) بالضم { واشدد على قلوبهم } أي وأقسها عليها حتى لا تنشرح لإيمان { فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم } جواب للدعاء أو دعاء بلفظ النهي أو عطف على { ليضلوا } وما بينهم دعاء معترض

89 - { قال قد أجيبت دعوتكما } يعني موسى وهارون لأنه كان يؤمن { فاستقيما } فاثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة وإلزام الحجة ولا تستعجلا فإن ما طلبتما كائن ولكن في وقته روي : أنه مكث فيهم بعد الدعاء أربعين سنة { ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون } طريق الجهلة في الاستعجال أو عدم الوثوق والاطمئنان بوعد الله تعالى وعن ابن عامر براوية ابن ذكوان ولا تتبعان بالنون الخفيفة كسرها لالتقاء الساكنين { ولا تتبعان } من تبع { ولا تتبعان } أيضا

90 - { وجاوزنا ببني إسرائيل البحر } أي جوزناهم في البحر حتى بلغوا الشط حافظين لهم وقرئ جوزنا وهو من فعل المرادف لفاعل كضعف وضاعف { فأتبعهم } فأدركهم يقال تبعته حتى اتبعته { فرعون وجنوده بغيا وعدوا } باغين وعادين او للبغي والعدو وقرئ وعدوا { حتى إذا أدركه الغرق } لحقه { قال آمنت أنه } أي بأنه { لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين } وقرأ حمزة و الكسائي إنه بالكسر على إضمار القول أو الاستئناف بدلا وتفسيرا ل { آمنت } فنكب عن الإيمان أوان القبول وبالغ فيه حين لا يقبل

91 - { الآن } أتؤمن الآن وقد أيست من نفسك ولم يبق لك اختيار { وقد عصيت قبل } قبل ذلك مدة عمرك { وكنت من المفسدين } الضالين ولمضلين عن الإيمان

92 - { فاليوم ننجيك } ننقذك مما وقع فيه قومك من قعر البحر ونجعلك طافيا أو نلقيك على نجوة من الأرض ليراك بنو إسرائيل وقرأ يعقوب { ننجيك } من أنجى وقرأ ( ننحيك ) بالحاء أي نلقيك بناحية من الساحل { ببدنك } في موضع الحال أي ببدنك عاريا عن الروح أو كاملا سويا أو عريانا من غير لباس أو بدرعك وكانت له درع من ذهب يعرف بها وقرئ ( بأبدانك ) أي بأجزاء البدن كلها كقولهم هوى بإجرامه أو بدروعك كأن كان مظاهرا بينها { لتكون لمن خلفك آية } لمن وراءك علامة وهم بنوا إسرائيل إذ كان في نفوسهم من عظمته ما خيل إليهم أنه لا يهلك حتى كذبوا موسى عليه السلام حين أخبرهم بغرقه إلى أن عاينوه مطرحا ممرهم من الساحل أو لمن يأتي بعدك من القرون إذا سمعوا مآل أمرك ممن شاهدك عبرة ونكالا عن الطغيان أو حجة تدلهم على أن الإنسان على ما كان عليه من عظم الشأن وكبرياء الملك مملوك مقهور بعيد عن مظان الربوبية وقرئ لمن ( خلقك ) أي لخالقك آية أي كسائر الآيات فإن إفراده إياك بالإلقاء إلى الساحل دليل على أنه تعمد منه لكشف تزويرك وإماطة الشبهة في أمرك وذلك دليل على كمال قدرته وعلمه وإرادته وهذا الوجه أيضا محتمل على المشهور { وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون } لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها

93 - { ولقد بوأنا } أنزلنا { بني إسرائيل مبوأ صدق } منزلا صالحا مرضيا وهو الشأم مصر { ورزقناهم من الطيبات } من اللذائذ { فما اختلفوا حتى جاءهم العلم } فما اختلفوا في أمر دينهم إلا من بعد ما قرأوا التوراة وعلموا أحكامها أو في أمر محمد صلى الله عليه و سلم إلا من بعد ما عملوا صدقه بنعوته وتظاهر معجزاته { إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } فيميز المحق من المبطل بالإنجاء والإهلاك

94 - { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك } من القصص على سبيل الفرض والتقدير { فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك } فإنه محقق عندهم ثابت في كتبهم على نحو ما ألقينا إليك والمراد تحقيق ذلك والاستشهاد بما في الكتب المتقدمة وأن القرآن مصدق لما فيها أو وصف أهل الكتاب بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل إليه أو تهييج الرسول صلى الله عليه و سلم وزيادة تثبيته لا إمكان وقوع الشك له ولذلك قال عليه الصلاة و السلام : [ لا أشك ولا أسأل ] وقيل الخطاب للنبي صلى لله عليه وسلم والمراد أمته أو لكل من يسمع أي إن كنت أيها السامع في شك مما نزلنا على لسان نبينا إليك وفيه تنبيه على أن كل من خالجته شبهة في الدين ينبغي أن يسارع إلى حلها بالرجوع إلى أهل العلم { لقد جاءك الحق من ربك } واضحا أنه لا مدخل للمرية فيه بالآيات القاطعة { فلا تكونن من الممترين } بالتزلزل عما أنت عليه من الحزم واليقين

95 - { ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين } أيضا من باب التهييج والتثبيت وقطع الأطماع عنه كقوله { فلا تكونن ظهيرا للكافرين }

96 - { إن الذين حقت عليهم } ثبتت عليهم { كلمة ربك } بأنهم يموتون على الكفر ويخلدون في العذاب { لا يؤمنون } إذ لا يكذب كلامه ولا ينتقض فضاؤه

97 - { ولو جاءتهم كل آية } فإن السبب الأصلي لإيمانهم وهو تعلق إرادة الله تعالى به مفقود { حتى يروا العذاب الأليم } وحينئذ لا ينفعهم كما لا ينفع فرعون

98 - { فلولا كانت قرية آمنت } فهلا كانت قرية من القرى التي أهلكناها آمنت قبل معاينة العذاب ولم تؤخر إليها كما أخر فرعون { فنفعها إيمانها } بان يقبله الله منها ويكشف العذاب عنها { إلا قوم يونس } لكن قوم يونس عليه السلام { لما آمنوا } أول ما رأوا أمارة العذاب ولم يؤخروه إلى حلوله { كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا } ويجوز أن تكون الجملة في معنى النفي لتضمن حرف التحضيض معناه فيكون الاستثناء متصلا لأن المراد من القرى أهاليها كأنه قال : ما آمن أهل قرية من القرى العاصية فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس ويؤيده قراءة الرفع على البدل { ومتعناهم إلى حين } إلى آجالهم روي : أن يونس عليه السلام بعث إلى أهل نينوى من الموصل فكذبوه وأصروا عليه فوعدهم بالعذاب إلى ثلاث وقيل إلى ثلاثين وقيل إلى أربعين فلما دنا الموعد أغامت السماء غيما أسود ذا دخان شديد فهبط حتى غشي مدينتهم فهابوا فطلبوا يونس فلم يجدوه فأيقنوا صدقه فلبسوا المسوح وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم وفرقوا بين كل والدة وولدها فحن بعضها إلى بعض وعلت الأصوات والعجيج وأخلصوا التوبة وأظهروا الإيمان وتضرعوا إلى الله تعالى فرحمهم وكشف عنهم وكان يوم عاشوراء يوم الجمعة

99 - { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم } بحيث لا يشذ منهم أحد { جميعا } مجتمعين على الإيمان لا يختلفون فيه وهو دليل على القدرية في أنه تعالى لم يشأ إيمانهم أجمعين وأن من شاء إيمانه يؤمن لا محالة والتقييد بمشيئة الإلجاء خلاف الظاهر { أفأنت تكره الناس } بما لم يشأ منهم { حتى يكونوا مؤمنين } وترتيب الإكراه على المشيئة بالفاء وإيلاؤها حرف الاستفهام للإنكار وتقديم الضمير على الفعل للدلالة على أن خلاف المشيئة مستحيل فلا يمكن تحصيله بالإكراه عليه فضلا عن الحث والتحريض عليه إذ روي أنه كان حريصا على إيمان قومه شديد الاهتمام به فنزلت ولذلك قرره بقوله :

100 - { وما كان لنفس أن تؤمن } بالله { إلا بإذن الله } إلا بإرادته وألطافه وتوفيقه فلا تجهد نفسك في هداها فإنه إلى الله { ويجعل الرجس } العذاب أو الخذلان فإن سببه وقرئ بالزاي وقرأ أبو بكر ( ونجعل ) بالنون { على الذين لا يعقلون } لا يستعملون عقولهم بالنظر في الحجج والآيات أو لا يعقلون دلائله وأحكامه لما على قلوبهم من الطبع ويؤيد الأول قوله :

101 - { قل انظروا } أي تفكروا { ماذا في السموات والأرض } من عجائب صنعه لتدلكم على وحدته وكمال لقدرته و { ماذا } إن جعلت استفهامية علقت { انظروا } عن العمل { وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون } في علم الله وحكمته { وما } نافية أو استفهامية في موضع النصب

102 - { فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم } مثل وقائعهم ونزول بأس الله بهم إذ لا يستحقون غيره من قولهم أيام العرب لوقائعها { قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين } لذلك أو فانتظروا هلاكي إني معكم من المنتظرين هلاككم

103 - { ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا } عطف على محذوف دل عليه { إلا مثل أيام الذين خلوا } كأنه قيل نهلك الأمم ثم ننجي رسلنا ومن آمن بهم على حكاية الحال الماضية { كذلك حقا علينا ننج المؤمنين } كذلك الإنجاء أو إنحاء كذلك نندي محمدا وصحبه حين نهلك المشركين و { حقا علينا } اعتراض ونصبه بفعله المقدر وقيل بدل من كذلك وقرأ حفص و الكسائي { ننجي } مخففا

104 - { قل يا أيها الناس } خطاب لأهل مكة { إن كنتم في شك من ديني } وصحته { فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم } فهذا خلاصة ديني اعتقادا وعملا فاعرضوها على العقل الصرف وانظروا فيها بعين الإنصاف لتعلموا صحتها وهو أني لا أعبد ما تخلقونه تعبدونه ولكن أعبد خالقكم الذي هو يوجدكم و يتوفاكم وإنما خص التوفي بالذكر للتهديد { وأمرت أن أكون من المؤمنين } بما دل عليه العقل ونطق به الوحي وحذف الجار من أن يجوز أن يكون من المطرد مع أن وأن يكون من غيره كقوله :
( أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نسب )

105 - { وأن أقم وجهك للدين } عطف على { أن أكون } غير { أن } صلة { أن } محكية بصيغة الأمر ولا فرق بينهم في الغرض لن المقصود وصلها بما يتضمن معنى المصدر لتدل معه عليه وصيغ الأفعال كلها كذلك سواء الخبر منها والطلب والمعنى وأمرت بالاستقامة في الدين والاستبداد فيه بأداء الفرائض والانتهاء عن القبائح أو في الصلاة باستقبال القبلة { حنيفا } حال من الدين أو الوجه { ولا تكونن من المشركين }

106 - { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك } بنفسه إن دعوته أو خذلته { فإن فعلت } فإن دعوته { فإنك إذا من الظالمين } جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدر عن تبعة الدعاء

سورة هود
107 - فلا دافع { لفضله } الذي أرادك به ولعله ذكر الإرادة مع الخير والمس مع الضر مع تلازم الأمرين للتنبيه على أن الخير مراد بالذات وأن الضر إنما مسهم لا بالقصد الأول ووضع الفضل موضع الضمير للدلالة على أنه متفضل بما يريد من الخير لا استحقاق لهم عليه ولم يستثن لأن مراد الله لا يمكن رده { يصيب به } بالخير { من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم } فتعرضوا لرحمته بالطاعة ولا تيأسوا من غفرانه بالمعصية

108 - { قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم } رسوله أو القرآن لم يبق لكم عذر { فمن اهتدى } بالإيمان والمتابعة { فإنما يهتدي لنفسه } لأن نفعه لها { ومن ضل } بالكفر بهما { فإنما يضل عليها } لأن وبال الضلال عليها { وما أنا عليكم بوكيل } بحفيظ موكول إلى أمركم وإنما أنا بشير ونذير

109 - { واتبع ما يوحى إليك } بالامتثال والتبليغ { واصبر } على دعوتهم وتحمل أذيتهم { حتى يحكم الله } بالنصرة أو الأمر بالقتال { وهو خير الحاكمين } إذ لا يمكن الخطأ في حكمه لاطلاعه على السرائر اطلاعه على الظواهر
عن النبي صلى الله عليه و سلم [ من قرأ سورة يونس أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بيونس وكذب به وبعدد من غرق مع فرعون ]

مكية وهي مائة وثلاث وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
1 - { الر كتاب } مبتدأ وخير أو { كتاب } خبر مبتدأ محذوف { أحكمت آياته } نظمت نظما محكما لا يعتريه إخلال من جهة الفظ والمعنى أو منعت من الفساد والنسخ فإن المراد آيات السورة وليس فيها منسوخ أو أحكمت بالحجج والدلائل أو جعلت حكمية منقول من حكم بالضم إذا خار حكيما لأنها مشتملة على أمهات الحكم النظرية والعملية { ثم فصلت } بالفوائد من العقائد والأحكام والمواعظ والأخبار أو بجعلها سورا أو بالإنزال نجما نجما أو فصل فيها ولخص ما يحتاج إليه وقرئ { ثم فصلت } أي فرقت بين الحق والباطل وأحكمت آياته { ثم فصلت } على البناء للمتكلم و { ثم } للتفاوت في الحكم أو للتراخي في الأخبار { من لدن حكيم خبير } صفة أخرى ل { كتاب } أو خبر بعد خبر أو صلة ل { أحكمت } أو { فصلت } وهو تقرير لأحكامها وتفصيلها على أكمل ما ينبغي باعتبار ما ظهر أمره وما خفي

2 - { أن لا تعبدوا إلا الله } لأن لا تعبدوا وقيل أن مفسرة لن في تفصيل الآيات معنى القول ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ للإغراء على التوحيد أو الأمر بالتبري من عبادة الغير كأنه قيل : ترك عبادة غير الله بمعنى ألزموه أو اتركوها تركا { إنني لكم منه } من الله { نذير وبشير } بالعقاب على الشرك والثواب على التوحيد

3 - { وأن استغفروا ربكم } عطف على ألا تعبدوا { ثم توبوا إليه } ثم توسلوا إلى مطلوبكم بالتوبة فإن المعرض عن طريق الحق لا بد له من الرجوع وقيل استغفروا من الشرك ثم توبوا إلى الله بالطاعة ويجوز أ يكون ثم لتفاوت ما بين الأمرين { يمتعكم متاعا حسنا } يعيشكم في أمن ودعة { إلى أجل مسمى } هو آخر أعماركم المقدرة أو لا يهلككم بعذاب الاستئصال والأرزاق والآجال وإن كانت متعلقة بالأعمار لكنها مسماة بالإضافة إلى كل أحد فر تتغير { ويؤت كل ذي فضل فضله } ويعط كل ذي فضل في دينه جزاء فضله في الدنيا والآخرة وهو وعد للموحد التائب بخير الدارين { وإن تولوا } وإن تتولوا { فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير } يوم القيامة وقيل يوم الشدائد وقد ابتلوا بالقحط حتى أكلوا الجيف وقرئ { وإن تولوا } من ولي

4 - { إلى الله مرجعكم } رجوعكم في ذلك اليوم وهو شاذ عن القياس { وهو على كل شيء قدير } فيقدر على تعذيبكم أشد عذاب وكأنه تقدير لكبر اليوم

5 - { ألا إنهم يثنون صدورهم } يثنونها عن الحق وينحرفون عنه أو يعطفونها على الكفر وعداوة النبي صلى لله عليه وسلم أو يولون ظهورهم وقرئ يثنوني بالياء والتاء من اثنوني وهو بناء مبالغة وتثنون وأصله تثنونن من الثن وهو الكلأ الضعيف أراد به ضعف قلوبهم أو مطاوعة صدورهم للثني و تثنئن من اثنأن كابياض بالهمزة و تثنوي { ليستخفوا منه } من الله بسرهم فلا يطلع رسوله والمؤمنين عليه قيل إنها نزلت في طائفة من المشركين قالوا : إذا أرخينا ستورنا واستغشينا ثيابنا وطوينا صدورنا على عداوة محمد كيف يعلم وقيل نزلت في المنافقين وفيه نظر إذ الآية مكية والنفاق حدث بالمدينة { ألا حين يستغشون ثيابهم } ألا حين يأوون إلى فراشهم ويتغطون بثيابهم { يعلم ما يسرون } في قلوبهم { وما يعلنون } بأفواههم يستوي في علمه سرهم وعلنهم فكيف يخفى عليه ما عسى يظهرونه { إنه عليم بذات الصدور } بالأسرار ذاب الصدور أو بالقلوب وأحوالها

6 - { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } غذاءها ومعاشها لتكفله إياه تفضلا ورحمة وإنما أتى بلفظ الوجوب تحقيقا لوصوله وحملا على التوكل فيه { ويعلم مستقرها ومستودعها } أماكنها في الحياة والممات أو الأصلاب والأرحام أو مساكنها من الأرض حين وجدت بالفعل ومودعها من المواد والمقار حين كانت بعد بالقوة { كل } كل واحد من الدواب وأحولها { في كتاب مبين } مذكور في اللوح المحفوظ وكأنه أريد بالآية بيان كونه عالما بالمعلومات كلها وبما بعدها بيان كونه قادرا على الممكنات بأسرها تقريرا للتوحيد ولما سبق من الوعد والوعيد

7 - { وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام } أي خلقهما وما فيهما كما مر بيانه في الأعراف أو ما في جهتي العلو والسفل وجمع السموات دون الأرض لاختلاف العلويات بالأصل والذات دون السفليات { وكان عرشه على الماء } قبل خلقهما لم يكن حائل بينهما لأنه كان موضوعا على متن الماء واستدل به على إمكان الخلاء وأن الماء أول حادث بعد العرش من أجرام هذا العالم وقيل كان الماء على متن الريح والله أعلم بذلك { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } متعلق ب { خلق } أي خلق ذلك كخلق من خلق ليعاملكم معاملة المبتلي لأحوالكم كيف تعملون فإن جملة ذلك أسباب وموارد لوجودكم ومعاشكم وما تحتاج إليه أعمالكم ودلائل وأمارات تستدلون بها وتستنبطون منها وإنما جاز تعليق فعل البلوى لما فيه من معنى العلم من حيث إنه طريق إليه كالنظر والاستماع وإنما ذكر صيغة التفضيل والاختيار شامل لفرق المكلفين باعتبار الحسن والقبح للتحريض على أحاسن المحاسن والتحضيض على الترقي دائما في مراتب العلم والعمل فإن المراد بالعمل ما يعم عمل القلب والجوارح ولذلك قال النبي صلى الله عليه و سلم [ أيكم أحسن عقلا و أورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله ] والمعنى أيكم أكمل علما وعملا { ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين } أي ما البعث أو القول به أو القرآن المتضمن لذكره إلا كالسحر في الخديعة أو البطلان وقرأ حمزة و الكسائي إلا ساحر على أن الإشارة إلى القائل وقرئ أنكم بالفتح على تضمن قلت معنى ذكرت أو أن يكون أن بمعنى على أي ولئن قلت علكم مبعوثون بمعنى توقعوا بعثكم ولا تبتوا بإنكاره لعدوه من قبيل مالا حقيقة له مبالغة في إنكاره

8 - { ولئن أخرنا عنهم العذاب } الموعود { إلى أمة معدودة } إلى جماعة من الأوقات قليلة { ليقولن } استهزاء { ما يحبسه } ما يمنعه من الوقوع { ألا يوم يأتيهم } كيوم بدر { ليس مصروفا عنهم } ليس العذاب مدفوعا عنهم و { يوم } منصوب بخبر { ليس } معدم عليه وهو دليل على جزاء تقديم خبرها عليها { وحاق بهم } وأحاط بهم وضع الماضي موضع المستقبل تحقيقا ومبالغة في التهديد { ما كانوا به يستهزئون } أي العذاب الذي كانوا به يستعجلون فوضع { يستهزئون } موضع يستعجلون لن استعجالهم كان استهزاء

9 - { ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة } ولئن أعطيناه نعمة بحيث يجد لذتها { ثم نزعناها منه } ثم سلبنا تلك النعمة منه { إنه ليؤوس } قطوع رجاءه من فضل الله تعالى لقلة صبره وعدم ثقته به { كفور } مبالغ في كفران ما سلف له من النعمة

10 - { ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته } كصحة بعد سقم وغنى بعد عدم وفي اختلاف الفعلين نكتة لا تخفى { ليقولن ذهب السيئات عني } أي المصائب التي ساءتني { إنه لفرح } بطر بالنعم مغتر بها { فخور } على الناس مشغول عن الشكر والقيام بحقها وفي لفظ الإذاقة والمس تنبيه على أن ما يجده الإنسان في الدنيا من النعم والمحن كالأنموذج لما يجده في الآخرة وأنه يقع في الكفران والبكر بأدنى شيء لأن الذوق إدراك الطعم والمس مبتدأ الوصول

11 - { إلا الذين صبروا } على الضراء إيمانا بلله تعالى واستسلاما لقضائه { وعملوا الصالحات } شكرا لآلاته سابقها ولاحقها { أولئك لهم مغفرة } لذنوبهم { وأجر كبير } أقله الجنة والاستثناء من الإنسان لن المراد به الجنس فإذا كان محلي باللام أفاد الاستغراق ومن حمله على الكافر لسبق ذكرهم جعل الاستثناء منقطعا

12 - { فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك } تترك تبليغ بعض ما يوحى إليك وهو ما يخالف رأي المشركين مخافة ردهم واستهزائهم به ولا يلزم من توقع الشيء لوجود ما يدعو إليه وقوعه لجواز أن يكون ما يصرف عنه وهو عصمة الرسل عن الخيانة في الوحي والثقة في التبليغ ها هنا { وضائق به صدرك } وعارض لك أحيانا ضيق صدرك بأن تتلوه عليهم مخافة { أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز } ينفقه في الاستتباع كالملوك { أو جاء معه ملك } يصدقه وقيل الضمير في { به } مبهم يفسره { أن يقولوا } { إنما أنت نذير } ليس عليك إلا الإنذار بما أوحي إليك ولا عليك ردوا أو اقترحوا فما بالك يضيق به صدرك { والله على كل شيء وكيل } فتوكل عليه فإنه عالم بحالهم وفاعل بهم جزاء أقوالهم وأفعالهم

13 - { أم يقولون افتراه } { أم } منقطعة والهاء { لما يوحى } { قل فاتوا بعشر سور مثله } في البيان وحسن النظم تحداهم أولا بعشر سور ثم لما عجزوا عنها سهل الأمر عليهم وتحداهم بسورة وتوحيد المثل باعتبار كل واحدة { مفتريات } مختلفات من عند أنفسكم إن صح أني اختلقته من عند نفسي فإنكم عرب فصحاء مثلي تقدرون على مثل ما أقدر عليه بل أنتم لتعلمكم القصص والأشعار وتعودكم القريض والنظم { وادعوا من استطعتم من دون الله } إلى المعاونة على المعارضة { إن كنتم صادقين } أنه مفترى

14 - { فإلم يستجيبوا لكم } بإتيان ما دعوتم إليه وجمع الضمير إما لتعظيم الرسول صلى الله عليه و سلم أو لأن المؤمنين كانوا أيضا يتحدونهم وكان أمر الرسول صلى الله عليه و سلم متناولا لهم من حيث إنه يجب أتباعه عليهم في كل أمر إلا ما خصه الدليل وللتنبيه على أن التحدي مما يوجب رسوخ إيمانهم وقرة يقينهم فلا يغفلون عنه ولذلك رتب عليه قوله : { فاعلموا أنما أنزل بعلم الله } ملتبسا بما لا يعلمه إلا الله ولا يقدر عليه سواه { وأن لا إله إلا هو } واعلموا أن لا إله إلا الله لأنه العالم القادر بما لا يعلم ولا يقدر عليه غيره ولظهور عجز آلهتهم ولتنصيص هذا الكلام الثابت صدقة بإعجازه عليه وفيه تهديد وإقناط من أن يجيرهم من بأس الله آلهتهم { فهل أنتم مسلمون } ثابتون على الإسلام راسخون فيه مخلصوه إذا تحقق عندكم إعجازه مطلقا ويجوز أن يكون الكل خطابا للمشركين والضمير في { لم يستجيبوا } لمن استطعتم أي فإن لم يستجيبوا لكم إلى المظاهرة لعجزهم وقد عرفتم من أنفسكم القصور عن المعاوضة فاعلموا أنه نظم لا يعلمه إلا الله وأنه منزل من عنده وأن ما دعاكم إليه من التوحيد حق فهل أنتم داخلون في الإسلام بعد قيام الحجة القاطعة وفي مثل هذا الاستفهام إيجاب بليغ لما فيهمن معنى الطلب والتنبيه على قيام الموجب وزوال العذر

15 - { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها } بإحسانه وبره { نوف إليهم أعمالهم فيها } نوصل إليهم جزاء أعمالهم في الدنيا من الصحة والرئاسة وسعة الرزق وكثرة الأولاد وقرئ يوف بالياء أي يوف الله ونوف على البناء للمفعول ونوف بالتخفيف والرفع لن الشرط ماض كقوله :
( وإن أتاه كريم يوم مسغبة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم )
{ وهم فيها لا يبخسون } لا ينقصون شيئا من أجورهم والآية في أهل الرياء وقيل في المنافقين وقيل في الكفرة وغرضهم وبرهم

16 - { أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار } مطلقا في مقابلة ما عملوا لأنهم استوفوا ما تقتضيه صور أعمالهم الحسنة وبقيت لهم أوزار العزائم السيئة { وحبط ما صنعوا فيها } لأنه لم يبق لهم ثواب في الآخرة أو لم يكن لأنهم لم يريدوا به وجه الله والعمدة في اقتضاء ثوابها هو الإخلاص ويجوز تعليق الظرف ب { صنعوا } على أن الضمير ل { الدنيا } { وباطل } في نفسه { ما كانوا يعملون } لأنه لم يعمل على ما ينبغي وكأن كل واحدة من الجملتين علة لما قبلها وقرئ باطلا على أنه مفعول يعملون و { ما } إبهامية أو في معنى المصدر كقوله :
( ولا خارجا من في زور كلام )

17 - وبطل على الفعل { أفمن كان على بينة من ربه } برهان من الله يدله على الحق والصواب فيما يأتيه ويذره والهمزة لإنكار أن يعقب من هذا شأنه هؤلاء المقصرين هممهم وأفكارهم على الدنيا وأن يقارب بينهم في المنزلة وهو الذي أغنى عن ذكر الخير وتقديره أفمن كان على بينة كمن كان يريد الحياة الدنيا وهو حكم يعم كل مؤمن مخلص وقيل المراد به النبي صلى الله عليه و سلم وقيل مؤمنو أهل الكتاب { ويتلوه } ويتبع ذلك البرهان الذي هو دليل العقل { شاهد منه } شاهد من الله يشهد بصحته وهو القرآن { ومن قبله } ومن قبل القرآن { كتاب موسى } يعني التوراة فإنها أيضا تتلوه في التصديق او البينة هو القرآن { ويتلوه } من التلاوة والشاهد جبريل أو لسان الرسول صلى الله عليه و سلم على أن الضمير له أو من التلو والشاهد ملك يحفظه والضمير في { يتلوه } إما لمن أو للبينة باعتبار المعنى { ومن قبله كتاب موسى } جملة مبتدأة وقرئ { كتاب } بالنصب عطفا على الضمير في { يتلوه } أي يتلو القرآن شاهد ممن كان بينة دالة على أنه حق كقوله : { وشهد شاهد من بني إسرائيل } ويقرأ من قبل القرآن التوراة { إماما } كتابا مؤتما به في الدين { ورحمة } على المنزل عليهم لأنه الوصلة إلى الفوز بخير الدارين { أولئك } إشارة إلى من كان على بينة { يؤمنون به } بالقرآن { ومن يكفر به من الأحزاب } من أهل مكة ومن تحزب معهم على رسول الله صلى الله عليه و سلم { فالنار موعده } يردها لا محالة { فلا تك في مرية منه } من الموعد أو القرآن وقرئ مرية بالضم وهما الشك { إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } لقلة نظرهم واختلال فكرهم

18 - { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا } كان أسند إليه ما لم نزله أو نفى عنه ما أنزله { أولئك } أي الكاذبون { يعرضون على ربهم } في الموقف بأن يحبسوا وتعرض أعمالهم { ويقول الأشهاد } من الملائكة والنبيين أو من جوارحهم وهو جمع شاهد كأصحاب أو شهيد كأشراف جمع شريف { هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين } تهويل عظيم مما يحيق بهم حينئذ لظلمهم بالكذب على الله

19 - { الذين يصدون عن سبيل الله } عن دينه { ويبغونها عوجا } يصفونها بالانحراف عن الحق والصواب أو يبغون أهلها أن يعوجوا بالردة { وهم بالآخرة هم كافرون } والحال أنهم كافرون بالآخرة وتكريرهم لتأكيد كفرهم واختصاصهم به

20 - { أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض } أي ما كانوا معجزين الله في الدنيا أن يعاقبهم { وما كان لهم من دون الله من أولياء } يمنعونهم من العقاب ولكنه أخر عقابهم إلى هذا اليوم ليكون أشد وأدوم { يضاعف لهم العذاب } استئناف وقرأ ابن كثير و ان عامر و يعقوب يضعف بالتشديد { ما كانوا يستطيعون السمع } لتصامهم عن الحق وبغضهم له { وما كانوا يبصرون } لتعاميهم عن آيات الله وكأنه العلة لمضاعفة العذاب وقيل هو بيان ما نفاه من ولاية الآلهة بقوله : { وما كان لهم من دون الله من أولياء } فإن مالا يسمع ولا يبصر لا يصلح للولاية وقوله : { يضاعف لهم العذاب } اعتراض

21 - { أولئك الذين خسروا أنفسهم } باشتراء عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى { وضل عنهم ما كانوا يفترون } من الآلهة وشفاعتها أو خسروا بما بدلوا وضاع عنهم ما حصلوا فلم يبق معهم سوى الحسرة والندامة

22 - { لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون } لا أحد أبين واكثر خسرانا منهم

23 - { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم } اطمأنوا إليه وخشعوا له من الخبت وهو الأرض المطمئنة { أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } دائمون

24 - { مثل الفريقين } الكافر والمؤمن { كالأعمى والأصم والبصير والسميع } يجوز أن يراد به تشبيه الكافر بالأعمى لتعاميه عن آيات الله وبالأصم لتصامه عن إسماع كلام الله تعالى وتأبيه عن تدبر معانيه وتشبيه المؤمن بالسميع والبصير لأن أمره بالضد فيكون كل واحد منهم مشبها باثنين باعتبار وصفين أو تشبيه الكافر بالجامع بين العمى والصمم والمؤمن بالجامع بين ضديهما والعاطف لعطف الصفة على الصفة كقوله :
( الصابح فالغانم فالآيب )
وهذا من باب اللف والطباق { هل يستويان } هل يستوي الفريقان { مثلا } أي تمثيلا أو صفة أوحالا { أفلا تذكرون } بضرب الأمثال والتأمل فيها

25 - { ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم } بأني لكم قرأ نافع و عاصم و ابن عامر و حمزة بالكسر على إرادة القول { نذير مبين } أبين لكم موجبات العذاب ووجه الخلاص

26 - { أن لا تعبدوا إلا الله } بدل من { إني لكم } أو مفعول مبين ويجوز أن تكون أن مفسرة متعلقة ب { أرسلنا } أو ب { نذير } { إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم } مؤلم وهو في الحقيقة صفة المعذب لكن يوصف به العذاب وزمانه على طريقة جد جده ونهاره صائم للمبالغة

27 - { فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا } لا مزية لك علينا تخصك بالنبوة ووجوب الطاعة { و ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا } أخساؤنا جمع أرذل فإنه بالغلبة صار مثل الاسم كالأكبر أو أرذل جمع رذل { بادي الرأي } ظاهر الرأي من غير تعمق من البدو أو أول الرأي من البدء والياء مبدلة من الهمزة لانكسار ما قبلها وقرأ أبو عمرو بالهمزة وانتصابه بالظرف على حذف المضاف أي : وقت حدوث بادي الرأي والعامل فيه { اتبعك } وإنما استرذلوهم لذلك أو لفقرهم فإنهم لما لم يعلموا إلا ظاهرا من الحياة الدنيا كان الأحظ بها أشرف عندهم والمحروم منها أرذل { وما نرى لكم } لك ولمتبعيك { علينا من فضل } يؤهلكم للنبوة واستحقاق المتابعة { بل نظنكم كاذبين } إياي في دعوى النبوة وإياهم في دعوى العلم بصدقك فغلب المخاطب على الغائبين

28 - { قال يا قوم أرأيتم } أخبروني { إن كنت على بينة من ربي } حجة شاهدة بصحة دعواي { وآتاني رحمة من عنده } بإيتاء البينة أو النبوة { فعميت عليكم } فخفيت عليكم فلم تهدكم وتوحيد الضمير لن البينة في نفسها هي الرحمة أو لأن خفائها يوجب خفاء النبوة أو على تقدير فعميت بعد البينة وحذفها للاختصار أو لأنه لكل واحدة منهما وقرأ حمزة و الكسائي و حفص { فعميت } أي أخفيت وقرئ فعماها على أن الفعل لله { أنلزمكموها } أنكرهكم على الاهتداء بها { وأنتم لها كارهون } لا تختارونها ولا تتأملون فيها وحيث اجتمع ضميران وليس أحدهما مرفوعا وقدم الأعرف منهما جاز في الثاني الفصل والوصل

29 - { و يا قوم لا أسألكم عليه } على التبليغ وهو وإن لم يذكر فمعلوم مما ذكر { مالا } جعلا { إن أجري إلا على الله } فإنه المأمول منه { وما أنا بطارد الذين آمنوا } جواب لهم حين سألوا طردهم { إنهم ملاقوا ربهم } فيخاصمون طاردهم عنده أو أنهم يلاقونه ويفوزون بقربه فكيف أطردهم { ولكني أراكم قوما تجهلون } بلقاء ربكم أو بأقدراهم أو في التماس طردهم أو تتسفهون عليهم بأن تدعوهم أراذل

30 - { ويا قوم من ينصرني من الله } بدفع انتقامه { إن طردتهم } وهم بتلك الصفة والمثابة { أفلا تذكرون } لتعرفوا أن التماس طردهم وتوقيف الإيمان عليه ليس بصواب

31 - { ولا أقول لكم عندي خزائن الله } رزقه وأمواله حتى جحدتم فضلي { ولا أعلم الغيب } عطف على { عندي خزائن الله } أي : ولا أقول لكم أنا أعلم الغيب حتى تكذبوني استبعادا أو حتى أعلم أن هؤلاء اتبعوني بادي الرأي من غير بصيرة وعقد قلب وعلى الثاني يجوز عطفه على أقول { ولا أقول إني ملك } حتى تقولوا ما أنت إلا بشر مثلنا { ولا أقول للذين تزدري أعينكم } ولا أقول في شأن من استرذلتموهم لفقرهم { لن يؤتيهم الله خيرا } فإن ما أعده الله لهم في الآخرة خير مما آتاكم في الدنيا { الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين } إن قلت شيئا من ذلك والازدراء به افتعال من زرى عليه إذا عابه قلبت تاؤه دالا لتجانس الراء في الجهر وإسناده إلى الأعين للمبالغة والتنبيه على أنهم استرذلوهم بادي الرؤية من غير روية بما عاينوا من رثاثة حالهم وقلة منالهم دون تأمل في معانيهم وكمالاتهم

32 - { قالوا يا نوح قد جادلتنا } خاصمتنا { فأكثرت جدالنا } فأطلته أوأتيت بأنواعه { فأتنا بما تعدنا } من العذاب { إن كنت من الصادقين } في الدعوى والوعيد فإن مناظرتك لا تؤثر فينا

33 - { قال إنما يأتيكم به الله إن شاء } عاجلا أو آجلا { وما أنتم بمعجزين } بدفع العذاب أو الهرب منه

34 - { ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم } شرط ودليل وجواب والجملة دليل جواب قوله : { إن كان الله يريد أن يغويكم } وتقدير الكلام إن كان الله يريد أن يغويكم فإن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي ولذلك تقول لو قال الرجل أنت طالق إن دخلت الدار إن كلمت زيدا فدخلت ثم كلمت لم تطلق وهو جواب لما أوهموا من أن جداله كلام بلا طائل وهو دليل على أن إرادة الله تعالى يصح تعلقها بالإغواء وأن خلاف مراده محال وقيل { أن يغويكم } أن يهلككم من غوى الفصيل غوى إذا بشم فهلك { هو ربكم } هو خالقكم والمتصرف فيكم وفق إرادته { وإليه ترجعون } فيجازيكم على أعمالكم

35 - { أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي } وباله وقرئ إجرامي على الجمع { وأنا بريء مما تجرمون } من إجرامكم في إسناد الافتراء إلي

36 - { وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس } فلا تحزن ولا تتأسف { بما كانوا يفعلون } أقنطه الله تعالى من إيمانهم ونهاه أن يغتم بما فعلوه من التكذيب ولإيذاء

37 - { واصنع الفلك بأعيننا } ملتبسا بأعيننا عبر بكثرة آلة الحس الذي يحفظ به الشيء ويراعي عن الاختلال و الزيغ عن المبالغة في الحفظ والرعاية على طريق التمثيل { ووحينا } إليك كيف تصنعها { ولا تخاطبني في الذين ظلموا } ولا تراجعني فيهم ولا تدعني باستدفاع العذاب عنهم { إنهم مغرقون } محكوم عليهم بالإغراق فلا سبيل إلى كفه

38 - { ويصنع الفلك } حكاية حال ماضية { وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه } استهزؤوا به لعمله السفينة فإنه كان يعملها في برية بعيدة من الماء أوان عزته وكانوا يضحكون منه ويقولون له : صرت نجارا بعدما كنت نبيا { قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون } إذا أخذكم الغرق في الدنيا والحرق قي الآخرة وقيل المراد بالسخرية الاستجهال

39 - { فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه } يعني به إياهم وبالعذب الغرق { ويحل عليه } وينزل عليه أو يحل عليه حلول الدين الذي لا انفكاك عنه { عذاب مقيم } دائم وهو عذاب النار

40 - { حتى إذا جاء أمرنا } غاية لقوله { ويصنع الفلك } وما بينهما حال من الضمير فيه أو حتى هي التي يبتدأ بعدها الكلام { وفار التنور } بنبع الماء منه وارتفع كالقدر تفور و { التنور } تنور الخبز ابتدأ منه النبوع على خرق العادة وكان في الكوفة في موضع مسجدها أو في الهند أو بعين وردة من أرض الجزيرة وقيل التنور وجه الأرض أو أشرف موضع فيها { قلنا احمل فيها } في السفينة { من كل } من كل نوع من الحيوانات المنتفع بها { زوجين اثنين } ذكرا وأنثى هذا على قراءة حفص والباقون أضافوا على معنى احمل اثنين من كل صنف ذكر وصنف ذكر وصنف أنثى { وأهلك } عطف على { زوجين } أو { اثنين } والمراد امرأته وبنوه ونساؤهم { إلا من سبق عليه القول } بأنه من المغرقين يريد ابنه كنعان وأمه واعلة فإنهما كانا كافرين { ومن آمن } والمؤمنين من غيرهم { وما آمن معه إلا قليل } قيل كانوا تسعة وسبعين زوجته المسلمة وبنوه الثلاثة سام وحام ويافث ونساؤهم واثنان وسبعون رجلا وامرأة من غيرهم روي أنه عليه الصلاة و السلام اتخذ السفينة في سنتين من الساج وكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسين وسمكها ثلاثين وجعل لها ثلاثة بطون فحمل في أسفلها الدواب والوحش وفي أوسطها الإنس وفي أعلاها الطير

41 - { وقال اركبوا فيها } أي صيروا فيها وجعل ذلك ركوبا لأنها في الماء كالمركوب في الأرض { بسم الله مجريها ومرساها } متصل ب { اركبوا } حال من الواو أي اركبوا فيها مسمين الله أو قائلين باسم الله وقت إجرائها وإرسائها أو مكانهما على أن المجرى والمرسى للوقت أو المكان أو المصدر والمضاف محذوف كقولهم : آتيك خفوق النجم وانتصابهما بما قدرناه حالا ويجوز رفعهما ب { بسم الله } على أن المراد بهما المصدر أو جملة من مبتدأ وخبر أي إجراءها { بسم الله } على أن { بسم الله } خبر أو صلة والخبر محذوف وهي إما جملة مقتضية لا تعلق لها بما قبلها أو حال مقدرة من الواو أو الهاء وروي أنه كان إذا أراد أن تجري قال بسم الله فجرت وإذا أراد أن ترسو قال بسم الله فرست ويجوز أن يكون الاسم مقحما كقوله :
( ثم اسم السلام عليكما )
وقرأ حمزة و الكسائي و عاصم برواية حفص { مجريها } بالفتح من جرى وقرئ { مرساها } أيضا من رسا وكلاهما يحتمل الثلاثة ومجريها ومرسيها بلفظ الفاعل صفتين لله { إن ربي لغفور رحيم } أي لولا مغفرته لفرطاتكم ورحمته إياكم لما نجاكم

42 - { وهي تجري بهم } متصل بمحذوف دل عليه { اركبوا } فركبوا مسمين وهي تجري وهم فيها { في موج كالجبال } في موج من الطوفان وهو ما يرتفع من الماء عند اضطرابه كل موجة منها كجبل في تراكمها وارتفاعها وما قيل من أن الماء طبق ما بين السماء والأرض وكانت السفينة تجري في جوفه ليس بثابت والمشهور أنه علا شوامخ الجبال خمسة عشر ذراعا وإن صح فلعل ذلك قبل التطبيق { ونادى نوح ابنه } كنعان وقرئ ابنها و { ابنه } بحذف الألف على أن الضمير لامرأته وكان ربيبه وقيل كان لغير رشده لقوله تعالى : { فخانتاهما } وهو خطأ إذ الأنبياء عصمن من ذلك والمراد بالخيانة الخيانة في الدين وقرئ ابناه على الندبة ولكونها حكاية سوغ حذف الحرف { وكان في معزل } عزل فيه نفسه عن أبيه أو عن دينه مفعل للمكان من غزله عنه إذا أبعده { يا بني اركب معنا } في السفينة والجمهور كسروا الياء ليدل على ياء المضافة المحذوفة في جميع القرآن غير ابن كثير فإنه وقف عليها في لقمان في الموضع الأول باتفاق الرواة وفي الثالث في رواية قنبل و عاصم فإنه فتح ها هنا اقتصارا على الفتح من الألف المبدلة من ياء الإضافة واختلفت الرواية عنه في سائر المواضع وقد أدغم الباء في الميم أبو عمرو و
الكسائي و حفص لتقاربهما { ولا تكن مع الكافرين } في الدين والانعزال

43 - { قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء } أن يغرقني { قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم } إلا الراحم وهو الله تعالى أو الإمكان من رحمهم الله وهم المؤمنون رد بذلك أن يكون اليوم معتصم من جبل ونحوه يعصم اللائذ به إلا معتصم المؤمنين وهو السفينة وقيل لا عاصم بمعنى لا ذا عصمة كقوله : { في عيشة راضية } وقيل الاستثناء منقطع أي لكن من رحمه الله يعصمه { وحال بينهما الموج } بين نوح وابنه أو بين ابنه والجبل { فكان من المغرقين } فصار من المهلكين بالماء

44 - { وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي } نوديا بما ينادى به أولو العلم وأمرا بما يؤمرون به تمثيلا لكما قدرته وانقيادهما لما يشاء تكونيه فيهما بالأمر المطاع الذي يأمر المنقاد لحكمه المبادر إلى امتثال أمره مهابة من عظمته وخشية من أليم عقابه والبلع النشف والإقلاع والإمساك { وغيض الماء } نقص { وقضي الأمر } وأنجز ما وعد من إهلاك الكافرين وإنجاء المؤمنين { واستوت } واستقرت السفينة { على الجودي } جبل بالموصل وقيل بالشام وقيل بآمل روي أنه ركب السفينة عاشر رجب ونزل عنها عاشر المحرم فصام ذلك اليوم فصار ذلك سنة { وقيل بعدا للقوم الظالمين } هلاكا لهم يقال بعد بعدا وبعدا إذا أبعد بعدا بعيدا بحيث لا يرجى عوده ثم استعير للهلاك وخص بدعاء السوء والآية في غاية الفصاحة لفخامة الفظها وحسن نظمها والدلالة على كنه الحال مع الإيجاز الخالي عن الإخلال وفي إيراد الإخبار على البناء للمفعول دلالة على تعظيم الفاعل وأنه متعين في نفسه مستغن عن ذكره إذ لا يذهب الوهم إلى غيره للعلم بأن مثل هذه الأفعال لا يقدر عليه سوى الواحد القهار

45 - { ونادى نوح ربه } وأراد نداءه بدليل عطف قوله : { فقال رب إن ابني من أهلي } فإنه النداء { وإن وعدك الحق } وإن كل وعد تعده حق لا يتطرق إليه الخلف وقد وعدت أن تنجي أهلي فما حاله أو فما له لم ينج ويجوز أن يكون هذا النداء قبل غرقه { وأنت أحكم الحاكمين } لأنك أعلمهم و أعدلهم أو لأنك أكثر حكمة من ذوي الحكم على أن الحاكم من الحكمة كالدارع من الدرع

46 - { قال يا نوح إنه ليس من أهلك } لقطع الولاية بين المؤمن والكافر وأشار إليه بقوله : { إنه عمل غير صالح } فإنه تعليل لنفي كونه من أهله وأصله إنه ذو عمل فاسد فجعل ذاته ذات العمل للمبالغة كقول الخنساء تصف ناقة :
( ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار )
ثم بدل الفاسد بغير الصالح تصريحا بالمناقضة بين وصفيهما وانتفاء ما أوجب النجاة لمن نجا من أهله عنه وقرأ الكسائي و يعقوب { إنه عمل غير صالح } أي عمل عملا غير صالح { فلا تسألن ما ليس لك به علم } ما لا تعلم أصواب هو أم ليس كذلك وإنما سمي نداءه سؤالا لتضمن ذكر الوعد بنجاة أهله استنجازه في شأن ولده أو استفسار المانع للإنجاز في حقه وإن ما سماه جهلا وزجر عنه بقوله : { إني أعظك أن تكون من الجاهلين } لأن استثناء من سبق عليه القول من أهله قد دله على الحال وأغناه عن السؤال لكن أشغله حب الولد عنه حتى اشتبه عليه الأمر وقرأ ابن كثير بفتح اللام والنون الشديدة وكذلك نافع و ابن عامر غير أنهما كسرا النون على أن أصله تسألنني فحذفت نون الوقاية لاجتماع النونات وكسرت الشديدة للياء ثم حذفت اكتفاء بالكسرة وعن نافع برواية رويس إثباتها في الوصل

47 - { قال رب إني أعوذ بك أن أسألك } فيما يستقبل { ما ليس لي به علم } ما لا علم لي بصحته { وإلا تغفر لي } وإن لم تغفر لي ما فرط مني في السؤال { وترحمني } بالتوبة والتفضل علي { أكن من الخاسرين } أعمالا

48 - { قيل يا نوح اهبط بسلام منا } أنزل من السفينة مسلما من المكاره من جهتنا أو مسلما عليك { وبركات عليك } ومباركا عليك أو زيادات في نسلك حتى تصير آدما ثانيا وقرء { اهبط } بالضم وبركة على التوحيد وهو الخير النامي { وعلى أمم ممن معك } وعلى أمم هم الذين معك سموا أمما لتحزبهم أو لتشعب الأمم منهم او وعلى أمم ناشئة ممن معك والمراد بهم المؤمنون لقوله : { وأمم سنمتعهم } أي وممن معك أمم سنمتعهم في الدنيا { ثم يمسهم منا عذاب أليم } في الآخرة والمراد بهم الكفار من ذرية من معه وقيل هم قوم هود وصالح ولوط وشعيب والعذاب ما نزل بهم

49 - { تلك } إشارة إلى قصة نوح ومحلها الرفع بالابتداء وخبرها : { من أنباء الغيب } أي بعضها { نوحيها إليك } خبر ثان والضمير لها أي موحاة إليك أو حال من ال { أنباء } أو هو الخبر و { من أنباء } متعلق به أوحال من الهاء في { نوحيها } { ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا } خبر آخر أي مجهولة عندك وعند قومك من قبل إيحائنا إليك أو حال من الهاء في نوحيها أو الكاف في { إليك } أي : جاهلا أنت وقومك بها وفي ذكرهم تنبيه على أنه لم يتعلمها إذ لم يخالط غيرهم وأنهم مع كثرتهم لما لم يسمعوها فكيف بواحد منهم { فاصبر } على مشاق الرسالة وأذية القوم كما صبر نوح { إن العاقبة } في الدنيا بالظفر وفي الآخرة بالفوز { للمتقين } عن الشرك والمعاصي

50 - { وإلى عاد أخاهم هودا } عطف على قوله { نوحا إلى قومه } و { هودا } عطف بيان { قال يا قوم اعبدوا الله } وحده { ما لكم من إله غيره } وقرء بالجر حملا على المجرور وحده { إن أنتم إلا مفترون } على الله باتخاذ الأوثان شركاء وجعلها شفعاء

51 - { يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني } خاطب كل رسول به قومه إزاحة للتهمة و تمحيضا للنصيحة فإنها لا تنجع مادامت مشوبة بالمطامع { أفلا تعقلون } أفلا تستعملون عقولكم فتعرفوا المحق من المبطل والصواب من الخطأ

52 - { ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه } اطلبوا مغفرة الله بالإيمان ثم توسلوا إليها بالتوبة وأيضا التبري من الغير إنما يكون بعد الإيمان بالله والرغبة فيما عنده { يرسل السماء عليكم مدرارا } كثير الدر { ويزدكم قوة إلى قوتكم } ويضاعف قوتكم وإنما رغبهم بكثرة المطر وزيادة القوة لأنهم كانوا أصحاب زروع وعمارات وقيل حبس الله عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم ثلاثين سنة فوعدهم هود عليه السلام على للإيمان والتوبة بكثرة الأمطار و تضاعف القوة بالتناسل { ولا تتولوا } ولا تعرضوا عما أدعوكم إليه { مجرمين } مصرين على إجرامكم

53 - { قالوا يا هود ما جئتنا ببينة } بحجة تدل على صحة دعواك وهو لفرط عنادهم وعدم اعتدادهم بما جاءهم من المعجزات { وما نحن بتاركي آلهتنا } بتاركي عبادتهم { عن قولك } صادرين عن قولك حال من الضمير في تاركي { وما نحن لك بمؤمنين } إقناط له من الإجابة والتصديق

54 - { إن نقول إلا اعتراك } ما نقول إلا قولنا { اعتراك } أي أصابك من عراه يعروه إذا أصابه { بعض آلهتنا بسوء } بجنون لسبك إياها وصدك عنها ومن ذلك تهذي وتتكلم بالخرافات والجملة مقول القول وإلا لغو لأن الاستثناء مفرغ { قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون }

55 - { من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون } أجاب به عن مقالتهم الحمقاء بأن أشهد الله تعالى على براءته من آلهتهم وفراغه عن إضرارهم تأكيدا لذلك وتثبيتا له وأمرهم بأن يشهدوا عليه استهانة بهم وأن يجتمعوا على الكيد في إهلاكه من غير إنظار حتى إذا اجتهدوا فيه ورأوا أنهم عجزوا عن آخرهم وهم الأقوياء الأشداء أن يضروه لم يبق لهم شبهة أن آلهتهم التي هي جماد لا يضر ولا ينفع لا تتمكن من إضراره انتقاما منه وهذا من جملة معجزاته فإن مواجهة الواحد الجم الغفير من الجبابرة الفتاك العطاش إلى إراقة دمه بهذا الكلام ليس إلا لثقته بالله و تثبطهم عن إضراره ليس إلا بعصمته إياه ولذلك عقبه بقوله :

56 - { إني توكلت على الله ربي وربكم } تقريرا له والمعنى أنكم وإن بذلتم غاية وسعكم لن تضروني فإني متوكل على الله واثق بكلاءته وهو مالكي ومالككم لا يحيق بي ما لم يرده ولا يقدرون على ما لم يقدره ثم برهن عليه بقوله : { ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها } أي إلا وهو مالك لها قادر عليها يصرفها على ما يريد بها والأخذ بالنواصي تمثيل لذلك { إن ربي على صراط مستقيم } أي أنه على الحق والعدل لا يضيع عنده معتصم ولا يفوته ظالم

57 - { فإن تولوا } فإن تتولوا { فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم } فقد أديت ما علي من الإبلاغ وإلزام الحجة فلا تفريط مني ولا عذر لكم فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم { ويستخلف ربي قوما غيركم } استئناف بالوعيد لهم بأن الله يهلكهم وستخلف قوما آخرين في ديارهم وأموالهم أو يعطف على الجواب الفاء ويؤيده القراءة بالجزم على الموضع كأنه قيل : وإن تتولوا يعذرني ربي ويستخلف { ولا تضرونه } لتوليكم { شيئا } من الضرر ومن جزم يستخلف أسقط النون منه { إن ربي على كل شيء حفيظ } رقيب فلا تخفى عليه أعمالكم ولا يغفل عن مجازاتكم أو حافظ مستول عليه فلا يمكن أن يضره شيء

58 - { ولما جاء أمرنا } عذابنا أو امرنا العذاب { نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا } وكانوا أربعة آلاف { ونجيناهم من عذاب غليظ } تكرير لبيان ما نجاهم منه وهو السموم كانت تدخل أنوف الكفرة وتخرج من أدبارهم فتقطع أعضائهم أو المراد به تنجيتهم من عذاب الآخرة أيضا والتعريض بأن المهلكين كما عذبوا في الدنيا بالسموم فهم معذبون في الآخرة بالعذاب الغليظ

59 - { وتلك عاد } أنث اسم الإشارة باعتبار القبيلة أو لأن الإشارة إلى قبورهم وآثارهم { جحدوا بآيات ربهم } كفروا بها { وعصوا رسله } لأنهم عصوا رسولهم ومن عصي رسولا فكأنما عصى الكل لأنهم أمروا بطاعة كل رسول { واتبعوا أمر كل جبار عنيد } يعنى كبراءهم الطاغين و { عنيد } من عند عندا وعندا و عنودا إذا طغى والمعنى عصوا من دعاهم إلى للإيمان وما ينجيهم وأطاعوا من دعاهم إلى الكفر وما يرديهم

60 - { وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة } أي جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين تكبهم في العذاب { ألا إن عادا كفروا ربهم } جحدوه أو كفروا نعمه أو كفروا به فحذف الجار { ألا بعدا لعاد } عداء عليهم بالهلاك والمراد به الدلالة على أنهم كانوا مستوجبين لما نزل عليهم بسبب ما حكي عنهم وإنما كرر ألا وأعاد ذكرهم تفظيعا لأمرهم وحثا على الاعتبار بحالهم { قوم هود } عطف بيان العاد وفائدته تمييزهم عن عاد الثانية عاد إرم ولإيماء إلى أن استحقاقهم للبعد بما جرى بينهم وبين هود

61 - { وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض } هو كونكم منها لا غيره فإنه خلق آدم ومواد النطف التي خلق نسله منها من التراب { واستعمركم فيها } عمركم فيها واستبقاكم من العمر أو أقدركم على عمارتها وأمركم بها وقيل هو من العمرى بمعنى أعمركم فيها دياركم ويرثها منكم بعد انصرام أعماركم أو جعلكم معمرين دياركم تسكنونها مدة عمركم ثم تتركونها لغيركم { فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب } قريب الرحمة { مجيب } لداعيه

62 - { قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا } لما نرى فيك من مخايل الشد والسداد أن تكون لنا سيدا ومستشارا في الأمور أو أن توافقنا في الدين فلما سمعنا هذا القول منك انقطع رجاؤنا عنك { أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا } على حكاية الحال الماضية { وإننا لفي شك مما تدعونا إليه } من التوحيد والتبري عن الأوثان { مريب } موقع في الريبة من أرابه أو ذي ريبة على الإسناد المجازي من أراب في الأمر

63 - { قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي } بيان وبصيرة وحرف الشك باعتبار المخاطبين { وآتاني منه رحمة } نبوة { فمن ينصرني من الله } فمن يمنعنني من عذابه { إن عصيته } في تبليغ رسالته والمنع عن الإشراك به { فما تزيدونني } إذن باستتباعكم إياي { غير تخسير } غير أن تخسروني بإبطال ما منحني الله به والتعرض لعذابه أو فما تزيدونني بما تقولون لي غير أن أنسبكم إلى الخسران

64 - { ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية } انتصب آية على الحال وعاملها معنى الإشارة ولكم حال منها تقدمت عليها لتنكيرها { فذروها تأكل في أرض الله } ترع نباتها وتشرب ماءها { ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب } عاجل لا يتراخى عن مسكم لها بالسوء إلا يسيرا وهو ثلاثة أيام

65 - { فعقروها فقال تمتعوا في داركم } عيشوا في منازلكم أو في داركم الدنيا { ثلاثة أيام } الأربعاء والخميس والجمعة ثم تهلكون { ذلك وعد غير مكذوب } أي غير مكذوب فيه فاتسع فيه بإجرائه مجرى المفعول به كقوله :
( ويوم شهدناه سليما وعامرا )
أو غير مكذوب على المجاز وكأن الواعد قال له أفي بك فإن وفى به صدقه وإلا كذبه أو وعد غير كذب على أنه مصدر كالمجلود والمعقول

66 - { فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ } أي ونجيناهم من خزي يومئذ وهو هلاكهم بالصيحة أو ذلهم وفضيحتهم يوم القيامة وعن نافع { يومئذ } بالفتح على اكتساب المضاف البناء من المضاف إليه هنا وفي المعارج في قوله : { من عذاب يومئذ } { إن ربك هو القوي العزيز } القادر على كل شيء والغالب عليه

67 - { وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين } قد سبق تفسير ذلك في سورة الأعراف

68 - { كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم } نونه أبو بكر ها هنا وفي النجم والكسائي في جميع القرآن و ابن كثير و نافع و ابن عامر و أبو عمرو في قوله : { ألا بعدا لثمود } ذهابا إلى الحي أو الأب الأكبر

69 - { ولقد جاءت رسلنا إبراهيم } يعني الملائكة قيل : كانوا تسعة وقيل ثلاثة جبريل و ميكائيل و إسرافيل { بالبشرى } ببشارة الولد وقيل بهلاك قوم لوط { قالوا سلاما } سلمنا عليك سلاما ويجوز نصبه ب { قالوا } على معنى ذكروا سلاما { قال سلام } أي أمركم أو جوابي سلام أو وعليكم سلام رفعه إدابة بأحسن من تحيتهم وقرأ حمزة و الكسائي سلم وكذلك في الذاريات وهما لغتان كحرم وحرام وقيل المراد به الصلح { فما لبث أن جاء بعجل حنيذ } فما أبطأ مجيئه به أو فما أبطأ في المجيء به أو فما تأخر عنه والجار في { أن } مقدر أو محذوف والحنيذ المشوي بالرضف وقيل الذي يقطر ودكه من حنذت الفرس إذا عرقته بالجلال لقوله : { بعجل سمين }

70 - { فلما رأى أيديهم لا تصل إليه } لا يمدون إليه أيديهم { نكرهم وأوجس منهم خيفة } أنكر ذلك منهم وخاف أن يريدوا به مكروها ونكر وأنكر واستنكر بمعنى والإيجاس الإدراك وقيل الإضمار { قالوا } له لما أحسوا منه اثر الخوف { لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط } إنا ملائكة مرسلة إليهم بالعذاب وإنما لم نمد إليه أيدينا لأنا لا نأكل

71 - { وامرأته قائمة } وراء الستر تسمع محاورتهم أو على رؤوسهم للخدمة { فضحكت } سرورا بزوال الخيفة أو بهلاك أهل الفساد أو بإصابة رأيها فإنها كانت تقول لإبراهيم : اضمم إليك لوطا فإن أعلم أن العذاب ينزل بهؤلاء القوم وقيل فضحكت فحاضت قال الشاعر :
( وعهدي بسلمى ضاحكا في لبابة ... ولم يعد حقا ثديها أن تحلما )
ومنه ضحكت السمرة إذا سال صمغها وقرئ بفتح الحاء { فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب } نصبه ابن عامر و حمزة و حفص بفعل يفسره ما دل عليه الكلام وتقديره : ووهبناها من وراء إسحاق يعقوب وقيل إنه معطوف على موضع { بإسحاق } أو على لفظ { إسحاق } وفتحته للجر فإنه غير مصروف ورد للفصل بينه وبين ما عطف عليه بالظرف وقرأ الباقون بالرفع على أنه مبتدأ وخبره الظرف أي و { يعقوب } مولود من بعده وقيل الوراء ولد الولد ولعله سمي به لأنه بعد الولد وعلى هذا تكون إضافته إلى { إسحاق } ليس من حيث أن يعقوب عليه الصلاة و السلام وراءه بل من حيث إنه وراء إبراهيم من جهته وفيه نظر والاسمان يحتمل وقوعهما في البشارة كحيي ويحتمل وقوعهما في الحكاية بعد أن ولدا فسميا به وتوجيه البشارة إليها للدلالة على أن الولد المبشر به يكون منها لا من هاجر ولأنها كانت عقيمة حريصة على الولد

72 - { قالت يا ويلتى } يا عجبا وأصله في الشر فأطلق على كل أمر فظيع وقرئ بالياء على الأصل { أألد وأنا عجوز } ابنة تسعين أو تسع تسعين { وهذا بعلي } زوجي وأصله القائم بالأمر { شيخا } ابن مائة أو مائة وعشرين ونصبه على الحال والعامل فيها معنى اسم الإشارة وقرئ بالرفع على أنه خبر محذوف أي هو شيخ أو خبر بعد خبر أو هو الخبر و { بعلي } بدل { إن هذا لشيء عجيب } يعني الولد من هرمين وهو استعجاب من حيث العادة دون القدرة ولذلك :

73 - { قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت } منكرين عليها فإن خوارق العادات باعتبار أهل بيت النبوة ومهبط المعجزات وتخصيصهم بمزيد النعم والكرامات ليس ببدع ولا حقيق بأن يستغربه عاقل فضلا عمن نشأت وشابت في ملاحظة الآيات وأهل البيت نصب على المدح أو النداء لقصد التخصيص قولهم : اللهم اغفر لنا أيتها العصابة { إنه حميد } فاعل ما يستوجب به الحمد { مجيد } كثير الخير والإحسان

74 - { فلما ذهب عن إبراهيم الروع } أي ما أوجس من الخيفة واطمأن قلبه بعرفانهم { وجاءته البشرى } بدل الورع { يجادلنا في قوم لوط } يجادل رسلنا في شأنهم ومجادلته إياهم قوله : { إن فيها لوطا } وهو إما جواب لما جيء مضارعا على حكاية الحال أولنه في سياق الجواب بمعنى الماضي كجواب لو أو دليل جوابه المحذوف مثل اجترأ على خطابنا أو شرع في جدالنا أو متعلق به أقيم مقامه مثل أخذ أو أقبل يجادلنا

75 - { إن إبراهيم لحليم } غير عجول على الانتقام من المسيء إليه { أواه } كثير التأوه من الذنوب والتأسف على الناس { منيب } راجع إلى الله والمقصود من ذلك بيان الحامل له على المجادلة وهو رقة قلبه وفرط ترحمه

76 - { يا إبراهيم } على إرادة القول أي قالت الملائكة { يا إبراهيم } { أعرض عن هذا } الجدال { إنه قد جاء أمر ربك } قدره بمقتضى قضائه الأزلي بعذابهم وهو أعلم بحالهم { وإنهم آتيهم عذاب غير مردود } مصروف بجدال ولا دعاء ولا غير ذلك

77 - { ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم } ساءه مجيئهم لأنهم جاؤوه في صورة فلمان فظن أنهم أناس فخاف عليهم أن يقصدهم قومه فيعجز عن مدافعتهم { وضاق بهم ذرعا } وضاق بمكانهم صدره وهو كناية عن شدة الانقباض للعجز عن مدافعة المكروه والاحتيال فيه { وقال هذا يوم عصيب } شديد من عصبه إذا شده

78 - { وجاءه قومه يهرعون إليه } يسرعون إليه كأنهم يدفعون دفعا لطلب الفاحشة من أضيافه { ومن قبل } أي ومن قبل ذلك الوقت { كانوا يعملون السيئات } الفواحش فتمرنوا بها ولم يستحيوا منها حتى جاؤوا يهرعون لها مجاهرين { قال يا قوم هؤلاء بناتي } فدى بهن أضيافه كرما وحمية والمعنى هؤلاء بناتي فتزوجوهن وكانوا يطلبونهن قبل فلا يجيبهم لخبثهم وعدم كفاءتهم لا لحرمة المسلمات على الكفار فإنه شرع طارئ أو مبالغة في تناهي خبث ما يرومونه حتى إن ذلك أهون منه أو إظهارا لشدة امتعاضه من ذلك كي يرقوا له وقيل المراد بالبنات نساؤهم فإن كل نبي أبو أمته من حيث الشفقة والتربية وفي حرف ابن مسعود { وأزواجه أمهاتهم } وهو أب لهم { هن أطهر لكم } أنظف فعلا وأقل فحشا كقولك : الميتة أطيب من المعصوب وأحل منه وقرئ { أطهر } بالنصب على الحال على أنهن خبر بناتي كقولك : هذا أخي هو الأفضل فإنه لا يقع بين الحال وصاحبها { فاتقوا الله } بترك الفواحش أو بإيثارهن عليهم { ولا تخزون } ولا تفضحوني من الخزي أو ولا تخجلوني من الخزاية بمعنى الحياء { في ضيفي } في شأنهم فإن إخزاء ضيف الرجل إخزاؤه { أليس منكم رجل رشيد } يهتدي إلى الحق ويرعوي عن القبيح

79 - { قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق } من حاجة { وإنك لتعلم ما نريد } وهو إتيان الذكران

80 - { قال لو أن لي بكم قوة } لو قويت بنفسي على دفعكم { أو آوي إلى ركن شديد } إلى قوي أبلغ به عنكم شبهه بركن الجبل في شدته وعن النبي صلى الله عليه و سلم [ رحم الله أخي لوطا كان يأوي إلى ركن شديد ] وقرئ { أو آوي } بالنصب بإضمار أن كأنه قال : لو أن لي بكم قوة أو أويا وجواب لو محذوف تقديره لدفعتكم روي أنه أغلق بابه دون أضيافه وأخذ يجادلهم من وراء الباب فتسوروا الجدار فلما رأت الملائكة ما على لوط من الكرب

81 - { قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك } لن يصلوا إلى إضرارك بإضرارنا فهون عليك ودعنا وإياهم فخلا هم أن يدخلوا فضرب جبريل عليه السلام بجناحه وجوههم فطمس أعينهم وأعماهم فخرجوا يقولون النجاء النجاء فإن في بيت لوط سحرة { فأسر بأهلك } بالقطع من الإسراء وقرأ ابن كثير و نافع بالوصل حيث وقع في القرآن من السري { بقطع من الليل } بطائفة منه { ولا يلتفت منكم أحد } ولا يتخلف أو لا ينظر إلى ورائه والنهي في اللفظ لأحد وفي المعنى للوط { إلا امرأتك } استثناء من قوله : { فأسر بأهلك } ويدل عليه أنه قرئ بأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك وهذا إنما يصح على تأويل الالتفات بالتخلف فإنه إن فسر بالنظر إلى الوراء في الذهاب ناقض ذلك قراءة ابن كثير و أبي عمرو بالرفع على البدل من أحد ولا يجوز حمل القراءتين على الروايتين في أنه خلفها مع قومها أو أخرجها فلما سمعت صوت العذاب التفتت و قالت يا قوماه فأدركها حجر فقتلها لأن الواقع لا يصح حملها على المعاني المتناقضة والأولى جعل الاستثناء في القراءتين من قوله : { ولا يلتفت } مثله في قوله تتعالى : { ما فعلوه إلا قليل } ولا يبعد أن يكون أكثر القراء على غير الأفصح ولا يلزم من ذلك أمرها بالالتفات بل عدم نهيها عنه استصلاحا ولذلك علل طريقة الاستئناف بقوله : { إنه مصيبها ما أصابهم } ولا يحسن جعل الاستثناء منقطعا على قراءة الرفع { إن موعدهم الصبح } كأنه علة الأمر بالإسراء { أليس الصبح بقريب } جواب لاستعجال لوط واستبطائه العذاب

82 - { فلما جاء أمرنا } عذابنا أو أمرانا به ويؤيده الأصل وجعل التعذيب مسببا عنه بقوله : { جعلنا عاليها سافلها } فإنه جواب لما وكان حقه : جعلوا عاليها سافلها أي الملائكة المأمورون به فأسند إلى نفسه من حيث إنه المسبب تعظيما للأمر فإنه روي : أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت مدائنهم ورفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصياح الديكة ثم قلبها عليهم { وأمطرنا عليها } على المدن أو على شذاذها { حجارة من سجيل } من طين متحجر لقوله : { حجارة من طين } وأصله سنك كل فعرب وقيل إنه من أسجله إذا أرسله أو أدر عطيته والمعنى من مثل الشيء المرسل أومن مثل العطية في الإدرار أو من السجل أي مما كتب الله أن يعذبهم به وقيل أصله من سجين أي من جهنم فأبدلت نونه لاما { منضود } نضد معدا لعذابهم أو نضد في الإرسال بتتابع بعضه بعضا كقطار الأمطار أو نضد بعضه على بعض وألصق به

83 - { مسومة } معلمة للعذاب وقيل معلمة ببياض وحمرة أو بسيما تتميز به عن حجارة الأرض أو باسم من يرمى بها { عند ربك } في خزائنه { وما هي من الظالمين ببعيد } فإنهم بظلمهم حقيق بأن تمطر عليهم وفيه وعيد لكل ظالم أمتك ما من ظالم منهم إلا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلا ساعة وقيل الضمير للقرى أي هي قريبة من ظالمي مكة يمرون بها في أسفارهم إلى الشام وتذكير البعيد على تأويل الحجر أو المكان

84 - { وإلى مدين أخاهم شعيبا } أراد أولاد مدين بن إبراهيم عليه الصلاة و السلام أو أهل مدين وهو بلد بناه فسمي باسمه { قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان } أمرهم بالتوحيد أولا فإنه ملاك الأمر ثم نهاهم عما اعتادوه من البخس المنافي للعدل المخل بحكمة التعاوض { إني أراكم بخير } بسعة تغنيكم عن البخس أو بنعمة حقها أن تتفضلوا على الناس شكرا عليها لا أن تنقصوا حقوقهم أو بسعة فلا تزيلوها مما أنتم عليه وهو في الجملة علة للنهي { وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط } لا يشذ منه أحد منكم وقيل عذاب منهلك من قوله : { وأحيط بثمره } والمراد عذاب يوم القيامة أو عذاب الاستئصال ووصف اليوم بالإحاطة وهي صفة العذاب لاشتماله عليه

85 - { ويا قوم أوفوا المكيال والميزان } صرح بالأمر بالإيفاء بعد النهي عن ضده مبالغة وتنبيها على أنه لا يكفيهم الكف عن تعمدهم التطفيف بل يلزمهم السعي في الإيفاء ولو بزيادة لا يتأتى بدونها { بالقسط } بالعدل والسوية من غير زيادة ولا نقصان فإن الازدياد إيفاء وهو مندوب غير مأمور به وقد يكون محظورا { ولا تبخسوا الناس أشياءهم } تعميم بعد تخصيص فإنه أعم من أن يكون في المقدار أو في غيره وكذا قوله : { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } فإن العثو يعم تنقيص الحقوق وغيره من أنواع الفساد وقيل المراد بالبخس المكس كأخذ العشور في المعاملات والعثو السرعة وقطع الطريق والغارة وفائدة الحال إخراج ما يقصد به الإصلاح كما فعله الخضر عليه الصلاة و السلام وقيل معناه ولا تعثوا في الأرض مفسدين في أمر دينكم ومصالح آخرتكم

86 - { بقية الله } ما أبقاه لكم من الحلال بعد التنزه عما حرم عليكم { خير لكم } مما تجمعون بالتطفيف { إن كنتم مؤمنين } بشرط أن تؤمنوا فإن خيريتها باستتباع الثواب مع النجاة وذلك مشروط بالإيمان أو إن كنتم مصدقين لي في قولي لكم وقيل البقية الطاعة كقوله : { والباقيات الصالحات } وقرئ تقية الله بالتاء وهي تقواه التي تكف عن المعاصي
{ وما أنا عليكم بحفيظ } أحفظكم عن القبائح أو أحفظ عليكم أعمالكم فأجازيكم عليها وإنما أنا ناصح مبلغ وقد أعذرت حين أنذرت او لست بحافظ عليكم نعم الله لو لم تتركوا سوء صنيعكم

87 - { قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا } من الأصنام أجابوا به آمرهم بالتوحيد على الاستهزاء به والتهكم بصلواته والإشعار بأن مثله لا يدعو إليه داع عقلي وإنما دعاك إليه خطرات ووساس من جنس ما تواظب عليه وكان شعيب كثير الصلاة فلذلك جمعوا وخصوا الصلاة بالذكر وقرأ حمزة و الكسائي و حفص على الإفراد والمعنى أصلواتك تأمرك بتكليف أن نترك فحذف المضاف لأن الرحل لا يؤمر بفعل غيره { أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء } عطف على ما أي وأن نترك فعلنا ما نشاء في أموالنا وقرئ بالتاء فيهما على أن العطف على { أن نترك } وهو جواب النهي عن التطفيف والأمر بالإيفاء وقيل كان ينهاهم عن تقطيع الدراهم والدنانير فأرادوا بذلك { إنك لأنت الحليم الرشيد } تهكموا به وقصدوا وصفه بضد ذلك أو عللوا إنكار ما سمعوا منه واستبعاده بأنه موسوم بالحلم والرشد المانعين عن المبادرة إلى أمثال ذلك

88 - { قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي } إشارة إلى ما آتاه الله من العلم والنبوة { ورزقني منه رزقا حسنا } إشارة إلى ما آتاه الله من المال الحلال وجواب الشرط محذوف تقديره فهل يسع مع هذا الإنعام الجامع للسعادات الروحانية والجسمانية أن أخون في وحيه وأخلفه فيأمره ونهيه وهو اعتذار عما أنكروا عليه من تغيير المألوف والنهي عن دين الآباء والضمير في { منه } لله أي من عنده وبإعانته بلا كد مني في تحصليه { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } أي وما أريد أن آتي ما أنهاكم عند لأستبد به دونكم فلو كان صوابا لآثرته ولم أعرض عنه فضلا عن أن أنهى عنه يقال خالفت زيدا إلى كذا إذا قصدته وهو مول عنه وخالفته عنه إذا كان الأمر بالعكس { إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت } ما أريد إلا أن أصلحكم بأمري بالمعروف ونهيي عن المنكر مادمت أستطيع الإصلاح فلو وجدت الصلاح فيما أنتم عليه لما نهيتكم عنه ولهذه الأجوبة الثلاثة على ÷ذا النسق شأن : وهو التنبيه على أن العاقل يجب أن يراعي في كل ما يأتيه ويذره أحد حقوق ثلاثة أهمها وأعلاها حق الله تعالى وثانيها حق النفس وثالثها حق الناس وكل ذلك يقتضي أن آمركم بما أمرتكم به وأنهكم عما نهيتكم عنه و { ما } مصدرية واقعة موقع الظرف وقيل خبرية بدل من { الإصلاح } أي ما المقدار الذي استطعته أو إصلاح ما استطعته فحذف المضاف { وما توفيقي إلا بالله } وما توفيقي لإصابة الحق والصواب إلا بهدايته ومعونته { عليه توكلت } فإنه القادر المتمكن من كل شيء وما عداه عاجز في حد ذاته بل معدوم ساقط عن درجة الاعتبار وفيه إشارة إلى محض التوحيد الذي هو أقصى مراتب العلم بالمبدأ { وإليه أنيب } إشارة إلى معرفة المعاد وهو أيضا يفيد الحصر بتقديم الصلة على الفعل وفي هذه الكلمات طلب التوفيق لإصابة الحق فيما يأته ويذره من الله تعالى والاستعانة به في مجامع أمره والإقبال عليه بشراشره وحسم أطماع الكفار وإظهار الفراغ عنهم وعدم المبالاة بمعاداتهم وتهديدهم بالرجوع إلى الله للجزاء

89 - { ويا قوم لا يجرمنكم } لا يكسبنكم { شقاقي } معاداتي { أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح } من الغرق { أو قوم هود } من الريح { أو قوم صالح } من الرجفة و { أن } بصلتها ثاني مفعولي جزم فإنه يعدى إلى واحد وإلى اثنين ككسب وعن ابن كثير يجرمنكم بالضم وهو منقول من المتعدي إلى مفعول واحد والأول أفصح فإن أجرم أقل دورانا على ألسنة الفصحاء وقرئ { مثل } بالفتح لإضافته إلى المبني كقوله :
( لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت ... حمامة في غصون ذات أرقال )
{ وما قوم لوط منكم ببعيد } زمانا أو مكانا فإن لم تعتبروا بمن قبلها فاعتبروا بهم أو ليسوا ببعيد منكم في الكفر والمساوي فلا يبعد عنكم ما أصابهم وإفراد البعيد لأن المراد وما إهلاكهم أو وما هم بشيء بعيد ولا يبعد أن يسوى في أمثاله بين المذكر والمؤنث لأنها على زنة المصادر كالصهيل والشهيق

90 - { واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه } عما أنتم عليه { إن ربي رحيم } عظيم الرحمة للتائبين { ودود } فاعل بهم من اللطف والإحسان ما يفعل البليغ المودة بمن يوده وهو وعد على التوبة بعد الوعيد على الإصرار

91 - { قالوا يا شعيب ما نفقه } ما نفهم { كثيرا مما تقول } كوجوب التوحيد وحرمة البخس وما ذكرت دليلا عليهما وذلك لقصور عقولهم وعدم تفكرهم وقيل قالوا ذلك استهانة بكلامه أو لأنهم لم يلقوا إليه أذهانهم لشدة نفرتهم عنه { وإنا لنراك فينا ضعيفا } لا قوة لك فتمتنع منا إن أردنا بك سوءا أو مهينا لا عز لك وقيل أعمى بلغة حمير وهو مع عدم مناسبته برده التقييد بالظرف ومنع بعض المعتزلة استنباء الأعمى قياسا على القضاء والشهادة والفرق بين { ولولا رهطك } قومك وعزتهم عندنا لكونهم على ملتنا لا لخوف من شوكتهم فإن الرهط من الثلاثة إلى العشرة وقيل إلى التسعة { لرجمناك } لقتلناك برمي الأحجار أو بأصعب وجه { وما أنت علينا بعزيز } فتمنعنا عزتك عن الرجم وهذا ديدن السفيه المحجوج يقابل الحجج والآيات بالسب والتهديد وفي إيلاء ضميره حرف النفي تنبيه على أن الكلام فيه لا في ثبوت العزة وأن المانع لهم عن إيذائه عزة قومه ولذلك

92 - { قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا } وجعلتموه كالمنسي المنبوذ وراء الظهر بإشراككم به والإهانة برسوله فلا تبقون علي لله وتبقون علي لرهطي وهو يحتمل الإنكار والتوبيخ والرد والتكذيب و { ظهريا } منسوب إلى الظهر والكسر من تغييرات النسب { إن ربي بما تعملون محيط } فلا يخفى عليه شيء منها فيجازي عليها

93 - { ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه } سبق مثله في سورة الأنعام والفاء في ف { سوف تعلمون } ثمة للتصريح بأن الإصرار والتمكن فيما هم عليه سبب لذلك وحذفها ها هنا لأنه جواب سائل قال : فماذا يكون بعد ذلك ؟ فهو أبلغ في التهويل { ومن هو كاذب } عطف على من يأتيه لا لأنه قسيم له كقولك : ستعلم الكاذب والصادق بل لأنهم لما أوعدوه وكذبوه قال : سوف تعلمون من المعذب والكاذب مني ومنكم وقيل كان قياسه ومن هو صادق لينصرف الأول إليهم والثاني إليه لكنهم لما كانوا يدعونه كاذبا قال : ومن هو كاذب على زعمهم { وارتقبوا } وانتظروا ما أقول لكم { إني معكم رقيب } منتظر فعيل بمعنى الراقب كالصريم أو المراقب كالعشير أو المرتقب كالرفيع

94 - { ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا } إنما ذكره بالواو كما في قصة عاد إذ لم يسبقه ذكر وعد يجري مجرى السبب له بخلاف قصتي صالح ولوط فإنه ذكر بعد الوعد وذلك قوله : { وعد غير مكذوب } وقوله : { إن موعدهم الصبح } فلذلك جاء بفاء السببية { وأخذت الذين ظلموا الصيحة } قيل صاح بهم جبريل عليه السلام فهلكوا { فأصبحوا في ديارهم جاثمين } ميتين وأصل الجثوم اللزوم في المكان

95 - { كأن لم يغنوا فيها } كأن لم يقيموا فيها { ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود } شبههم بهم لأن عذابهم كان أيضا بالصيحة غير أن صيحتهم كانت من تحتهم وصيحة مدين كانت من فوقهم وقرئ { بعدت } الضم على الأصل فإن الكسر تغيير لتخصيص معنى البعد بما يكون بسبب الهلاك والبعد مصدر لهما والبعد مصدر المكسور

96 - { ولقد أرسلنا موسى بآياتنا } بالتوراة أو المعجزات { وسلطان مبين } وهو المعجزات القاهرة أو العصا وإفرادها بالذكر لأنها أبهرها ويجوز أن يراد بهما واحد أي : ولقد أرسلناه بالجامع بين كونه آياتنا وسلطانا له على نبوته واضحا في نفسه أو موضحا إياها فإن أبان جاء لازما ومتعديا والفرق بينهما أن الآية تعم الأمارة والدليل القاطع والسلطان يخص بالقاطع والمبين يخص يما فيه جلاء

97 - { إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون } فاتبعوا أمره بالكفر بموسى أو فما تبعوا موسى الهادي إلى الحق المؤيد بالمعجزات القاهرة الباهرة واتبعوا طريقة فرعون المنهمك في الضلال والطغيان الداعي إلى مالا يخفى فساده على من له أدنى مسكة من العقل لفرط جهالتهم وعدم استبصارهم { وما أمر فرعون برشيد } مرشد أو ذي رشد وإنما هو غي محض وضلال صريح

98 - { يقدم قومه يوم القيامة } إلى النار كما كان يقدمهم في الدنيا إلى الضلال يقال قدم بمعنى تقدم { فأوردهم النار } ذكره بلفظ الماضي مبالغة في تحقيقه ومنزل النار لهم منزلة الماء فسمى إتيانها موردا ثم قال : { وبئس الورد المورود } أي بئس المورد الذي وردوه فإنه يراد لتبريد الأكباد وتسكني العطش والنار بالضد والآية كالدليل على قوله : { وما أمر فرعون برشيد } فإن من كان هذه عاقبته لم يكن في أمره رشد أو تفسير له على أن المراد بالرشيد ما يكون مأمون العاقبة حميدها

99 - { وأتبعوا في هذه } الدنيا { لعنة ويوم القيامة } أي يلعنون في الدنيا والآخرة { بئس الرفد المرفود } بئس العون المعان أو العطاء المعطى وأصل الرفد ما يضاف إلى غيره ليعمده والمخصوص بالذم محذوف أي رفدهم وهو اللعنة في الدارين

100 - { ذلك } أي ذلك النبأ { من أنباء القرى } المهلكة { نقصه عليك } مقصوص عليك { منها قائم } من تلك القرى باق كالزرع القائم { وحصيد } ومنها عافي الأثر كالزرع المحصود والجملة مستأنفة وقيل حال من الهاء في نقصه وليس بصحيح إذ لا واو ولا ضمير

101 - { وما ظلمناهم } بإهلاكنا إياهم { ولكن ظلموا أنفسهم } بأن عرضوها له بارتكاب ما يوجبه { فما أغنت عنهم } فما نفعتهم ولا قدرت أن تدفع عنهم بل ضرتهم { آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك } حين جاءهم عذابه ونقمته { وما زادوهم غير تتبيب } هلاك أو تخسير

102 - { وكذلك } ومثل ذلك الأخذ { أخذ ربك } وقرئ { أخذ ربك } بالفعل وعلى هذا يكون محل الكاف النصب على المصدر { إذا أخذ القرى } أي أهلها وقرئ إذ لأن المعنى على المضي { وهي ظالمة } حال من { القرى } وهي في الحقيقة لأهلها لكنها لما أقيمت مقامه أجريت عليها وفائدتها الإشعار بأنهم أخذوا بظلمهم وإنذار كل ظالم ظلم نفسه أو غيره من وخامة العقبة { إن أخذه أليم شديد } وجيع غير مرجو الخلاص منه وهو مبالغة في التهديد والتحذير

103 - { إن في ذلك } أي فيما نزل بالأمم الهالكة أو فيما قصه الله تعالى من قصصهم { لآية } لعبرة { لمن خاف عذاب الآخرة } يعتبر به عظمته لعلمه بأن ما حاق بهم أنموذج مما أعد الله للمجرمين في الآخرة أو ينزجر به عن موجباته لعلمه بأنها من إله مختار بعذب من يشاء ويرحم من يشاء فإن من أنكر الآخرة وأحال فناء هذا العالم لم يقل بالفاعل المختار وجعل تلك الوقائع للأسباب فلكية اتفقت في تلك الأيام لا لذنوب المهلكين بها { ذلك } إشارة إلى يوم القيامة وعذاب الآخرة دل عليه { يوم مجموع له الناس } أي يجمع له الناس والتغيير للدلالة على ثبات معنى الجمع لليوم وأنه من شأنه لا محالة وأن الناس لا يفكون عنه فهو أبلغ من قوله : { يوم يجمعكم ليوم الجمع } ومعنى الجمع له الجمع لما فيه من المحاسبة والمجازاة { وذلك يوم مشهود } أي مشهود فيه أهل السموات والأرضين فاتسع فيه بإجراء الظرف مجرى المفعول به كقوله :
( في محفل من نواصي الناس مشهود )
أي كثر شاهدوه ولو جعل اليوم مشهودا في نفسه لبطل الغرض من تعظيم اليوم وتمييزه فإن سائر الأيام كذلك

104 - { وما نؤخره } أي اليوم { إلا لأجل معدود } إلا لانتهاء مدة معدودة متناهية على حذف المضاف وإرادة مدة التأجيل كلها بالأجل لا منتهاها فإنه غير معدود

105 - { يوم يأتي } أي الجزاء او لا اليوم كقوله : { أو تأتيهم الساعة } على أن { يوم } بمعنى حين أو الله عز و جل كقوله تعالى : { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل } ونحوه وقرأ أبن عامر و عاصم و حمزة { يأت } بحذف الياء اجتزاء عنها بالكسرة { لا تكلم نفس } لا تتكلم بما ينفع وينجي من جواب أو شفاعة وهو الناصب للظرف ويحتمل نصبه بإضمار اذكر أو بالانتهاء المحذوف { إلا بإذنه } إلا بإذن الله كقوله : { لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن } وهذا في موقف وقوله : { هذا يوم لا ينطقون * ولا يؤذن لهم فيعتذرون } في موقف آخر أو المأذون فيه هي الجوابات الحقة والممنوع عنه هي الأعذار الباطلة { فمنهم شقي } وجبت له النار بمقتضى الوعيد { وسعيد } وجبت له الجنة بموجب الوعد والضمير لأهل الموقف وإن لم يذكر لأنه معلوم مدلول عليه بقوله : { لا تكلم نفس } أو للناس

106 - { فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق } الزفير إخراج النفس والشهيق رده واستعمالها في أول النهيق وآخره والمراد بهما الدلالة على شدة كربهم وغمهم وتشبيه حالهم بمن استولت الحرارة على قلبه وانحصر فيه روحه أو تشبيه صراخهم بأصوات الحمير وقرئ { شقوا } بالضم

107 - { خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض } ليس لارتباط دوامهم في النار بدوامهما فإن النصوص دالة على تأبيد دوامهم وانقطاع دوامهما بل التعبير عن التأييد والمبالغة بما كانت العرب يعبرون به عنه على سبيل التمثيل ولو كان الارتباط لم يلزم أيضا من زوال السموات والأرض زوال عذابهم ولا من دوامه دوامهما إلا من قبيل المفهوم لأن دوامهما كالملزوم لدوامه وقد عرفت أن المفهوم لا يقاوم المنطوق وقيل المراد سموات الآخرة وأرضها ويدل عليه قوله تعالى : { يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات } وإن أهل الآخرة لابد لهم من مظل ومقل وفيه نظر لأنه تشبيه بما لا يعرف أكثر الخلق وجوده ودوامه ومن عرفه فإنما يعرفه بما يدل على دوام الثواب والعقاب فلا يجدي له التشبيه { إلا ما شاء ربك } استثناء من الخلود في النار لأن بعضهم وهم فساق الموحدين يخرجون منها وذلك كاف في صحة الاستثناء لأن زوال الحكم عن الكل يكفيه زواله عن البعض وهم المراد بالاستثناء الثاني فإنهم مفارقون عن الجنة أيام عذابهم فإن التأييد من مبدأ معين ينتقض باعتبار الابتداء كما ينتقض باعتبار الانتهاء وهؤلاء شقوا بعصيانهم فقد سعدوا بإيمانهم ولا يقال فعلى هذا لم يكن قوله : { فمنهم شقي وسعيد } تقسيما صحيحا لأن من شرطه أن تكون صفة كل قسم منتفية عن قسمنه لأن ذلك الشرط حيث التقسيم لانفصال حقيقي أو مانع من الجمع و ها هنا المراد أن أهل الموقف لا يخرجون عن القسمين وأن حالهم لا يخلو عن السعادة والشقاوة وذلك لا يمنع اجتماع الأمرين في شخص باعتبارين أو لأن أهل النار ينقلون منها إلى الزمهرير وغيره من العذاب أحيانا وكذلك أهل الجنة ينعمون بما هو أعلى من الجنة كالاتصال بجناب القدس والفوز برضوان الله ولقائه او من أصل الحكم والمستثنى زمان توقفهم في الموقف للحساب لأن ظاهره يقتضي أن يكونوا في النار حين يأتي اليوم أو مدة لبثهم في الدنيا والبرزخ إن كان الحكم مطلقا غير مقيد باليوم وعلى هذا التأويل يحتمل أن يكون الاستثناء من الخلود على ما عرفت وقيل هو من قوله : { لهم فيها زفير وشهيق } وقيل إلا هاهنا بمعنى سوى كقولك على ألف إلا الألفان القديمان والمعنى سوى ما شاء ربك من الزيادة التي لا آخر لها على مدة بقاء السموات والأرض { إن ربك فعال لما يريد } من غير اعتراض

108 - { وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ } غير مقطوع وهو تصريح بأن الثواب لا ينقطع وتنبيه على أن المراد من الاستثناء في الثواب ليس الانقطاع ولأجله فرق بين الثواب والعقاب بالتأييد وقرأ حمزة و الكسائي و حفص { سعدوا } على البناء للمفعول من سعده الله بمعنى أسعده و { عطاء } نصب على المصدر المؤكد أي أعطوا عطاء او الحال من الجنة

109 - { فلا تك في مرية } شك بعد ما أنزل عليك من آمال أمر الناس { مما يعبد هؤلاء } من عبادة هؤلاء المشركين في أنها ضلال مؤد إلى مثل ما حل بمن قبلهم ممن قصصت عليك سوء عاقبة عبادتهم أو من حال ما يعبدونه في أنه يضر ولا ينفع { ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل } استئناف معناه تعليل النهي عن المرية أي هم وآباؤهم سواء في الشرك أي ما يعبدون عبادة إلا كعبادة آبائهم أو ما يعبدون شيئا إلا مثل ما عبدوه من الأوثان وقد بلغك ما لحق آباءهم من ذلك فسيلحقهم مثله لأن التماثيل في الأسباب يقتضي التماثل في المسببات ومعنى { كما يعبد } كما كان يعبد فحذف للدلالة من قبل عليه { وإنا لموفوهم نصيبهم } حظهم من العذاب كآبائهم أو من الرزق فيكون عذرا لتأخير العذاب عنهم مع قيام ما يوجبه { غير منقوص } حل من النصيب لتقييد التوفية فإنك تقول : وفيته حقه وتريد به وفاء بعضه ولو مجازا

110 - { ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه } فآمن به قوم وكفر به قوم كما اختلف هؤلاء في القرآن { ولولا كلمة سبقت من ربك } يعني كلمة الإنظار إلى يوم القيامة { لقضي بينهم } بإنزال ما يستحقه المبطل ليتميز به عن المحق { وإنهم } وإن كفار قومك { لفي شك منه } من القرآن { مريب } موقع في الريبة

111 - { وإن كلا } وإن كل المختلفين المؤمنين منهم والكافرين والتنوين بدل من المضاف إليه وقرأ ابن كثير و نافع و أبو بكر بالتخفيف مع الإعمال اعتبار ا للأصل { لما ليوفينهم ربك أعمالهم } اللام الأولى موطئة للقسم والثانية للتأكيد أو بالعكس وما مزيدة بينهما للفصل وقرأ ابن عامر و عاصم و حمزة { لما } بالتشديد على أن أصله لمن ما فقلبت النون ميما للإدغام فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت أولاهن والمعنى لمن الذين يوفينهم ربك جزاء أعملها وقرئ لما بالتنوين أي جميعا كقوله : { أكلا لما } { وإن كل لما } على أن { إن } نافية و { لما } بمعنى إلا وقد قرئ به { إنه بما يعملون خبير } فلا يفوته شيء منه وإن خفي

112 - { فاستقم كما أمرت } لما بين أمر المختلفين في التوحيد والنبوة وأطنب في شرح الوعد والوعيد أمر رسوله صلى الله عليه و سلم بالاستقامة مثل ما أمر بها وهي شاملة للاستقامة في العقائد كالتوسط بين التشبيه والتعطيل بحيث يبقى العقل مصونا من الطرفين والأعمال من تبليغ الوحي وبيان الشرائع ما أنزل والقيام بوظائف العبادات من غير تفريط وإفراط مفوت للحقوق ونحوها وهي في غاية العسر ولذلك قال عليه الصلاة و السلام [ شيبتني هود ] { ومن تاب معك } أي تاب من الشرك والكفر وآمن معك وهو عطف على المستكن في استقم وإن لم يؤكد بمنفصل لقيام الفاصل مقامه { ولا تطغوا } ولا تخرجوا عما حد لكم { إنه بما تعملون بصير } فهو مجازيكم عليه وهو في معنى التعليل الأمر والنهي وفي الآبه دليل على وجوب اتباع النصوص من غير تصرف وانحراف بنحو قياس واستحسان

113 - { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا } ولا تميلوا إليهم أدنى ميل فإن الركون هو الميل اليسير كالتزيي بزيهم وتعظيم ذكرهم واستدامته { فتمسكم النار } بركونكم إليهم وإذا كان الركون إلى من وجد منه ما يسمى ظلما كذلك فما ظنك بالركون إلى الظالمين أي الموسومين بالظلم ثم بالميل إليهم كل الميل ثم لا بالظلم نفسه والانهماك فيه ولعل الآية أبلغ ما يتصور في النهي عن الظلم والتهديد عليه وخطاب الرسول صلى الله عليه و سلم ومن معه من المؤمنين بها للتثبيت على الاستقامة التي هي العدل فإن الزوال عنها بالميل إلى أحد طرفي إفراط وتفريط فإنه ظلم على نفسه أو غيره بل ظلم في نفسه وقرئ { تركنوا } فتمسكم بكسر التاء على لغة تميم و { تركنوا } على البناء للمفعول من أركنه { وما لكم من دون الله من أولياء } من أنصار يمنعون العذاب عنكم والواو للحال { ثم لا تنصرون } أي ثم لا ينصركم الله إذ سبق في حكمه أن يعذبكم ولا يبقي عليكم وثم لاستبعاد نصره إياهم وقد أوعدهم بالعذاب عليه وأوجبه لهم ويجوز أن يكون منزلا منزلة الفاء لمعنى الاستبعاد فإنه لما بين الله معذبهم وأن غيره لا يقدر على نصرهم انتج ذلك أنهم لا ينصرون أصلا

114 - { وأقم الصلاة طرفي النهار } غدوة وعشية وانتصابه على الظرف لأنه مضاف إليه { وزلفا من الليل } وساعات منه قريبة من النهار فإنه من أزلفه إذا قربه وهو جمع زلفة وصلاة الغداة صلاة الصبح لأنها أقرب الصلاة من أول النهار وصلاة العشية صلاة العصر وقيل الظهر والعصر لأن ما بعد الزوال عشي وصلاة الزلف المغرب والعشاء وقرئ زلفا بضمتين وضمة وسكون كبسر وبسر في بسرة و { زلفى } بمعنى زلفة كقربى وقربة { إن الحسنات يذهبن السيئات } يكفرنها وفي الحديث [ إن الصلاة إلى الصلاة كفارة ما بينهما ما اجتنبت الكبائر ] وفي سبب النزول [ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال إني قد أصبت من امرأة غير أني لم آتها فنزلت ] { ذلك } إشارة إلى قوله { فاستقم } وما بعده وقيل إلى القرآن { ذكرى للذاكرين } عظة للمتعظين

115 - { واصبر } على الطاعات وعن المعاصي { فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } عدول عن الضمير ليكون كالبرهان على المقصود ودليلا على أن الصلاة والصبر إحسان وإيماء بأنه لا يعتد بهما دون الإخلاص

116 - { فلولا كان } فهلا كان { من القرون من قبلكم أولو بقية } من الرأي والعقل أو أولو فضل وإنما سمي { بقية } لأن الرجل يستبقي أفضل ما يخرجه ومنه يقال فلان من بقية القوم أي من خيارهم ويجوز أن يكون مصدرا كالتقية أي ذوو إبقاء على أنفسهم وصيانة لها من العذاب ويؤيده أنه قرئ { بقية } وهي المرة من مصدر بقاه يبقيه إذا راقبه { ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم } لكن قليلا منهم أنجيناهم لأنهم كانوا كذلك ولا يصح اتصاله إلا إذا جعل استثناء من النفي اللازم للتحضيض { واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه } ما أنعموا فيه من الشهوات واهتموا بتحصيل أسبابها وأعرضوا عما وراء ذلك { وكانوا مجرمين } كافرين كأنه أراد أن يبين ما كان السبب لاستئصال الأمم السالفة وهو فشو الظلم فيهم واتباعهم للهوى وترك النهي عن المنكرات مع الكفر وقوله واتبع معطوف مضمر دل عليه الكلام إذ المعنى : فلم ينهوا عن الفساد واتبع الذين ظلموا وكانوا مجرمين عطف على { اتبع } أو اعترض وقرئ وأتبع أي وأتبعوا جزاء ما أترفوا فتكون الواو للحال ويجوز أن تفسر به المشهورة ويعضده تقدم الإنجاء

117 - { وما كان ربك ليهلك القرى بظلم } بشرك { وأهلها مصلحون } فيما بينهم لا يضمون إلى شركهم فسادا وتباغيا وذلك لفرط رحمته و مسامحته في حقوقه ومن ذلك قدم الفقهاء عند تزاحم الحقوق حقوق العباد وقيل الملك يبقى مع الشرك ولا يبقى مع الظلم

118 - { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة } مسلمين كلهم وهو دليل ظاهر على أن الأمر الإرادة وأنه تعالى لم يرد الإيمان من كل أحد وأن ما أراده يجب وقوعه { ولا يزالون مختلفين } بعضهم على الحق وبعضهم على الباطل لا تكاد تجد اثنين يتفقان مطلقا

119 - { إلا من رحم ربك } إلا ناسا هداهم الله من فضله فاتفقوا على ما هو أصول دين الحق والعمدة فيه { ولذلك خلقهم } إن كان الضمير ل { الناس } فالإشارة إلى الاختلاف واللام للعاقبة أو إليه وإلى الرحمة وإن كان لمن فإلى الرحمة { وتمت كلمة ربك } وعيد أو قوله للملائكة { لأملأن جهنم من الجنة والناس } أي من عصاتهما { أجمعين } أو منهما أجمعين لا من أحدهما

120 - { وكلا } وكل نبأ { نقص عليك من أنباء الرسل } نخبرك به { ما نثبت به فؤادك } بيان لكلا أو بدل منه وفائدته التنبيه على المقصود من الاقتصاص وهو زيادة يقينه وطمأنينة قلبه وثبات نفسه على أداء الرسالة واحتمال أذى الكفار او مفعول { وكلا } منصوب على المصدر بمعنى كل نوع من أنواع الاقتصاص نقص عليك ما نثبت به فؤادك من أنباء الرسل { وجاءك في هذه } السورة أو الأنباء المقتصة عليك { الحق } ما هو حق { وموعظة وذكرى للمؤمنين } إشارة إلى سائر فوائده العامة

سورة يوسف
121

122 - { وانتظروا } بنا الدوائر { إنا منتظرون } أن ينزل بكم نحو ما نزل على أمثالكم

123 - { ولله غيب السموات والأرض } خاصة لا يخفى عليه خافية مما فيهما { وإليه يرجع الأمر كله } فيرجع لا محالة أمرهم وأمرك إليه وقرأ نافع و حفص ويرجع على البناء للمفعول { فاعبده وتوكل عليه } فإنه كافيك وقي تقديم الأمر بالعبادة على التوكل تنبيه على أنه إنما ينفع العابد { وما ربك بغافل عما تعملون } أنت وهم فيجازي كلا ما يستحقه وقرأ نافع و ابن عامر و حفص بالياء هنا وفي آخر النمل [ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم من قرأ سورة هود أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بنوح ومن كذب به وهود وصالح وشعيب ولوط وإبراهيم وموسى وكان يوم القيامة من السعداء إن شاء الله تعالى ]

مكية وآيها مائة وإحدى عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
1 - { الر تلك آيات الكتاب المبين } { تلك } إشارة إلى آيات السورة وهي المراد ب { الكتاب } أي تلك الآيات آيات السورة الظاهرة أمرها في الإعجاز أو الواضحة معانيها أو المبينة لمن تدبرها أنها من عند الله أو لليهود ما سألوا إذ روي أن علماءهم قالوا لكبراء المشركين سلوا محمدا لم أنتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر وعن قصة يوسف عليه السلام فنزلت

2 - { إنا أنزلناه } أي الكتاب { قرآنا عربيا } سمى البعض { قرآنا } لأنه في الأصل اسم حمس يقع على الكل والبعض وصار علما للكل بالغلبة ونصبه على الحال وهو في نفسه إما توطئة للحال التي هي { عربيا } أو حال لأنه مصدر بمعنى مفعول و { عربيا } صفة له او حال من الضمير فيه أو حال بعد حال وفي كال ذلك خلاف { لعلكم تعقلون } علة لإنزاله بهذه الصفة أي أنزلناه مجموعا أو مقروءا بلغتكم كي تفهموه وتحيطوا بمعانيه أو تستعملوا في عقولكم فتعلموا أن اقتصاصه كذلك ممن لم يتعلم القصص معجز لا يتصور إلا بالإيحاء

3 - { نحن نقص عليك أحسن القصص } أحسن الاقتصاص لأن اقتص على أبدع الأساليب أو أحسن ما يقص لاشتماله على العجائب والحكم والآيات والعبر فعل بمعنى مفعول كالنقص والسلب واشتقاقه منقص أثره إذا تبعه { بما أوحينا إليك } أي بإيحائنا { هذا القرآن } يعني السورة ويجوز أن يجعل هذا مفعول نقص على أن أحسن نصب على المصدر { وإن كنت من قبله لمن الغافلين } عن هذه القصة لم تخطر ببالك ولم تقرع سمعك قط وهو تعليل لكونه موحى وإن هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة

4 - { إذ قال يوسف } بدل من { أحسن القصص } إن جعل مفعولا بدل الاشتمال أو منصوب بإضمار اذكر و { يوسف } عبري ولو كان عربيا لصرف وقرئ بفتح السين وكسرها على التلعب به لا على أنه مضارع بني للمفعول أو الفاعل من آسف لأن المشهورة شهدت بعجمته { لأبيه } يعقوب ين إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام [ وعنه عليه الصلاة و السلام الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ] { يا أبت } أصله يا أبي فعوض عن الياء تاء التأنيث لتناسبهما في الزيادة ولذلك قلبها هاء في الوقف ابن كثير و أبو عمرو و يعقوب وكسرها لأنها عوض حرف يناسبها وفتحها ابن عامر في كل القرآن لأنها حركة أصلها أو لأنه كان يا أبتا فحذف الألف وبقي الفتحة وإنما جاز يا أبتا ولم يجز يا أبتي لأنه جمع بين العوض والمعوض وقرئ بالضم إجراء لها مجرى الأسماء المؤنثة بالتاء من غير اعتبار التعويض وإنما لم تسكن كأصلها لأنها حرف صحيح منزل منزلة الاسم فيجب تحريكها ككاف الخطاب { إني رأيت } من الرؤيا لا من الرؤية لقوله : { لا تقصص رؤياك } ولقوله : { هذا تأويل رؤياي من قبل } { أحد عشر كوكبا والشمس والقمر } روي عن جابر رضي الله تعالى عنه [ أن يهوديا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أخبرني يا محمد عن النجوم التي رآهن يوسف فسكت فنزل جبريل عليه السلام فأخبره بذلك فقال إذا أخبرتك هل تسلم قال نعم قال جريان والطارق والذيال وقابس وعمودان والفليق والمصبح والضروح والفرغ ووثاب وذو الكتفين رآها يوسف والشمس والقمر نزلن من السماء وسجدن له فقال اليهودي إي والله إنها لأسماؤها ] { رأيتهم لي ساجدين } استئناف لبيان حالهم التي رآهم عليها فلا تكرير وإنما أجريت مجرى العقلاء لوصفها بصفاتهم

5 - { قال يا بني } تصغير ابن صغره للشفقة أو لصغر السن لأنه كان ابن اثنتي عشرة سنة وقرأ حفص هنا وفي الصافات بفتح الياء { لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا } فيحتالوا لإهلاكك حيلة فهم يعقوب عليه السلام من رؤياه أن الله يصطفيه لرسالته ويفوقه على إخوته فخاف عليه حسدهم وبغيهم والرؤيا كالرؤية غير أنها مختصة بما يكون في النوم فرق بينهما بحرفي التأنيث كالقربة والقربى وهي انطباع الصورة المنحدرة من أفق المتخيلة إلى الحس المشترك والصادقة منها إنما تكون باتصال النفس بالملكوت لما بينهما من التناسب عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ فتتصور بما فيها مما يليق بها من المعاني الحاصلة هناك ثم إن المتخيلة تحاكيه بصورة تناسبه فترسلها إلى الحس المشترك فتصير مشاهدة ثم إن كانت شديدة المناسبة لذلك المعنى بحيث لا يكون التفاوت إلا بالكلية والجزئية استغنت الرؤيا عن التعبير وإلا احتاجت إليه وإنما عدي كاد باللام وهو متعد بنفسه لتضمنه معنى فعل يعدى به تأكيدا ولذلك أكد بالمصدر وعلله بقوله : { إن الشيطان للإنسان عدو مبين } ظاهر العداوة لما فعل بآدم عليه السلام وحواء فلا يألو جهدا في تسويلهم وإثارة الحسد فيهم حتى يحملهم على الكيد

6 - { وكذلك } أي وكما اجتباك لمثل هذه الرؤيا الدالة على شرف وعز وكمال نفس { يجتبيك ربك } للنبوة والملك أو لأمور عظام والاجتباء من جبيت الشيء إذا حصلته لنفسك { ويعلمك } كلام مبتدأ خارج عن التشبيه كأنه قيل وهو يعلمك { من تأويل الأحاديث } من تعبير الرؤيا لأنها أحاديث الملك إن كانت صادقة وأحاديث النفس أن الشيطان إن كانت كاذبة أو من تأويل غوامض كتب الله تعالى وسنن الأنبياء وكلمات الحكماء وهو اسم جمع الحديث كأباطيل اسم جمع للباطل { ويتم نعمته عليك } بالنبوة أو بأن يصل نعمة الدنيا بنعمة الآخرة { وعلى آل يعقوب } يريد به سائر بنيه ولعله استدل على نبوتهم بضوء الكواكب أو نسله { كما أتمها على أبويك } بالرسالة وقيل على إبراهيم بالخلة و الإنجاء من النار وعلى إسحاق بإنقاذه من الذبح وفدائه بذبح عظيم { من قبل } أي من قبلك أو من قبل هذا الوقت { إبراهيم وإسحاق } عطف بيان لأبويك { إن ربك عليم } بمن يستحق الاجتباء { حكيم } يفعل الأشياء على ما ينبغي

7 - { لقد كان في يوسف و إخوته } أي في قصتهم { آيات } دلائل قدرة الله تعالى وحكمته أو علامات نبوتك وقرأ ابن كثير آية { للسائلين } لمن سأل عن قصتهم والمراد بإخوته بنو علاته العشرة وهم : يهوذا و روبيل وشمعون و لاوي وزبالون و يشخر ودينة من بنت خالته ليا تزوجها يعقوب أولا فلما توفيت تزوج أختها راحيل فولدت له بنيامين ويوسف وقيل جمع بينهما ولم يكن الجمع محرما حينئذ وأربعة آخرون : دان ونفتالي وجاد وآشر من سريتين زلفة وبلهة

8 - { إذ قالوا ليوسف وأخوه } بنيامين وتخصيصه بالإضافة لاختصاصه بالاخوة من الطرفين { أحب إلى أبينا منا } وحده لن أفعل من لا يفرق فيه بين الواحد وما فوقه ولمذكر وما يقابله بخلاف أخويه فإن الفرق واجب في المحلى جائز في المضاف { ونحن عصبة } والحال أنا جماعة أقوياء أحق بالمحبة من صغيرين لا كفاية فيهما والعصبة والعصابة العشرة فصاعدا سموا بذلك لأن الأمور تعصب بهم { إن أبانا لفي ضلال مبين } لتفضيله المفضول أو لترك التعديل في المحبة روي أنه كان أحب إليه لما يصبر عنه فتبالغ حسدهم حتى حملهم على التعرض له

9 - { اقتلوا يوسف } من جملة المحكي بعد قوله إذ قالوا كأنهم اتفقوا على ذلك الأمر إلا من قال لا تقتلوا يوسف وقيل إنما قاله شمعون أو دان ورضي به الآخرون { أو اطرحوه أرضا } منكورة بعيدة من العمران وهو معنى تنكيرها وإبهامها ولذلك نصبت كالظرف المبهمة { يخل لكم وجه أبيكم } جواب الأمر والمعنى يصف لكم وجه أبيكم فيقبل بكليته عليكم ولا يلتفت عنكم إلى غيركم ولا ينازعكم في محبته أحد { وتكونوا } جزم بالعطف على { يخل } أو نصب بإضمار أن { من بعده } من بعد يوسف أو الفراغ من أمره أو قتله أو طرحه { قوما صالحين } تائبين إلى الله تعالى عما جنيتم أو صالحين مع أبيكم بصلح ما بينكم وبينه بعذر تمهدونه أو صالحين في أمر دنياكم فإنه ينتظم لكم بعده بخلو وجه أبيكم

10 - { قال قائل منهم } يعني يهوذا وكان أحسنهم فيه رأيا وقيل روبيل { لا تقتلوا يوسف } فإن القتل عظيم { وألقوه في غيابة الجب } فيقعره سمي بها لغيبويته عن أعين الناظرين وقرأ نافع في غيابات في الموضعين على الجمع كأن لتلك الجب غيابات وقرئ غيبة وغيابات بالتشديد { يلتقطه } يأخذه { بعض السيارة } بعض الذين يسيرون في الأرض { إن كنتم فاعلين } بمشورتي أو إن كنتم على أن تفعلوا ما يفرق بينه وبين أبيه

11 - { قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف } لم تخافنا عليه { وإنا له لناصحون } ونحن نشفق عليه ونريد له الخير أرادوا به استنزاله عن رأيه في حفظه منهم لما تنسم من حسدهم والمشهور { تأمنا } بالإدغام بإشمام وعن نافع بترك الإشمام ومن الشواذ ترك الإدغام لأنهما من كلمتين وتيمنا بكسر التاء

12 - { أرسله معنا غدا } إلى الصحراء { يرتع } نتسع في أكل الفواكه ونحوها من الرتعة وهي الخصب { ويلعب } بالاستباق والانتضال وقرأ ابن كثير نرتع بكسر العين على أنه من ارتعى يرتعي و نافع بالكسر والياء فيه وفي { يلعب } وقرأالكوفيون و يعقوب بالياء والسكون على إسناد الفعل إلى يوسف وقرئ { يرتع } من أرتع ماشيته و { يرتع } بكسر العين و { يلعب } بالرفع على الابتداء { وإنا له لحافظون } من أن يناله مكروه

13 - { قال إني ليحزنني أن تذهبوا به } لشدة مفارقته علي وقلة صبري عنه { وأخاف أن يأكله الذئب } لأن الأرض كانت مذأبة وقيل رأى في المنام أن الذئب قد شد على يوسف وكان يحذره عليه وقد همزها على الأصل ابن كثير و نافع في رواية قالون وفي رواية اليزيدي و أبو عمرو وقفا و عاصم و ابن عامر و حمزة درجا واشتقاقه من تذاءبت الريح إذا هبت من كل جهة { وأنتم عنه غافلون } لاشتغالكم بالرتع واللعب أو لقلة اهتمامكم بحفظه

14 - { قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة } اللام موطئة للقسم وجوابه : { إنا إذا لخاسرون } ضعفاء مغبونون أو مستحقون لأن يدعى عليهم بالخسار والواو في { ونحن عصبة } للحال

15 - { فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب } وعزموا على إلقاءه فيها والبئر بئر بيت المقدس أو بئر بأرض الأردن أو بين مصر ومدين أو على ثلاثة فراسخ من مقام يعقوب وجواب لما محذوف مثل فعلوا به ما فعلوا من الأذى فقد روي أنهم لما بروزا به إلى الصحراء أخذوا يؤذونه ويضربونه حتى كادوا يقتلونه فجعل يصيح ويستغيث فقال يهوذا : أما عاهدتموني أن لا تقتلونه فأتوا به إلى البئر فدلوه فيها فتعلق بشفيرها فربطوا يديه ونزعوا قميصه ليلطخوه بالدم ويحتالوا به على أبيهم فقال : يا إخوتاه ردوا علي قميصي أتوارى به فقالوا : ادع الأحد عشر كوكبا والشمس والقمر يلبسوك ويؤنسوك فلما بلغ نصفها ألقوه وكان فيها ماء فسقط فيه ثم آوى إلى صخرة كانت فيها فقام عليها يبكي فجاءه جبريل بالوحي كما قال : { وأوحينا إليه } وكان ابن سبع عشرة سنة وقيل كان مراهقا أوحي إليه في صغره كما أوحي إلى يحيى وعيسى عليهم الصلاة والسلام وفي القصص : أن إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار جرد عن ثيابه فأتاه جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه فدفعه إبراهيم إلى إسحاق وإسحاق إلى يعقوب فجعله في تميمة علقها بيوسف فأخرجه جبريل عليه السلام وألبسه إياه { لتنبئنهم بأمرهم هذا } لتحدثنهم بما فعلوا بك { وهم لا يشعرون } إنك يوسف لعلو شأنك وبعده عن أوهامهم وطول العهد المغير للحلى والهيئات وذلك إشارة إلى ما قال لهم بمصر حين دخلوا عليه ممتاريين { فعرفهم وهم له منكرون } بشره بما يؤول إليه أمره إيناسا له وتطييبا لقلبه وقيل { وهم لا يشعرون } متصل ب { أوحينا } أي آنسناه بالوحي وهم لا يشعرون ذلك

16 - { و جاؤوا أباهم عشاء } أي آخر النهار وقرئ عشيا وهو تصغير عشي وعششي بالضم والقصر جمع أعشى أي عشوا من البكاء { يبكون } متباكين روي أنه لمل سمع بكاءهم فزع وقال مالكم يا بني وأين بيوسف

17 - { قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق } نتسابق في العدو أو في الرمي وقد يشترك الافتعال والتفاعل كالانتضال و الناضل { وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا } بمصدق لنا { ولو كنا صادقين } لسوء ظنك بنا وفرط محبتك ليوسف

18 - { و جاؤوا على قميصه بدم كذب } أي ذي كذب بمعنى مكذوب فيه ويجوز أن يكون وصفا بالمصدر للمبالغة وقرئ بالنصب على الحال من الواو أي جاؤوا كاذبين و { كدأب } بالدال غير المعجمة أي كدر أو طري وقيل : أصله البياض الخارج على أظفار الأحداث فشبه به الدم اللاصق على القميص وعلى قميصه في موضع النصب على الظرف أي فوق قميصه أو على الحال من الدم إن جوز تقديمها على المجرور روي : أنه لما سمع بخبر يوسف صاح وسأل عن قميصه فأخذه وألقاه على وجه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص وقال : ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا أكل ابني ولم يمزق عليه قميصه ولذلك { قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا } أي سهلت لكم أنفسكم وهونت في أعينكم أمرا عظيما من السول وهو الاسترخاء { فصبر جميل } أي فأمري صبر جميل أو فصبر جميل أجمل وفي الحديث [ الصبر الجميل الذي لا شكوى فيه إلى الخلق ] { والله المستعان على ما تصفون } على احتمال ما تصفونه من إهلاك يوسف وهذه الجريمة كانت قبل استنبائهم إن صح

19 - { وجاءت سيارة } رفقة يسيرون من مدين إلى مصر فنزلوا قريبا منت الجب وكان ذلك بعد ثلاث من إلقاءه فيه { فأرسلوا واردهم } الذي يرد الماء ويستقي لهم وكان مالك بن ذعر الخزاعي { فأدلى دلوه } فأرسلها في الجب ليملأها فتدلى بها يوسف فلما رآه { قال يا بشرى هذا غلام } نادى البشرى بشارة لنفسه أو لقومه كأنه قال تعال فهذا أوانك وقيل هو اسم لصاحب له ناداه ليعينه على إخراجه وقرأ غير الكوفيين يا بشراي بالإضافة وأمال فتحة الراء حمزة و الكسائي وقرأ ورش بين اللفظين وقرئ { يا بشرى } بالإدغام وهو لغة بشراي بالسكون على قصد الوقف { وأسروه } أي الوارد وأصحابه من سائر الرفقة وقيل أخفوا أمره وقالوا لهم دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر وقيل الضمير لإخوة يوسف وذلك أن يهوذا كان يأتيه كل يوم بالطعام فأتاه يومئذ فلم يجده فيها فأخبر اخوته فأتوا الرفقة وقالوا : هذا غلامنا أبق منا فاشتروه فسكت يوسف مخافة أن يقتلوه { بضاعة } نصب على الحال أي أخفوه متاعا للتجارة واشتقاقه من البضع فإنه ما بضع من المال للتجارة { والله عليم بما يعملون } لم يخف عليه أسرارهم أو صنيع إخوة يوسف بأبيهم وأخيهم

20 - { و شروه } وباعوه وفي مرجع الضمير الوجهان أو اشتروه من اخوته { بثمن بخس } مبخوس لزيفه أو نقصانه { دراهم } بدل من الثمن
{ معدودة } قليلة فإنهم يزنون بلغ الأوقية ويعدون ما دونها قيل كان عشرين درهما وقيل كان اثنين وعشريين درهما { وكانوا فيه } في يوسف { من الزاهدين } الراغبين عنه والضمير في { وكانوا } إن كان للإخوة فظاهر وإن كان للرفقة وكانوا بائعين فزهدهم فيه لأنهم التقطوه والملتقط للشيء متهاون به خائف من انتزاعه مستعجل في بيعه وإن كانوا مبتاعين فلأنهم اعتقدوا أنه آبق وفيه متعلق بالزاهدين إن جعل اللام للتعريف وإن جعل بمعنى الذي فهو متعلق بمحذوف بينه الزاهدين لأن متعلق الصلة لا يتقدم على الموصول

21 - { وقال الذي اشتراه من مصر } وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر واسمه قطفير أو إطفير وكان الملك يومئذ ريان بن الوليد العمليقيي وقد آمن بيوسف عليه السلام ومات في حياته وقيل كان فرعون موسى عاش أربعمائة سنة بدليل قوله تعالى : { ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات } والمشهور أنه اشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة ولبث في منزله ثلاث عشرة سنة واستوزره الريان وهو ابن ثلاث وثلاثيين سنة وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة واختلف فيما اشتراه به من جعل شراءه به غير الأول فقيل عشرون دينارا وزوجا نعل وثوبان أبيضان وقيل ملؤه فضة وقيل ذهبا { لامرأته } راعيل أو زليخا { أكرمي مثواه } اجعلي مقامه عندنا كريما أي حسنا والمعنى أحسني تعهده { عسى أن ينفعنا } في ضياعنا وأموالنا ونستظهر به في مصالحنا { أو نتخذه ولدا } نتبناه وكان عقيما لما تفرس فيه من الرشد ولذلك قيل : أفرس الناس ثلاثة عزيز مصر وابنة شعيب التي قالت { يا أبت استأجره } وأبو بكر حين استخلف عمر رضي الله تعالى عنهما { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض } وكما مكنا محبته في قلب العزيز أو كما مكناه في منزله أو كما أنجيناه وعطفنا عليه العزيز مكنا له فيها { ولنعلمه من تأويل الأحاديث } عطف على مضمر تقديره ليتصرف فيها بالعدل ولنعلمه أي كان القصد في إنجائه وتمكينه إلى أن يقيم العدل ويدبر أمور الناس ويعلم معاني كتب الله تعالى وأحكام فينفذها أو تعبير المنامات المنبهة على الحوادث الكائنة ليستعد لها ويشتغل بتدبيرها قبل أن تحل كما فعل لسنيه { والله غالب على أمره } لا يرده شيء ولا ينازعه فما يشاء أو على أمر يوسف إن أراد به إخوته شيئا وأراد الله غيره فلم يمكن إلا ما أراده { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } أن الأمر كله بيده أو لطائف صنعه وخفايا لطفه

22 - { ولما بلغ أشده } منتهى اشتداد جسمه وقوته وهو سن الوقوف ما بين الثلاثين والأربعين وقيل سن الشباب ومبدؤه بلوغ الحلم { آتيناه حكما } حكمة وهو العلم المؤيد بالعمل أو حكما بين الناس { وعلما } يعني علم تأويل الأحاديث { وكذلك نجزي المحسنين } تنبيه على أنه تعالى إنما آتاه ذلك جزاء على إحسانه في عمله وإتقانه في عنفوان أمره

23 - { وراودته التي هو في بيتها عن نفسه } طلبت منه وتمحلت أن يواقعها من راد يرود إذا جاء وذهب لطلب شيء ومنه الرائد { وغلقت الأبواب } قيل كانت سبعة التشديد للتكثير أو للمبالغة في الإيثاق { وقالت هيت لك } أي أقبل وبادر أو تهيأت والكلمة على الوجهين اسم فعل بني على الفتح كأين وللام للتبيين كالتي فيسقيا لك وقرأ ابن كثير بالضم وفتح الهاء تشبيها له بحيث ونافع و ابن عامر بالفتح وكسر الهاء كعيط وقرأ هشام كذلك إلا أنه تهمز وقد روي عنه ضم التاء وهو لغة فيه وقرئ { هيت } كجير وهئت كجئت من هاء يهيئ إذا تهيأ وقرئ هيئت وعلى هذا فاللام من صلته { قال معاذ الله } أعوذ بالله معاذا { إنه } إن الشأن { ربي أحسن مثواي } سيدي قطفير أحسن تعهدي إذ قال لك في { أكرمي مثواه } فما جزاؤه أن أخونه في أهله وقيل الضمير لله تعالى أي إنه خالقي أحسن منزلتي بأن عطف على قلبه فلا أعصيه { إنه لا يفلح الظالمون } المجازون الحسن بالسيء وقيل الزناة فإن الزنا ظلم على الزاني والمزني بأهله

24 - { ولقد همت به وهم بها } وقصدت مخالطته وقصد مخالطتها والهم بالشيء قصده والعزم عليه ومنه الهمام وهو الذي إذا هم بالشيء أمضاه والمراد بهمه عليه الصلاة و السلام ميل الطبع ومنازعة الشهوة لا القصد الاختياري وذلك مما لا يدخل تحت التكليف بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل من الله من يكف نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهم أو مشارفة الهم كقولك قتلته لو لم أخف الله { لولا أن رأى برهان ربه } في قبح الزنا وسوء مغبته لخالطها لشبق الغلمة وكثرة المغالبة ولا يجوز أن يجعل { وهم بها } جواب { لولا } فإنها في حكم أدوات الشرط فلا يتقدم عليها جوابها بل الجواب محذوف بدل عليه وقيل رأى جبريل عليه الصلاة و السلام وقيل تمثل له يعقوب عاضا على أنامله وقيل قطفير وقيل نودي يا يوسف أنت مكتوب في الأنبياء وتعلم عمل السفهاء { كذلك } أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه أو الأمر مثل ذلك { لنصرف عنه السوء } خيانة السيد { والفحشاء } الزنا { إنه من عبادنا المخلصين } الذي أخلصهم الله لطاعته وقرأ ابن كثير و أبو عمرو و ابن عامر و يعقوب بالكسر في كل القرآن إذ كان في أوله الألف وللام أي الذين أخلصوا دينهم لله

25 - { واستبقا الباب } أي تسابقا إلى الباب فحذف الجار أو ضمن الفعل معنى الابتدار وذلك أن يوسف فر منها ليخرج وأسرعت وراءه لتمنعه الخروج { وقدت قميصه من دبر } اجتذبته من ورائه فانقد قميصه والقد الشق طولا والقط الشق عرضا { وألفيا سيدها } وصادفا زوجها { لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم } إيهاما بأنها فرت منه تبرئة لساحتها عند زوجها وتغييره على يوسف وإغراءه به انتقاما منه و { ما } نافية أو استفهامية بمعنى أي شيء جزاءه إلا السجن

26 - { قال هي راودتني عن نفسي } طالبتني بالمؤاتاة وإنما قال ذلك دفعا لما عرضته له من السجن أو العذاب الأليم ولو لم تكذب عليه لما قاله { وشهد شاهد من أهلها } قيل ابن عم لها وقيل ابن خال لها صبيا في المهد وعن النبي صلى الله عليه و سلم [ تكلم أربعة صغارا ابن ماشطة فرعون وشاهد يوسف وصاحب جريج وعيسى ابن مريم عليه الصلاة و السلام ] إنما ألقى الله الشهادة على لسان أهلها لتكون ألزم عليها { إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين } لأنه يدل على أنها قدت قميصه من قدامه بالدفع عن نفسها أو أنه أسرع خلفها فتعثر بذيله فانقد جيبه

27 - { وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين } لأنه يدل على أنها تبعته فاجتذبت ثوبه فقدته والشرطية محكية على إرادة القول أو على أن فعل الشهادة من القول وتسميتها شهادة لأنها أدت مؤداها والجمع بين إن وكان على تأويل أن يعلم أنه كان ونحوه ونظيره قولك : إن حسنت إلى اليوم فقد أحسنت إليك من قبل فإن معناه أن تمنن علي بإحسانك أمنن عليك بإحساني لك السابق وقرئ { من قبل } { من دبر } بالضم لأنهما قطعا عن الإضافة كقبل وبعد والفتح كأنهما جعلا علمين للجهتين فمنعا الصرف وبسكون العين

28 - { فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه } إن قولك { ما جزاء من أراد بأهلك سوءا } أو إن السوء أو إن هذا الأمر { من كيدكن } من حيلتكن والخطاب لها ولأمثالها أو لسائر النساء { إن كيدكن عظيم } فإن كيد النساء ألطف وأعلق بالقلب وأشد تأثيرا في النفس ولأنهن يواجهن به الرجال والشيطان يوسوس به مسارقة

29 - { يوسف } حذف منه حرف النداء لقربه وتفطنه للحديث { أعرض عن هذا } أكتمه ولا تذكره { واستغفري لذنبك } يا راعيل { إنك كنت من الخاطئين } من القوم المذنبين من خطئ إذا أذنب متعمدا والتذكير للتغليب

30 - { وقال نسوة } هي اسم لجمع امرأة وتأنيثه بهذا الاعتبار غير حقيقي ولذلك جرد فعله وضم النون لغة فيها { في المدينة } ظرف لقال أي أشعن الحكاية في مصر أو صفة نسوة وكن خمسا زوجة الحاجب والساقي والخباز والسجان وصاحب الدواب { امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه } تطلب مواقعة غلامها إياها و { العزيز } بلسان العرب الملك وأصل فتى فتي لقولهم فتيان والفتوة شاذة { قد شغفها حبا } شق شغاف قلبها وهو حجابه حتى وصل إلى فؤادها حبا ونصبه على التمييز لصرف الفعل عنه وقرئ شعفها من شعف البعير إذا هنأه بالقطران فأحرقه { إنا لنراها في ضلال مبين } في ضلال عن الرشد وبعد عن الصواب

31 - { فلما سمعت بمكرهن } باغتيابهن وإنما سماه مكرا لأنهن أخفينه كما يخفي الماكر مكره أو قلن ذلك لتريهن يوسف أو لأنها استكتمتن سرها فأفشينه عليها { أرسلت إليهن } تدعوهن قيل دعت أربعين امرأة فيهن الخمس المذكورات { وأعتدت لهن متكئا } ما يتكئن عليه من الوسائد { وآتت كل واحدة منهن سكينا } حتى يتكئن والسكاكين بأيديهن فإذا خرج عليهم يبهتن ويشغلن عن نفوسهن فتقع أيديهن على أيديهن فيقطعنها فيبكتن بالحجة أو يهاب يوسف مكرها إذا خرج وحده على أربعين امرأة في أيديهن الخناجر وقيل متكأ طعاما أو مجلس طعام فإنهم كانوا يتكئون للطعام والشراب ترفا ولذلك نهى عنه قال جميل :
( فظللنا بنعمة واتكأنا ... وشربنا الحلال من قلله )
وقيل المتكأ طعام يحز حزا كأن القاطع يتكئ عليه بالسكين وقرئ متكا بحذف الهمزة ومتكاء بإشباع الفتحة كمنتزاح ومتكا وهو الأترج أو ما يقطع من متك الشيء إذا بتكه و { متكئا } من تكئ يتكأ إذا اتكأ { وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه } عظمنه وهبن حسنه الفائق وعن النبي صلى الله عليه و سلم [ رأيت يوسف ليلة المعراج كالقمر ليلة البدر ] وقيل كان يرى تلألؤ وجهه على الجدران وقيل أكبرن بمعنى حضن من أكبرت المرأة إذا حاضت لأنها تدخل الكبر بالحيض ولهاء ضمير للمصدر أو ليوسف عليه الصلاة و السلام على حذف اللام أي حضن له من شدة الشبق كما قال المتنبي :
( خف الله واستر ذا الجمال ببرقع ... فإن لحت حاضت في الخدور العواتق )
{ وقطعن أيديهن } جرحنها بالسكاكين من فرط الدهشة { وقلن حاش لله } تنزيها له من صفات العجز وتعجبا من قدرته على خلق مثله وأصله حاشا كما قرأ أبو عمرو في الدرج فحذفت ألفه الأخيرة تخفيفا وهو حرف يفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء فوضع الاستثناء فوضع موضع التنزيه واللام للبيان كما في قولك سقيا لك وقرئ حاش الله بغير لام بمعنى براءة لله وحاشا لله بالتنوين على تنزيله منزلة المصدر وقيل حاشا فاعل من الحشا الذي هو الناحية وفاعله ضمير يوسف أي صار في ناحية لله مما يتوهم فيه { ما هذا بشرا } لأن هذا الجمال غير معهود لبشر وهو على لغة الحجاز في إعمال ما عمل ليس لمشاركتها في نفي الحال وقرئ بشر بالرفع على لغة تميم وبشرى أي بعبد مشترى لئيم { إن هذا إلا ملك كريم } فإن الجمع بين الجمال الرائق والكمال الفائق والعصمة البالغة من خواص الملائكة أو لن جماله فوق جمال البشر ولا يفوقه فيه إلا الملك

32 - { قالت فذلكن الذي لمتنني فيه } أي فهو ذلك العبد الكنعاني الذي لمتنني في الافتنان به قبل أن تتصورنه حق تصوره ولو تصورتنه بما عاينتن لعذرتنني أو فهذا هو الذي لمتنني فيه فوضع ذلك موقع هذا رفعا لمنزلة المشار إليه { ولقد راودته عن نفسه فاستعصم } فامتنع طلبا للعصمة أقرت لهن حين عرفت أنهن يعذرنها كي يعاونها على إلانة عريكته { ولئن لم يفعل ما آمره } أي ما آمره به فحذف الجار أو أمري إياه بمعنى موجب أمري فيكون الضمير ليوسف { ليسجنن وليكونا من الصاغرين } من الأذلاء وهو من صغر بالكسر يصغر صغرا وصغارا والصغير من صغر الضم صغرا وقرئ ليكونن وهو يخالف خط المصحف لأن النون كتبت فيه بالألف ك { نسفعا } على حكم الوقف وذلك في الخفيفة لشبهها بالتنوين

33 - { قال رب السجن } وقرأ يعقوب بالفتح على المصدر { أحب إلي مما يدعونني إليه } أي آثر عندي من مؤاتاتها زنا نظرا إلى العاقبة وإن كان هذا مما تشتهيه النفس وذلك مما تكرهه وإسناد الدعوة إليهن جميعا لأنهن خوفنه من مخالفتها وزين له مطاوعتها أو دعونه إلى أنفسهن وقيل إنما ابتلي بالسجن لقوله هذا وإنما كان الأولى به أن يسأل الله العافية ولذلك رد رسول الله صلى الله عليه و سلم على من كان يسأل الصبر { وإلا تصرف عني } وإن لم تصرف عني { كيدهن } في تحبيب ذلك إلى وتحسيه عندي بالتثبيت على العصمة { أصب إليهن } أمل إلى جانبهن أو إلى أنفسهن بطبعي ومقتضى شهوتي ولصبوة الميل إلى الهوى ومنه الصبا لن النفوس تستطبيها وتميل إليها وقرئ { أصب } من الصبابة وهي الشوق { وأكن من الجاهلين } من السفهاء بارتكاب ما يدعونني إليه فإن الحكيم لا يفعل القبيح أو من الذين لا يعملون بما يعلمون فإنهم و الجهال سواء

34 - { فاستجاب له ربه } فأجاب الله دعاءه الذي تضمنه قوله : { وإلا تصرف } { فصرف عنه كيدهن } فثبته بالعصمة حتى وطن نفسه على مشقة السجن وآثرها على اللذة المتضمنة للعصيان { إنه هو السميع } لدعاء الملتجئين إله { العليم } بأحوالهم وما يصلحهم

35 - { ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات } ثم ظهر للعزيز وأهله من بعد ما رأوا الشواهد الدالة على براءة يوسف كشهادة الصبي وقد القميص وقطع النساء أيديهن واستعصامه عنهن وفاعل { بدا } مضمر يفسره { ليسجننه حتى حين } وذلك لأنها خدعت زوجها وحملته على سجنه زمانا حتى تبصر ما يكون منه أو يحسب الناس أنه المجرم فلبث في السجن سبع سنين وقرئ بالتاء على أن بعضهم خاطب به العزيز على التعظيم أو العزيز ومن يليه وعتى بلغة هذيل

36 - { دخل معه السجن فتيان } أي أدخل يوسف السجن واتفق أ ه أدخل حينئذ آخران من عبيد الملك شرابيه وخبازه للاتهام بأنهما يريدان أن يسماه { قال أحدهما } يعني الشرابي { إني أراني } أي في المنام وهي حكاية حال ماضية { أعصر خمرا } أي عنبا وسماه خمرا باعتبار ما يؤول إليه { وقال الآخر } أي الخباز { إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه } تنهش منه { نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين } من الذين يحسنون تأويل الرؤيا أو من العالمين وإنما قال ذلك لأنهما رأياه في السجن يذكر الناس ويعبر رؤياهم أو من المحسنين إلى أهل السجن فأحسن إلينا بتأويل ما رأينا إن كنت تعرفه

37 - { قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله } أي بتأويل ما قصصتما علي أو بتأويل الطعام يعني بيان ماهيته وكيفيته فإنه يشبه تفسير المشكل كأنه أراد أن يدعوهما إلى التوحيد ويرشدهما إلى الطريق القويم قبل أن يسعف إلى ما سألاه منه كما هو طريق الأنبياء والنازلين منازلهم من العلماء في الهداية والإرشاد فقدم ما يكون معجزة له من الإخبار بالغيب ليدلههما على صدقه في الدعوة والتعبير { قبل أن يأتيكما ذلكما } أي ذلك التأويل { مما علمني ربي } بالإلهام والوحي وليس من قبيل التكهن أو التنجيم { إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون } تعليل لما قبله أي علمني ذلك لأني تركت ملة أولئك

38 - { واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب } أو كلام مبتدأ لتمهيد الدعوة وإظهار أنه من بيت النبوة لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه والوثوق عليه ولذلك جوز للخامل أن يصف نفس حتى يعرف فيقتبس منه وتكرير الضمير للدلالة على اختصاصهم وتأكيد كفرهم بالآخرة { ما كان لنا } ما صح لنا معشر الأنبياء { أن نشرك بالله من شيء } أي شيء كان { ذلك } أي التوحيد { من فضل الله علينا } بالوحي { وعلى الناس } وعلى سائر الناس يبعثنا لإرشادهم وتثبيتهم عليه { ولكن أكثر الناس } المبعوث إليهم { لا يشكرون } هذا الفضل فيعرضون عنه ولا يتنبهون أو من فضل الله علينا وعليهم بنصب الدلائل وإنزال الآيات ولكن أكثرهم لا ينظرون إليها ولا يستدلون بها فيلغونها كمن كفر النعمة ولا يشكرها

39 - { يا صاحبي السجن } أي يا ساكنيه أو يا صاحبي فيه فأضافهما إليه على الاتساع كقوله : ( يا سارق الليلة أهل الدار ) { أأرباب متفرقون } شتى متعددة متساوية الأقدام { خير أم الله الواحد } المتوحد بالألوهية { القهار } الغالب الذي لا يعادله ولا يقاومه غيره

40 - { ما تعبدون من دونه } خطاب لهما ولمن على دينهما من أهل مصر { إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } أي إلا أشياء باعتبار أسام أطلقتم عليها من غير حجة تدل على تحقق مسمياتها فيها فكأنكم لا تعبدون إلا الأسماء المجردة والمعنى أنكم سميتم ما لم يدل على استحقاقه الألوهية عقل ولا نقل آلهة ثم أخذتم تعبدونها باعتبار ما تطلقون عليها { إن الحكم } ما الحكم في أمر العبادة { إلا لله } لأنه المستحق لها بالذات من حيث إنه الواجب لذاته الموجد للكل والمالك لأمره { أمر } على لسان أنبيائه { أن لا تعبدوا إلا إياه } الذي دلت عليه الحجج { ذلك الدين القيم } الحق وأنتم لا تميزون المعوج عن القويم وهذا من التدرج في الدعوة وإلزام الحجة تبين لهم أولا رجحان التوحيد على اتخاذ الآلهة على طريق الخطابة ثم برهن على أن ما يسمونها آلهة و يعبدونها لا تستحق الالهية فإن استحقاق العبادة إما بالذات وإما بالغير وكلا القسمين منتف عنه ثم نص على ما هو الحق القويم والدين المستقيم الذي لا يقتضي العقل غيره ولا يرتضي العلم دونه { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } فيخبطون في جهالاتهم

41 - { يا صاحبي السجن أما أحدكما } يعني الشرابي { فيسقي ربه خمرا } كما كان يسقيه قبل ويعود إلى ما كان عليه { وأما الآخر } يريد به الخباز { فيصلب فتأكل الطير من رأسه } فقالا كذبنا فقال { قضي الأمر الذي فيه تستفتيان } أي قطع الأمر الذي تستفتيان فيه وهو ما يؤول إليه أمركما ولذلك وحده فإنهما وإن استفتيا في أمرين لكنهما أرادا استبانه عاقبة ما نزل بهما

42 - { وقال للذي ظن أنه ناج منهما } الظان يوسف إن ذكر ذلك عن اجتهاد وإن ذكره عن وحي فهو الناجي إلا أن يؤول الظن باليقين { اذكرني عند ربك } اذكر حالي عند الملك كي يخلصني { فأنساه الشيطان ذكر ربه } فأنسى الشرابي أن يذكره لربه فأضاف إليه المصدر لملابسته له أو على تقدير ذكر أخبار ربه أو أنسي يوسف ذكر الله حتى استعان بغيره ويؤيده قوله عليه الصلاة و السلام [ رحم الله أخي يوسف لو لم يقل { اذكرني عند ربك } لما لبث في السجن سبعا بعد الخمس ] والاستعانة بالعباد في كشف الشدائد وإن كانت محمودة في الجملة لكنها لا تليق بمنصب الأنبياء { فلبث في السجن بضع سنين } البضع ما بين الثلاث إلى التسع من البضع وهو القطع

43 - { وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف } لما دنا فرجه رأى الملك سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس وسبع بقرات مهازيل فابتلعت المهازيل السمان { وسبع سنبلات خضر } قد انعقد حبها { وأخر يابسات } وسبعا أخر يابسات قد أدركت فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبت عليها وإنما استغنى عن بيان حالها بما قص من حال البقرات وأجرى السمان على المميز دون المميز لأن التمييز بها ووصف السبع الثاني بالعجاف لتعذر التمييز بها مجردا عن الموصوف فإنه لبيان الجنس وقياسه عجف لأنه جمع عجفاء لكنه حمل على { سمان } لأنه نقيضه { يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي } عبروها { إن كنتم للرؤيا تعبرون } إن كنتم عالمين بعبارة الرؤيا وهي الانتقال من الصور الخيالية إلى المعاني النفسانية التي هي مثالها من العبور وهي المجاوزة وعبرت الرؤيا عبارة أثبت من عبرتها تعبيرا واللام للبيان أو لتقوية العامل فإن الفعل لما أخر عن مفعوله ضعف فقوي باللام كاسم الفاعل أو لتضمن { تعبرون } معنى فعل يعدى باللام كأنه قيل : إن كنتم تنتدبون لعبارة الرؤيا

44 - { قالوا أضغاث أحلام } أي هذه أضغاث أحلام وهي تخاليطها جمع ضغث وأصله ما جمع من أخلاط النبات وحزم فاستعير للرؤيا الكاذبة وإنما جمعوا للمبالغة في وصف الحلم بالبطلان كقولهم : فلان يركب الخيل أو لتضمنه أشياء مختلفة { وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين } يريدون بالأحلام المنامات الباطلة خاصة أي ليس لها تأويل عندنا وإنما التأويل للمنامات الصادقة فهو كأنه مقدمة ثانية للعذر فيجهلهم بتأويله

45 - { وقال الذي نجا منهما } من صاحبي السجن وهو الشرابي { وادكر بعد أمة } وتذكر يوسف بعد جماعة من الزمان مجتمعة أي مدة طويلة وقرئ إمة بكسر الهمزة وهي النعمة أي بعدما أنعم عليه بالنجاة وأمه أي نسيان يقال أمه يأمه أمها إذا نسي والجملة اعتراض ومقول القول : { أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون } أي إلى من عنده علمه أو إلى السجن

46 - { يوسف أيها الصديق } أي فأرسل إلى يوسف فجاءه فقال يا يوسف وإنما
وصفه بالصديق وهو المبالغ في الصدق لأنه جرب أحواله وعرف صدقه في تأويل
رؤياه ورؤيا صاحبه { أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات } أي في رؤيا ذلك { لعلي أرجع إلى الناس } أعود
إلى الملك ومن عنده أو إلى أهل البلد إذ قيل إن السجن لم يكن فيه { لعلهم يعلمون } تأويلها أو فضلك ومكانك وإنما لم يبت الكلام فيهما لأنه لم يكن جازما
بالرجوع فربما اخترم دونه ولا يعلمهم

47 - { قال تزرعون سبع سنين دأبا } أي على عادتكم المستمرة وانتصابه على الحال بمعنى دائبين أو المصدر بإضمار فعله أي تدأبون دأبا وتكون الجملة حالا وقرأ حفص { دأبا } بفتح الهمزة وكلاهما مصدر دأب في العمل وقيل { تزرعون } أمر أخرجه في صورة الخبر مبالغة لقوله : { فما حصدتم فذروه في سنبله } لئلا يأكله السوس وهو على الأول نصيحة خارجة عن العبارة { إلا قليلا مما تأكلون } في تلك السنين

48 - { ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن } أي يأكل أهلهن ما ادخرتم لأجلهن فأسند إليهن على المجاز تطبيقا بين المعبر والمعبر به { إلا قليلا مما تحصنون } تحرزون لبذور الزراعة

49 - { ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس } يمطرون من الغيث أو يغاثون من القحط من الغوث { وفيه يعصرون } ما يعصر كالعنب والزيتون لكثرة الثمار وقيل يحلبون الضروع وقرأ حمزة و الكسائي بالتاء على تغليب المستفتي وقرئ على بناء المفعول من عصره 1ذا أنجاه ويحتمل أن يكون المبني للفاعل منه أي يغيثهم الله ويغيث بعضهم بعضا أو من أعصرت السحابة عليهم فعدي بنزع الخافض أو بتضمينه معنى المطر وهذه بشارة بشرهم بها بعد أن أول البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخصبة والعجاف السنين المجدبة ولعله علم ذلك بالوحي أو بأن انتهاء الجدب والخصب أو بأن السنة الإلهية على أن يوسع على عباده بعدما ضيق عليهم :

50 - : { وقال الملك ائتوني به } بعد ما جاءه الرسول بالتعبير { فلما جاءه الرسول } ليخرجه { قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن } إنما تأنى في الخروج وقدم سؤال النسوة وفحص حالهن لتظهر براءة ساحته ويعلم أنه سجن ظلما فلا يقدر الحاسد أن يتوسل به إلى تقبيح أمرره وفيه دليل على أنه ينبغي أن يجتهد في نفي التهم ويتقي مواقعها وعن النبي صلى الله عليه و سلم [ لو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإجابة ] وإنما قال فاسأله ما بال النسوة ولم يقل فاسأله أن يفتش عن حالهن تهييجا له على البحث وتحقيق الحال وإنما لم يتعرض لسيدته مع ما صنعت به كرما ومراعاة للأدب وقرئ { النسوة } بضم النون { إن ربي بكيدهن عليم } حين قلن لي أطع مولاتك وفيه تعظيم كيدهن والاستشهاد بعلم الله عليه وعلى أنه بريء مما قذف به والوعيد لهن على كيدهن

51 - { قال ما خطبكن } قال الملك لهن ما شأنكن والخطب أر يحق أن يخاطب فيه صاحبه { إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله } تنزيه له وتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله { ما علمنا عليه من سوء } من ذنب { قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق } ثبت واستقر من حصحص البعير إذا ألقى مباركه ليناخ قال : ( فحصحص في صم الصفا ثفناته ... وناء بسلمى نوأة ثم صمما ) أو ظهر من حص شعره إذا استأصله بحيث ظهرت بشرة رأسه وقرئ على البناء للمفعول { أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين } في قوله : { هي راودتني عن نفسي }

52 - { ذلك ليعلم } قاله يوسف لما عاد إليه الرسول وأخبره بكلامهن أي ذلك
التثبت ليعلم العزيز { أني لم أخنه بالغيب } بظهر الغيب وهو حال من الفاعل أو
المفعول أي لم أخنه وأنا غائب عنه أو وهو غائب عني أو ظرف أي بمكان
الغيب وراء الأستار والأبواب المغلقة { وأن الله لا يهدي كيد الخائنين } لا ينفذه ولا
يسدده أو لا يهدي الخائنين بكيدهم فأوقع الفعل على الكيد مبالغة
وفيه تعريض براعيل في خيانتها زوجها وتوكيد لأمانته ولذلك عقبه بقوله :

53 - { وما أبرئ نفسي } أي لا أنزهها تنبيها على أنه لم يرد بذلك تزكية نفسه والعجب بحاله بل إظهار ما أنعم الله عليه من العصمة والتوفيق وعن ابن عباس أنه لما قال : { ليعلم أني لم أخنه بالغيب } قال له جبريل ولا حين هممت فقال : ذلك { إن النفس لأمارة بالسوء } من حيث إنها بالطبع مائلة إلى الشهوات فتهم بها وتستعمل القوى والجوارح في أثرها كل الأوقات { إلا ما رحم ربي } إلا وقت رحمة ربي أو إلا ما رحمه الله من النفوس فعصمه من ذلك وقيل الآية حكاية قول راعيل والمستثنى نفس يوسف وأضرابه وعن ابن كثير و نافع بالسو على قلب الهمزة واوا ثم الإدغام { إن ربي غفور رحيم } يغفر هم النفس ويرحم من يشاء بالعصمة أو يغفر للمستغفر لذنبه المعترف على نفسه ويرحمه ما استغفره و استرحمه مما ارتكبه

54 - { وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي } أجعله خالصا لنفسي { فلما كلمه } أي فلما أتوا به فكلمه وشاهد منه الرشد والدهاء { قال إنك اليوم لدينا مكين } ذو مكانة ومنزلة { أمين } مؤتمن على كل شيء روي أنه لما خرج من السجن اغتسل وتنظف ولبس ثيابا جددا فلما دخل على الملك قال : اللهم إني أسألك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرتك من شرره ثم سلم عليه ودعا له بالعبرية فقال الملك : ما هذا اللسان قال : لسان آبائي وكان الملك يعرف سبعين لسانا فكلمه بها فأجابه بجميعها فتعجب منه فقال : أحب أن أسمع رؤياي منك فحكاها ونعت له البقرات والسنابل وأماكنها على ما رآها فأجلسه على السرير وفوض إليه أمره وقيل توفي قطفير في تلك الليالي فنصبه منصبه وزوج منه راعيل فوجدها عذراء وولد له منها أفرائيم وميشا

55 - { قال اجعلني على خزائن الأرض } ولني أمرها والأرض أرض مصر { إني حفيظ } لها ممن لا يستحقها { عليم } بوجوه التصرف فيه ولعله عليه السلام لما رأى أنه يستعمله في أمره لا محالة آثر ما تعم فوائده تجل عوائده وفيه دليل على جواز طلب التولية وإظهار أنه مستعد لهها والتولي من يد الكافر إذا علم أنهه لا سبيل إلى إقامة الحق وسياسة الخلق إلا بالاستظهار به وعن مجاهد أن الملك أسلم على يده

56 - { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض } في أرض مصر { يتبوأ منها حيث يشاء } ينزل من بلادها حيث يهوى وقرأ ابن كثير نشاء بالنون { نصيب برحمتنا من نشاء } في الدنيا والآخرة ز { ولا نضيع أجر المحسنين } بل نوفي أجورهم عاجلا وآجلا

57 - { ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون } الشرك والفواحش لعظمه ودوامه

58 - { وجاء إخوة يوسف } روي : أنه لما استوزره الملك أقام العدل واجتهد في
تكثير الزراعات وضبط الغلات حتى دخلت السنون المجدبة وعم القحط مصر
والشام ونواحيهما وتوجه إليه الناس فباعها أولا بالدراهم والدنانير حتى لم
يبق معهم شيء منها ثم بالحلي والجواهر ثم الدواب هم بالضياع والعقار
ثم برقابهم حتى استرقهم جميعا ثم عرض الأمر على الملك فقال : الرأي أيك فأعتقهم
ورد عليهم أموالهم وكان فقد أصاب كنعان ما أصاب سائر البلاد فأرسل يعقوب بنيه
غير بنيامين إليه للميرة { فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون } أي عرفهم يوسف
ولم يعرفوه لطول العهد ومفارقتهم إياه في سن الحداثة ونسيانهم إياه وتوهمهم أنه
هلك وبعد حاله التي رأوه عليها من حاله حين فارقوه وقلة تأملهم في حلاه من
التهيب والاستعظام

59 - { ولما جهزهم بجهازهم } أصلحهم بعدتهم وأوقر ركائبهم بما جاؤوا لأجله والجهاز ما يعد من الأمتعة للنقلة كعدد السفر وما يحمل من بلدة إلى أخرى وما تزف به المرأة إلى زوجها وقرئ بجهازهم بالكسر { قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم } روي : أنهم لما دخلوا عليه فقال : من أنتم وما أمركم لعلكم عيون ؟ قالوا : معاذ الله إنما نحن بنو أب واحد وهو شيخ كبير صديق نبي من الأنبياء أسمه يعقوب قال كم أنتم ؟ فقالوا كنا اثني عشر فذهب أحدنا إلى البرية فهلك فقال : فمن يشهد لكم قالوا : لا يعرفنا أحد ها هنا فيشهد لنا فقال : فدعوا بعضكم عندي رهينة وائتوني بأخيكم من أبيكم حتى أصدقكم فاقترعوا فأصابت شمعون وقيل كان يوسف يعطي لكل نفر حملا فسألوه حملا زائدا لأخ لهم من أبيهم فأعطاهم وشرط عليهم أن يأتوه ليعلم صدقهم { ألا ترون أني أوفي الكيل } أتمه { وأنا خير المنزلين } للضيف والمضيفين لهم وكان أحسن إنزالهم وضيافتهم

60 - { فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون } أي ولا تقربوني ولا تدخلوا دياري وهو إما نهي أن نفي معطوف على الجزاء

61 - { قالوا سنراود عنه أباه } سنجتهد في طلبه من أبيه { وإنا لفاعلون } ذلك لا نتوانى فيه

62 - { وقال لفتيانه } لغلمانه الكيالين جمع فتى وقرأ حمزة و الكسائي و حفص لفتيانه على أنه جمع الكثرة ليوافق قوله : { اجعلوا بضاعتهم في رحالهم } فإنه وكل بكل رحل واحدا يعني فيه بضاعتهم التي شروا بها الطعام وكانت نعالا و أدما وإنما فعل ذلك توسيعا وتفضلا عليهم وترفعا من أن يأخذ ثمن الطعام منهم وخوفا من أن لا يكون عند أبيه ما يرجعون به { لعلهم يعرفونها } لعلهم يعرفون حق ردها أو لكي يعرفونها { إذا انقلبوا } انصرفوا ورجعوا { إلى أهلهم } وفتحوا أوعيتهم { لعلهم يرجعون } لعل معرفتهم ذلك تدعوهم إلى الرجوع

63 - { فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل } حكم بمنعه بعد هذا إن لم نذهب ببنيامين { فأرسل معنا أخانا نكتل } نرفع المانع من الكيل ونكتل ما نحتاج إليه وقرأ حمزة و الكسائي بالياء على إسناده إلى الأخ أي يكتل لنفسه فينضم اكتياله إلى اكتيالنا { وإنا له لحافظون } من أن يناله مكروه

64 - { قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل } وقد قلتم في يوسف : { وإنا له لحافظون } { فالله خير حافظا } فأتوكل عليه وأفوض أمري إليه وانتصاب حفظا على التمييز و { حافظا } على قراءة حمزة و الكسائي و حفص يحتمله والحال كقوله : لله دره فارسا { خير حافظ } وخير الحافظين { وهو أرحم الراحمين } فأرجو أن يرحمني بحفظه ولا يجمع على مصيبتين

65 - { ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم } وقرئ { ردت } بنقل كسرة الدال المدغمة إلى الراء نقلها في بيع وقيل { قالوا يا أبانا ما نبغي } ماذا نطلب هل من مزيد على ذلك أكرمنا وأحسن مثوانا وباع منا ورد علينا متاعنا أو لا نطلب ذلك إحسانا أو لا نبغي في القول ولا نزيد فيما حكينا لك من إحسانه وقرئ ما تبغي على الخطاب أي : أي شيء تطلب وراء هذا من الإحسان أو من الدليل على صدقنا ؟ { هذه بضاعتنا ردت إلينا } استئناف موضح لقوله { ما نبغي } { ونمير أهلنا } معطوف على محذوف أي ردت إلينا فنستظهر بها ونمير أهلنا بالرجوع إلى الملك { ونحفظ أخانا } عن المخاوف في ذهابنا وإيابنا { ونزداد كيل بعير } وسق بعير باستصحاب أخينا هذا إذا كانت { ما } استفهامية فأما إذا كانت نافية احتمل ذلك واحتمل أن تكون الجمل معطوفة على { ما نبغي } أي لا نبغي فيما نقول { ونمير أهلنا ونحفظ أخانا } { ذلك كيل يسير } أي مكيل قليل لا يكفينا استقلوا ماكيل لهم فأرادوا أن يضاعفوه بالرجوع إلى الملك ويزدادوا إليه ما يكال لأخيهم ويجوز أن تكون الإشارة إلى كيل بعير أي ذلك شيء قليل لا يضايقنا فيه الملك ولا يتعاظمه وقيل إنه من كلام يعقوب ومعناه إن حمل بعير شيء يسير لا يخاطر لمثله بالولد

66 - { قال لن أرسله معكم } إذ رأيت منكم ما رأيت { حتى تؤتون موثقا من الله } حتى تعطوني ما أتوثق به من عند الله أي عهدا مؤكدا بذكر الله { لتأتنني به } جواب القسم إذ المعنى حتى تحلفوا بالله لتأتنني به { إلا أن يحاط بكم } إلا أن تغلبوا فلا تطيقوا ذلك أو إلا أن تهلكوا جميعا وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال والتقدير : لتأتنني به على كل حال إلا حال الإحاطة بكم أو من أعم العلل على أن قوله لتأتنني به في تأويل النفي أي لا تمتنعون من للإتيان به إلا للإحاطة بكم كقولهم : أقسمت بالله إلا فعلت أي ما أطلب إلا فعلك { فلما آتوه موثقهم } عهدهم { قال الله على ما نقول } من طلب الموثق وإتيانه { وكيل } رقيب مطلع

67 - { وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة } لأنههم كانوا ذوي جمال وأبهة مشتهرين في مصر بالقربة والكرامة عند الملك فخاف عليهم أن يدخلوا كوكبة واحدة فيعانوا ولعله لم يوصهم ذلك في الكرة الأولى لأنهم كانوا مجهولين حينئذ أو كان الدعي إليها خوفه على بنيامين وللنفس آثار منها العين والذي بدل عليه قوله عليه الصلاة و السلام في عوذته [ اللهم إني أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة ] { وما أغني عنكم من الله من شيء } مما قضي عليكم بما أشرت به إليكم فإن الحذر لا يمنع القدر { إن الحكم إلا لله } يصيبكم لا محالة إن قضي عليكم سوء ولا ينفعكم ذلك { عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون } جمع بين الحرفين في عطف الجملة على الجملة لتقدم الصلة الاختصاص كأن الواو للعطف والفاء لإفادة التسبب فإن فعل الأنبياء سبب لأن يقتدى بهم

68 - { ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم } أي من أبواب متفرقة في البلد { ما كان يغني عنهم } رأي يعقوب واتباعهم له { من الله من شيء } مما قضاه عليهم كما قال يعقوب عليه السلام فسرقوا وأخذ بنيامين بوجدان الصواع في رحله وتضاعفت المصيبة على يعقوب { إلا حاجة في نفس يعقوب } استثناء منقطع أي ولكن حاجة في نفسه يعني شفقته عليهم وحرازته من أن يعانوا { قضاها } أظهرها ووصى بها { وإنه لذو علم لما علمناه } بالوحي ونصب الحجج ولذلك قال { وما أغني عنكم من الله من شيء } ولم يغتر بتدبيره { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } سر القدر وأنه لا يغني عنه الحذر

69 - { ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه } ضم إليه بنيامين على الطعام أو في المنزل روي : أنه أضافهم فأجلسهم مثنى مثنى فبقي بنيامين وحيدا فبكى وقال : لو كان يوسف حيا لجلس معي فأجلسه معه على مائدته ثم قال : لينزل كل اثنين منكم بيتا وهذا لا ثاني له فيكون معي فبات عنده وقال له : أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك قال : من يجد أخا مثلك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل فبكى يوسف وقام إليه وعانقه و { قال إني أنا أخوك فلا تبتئس } فلا تحزن افتعال من البؤس { بما كانوا يعملون } في حقنا فيما مضى

70 - { فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية } المشربة { في رحل أخيه } قيل كانت مشربة جعلت صاعا يكال به وقيل : كانت تسقى الدواب بها ويكال بها وكانت من فضة وقيل من ذهب وقرئ وجعل على حذف جواب فلما تقديره أمهلهم حتى انطلقوا { ثم أذن مؤذن } نادى مناد { أيتها العير إنكم لسارقون } لعله لم يقله بأمر يوسف عليه الصلاة و السلام أو كان تعبية السقاية والنداء عليها برضا بنيامين وقيل معناه إنكم لسارقون يوسف من أبيه أو أإنكم لسارقون والعير القافلة وهو اسم الإبل التي عليها الأحمال لأنها تعير أي تردد قيل لأصحابها كقوله عليه الصلاة و السلام [ يا خيل الله اركبي ] وقيل جمع عير وأصله فعل كسقف فعل به ما فعل ببيض تجوز به لقافلة الحمير ثم استعير لكل قافلة

71 - { قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون } أي شيء ضاع منكم والفقد غيبة الشيء عن الحس بحيث لا يعرف مكانه وقرئ { تفقدون } من أفقدته إذا وجدته فقيدا

72 - { قالوا نفقد صواع الملك } وقرئ صاع وصوع بالفتح والضم والعين والغين وصواغ من الصياغة { ولمن جاء به حمل بعير } من الطعام جعلا له { وأنا به زعيم } كفيل أؤديه إلى من رده وفيه دليل على جواز الجعلة ضمان الجعل قبل تمام العمل

73 - { قالوا تالله } قسم فيه معنى التعجب التاء بدل من الباء مختصة باسم الله تعالى : { لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين } استشهدوا بعلمهم على براءة أنفسهم لما عرفوا منهم في كرتي مجيئهم ومداخلتهم للملك مما يدل على فرط أمانتهم كرد البضاعة التي دخلت في رحالهم وكعم الدواب لئلا تتناول زرعا أو طعاما لأحد

74 - { قالوا فما جزاؤه } فما جزاء السارق أو السرق أو ال { صواع } على حذف المضاف { إن كنتم كاذبين } في ادعاء البراءة

75 - { قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه } أي جزاء سرقته أخذ من وجد في رحله واسترقاقه هكذا كان شرع يعقوب عليه الصلاة و السلام وقوله { فهو جزاؤه } تقرير للحكم وإلزام له أو خبر { من } والفاء لتضمنها معنى الشرط أو جواب لها على أنها شرطي والجملة كما هي خبر { جزاؤه } على إقامة الظاهر فيها مقام الضمير كأنه قيل : جزاؤه من وجد فيرحله فهو هو { كذلك نجزي الظالمين } بالسرقة

76 - { فبدأ بأوعيتهم } فبدأ المؤذن وقيل يوسف لأنهم ردوا إلى مصر { قبل وعاء أخيه } بنيامين نفيا للتهمة { ثم استخرجها } أي السقاية أو الصواع لأنه يذكر ويؤنث { من وعاء أخيه } وقرئ بضم الواو وبقلبها همزة { كذلك } مثل ذلك الكيد { كدنا ليوسف } بأن علمناه إياه وأوحينا به إليه { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك } ملك مصر لأن دينه الضرب وتغريم ضعف ما أخذ دون الاسترقاق وهو بيان للكيد { إلا أن يشاء الله } أن جعل ذلك الحكم حكم الملك فالاستثناء من أعم الأحوال ويجوز أن يكون منقطعا أي لكن أخذه بمشيئة الله تعالى وإذنه { نرفع درجات من نشاء } بالعلم كما رفعنا درجته { وفوق كل ذي علم عليم } أرفع درجة منه واحتج به من زعم أنه تعالى عالم بذاته إذ لو كان ذا علم لكان فوقه من هو أعلم منه والجواب أن المراد كل ذي علم من الخلق لأن الكلام فيهم ولأن العليم هو الله سبحانه وتعالى ومعناه الذي له العلم البالغ لغة ولأنه لا فرق بينه وبين قولنا فوق كل العلماء عليم وهو مخصوص

77 - { قالوا إن يسرق } بنيامين { فقد سرق أخ له من قبل } يعنون يوسف قيل ورثت عمته من أبيها منطقة إبراهيم عليه السلام وكانت تحضن يوسف وتحبه فلما شب أراد يعقوب انتزاعه منها فشدت المنطقة على وسطه ثم أظهرت ضياعها فتفحص عنها فوجدت محزومة عليه فصارت أحق به في حكمهم وقيل كان لأبي أمه صنم فسرقه وكسره وألقاه في الجيف وقيل كان في البيت عناق أو دجاجة فأعطاها السائل وقيل دخل كنيسة وأخذ تمثالا صغيرا من الذهب { فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم } أكنها ولم يظهرها لهم والضمير للإجابة أو المقالة أو نسبة السرقة إليه وقيل إنها كناية بشريطة التفسير يفسرها قوله : { قال أنتم شر مكانا } فإنه بدل من أسرها والمعنى قال في نفسه أنتم شر باعتبار الكلمة أو الجملة وفيه نظر إذ المفسر بالجملة لا يكون إلا ضمير الشأن { والله أعلم بما تصفون } وهو يعلم أن الأمر ليس كما تصفون

78 - { قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا } أي في السن أو القدر ذكروا له حاله استعطافا له عليه { فخذ أحدنا مكانه } بدله فإن أباه ثكلان على أخيه الهالك مستأنس به { إنا نراك من المحسنين } إلينا فأتمم إحسانك أومن المتعودين بالإحسان فلا تغير عاداتك

79 - { قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده } فإن أخذ غيره ظلم على فتواكم فلوا أخذنا أحدكم مكانه { إنا إذا لظالمون } في مذهبكم هذا وإن مراده إن الله أذن في أخذ من وجدنا الصاع في رحله لمصلحته ورضاه عليه فلو أخذت غيره كنت ظالما

80 - { فلما استيأسوا منه } يئسوا من يوسف وإجابته إياهم وزيادة السن والتاء للمبالغة { خلصوا } انفردوا واعتزلوا { نجيا } متناجين وإنما وحده لأنه مصدر أو بزنته كما قيل هم صديق وجمعه أنجية كندي وأندية { قال كبيرهم } في السن وهو روبيل أو في الرأي وهو شمعون وقيل يهوذا { ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله } عهدا وثيقا و أنما جعل حلفهم بالله موثقا منه لأنه بإذن منه وتأكيد من جهته { ومن قبل } ومن قبل هذا { ما فرطتم في يوسف } قصرتم في شأنه و { ما } مزيدة ويجوز أن تكون مصدرية في موضع النصب بالعطف على مفعول تعلموا ولا بأس بالفصل بين العاطف والمعطوف بالظرف أو على اسم { أن } وخبره في { يوسف } أو { من قبل } أو الرفع بالابتداء والخبر { من قبل } وفيه نظر لأن { قبل } إذا كان خبرا أو صلة لا يقطع عن الإضافة حتى لا ينقص وأن تكون موصولة أي : ما فرطتموه بمعنى ما قدمتموه في حقه من الجناية ومحله ما تقدم { فلن أبرح الأرض } فلن أفارق أرض مصر { حتى يأذن لي أبي } في الرجوع { أو يحكم الله لي } أو يقضي لي بالخروج منها أو بخلاص أخي منهم أو بالمقاتلة معهم لتخليصه روي : أنهم كلموا العزيز في إطلاقه فقال روبيل : أيها الملك والله لتتركنا أو لأصيحن صيحة تضع منها الحوامل ووقفت شعور جسده فخرجت من ثيابه فقال يوسف عليه السلام لابنه : قم إلى جنبه فمسه وكان بنو يعقوب عليه السلام إذا غضب أحدهم فمسه الآخر ذهب غضبه فقال روبيل من هذا إن في هذا البلد لبزرا من بزر يعقوب { وهو خير الحاكمين } لأن حكمه لا يكون إلا بالحق

81 - { ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق } على ما شاهدناه من ظاهر الأمر وقرئ { سرق } أي نشب إلى السرقة { وما شهدنا } عليه { إلا بما علمنا } بأن رأينا أن الصواع استخرج من وعائه { وما كنا للغيب } لباطن الحال { حافظين } فلا ندري أنه سرق الصواع في رحله أو وما كنا للعواقب عالمين فلم ندر حين أعطيناك الموثق أنه سيسرق أو أنكك تصاب به كما أصبت بيوسف

82 - { واسأل القرية التي كنا فيها } يعنونمصر أو قرية بقربها لحقهم المنادي فيها والمعنىأرسل إلى أهلها واسألهم عن القصة { والعير التي أقبلنا فيها } وأصحاب العير التي تودخنا فيهم وكنا معهم { وإنا لصادقون } بأكيد في محل الققسم

83 - { قال بل سولت } أي فلما رجعوا إلى أبيهم وقالوا له ما قال لهم أخوهم قال : { بل سولت } أي زينت وسهلت { لكم أنفسكم أمرا } أردتموه فقدرتموه وإلا فما أدرى الملك أن السارق يؤخذ بسرقته { فصبر جميل } أي فأمري صبر جميل أو فصبر جميل أجمل { عسى الله أن يأتيني بهم جميعا } بيوسف وبنيامين وأخيهما الذي توقف بمصر { إنه هو العليم } بحالي وحالهم { الحكيم } في تدبيرهما

84 - { وتولى عنهم } وأعرض عنهم كراهة لما صادف منهم { وقال يا أسفى على يوسف } أي يا أسفا تعال فهذا أوانك والأسف أشد الحزن والحسرة والألف بدل من ياء المتكلم وإنما تأسف على يوسف دون أخويه والحادث رزؤهما لأن رزأه كان قاعدة المصبيات وكان غضا آخذا بمجامع قلبه ولأنه كان واثقا بحياتهما دون حياته وفي الحديث : [ لم تعط أمة من الأمم { إنا لله وإنا إليه راجعون } عند المصيبة إلا أمة محمد صلى الله عليه و سلم ] ألا ترى إلى يعقوب عليه الصلاة و السلام حين أصابه ما أصابه لم يسترجع وقال { يا أسفى } { وابيضت عيناه من الحزن } لكثرة بكائه من الحزن كأن العبرة محقت سوادهما وقيل ضعف بصره وقيل عمي وقرئ { من الحزن } وفيه دليل على جواز التأسف والبكاء عند التفجع و لعل أمثال ذلك لا تدخل تحت التكليف فإنه قل من يملك نفسه عند الشدائد ولقد [ بكى رسول الله صلى الله عليه و سلم على ولده إبراهيم وقال : القلب يجزع والعين تدمع ولا نقول ما يسخط الرب وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون ] { فهو كظيم } مملوء من الغيظ على أولاده ممسك له في قلبه لا يظهره فعيل بمعنى مفعول كقوله تعالى : { وهو مكظوم } من كظم السقاء إذا شده على ملئه أو بمعنى فاعل كقوله : { والكاظمين الغيظ } من كظم الغيظ إذا اجترعه وأصله كظم البعير حرته إذا رجها في جوفه

85 - { قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف } أي لا تفتأ ولا تزال تذكره تفجعا عليه فحذف لا كما في قوله :
( فقلت يمين الله أبرح قاعدا )
لأنه لا يلتبس بالإثبات فإن القسم إذا لم يكن معه علامات الإثبات كان على النفي { حتى تكون حرضا } مريضا مشفيا على الهلاك وقيل الحرض الذي أذابه هم أو مرض وهو في الأصل مصدر ولذلك لا يؤنث ولا يجمع والنعت بالكسر كدنف ودنف وقد قرئ به وبضمتين كجنب { أو تكون من الهالكين } من الميتين

86 - { قال إنما أشكو بثي وحزني } همي الذي لا أقدر الصبر عليه من لبث بمعنى النشر { إلى الله } لا إلى أحد منكم ومن غيركم فخلوني و شكايتي { وأعلم من الله } من صنعه ورحمته فإنه لا يخيب داعيه ولا يدع الملتجئ إليه أن من الله بنوع من الإلهام { ما لا تعلمون } من حياة يوسف قيل رأى ملك الموت في المنام فسأله عنه فقال هو حي وقيل علم من رؤيا يوسف أنه لا يموت حتى يخر له إخوته سجدا

87 - { يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه } فتعرفوا منهما وتفحصوا عن حالهما والتحسس تطلب الإحساس { ولا تيأسوا من روح الله } ولا تقنطوا من فرجه وتنفيسه وقرئ { من روح الله } أي من رحمته التي يحيا بها العباد { إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } بالله وصفاته فإن العارف المؤمن لا يقنط من رحمته في شيء من الأحوال

88 - { فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز } بعدما رجعوا إلى مصر رجعة ثانية { مسنا وأهلنا الضر } شدةالجوع { وجئنا ببضاعة مزجاة } رديئة أو قليلة ترد وتدفع رغبة عنها من أزجيته إذا دفعته ومنه تزجية الزمان قيل كانت جراهم زيوفا وقيل صوفا وسمنا وقيل الصنوبروالحبةالخضراء وقيل الأقط وسويق المقل { فأوف لنا الكيل } فأتمم لنا الكيل { وتصدق علينا } برد أخينا أو بالمسامحة وقبول المزجاة أو بالزيادة على ما يساويها واختلف في أن حرمة الصدقة تعم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أو تختص بنبينا صلى الله عليه و سلم { إن الله يجزي المتصدقين } أحسن الجزاء والتصدق التفضل مطلقا ومنه قوله عليه الصلاة و السلام في القصر [ هذه صدقة الله تصدق بها عليكم فاقبلوا صدقته ] لكنه اختص عرفا بما يبتغي به ثواب من الله تعالى

89 - { قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه } أي هل علمتم قبحه فتبتم عنه وفعلهم بأخيه إفراده عن يوسف وإذلاله حتى لا يستطيع أن يكلمهم إلا بعجز و ذلة { إذ أنتم جاهلون } قبحه فلذلك أقدمتم عليه أو عاقبته وإنما قال ذلك تنصيحا لهم وتحريضا على التوبة وشفقة عليهم لما رأى من عجزهم وتمسكنهم لا معاتبة وتثريبا وقيل أعطوه كتاب يعقوب في تخليص بنيامين وذكروا له ما هو فيه من الحزن على فقد يوسف وأخيه فقال لهم ذلك وإنما جهلهم لأن فعلهم كان فعل الجهال أو لأنهم كانوا حينئذ صبيانا شياطين

90 - { قالوا أإنك لأنت يوسف } استفهام تقرير ولذلك حقق بأن ودخول اللام عليه وقرأ ابن كثير على الإيجاب قيل عرفوه بروائه وشمائله حين كلمهم به وقيل تبسم فعرفوه بثناياه وقيل رفع التاج عن رأسه فرأوا علامة بقرنه تشبه الشامة البيضاء وكانت لسارة ويعقوب مثلها { قال أنا يوسف وهذا أخي } من أبي وأمي ذكره تعريفا لنفسه به وتفخيما لشأنه وإدخالا له في قوله : { قد من الله علينا } أي بالسلامة والكرامة { إنه من يتق } أي يتق الله { ويصبر } على البليات أو على الطاعات وعن المعاصي { فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } وضع المحسنين موضع الضمير للتنبيه على أن المحسن من جمع بين التقوى والصبر

91 - { قالوا تالله لقد آثرك الله علينا } اختارك علينا بحسن الصورة وكمال السيرة { وإن كنا لخاطئين } والحال أن شأننا أنا كنا مذنبين بما فعلنا معك

92 - { قال لا تثريب عليكم } لا تأنيب علكم تفعيل من الثرب وهو الشحم الذي يغشى الكرش للإزالة كالتجليد فاستعير للتقريع الذي يمزق العرض ويذهب ماء الوجه { اليوم } متعلق بال { تثريب } أو بالمقدر للجار الواقع خبرا لل { لا تثريب } والمعنى لا أثر بكم اليوم الذي هو مظنته فما ظنكم بسائر الأيام أو بقوله : { يغفر الله لكم } لأنه صفح عن جريمتهم حينئذ واعترفوا بها { وهو أرحم الراحمين } فإنه يغفر الصغائر والكبائر ويتفضل على التائب ومن كرم يوسف عليه الصلاة و السلام أنهم لما عرفوه أرسلوا إليه وقالوا : إنك تدعونا بالبكرة و العشي إلى الطعام ونحن نستحي منك لما فرط منا فيك فقال إن أهل مصر كانوا ينظرون إلى بالعين الأولى ويقولون : سبحان من بلغ عبدا بيع بعشرين درهما ما بلغ ولقد شرفت بكم وعزمت في عيونهم حيث علموا أنكم اخوتي إني من حفدة إبراهيم عليه الصلاة و السلام

93 - { اذهبوا بقميصي هذا } القميص الذي كان عليه وقيل القميص المتوارث الذي كان في التعويذ { فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا } أي يرجع بصيرا أي ذا بصر { وأتوني } أنتم وأبي { بأهلكم أجمعين } بنسائكم و ذراريكم ومواليكم

94 - { ولما فصلت العير } من مصر وخرجت من عمرانها { قال أبوهم } لمن حضره { إني لأجد ريح يوسف } أوجده الله ريح ما عبق بقميصه من ريحه حين أقبل به إليه يهوذا من ثمانين فرسخا { لولا أن تفندون } تنسبوني إلى الفند وهو نقصان عقل يحدث من هرم ولذلك لا يقال عجوز مفندة لأن نقصان عقلها ذاتي وجواب { لولا } محذوف تقديره لصدقتموني أو لقلت إنه قريب

95 - { قالوا } أي الحاضرون { تالله إنك لفي ضلالك القديم } لفي ذهابك نعن الصواب قدما بالإفراط في محبة يوسف وإكثار ذكره والتوقع للقائه

96 - { فلما أن جاء البشير } يهوذا روي : أنه قال كما أحزنته بحمل قميصه الملطخ بالدم إليه فأفرحه بحمل هذا إليه { ألقاه على وجهه } طرح البشير القميص على وجه يعقوب عليه السلام أو يعقوب نفسه { فارتد بصيرا } عاد بصيرا لما انتعش فيه من القوة { قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون } من حياة يوسف عليه الصلاة و السلام وإنزال الفرح وقيل إني أعلم كلام مبتدأ والمقول { لا تيأسوا من روح الله } أو { إني لأجد ريح يوسف }

97 - { قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين } ومن حق المعترف بذنبه أن يصفح عنه ويسأله المغفرة

98 - { قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم } أخره إلى السحر أو إلى صلاة الليل أو إلى ليلة الجمعة تحريا لوقت الإجابة أو إلى أن يستحل لهم من يوسف أو يعلم أنه عفا عنهم فإن عفو المظلوم شرط المغفرة ويؤيده ما روي أنه استقبل القبلة قائما يدعو وقام يوسف خلفه يؤمن وقاموا خلفهما أذلة خاشعين حتى نزل جبريل وقال إن الله قد أجاب دعوتك في ولدك وعقد مواثيقهم بعدك على النبوة وهو إن صح فدليل على نبوتهم وأن ما صدر عنهم كان قبل استنبائهم

99 - { فلما دخلوا على يوسف } روي أنه وجه إليه رواحل وأموالا ليتجهز إليه بمن معه واستقبله يوسف والملك بأهل مصر وكان أولاده الذين دخلوا معه مصر اثنين وسبعين رجلا وامرأة وكانوا حين خرجوا مع موسى عليه الصلاة و السلام ستمائة ألف وخمسمائة وبضعة وسبعين رجلا سوى الذرية والهرمى { آوى إليه أبويه } ضم إليه أباه وخالته واعتنقهما نزلها منزلة الأم تنزيل العم منزلة الأب في قوله تعالى : { وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } أو لأن يعقوب عليه الصلاة و السلام تزوجها بعد أمه والرابة تدعى أما { وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين } من القحط وأصناف المكاره و المشئية متعلقة بالدخول المكيف بالأمن والدخول الأول كان في موضع خارج البلد حين استقبلهم

100 - { ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا } تحية تكرمة له فإن السجود كان عندهم يجري مجراها وقيل معناه خروا لأجله سجدا لله شكرا وقيل الضمير لله تعالى و الواو لأبويه وإخوته والرفع مؤخر عن الخرور وإن قدم لفظا للاهتمام بتعظيمه لهما { وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل } التي رأيتها أيام الصبا { قد جعلها ربي حقا } صدقا { وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن } ولم يذكر الجب لئلا يكون تثريبا عليهم { وجاء بكم من البدو } من البادي لأنهم كانوا أصحاب المواشي وأهل البدو { من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي } أفسد بيننا وحرش من نزغ الرائض الدابة إذا نخسها وحملها على الجري { إن ربي لطيف لما يشاء } لطيف التدبير له إذا ما من صعب إلا وتنفذ فيه مشيئته و يتسهل دونها { إنه هو العليم } بوجود المصالح والتدابير { الحكيم } الذي يفعل كل شيء في وقته وعلى وجه يقتضي الحكمة روي : أن يوسف طاف بأبيه عليهما الصلاة والسلام خزائنه فلما ادخله خزانة القراطيس قال : يا بني ما أعقك عندك هذه القراطيس وما كتبت إلي على ثمان مراحل قال : أمرني جبريل عليه السلام قال : أو ما تسأله قال : أنت أبسط مني إليه فاسأله فقال : جبريل : الله أمرني بذلك لقولك : { وأخاف أن يأكله الذئب } قال فهلا خفتني

101 - { رب قد آتيتني من الملك } بعض الملك وهو ملك مصر { وعلمتني من تأويل الأحاديث } الكتب أو الرؤيا ومن أيضا للتبعيض لأنه لم يؤت كل التأويل { فاطر السموات والأرض } مبدعهما وانتصابه على أنه صفة المنادى أو منادى برأسه { أنت وليي } ناصري ومتولي أمري { في الدنيا والآخرة } أو الذي يتولاني بالنعمة فيهما { توفني مسلما } اقبضي { وألحقني بالصالحين } من آبائي أو بعامة الصالحين في الرتبة والكرامة روي أن يعقوب عليه السلام أقام معه أربعا وعشرين سنة ثم توفي وأوصى أن يدفن بالشام إلى جنب أبيه فذهب به ودفنه ثم عاد وعاش بعده ثلاثا وعشرين سنة ثم تاقت نفسه إلى الملك المخلد فتمنى الموت فتوفاه الله طيبا طاهرا فتخاصم أهل مصر في مدفنه حتى هموا بالقتال فرأوا أن يجعلوه في صندوق من مرمر ويدفنوه في النيل بحيث يمر عليه الماء ثم يصل إلى مصر ليكونوا شرعا فيه ثم نقله موسى عليه الصلاة و السلام إلى مدفن آبائه وكان عمره مائة وعشرين سنة وقد ولد له من راعيل افرثيم وميشا وهو جد يوشع بن نون ورحمة أيوب عليه الصلاة و السلام

102 - { ذلك } إشارة إلى ما ذكر من نبأ يوسف عليه الصلاة و السلام والخطاب فيه للرسول صلى الله عليه و سلم وهو مبتدأ { من أنباء الغيب نوحيه إليك } خبران له { وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون } كالدليل عليهما والمعنى : أن هذا النبأ غيب لم تعرفه إلا بالوحي لأنك لم تحضر إخوة يوسف حين عزموا على ما هموا به من أن يجعلوه في غيابة الجب وهم يمكرون به وبأبيه ليرسله معهم ومن المعلوم الذي لا يخفى على مكذبيك أنك ما لقيت أحدا سمع ذلك فتعلمته منه وإنما حذف هذا الشق استغناء بذكره في غير هذه القصة كقوله : { ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا }

103 - { وما أكثر الناس ولو حرصت } على إيمانهم وبالغت في إظهار الآيات عليهم { بمؤمنين } لعنادهم وتصميمهم على الكفر

104 - { وما تسألهم عليه } على الإنباء أو القرآن { من أجر } من جعل كما يفعله حملة الأخبار { إن هو إلا ذكر } عظة من الله تعالى { للعالمين } عامة

105 - { و كأين من آية } وكم من آية والمعنى وكأي عدد شئت من الدلائل الدالة على وجود الصانع وحكمته وكما لقدرته وتوحيده { في السموات والأرض يمرون عليها } على الآيات ويشاهدونها { وهم عنها معرضون } لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها وقرئ { والأرض } بالرفع على أنه مبتدأ خبره { يمرون } فيكون لها الضمير في { عليها } وبالنصب على و يطؤون الأرض وقرئ والأرض يمشون عليها أي يترددون فيها فيرون آثار الأمم الهالكة

106 - { وما يؤمن أكثرهم بالله } في إقرارهم بوجوده و خالقيته { إلا وهم مشركون } بعبادة غيره أو باتخاذ الأحبار أربابا ونسبة التبني إليه تعالى أو القول بالنور والظلمة أو النظر إلى الأسباب ونحو ذلك وقيل الآية في مشركي مكة وقيل في المنافقين وقيل في أهل الكتاب

107 - { أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله } عقوبة تغشاهم وتشملهم { أو تأتيهم الساعة بغتة } فجأة من غير سابقة علامة { وهم لا يشعرون } بإتيانها غير مستعدين لها

108 - { قل هذه سبيلي } يعني الدعوة إلى التوحيد والإعداد للمعاد ولذلك فسر السبيل بقوله : { أدعو إلى الله } وقيل هو حال من الياء { على بصيرة } بيان وحجة واضحة غير عمياء { أنا } تأكيد للمستتر في { ادعو } أو { على بصيرة } لأنه حال منه أو مبتدأ خبره { على بصيرة } { ومن اتبعني } عطف عليه { وسبحان الله وما أنا من المشركين } وأنزهه تنزيها من الشركاء

سورة الرعد
109 - نوحي إليهم } كما يوحي إليك ويميزون بذلك عن غيرهم وقرأ حفص نوحي في كل القرآن ووافقه حمزة و الكسائي في سورة الأنبياء { من أهل القرى } لأن أهلها أعلم وأحلم من أهل البدو { أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } من المكذبين بالرسل والآيات فيحذروا تكذيبك أو من المشغوفين بالدنيا المتهالكين عليها فيقلعوا عن حبها { ولدار الآخرة } ولدار الحال أو الساعة أو الحياة الآخرة { خير للذين اتقوا } الشرك والمعاصي { أفلا تعقلون } يستعملون عقولهم ليعرفوا أنها خير وقرأ نافع و ابن عامر و عاصم و يعقوب بالتاء حملا على قوله : { قل هذه سبيلي } أي قل لهم أفلا تعقلون

110 - { حتى إذا استيأس الرسل } غاية محذوف دل عليه الكلام أي لا يغررهم تمادي أيامهم فإن من قبلهم أمهلوا حتى أيس الرسل عن النصر عليهم في الدنيا أو عن إيمانهم لانهماكهم في الكفر مترفهين متمادين فيه من غير وازع { وظنوا أنهم قد كذبوا } أي كذبتم أنفسهم حين حدثتهم بأنهم ينصرون أو كذبهم القوم بوعد الإيمان وقيل الضمير للمرسل إليهم أي وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم بالدعوة والوعيد وقيل الأول للمرسل إليهم والثاني للرسل أو وظنوا أن الرسل قد كذبوا وأخلفوا فيما وعد لهم من النصر وخلط الأمر عليهم وما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أن الرسل ظنوا أنهم أخلفوا ما وعدهم الله من النصر إن صح فقد أراد بالظن ما يهجس في القلب على طريق الوسوسة هذا وأن المراد به المبالغة في التراخي والإمهال على سبيل التمثيل وقرأ غير الكوفيين بالتشديد أي وظن الرسل أن القوم قد كذبوهم فيما أوعدوهم وقرئ { كذبوا } بالتخفيف وبناء الفاعل أي وظنوا أنهم قد كذبوا فيما حدثوا به عند قومهم لما تراخى عنهم ولم يروا له أثرا { جاءهم نصرنا فنجي من نشاء } النبي والمؤمنون إنما لم يعينهم للدلالة على أنهم الذين يستأهلون أن يشاء نجاتهم لا يشاركهم فيه غيرهم وقرأ
ابن عامر و عاصم و يعقوب على لفظ الماضي المبني للمفعول وقرئ فنجا { ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين } إذا نزل بهم وفيه بيان للمشيئين

111 - { لقد كان في قصصهم } في قصص الأنبياء وأممهم أو في قصة يوسف وإخوته { عبرة لأولي الألباب } لذوي العقول - المبرأة من شوائب الإلف والركون إلى الحس { ما كان حديثا يفترى } ما كان القرآن حديثا يفترى { ولكن تصديق الذي بين يديه } من الكتب الإلهية { وتفصيل كل شيء } يحتاج إليه في الدين إذ ما من أمر ديني إلا وله سند من القرآن بوسط أو بغير وسط { وهدى } من الضلال { ورحمة } ينال بها خير الدارين { لقوم يؤمنون } يصدقونه [ وعن النبي صلى الله عليه و سلم علموا أرقاءكم سورة يوسف فإنه أيما مسلم تلاها وعلمها أهله وما ملكت يمينه هون الله عليه سكرات الموت وأعطاه القوة أن لا يحسد مسلما ]

وقيل مكية إلا قوله : { ويقول الذين كفروا } الآيةوهي ثلاث وأربعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
1 - { المر } قيل معناه أنا الله أعلم وأرى { تلك آيات الكتاب } يعني بالكتاب السورة و { تلك } إشارة إلى آياتها أي : تلك الآيات آيات السورة الكاملة أو القرآن { والذي أنزل إليك من ربك } هو القرآن كله ومحله الجر بالعطف على { الكتاب } عطف العام على الخاص أو إحدى الصفتين على الأخرى أو الرفع بالإبتداء أو خبره { بالحق } والجملة كالحجة على الجملة الأولى وتعريف الخبر وإن دل على اختصاص المنزل بكونه حقا فهو أعم من المنزل صريحا أو ضمنا كالمثبت بالقياس وغيره مما نطق المنزل بحسن اتباعه { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } لإخلالهم بالنظر والتأمل فيه

2 - { الله الذي رفع السموات } مبتدأ وخبر ويجوز أن يكون الموصول صفة والخبر { يدبر الأمر } { بغير عمد } أساطين جمع عماد كإهاب وأهب أو عمود كأديم وأدم وقرئ { عمد } كرسل { ترونها } صفة ل { عمد } أو استئناف للاستشهاد برؤيتهم السموات كذلك وهو دليل على وجود الصانع الحكيم فإن ارتفاعها على سائر الأجسام السماوية لها في حقيقة الجرمية واختصاصها بما يقتضي ذلك لا بد وأن يكون بمخصص ليس بجسم ولا جسماني يرجح بعض الممكنات على بعض بإرادته وعلى هذا المنهاج سائر ما ذكر من الآيات { ثم استوى على العرش } بالحفظ والتدبير { وسخر الشمس والقمر } ذللهما لما أراد منهما كالحركة المستمرة على حد من السرعة ينفع في حدوث الكائنات وبقائها { كل يجري لأجل مسمى } لمدة معنية يتم فيها أدواره أو الغاية مضروبة ينقطع دونها سيرة وهي { إذا الشمس كورت * وإذا النجوم انكدرت } { يدبر الأمر } أمر ملكوته من الإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة وغير ذلك { يفصل الآيات } ينزلها ويبينها مفصلة أو يحدث الدلائل واحدا بعد واحد { لعلكم بلقاء ربكم توقنون } لكي تتفكروا فيها وتتحققوا كمال قدرته فتعلموا أن من قدر على خلق هذه الأشياء وتدبيرها قدر على الإعادة والجزاء

3 - { وهو الذي مد الأرض } بسطها طولا وعرضا لتثبت عليها أقدام وينقلب عليها الحيوان { وجعل فيها رواسي } جبالا ثوابت من رسا الشيء إذا ثبت جمع راسية والتاء للتأنيث على أنها صفة أجبل أو للمبالغة { وأنهارا } ضمها إلى الجبال وعلق بهما فعلا واحدا من حيث إن الجبال أسباب لتولدها { ومن كل الثمرات } متعلق بقوله : { جعل فيها زوجين اثنين } أي وجعل فيها من جميع أنواع الثمرات صنفين أثنين كالحلو والحامض والأسود والأبيض والصغير والكبير { يغشي الليل النهار } يلبسه مكانه فيصير الجو مظلما بعدما كان مضيئا وقرأ حمزة و الكسائي و أبو بكر يغشي بالتشديد { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } فيها فإن تكونها وتخصصها بوجه دون وجه دليل على وجود صانع حكيم دبر أمرها وهيأ أسبابها

4 - { وفي الأرض قطع متجاورات } بعضها طيبة وبعضها سبخة وبعضها رخوة وبعضها صلبة وبعضها يصلح للزرع دون الشجر وبعضها بالعكس ولولا تخصيص قادر موقع لأفعاله على وجهه دون وجه لم تكن كذلك لاشتراك تلك القطع في الطبيعة الأرضية وما يلزمها وعرض لهها بتوسط ما يعرض من الأسباب السماوية من حيث أنها متضامة متشاركة في النسب والأوضاع { وجنات من أعناب وزرع ونخيل } وبساتين فيها أنواع الأشجار الزروع وتوحيد الزرع لأنه مصدر في أصله وقرأ ابن كثير و أبو عمرو و يعقوب و حفص { وزرع ونخيل } بالرفع عطفا على { وجنات } { صنوان } نخلات أصلها واحد { وغير صنوان } متفرقات مختلفات الأصول وقرأ حفص بالضم وهو لغة بني تميم كـ { قنوان } في جمع قنو { يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل } في التمر شكلا وقدرا ورائحة وطعما وذلك أيضا مما يدل على الصانع الحكيم فإن اختلافها مع اتحاد الأصول والأسباب لا يكنون إلا بتخصيص قادر مختار وقرأ ابن عامر و عاصم و يعقوب يسقى بالتذكير على تأويل ما ذكر و حمزة و الكسائي بفضل الياء ليطابق قوله { يدبر الأمر } { إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } يستعملون عقولهم بالتفكر

5 - { وإن تعجب } يا محمد من إنكارهم البعث { فعجب قولهم } حقيق بأن يتعجب منه فإن من قدر على إنشاء ما قص عليك كانت الإعادة أيسر شيء عليه والآيات المعدودة كما هي دالة على وجود المبدأ فهي دالة على إمكان الإعادة من حيث إنها تدل على كمال علمه وقدرته وقبول المواد لأنواع تصرفاته { أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد } بدل من قولهم أو مفعول له والعامل في إذا محذوف دل عليه : { أإنا لفي خلق جديد } { أولئك الذين كفروا بربهم } لأنهم كفروا بقدرته على البعث { وأولئك الأغلال في أعناقهم } مقيدون بالضلال لا يرجى خلاصهم أو يغلون يوم القيامة { وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } لا ينفكون عنها وتوسيط الفصل لتخصيص الخلود بالكفار

6 - { ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة } بالعقوبة قبل العافية وذلك لأنهم استعجلوا ما هددوا به من عذاب الدنيا استهزاء { وقد خلت من قبلهم المثلات } عقوبات أمثالهم من المكذبين فمالهم لم يعتبروا بها ولم يجوزوا حلول مثلها عليهم والمثلة بفتح الثاء وضمها كالصدقة والصدقة والعقوبة لأنها مثل المعاقب عليه ومنه المثال للقصاص وأمثلت الرجل من صاحبه إذا اقتصصته منه وقرئ { المثلات } بالتخفيف و { المثلات } باتباع الفاء العين و { المثلات } بالتخفيف بعد الاتباع و { المثلات } بفتح الثاء على أنها جمع مثلة كركبة وركبات { وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم } مع ظلمهم أنفسهم ومحله النصب على الحال والعامل فيه المغفرة والتقييد به دليل على جواز العفو قبل التوبة فإن التائب ليس على ظلمه ومن منع ذلك خص الظلم بالصغائر المكفرة لمجتنب الكبائر أو أول المغفرة بالستر والإمهال { وإن ربك لشديد العقاب } للكفار أو لمن شاء وعن النبي صلى الله عليه و سلم [ لولا عفو الله وتجاوزه لما هنأ أحد العيش ولولا وعيده وعقابه لا تكل كل أحد ]

7 - { ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه } لعدم اعتدادهم بالآيات المنزلة عليه واقتراحا لنحو ما أوتي موسى وعيسى عليهما السلام { إنما أنت منذر } مرسل للإنذار كغيرك من الرسل وما عليك إلا الإتيان بما تصح به نبوتك من جنس المعجزات لا بما يقترح عليك { ولكل قوم هاد } نبي مخصوص بمعجزات من جنس ما هو الغالب عليهم يهديهم إلى الحق ويدعوهم إلى الصواب أو قادر على هدايتهم وهو الله تعالى لكن لا يهدي إلا من يشاء هدايته بما ينزل عليك من الآيات ثم أردف ذلك بما يدل على كمال علمه وقدرته وشمول قضائه وقدره تنبيها على أنه تعالى قادر على إنزال ما اقترحوه وإنما لم ينزل لعلمه بأن اقتراحهم للعناد دون الاسترشاد وأنه قادر على هدايتهم وإنما لم يهدهم لسبق قضائه بالكفر فقال :

8 - { الله يعلم ما تحمل كل أنثى } أي حملها أو ما تحمله على أي حال هو من الأحوال الحاضرة والمترقبة { وما تغيض الأرحام وما تزداد } وما تنقصه وما تزد اده في الجنة والمدة والعدد وأقصى مدة الحمل أربع سنين عندنا وخمس عند مالك وسنتان عند أبي حنيفة روي الضحاك ولد لسنتين هرم بن حيان لأربع سنين وأعلى عدده لا حد له وقيل نهاية ما عرف به أربعة وإليه ذهب أبو حنيفة رضي الله عنه وقال الشافعي رحمه الله أخبرني شيخ باليمن أن امرأته ولدت بطونا في كل بطن خمسة وقيل المراد نقصان دم الحيض وازدياده وغاض جاء متعديا ولازما وكذا ازداد قال تعالى : { وازدادوا تسعا } فإن جعلتهما لازمين تعين إما أن تكون مصدرية وإسنادهما إلى الأرحام على المجاز فإنهما لله تعالى أولما فيها { وكل شيء عنده بمقدار } بقدر لا يجاوزه ولا ينقص عنه كقوله تعالى : { إنا كل شيء خلقناه بقدر } فإنه تعالى خص كل حادث بوقت وحال معينين وهيأ له أسبابا مسوفة إليه تقتضي ذلك وقرأ ابن كثير { هاد } و { وال } و { واق } { وما عند الله باق } بالتنوين في الوصل فإذا وقف وقف بالياء في هذه الأحرف الأربعة حيث وقعت لا غير والباقون يصلون ويقفون بغير ياء

9 - { عالم الغيب } الغائب عن الحس { والشهادة } الحاضر له { الكبير } العظيم الشأن الذي لا يخرج عن عمله شيء { المتعال } المستعلي على كل شيء بقدرته او الذي كبر عن نعت المخلوقين وتعالى عنه

10 - { سواء منكم من أسر القول } في نفسه { ومن جهر به } لغيره { ومن هو مستخف بالليل } طالب للخفاء في مختبأ بالليل { وسارب } بارز { بالنهار } يراه كل أحد من سرب سروبا إذا برز وهو عطف على من أو مستخف على أن من في معنى الاثنين كقوله :
( نكن مثل من يا ذئب يصطحبان )
قال سواء منكم اثنان مستخف بالليل و سارب بالنهار والأية متصلة بما قبلها مقررة لكمال علمه وشموله

11 - { له } لمن أسر أو جهر أو استخفى أو سرب { معقبات } ملائكة تعتقب في حفظه جمع معقبة من عقبه مبالغة عقبه إذا جاء على عقبه كأن بعضهم يعقب بعضا أو لأنههم يعقبون أقواله وأفعاله فيكتبونها أو اعتقب فأدغمت التاء في القاف والتاء للمبالغة أو لأن المراد بالمعقبات جماعات وقرئ معاقيب جمع معقب أو معقبة على تعويض الياء من حذف إحدى القافين { من بين يديه ومن خلفه } من جوانبه أو من الأعمال ما قدم وأخر { يحفظونه من أمر الله } من بأسه متى أذنب بالاستمهال أو الاستغفار له أو يحفظونه من المضار أو يراقبون أحوال من أجل أمر الله تعالى وقد قرئ به وقيل من بمعنى الباء وقيل من أمر الله صفة ثانية ل { معقبات } وقيل المعقبات الحرس والجلاوزة حول السلطان يحفظونه في توهمه من قضاء الله تعالى { إن الله لا يغير ما بقوم } من العافية والنعمة { حتى يغيروا ما بأنفسهم } من الأحوال الجملية بالأحوال القبيحة { وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له } فلا راد له فالعامل في { إذا } ما دل عليه الجواب { وما لهم من دونه من وال } ممن يلي آمرهم فيدفع عنهم السوء وفيه دليل على أن خلاف مراد الله تعالى محال

12 - { هو الذي يريكم البرق خوفا } من أذاه { وطمعا } في الغيث وانتصابهما على العلة بتقدير المضاف أي إرادة خوف وطمع أو التأويل بالإخافة والإطماع أو الحال من { البرق } أو المخاطبين على إضمار ذو أو إطلاق المصدر بمعنى المفعول أو الفاعل للمبالغة وقيل يخاف المطر من يضره ويطمع فيه من ينفعه { وينشئ السحاب } الغيم المنسحب في الهواء { الثقال } وهو جمع ثقيلة وإنما وصف به السحاب لأنه اسم جنس في معنى الجمع

13 - { ويسبح الرعد } ويسبح سامعوه { بحمده } ملتبسين به فيضجون بسبحان الله و الحمد لله او يدل الرعد بنفسه على وحدانية الله وكمال قدرته ملتبسا به بالدلالة على فضله ونزول رحمته وعن ابن عباس رضي الله عنهما [ سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن الرعد فقال : ملك موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب ] { والملائكة من خيفته } من خوف الله تعالى وإجلاله وقيل الضمير ل { الرعد } { ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء } فيهلكه { وهم يجادلون في الله } حيث يكذبون رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما يصفه به من كمال العم والقدرة والتفرد بالألوهية وإعادة الناس ومجازاتهم والجدال التشدد في الخصومة من الجدل وهو الفتل والواو إما لعطف الجملة على الجملة أو للحال فإنه [ روي أن عامر بن الطفيل واربد بن ربيعة أخا لبيد وفدا على رسول الله صلى الله عليه و سلم قاصدين لقتله فأخذه عامر بالمجادلة ودار أربد من خلفه ليضربه بالسيف فتنبه له رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال : اللهم اكفنيهما بما شئت فأرسل الله على أربد صاعقة فقتلته ورمى عامرا بغدة فمات في بيت سلولية وكان يقول غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية فنزلت ] { وهو شديد المحال } المماحلة المكايدة لأعدائه من محل فلان بفلان إذا كايده وعرضه للهلاك ومنه تمحل إذا تكلف استعمال الحيلة ولعل أصله المحل بمعنى القحط وقيل فعال من المحل بمعنى القوة وقيل مفعل من الحول أو الحيلة أعل على غير قياس ويعضده أنه قرئ بفتح الميم على أنه مفعل من حال يحول إذا احتال ويجوز أن يكون بمعنى الفقار فيكون مثلا في القوة والقدرة كقولهم : فساعد الله أشد وموساه أحد

14 - { له دعوة الحق } الدعاء الحق فإنه الذي يحق أن يعبد ويدعى إلى عبادته دون غيره أو له الدعوة المجابة فإن من دعاه أجابه ويؤيده ما بعده و { الحق } على الوجهين ما يناقض الباطل وإضافة ال { دعوة } إليه لما بينهما من الملابسة أو على تأويل دعوة المدعو الحق وقيل { الحق } هو الله تعالى وكل دعاء إليه دعوة الحق والمراد بالجملتين إن كانت الآية في أربد وعامر أن إهلاكهما من حيث لم يشعرا به محال من الله إجابة لدعوة رسوله صلى الله عليه و سلم أو دلالة على أنه على الحق وإن كانت عامة فالمراد وعيد الكفرة على مجادلة رسول الله صلى الله عليه و سلم بحلول محاله بهم وتهديدهم بإجابة دعاء الرسول صلى الله عليه و سلم عليهم أو بيان ضلالهم فساد رأيهم { والذين يدعون } أي الأصنام الذين يدعوهم المشركون فحذف الراجع أو والمشركون الذين يدعون الأصنام فحذف المفعول لدلالة { من دونه } عليه { لا يستجيبون لهم بشيء } من الطلبات { إلا كباسط كفيه } إلا استجابة كاستجابة من بسط كفيه { إلى الماء ليبلغ فاه } يطلب منه أن يبلغه { وما هو ببالغه } لأنه جماد لا يشعر بدعائه ولا يقدر على إجابته والإتيان بغير ما جبل عليه وكذلك آلهتهم وقيل شبهوا في قلة جدوى دعائهم لها بمن أراد أن يغترف الماء ليشربه فبسط كفيه ليشربه وقرئ تدعون بالتاء وباسط بالتنوين { وما دعاء الكافرين إلا في ضلال } في ضياع وخسارة وباطل

15 - { ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها } يحتمل أن يكون السجود على حقيقته فإنه يسجد له الملائكة والمؤمنون من الثقلين طوعا حالتي الشدة والرخاء والكفرة كرها حال الشدة والضرورة { وظلالهم } بالعرض وأن يردا به انقيادهم لإحداث ما أراده منهم شاؤوا أو كرهوا وانقياد ظلالهم لتصريفه إياها بالمد والتقليص وانتصاب { طوعا وكرها } بالحال أو العلة وقوله : { بالغدو والآصال } ظرف ل { يسجد } والمراد بهما الدوام أو حال من الظلال تخصيص الوقتين لأن الظلال إنما تعظم وتكثر فيهما والغدو جمع غداة كقنى جمع قناة و { الآصال } جمع أصيل وهو ما بين العصر والمغرب وقيل العدو مصدر ويؤيده أنه قد قرئ والإيصال وهو الدخول في الأصيل

16 - { قل من رب السموات والأرض } خالقهما ومتولي أمررهما { قل الله } أجب عنهم بذلك إذا لا جواب لهم سواه ولأنه البين الذي لا يمكن المراء فيه أو لقنهم الجواب به { قل أفاتخذتم من دونه } ثم ألزمهم بذلك لأن اتخاذهم منكر بعيد عن مقتضى العقل { أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا } لا يقدرون على أن يجلبوا إليها نفعا أو يدفعوا عنها ضررا فكيف يستطيعون إنفاع الغير ودفع الضر عنه وهو دليل ثان على ضلالهم وفساد رأيهم في اتخاذهم أولياء رجاء أن يشفعوا لهم { قل هل يستوي الأعمى والبصير } المشرك الجاهل بحقيقة العبادة والموجب لها والموحد العالم بذلك وقيل المعبود الغافل عنكم والمعبود المطلع على أحوالكم { أم هل تستوي الظلمات والنور } الشرك والتوحيد وقرأ حمزة و الكسائي و أبو بكر بالياء { أم جعلوا لله شركاء } بل أجعلوا والهمزة للإنكار وقوله : { خلقوا كخلقه } صفة لشركاء داخلة في حكم الإنكار { فتشابه الخلق عليهم } خلق الله وخلقهم والمعنى أنهم ما اتخذوا لله شركاء خالقين مثله حتى يتشابه عليهم الخلق فيقولوا هؤلاء خلقوا كما خلق الله فاستحقوا العبادة كما استحقها ولكنهم اتخذوا شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق فضلا عما يقدر عليه الخالق { قل الله خالق كل شيء } أي لا خالق غيره فيشركه في العبادة جعل الخلق موج العبادة ولازم استحقاقها ثم نفاه عمن سواه ليدل على قوله : { وهو الواحد } المتوحد بالألوهية { القهار } الغالب على كل شيء

17 - { أنزل من السماء ماء } من السحاب أو من جانب السماء أو من السماء نفسها فإن المبادئ منها { فسالت أودية } أنهار جمع واد وهو الموضع الذي يسيل الماء فيه بكثرة فاتسع فيه واستعمل للماء الجاري فيه و تنكيرها لأن المطر يأتي على تناوب بين البقاع { بقدرها } بمقدارها الذي علم الله تعالى أنه نافع غير ضار أو بمقدارها في الصغر والكبر { فاحتمل السيل زبدا } رفعه والزبد وضر الغليان { رابيا } عاليا { ومما يوقدون عليه في النار } يعم الفلزات كالذهب والفضة والحديد والنحاس على وجه التهاون بها إظهارا لكبريائه { ابتغاء حلية } أي طلب حلى { أو متاع } كالأواني وآلات الحرب والحرث والمقصود من ذلك بيان منافعها { زبد مثله } أي ومما يوقدون عليه زبد مثل زبد الماء وهو خبثه و { من } للابتداء أو للتبعيض وقرأ حمزة و الكسائي و حفص بالياء على أن الضمير للناس وإضماره للعمل به { كذلك يضرب الله الحق والباطل } مثل الحق والباطل فإنه مثل الحق في إفادته وثباته بالماء الذي ينزل من السماء فتسيل به الأودية على قدر الحاجة والمصلحة فينتفع به أنواع المنافع ويمكث في الأرض بأن يثبت بعضه في منافعه ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون والقنى ولآبار وبالفلز الذي ينتفع به في صوغ الحلى واتخاذ الأمتعة المختلفة ويدوم ذلك مدة متطاولة والباطل في قلة نفعه وسرعة زواله بزبدهما وبين ذلك بقوله : { فأما الزبد فيذهب جفاء } يجفأ به أي يرمي به السيل والفلز المذاب وانتصابه على الحال وقرئ جفالا والمعنى واحد { وأما ما ينفع الناس } كالماء وخلاصة الفلز { فيمكث في الأرض } ينتفع به أهالها { كذلك يضرب الله الأمثال } لإيضاح المشتبهات

18 - { للذين استجابوا } للمؤمنين الذين استجابوا { لربهم الحسنى } الاستجابة الحسنى { والذين لم يستجيبوا له } وهم الكفرة واللام متعلقة بضرب على أنه جعل ضرب المثل لشأن الفريقين ضرب المثل لهما وقيل للذين استجابوا خبر الحسنى وهي المثوبة أو الجنة والذين لم يستجيبوا مبتدأ حبره { لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به } وهو على الأول كلام مبتدأ لبيان مآل غير المستجيبين { أولئك لهم سوء الحساب } وهو المناقشة فيه بأن يحاسب الرجل بذنبه لا يغفر منه شيء { ومأواهم } مرجعهم { جهنم وبئس المهاد } المستقر والمخصوص بالذم محذوف

19 - { أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق } فيستجيب { كمن هو أعمى } عمى القلب لا يستبصر فيستجيب والهمزة لإنكار أن تقع شبهة في تشابهها بعدما ضرب من المثل { إنما يتذكر أولو الألباب } ذوو العقول المبرأة عن مشايعة الألف ومعارضة الوهم

20 - { الذين يوفون بعهد الله } ما عقدوه على أنفسهم من الاعتراف بربوبيته حين قالوا بلى أو ما عهد الله تعالى عليهم في كتبه { ولا ينقضون الميثاق } ما وثقوه من المواثيق بينهم وبين الله تعالى وبين العباد وهو تعميم بعد تخصيص

21 - { والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل } من الرحم وموالاة المؤمنين والإيمان بجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ويندرج في ذلك مراعاة جميع حقوق الناس { ويخشون ربهم } وعيده عموما { ويخافون سوء الحساب } خصوصا فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا

22 - { والذين صبروا } على ما تكرهه النفس ويحالفه الهوى { ابتغاء وجه ربهم } طلبا لرضاه لا لجزاء وسمعة ونحوهما { وأقاموا الصلاة } المفروضة { وأنفقوا مما رزقناهم } بعضه الذي وجب عليهم إنفاقه { سرا } لمن لم يعرف بالمال { وعلانية } لمن عرف به { ويدرؤون بالحسنة السيئة } ويدفعوها بها فيجازون الإساءة بالإحسان أو يكون مآل أهلها وهي الجنة والجملة خبر الموصولات إن رفعت بالابتداء وإن جعلت صفات لأولي الألباب فاستئناف بذكر ما استوجبوا بتلك الصفات

23 - { جنات عدن } بدل من { عقبى الدار } أو مبتدأ خبر { يدخلونها } والعدن الإقامة أي جنات يقيمون فيها وقيل هو بطنان الجنة { ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم } عطف على المرفوع في يدخلون وإنما ساغ للفصل بالضمير الآخر أو مفعول معه والمعنى أنه يلحق بهم من صلح من أهلهم وإن لم يبلغ مبلغ فضلهم تبعا لهم وتعظيما لشأنهم وهو دليل على أن الدرجة تعلو بالشفاعة أو أن الموصوفين بتلك الصفات يقرن بعضهم ببعض لما بينهم من القرابة والوصلة في دخول الجنة زيادة في أنسهم وفي التقييد
بالصلاح دلالة على أن مجرد الأنساب لا تنفع { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب } من أبواب المنازل أو من أبواب الفتوح والتحف قائلين :

24 - { سلام عليكم } بشرة بدوام السلامة { بما صبرتم } متعلق ب { عليكم } أو بمحذوف أي هذا بما صبرتم لا ب { سلام } فإن الخبر فاصل والباء للسببية أو للبدلية { فنعم عقبى الدار } وقرئ { فنعم } بفتح النون والأصل نعم فسكن العين بنقل كسرتها إلى الفاء وبغيره

25 - { والذين ينقضون عهد الله } يعني مقابلي الأولين { من بعد ميثاقه } من بعد ما أوثقوه به من الإقرار والقبول { ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض } بالظلم وتهييج الفتن { أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار } عذاب جهنم أو سوء عاقبة الدنيا لأنه في مقابلة { عقبى الدار }

26 - { الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } يوسعه ويضيقه { وفرحوا } أي أهل مكة { بالحياة الدنيا } بما بسط لهم في الدنيا { وما الحياة الدنيا في الآخرة } أي فيجنب الآخرة { إلا متاع } إلا متعة لا تدوم كعجالة الركب وزاد الراعي والمعنى أنهم أشروا بما نالوا من الدنيا ولم يصرفوه فيما يستوجبون به نعيم الآخرة واغتروا بما هو في جنبه نزر قليل النفع سريع الزوال

27 - { ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء } باقتراح الآيات بعد ظهور المعجزات { ويهدي إليه من أناب } أقبل إلى الحق ورجع عن العناد وهو جواب يجري مجرى التعجب من قولهم كأنه قال قل لهم ما أعظم عنادكم إن الله يضل من يشاء ممن كان على صفتكم فلا سبيل إلى اهتدائهم وإن أنزلت كل آية ويهدي إليه من أناب بما جئت به بل بأدنى منه من الآيات

28 - { الذين آمنوا } بدل { من } أو خبر مبتدأ محذوف { وتطمئن قلوبهم بذكر الله } أنسا به واعتمادا عليه ورجاء منه أو بذكر رحمته بعد القلق من خشيته أو بذكر دلائله الدالة على وجوده ووحدانيته أو بكلامه يعني القرآن الذي هو أقوى المعجزات { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } تسكن إليه

29 - { الذين آمنوا وعملوا الصالحات } مبتدأ خبره { طوبى لهم } وهو فعلى من الطيب قلبت ياؤه واوا لضمة ما قبلها مصدر لطاب كبشرى وزلفى ويجوز فيه الرفع والنصب ولذلك قرئ { وحسن مآب } بالنصب

30 - { كذلك } مثل ذلك يعني إرسال قبلك { أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها } تقدمتها { أمم } أرسلوا إليهم فليس ببدع إرسالك إليهم { لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك } لتقرأ عليهم الكتاب الذي أوحيناه إليك { وهم يكفرون بالرحمن } وحالهم أنههم يكفرون بالبليغ الرحمة الذي أحاطت بهم نعمته ووسعت كل شيء رحمته فلم يشكروا نعمه وخصوصا ما أنعم عليهم بإرسالك إليهم وإنزال القرآن الذي هو مناط المنافع الدينية والدنيوية عليهم وقيل نزلت في مشركي أهل مكة حين قيل هلم { اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن } { قل هو ربي } أي الرحمن خالقي ومتولي أمري { لا إله إلا هو } لا مستحق للعبادة سواه { عليه توكلت } في نصرتي عليكم { وإليه متاب } مرجعي ومرجعكم

31 - { ولو أن قرآنا سيرت به الجبال } شرط حذف جوابه والمراد منه تعظيم شأن القرآن أو المبالغة في عناد الكفرة وتصميمهم أي : ولو أن كتابا زعزعت به الجبال عن مقارها { أو قطعت به الأرض } تصدعت من خشية الله عند قراءته أو شققت فجعلت أنهارا وعيونا { أو كلم به الموتى } فتسمع فتقرؤه أو فتسمع وتجيب عند قراءته لكان هذا القرآن لأنه الغاية في الإعجاز والنهاية في التذكير والإنذار أو لما آمنوا به كقوله : { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة } الآية وقيل إن قريشا قالوا يا محمد إن سرك أن نتبعك فسير بقرآنك الجبال عن مكة حتى تتسع لنا فنتخذ فيها بساتين وقطائع أو سخر لنابه الريح لنركبها ونتجر إلى الشام أو ابعث لنا به قصي بن كلاب وغيره من آبائنا ليكلمونا فيك فنزلت وعلى هذا فتقطيع الأرض قطعها بالسير وقيل الجواب مقدم وهو قوله : { وهم يكفرون بالرحمن } وما بينهما اعتراض تذكير { كلم } خاصة لاشتمال الموتى على المذكر الحقيقي { بل لله الأمر جميعا } بل لله القدرة على كل شيء وهو إضراب عما تضمنته { لو } من معنى النفي أي : بل الله قادر على الإتيان بما اقترحوه من الآيات إلا أن إرادته لم تتعلق بدلك لعلمه بأنه لا تلين له شكيمتهم ويؤيد ذلك قوله : { أفلم ييأس الذين آمنوا } عن إيمانهم مع ما رأوا من أحوالهم وذهب أكثرهم إلى أن معناه أفلم يعلم لما روي أن عليا وابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين قرؤوا أفلم يتبين وهو تفسيره وإنما استعمل اليأس بمعنى العلم لأنه مسبب عن العلم فإن الميئوس عنه لا يكون إلا معلوما ولذلك علقه بقوله : { أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا } فإن معناه نفى هدى بعض الناس لعدم تعلق المشيئة باهتدائهم وهو على الأول متعلق بمحذوف تقديره أفلم ييأس الذين أمنوا عن إيمانهم علما منهم أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا أو { آمنوا } { ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا } من الكفر وسوء الأعمال { قارعة } داهية تقرعهم وتقلقهم { أو تحل قريبا من دارهم } فيفزعون منها ويتطاير إليهم شررها وقيل الآية في كفار مكة فإنهم لا يزالون مصابين بما صنعوا برسول الله صلى الله عليه و سلم إنه عليه الصلاة و السلام كان لا يزال يبعث السرايا عليهم فتغير حواليهم وتختطف مواشيهم وعلى هذا يجوز أن يكون تحل خطابا للرسول عليه الصلاة و السلام فإنه حل بجيشه قريبا من دراهم عام الحديبية { حتى يأتي وعد الله } الموت أو القيامة أو فتح مكة { إن الله لا يخلف الميعاد } لامتناع الكذب في كلامه

32 - { ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا } تسلية لرسول الله صلى الله عليه و سلم ووعيد للمستهزئين به والمقترحين عليه والإملاء أن يترك ملاوة من الزمان فيدعو وأمن { ثم أخذتهم فكيف كان عقاب } أي عقابي إياهم

33 - { أفمن هو قائم على كل نفس } رقيب عليها { بما كسبت } من خير أو شر لا يخفى عليه شيء من أعمالهم ولا يفوت عنده شيء من جزائهم والخبر محذوف تقديره كمن ليس كذلك { وجعلوا لله شركاء } استئناف أو عطف على { كسبت } إن جعلت ما مصدرية أو لم يوحدوه وجعلوا عطف عليه ويكون الظاهر فيه موضع الضمير للتنبيه على أنه المستحق للعبادة وقوله : { قل سموهم } تنبيه على أن هؤلاء الشركاء لا يستحقونها والمعنى صفوهم فانظروا هل لهم ما يستحقون به العبادة ويستأهلون الشركة { أم تنبئونه } بل أتنبئونه وقرئ تنبئونه بالتخفيف { بما لا يعلم في الأرض } بشركاء يستحقون العبادة لا يعلمهم أو بصفات لهم يستحقونها لأجلها لا يعلمها وهو العالم بكل شيء { أم بظاهر من القول } أم تسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير حقيقة واعتبار معنى كتسمية الزنجي كافورا وهذا احتجاج بليغ على أسلوب عجيب ينادي على نفسه بالإعجاز { بل زين للذين كفروا مكرهم } تمويههم فتخيلوا أباطيل ثم خالوها حقا أو كيدهم لإسلام بشركهم { وصدوا عن السبيل } سبيل الحق وقرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو و ابن عامر { وصدوا } بالفتح أي وصدوا الناس عن الإيمان وقرئ بالكسر وصد بالتنوين { ومن يضلل الله } يخذله { فما له من هاد } يوفقه للهدى

34 - { لهم عذاب في الحياة الدنيا } بالقتل والأسر وسائر ما يصيبهم من المصائب { ولعذاب الآخرة أشق } لشدته ودوامه { وما لهم من الله } من عذابه أو من رحمته { من واق } حافظ

35 - { مثل الجنة التي وعد المتقون } صفتها التي هي مثل في الغرابة وهو مبتدأ خبر محذوف عند سيبويه أي فيما قصصنا عليكم مثل الجنة وقيل خبره { تجري من تحتها الأنهار } على طريقة قولك صفة زيد أسمر أو على حذف موصوف أي مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار أو على زيادة المثل وهو على قول سيبويه حال من العائد أو المحذوف أو من الصلة { أكلها دائم } لا ينقطع ثمرها { وظلها } أي وظلها وكذلك لا ينسخ في الدنيا بالشمس { تلك } أي الجنة الموصوفة { عقبى الذين اتقوا } مآلهم ومنتهى أمرهم { وعقبى الكافرين النار } لا غير وفي ترتيب النظمين إطماع للمتقين وإقناط للكافرين

36 - { والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك } يعني المسلمين من أهل الكتاب كابن سلام وأصحابه ومن آمن من النصارى وهم ثمانون رجلا أربعون بنجران وثمانية باليمن واثنان وثلاثون بالحبشة أو عامتهم فإنهم كانوا يفرحون بما يوافق كتبهم { ومن الأحزاب } يعني كفرتهم الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه و سلم بالعداوة ككعب بم الأشرف وأصحابه والسيد والعاقب وأشياعهما { من ينكر بعضه } وهو ما يخالف شرائعهم أو ما يوافق ما حرفوه منها { قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به } جواب المنكرين أي قل لهم إن أمرت فيما أنزل إلى بأن أعبد الله وأوحده وهو العمدة في الدين ولا سبيل لكم إلى إنكاره وأما ما تنكرونه لما يخالف شرائعكم فليس ببدع مخالفة الشرائع والكتب الإلهية في جزئيات الأحكام وقرئ { ولا أشرك } بالرفع على الاستئناف { إليه أدعو } لا إلى غيره { وإليه مآب } وإليه مرجعي للجزاء لا إلى غيره و هذا هو القدر المتفق عليه بين الأنبياء وأما ماعدا ذلك من التفاريع فمما يختلف بالأعصار والأمم فلا معنى لإنكاركم المخالفة فيه

37 - { وكذلك } ومثل ذلك الإنزال المشتمل على أصول الديانات المجمع عليها { أنزلناه حكما } يحكم في القضايا والوقائع بما تقتضيه الحكمة { عربيا } مترجما بلسان العرب ليسهل لهم فهمه وحفظه وانتصابه على الحال { ولئن اتبعت أهواءهم } التي يدعونك إليها كتقرب دينهم والصلاة إلى قبلتهم بعدما حولت عنها { بعد ما جاءك من العلم } بنسخ ذلك { ما لك من الله من ولي ولا واق } ينصرك ويمنع العقاب عنك وهو حسم لأطماعهم وتهييج للمؤمنين على الثبات في دينهم

38 - { ولقد أرسلنا رسلا من قبلك } بشرا مثلك { وجعلنا لهم أزواجا وذرية } نساء وأولادا كما هي لك { وما كان لرسول } وما يصح له ولم يكن في وسعه { أن يأتي بآية } تقترح عليه وحكم يلتمس منه { إلا بإذن الله } فإنه المليء بذلك { لكل أجل كتاب } لكل وقت وأمد حكم يكتب على العباد على لا ما يقتضيه استصلاحهم

39 - { يمحو الله ما يشاء } ينسخ ما يستصوب نسخه { ويثبت } ما تقتضيه حكمته وقيل يمحو سيئات التائب ويثبت الحسنات مكانها وقيل يمحو من كتاب الحفظة ما لا يتعلق به جزاء ويترك غيره مثبتا ما رآه وحده في صميم قلبه وقيل يمحو قرنا ويثبت آخرين وقيل يمحو الفاسدات ويثبت الكائنات وقرأ نافع و ابن عامر و حمزة و الكسائي ويثبت بالتشديد { وعنده أم الكتاب } أصل الكتاب وهو اللوح المحفوظ إذ ما من كائن إلا وهو مكتوب فيه

40 - { وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك } وكيفما دارت الحال أريناك بعض ما أوعدناهم أو توفيناك قبله { فإنما عليك البلاغ } لا غير { وعلينا الحساب } للمجازاة لا عليك فلا تحتفل بإعراضهم ولا تستعجل بعذابهم فإنا فاعلون له وهذا طلائعه

سورة إبراهيم
41 - ة { ننقصها من أطرافها } بما نفتحه على المسلمين منها { والله يحكم لا معقب لحكمه } لا راد له وحقيقته الذي يعقب الشيء بالإبطال ومنه قيل لصاحب الحق معقب لأنهه يقفو غريمه بالاقتضاء والمعنى أنه حكم للإسلام بالإقبال وعلى الكفر بالإدبار وذلك كائن لا يمكن تغييره ومحل { لا } مع المنفي النصب على الحال أي يحكم نافذا حكمه { وهو سريع الحساب } فيحاسبهم عما قليل في الآخرة بعدما عذبهم بالقتل والإجلاء في الدنيا

42 - { وقد مكر الذين من قبلهم } بأنبيائهم والمؤمنين به منهم { فلله المكر جميعا } إذ لا يؤبه بمكر دون مكره فإنه القادر على ما هو المقصود منه دون غيره { يعلم ما تكسب كل نفس } فيعد جزاءها { وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار } من الحزبين حيثما يأتيهم العذاب المعد لهم وهم في غفلة منه وهذا كالتفسير لمكر الله تعالى بهم واللام تدل على أن المراد بالعقبى العاقبة المحمودة مع ما في الإضافة إلى الدار كما عرفت وقرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو والكافر على إرادة الجنس وقرئ الكافرون والذين كفروا والكفر أي أهله وسيعلم من أعلمه إذا أخبره

43 - { ويقول الذين كفروا لست مرسلا } قيل المراد بهم رؤساء اليهود { قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم } فإنه أظهر من الأدلة على رسالتي ما يغني عن شاهد يشهد عليها { ومن عنده علم الكتاب } علم القرآن وما ألف عليه من النظم المعجز أو علم التوراة وهو ابن سلام وأضرابه أو علم اللوح المحفوظ وهو الله تعالى أي كفى بالذي يستحق العبادة والذي لا يعلم ما في اللوح المحفوظ إلا هو شهيدا بيننا فيخزي الكاذب منا ويؤيده قراءة من قرأ { ومن عنده } بالكسر و { علم الكتاب } وعلى الأول مرتفع بالظرف فإنه معتمد على الموصول ويجوز أن يكون مبتدأ والظرف خبره وهو متعين على الثاني وقرئ { ومن عنده علم الكتاب } على الحرف والبناء للمفعول [ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم من قرأ سورة الرعد أعطي من الأحر عشر حسنات بوزن كل سحاب مضى وكل سحاب يكون إلى يوم القيامة وبعث يوم القيامة من الموفين بعهد الله ]

وهي آياتها اثنتان وخمسون أية
بسم الله الرحمن الرحيم
1 - { الر كتاب } أي هو كتاب { أنزلناه إليك لتخرج الناس } بدعائك إياهم إلى ما تضمنه { من الظلمات } من أنواع الضلال { إلى النور } إلى الهدى { بإذن ربهم } بتوفيقه وتسهيله مستعار من الاذن الذي هو تسهيل الحجاب وهو صلى { لتخرج } أوحال من فاعله أو مفعوله { إلى صراط العزيز الحميد } بدل من قوله : { إلى النور } بتكرير العامل أو استئناف على أنه جواب لمن يسأل عنه وإضافة الصراط إلى الله تعالى إما لأنه مقصده أو المظهر له وتخصيص الوصفين للتنبيه على أنه لا يذل سالكه ولا يخيب سابله

2 - { الله الذي له ما في السموات وما في الأرض } على قراءة نافع و ابن عامر مبتدأ وخبر أو { الله } خبر مبتدأ محذوف والذي صفته وعلى قراءة الباقين عطف بيان ل { العزيز } لأنه كالعلم لاختصاصه بالمعبود على الحق { وويل للكافرين من عذاب شديد } وعيد لمن كفر بالكتاب ولم يخرج به من الظلمات إلى النور والويل نقيض الوأل وهو النجاة وأصله النصب لأنه مصدر إلا أنه لم يشتق منه فعل لكنه رفع لإفادة الثبات

3 - { الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة } يختارونها عليها فإن المختار للشيء يطلب من نفسه أن يكون أحب إليها من غيره { ويصدون عن سبيل الله } بتعويق الناس عن الإيمان وقرئ { ويصدون } من أصده وهو منقول من صد صدودا إذا تنكب وليس فصيحا لأن في صده مندوحة عن تكلف التعدية بالهمزة { ويبغونها عوجا } ويبغون لها زيغا ونكوبا عن الحق ليقدحوا فيه فحذف الجار وأوصل الفعل إلى الضمير والموصول بصلته يحتمل الجر صفة الكافرين والنصب على الذم والرفع عليه أو على أنه مبتدأ خبره { أولئك في ضلال بعيد } أي ضلوا عن الحق ووقعوا عنه بمراحل والبعد في الحقيقة للضال فوصف به فعله للمبالغة أو لأمر الذي به الضلال فوصف به لملابسته

4 - { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } إلا بلغة قومه الذي هو منهم وبعث فيهم { ليبين لهم } ما أمروا به فيفقهوه عنه بيسر وسرعة ثم ينقلوه ويترجموه إلى غيرهم فإنهم أولى الناس إليه بأن يدعوهم وأحق بأن ينذرهم ولذلك أمر النبي صلى الله عليه و سلم بإنذار عشيرته أولاولو نزل على من بعث إلى أمم مختلفة كتب على ألسنتهم استقل ذلك بنوع من الإعجاز لكن أدى إلى اختلاف الكلمة وإضاعة فضل الاجتهاد في تعلم الألفاظ ومعانيها والعلوم المتشبعة منها وما في أتعاب القرائح وكد النفوس من القرب المقتضية لجزيل الثواب وقرئ بلسن وهو لغة فيه كريش ورياش ولسن بضمتين وضمة وسكون على الجمع كعمد وعمد وقيل الضمير في قومه لمحمد صلى الله عليه و سلم وأن الله تعالى أنزل الكتب كلها بالعربية ثم ترجمها جبريل عليه السلام أو كل نبي بلغة المنزل عليهم وذلك ليس بصحيح يرده قوله { ليبين لهم } فإنه ضمير القوم والتوراة والإنجيل ونحوهما لم تنزل لتبين للعرب { فيضل الله من يشاء } فيخذله عن الإيمان { ويهدي من يشاء } بالتوفيق له { وهو العزيز } فلا يغلب على مشيئته { الحكيم } الذي لا يضل ولا يهدي إلا لحكمه

5 - { ولقد أرسلنا موسى بآياتنا } يعني اليد والعصا وسائر معجزاته { أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور } بمعنى أن أخرج لأن في الإرسال معنى القول أو بأن أخرج فإن صيغ الأفعال سواء في الدلالة على المصدر فيصح أن توصل بها أن الناصبة { وذكرهم بأيام الله } بوقائعه التي وقعت على الأمم الدارجة وأنام العرب حروبها وقيل بنعمائه وبلائه { إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور } يصبر على بلائه ويشكر على نعمائه فإنه إذا سمع بما أنزل على من قبل من البلاء وأفيض عليهم من النعماء اعتبر و تنبه لما يجب عليه من الصبر والشكر وقيل المراد لكل مؤمن وإنما عبر عنه بذلك تنبيها على أن الصبر والشكر عنوان المؤمن

6 - { وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون } أي اذكروا نعمته عليكم وقت إنجائه إياكم ويجوز أن ينتصب ب { عليكم } إن جعلت مستقرة غير صلة للنعمة وذلك إذا أريد به العطية دون الأنعام ويجوز أن يكون بدلا من { نعمة الله } بدل الاشتمال { يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم } أحوال من آل فرعون أومن ضمير المخاطبين والمراد بالعذاب ها هنا غير المراد به في سورة البقرة والأعراف لأنه مفسر بالتذبيح والقتل ثمة ومعطوف عليه التذبيح ها هنا وهو إما جنس العذاب أو استعبادهم أو استعمالهم بالأعمال الشاقة { وفي ذلكم } من حيث إنه بإقدار الله إياهم وإمهالهم فيه { بلاء من ربكم عظيم } ابتلاء منه ويجوز أن تكون الإشارة إلى الإنجاء والمراد بالبلاء النعمة

7 - { وإذ تأذن ربكم } أيضا من كلام موسى صلى الله عليه و سلم و { تأذن } بمعنى آذن كتوعد وأوعد غير أنها أبلغ لما في التفعل من معنى التكلف والمبالغة { لئن شكرتم } يا بني إسرائيل ما أنعمت عليكم من الإنجاء وغيره بالإيمان والعمل الصالح { لأزيدنكم } نعمة إلى نعمة { ولئن كفرتم } ما أنعمت عليكم { إن عذابي لشديد } فلعلي أعذبكم على الكفران عذابا شديدا ومن عادة أكرم الأكرمين أن يصرح بالوعد ويعرض بالوعيد الجملة مقول قول مقدر أو مفعول { تأذن } على أنه جار مجرى قال لأنه ضرب منه

8 - { وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا } من الثقلين { فإن الله لغني } عن شكركم { حميد } مستحق للحمد في ذاته محمود تحمده الملائكة وتنطق بنعمته ذرات المخلوقات فما ضررتم بالكفر إلا أنفسكم حيث حرمتموها مزيد الأنعام وعرضتموها للعذاب الشديد

9 - { ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود } من كلام موسى
عليه الصلاة و السلام أو كلام مبتدأ من الله { والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله } جملة وقعت اعتراضا او الذين من بعدهم عطف على ما قبله
ولا يعلمهم اعتراض والمعنى أنهم لكثرتهم لا يعلم عددهم إلا الله
ولذلك قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه كذب النسابون { جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم } فعضوها غيظا مما جاءت
به الرسل عليهم الصلاة والسلام كقوله تعالى : { عضوا عليكم الأنامل من الغيظ } أو وضعوها عليها تعجبا منه أو استهزاء عليه كمن غلبه
الضحك أو إسكاتا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام أمرا لهم بطباق
الأفواه أو أشاروا بها إلى ألسنتهم وما نطقت به من قولهم : { إنا كفرنا } تنبيها على أن لا جواب لهم سواه أو ردوها في أفواه الأنبياء يمنعونهم
من التكلم وعلى هذا يحتمل أن يكون تمثيلا وقيل الأيدي بمعنى
الأيادي أي ردوا أيادي الأنبياء التي هي مواعظهم وما أوحي إليهم
من الحكم والشرائع في أفواههم لأنهم إذا كذبوها ولم يقبلوها فكأنما
ردوها إلى حيث جاءت منع { وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به } على زعمكم { وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه } من الإيمان وقرئ تدعونا بالإدغام { مريب } موقع في الريبة أو ذي ريبة وهي قلق النفس وان لا تطمئن إلى الشي

10 - { قالت رسلهم أفي الله شك } أدخلت همزة الإنكار على الظرف لأن
الكلام في لمشكوك فيه لا في الشك أي إنما ندعوكم إلى الله وهو لا
يحتمل الشك لكثرة الأدلة وظهور دلالتها عليه وأشاروا إلى ذلك
بقولهم { فاطر السموات والأرض } وهو صفة أو بدل و { شك } مرتفع
لظرف { يدعوكم } إلى الإيمان ببعثه إيانا { ليغفر لكم } أو يدعوكم إلى المغفرة
كقولك : دعوته لينصرني على إقامة المفعول له مقام المفعول به { من ذنوبكم } بعض ذنوبكم وهو ما بينكم وبينه تعالى فإن الإسلام يجبه دون
المظالم وقيل جيء بمن في خطاب الكفرة دون المؤمنين في جميع القرآن
تفرقة بين الخطابين ولعل المعنى فيه أن المغفرة حيث جاءت في خطاب
الكفار مرتبة على الإيمان وحيث جاءت في خطاب المؤمنين مشفوعة
بالطاعة والتجنب عن المعاصي ونحو ذلك فتتناول الخروج عن المظالم { ويؤخركم إلى أجل مسمى } إلى وقت سماه الله تعالى وجعله آخر أعماركم
{ قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا } لا فضل لكم علينا فلم تخصون بالنبوة
دوننا ولو شاء الله أن يبعث إلى البشر رسلا لبعث من جنس أفضل
{ تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا } بهذه الدعوى { فأتونا بسلطان مبين } يدل على فضلكم واستحقاقكم لهذه المزية أو على صحة
ادعائكم النبوة كأنهم لم يعتبروا ما جاءوا به من البينات والحجج واقترحوا
عليهم آية أخرى تعنتا ولجاجا

11 - { قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده } سلموا مشاركتهم في الجنس وجعلوا الموجب لاختصاصهم بالنبوة فضل الله ومنه عليهم وفيه دليل على أن النبوة عطائية وان ترجيح بعض الجائزات على بعض بمشيئة الله تعالى { وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله } أي ليس إلينا الإتيان بالآيات ولا تستبدل به استطاعتنا حتى نأتي بما اقترحتموه وإنما هو أمر يتعلق بمشيئة الله تعالى فيخص كل نبي بنوع من الآيات { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } فلنتوكل عليه في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم عمموا الأمر للأشعار بما يوجب التوكل وقصدوا به أنفسهم قصدا أوليا ألا ترى قوله تعالى :

12 - { وما لنا أن لا نتوكل على الله } أي : أي عذر لنا في أن لا نتوكل عليه { وقد هدانا سبلنا } التي بها نعرفه ونعلم أن الأمور كلها بيده وقرأ أبو عمرو بالتخفيف هاهنا وفي العنكبوت { ولنصبرن على ما آذيتمونا } جواب قسم محذوف أردوا به توكلهم وعدم مبالاتهم بما يجري من الكفار عليهم { وعلى الله فليتوكل المتوكلون } فليثبت المتوكلون على ما استحدثوه من توكلهم المسبب عن إيمانهم

13 - { وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا } حلفوا على أن يكون أحد الأمرين إما إخراجهم للرسل أو عودهم إلى ملتهم وهو بمعنى الصيرورة لأنهم لم يكونوا على ملتهم قط ويجوز أن يكون الخطاب لكل رسول ومن آمن معه فغلبوا الجماعة على الواحد { فأوحى إليهم ربهم } أي إلى رسلهم { لنهلكن الظالمين } على إضمار القول أو إجراء الإيحاء مجراه لأنه نوع منه

14 - { ولنسكننكم الأرض من بعدهم } أي أرضهم و ديارهم كقوله تعلى : { وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها } وقرئ ليهلكن وليسكننكم بالياء اعتبارا لأوحى كقولك : أقسم زيد ليخرجن { ذلك } إشارة إلى الموحى به وهو إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين { لمن خاف مقامي } موقفي وهو الموقف الذي يقيم فيه العباد للحكومة يوم القيامة أو قيامي عليه وحفظي لا عمله وقيل المقام مقحم { وخاف وعيد } أي وعيدي بالعذاب أو عذابي الموعود للكفار

15 - { واستفتحوا } سألوا من الله الفتح على أعدائهم أو القضاء بينهم وبين أعدائهم من الفتاحة كقوله : { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق } وهو معطوف على { فأوحى } والضمير للأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقيل للكفرة وقيل للفريقين فإن كلهم سألوه أن ينصر المحق ويهلك المبطل وقرئ بالفظ الأمر عطفا على ليهلكن { وخاب كل جبار عنيد } أي ففتح لهم فأفلح المؤمنون وخاب كل جبار عات متكبر على الله معاند للحق فلم يفلح ومعنى الخيبة إذا كان الاستفتاح من الكفرة أو من القبيلين كان أوقع

16 - { من ورائه جهنم } أي من بين يديه فإنه مرصد بها واقف على شفيرها في الدنيا مبعوث إليها في الآخرة وقيل من وراء حياته وحقيقته ما توارى عنك { ويسقى من ماء } عطف على محذوف تقديره من ورائه جهنم يلقى فيها ما يلقى { ويسقى من ماء } { صديد } عطف بيان ل { ماء } وهو ما يسيل من جلود أهل النار

17 - { يتجرعه } يتكلف جرعه وهو صفة لماء أو حال من الضمير في { يسقى } { ولا يكاد يسيغه } ولا يقارب أن يسيغه فكيف يسيغه بل يغص به فيطول عذابه والسوغ جواز الشراب على الحلق بسهولة وقبول نفس { ويأتيه الموت من كل مكان } أي أسبابه من الشدائد فتحيط به من جميع الجهات وقيل من كل مكان من جسده حتى من أصول شعره وإبهام رجله { وما هو بميت } فيستريح { ومن ورائه } ومن بين يديه { عذاب غليظ } أي يستقبل في كل وقت عذابا أشد مما هو عليه وقيل هو الخلود في النار وقيل حبس الأنفاس وقيل الآية منقطعة عن قصة الرسل نازلة في أهل مكة طلبوا الفتح الذي هو المطر في سنيهم التي أرسل الله تعالى عليهم بدعوة رسوله فخيب رجاءهم فلم يسقهم ووعد لهم أن يسقيهم في جهنم بدل سقياهم صديد أهل النار

18 - { مثل الذين كفروا بربهم } مبتدأ خبره محذوف أي فيما يتلى عليكم صفتهم التي هي مثل في الغرابة أو قوله { أعمالهم كرماد } وهو على الأول جملة مستأنفة لبيان مثلهم وقيل { أعمالهم } بدل من ال { مثل } الخبر { كرماد } { اشتدت به الريح } حملته وأسرعت الذهاب به وقرأ نافع الرياح { في يوم عاصف } العصف اشتداد الريح وصف به زمانه للمبالغة كقولهم : نهاره صائم وليله قائم شبه صنائعهم من الصدقة وصلة الرحم وإغاثة الملهوف وعتق الرقاب ونحو ذلك من مكارمهم في حبوطها وذهابها هباء منثورا لبنائها على غير اساس من معرفة الله تعالى والتوجه بها إليه أو أعمالهم للأصنام برماد طيرته الريح العاصف { لا يقدرون } يوم القيامة { مما كسبوا } من أعمالهم { على شيء } لحبوطه فلا يرون له أثرا من الثواب وهو فذلكة التمثيل { ذلك } إشارة إلى ضلالهم مع حسبانهم أنهم محسنون { هو الضلال البعيد } فإنه الغاية في البعد عن طريق الحق

19 - { ألم تر } خطاب للنبي صلى الله عليه و سلم والمراد به أمته وقيل لكل واحد من الكفرة على التلوين { أن الله خلق السموات والأرض بالحق } والحكمة والوجه الذي يحق أن تخلق عليه وقرأ حمزة و الكسائي خالق السموات { إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد } يعدمكم ويخلق خلقا آخر مكانكم رتب ذلك على كونه خالقا للسموات والأرض استدلالا به عليه فإن من خلق أصولهم وما يتوقف عليه تخليقهم ثم كونهم تبديل الصور وتغيير الطبائع قدر أن يبدلهم بخلق آخر ولم يمتنع عليه ذلك كما قال :

20 - { وما ذلك على الله بعزيز } بمتعذر أو متعسر فإنه قادر لذاته لا اختصاص له بمقدور دون مقدور ومن كان هذا شأنه كان حقيقا بأن يؤمن به ويعبد رجاء لثوابه وخوفا من عقابه يوم الجزاء

21 - { وبرزوا لله جميعا } أي يبرزون من قبورهم يوم القيامة لأمر الله تعالى ومحاسبته أو { لله } على ظنهم فإنهم كانوا يخفون ارتكاب الفواحش وظنون أنها تخفى على الله تعالى فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله تعالى عند أنفسهم وإنما ذكر بلفظ الماضي لتحقق وقوعه { فقال الضعفاء } الأتباع جمع ضعيف يريد به ضعاف الرأي وإنما كتبت بالواو على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة في ميلها إلى الواو { للذين استكبروا } لرؤوسائهم الذين استتبعوهم واستغووهم { إنا كنا لكم تبعا } في تكذيب الرسل والإعراض عن نصائحهم وهو جمع تابع كغائب وغيب أو مصدر نعت به للمبالغة أو على إضمار مضاف { فهل أنتم مغنون عنا } دافعون عنا { من عذاب الله من شيء } من الأولى للبيان واقعة موقع الحال والثانية للتبعيض وواقعة موقع المفعول أي بعض الشيء الذي هو عذاب الله ويجوز أن تكونا للتبعيض أي بعض شيء هو بعض عذاب الله والإعراب ما سبق ويحتمل أن تكون الأولى مفعولا والثانية مصدرا أي فهل أنتم مغنون بعض العذاب بعض الإغناء { قالوا } أي الذين استكبروا جوابا عن معاتبة الأتباع واعتذارا عما فعلوا بهم { لو هدانا الله } للإيمان ووفقنا له { لهديناكم } ولكن ضللنا فأضللناكم أي اخترنا لكم ما اخترناه لأنفسنا أو لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لهديناكم وأغنيناه عنكم كما عرضناكم له لكن سد دوننا طريق الخلاص { سواء علينا أجزعنا أم صبرنا } مستويان علينا الجزع والصبر { ما لنا من محيص } منجى ومهرب من العذاب من الحيص وهو العدل على جهة الفرار وهو يحتمل أن يكون مكانا كالمبيت ومصدرا كالمغيب ويجوز أن يكون قوله { سواء علينا } من كلام الفريقين ويؤيده ما روي أنهم يقولون : تعالوا نجزع فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم فيقولون تعالوا نصبر فيصبرون كذلك ثم يقولون { سواء علينا }

22 - { وقال الشيطان لما قضي الأمر } أحكم وفرغ منه ودخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار خطيبا في الأشقياء من الثقلين { إن الله وعدكم وعد الحق } وعدا من حقه أن ينجزه أو وعدا أنجزه وهو الوعد بالبعث والجزاء { ووعدتكم } وعد الباطل وهو أن لا بعث ولا حساب وإن كانا فلأصنام تشفع لكم { فأخلفتكم } جعل تبين خلف وعده كالاخلاف منه { وما كان لي عليكم من سلطان } تسلط فألجئكم إلى الكفر والمعاصي { إلا أن دعوتكم } إلا دعائي إياكم إليها بتسويلي وهو ليس من جنس السلطان وكلنه على طريقة قولهم :
( تحية بينهم ضرب وجيع )
ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعا { فاستجبتم لي } أسرعتم إجابتي { فلا تلوموني } بوسوستي فإن من صرح العداوة لا يلام بأمثال ذلك { ولوموا أنفسكم } حيث أطعتموني إذ دعوتكم ولم تطيعوا ربكم لما دعاكم واحتجت المعتزلة بأمثال ذلك على استقلال العبد بأفعاله وليس فيها ما يدل عليه إذ يكفي لصحتها أن يكون لقدرة العبد مدخل ما في فعله وهو الكسب الذي يقوله أصحابنا { ما أنا بمصرخكم } بمغيثكم من العذاب { وما أنتم بمصرخي } بمغيثي وقرأ حمزة بكسر الياء على الأصل في التقاء الساكنين وهو أصل مرفوض في مثله لما فيه من اجتماع ياءين وثلاث كسرات مع أن حركة ياء الإضافة الفتح فإذا لم تكسر وقبلها ألف فبالحري أن لا تكسر وقبلها ياء أو على لغة من يزيد ياء على ياء الإضافة إجراء لها مجرى الهاء والكاف في : ضربته وأعطيتكه وحذف الياء اكتفاء بالكسرة { إني كفرت بما أشركتمون من قبل } ما إما مصدرية و { من } متعلقة أشركتموني أي كفرت اليوم بإشراككم إياي من قبل هذا اليوم أي في الدنيا بمعنى تبرأت منه واستنكرته كقوله : { ويوم القيامة يكفرون بشرككم } أو موصولة بمعنى من نحو ما في قولهم : سبحان ما سخركن لنا و { من } متعلقة ب { كفرت } أي كفرت بالذي أشركتمونيه وهو الله تعالى بطاعتكم إياي فيما دعوتكم إليه من عبادة الأصنام وغيرها من قبل إشراككم حين رددت أمره بالسجود لآدم عليه الصلاة و السلام وأشرك منقول من شركت زيدا للتعدية إلى مفعول ثان { إن الظالمين لهم عذاب أليم } تتمة كلامه أو ابتداء كلام من الله تعالى وفي حكاية أمثال ذلك لطف للسامعين وإيقاظ لهم حتى يحاسبوا أنفسهم ويتدبروا عواقبهم

23 - { وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم } بإذن الله تعالى وأمره والمدخلون هم الملائكة وقرئ { وأدخل } على التكلم فيكون قوله : { بإذن ربهم } متعلقا بقوله : { تحيتهم فيها سلام } أي تحييهم الملائكة فيها بالسلام بإذن ربهم

24 - { ألم تر كيف ضرب الله مثلا } كيف اعتمده ووضعه { كلمة طيبة كشجرة طيبة } أي جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة وهو تفسير لقوله { ضرب الله مثلا } ويجوز أن تكون { كلمة } بدلا من { مثلا } و { كشجرة } صفتها أو خبر مبتدأ محذوف أي هي { كشجرة } وأن تكون أول مفعولي ضرب أجراء له مجرى جعل وقد قرئت بالرفع على الابتداء { أصلها ثابت } في الأرض ضارب بعروقه فيها { وفرعها } وأعلاها { في أسماء } ويجوز أن يريد وفروعها أي أفنائها على الاكتفاء بلفظ الجنس لا كتسابه الاستغراق من الإضافة وقرئ ثابت أصلها والأول على أصله ولذلك قيل إنه أقوى ولعل الثاني أبلغ

25 - { تؤتي أكلها } تعطي ثمرها { كل حين } وقته الله تعالى لإثمارها { بإذن ربها } بإرادة خالقها تكوينه { ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون } لأن في ضربها زيادة إفهام وتذكير فإنه تصوير للمعاني وإدناء من الحس

26 - { ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة } كمثل شجرة خبيثة { اجتثت } استؤصلت وأخذت جثتها بالكلية { من فوق الأرض } لأن عروقها قريبة منه { ما لها من قرار } استقرار واختلف في الكلمة الخبيثة والشجرة ففسرت الكلمة الطيبة : بكلمة التوحيد ودعوة الإسلام والقرآن والكلمة الخبيثة بالشرك بالله تعالى والدعاء إلى الكفر تكذيب الحق ولعل المراد بهما ما يعم ذلك فالكلمة الطيبة ما أعرب عن حق أودعا إلى صلاح والكلمة الخبيثة ما كان على خلاف ذلك وفسرت الشجرة الطيبة بالنخلة وروي ذلك مرفوعا وبشجرة في الجنة والخبيثة بالحنظلة والكشوث ولعل المراد بهما أيضا ما يعم ذلك

27 - { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت } الذي ثبت الحجة عندهم وتمكن في قلوبهم { في الحياة الدنيا } فلا يزالون إذا فتنوا في دينهم كزكريا ويحيى عليهما السلام وجرجيس وشمعون والذين فتنهم أصحاب الأخدود { وفي الآخرة } فلا يتلعثمون إذا سئلوا عن معتقدهم في الموقف ولا تدهشهم أهوال يوم القيامة [ وروي أنه صلى الله عليه و سلم ذكر قبض روح المؤمن فقال : ثم تعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه في قبره ويقولان له : من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ فيقول : ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد صلى الله عليه و سلم فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي ] فذلك قوله : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت } { ويضل الله الظالمين } الذين ظلموا أنفسهم بالاقتصار على التقليد فلا يهتدون إلى الحق ولا يثبتون في مواقف الفتن { ويفعل الله ما يشاء } من تثبيت بعض وإضلال آخرين من غير اعتراض عليه

28 - { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا } أي شكر نعمته كفرا بأن وضعوه مكانه أو بدلوا نفس النعمة كفرا فإنهم لما كفروها سلبت منهم فصاروا تاركين لها محصلين للكفر بدلها كأهل مكة خلقهم الله تعالى وأسكنهم حرمه وجعلهم قوام بيته ووسع عليهم أبواب رزقه وشرفهم بمحمد صلى الله عليه و سلم فكفروا ذلك فقحطوا سبع سنين وأسروا وقتلوا يوم بدر وصاروا أذلاء فبقوا مسلوبي النعمة وموصوفين بالكفر وعن عمر وعلي رضى الله تعالى عنهما : هم الأفجران من قريش بنو المغيرة وبنو أمية فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين { وأحلوا قومهم } الذين شايعوهم في الكفر { دار البوار } دار الهلاك بحملهم على الكفر

29 - { جهنم } عطف بيان لها { يصلونها } حال منها أو من القوم أي داخلين فيها مقاسين لحرها أو مفسر لفعل مقدر ناصب لجهنم { وبئس القرار } أي وبئس المقر جهنم

30 - { وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله } الذي هو التوحيد وقرأ ابن كثر و أبو عمرو و رويس عن يعقوب بفتح الياء وليس الضلال ولا الإضلال غرضهم في اتخاذ الأنداد لكن لما كان نتيجته جعل كالغرض { قل تمتعوا } بشهواتكم أو بعبادة الأوثان فإنها من قبيل الشهوات التي يتمتع بها وفي التهديد بصيغة الأمر إيذان بأن المهدد عليه كالمطلوب لإفضائه إلى المهدد به وأن الأمرين كائنان لا محالة ولذلك علله بقوله : { فإن مصيركم إلى النار } وأن المخاطب لانهماكه فيه كالمأمور به من أمر مطاع

31 - { قل لعبادي الذين آمنوا } خصهم بالإضافة تنويها لهم وتنبيها على أنهم المقيمون لحقوق العبودية ومفعول { قل } محذوف يدل عليه جوابه : أي قل لعبادي الذين أمنوا أقيموا الصلاة وأنفقوا { يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم } فيكون إيذانا بأنهم لفرط مطاوعتهم للرسول صلى الله عليه و سلم بحيث لا ينفك فعلهم عن أمره وأنه كالسبب الموجب له ويجوز أن يقدرا بلام الأمر ليصح تعلق القول بهما وإنما حسن ذلك ها هنا ولم يحسن في قوله :
( محمد تفد نفسك كل نفس ... إذا ما خفت من أمر تبالا )
لدلالة قل عليه وقيل هما جوابا أقيموا أنفقوا مقامين مقامهما وهو ضعيف لأنه لا بد من مخالفة ما بين الشرط وجوابه ولأن أمر المواجهة لا يجاب بلفظ الغيبة إذا كان الفاعل واحدا { سرا وعلانية } منتصبان على المصدر أي إنفاق سر وعلانية أو على الحال أي ذوي سر وعلانية أو على الظرف أي وقتي سر وعلانية والأحب إعلان الواجب وإخفاء المتطوع به { من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه } فيبتاع المقصر ما يتدارك به تقصره أو يفدي به نفسه { ولا خلال } ولا مخالة فيشفع لك خليل أو من قبل أن يأتي يوم لا انتفاع فيه بمبايعة ولا مخالة وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله تعالى وقرأ ابن كثير و أبو عمرو و يعقوب بالفتح فيهما على النفي العام

32 - { الله الذي خلق السموات والأرض } مبتدأ وخبره { وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم } تعيشونه وهو يشمل المطعوم والملبوس مفعول لأخرج و { من الثمرات } بيان له وحال منه ويحتمل عكس ذلك ويجوز أن يراد به المصدر فينتصب بالعلة أو المصدر لن أخرج في معنى رزق { وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره } بمشيئته إلى حيث توجهتم { وسخر لكم الأنهار } فجعلها معدة لانتفاعكم وتصرفكم وقيل تسخير هذه الأشياء تعليم كيفية اتخاذها

33 - { وسخر لكم الشمس والقمر دائبين } يدأبان في سيرهما وإنارتهما وإصلاح ما يصلحانه من المكونات { وسخر لكم الليل والنهار } يتعاقبان لسباتكم ومعاشكم

34 - { وآتاكم من كل ما سألتموه } أي بعض جميع ما سألتموه يعني من كل شيء سألتموه شيئا فإن الموجود من كل صنف بعض ما في قدرة الله تعالى ولعل المراد ب { ما سألتموه } ما كان حقيقا بأن يسأل لاحتياج الناس إليه سئل أو لم يسأل وما يحتمل أن تكون موصولة وموصوفة ومصدرية ويكون المصدر بمعنى المفعول وقرئ { من كل } بالتنوين أي وآتاكم من كل شيء ما احتجتم إليه وسألتموه بلسان الحال ويجوز أن تكون ما نافية في موقع الحال أي وآتاكم من كل شيء غير سائليه { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } لا تحصروها ولا تطيقوا عد أنواعها فضلا عن أفرادها فإنها غير متناهية وفيه دليل على أن المفرد يفيد الاستغراق بالإضافة { إن الإنسان لظلوم } يظلم النعمة بإغفال شكرها أو يظلم نفسه بأن يعرضها للحرمان { كفار } شديد الكفران وقيل ظلوم في الشدة يشكو ويجزع كفار في النعمة يجمع ويمنع

35 - { وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد } بلدة مكة { آمنا } ذا أمن لمن فيها والفرق بينه وبين قوله : { اجعل هذا بلدا آمنا } أن المسؤول في الأول إزالة الخوف عنه وتصييره آمنا وفي الثاني جعله من البلاد الآمنة { واجنبني وبني } بعدين و إياهم { أن نعبد الأصنام } واجعلنا منها في جانب وقرئ { واجنبني } وهما على لغة نجد وأما أهل الحجاز فيقولون جنبني شره وفيه دليل على أن عصمة الأنبياء بتوفيق الله وحفظه إياهم وهو بظاهره لا يتناول أحفاده وجميع ذريته وزعم ابن عيينة أن أولاد إسماعيل عليه الصلاة و السلام لم يعبدوا الصنم محتجا به وإنما كانت لهم حجارة يدورون بها ويسمونها الدوار ويقولون البيت حجر فحيثما نصبنا حجرا فهو بمنزلته

36 - { رب إنهن أضللن كثيرا من الناس } فلذلك سألت منك العصمة واستعذت بك من إضلالهن وإسناد الإضلال إليهم باعتبار السببية كقوله تعالى : { وغرتهم الحياة الدنيا } { فمن تبعني } على ديني { فإنه مني } أي بعضي لا ينفك عني في أمر الدين { ومن عصاني فإنك غفور رحيم } تقدر أن تغفر له وترحمه ابتداء او بعد التوفيق للتوبة وفيه دليل على أن كل ذنب فلله أن يغفره حنى الشرك إلا أن الوعيد فرق بينه وبين غيره

37 - { ربنا إني أسكنت من ذريتي } أي بعض ذريتي أو ذرية من ذريتي فحذف المفعول وهم إسماعيل ومن ولد منه فإن إسكانه متضمن لإسكانهم { بواد غير ذي زرع } يعني وادي مكة فإنها حجرية لا تنبت { عند بيتك المحرم } الذي حرمت التعرض له والتهاون به أو لم يزل معظما ممنعا يهابه الجبابرة أو منع منه الطوفان فلم يستول عليه ولذلك سمي عتيقا أي اتق منه ولو دعا بهذا الدعاء أول ما قدم فلعله قال ذلك باعتبار ما كان أو ما سيؤول إليه روي أن هاجر كانت لسارة رضي الله عنها فوهبتها لإبراهيم عليه السلام فولدت منه إسماعيل عليه السلام فغارت عليهما فناشدته أن يخرجهما من عندها فأخرجهما إلى أرض مكة فأظهر الله عين زمزم ثم إن جرهم رأوا ثم طيورا فقالوا لا طير إلا على الماء فقصدوه فرأوهما وعندهما عين فقالوا اشركينا في مائك نشركك في ألباننا ففعلت { ربنا ليقيموا الصلاة } اللام لام كي وهي متعلقة ب { أسكنت } أي ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقع من كمل مرتفق ومرتزق إلا لإقامة الصلاة عند بيتك المحرم وتكرير النداء وتوسيطه للاشعار بأنها المقصودة بالذات من إسكانهم ثمة والمقصود من الدعاء توفيقهم لها وقيل لام الأمر والمراد هو الدعاء لهم بإقامة الصلاة كأنه طلب منهم الإقامة وسأل من الله تعالى أن يوفقهم لها { فاجعل أفئدة من الناس } أي أفئدة من افئدة الناس و { من } للتبعيض ولذلك قيل لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليهم فارس والروم ولحجت اليهود والنصارى أو بالابتداء كقولك : القلب مني سقيم أي أفئدة ناس وقرأ هشام أفيدة بخلف عنه بياء بعد الهمزة وقرئ آفدة وهو يحتمل أن يكون مقلوب أفئدة كآدر في أدؤر وأن يكون اسم فاعل من أفدت الرحلة إذا عجلت أي جماعة يعجلون نحوهم وأفدة بطرح الهمزة للتخفيف وإن كان الوجه فيه إخراجهما بين بين ويجوز أن يكون من أفد { تهوي إليهم } تسرع إليهم شوقا وودادا وقرئ تهوى على البناء للمفعول أهوى إليه غيره وتهوى من هوى يهوي إذا أحب وتعديته بإلى لتضمنه معنى النزوع { وارزقهم من الثمرات } مع سكناهم واديا لا نبات فيه { لعلهم يشكرون } بتلك النعمة فأجاب الله عز و جل دعوته فجعله حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء حتى توجد فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد

38 - { ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن } تعلم سرنا كما تعلم علننا والمعنى إنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا وأرحم بنا منا بأنفسنا فلا حاجة لنا إلى الطلب لكنا ندعوك إظهارا لعبوديتك وافتقارا إلى رحمتك واستعجالا لنيل ما عندك وقيل ما نخفي من وجد الفرقة وما نعلن من التضرع إليك والتوكل عليك وتكرير النداء للمبالغة في التضرع و اللجأ إلى الله تعالى { وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء } لأنه العالم بعلم ذاتي يستوي نسبته إلى كل معلوم ومن للاستغراق

39 - { الحمد لله الذي وهب لي على الكبر } أي وهب لي وأنا كبير آيس من الولد قيد الهبة بحال الكبر استعظاما للنعمة وإظهار لم فيها من آلائه { إسماعيل وإسحاق } روي أنه ولد له إسماعيل لتسع و تسعين سنة وإسحاق لمائة واثنتي عشرة سنة { إن ربي لسميع الدعاء } أي لمجيبه من قولك سمع الملك كلامي إذا اعتد به وهو من أبنية المبالغة العاملة عمل الفعل أضيف إلى مفعوله أو فاعله على إسناد السماع إلى دعاء الله تتعالى على المجاز وفيه إشعار بأنه دعا ربه وسأل منه الولد فأجابه ووهب له سؤله حين ما وقع اليأس منه ليكون من أجل النعم وأجلاها

40 - { رب اجعلني مقيم الصلاة } معدلا لها مواظبا عليها { ومن ذريتي } عطف على المنصوب في { اجعلني } والتبعيض لعلمه بإعلام الله أو استقراء عادته في الأمم الماضية أن يكون في ذريته كفار { ربنا وتقبل دعاء } واستجب دعائي أو وتقبل عبادتي

41 - { ربنا اغفر لي ولوالدي } وقرئ ولأبوي وقد تقدم عذر استغفار لهما وقيل أراد بهما آدم وحواء { وللمؤمنين يوم يقوم الحساب } يثبت مستعار من القيام على الرجل كقولهم : قامت الحرب على ساق أو يقوم إليه أهله فحذف المضاف أو أسند إليه قيامهم مجازا

42 - { ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون } خطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم والمراد به تثبيته على ما هو عليه من أنه تعالى مطلع على أحوالهم وأفعالهم لا يخفى عليه خافية والوعيد بأنه معاقبهم على قليله وكثيره لا محالة أو لك من توهم غفلته جهلا بصفاته واغترارا بإمهاله وقيل إنه تسلية للمظلوم وتهديد للظالم { إنما يؤخرهم } يؤخر عذابهم وعن أبي عمرو بالنون { ليوم تشخص فيه الأبصار } أي تشخص فيه أبصارهم فلا تقر في أماكنها من هول ما ترى

43 - { مهطعين } أي مسرعين إلى الداعي أو مقبلين بأبصارهم لا يطوفون هيبة وخوفا وأصل الكلمة هو الإقبال على الشيء { مقنعي رؤوسهم } رافعيها { لا يرتد إليهم طرفهم } بل تثبت عيونهم شاخصة لا تطرف أولا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم { وأفئدتهم هواء } خلاء أي خالية عن الفهم لفرط الحيرة والدهشة ومنه يقال للأحمق وللجبان قلبه هواء أي لا رأي فيه ولا قوة قال زهير :
( من الظلمان جؤجؤه هواء )
وقيل خالية من الخير خاوية من الحق

44 - { وأنذر الناس } يا محمد { يوم يأتيهم العذاب } يعني يوم القيامة أو يوم الموت فإنه أول أيام عذابهم وهو مفعول ثان ل { أنذر } { فيقول الذين ظلموا } بالشرك والتكذيب { ربنا أخرنا إلى أجل قريب } أخر العذاب عنا أو ردنا إلى الدنيا وأمهلنا إلى حد من الزمان قريب أو أخر آجالنا وأبقنا مقدار ما نؤمن بك ونجيب دعوتك { نجب دعوتك ونتبع الرسل } جواب للأمر ونظيره { لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين } { أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال } على إرادة القول و { مالكم } جواب القسم جاء بلفظ الخطاب على المطابقة دون الحكاية والمعنى أقسمتم أنكم باقون في الدنيا لا تزالون بالموت ولعلهم أقسموا بطرا وغرورا أو دل عليه حالهم حيث بنوا شديدا وأملوا بعيدا وقيل أقسموا أنهم لا ينتقلون إلى دار أخرى وأنهم إذا ماتوا لا يزالون على تلك الحالة إلى حالة أخرى كقوله : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت }

45 - { وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم } بالكفر والمعاصي كعاد وثمود وأصل سكن أن يعدى بفي كقر وغني وأقام وقد يستعمل بمعنى التبوء فيجري مجراه كقولك سكنت الدار { وتبين لكم كيف فعلنا بهم } بما تشاهدونه في منازلهم من آثار ما نزل بهم وما تواتر عندكم من أخبارهم { وضربنا لكم الأمثال } من أحوالهم أي بينا لكم أنكم مثلهم في الكفر واستحقاق العذاب أو صفات ما فعلوا وفعل بهم التي هي في الغرابة كالأمثال المضروبة

46 - { وقد مكروا مكرهم } المستفرغ في جهدهم لإبطال الحق وتقرير الباطل { وعند الله مكرهم } ومكتوب عنده فعلهم فهو مجازيهم عليه أو عنده ما يمكرهم به جزاء لمكرهم وإبطالا له { وإن كان مكرهم } في العظم الشدة { لتزول منه الجبال } مسوى لإزالة الجبال وقيل إن نافية وللام مؤكدة لها كقوله : { وما كان الله ليعذبهم } على أن الجبال مثل لأمر النبي صلى الله عليه و سلم ونحوه وقيل مخففة من الثقيلة والمعنى أنهم مكروا ليزيلوا ما هو كالجبال الراسية ثباتا وتمكنا من آيات الله تعالى وشرائعه وقرأ الكسائي لتزول الفتح والرفع على أنها المخففة واللام هي الفاصلة ومعناه تعظيم مكرهم وقرئ بالفتح والنصب على لغة من يفتح لام كي وقرئ وإن كاد مكرهم

47 - { فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله } مثل قوله : { إنا لننصر رسلنا } { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } وأصله مخلف رسله وعده فقدم المفعول الثاني إيذانا بأنه لا يخلف الوعد أصلا كقوله : { إن الله لا يخلف الميعاد } وإذا لم يخلف وعده أحدا فكيف يخلف رسله { إن الله عزيز } غالب لا يماكر قادر لا يدافع { ذو انتقام } لأوليائه من أعدائه

48 - { يوم تبدل الأرض غير الأرض } بدل من { يوم يأتيهم } أو ظرف للانتقام أو مقدر باذكر أو لا يخلف وعده ولا يجوز أن ينتصب بمخلف لأن ما قبل أن لا يعمل فيما بعده { والسموات } عطف على الأرض وتقديره والسموات غير السموات والتبديل يكون في الذات كقولك : بدلت الدراهم دنانير وعليه قوله : { بدلناهم جلودا غيرها } وفي صفة كقولك بدلت الحلقة خاتما إذا أذبتها وغيرت شكلها وعليه قوله : { يبدل الله سيئاتهم حسنات } والآية تحتملهما فعن علي رضي الله تعالى عنه : تبدل أرضا من فضة وسموات من ذهب وعن ابن مسعود وأنس رضي الله تعالى عنهما : يحشر الناس على أرض بيضاء لم يخطئ عليها أحد خطيئة وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هي تلك الأرض وإنما تتغير صفاتها ويدل عليه ما روي أبو هريرة رضي الله تعالى عنه [ أنه عليه الصلاة و السلام قال : تبدل الأرض غير الأرض فتبسط وتمد مد الأديم العكاظي ] { لا ترى فيها عوجا ولا أمتا } واعلم أنه لا يلزم الوجود الأول أن يكون الحاصل بالتبديل أرضا وسماء على الحقيقة و ولا يبعد على الثاني أن يجعل الله الأرض جهنم والسموات الجنة على ما أشعر به قوله تعالى : { كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين } وقوله : { إن كتاب الفجار لفي سجين } { وبرزوا } من أجداثهم { لله الواحد القهار } لمحاسبته ومجازاته وتوصيفه بالوصفين لدلالة على أن الأمر في غاية الصعوبة كقوله : { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } فإن الأمر إذا كان لواحد غلاب لا يغالب فلا مستغاث لأحد إلى غيره ولا مستجار

49 - { وترى المجرمين يومئذ مقرنين } قرن بعضهم بعض بحسب مشاركتهم في العقائد والأعمال كقوله : { وإذا النفوس زوجت } أو قرنوا مع الشياطين أو مع ما اكتسبوا من العقائد الزائغة والملكات الباطلة أو قرنت أيدينهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال وهو يحتمل أن يكون تمثيلا لمؤاخذتهم على ما اقترفته أيديهم وأرجلهم { في الأصفاد } متعلق ب { مقرنين } أوحال من ضميره والصفد القيد وقيل الغل قال سلامة بن جندل :
( وزيد الخيل قد لاقى صفادا ... يعض بساعد وبعظم ساق )
وأصله الشد

سورة الحجر
50 - تين فيه وهو ما يتحلب من الأبهل فيطبخ فتهنأ به الإبل الجربى فيحرق الجرب بحدته وهو أسود منتن تشتعل فيه النار بسرعة تطلى به جلود أهل النار حتى يكون طلاؤه لهم كالقمص ليجتمع عليهم لذع القطران ووحشة لونه ونتن ريح مع إسراع النار في جلودهم على أن التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين ويحتمل أن يكو تمثيلا لما يحيط بجوهر النفس من الملكات الرديئة والهيئات الوحشية فيجلب إليها أنواعا من الغموم والآلام وعن يعقوب قطرآن القطر النحاس أو الصفر المذاب والآني المتناهي حره والجملة حال ثانية أو حال من الضمير في { مقرنين } { وتغشى وجوههم النار } وتتغشاها لأنهم لم يتوجهوا بها إلى الحق ولم يستعملوا في تدبره مشاعرهم وحواسهم التي خلقت فيها لأجله كما تطلع على أفئدتهم لأنها فارغة عن المعرفة مملوءة بالجهالات ونظيره قوله تعالى : { أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة } وقوله تعالى : { يوم يسحبون في النار على وجوههم }

51 - { ليجزي الله كل نفس } أي يفعل بهم ذلك ليجزي كل نفس مجرمة { ما كسبت } أو كل نفس من مجرمة أو مطيعة لأنه إذا تبين أن المجرمين يعاقبون لإجرامهم علم أن المطيعين يثابون لطاعتهم ويتعين ذلك أن علق اللام ب { برزوا } { إن الله سريع الحساب } لأنه لا يشغله حساب عن حساب

52 - { هذا } إشارة إلى القرآن أو السورة أو مافية العظة والتذكير أو ما وصفه من قوله : { ولا تحسبن الله } { بلاغ للناس } كفاية لهم في الموعظة { ولينذروا به } عطف على محذوف أي ليصحوا ولينذروا بهذا البلاغ فتكون اللام متعلقة بالبلاغ ويجوز أن تتعلق بمحذوف تقديره : ولينذروا به أنزل أو تلي : وقرئ بفتح الياء من نذر به إذا علمه واستعد له
{ وليعلموا أنما هو إله واحد } بالنظر والتأمل فيما فيه من الآيات الدالة عليه أو المبهة على ما يدل عليه { وليذكر أولو الألباب } فيرتدعوا عما يرديهم ويتدرعوا بما يحظيهم واعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر لهذا البلاغ ثلاث فوائد هي الغاية والحكمة في إنزال الكتب تكميل الرسل للناس واستكمال القوة النظرية التي منتهى كمالها التوحيد واستصلاح القوة العملية الذي هو التدرع بلباس التقوى جعلنا الله تعالى من الفائزين بهما [ وعن النبي صلى الله عليه و سلم من قرأ سورة إبراهيم أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من عبد الأصنام وعدد من لم يعبدها ]

وهي تسع وتسعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
1 - { الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين } الإشارة إلى آيات السورة و { الكتاب } هو السورة وكذا القرآن وتنكيره للتفخيم أي آيات الجامع لكونه كتابا كاملا وقرآنا يبين الرشد من الغي بيانا غريبا

2 - { ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين } حين عاينوا حال المسلمين عند نزول النصر أو حلول الموت أو يوم القيامة وقرأ نافع و عاصم { ربما } بالتخفيف وقرئ { ربما } بالفتح والتخفيف وفيه ثمان لغات ضم الراء وفتحها مع التشديد والتخفيف وبتاء التأنيث ودونها وما كافة تكفه عن الجر فيجوز دخوله على الفعل وحقه أن يدخل الماضي لكن لما كان المترقب في أخبار الله تعالى كالماضي في تحققه أجري مجراه وقيل : ما نكرة موصوفة كقوله :
( ربما تكره النفوس من الأمـ ... ر له فرجة كحل العقال )
ومعنى التقليل فيه الإيذان بأنهم لو كانوا يودون الإسلام مرة فبالحري أن يسارعوا إليه فكيف وهم يودونه كل ساعة وقيل تدهشهم أهوال القيامة فإن حانت منهم إفاقة في بعض الأوقات تمنوا ذلك والغيبة في حكاية ودادتهم كالغيبة في قولك : حلف بالله ليفعلن

3 - { ذرهم } دعهم { يأكلوا ويتمتعوا } بدنياهم { ويلههم الأمل } ويشغلهم توقعهم لطول الأعمار واستقامة الأحوال عن الاستعداد للمعاد { فسوف يعلمون } سوء صنيعهم إذا عاينوا جزاءه والغرض إقناط الرسول صلى الله عليه و سلم من ارعوائهم وإيذانه بأنهم من أهل الخذلان وإن نصحهم يعد اشتغال بما لا طائل تحته وفيه إلزام للحجة وتحذير عن إيثار التنعم وما يؤدي إليه طول الأمل

4 - { وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم } أجل مقدر كتب في اللوح المحفوظ والمستثنى حملة واقعة صفة لقرية والأصل أن لا تدخلها الواو كقوله : { إلا لها منذرون } ولكن لما شابهت صورتها الحال أدخلت تأكيدا للصوقها بالموصوف

5 - { ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون } أي وما يستأخرون عنه وتذكير ضمير { أمة } فيه للحمل على المعنى

6 - { وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر } نادوا به النبي صلى الله عليه و سلم على التهكم ألا ترى إلى ما نادوه له وهو قولهم { إنك لمجنون } ونظير ذلك قول فرعون : { إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون } والمعنى إنك لتقول قول المجانين حين تدعي أن الله تعالى نزل عليك الذكر أي القرآن

7 - { لو ما تأتينا } ركب { لو } مع { ما } كما ركبت مع لا لمعنيين امتناع الشيء لوجود غيره والتحضيض { بالملائكة } ليصدقوك ويعضدوك على الدعوة كقوله تعالى : { لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا } أو للعقاب على تكذيبنا لك كما أتت الأمم المكذبة قبل { إن كنت من الصادقين } في دعواك

8 - { ينزل الملائكة } بالياء ونصب { الملائكة } على أن الضمير لله تعالى وقرأ حمزة و الكسائي و حفص بالنون وأبو بكر بالتاء والبناء للمفعول ورفع { الملائكة } وقرئ { تنزل } بمعنى تتنزل { إلا بالحق } إلا تنزيلا ملتبسا الحق أي بالوجه الذي قدره واقتضته حكمته ولا حكمة في أن تأتيكم يصور تشاهدونها فإنه لا يزيدكم إلا لبسا ولا في معادلتكم بالعقوبة فإن منكم ومن ذراريكم من سبقت كلمتنا له بالإيمان وقيل الحق الوحي أو العذاب { وما كانوا إذا منظرين } { إذا } جواب لهم وجزاء لشرط مقدر أي ولو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين

9 - { إنا نحن نزلنا الذكر } رد لإنكارهم واستهزائهم ولذلك أكده من وجوه وقرره بقوله : { وإنا له لحافظون } أي من التحريف والزيادة والنقص بان جعلناه معجزا مباينا لكلام البشر بحيث لا يخفى تغيير نظمه على أهل اللسان أو نفي تطرق الخلل إليه في الدوام بضمان الحفظ له كما نفى أن يطعن فيه بأنه المنزل له وقيل الضمير في { له } للنبي صلى الله عليه و سلم

10 - { ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين } في فرقهم جمع شيعة وهي الفرقة المتفقة على طريق ومذهب من شاعه إذا تبعه واصله الشياع وهو الحطب الصغار توقد به الكبار ن والمعنى نبأنا رجالا فيهم وجعلناهم رسلا فيما بينهم

11 - { وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون } كما يفعل هؤلاء وهو تسلية للنبي عليه الصلاة السلام و { ما } للحال لا يدخل إلا مضارعا بمعنى الحال أو ماضيا قريبا منه وهذا على حكاية الحال الماضية

12 - { كذلك نسلكه } ندخله { في قلوب المجرمين } والسلك إدخال الشيء في الشيء كالخيط في المخيط والرمح في المطعون والضمير للاستهزاء وفيه دليل على أن الله تعالى يوجد الباطل في قلوبهم وقيل ل { الذكر } فإن الضمير الآخر في قوله :

13 - { لا يؤمنون به } له وهو خال من هذا الضمير و المعنى مثل ذلك السلك نسلك الذكر في قلوب المجرمين مكذبا غير مؤمن به أو بيان للجملة المتضمنة له وهذا الاحتجاج ضعيف إذ لا يلزم من تعاقب الضمائر توافقها في المرجوع إليه ولا يتعين أن تكون الجملة حالا من الضمير لجواز أن تكون حالا من المجرمين ولا ينافي كونها مفسرة للمعنى الأول بل يقويه { وقد خلت سنة الأولين } أي سنة الله فيهم بأن خذلهم وسلك الكفر في قلوبهم أو بإهلاك من كذب الرسل منهم فيكون وعيدا لأهل مكة

14 - { ولو فتحنا عليهم } أي على هؤلاء المقترحين { بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون } يصعدون إليها ويرون عجائبها طول نهارهم مستوضحين لما يرون أو تصعد الملائكة وهم يشاهدونهم

15 - { لقالوا } من غلوهم في العناد وتشكيكهم في الحق { إنما سكرت أبصارنا } سدت عن الأبصار بالسحر من السكر ويدل عليه قراءة ابن كثير بالتخفيف او حيرت من السكر ويدل عليه قراءة من قرأ { سكرت } { بل نحن قوم مسحورون } قد سحرنا محمد بذلك كما قالوه عند ظهور غيره من الآيات وفي كلمتي الحصر ولإضراب دلالة على البت بأن ما يرونه لا حقيقة له بل هو باطل خيل إليهم بنوع من السحر

16 - { ولقد جعلنا في السماء بروجا } اثني عشر مختلفة الهيئات والخواص على ما دل عليه الرصد والتجربة مع بساطة السماء { وزيناها } بالأشكال والهيئات البهية { للناظرين } المعتبرين المستدلين بها على قدرة مبدعها وتوحيد صانعها

17 - { وحفظناها من كل شيطان رجيم } فلا يقدر أن يصعد إليها ويوسوس إلى أهلها ويتصرف في أمرها ويطلع على أحوالها

18 - { إلا من استرق السمع } بدل من كل شيطان واستراق السمع اختلاسه سرا شيه به خطفتهم اليسيرة منقطان السموات لما بينهم من المناسبة في الجوهر أو بالاستدلال من أوضاع الكواكب وحركاته وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أنهم كانوا لا يحجبون عن السموات فما ولد عيسى عليه الصلاة و السلام منعوا من ثلاث سموات فلما ولد محمد صلى الله عليه و سلم منعوا من كلها بالشهب ولا يقدح فيه تكونها قبل المولد لجواز أن يكون لها أسباب أخر وقيل الاستثناء منقطع أي ولكن من استرق السمع { فأتبعه } فتبعه ولحقه { شهاب مبين } ظاهر للمبصرين والشهاب شعلة نار ساطعة وقد يطلق للكوكب والسنان لما فيهما من البريق

19 - { والأرض مددناها } بسطناها { وألقينا فيها رواسي } جبالا ثوابت { وأنبتنا فيها } في الأرض أو فيها وفي الجبال { من كل شيء موزون } مقدر بمقدار معين تقتضيه حكمته أو مستحسن مناسب من قولهم كلا م موزون ا ما يوزن ويقدر أوله وزن أبواب النعمة المنفعة

20 - { وجعلنا لكم فيها معايش } تعيشون بها من المطاعم والملابس وقرئ معائش بالهمزة على التشبيه بشمائل : { ومن لستم له برازقين } عطف على { معايش } أو على محل { لكم } ويريد به العيال والخدم والمماليك وسائر ما يظنون أنهم يرزقونهم ظنا كاذبا فإن الله يرزقهم وإياهم وفذلكة الآية الاستدلال يجعل الأرض ممدودة بمقدار وشكل معينين مختلفة الأجزاء في الوضع محدثو فيها أنواع النبات والحيوان المختلفة خلقة وطبيعة مع جواز أن لا تكون كذلك على كمال قدرته وتناهي حكمته والتفرد في الألوهية والامتنان على العباد بما أنعم عليهم في ذلك ليوحدوه ويعبدوه ثم بالغ في ذلك وقال :

21 - { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه } أي وما من شيء إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكونيه أضعاف ما وجد منه فضرب الخزائن مثلا لاقتداره أو شبه مقدوراته بالأشياء المخزونة التي لا يحوج إخراجها إلى كلفة واجتهاد { وما ننزله } من بقاع القدرة { إلا بقدر معلوم } حده الحكمة وتعلقت به المشيئة فغن تخصص بعضها بالإيجاد في بعض الأوقات مشتملا على بعض الصفات والحالات لا بد له من مخصص حكيم

22 - { وأرسلنا الرياح لواقح } حوامل شبه الريح التي جاءت بخير من إنشاء سحاب ماطر بالحامل كما شبه ما لا يكون كذلك بالعقيم أو ملقحات للشجر ونظيره الطوائح بمعنى المطيحات في قوله :
( ومختبط مما تطيح الطوائح )
وقرئ { وأرسلنا الرياح } على تأويل الجنس { فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه } فجعلناه لكم سقيا { وما أنتم له بخازنين } قادرين متمكنين من إخراجه نفى عنهم ما أثبته لنفسه أو حافظين في الغدران والعيون والآبار وذلك أيضا يدل على المدير الحكيم كما تدل حركة الهواء في بعض الأوقات من بعض الجهات على وجه ينتفع به الناس فإن طبيعة الماء تقتضي الغور فوقوفه دون حد لا بدل له من سبب مخصص

23 - { وإنا لنحن نحيي } بإيجاد الحياة في بعض الأجسام القابلة لها { ونميت } بإزالتها وقد أول الحياة بما يعم الحيوان والنبات تكرير الضمير للدلالة على الحصر { ونحن الوارثون } الباقون إذا مات الخلائق كلها

24 - { ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين } من استقدم ولادة وموتا ومن استأخر أومن خرج من أصلاب الرجال ومن لم يخرج بعد أو من تقدم في الإسلام والجهاد وسبق إلى الطاعة أو تأخر لا يخفى علينا شيء من أحوالكم وهو بيان لكمال علميه بعد الاحتجاج على كما لقدرته فإن ما يدل على قدرته دليل على علمه وقيل رغب رسول الله صلى الله عليه و سلم في الصف الأول فازدحموا عليه فنزلت وقيل إن امرأة حسناء كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه و سلم فتقدم بعض القوم لئلا ينظر إليها وتأخر بعض ليبصرها فنزلت

25 - { وإن ربك هو يحشرهم } لا محالة للجزاء وتوسيط الضمير للدلالة على أنه القادر والمتولي لحشرهم لا غير وتصدير الجملة ب { إن } لتحقيق الوعد والتنبيه على أن ما تسبق من الدلالة على كما قدرته وعلمه بتفاصيل الأشياء بدل على صحة الحكم كما صرح به بقوله : { إنه حكيم } باهر الحكمة متقن في أفعاله { عليم } وسع علمه كل شيء

26 - { ولقد خلقنا الإنسان من صلصال } من طين يابس يصلصل أن يصوت إذا نقر وقيل هو من صلصل إذا أنتن تضعيف صل { من حمإ } طين تغير واسود من طول محاورة الماء وهو صفة صلصال أي كائن { من حمإ } { مسنون } مصور من سنه الوجه أو منصوب لييبس ويتصور كالجواهر المذابة تصب في القوالب من السن وهو الصب كأنه أفرغ الحمأ فصور منها تمثال إنسان أجوف فيبس حتى إذا نقر صلصل ثم غير ذلك طورا بعد طور حتى سواه ونفخ فيه من روحه أو منتن من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به فإن ما يسيل بينهما يكون منتنا ويسمى السنين

27 - { والجان } أبا الجن وقيل إبليس ويجوز أن يراد به الجنس كما هو الظاهر من الإنسان لأن تشعب الجنس لما كان من شخص واحد خلق من مادة واحدة كان الجنس بأسره مخلوقا منها وانتصابه بفعل يفسره { خلقناه من قبل } من قبل خلق الإنسان { من نار السموم } من نار الحر الشديد النافذ في المسام ولا يمتنع خلق الحياة في الأجرام البسيطة كما لا يمتنع خلقها في الجواهر المجردة فضلا عن الأجساد المؤلفة التي الغالب فيها الجزء الناري فإنها أقبل لها من التي الغالب فيها الجزء الأرضي وقوله { من نار } باعتبار الغالب كقوله : { خلقكم من تراب } ومساق الآية كما هو للدلالة على كمال قدرة الله تعالى وبيان بدء خلق الثقلين فهو للتنبيه على المقدمة الثانية التي يتوقف عليها إمكان الحشر وهو قبول للجمع والإحياء

28 - { وإذ قال ربك } واذكر وقت قوله : { للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون }

29 - { فإذا سويته } عدلت خلقته وهيأته لنفخ الروح فيه { ونفخت فيه من روحي } حتى جرى آثاره في تجاويف أعضاءه فحيي وأصل النفخ إجراء الريح في تجويف جسم آخر ولما كان الروح يتعلق أولا بالبخار اللطيف المنبعث من القلب وتفيض عليه القوة الحيوانية فيسري حاملا لها في تجاويف الشرايين إلى أعماق البدن جعل تعلقه بالبدن نفخا وإضافة الروح إلى نفسه لما مر في النساء { فقعوا له } فسقطوا له { ساجدين } أمر من وقع يقع

30 - { فسجد الملائكة كلهم أجمعون } أكد بتأكيدين للمبالغة في التعميم ومنع التخصيص وقيل أكد بالكل للإحاطة و بأجمعين للدلالة على أنهم سجدوا مجتمعين دفعة وفيه نظر إذ لو كان الأمر كذلك كان الثاني حالا لا تأكيدا

31 - { إلا إبليس } إن جعل منقطعا اتصل به قوله : { أبى أن يكون مع الساجدين } أي ولكن إبليس أبى وإن جعل متصلا كان استئنافا على أنه جواب سائل قال هلا سجد

32 - { قال يا إبليس ما لك أن لا تكون } أي غرض لك في أن لا تكون { مع الساجدين } لآدم

33 - { قال لم أكن لأسجد } اللام لتأكيد النفي أي لا يصح مني وينافي حالي أن أسجد { لبشر } جسماني كثيف وأنا ملك روحاني { خلقته من صلصال من حمإ مسنون } وهو أخس العناصر وخلقتني من نار وهو أشرفها استنقص آدم عليه السلام باعتبار النوع والأصل وقد سبق الجواب عنه في سورة الأعراف

34 - { قال فاخرج منها } من السماء أو الجنة أو زمر الملائكة { فإنك رجيم } مطرود من الخير والكرامة فإن من يطرد يرجم بالحجر أو شيطان يرجم بالشهب وهو وعيد يتضمن الجواب عن شبهته

35 - { وإن عليك اللعنة } هذا الطرد والإبعاد { إلى يوم الدين } فإنه منتهى أمد اللعن فإنه يناسب أيام التكليف ومنه زمان الجزاء وما في قوله : { فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين } بمعنى آخر ينسى عنده هذه وقيل إنما حد اللعن به لأنه أبعد غاية يضر بهما الناس أو لأنه يعذب فيه بما ينسى اللعن معه فيصير كالزائل

36 - { قال رب فأنظرني } فأخرني والفاء متعلقة بمحذوف دل عليه { فاخرج منها فإنك رجيم } { إلى يوم يبعثون } أراد أن يجد فسحة في الإغواء أو نجاة من الموت إذ لا موت بعد وقت البعث فأجابه إلى الأول دون الثاني

37 - { قال فإنك من المنظرين }

38 - { إلى يوم الوقت المعلوم } المسمى فيه أجلك عند الله أو انقراض الناس كلهم وهو النفخة الأولى عند الجمهور ويجوز أن يكون المراد بالأيام الثلاثة يوم القيامة واختلاف العبارات لاختلاف الاعتبارات فعبر عنه أولا بيوم الجزاء لما عرفته وثانيا بيوم البعث إذ به يحصل العلم بانقطاع التكليف واليأس عن التضليل وثالثا بالمعلوم لوقوعه في الكلامين ولا يلزم من ذلك أن لا يموت فلعله يموت أول اليوم ويبعث مع الخلائق في تضاعيفه وهذه المخاطبة وإن لم تكن بواسطة لم تدل على منصب إبليس لأه خطاب الله له على سبيل الإهانة والإذلال

39 - { قال رب بما أغويتني } الباء للقسم وما مصدرة وجوابه { لأزينن لهم في الأرض } والمعنى أقسم بإغوائك إياي لأزينن لهم المعاصي في الدنيا التي هو دار الغرور كقوله : { أخلد إلى الأرض } وفي انعقاد القسم بأفعال الله تعالى خلاف وقيل للسببية والمعتزلة أولو الإغواء بالنسبة إلى الغي أو التسبب له بأمره إياه بالسجود لآدم عليه السلام أو بالإضلال عن طريق الجنة واعتذروا عن إمهال الله له وهو سبب لزيادة غيه وتسليط له على إغواء بني آدم بأن الله تعالى علم منه وممن تتبعه أنهم يموتون على الكفر ويصيرون إلى النار أمهل أو لم يمهل وأن في إمهاله تعريضا لمن خالفه لاستحقاق مزيد الثواب وضعف ذلك لا يخفى على ذوي الألباب { ولأغوينهم أجمعين } ولأحملنهم أجمعين على الغوية

40 - { إلا عبادك منهم المخلصين } الذين أخلصتهم لطاعتك وطهرتهم من الشوائب فلا يعمل فيهم كيدي وقرأ ابن كثير و ابن عامر و أبو عمرو بالكسر في كل القرآن أي الذين أخلصوا نفوسهم لله تعالى

41 - { قال هذا صراط علي } حق علي أن أراعيه { مستقيم } لا انحراف عنه والإشارة إلى ما تضمنه الاستثناء وهو تخليص المخلصين من إغوائه أو الإخلاص على معنى أنه طريق { علي } يؤدي إلى الوصول إلى من غير اعوجاج وضلال وقرئ على من علو الشرف

42 - { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين } تصديق لإبليس فيما استثناه وتغيير الوضع لتعظيم { المخلصين } ولأن المقصود بيان عصمتهم وانقطاع مخالب الشيطان عنهم أو تكذيب له فيما أوهم أن له سلطانا على من ليس بمخلص من عباده فإن منتهى تزيينه التحريض والتدليس كما قال : { وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي } أقل من الباقي لإفضائه إلى تناقض الاستثناءين

43 - { وإن جهنم لموعدهم } لموعد الغاوين أو المتبعين { أجمعين } تأكيد للضمير أو حال والعامل فيها الموعد 'ن جعلته مصدرا على تقدير مضاف ومعنى الإضافة إن جعلته اسم مكان فإنه لا يعمل

44 - { لها سبعة أبواب } يدخلون منها كثرتهم أو طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم في المتابعة وهي : جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية ولعل تخصيص العدد لانحصار مجامع المهلكات في الركون إلى المحسوسات ومتابعة القوة الشهوية والغضبية أو لأن أهلا سبع فرق { لكل باب منهم } من الأتباع { جزء مقسوم } أفرز له فأعلاها للموحدين العصاة والثاني لليهود والثالث للنصارى والرابع للصابئين والخامس للمجوس والسادس للمشركين والسابع للمنافقين وقرأ أبو بكر جزء بالتثقيل وقرئ جز على حذف الهمزة وإلقاء حركتها على الزاي ثم الوقف عليه بالتشديد ثم إجراء الوصل مجرى القف ومنهم حال منه أو من المستكن في الظرف لا في { مقسوم } لن الصفة لا تعمل فيما تقدم موصوفها

45 - { إن المتقين } من اتباعه في الكفر والفواحش فإن غيرها مكفرة { في جنات وعيون } لك واحد جنة وعين أو لك عدة منهما كقوله : { ولمن خاف مقام ربه جنتان } ثم قوله : { ومن دونهما جنتان } وقوله : { مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن } الآية وقرأ نافع و حفص و أبو عمرو و هشام { وعيون } بضم العين حيث وقع والباقون بكسر العين

46 - { ادخلوها } على إرادة القول وقرئ بقطع الهمزة وكسر الخاء على أنه ماض فلا يكسر التنوين { بسلام } سالمين أو مسلما عليكم { آمنين } من الآفة والزوال

47 - { ونزعنا } في الدنيا بما ألف بين قلوبهم أو في الجنة بتطييب نفوسهم { ما في صدورهم من غل } من حقد كان في الدنيا وعن علي رضي الله تعالى عنه : أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم أو من التحاسد على درجات الجنة ومراتب القرب { إخوانا } حال من الضمير في جنات أو فاعل ادخلوها أو الضمير في آمنين أو الضمير المضاف إليه والعامل فيها معنى الإضافة وكذا قوله : { على سرر متقابلين } ويجوز أن يكونا صفتين لإخوانا أو حال من ضميره لأنه بمعنى متصافين وأن يكون متقابلين حالا من المستقر في على سرر

48 - { لا يمسهم فيها نصب } استئناف أو حال بعد حال أو حال من الضمير في متقابلين { وما هم منها بمخرجين } فإن تمام النعمة بالخلود

49 - { نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم }

50 - { وأن عذابي هو العذاب الأليم } فذلكة ما سبق من الوعد والوعيد وتقريره له وفي ذكر المغفرة دليل على أنه لم يرد بالمتقين من يتقي الذنوب بأسرها كبيرها وصغيرها وفي توصيف ذاته بالغفران والرحمة دون التعذيب ترجيح الوعد وتأكيده وفي عطف

51 - { ونبئهم عن ضيف إبراهيم } على { نبئ عبادي } تحقيق لهما بما يتعبرون به

52 - { إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما } أي نسلم عليك سلاما أو سلمنا سلاما { قال إنا منكم وجلون } خائفون وذلك لأنهم دخلوا بغير إذن وبغير وقت ولأنهم امتنعوا من الأكل والوجل اضطراب النفس لتوقع ما تكره

53 - { قالوا لا توجل } وقرئ لا تأجل و لا توجل من أوجله ولا تواجل من واجله بمعنى أوجله { إنا نبشرك } استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل فإن المبشر لا يخاف منه وقرأ حمزة نبشرك بفتح النون والتخفيف من البشر { بغلام } هو إسحاق عليه السلام لقوله { وبشرناه بإسحاق } { عليم } إذا بلغ

54 - { قال أبشرتموني على أن مسني الكبر } تعجب من أن يولد له مع مس الكبر إياه أو إنكار لأن يبشر به في مثل هذه الحالة وكذا قوله : { فبم تبشرون } أي فبأي أعجوبة تبشرون أو فبأي شيء تبشرون فإن البشارة بما لا يتصور وقوعه عادة بشرة بغير شيء وقرأ ابن كثير بكسر النون مشددة في كل القرآن على إدغام نون الجمع في نون الوقاية وكسرها وقرأ نافع بكسرها مخففة على حذف نون الجمع استثقالا لاجتماع المثلين ودلالة بإبقاء نون الوقاية وكسرها على الياء

55 - { قالوا بشرناك بالحق } بما يكون لا محالة أو باليقين الذي لا لبس فيه أو بطريقة هي حق وهو قول الله تعالى وأمره { فلا تكن من القانطين } من الآيسين من ذلك فإنه تعالى قادر على أن يخلق بشرا من غير أبوين فكيف من شيخ فان وعجوز عاقر وكان استعجاب إبراهيم عليه السلام باعتبار العادة دون القدرة ولذلك :

56 - { قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون } المخطئون طريق المعرفة فلا يرفون سعة رحمة الله تعالى وكمل علمه وقدرته كما قال تعالى : { إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } وقرأ أبو عمرو و الكسائي يقنط بالكسر وقرئ بالضم وماضيهما قنط بالفتح

57 - { قال فما خطبكم أيها المرسلون } أي فما شأنكم الذي أرسلتم لأجله سوى البشارة ولعله علم أن كمال المقصود ليس البشارة لنهم كانوا عددا والبشارة لا تحتاج إلى العدد ولذلك اكتفى بالواحد في بشارة زكريا ومريم عليهما السلام أو لأنهم بشره في تضاعيف الحال لإزالة الوجل ولو كانت تمام المقصود لابتدءوا بها

58 - { قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين } يعني قوم لوط

59 - { إلا آل لوط } إن كان استثناء من { قوم } كان منقطعا إذ الـ { قوم } مقيد بالإجرام وإن كان استثناء من الضمير في { مجرمين } كان متصلا ولقوم والإرسال شاملين للمجرمين و { آل لوط } المؤمنين به وكأن المعنى : إنا أرسلنا إلى قوم أجرم كلهم إلا آل لوط منهم لنهلك المجرمين وننجي آل لوط منهم ويدل عليه قوله : { إنا لمنجوهم أجمعين } أي مما يعذب به القوم وهو استئناف إذا اتصل الاستثناء ومتصل بآل لوط جار مجرى خبر لكن إذا انقطع وعلى هذا جاز ا يكون قوله :

60 - { إلا امرأته } استثناء من { آل لوط } أو من ضميرهم وعلى الأول لا يكون إلا من ضميرهم لاختلاف الحكمين اللهم إلا أن يجعل { إنا لمنجوهم } اعتراضا وقرأ حمزة و الكسائي لمنجوهم مخففا { قدرنا إنها لمن الغابرين } الباقين مع الكفرة لتهلك معهم وقرأ أبو بكر عن عاصم قدرنا هنا وفي النمل بالتخفيف وإنما علق والتعليق من خواص أفعال القلوب لتضمنه معنى العلم ويجوز أن يكون { قدرنا } أجري مجرى قلنا لأن التقدير بمعنى القضاء قول أصله جعل الشيء على مقدار غيره وإسنادهم إياه إلى أنفسهم وهو فعل الله سبحانه وتعالى لمالهم من القرب والاختصاص به

61 - { فلما جاء آل لوط المرسلون }

62 - { قال إنكم قوم منكرون } تنكركم نفسي وتنفر عنكم مخافة أن تطرقوني بشر

63 - { قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون } أي ما جئناك بما تنكرنا لأجله بل جئناك بما بسرك ويشفي لك من عدوك وهو العذاب الذي توعدتهم به فيمترون فيه

64 - { وأتيناك بالحق } باليقين من عذابهم { وإنا لصادقون } فيما أخبرناك به

65 - { فأسر بأهلك } فاذهب بهم في الليل وقرأ الحجازيان بوصل الهمزة من السرى وهما بمعنى وقرئ فسر من السير { بقطع من الليل } في طائفة من الليل وقيل في آخره قال :
( افتحي الباب وانظري في النجوم ... كم علينا من قطع ليل بهيم )
{ واتبع أدبارهم } وكن على أثرهم تذودهم وتسرع بهم وتطلع على حالهم { ولا يلتفت منكم أحد } لينظر ما وراءه فيرى من الهول ما لا يطيقه أو فيصيبه ما أصابهم أو ولا ينصرف أحدكم ولا يتخلف امرؤ لغرض فيصيبه العذاب وقيل نهوا عن الالتفات ليوطنوا نفوسهم على المهاجرة { وامضوا حيث تؤمرون } إلى حيث أمركم الله بالمضي إليه وهو الشام أو مصر فعدي { وامضوا } إلى حيث تؤمرون إلى ضميره المحذوف على الاتساع

66 - { وقضينا إليه } أي وأوحينا إليه مقضيا ولذلك عدي بإلى { ذلك الأمر } مبهم يفسره { أن دابر هؤلاء مقطوع } ومحله النصب على البدل منه وفي ذلك تفخيم الأمر وتعظيم له وقرئ بالكسر على الاستئناف والمعنى : أنهم يستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد { مصبحين } داخلين في الصبح وهو حال من هؤلاء أو من الضمير في مقطوع وجمعه للحل على المعنى ف { أن دابر هؤلاء } في معنى مدبري هؤلاء

67 - { وجاء أهل المدينة } سدوم { يستبشرون } بأضياف لوط طمعا فيهم

68 - { قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون } بفضيحة ضيفي فإن من أسيء إلى ضيفه فقد أسيء إليه

69 - { واتقوا الله } في ركوب الفاحشة { ولا تخزون } ولا تذلوني بسببهم من الخزي وهو الهوان أو لا تخجلوني فيهم من الخزاية وهو الحياء

70 - { قالوا أولم ننهك عن العالمين } على أن تجير منهم أحدا أو تمنع بيننا وبينهم فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحد وكان لوط يمنعهم عنه بقدر وسعه أو عن ضيافة الناس وإنزالهم

71 - { قال هؤلاء بناتي } يعني نساء القوم فإن نبي كل أمة بمنزلة إليهم وفيه وجوه ذكرت في سورة هود { إن كنتم فاعلين } قضاء الوطر أو ما أقول لكم

72 - { لعمرك } قسم بحياة المخاطب والمخاطب في هذا القسم هو النبي عليه الصلاة السلام وقيل لوط عليه السلام قالت الملائكة له ذلك والتقدير لعمرك فسمي وهو لغة في العمر يختص به القسم لإيثار الأخف فيه لأنه كثير الدور على ألسنتهم { إنهم لفي سكرتهم } لفي غوايتهم أو شدة غلمتهم التي أزالت عقولهم وتمييزهم بين خطئهم والصواب الذي يشار به إليهم { يعمهون } يتحيرون فكيف يسمعون نصحك وقيل الضمير لقريش والجملة اعتراض

73 - { فأخذتهم الصيحة } يعني صيحة هائلة مهلكة وقيل صيحة جبريل عليه السلام { مشرقين } داخلين في وقت شروق الشمس

74 - { فجعلنا عاليها } عالي المدينة أو عالي قراهم { سافلها } وصارت منقلبة بهم { وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل } من طين متحجر أو طين عليه كتاب من السجل وقد تقدم مزيد بيان لهذه القصة في سورة هود

75 - { إن في ذلك لآيات للمتوسمين } للمتفكرين المتفرسين الذين يتشبثون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة الشيء بسمته

76 - { وإنها } وإن المدينة أو القرى { لبسبيل مقيم } ثابت يسلكه الناس ويرون آثارها

77 - { إن في ذلك لآية للمؤمنين } بالله ورسله

78 - { وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين } هم ثوم شعيب كانوا يسكنون الغيضة فبعثه الله إليهم فكذبوه فأهلكوا بالظلة و { الأيكة } الشجرة المتكاثفة

79 - { فانتقمنا منهم } بالإهلاك { وإنهما } يعني سدوم والأيكة وقيل الأيكة ومدين فإنه كان مبعوثا إليهما فكان ذكر إحداهما منبها على الأخرى { لبإمام مبين } لبطريق واضح والإمام اسم ما يؤتم به فسمي به الطريق ومطمر البناء واللوح لأنها مما يؤتم به

80 - { ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين } يعني ثمود كذبوا صالحا ومن كذب واحدا من الرسل فكأنما كذب الجميع ويجوز أن يكون المراد بالمرسلين صالحا ومن معه من المؤمنين و { الحجر } واد بين المدينة والشام يسكنونه

81 - { وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين } يعني آيات الكتاب المنزل على نبيهم أو معجزاته كالناقة وسقيها وشربها ودرها أو ما نصب لهم من الأدلة

82 - { وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين } من الانهدام ونقب اللصوص وتخريب الأعداء لوثاقتها أو من العذاب لفرط غفلتهم أو حسبانهم أن الجبال تحميهم منه

83 - { فأخذتهم الصيحة مصبحين }

84 - { فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون } من بناء البيوت الوثيقة واستكثار الأموال والعدد

85 - { وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق } إلا خلقا ملتبسا بالحق لا يلائم استمرار الفساد ودوام الشرور فلذلك اقتضت الحكمة إهلاك أمثال هؤلاء وإزاحة فسادهم من الأرض { وإن الساعة لآتية } فينتقم الله لك فيها ممن كذبك { فاصفح الصفح الجميل } ولا تعجل بانتقام منهم وعاملهم معاملة الصفوح الحليم وقيل هو منسوخ بآية السيف

86 - { إن ربك هو الخلاق } الذي خلقك وخلقهم وبيده أمرك وأمرهم { العليم } بحالك وحالهم فهو حقيق بأن تكل ذلك إليه ليحكم بينكم أو هو الذي خلقكم وعلم الأصلح لكم وقد علم أن الصفح اليوم أصلح وفي مصحف عثمان وأبي رضي الله عنهما هو الخالق وهو يصلح للقليل والكثير و { الخلاق } يختص بالكثير

87 - { ولقد آتيناك سبعا } سبع آيات وهي الفاتحة وقيل سبع سور وهي الطوال وسابعتها الأنفال والتوبة فإنهما في حكم سورة ولذلك لم يفصل بينهما بالتسمية وقيل التوبة وقيل يونس أو الحواميم السبع قيل سبع صحائف وهي الأسباع { من المثاني } بيان للسبع والمثاني من التثنية أو الثناء فإن كل ذلك مثنى تكرر قرأته أو ألفاظه أو قصصه ومواعظه أو مثني عليه بالبلاغة والإعجاز أو مثن على الله بما هو أهله من صفاته العظمى وأسماءه كالحسنى ويجوز أن يراد ب { المثاني } القرآن أو كتب الله كلها فتكون { من } للتبعيض { والقرآن العظيم } إن أريد بالسبع الآيات أو السور فمن عطف الكل على البعض أو العام على الخاص وإن أريد به الأسباع فمن عطف أحد الوصفين على الآخر

88 - { لا تمدن عينيك } لا تطمح ببصرك طموح راغب { إلى ما متعنا به أزواجا منهم } أصنافا من الكفار فإنه مستحقر بالإضافة إلى ما أوتيته فإنه كمال مطلوب بالذات مفض إلى دوام اللذات وفي حديث أبي بكر رضي الله تعالى عنه من أوتي القرآن فرأى أن أحدا أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغر عظيما وعظم صغيرا وروي [ أنه عليه الصلاة و السلام وافى بأذرعات سبع قوافل ليهود بني قريظة والنضير فيها أنواع البز والطيب والجواهر وسائر الأمتعة فقال المسلمون : لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها وأنفقناها في سبيل الله فقال لهم : لقد أعطيتم سبع آيات هي خير من هذه القوافل السبع ] { ولا تحزن عليهم } أنهم لم يؤمنوا وقل إنهم المتمتعون به { واخفض جناحك للمؤمنين } وتواضع لهم وارفق بهم

89 - { وقل إني أنا النذير المبين } أنذركم ببيان وبرهان أن عذاب الله نازل بكم إن لم تؤمنوا

90 - { كما أنزلنا على المقتسمين } مثل العذاب الذي أنزلناه عليهم فهو وصف لمفعول النذير أقيم مقامه والمقتسمون هم الاثنا عشر الذين اقتسموا مداخل مكة أيام الموسم لينفروا الناس عن الإيمان بالرسول صلى الله عليه و سلم فأهلكهم الله تعالى يوم بدر أو الرهط الذين اقتسموا على أن يبيتوا صالحا عليه الصلاة و السلام وقيل هو صفة مصدر محذوف يدل عليه { ولقد آتيناك } فإنه بمعنى أنزلنا إليك والمقتسمون هم الذين جعلوا القرآن عضين حيث قالوا عنادا : بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل وبعضه باطل مخالف لهما أو قسموه إلى شعر وسحر وكهانة وأساطير الأولين أو أهل الكتاب آمنوا ببعض كتبهم وكفروا ببعض على أن القرآن ما يقرؤون من كتبهم فيكون ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه و سلم وقوله { لا تمدن عينيك } الخ اعتراضا ممدا لها

91 - { الذين جعلوا القرآن عضين } أجزاء جمع عضة وأصلها عضوة من عضى الشاة إذا جعلها أعضاء وقيل فعلة من عضهته إذا بهته وفي الحديث [ لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم العاضهة والمستعضهة ] وقيل أسحارا وعن عكرمة العضة السحر وإنما جمع جمع السلامة جبرا لما حذف منه والموصول بصلته صفة للمقتسمين أو مبتدأ خبره

92 - { فوربك لنسألنهم أجمعين }

93 - { عما كانوا يعملون } من التقسيم أو النسبة إلى السحر فنجازيهم عليه وقيل هو عام في كل ما فعلوا من الكفر والمعاصي

94 - { فاصدع بما تؤمر } فاجهر به من صدع الحجة إذا تكلم بها جهارا أو فافرق به بين الحق والباطل وأصله الإبانة والتمييز وما مصدرة أو موصولة والراجع محذوف أي بما تؤمر به من الشرائع { وأعرض عن المشركين } ولا تلتفت إلى ما يقولون

95 - { إنا كفيناك المستهزئين } بقمعهم وإهلاكهم قيل كانوا خمسة من أشراف قريش : الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وعدي بن قيس والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب يبالغون في إيذاء النبي صلى الله عليه و سلم والاستهزاء به فقال جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه و سلم : أمرت أن أكفيكهم فأومأ إلى ساق الوليد فمر بنبال فتعلق بثوبه سهم فلم يتعطف تعظما لأخذه فأصاب عرقا في عقبه فقطعه فمات وأومأ إلى أخمص العاص فدخلت فيه شوكة فانتفخت رجله حتى صارت الرحى ومات وأشار إلى أنف عدي بن قيس فامتخط قيحا فمات وإلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في أصل شجرة فجعل ينطح برأسه الشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات وإلى عيني الأسود بن المطلب فعمي

96 - { الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون } عاقبة أمرهم في الدارين

سورة النحل
97

98 - { فسبح بحمد ربك } فافزع إلى الله تعالى فيما نابك بالتسبيح والتحميد يكفك ويكشف الغم عنك أو فنزهه عما يقولون حامدا له على أن هداك للحق { وكن من الساجدين } من المصلين [ وعنه عليه الصلاة و السلام أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ]

99 - { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } أي الموت فإنه متيقن لحاقه كل حي مخلوق والمعنى فاعبده مادمت حيا ولا تخل بالعبادة لحظة [ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم من قرأ سورة الحجر كان له من الأجر عشر حسنات بعدد المهاجرين والأنصار والمستهزئين بمحمد صلى الله عليه و سلم ] والله أعلم

غير ثلاث آيات في آخرها وهي مائة وثمان وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
1 - { أتى أمر الله فلا تستعجلوه } كانوا يستعجلون ما أوعدهم الرسول صلى الله عليه و سلم من قيام الساعة أو إهلاك الله تعالى إياهم كما فعل يوم بدر استهزاء وتكذيبا ويقولون إن صح ما تقوله فالأصنام تشفع لنا وتخلصنا منه فنزلت والمعنى أن الأمر الموعود به بمنزلة الآتي المتحقق من حيث إنه واجب الوقوع فلا تستعجلوا وقوعه فإنه لا خير لكم فيه ولا خلاص لكم منه { سبحانه وتعالى عما يشركون } تبرأ وجل عن أن يكون له شريك فيدفع ما أراد بهم وقرأ حمزة و الكسائي بالتاء على وفق قوله : { فلا تستعجلوه } والباقون بالياء على تلوين الخطاب أو على أن الخطاب للمؤمنين أو لهم ولغيرهم لما روي [ أنه لما نزلت أتى أمر الله فوثب النبي صلى الله عليه و سلم ورفع الناس رؤوسهم فنزلت { فلا تستعجلوه } ]

2 - { ينزل الملائكة بالروح } بالوحي أو القرآن فإنه يحيي به القلوب الميتة بالجهل أو يقوم في الدين مقام الروح في الجسد وذكره عقيب ذلك إشارة إلى الطريق الذي به علم الرسول صلى الله عليه و سلم ما تحقق موعدهم به ودنوه وإزاحة لاستبعادهم اختصاصه بالعلم به وقرأ ابن كثر و أبو عمرو { ينزل } من أنزل وعن يعقوب مثله وعنه تنزل بمعنى تتنزل وقرأ أبو بكر تنزل على المضارع المبين للمفعول من التنزيل { من أمره } بأمره أو من أجله { على من يشاء من عباده } أن يتخذه رسولا { أن أنذروا } بأن أنذروا أي اعلموا من نذرت بكذا إذا علمته { أنه لا إله إلا أنا فاتقون } أن الشأن { لا إله إلا أنا فاتقون } أو خوفوا أهل الكفر والمعاصي بأنه { لا إله إلا أنا } وقوله { فاتقون } رجوع إلى مخاطبتهم بما هو المقصود و { أن } مفسرة لأن الروح بمعنى الوحي الدال على القول أو مصدرية في موضع الجر بدلا من الروح أو النصب ينزع الخافض أو مخففة من الثقيلة والآية تدل على أن نزول الوحي بواسطة الملائكة وأن حاصله التنبيه على التوحيد الذي هو منتهى كمال القوة العلمية والأمر بالتقوى الذي هو أقصى كما القوة العملية وأن النبوة عطائية والآيات التي بعدها دليل على وحدانيته من حيث إنها تدل على أنه تعالى هو الموجد لأصول العالم وفروعه على وفق الحكمة والمصلحة ولو كان اله شريكك لقدر على ذلك فيلزم التمانع

3 - { خلق السموات والأرض بالحق } أوجدهما على مقدار وشكل وأوضاع وصفات مختلفة قدرها وخصصها بحكمته { تعالى عما يشركون } منهما أو مما يفتقر في وجوده أو بقائه إليهم ومما لا يقدر على خلقهما وفيه دليل على أنه تعالى ليس قبيل الأجرام

4 - { خلق الإنسان من نطفة } جماد لا حس بها ولا حراك سيالة لا تحفظ الوضع والشكل { فإذا هو خصيم } منطيق مجادل { مبين } للحجة أو خصيم مكافح لخالقه قائل : { من يحيي العظام وهي رميم } [ روي أن أبي بن خلف أتى النبي صلى الله عليه و سلم بعظم رميم وقال : يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رم ] فنزلت

5 - { والأنعام } الإبل والبقر والغنم وانتصابها بمضمر يفسره { خلقها لكم } أو بالعطف على الإنسان ن وخلقها لكم بيان ما خلقت لأجله وما بعده تفصيل له { فيها دفء } ما يدفأ به فيقي البرد { ومنافع } نسلها وجرها وظهورها وإنما عبر عنها بالمنافع ليتناول عوضها { ومنها تأكلون } أي تأكلون ما يؤكل منها من اللحوم والشحوم والألبان وتقديم الظرف للمحافظة على رؤوس الآي أو لأن الأكل منها هو المعتاد المعتمد عليه في المعاش وأما الأكل من سائر الحيوانات المأكولة فعلى سبيل التداوي أو التفكه

6 - { ولكم فيها جمال } زينة { حين تريحون } تردونها من مراعيها إلى مراحها بالعشي { وحين تسرحون } تخرجونها بالغداة إلى المراعي فإن الأفنية تتزين بها في الوقتين ويجل أهلها في أعين الناظرين إليها وتقديم الإراحة لأن الجمال فيها أظهر فإنها تقبل ملأى البطون حافلة الضروع ثم تأوي إلى الحظائر حاضرة لأهلها وقرئ حينا على أن { تريحون } { تسرحون } وصفان له بمعنى { تريحون } فيه { تسرحون } فيه

7 - { وتحمل أثقالكم } أحمالكم { إلى بلد لم تكونوا بالغيه } أي إن لم تكن الأنعام ولم تخلق فضلا أن تحملوها على ظهوركم إليه { إلا بشق الأنفس } إلا بكلفة ومشقة وقرئ بالفتح وهو لغة فيه وقيل المفتوح مصدر شق الأمر عليه وأصله الصدع والمكسور بمنى النصف كأنه ذهب نصف قوته بالتعب { إن ربكم لرؤوف رحيم } حيث رحمكم بخلقها لانتفاعكم وتيسير الأمر عليكم

8 - { والخيل والبغال والحمير } عطف على { الأنعام } { لتركبوها وزينة } أي لتركبوها وتتزينوا بها زينة وقيل هي معطوفة على محل { لتركبوها } وتغيير النظم لأن الزينة بفعل الخالق والركوب ليس بفعله ولأن المقصود من خلقها الركوب وأما التزين بها فحاصل بالعرض وقرئ بغير واو وعلى هذا يحتمل أن يكون علة { لتركبوها } أو مصدرا في موضع الحال من أحد الضميرين أي : متزينين أو متزينا بها واستدل به على حرمة لحومها ولا دليل فيه إذ لا يلزم من تعليل الفعل بما يقصد منه غالبا أن لا يقصد منه غيره أصلا ويدل عليه أن الآية مكية وعامة المفسرين والمحدثين على أن الحمر الأهلية حرمت عام خيبر { ويخلق ما لا تعلمون } لما فصل الحيوانات التي يحتاج إليها غالبا احتياجا ضروريا أو غير ضروري أجمل غيرها ويجوز أن يكون إخبارا بأن له من الخلائق ما لا علم لنابه وأن يراد به ما خلق في الحنة والنار مما لم يخطر على قلب بشر

9 - { وعلى الله قصد السبيل } بيان مستقيم الطريق الموصل إلى الحق ن أو إقامة السبيل وتعديلها رحمة وفضلا أو عليه قصد السبيل يصل إليه من يسلكه لا محالة يقال سبيل قصد وقاصد أي مستقيم كأنه يقصد الوجه الذي يقصده السالك لا يميل عنه والمراد من { السبيل } الجنس ولذلك أضاف إليه ال { قصد } وقال : { ومنها جائر } حائد عن القصد أو عن الله وتغيير الأسلوب لأنه ليس بحق على الله تعالى أن يبين طرق الضلالة او لأن المقصود بيان سبيله وتقسيم السبيل إلى القصد والجائر إنما جاء بالعرض وقرئ ومنكم جائر أي عن القصد { ولو شاء } الله { لهداكم أجمعين } أي ولو شاء هدايتكم أجمعين لهداكم إلى قصد السبيل هداية مستلزمة للاهتداء

10 - { هو الذي أنزل من السماء } من السحاب أو من جانب السماء { ماء لكم منه شراب } ما تشربونه { ولكم } صلة { أنزل } أو خبر { شراب } و { من } تبعيضية متعلقة به وتقديمها يوهم حصر المشروب فيه ولا بأس به لأن مياه العيون والآبار منه لقوله : { فسلكه ينابيع } وقوله { فأسكناه في الأرض } { ومنه شجر } ومنه يكون شجر يعني الشجر الذي ترعاه المواشي وقيل كل ما نبت على الأرض شجر قال :
( يعلفها اللحم إذا عز الشجر ... والخيل في إطعامها اللحم ضرر )
{ فيه تسيمون } ترعون من سامت الماشية وأسامها صاحبها ن وأصله السومة وهي العلامة لأنها تؤثر بالرعي علامات

11 - { ينبت لكم به الزرع } وقرأ أبو بكر بالنون على التفخيم { والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات } وبعض كلها إذا لم ينبت في الأرض كل ما يمكن من الثمار ولعل تقديم ما يسام فيه على ما يؤكل منه لأنه سيصير غذاء حيوانيا هو أشرف الأغذية ومن هذا تقديم الزرع والتصريح بالأجناس الثلاثة وترتيبها { إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون } على وجود الصانع وحكمته فإن من تأمل أن الحبة تقع في الأرض وتصل إليها نداوة تنفذ فيها فينشق أعلاها ويخرج منه ساق الشجرة وينشق أسفلها فيخرج منه عروقها ثم ينمو ويخرج منه الأوراق والأزهار والأكمام والثمار ويشتمل كل منها على أجسام مختلفة الأشكال والطباع مع اتحاد المواد ونسبة الطبائع السفلية والتأثيرات الفلكية إلى الكل علم أن ذلك ليس إلا بفعل فاعل مختار مقدس عن منازعة الأضداد والأنداد ولعل فصل الآية به لذلك

12 - { وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم } بأن هيأها لمنافعكم { مسخرات بأمره } حال من الجميع أي نفعكم بها حال كونها مسخرات لله تعالى خلقها ودبرها كيف شاء أو لما خلقن له بإيجاده وتقديره أو لحكمه وفيه إيذان بالجواب عما عسى أن يقال إن المؤثر في تكوين النبات حركات الكواكب وأوضاعها فإن ذلك إن سلم فلا ريب في أنها أيضا ممكنة الذات والصفات واقعة على بعض الوجوه المحتملة فلا بد لها من موجد مخصص مختار واجب الوجود دفعا للدور والتسلسل أو مصدر ميمي جمع لاختلاف الأنواع وقرأ حفص { والنجوم مسخرات } على الابتداء والخبر فيكون تعميما للحكم بعد تخصيصه ورفع ابن عامر الشمس والقمر أيضا { إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } جمع الآية وذكر العقل لأنها تدل أنواعا من الدلالة ظاهرة لذوي العقول السليمة غير محوجة إلى استيفاء فكر كأحوال النبات

13 - { وما ذرأ لكم في الأرض } عطف على { الليل } أي وسخر لكم ما خلق لكم فيها من حيوان وبنات { مختلفا ألوانه } أصنافه فإنها تتخالف باللون غالبا { إن في ذلك لآية لقوم يذكرون } إن اختلافها في الطباع والهيئات والمناظر ليس إلا بصنع صانع حكيم

14 - { وهو الذي سخر البحر } جعله بحيث تتمكنون من الانتفاع به بالركوب والاصطياد والغوص { لتأكلوا منه لحما طريا } هو السمك ووصفه بالطراوة لأنه أرطب اللحوم يسرع إليه الفساد فيسارع إلى أكله ولإظهار قدرته في خلقه عذبا طريا في ماء زعاق وتمسك به مالك و الثوري على أن من حلف أن لا يأكل لحما حنث بأكل السمك وأجيب عنه بأن مبنى الإيمان على العرف وهو لا يفهم منه عند الإطلاق ألا ترى أن الله تعالى سمى الكافر دابة ولا يحنث الخالق على أن لا يركب دابة بركوبه { وتستخرجوا منه حلية تلبسونها } كاللؤلؤ والمرجان أي تلبسها نساؤكم فأسند إليهم لأنهن من جملتهم ولأنهن يتزين بها لأجلهم { وترى الفلك } السفن { مواخر فيه } حواري فيه تشقه بحيزومها من المخر وهو شق الماء وقيل صوت حري الفلك { ولتبتغوا من فضله } من سعة رزقه بركوبها للتجارة { ولعلكم تشكرون } أي تعرفون نعم الله تعالى فتقومون بحقها ولعل تخصيصه بتعقيب الشكر لأنه أقوى في باب الأنعام من حيث أنه جعل المهالك سببا للانتفاع تحصيل المعاش

15 - { وألقى في الأرض رواسي } جبالا رواسي { أن تميد بكم } كراهة أن تميل بكم وتضطرب وذلك لأن الأرض قبل أن تخلق فيها الجبال كانت كرة خفيفة بسيطة الطبع وكان من حقها أن تتحرك بالاستدارة كالأفلاك أو أن تتحرك بأدنى سبب للتحريك فلما خلقت الجبال على وجهها تفاوتت جوانبها وتوجهت الجبال بثقلها نحو المركز فصارت كالأوتاد التي تمنعها عن الحركة وقيل لما خلق الله الأرض جعلت تمور فقالت الملائكة : ما هي بمقر أحد على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال { وأنهارا } وجعل فيها أنهارا لأن ألقى فيه معناه { وسبلا لعلكم تهتدون } لمقاصدكم أو إلى معرفة الله سبحانه وتعالى

16 - { وعلامات } معالم يستدل بها السابلة من جبل وسهل وريح ونحو ذلك { وبالنجم هم يهتدون } بالليل في البراري والبحار والمراد بالنجم الجنس ويدل عليه قراءة وبالنجم بضمتين وضمة وسكون على الجمع وقيل الثريا والفرقدان وبنات نعش والجدي ولعل الضمير لقريش لأنهم كانوا كثيري الأسفار للتجارة مشهورين بالاهتداء في مسايرهم بالنجوم وإخراج الكلام عن سنن الخطاب وتقديم النجم وإقحام الضمير للتخصيص كأنه قيل : وبالنجم خصوصا هؤلاء خصوصا يهتدون فالاعتبار بذلك ولشكر عليه ألزم لهم وأوجب عليهم

17 - { أفمن يخلق كمن لا يخلق } إنكار بعد إقامة الدلائل المتكاثرة على كما لقدرته وتناهي حكمته والتفرد بخلق ما عدد من مبدعاته لأن يساويه ويستحق مشاركته ما لا يقدر على خلق شيء من ذلك بل على إيجاد شيء ما وكان حق الكلام أفمن لا يخلق كمن يخلق لكنه عكس تنبيها على أنهم بالإشراك بالله سبحانه وتعالى جعلوه من جنس المخلوقات العجزة شبيها بها والمراد بمن لا يخلق كل ما عبد من دون الله سبحانه وتعالى مغلبا فيه أولو العلم منهم أو الأصنام وأجروها مجرى أولي العلم لأنهم سموها آلهة ومن حق الإله أن يعلم أو للمشاكلة بينه وبين من مخلق أو للمبالغة وكأنه قيل : إن من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولي العلم فكيف بما لا علم عنده { أفلا تذكرون } فتعرفوا فساد ذلك فإنه لجلائه كالحاصل للعقل الذي يحضر عنده بأدنى تذكر والتفات

18 - { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } لا تضبطوا عددها فضلا أن يطيقوا القيام بشكرها أتبع ذلك تعداد النعم وإلزام الحجة على تفرده باستحقاق العبادة تنبيها على أن وراء ما عدد نعما لا تنحصر وأن حق عبادته على غير مقدور { إن الله لغفور } حيث يتجاوز عن تقصير في أداء شكرها ز { رحيم } لا يقطعها لتفريطكم فيه ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها

19 - { والله يعلم ما تسرون وما تعلنون } من عقائدكم وأعمالكم وهو وعيد وتزييف للشرك باعتبار العلم بعد تزييفه باعتبار القدرة

20 - { والذين يدعون من دون الله } أي والآلهة الذين تعبدونهم من دونه وقرأ أبو بكر يدعون بالياء وقرأ حفص ثلاثتها بالياء { لا يخلقون شيئا } لما نفى المشاركة بين من يخلق ومن لا يخلق بين أنهم لا يخلقون شيئا لينتج أنهم لا يشاركونه ثم أكد ذلك بأن أثبت لهم صفات تنافي الألوهية فقال : { وهم يخلقون } لأنهم ذوات ممكنة مفتقرة الوجود إلى التخليق والإله ينبغي أن يكون واجب الوجود

21 - { أموات } هم أموات لا تعتريهم الحياة أو أموات حالا أو مآلا { غير أحياء } بالذات ليتناول كل معبود والإله ينبغي أن يكون حيا بالذات لا يعتريه الممات { وما يشعرون أيان يبعثون } ولا يعلمون وقت بعثهم أو بعث عبدتهم فكيف يكون لهم وقت جزاء على عبادتهم والإله ينبغي أن يكون عالما بالغيوب مقدرا للثواب والعقاب وفيه تنبيه على أن البعث من توابع التكليف

22 - { إلهكم إله واحد } تكرير للمدعى بعد إقامة الحجج { فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون } بيان لما اقتضى إصرارهم بعد وضوح الحق وذلك عدم إيمانهم بالآخرة فإن المؤمن بها يكون طالبا للدلائل متأملا فيما يسمع فينتفع به والكافر بها يكون حاله بالعكس وإنكار قلوبهم ما لا يعرف إلا بالبرهان إتباعا للأسلاف وركونا إلى المألوف فإنه ينافي النظر والاستكبار عن اتباع الرسول و تصديقه والالتفات إلى قوله والأول هو العمدة في الباب ولذلك رتب عليه ثبوت الآخرين

23 - { لا جرم } حقا { أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون } فيجازيهم وهو في موضع الرفع ب { جرم } لأنه مصدر أو فعل { إنه لا يحب المستكبرين } فضلا عن الذين استكبروا عن توحيده أو اتباع الرسول

24 - { وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم } القائل بعضهم على التهكم أو الوافدون عليهم أو المسلمون { قالوا أساطير الأولين } أي ما تدعون نزوله أو المنزل أساطير الأولين وإنما سموه منزلا على التهكم أو على الفرض أي على تقدير أنه منزل فهو أساطير الأولين لا تحقيق فيه والقائلون قيل هم المقتسمون

25 - { ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة } أي قالوا ذلك إضلالا للناس فحملوا أوزار ضلالهم كاملة فإن إضلالهم نتيجة رسوخهم في الضلال { ومن أوزار الذين يضلونهم } وبعض أوزار ضلال من يضلونهم وهو حصة التسبب { بغير علم } حال من المفعول أي يضلون من لا يعلم أنهم ضلال وفائدتها الدلالة على أن جهلهم لا يعذرهم ن إذ كان عليهم أن يبحثوا ويميزوا بين المحق والمبطل { ألا ساء ما يزرون } بئس شيئا يزرونه فعلهم

26 - { قد مكر الذين من قبلهم } أي سووا مصوبات ليمكروا بها رسل الله عليهم الصلاة والسلام { فأتى الله بنيانهم من القواعد } فأتاها أمره من جهة العمد التي بنوا عليها بأن ضعضعت { فخر عليهم السقف من فوقهم } وصار سبب هلاكهم { وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون } لا يحتسبون ولا يتوقعون وهو على سبيل التمثيل وقيل المراد به نمروذ بن كنعان بنى الصرح ببابل سمكه خمسة آلاف ذراع ليترصد أمر السماء فأهب الله الريح فخر عليه وعلى قومه فهلكوا

27 - { ثم يوم القيامة يخزيهم } يذلهم أو يعذبهم بالنار كقوله تعالى : { ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته } { ويقول أين شركائي } أضاف إلى نفسه استهزاء أو حكاية لإضافتهم زيادة في توبيخهم { الذين كنتم تشاقون فيهم } تعادون المؤمنين في شأنهم وقرأ نافع بكسر النون بمعنى تشاقونني فإن مشاقة المؤمنين كمشاقة الله عز و جل { وقال الذين أوتوا العلم } أي الأنبياء والعلماء الذين كانوا يدعونهم إلى التوحيد فيشاقونهم ويتكبرون عليهم أو الملائكة { إن الخزي اليوم والسوء } الذلة والعذاب { على الكافرين } وفائدة قولهم إظهار الشماتة بهم وزيادة الإهانة وحكايته لأن يكون لطفا ووعظا لمن سمعه

28 - { الذين تتوفاهم الملائكة } وقرأ حمزة بالياء وقرئ بإدغام في التاء وموضع الموصول يحتمل الأوجه الثلاثة { ظالمي أنفسهم } بأن عرضوها للعذاب المخلد { فألقوا السلم } فسالموا وأخبتوا حين عاينوا الموت { ما كنا } قائلين ما كنا { نعمل من سوء } كفر وعدوان ويجوز أن يكون تفسيرا ل { السلم } على أن المراد به القول الدال على الاستسلام { بلى } أي فتجيبهم الملائكة بلى { إن الله عليم بما كنتم تعملون } فهو يجازيكم عليه وقيل قوله : { فألقوا السلم } إلى آخر الآية استئناف ورجوع إلى شرح حالهم يوم القيامة وعلى هذا أول من لم يجوز الكذب يومئذ { ما كنا نعمل من سوء } بأنا لم نكن في زعمنا واعتقادنا عاملين سوءا ويحتمل أن يكون الراد عليهم هو الله تعالى أو أولو العلم

29 - { فادخلوا أبواب جهنم } كل صنف بابها المعد له وقيل أبواب جهنم أصناف عذابها { خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين } جهنم

30 - { وقيل للذين اتقوا } يعني المؤمنين { ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا } أي أنزل خيرا وفي نصبه دليل على أنهم لم يتلعثموا في الجواب وأطبقوه على السؤال معترفين بالإنزال على خلاف الكفرة روي أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلى الله عليه و سلم فإذا جاء الوافد المقتسمين قالوا له ما قالوا وإذا جاء المؤمنين قالوا له ذلك { للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة } مكافأة في الدنيا { ولدار الآخرة خير } أي ولثوابهم في الآخرة خير منها وهو عدة للذين اتقوا على قولهم ويجوز أن يكون بما بعده حكاية لقولهم بدلا وتفسيرا ل { خيرا } على أنه منتصب ب { قالوا } { ولنعم دار المتقين } دار الآخرة فحذفت لتقدم ذكرها وقوله :

31 - { جنات عدن } خبر مبتدأ محذوف ويجوز أن يكون المخصوص بالمدح { يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاؤون } من أنواع المشتهيات وفي تقديم الظرف تنبيه على أن الإنسان لا يجد جميع ما يريده إلا في الجنة { كذلك يجزي الله المتقين } مثل هذا الجزاء يجزيهم وهو يؤيد الوجه الأول

32 - { الذين تتوفاهم الملائكة طيبين } طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي لأنه في مقابلة { ظالمي أنفسهم } وقيل فرحين ببشارة الملائكة إياهم بالجنة أو طيبين بقبض أرواحهم لتوجه نفوسهم بالكلية إلى حضرة القدس { يقولون سلام عليكم } لا يحيقكم بعد مكروه { ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون } حين تبعثون فإنها معدة لكم على أعمالكم وقيل هذا التوفي وفاة الحشر لأن الأمر بالدخول حينئذ

33 - { هل ينظرون } ما ينتظر الكفار المار ذكرهم { إلا أن تأتيهم الملائكة } لقبض أرواحهم وقرأ حمزة و الكسائي بالياء { أو يأتي أمر ربك } القيامة او العذاب المستأصل { كذلك } مثل ذلك الفعل من الشرك والتكذيب { فعل الذين من قبلهم } فأصابهم ما أصابوا { وما ظلمهم الله } بتدميرهم { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } بكفرهم معاصيهم والمؤدية إليه

34 - { فأصابهم سيئات ما عملوا } أي جزاء سيئات أعمالهم على حذف المضاف أو تسمية الجزاء باسمها { وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } وأحاط بهم جزاؤه والحيق لا يستعمل إلا في الشر

35 - { وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء } إنما قالوا ذلك استهزاء أو منعا للبعثة والتكليف متمسكين بأن ما شاء الله يجب وما لم يشأ يمتنع فما الفائدة فيها أو إنكار لقبح ما أنكر عليهم من الشرك وتحريم البحائر ونحوها محتجين بأنها لو كانت مستقبحة لما شاء الله صدورها عنهم ولشاء خلافه ملجئا إليه لا اعتذارا إذ لم يعتقدوا قبح أعمالهم وفيما بعده تنبيه على الجواب عن الشبهتين { كذلك فعل الذين من قبلهم } فأشركوا بالله وحرموا حله وردوا رسله { فهل على الرسل إلا البلاغ المبين } إلا الإبلاغ الموضح للحق وهو لا يؤثر في هدى من شاء الله هداه لكنه يؤدي إليه على سبيل التوسط وما شاء الله وقوعه إنما يجب وقوعه لا مطلقا بل بأسباب قدرها له ثم بين أن البعثة أمر جرت به السنة الإلهية في الأمم كلها سببا لهدى من أراد اهتداءه وزيادة لضلال من أراد ضلاله كالغذاء الصالح فإنه ينفع المزاج السوي ويقويه ويضر المنحرف ويفنيه بقوله تعالى :

36 - { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } يأمر بعبادة الله تعالى واجتناب الطاغوت { فمنهم من هدى الله } وفقهم للإيمان بإرشادهم { ومنهم من حقت عليه الضلالة } إذ لم يوفقهم ولم يرد هداهم وفيه تنبيه على فساد الشبهة الثانية لما فيه من الدلالة على أن تحقق الضلال وثباته بفعل الله تعالى وإرادته من حيث أنه قسم من هدى الله وقد صرح به في الآية الأخرى { فسيروا في الأرض } يا معشر قريش { فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } من عاد وثمود وغيرهم لعلكم تعتبرون

37 - { إن تحرص } يا محمد { على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل } من يريد ضلاله وهو المعني بمن حقت عليه الضلالة وقرأ غير الكوفيين { لا يهدي } على البناء للمفعول وهو أبلغ { وما لهم من ناصرين } من ينصرهم بدفع العذاب عنهم

38 - { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت } عطف على { وقال الذين أشركوا } إيذانا بأنهم كما أنكروا التوحيد أنكروا البعث مقسمين عليه زيادة في البت على فساده ولقد رد الله عليهم أبلغ رد فقال : { بلى } يبعثهم { وعدا } مصدر مؤكد لنفسه وهو ما دل عليه { بلى } فإن يبعث موعد الله { عليه } إنجازه لامتناع الخلف في وعده أو لأن البعث مقتضى حكمته { حقا } صفة أخرى للوعد { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } أنهم يبعثون وإما لعدم علمهم بأنه من مواجب الحكمة التي حرت عادته بمراعاتها وإما لقصور نظرهم بالمألوف فيتوهمون امتناعه ثم إنه تعالى بين الأمرين فقال :

39 - { ليبين لهم } أي يبعثهم { ليبين لهم } { الذي يختلفون فيه } وهو الحق { وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين } فيما يزعمون وهو إشارة إلى السبب الداعي إلى البعث المقتضي له من حيث الحكمة وهو المميز بين الحق والباطل والمحق والمبطل بالثواب والعقاب ثم قال :

40 - { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } وهو بيان إمكانية وتقريره أن تكوين الله بمحض قدرته ومشيئته لا توقف له على سبق المواد والمدد وإلا لزم التسلسل فكما أمكن له تكوين الأشياء ابتداء بلا سبق مادة ومثال أمكن له تكوينها إعادة بعده ونصب ابن عامر و الكسائي ها هنا وفي يس فيكون عطفا على نقول أو جوابا للأمر

41 - { والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا } هم رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه المهاجرون ظلمهم قريش فهاجر بعضهم إلى الحبشة ثم إلى المدينة وبعضهم إلى المدينة أن المحبوسون المعذبون بمكة بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه و سلم وهم بلال وصهيب وخباب وعمار وعابس وأبو جندل وسهيل رضي الله تعالى عنهم وقوله : { في الله } أي في حقه ولوجهه { لنبوئنهم في الدنيا حسنة } مباءة حسنة وهي المدينة أو تبوئة حسنة { ولأجر الآخرة أكبر } مما يعجل لهم في الدنيا وعن عمر رضي الله تعالى عنه : أنه كان إذا أعطى رجلا من المهاجرين عطاء قال له خذ بارك الله لك فيه هذا ما وعدك الله في الدنيا وما أدخر لك في الآخرة أفضل { لو كانوا يعلمون } الضمير للكفار أي لو علموا أن الله يجمع لهؤلاء المهاجرين خير الدارين لوافقوهم أو للمهاجرين أي لو علموا ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم

42 - { الذين صبروا } على الشدائد كأذى الكفار ومفارقة الوطن ومحله النصب أو الرفع على المدح { وعلى ربهم يتوكلون } منقطعين إلى الله مفوضين إليه الأمر كله

43 - { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم } رد لقول قريش : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا أي جرت السنة الإلهية بأن لا يبعث للدعوة العامة إلا بشرا يوحي إليه على ألسنة الملائكة والحكمة في ذلك قد ذكرت في سورة الأنعام فإن شككتم فيه { فاسألوا أهل الذكر } أهل الكتاب أو علماء الأخبار ليعلموكم { إن كنتم لا تعلمون } وفي الآية دليل على أنه تعالى لم يرسل امرأة ولا ملكا للدعوة العامة وقوله : { جاعل الملائكة رسلا } معناه رسلا إلى الملائكة أو إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقيل لم يبعثوا إلى الأنبياء إلا متمثلين بصورة الرجال ورد بما [ روي : أنه عليه الصلاة و السلام رأي جبريل صلوات الله عليه على صورته التي هو عليها مرتين ] وعلى وجوب المراجعة إلى العلماء فيما لا يعلم

44 - { بالبينات و الزبر } أي أرسلناهم بالبينات والزبر أي المعجزات والكتب كأنه جواب : قائل قال : بم أرسلوا ؟ ويجوز أن يتعلق بما أرسلنا داخلا في الاستثناء مع رجالا أي : وما أرسلنا إلا رجالا بالبينات كقولك : ما ضربت إلا زيدا بالسوط أو صفة لهم أي رجالا ملتبسين بالبينات أو بيوحي على المفعولية أو الحال من القائم مقام فاعله على أن قوله فاسألوا اعتراض أو بلا تعلمون على أن الشرط للتبكيت والإلزام { وأنزلنا إليك الذكر } أي القرآن وإنما سمي ذكرا لأنه موعظة وتنبيه { لتبين للناس ما نزل إليهم } في الذكر بتوسط إنزاله إليك مما أمروا به ونهوا عنه أو مما تشابه عليهم والتبيين أعم من أن ينص المقصود أو يرشد إلى ما يدل عليه كالقياس ودليل العقل { ولعلهم يتفكرون } وإرادة أن يتأملوا فيه فيتنبهوا للحقائق

45 - { أفأمن الذين مكروا السيئات } أي المكرات السيئات وهم الذين احتالوا لهلاك الأنبياء أو الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه و سلم وراموا صد أصحابه عن الإيمان { أن يخسف الله بهم الأرض } كما خسف بقارون { أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون } بغتة من جانب السماء كما فعل بقوم لوط

46 - { أو يأخذهم في تقلبهم } أي متقلبين في مسايرهم ومتاجرهم { فما هم بمعجزين }

47 - { أو يأخذهم على تخوف } على مخافة بأن يهلك قوما قبلهم فيتخوفوا فيأتيهم العذاب وهم متخوفون أو على أن ينقصهم شيئا بعد شيء في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا من تخوفته إذا تنقصته روي أن عمر رضي الله تعالى عنه قال على المنبر : ما تقولون فيها فسكتوا فقام شيخ من هذيل فقال : هذه لغتنا التخوف التنقص فقال هل تعرف العرب ذلك في أشعارها قال نعم قال شاعرنا أبو كبير يصف ناقته :
( تخوف الرحل منها بامكا قردا ... كما تخوف عود النبعة السفن )
فقال عمر عليكم بديوانكم لا تضلوا قالوا : وما ديواننا قال : شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم { فإن ربكم لرؤوف رحيم } حيث لا يعاجلكم بالعقوبة

48 - { أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء } استفهام إنكار أي قد رأوا أمثال هذه الصنائع فما بالهم لم يتفكروا فيها ليظهر لهم كمال قدرته وقهره فيخافوا منه وما موصولة مبهمة بيانها { يتفيأ ظلاله } أي أو لم ينظروا إلى المخلوقات التي لها ظلال متفيئة وقرأ حمزة و الكسائي تروا بالتاء وأبو عمرو تتفيؤ بالتاء { عن اليمين والشمائل } عن أيمانها وعن شمائلها أي عن جانبي كل واحد منها استعارة من يمين الإنسان وشماله ولعل توحيد اليمين وجمع الشمائل باعتبار اللفظ والمعنى كتوحيد الضمير في ظلاله وجمعه في قوله : { سجدا لله وهم داخرون } وهما حالان من الضمير في ظلاله والمراد من السجود الاستسلام سواء كان بالطبع أو الاختيار يقال سجدت النخلة إذا مالت لكثرة الحمل وسجد البعير إذا طأطأ رأسه ليركب وسجدا حال من الظلال { وهم داخرون } حال من الضمير والمعنى يرجع الظلال بارتفاع الشمس وانحدارها أو باختلاف مشارقها ومغاربها بتقدير الله تعالى من جانب إلى جانب منقادة لما قدر لها من التفيؤ أو واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة الساجد والأجرام في أنفسها أيضا داخرة أي صاغرة منقادة لأفعال الله تعالى فيها وجمع { داخرون } بالواو لن من جملتها من يعقل أو لأن الدخور من أوصاف العقلاء وقيل المراد بـ اليمين والشمائل يمين الفلك وهو جانبه الشرقي لأن الكواكب تظهر منه آخذة في الارتفاع والسطوع و شماله هو الجانب الغربي المقابل له من الأرض فإن الظلال في أول النهار تبتدئ من المشرق واقعة على الربع الغربي من الأرض وعند الزوال تبتدئ من المغرب واقعة على الربع الشرقي من الأرض

49 - { ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض } أي ينقاد انقيادا يعم الانقياد لإرادته وتأثيره طبعا والانقياد لتكليفه وأمره طوعا ليصح إسناده إلى عامة أهل السموات والأرض وقوله : { من دابة } بيان لهما لأن الدبيب هو الحركة الجسمانية سواء كانت في ارض أو سماء { والملائكة } عطف على المبين به عطف جبريل على الملائكة للتعظيم أو عطف المجردات على الجسمانيات وبه احتج من قال إن الملائكة أرواح مجردة أو بيان لما في ملائكتها من الحفظة وغيرهم وما لما استعمل للعقلاء كما استعمل لغيرهم كان استعماله حيث اجتمع القبيلان أولى من إطلاق من تغليبا للعقلاء { وهم لا يستكبرون } عن عبادته

50 - { يخافون ربهم من فوقهم } يخافونه أن يرسل عذابا من فوقهم أو يخافونه وهو فوقهم بالقهر كقوله تعالى : { وهو القاهر فوق عباده } والجملة حال من الضمير في { لا يستكبرون } أو بيان له وتقرير لأن من خاف الله تعالى لم يستكبر عن عبادته { ويفعلون ما يؤمرون } من الطاعة والتدبير وفيه دليل على أن الملائكة مكلفون مدارون بين الخوف والرجاء

51 - { وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين } ذكر العدد مع أن المعدود يدل عليه دلالة على أن مساق النهي إليه أو إيماء بأن الاثنينية تنافي الألوهية كنا ذكر الواحد في قوله : { إنما هو إله واحد } للدلالة على أن المقصود إثبات الوحدانية دون الإلهية أو للتنبيه على أن الوحدة من لوازم الإلهية { فإياي فارهبون } نقل من الغيبة إلى التكلم مبالغة في الترهيب وتصريحا بالمقصود فكأنه قال : فأنا ذلك الإله الواحد فإياي فارهبون لا غير

52 - { وله ما في السموات والأرض } خلقا وملكا { وله الدين } أي الطاعة { واصبا } لازما لما تقرر من أنه الإله وحده و الحقيق بأن يرهب منه وقيل { واصبا } من الوصب أي وله الدين ذا كلفة وقيل الدين الجزاء أي وله الجزاء دائما لا ينقطع ثوابه لمن آمن وعقابه لمن كفر { أفغير الله تتقون } ولا ضار سواه كما لا نافع غيره كما قال تعالى

53 - { وما بكم من نعمة فمن الله } أي وأي شيء اتصل بكم من نعمة فهو من الله { وما } شرطية أو موصولة متضمنة معنى الشرط باعتبار الإخبار دون الحصول فإن استقرار النعمة بهم يكون سببا للإخبار بأنها من الله لا لحصولها منه { ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون } فما تتضرعون إلا إليه و الجؤار رفع الصوت في الدعاء والاستغاثة

54 - { ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم } وهم كفاركم { بربهم يشركون } بعبادة غيره هذا إذا كان الخطاب عاما فإن كان خاصا بالمشركين كان من للبيان كأنه قال : إذا فريق وهم أنتم ويجوز أن تكون من للتبعيض على أن يعتبر بعضهم كقوله تعالى : { فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد }

55 - { ليكفروا بما آتيناهم } من نعمة الكشف عنهم كأنهم قصدوا بشركهم كفران النعمة أو إنكار كونها من الله تعالى { فتمتعوا } أمر تهديد { فسوف تعلمون } أغلظ وعيده وقرئ فيمتعوا مبنيا للمفعول عطفا على { ليكفروا } وعلى هذا جاز أن تكون اللام لام الأمر الوارد للتهديد والفاء للجواب

56 - { ويجعلون لما لا يعلمون } أي لآلهتهم التي لا علم لها لأنها جماد فيكون الضمير { لما } أو التي لا يعلمونها فيعتقدون فيها جهالات مثل أنها تنفعهم و تشفع لهم على أن العائد إلى ما محذوف أو لجعلهم على أن ما مصدرية و المجهول له محذوف للعلم به { نصيبا مما رزقناهم } من الزروع و الأنعام { تالله لتسألن عما كنتم تفترون } من أنها آلهة حقيقية بالتقرب إليها و هو وعيد لهم عليه

57 - { ويجعلون لله البنات } كانت خزاعة وكنانة يقولون الملائكة بنات الله { سبحانه } تنزيه له من قولهم أو تعجب منه { ولهم ما يشتهون } يعني البنين ويجوز فيما يشتهون الرفع بالابتداء والنصب بالعطف على البنات على أن الجعل بمعنى الاختيار وهو وإن أفضى إلى أن يكون ضمير الفاعل والمفعول لشيء واحد لكنه لا يبعد تجويزه في المعطوف

58 - { وإذا بشر أحدهم بالأنثى } أخبر بولادتها { ظل وجهه } صار أو دام النهار كله { مسودا } من الكآبة والحياء من الناس واسوداد الوجه كناية عن الاغتمام والتشوير { وهو كظيم } مملوء غيظا من المرأة

59 - { يتوارى من القوم } يستخفي منهم { من سوء ما بشر به } من سوء المبشر به عرفا { أيمسكه } محدثا نفسه متفكرا في أن يتركه { على هون } ذل { أم يدسه في التراب } أي يخفيه فيه ويئده وتذكير الضمير للفظ { ما } وقرئ بالتأنيث فيهما { ألا ساء ما يحكمون } حيث يجعلون لمن تعالى عن الولد ما هذا محله عندهم

60 - { للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء } صفة السوء وهي الحاجة إلى الولد المنادية بالموت واستبقاء الذكور استظهارا بهم و كراهة الإناث ووأدهن خشية الإملاق { ولله المثل الأعلى } وهو الوجوب الذاتي والغنى المطلق والجود الفائق والنزاهة عن صفات المخلوقين { وهو العزيز الحكيم } المنفرد بكمال القدرة والحكمة

61 - { ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم } بكفرهم ومعاصيهم { ما ترك عليها } على الأرض وإنما أضمرها من غير ذكر لدلالة الناس والدابة عليها { من دابة } قط بشؤم ظلمهم وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : كاد الجعل يهلك في حجره بذنب ابن آدم أو من دابة ظالمة وقيل لو أهلك الآباء بكفرهم لم يكن الأبناء { ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى } سماه لأعمارهم أو لعذابهم كي يتوالدوا { فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } بل هلكوا أو عذبوا حينئذ لا محالة ولا يلزم من عموم الناس وإضافة الظلم إليهم أن يكونوا كلهم ظالمين حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لجواز أن يضاف إليهم ما شاع فيهم وصدر عن أكثرهم

62 - { ويجعلون لله ما يكرهون } أي ما يكرهون لأنفسهم من البنات والشركاء في الرياسة والاستخفاف بالرسل وأراذل الأموال { وتصف ألسنتهم الكذب } مع ذله وهو { أن لهم الحسنى } أي عند الله كقوله : { ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى } وقرئ { الكذب } جمع كذوب صفة للألسنة { لا جرم أن لهم النار } رد لكلامهم وإثبات لضده { وأنهم مفرطون } مقدمون إلى النار من أفرطته في طلب الماء إذا قدمته وقرأ نافع بكسر الراء على أنه من الإفراط في المعاصي وقرئ بالتشديد مفتوحا من فرطته في طلب الماء ومكسورا من التفريط في الطاعات

63 - { تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم } فأصروا على قبائحها وكفروا بالمرسلين { فهو وليهم اليوم } أي في الدنيا وعبر باليوم عن زمانها أو فهو وليهم حين كان يزين لهم أو يوم القيامة على أنه حكاية حال ماضية أو آتية ويجوز أن يكون الضمير لقريش أي زين الشيطان للكفرة المتقدمين أعمالهم وهو ولي هؤلاء اليوم يغريهم ويغويهم وإن يقدر مضاف أي فهو ولي أمثالهم والولي القرين أو الناصر فيكون نفيا للناصر لهم على أبلغ الوجوه { ولهم عذاب أليم } في القيامة

64 - { وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم } للناس { الذي اختلفوا فيه } من التوحيد والقدر وأحوال المعاد وأحكام الأفعال { وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } معطوفان على محل لتبين فإنهما فعلا المنزل بخلاف التبيين

65 - { والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها } انبت فيها أنواع النبات بعد يبسها { إن في ذلك لآية لقوم يسمعون } سماع تدبر وإنصاف

66 - { وإن لكم في الأنعام لعبرة } دلالة يعبر بها من الجهل إلى العلم { نسقيكم مما في بطونه } استئناف لبيان العبرة وإنما ذكر الضمير ووحده ها هنا للفظ وأنثه في سورة المؤمنين للمعنى فإن الأنعام اسم جمع ولذلك عده سيبويه في المفردات المبنية على أفعال كأخلاق وأكياس ومن قال إنه جمع نعم جعل الضمير للبعض فإن اللبن لبعضها دون جميعها أو لواحده أو له على المعنى فإن المراد به الجنس وقرأ نافع و ابن عامر و أبو بكر و يعقوب { نسقيكم } بالتفتح هنا وفي المؤمنين { من بين فرث ودم لبنا } فإنه يخلق من بعض أجزاء الدم المتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث وهو الأشياء المأكولة المنهضمة بعض الإنهضام في الكرش وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أن البهيمة إذا اعتلفت وانطبخ العلف في كرشها كان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما ولعله إن صح فالمراد أن أوسطه يكون مادة اللبن وأعلاه مادة الدم الذي يغذي البدن لأنهما لا يتكونان في الكرش بل الكبد يجذب صفاوة الطعام المنهضم في الكرش ويبقي ثقله وهو الفرث ثم يمسكها ريثما يهضمها هضما ثانيا فيحدث أخلاطا أربعة معها مائية فتميز القوة المميزة تلك المائية بما زاد على قدر الحاجة من المرتين وتدفعها إلى الكلية والمرارة والطحال ثم يوزع الباقي على الأعضاء بحسبها فيجري إلى كل حقه على ما يليق به بتقدير الحكيم العليم ثم إن كان الحيوان أنثى زاد أخلاطها على قدر غذائها لاستيلاء البرد والرطوبة على مزاجها فيندفع الزائد أولا إلى الرحم لجل الجنين فإذا انفصل انصب ذلك الزائد أو بعضه إلى الضروع فيبيض بمجاورة لحومها الغددية البيض فيصير لبنا ومن تدبر صنع الله تعالى في إحداث الأخلاط والألبان وإعداد مقارها ومجاريها والأسباب المولدة لها والقوى المتصرفة فيها كل وقت على ما يليق به اضطر إلى الإقرار بكمال حكمته وتناهي رحمته و { من } الأولى تبعيضية لأن اللبن بعض ما في بطونها والثانية ابتدائية كقولك : سقيت من الحوض لأن بين الفرث والدم المحل الذي يبتدأ منه الإسقاء وهي متعلقة ب { سقيكم } أو حال من { لبنا } قدم عليه لتنكيره وللتنبيه على أنه موضع العبرة { خالصا } صافيا لا يستصحب لون الدم ولا رائحة الفرث أو مصفى عما يصحبه من الأجزاء الكثيفة بتضييق مخرجه { سائغا للشاربين } سهل المرور في حلقهم و قرئ سيغا بالتشديد والتخفيف

67 - { ومن ثمرات النخيل والأعناب } متعلق بمحذوف أي ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب أي من عصيرهما وقوله : { تتخذون منه سكرا } استئناف لبيان الإسقاء أو ب { تتخذون } ومنه تكرير للظرف تأكيدا أو خبر لمحذوف صفته { تتخذون } أي ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه وتذكير الضمير على الوجهين الأولين لأنه للمضاف المحذوف الذي هو العصير أو لأن ال { ثمرات } بمعنى الثمر وال { سكر } مصدر سمي به الخمر { ورزقا حسنا } كالتمر والزبيب والدبس والخل والآية إن كانت سابقة على تحريم الخمر فدالة على كراهتها وإلا فجامعة بين العتاب والمنة وقيل ال { سكر } النبيذ وقيل الطعم قال :
( جعلت أعراض الكرام سكرا )
أي تنقلت بأعراضهم وقيل ما يسد الجوع من السكر فيكون الرزق ما يحصل من أثمانه { إن في ذلك لآية لقوم يعقلون } يستعملون عقولهم بالنظر والتأمل في الآيات

68 - { وأوحى ربك إلى النحل } ألهمها وقذف في قلوبها وقرئ { إلى النحل } بفتحتين { أن اتخذي } بأن اتخذي ويجوز أن تكون { أن } مفسرة لأن في الإيحاء معنى القول وتأنيث الضمير على المعنى فإن النحل مذكر { من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون } ذكر بحرف التبعيض لأنها لا تبني في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش من كرم أو سقف ولا في كل مكان منها وإنما سمي ما تبنيه لتتعسل فيه بيتا تشبيها ببناء الإنسان لما فيه من حسن الصنعة وحصة القسمة التي لا يقوى عليها أحذق المهندسين إلا بآلات وأنظار دقيقة ولعل ذكره لتنبيه على ذلك وقرئ { بيوتا } بكسر الباء وقرا ابن عامر و أبو بكر { يعرشون } بضم الراء

69 - { ثم كلي من كل الثمرات } من كل ثمرة تشتهينها مرها وحلوها { فاسلكي } ما أكلت { سبل ربك } في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النور المر عسلا من أجوافك أو { فاسلكي } الطرق التي ألهمك في عمل العسل أو فاسلكي راجعة إلى بيوتك { سبل ربك } لا تتوعر عليك ولا تلتبس { ذللا } جمع ذلول وهي حال من السبل أي مذللة ذللها الله تعالى وسهلها لك أو من الضمير في اسلكن أي وأنت ذلل منقادة لما أمرت به { يخرج من بطونها } كأنه عدل به عن خطاب النحل إلى خطاب الناس لأنه محل الإنعام عليهم والمقصود من خلق النحل وإلهامه لأجلهم { شراب } يعني العسل لأنه مما يشرب واحتج به من زعم أن النحل تأكل الأزهار والأوراق العطرة فتستحيل في بطنها عسلا ثم تفئ ادخارا للشتاء ومن زعم أنها تلتقط بأفواهها أجزاء طلية حلوة صغيرة متفرقة على الأوراق والأزهار وتضعها في بيوتها ادخارا فإذا اجتمع في بيوتها شيء كثير منها كان العسل فسر البطون بالأفواه { مختلف ألوانه } أبيض وأصفر وأحمر وأسود بحسب اختلاف سن النحل والفصل { فيه شفاء للناس } إما بنفسه كما في الأمراض البلغمية أو مع غيره كما في سائر الأمراض إذ قلما يكون معجون إلا والعسل جزء منه مع أن التنكير فيه مشعر يكون بالتبعيض ويجوز أن يكون للتعظيم وعن قتادة [ أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إن أخي يشتكي بطنه فقال : اسقه العسل فذهب ثم رجع فقال : قد سقيته فما نفع فقال : اذهب وسقه عسلا فقد صدق الله وكذب بطن أخيك فسقاه فشفاه الله تعالى فبرأ فكأنما أنشط من عقال ] وقيل الضمير للقرآن أو لما بين الله من أحوال النحل { إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون } فإن من تدبر اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والأفعال العجيبة حق التدبر علم قطعا أنه لا بد له من خالق قادر حكيم يلهمها ذلك ويحملها عليه

70 - { والله خلقكم ثم يتوفاكم } بآجال مختلفة { ومنكم من يرد } يعاد { إلى أرذل العمر } أخسه يعني الهرم الذي يشابه الطفولية في نقصان القوة والعقل وقيل هو خمس وتسعون سنة وقيل خمس وسبعون { لكي لا يعلم بعد علم شيئا } ليصير إلى حالة شبيهة بحالة الطفولية في النسيان وسوء الفهم { إن الله عليم } بمقادير أعماركم { قدير } يميت الشاب النشيط ويبقي الهرم الفاني وفيه تنبيه على أن تفاوت آجال الناس ليس إلا بتقدير قادر حكيم ركب أبنيتهم وعدل أمزجتهم على قدر معلوم ولو كان ذلك مقتضى الطبائع لم يبلغ التفاوت هذا المبلغ

71 - { والله فضل بعضكم على بعض في الرزق } فمنكم غني ومنكم فقير ومنكم موال يتولون رزقهم ورزق غيرهم ومنكم مماليك حالهم على خلاف ذلك { فما الذين فضلوا برادي رزقهم } بمعطي رزقهم { على ما ملكت أيمانهم } على مماليكهم فإنما يردون
عليهم رزقهم الذي جعله الله في أيديهم { فهم فيه سواء } فالموالي والمماليك سواء في أن الله رزقهم فالجملة لازمة للجملة المنفية أو مقررة لهاء ويجوز أن تكون واقعة موقع الجواب كأنه قيل : فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فيستووا في الرزق على أنه رد وإنكار على المشركين فإنهم يشركون بالله بعض مخلوقاته في الألوهية ولا يرضون أن يشاركهم عبيدهم فيما أنعم الله عليهم فيساورهم فيه { أفبنعمة الله يجحدون } حيث يتخذون له شركاء فإنه يقتضي أن يضاف إليهم بعض ما أنعم الله عليهم ويجحدوا أنه من عند الله أو حيث أنكروا أمثال هذه الحجج بعدما أنعم الله عليهم بإيضاحهم والباء لتضمن الجحود معنى الكفر وقرأ أبو بكر تجحدون بالتاء لقوله : { خلقكم } و { فضل بعضكم }

72 - { والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا } أي من جنسكم لتأنسوا بها ولتكون أولادكم مثلكم وقيل هو خلق حواء من آدم { وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة } وأولاد أولاد أو بنات فإن الحافد هو المسرع في الخدمة والبنات يخدمن في البيوت أتم خدمة وقيل هم الأختان على البنات وقيل الربائب ويجوز أن يراد بها البنون أنفسهم والعطف لتغاير الوصفين { ورزقكم من الطيبات } من اللذائذ أو الحلالات و { من } للتبعيض فإن المرزوق في الدنيا أنموذج منها { أفبالباطل يؤمنون } وهو أن الأصنام تنفعهم أو أن من الطبيات ما يحرم كالبحائر و السوائب { وبنعمة الله هم يكفرون } حيث أضافوا نعمة إلى الأصنام أو حرموا ما أحل الله لهم وتقديم الصلة على الفعل إما للاهتمام أو لإيهام التخصيص مبالغة أو للمحافظة على الفواصل

73 - { ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السموات والأرض شيئا } من مطر ونبات و { رزقا } إن جعلته مصدرا فشيئا منصوب به وإلا فبدل منه { ولا يستطيعون } أن يتملكوه أو لا استطاعة لهم أصلا وجمع الضمير فيه وتوحيده في { لا يملك } لأن { ما } مفرد في معنى الألهة ويجوز أن يعود إلى الكفار أي ولا يستطيع هؤلاء مع أنهم أحياء متصرفون شيئا من ذلك فكيف بالجماد

74 - { فلا تضربوا لله الأمثال } فلا تجعلوا له مثلا تشركونه به أو تقيسونه عليه فإن ضرب المثل تشبيه حال بحال { إن الله يعلم } فساد ما تعولون عليه من القياس على أن عبدة عبيد الملك أدخل في التعظيم من عبادته وعظم جرمكم فيما تفعلون { وأنتم لا تعلمون } ذلك ولو علمتموه لما جرأتم عليه فهو عليم للنهي أو أنه يعلم كنه الأشياء وأنتم لا تعلمونه فدعوا رأيكم دون نصه ويجوز أن يراد فلا تضربوا لله الأمثال فإنه يعلم كيف تضرب الأمثال وانتم لا تعلمون ثم علمهم كيف يضرب فضرب مثلا لنفس ولمن عند دونه فقال :

75 - { ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون } مثل ما يشرك به بالمملوك العاجز عن التصرف رأسا ومثل نفسه بالحر المالك الذي رزقه الله مالا كثيرا فهو نتصرف فيه وينفق منه كيف يشاء واحتج بامتناع الاشتراك والتسوية بينهما مع تشاركهما في الجنسية و المخلوقية على امتناع التسوية بين الأصنام التي هي أعجز المخلوقات وبين الله الغني القادر على الإطلاق وقيل هو تمثيل للكافر المخذول والمؤمن الموفق وتقييد العبد بالمملوكية للتمييز عن الحر فإنه تمثيل عبد الله وبسلب القدرة للتمييز عن المكاتب والمأذون وجعله قسيما للمالك المتصرف يدل على أن المملوك لا يملك والأظهر أن { من } نكرة موصوفة ليطابق { عبدا } وجمع الضمير في { يستوون } لأنه للجنسين فإن المعنى هل يستوي الأحرار والعبيد ؟ { الحمد لله } كل الحمد له لا يستحقه غيره فضلا عن العبادة لأنه مولى النعم كلها { بل أكثرهم لا يعلمون } فيضيفون نعمة إلى غيره ويعبدونه لأجلها

76 - { وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم } ولد أخرس لا يفهم ولا يفهم { لا يقدر على شيء } من الصنائع والتدابير لنقصان عقله { وهو كل على مولاه } عيال وثقل على من يلي أمره { أينما يوجهه } حيثما يرسله مولاه في أمر وقرئ { يوجه } على البناء للمفعول و { يوجه } بمعنى يتوجه كقوله أينما أوجه ألق سعدا وتوجه بلفظ الماضي { لا يأت بخير } ينجح وكفاية مهم { هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل } ومن هو فهم منطيق ذو كفاية ورشد ينفع الناس بحثهم على العدل الشامل لمجامع الفضائل { وهو على صراط مستقيم } وهو في نفسه على طريق مستقيم لا يوجه إلى مطلب إلا ويبلغه بأقرب سعي وإنما قابل تلك الصفات بهذين الوصفين لنهما كمال ما يقابلهما وهذا تمثيل ثان ضربه الله تعالى لنفسه وللأصنام لإبطال المشاركة بينه وبينهم أو للمؤمن والكافر

77 - { ولله غيب السموات والأرض } يختص به علمه لا بعلمه غيره وهو ما غاب فيهما عن العباد بأن لم يكن محسوسا ولم يدل عليه محسوس وقيل يوم القيامة فإن علمه غائب عن أهل السموات والأرض { وما أمر الساعة } وما أمر قيام الساعة في سرعته وسهولته { إلا كلمح البصر } إلا كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها { أو هو أقرب } أو أمرها أقرب منه بأن يكون في زمان نصف تلك الحركة بل في الآن الذين تبتدئ فيه فإنه تعالى يحيي الخلائق دفعة وما يوجد دفعت كان في آن و { أو } للتخيير أو بمعنى بل وقيل معناه أن قيام الساعة وإن تراخى فهو عند الله كالشيء الذي تقولون فيه هو كلمح البصر أو هو أقرب مبالغة في استقرابه { إن الله على كل شيء قدير } فيقدر أن يحيي الخلائق دفعة كما قدر أن أحياهم متدرجا ثم دل على قدرته فقال :

78 - { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم } وقرأ الكسائي بكسر الهمزة على أنه لغة أو إتباع لما قبلها وحمزة بكسرها وكسر الميم والهاء مزيدة مثلها في أهراق { لا تعلمون شيئا } جهالا مستصحبين جهل الجمادية { وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة } أداة تتعلمون بها فتحسون بمشاعركم جزئيات الأشياء فتدركونها ثم تتنبهون بقلوبكم لمشاركات و مباينات بينها بتكرر الإحساس حتى تتحصل لكم العلوم البديهية وتتمكنوا من تحصيل المعالم الكسبية بالنظر فيها { لعلكم تشكرون } كي تعرفوا ما أنعم عليكم طورا بعد طور فتشكروه

79 - { ألم يروا إلى الطير } قرأ ابن عامر و حمزة و يعقوب بالتاء على أنه خطاب للعامة { مسخرات } مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المؤاتية له { في جو السماء } في الهواء المتباعد من الأرض { ما يمسكهن } فيه { إلا الله } فإن ثقل جسدها يقتضي سقوطها ولا علاقة فوقها ولا دعامة تحتها تمسكها { إن في ذلك لآيات } تسخير الطير للطيران بأن خلقها خلقة يمكن معها الطيران وخلق الجو بحيث يمكن الطيران فيه وإمساكها في الهواء على خلاف طبعها { لقوم يؤمنون } لأنهم هم المنتفعون بها

80 - { والله جعل لكم من بيوتكم سكنا } موضعا تسكنون فيه وقت إقامتكم كالبيوت المتخذة من الحجر والمدر فعل بمعنى مفعول { وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا } هي القباب المتخذة من الأدم ويجوز أن يتناول المتخذة من الوبر والصوف والشعر فإنها من حيث إنها نابتة على جلودها يصدق عليها أنها من جلودها { تستخفونها } تجدونها خفيفة يخف عليكم حملها ونقلها { يوم ظعنكم } وقت ترحالكم { ويوم إقامتكم } ووضعها أو ضربها وقت الحضر أو النزول وقرأ الحجازيان والبصريان يوم ظعنكم بالفتح وهو لغة فيه { ومن أصوافها و أوبارها وأشعارها } الصوف للضائنة والوبر للإبل والشعر للمعز وإضافتها إلى ضمير { الأنعام } لأنها من جملتها { أثاثا } ما يلبس ويفرش { ومتاعا } ما يتجر به { إلى حين } إلى مدة من الزمان فإنها لصلابتها تبقى مدة مديدة أو إلى حين مماتكم أو إلى أن تقضوا منه أو طاركم

81 - { والله جعل لكم مما خلق } من الشجر والجبل والأبنية وغيرها { ظلالا } تتقون بها حر الشمس { وجعل لكم من الجبال أكنانا } مواضع تسكنون بها من الكهوف والبيوت المنحوتة فيها جمع كن { وجعل لكم سرابيل } ثيابا من الصوف والكتان والقطن وغيرها { تقيكم الحر } خضه بالذكر اكتفاء بأحد الضدين أو لأن وقاية الحر كانت أهم عندهم { وسرابيل تقيكم بأسكم } يعني الدروع والجواشن والسربال يعم كل ما يلبس { كذلك } كإتمام هذه النعم التي تقدمت { يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون } أي تنظرون في نعمه فتؤمنون به وتنقادون لحكمه وقرئ تسلمون من السلامة أي تشكرون فتسلمون من العذاب أو تنظرون فيها فتسلمون من الشرك قيل { تسلمون } من الجراح بلبس الدروع

82 - { فإن تولوا } أعرضوا ولم يقبلوا منك { فإنما عليك البلاغ المبين } فلا يضرك فإنما عليك البلاغ وقد بلغت وهذا من إقامة السبب مقام المسبب

83 - { يعرفون نعمة الله } أي يعرف المشركون نعمة الله التي عددها عليهم وغيرها حيث يعترفون بها وبأنها من الله تعالى { ثم ينكرونها } بعبادتهم غير المنعم بها وقولهم إنها بشفاعة آلهتنا أو بسبب كذا أو بإعراضهم عن أداء حقوقها وقيل نعمة الله نبوة محمد صلى الله عليه و سلم عرفوها بالمعجزات ثم أنكروها عنادا ومعنى ثم استبعاد الإنكار بعد المعرفة { وأكثرهم الكافرون } الجاحدون عنادا وذكر الأكثر إما لأن بعضهم لم يعرف الحق لنقصان العقل أو التفريط في النظر أو لم تقم عليه الحجة لأنه لم يبلغ حد التكليف وإما لأنه يقام مقام الكل كما في قوله : { بل أكثرهم لا يعلمون }

84 - { ويوم نبعث من كل أمة شهيدا } وهو نبيها يشهد لهم وعليهم بالإيمان والكفر { ثم لا يؤذن للذين كفروا } في الاعتذار إذ لا عذر لهم وقيل في الرجوع إلى الدنيا و { ثم } لزيادة ما يحيق بهم من شدة المنع عن الاعتذار لما فيه من الإقناط الكلي على ما يمنون به من شهادة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام { ولا هم يستعتبون } ولا هم يسترضون من العتبى وهي الرضا وانتصاب يوم بمحذوف تقديره اذكر أو خوفهم أو يحيق بهم ما يحيق وكذا قوله :

85 - { وإذا رأى الذين ظلموا العذاب } عذاب جهنم { فلا يخفف عنهم } أي العذاب { ولا هم ينظرون } يمهلون

86 - { وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم } أوثانهم التي ادعوها شركاء أو الشياطين الذين شاركوهم في الكفر بالحمل عليه { قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك } نعبدهم أو نطيعهم وهو اعتراف بأنهم كانوا مخطئين في ذلك أو التماس لأن يشطر عذابهم { فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون } أي أجابوهم بالتكذيب في أنهم شركاء الله أو أنهم ما عبدوهم حقيقة وإنما عبدوا أهواءهم كقوله تعالى { كلا سيكفرون بعبادتهم } ولا يمتنع إنطاق الله الأصنام به حينئذ أوفي أنهم حملوهم على الكفر وألزموهم إياه كقوله : { وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي }

87 - { وألقوا } وألقى الذين ظلموا { إلى الله يومئذ السلم } الاستسلام لحكمه بعد الاستكبار في الدنيا { وضل عنهم } وضاع عنهم وبطل { ما كانوا يفترون } من أن آلهتهم ينصرونهم ويشفعون لهم حين كذبوهم وتبرؤوا منهم

88 - { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله } بالمنع عن الإسلام والحمل على الكفر { زدناهم عذابا } لصدهم { فوق العذاب } المستحق بكفرهم { بما كانوا يفسدون } بكونهم مفسدين بصدهم

89 - { ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم } يعني نبييهم فإن نبي كل أمة بعث منهم { وجئنا بك } يا محمد { شهيدا على هؤلاء } على أمتك { ونزلنا عليك الكتاب } استئناف أوحال بإضمار قد { تبيانا } بيانا بليغا { لكل شيء } من أمور الدين على التفصيل أو الإجمال بالإحالة إلى السنة أو القياس { وهدى ورحمة } للجميع وإنما حرمان المحرم من تفريطه { وبشرى للمسلمين } خاصة

90 - { إن الله يأمر بالعدل } بالتوسط في الأمور اعتقادا كالتوحيد المتوسط بين التعطيل والتشريك والقول بالكسب المتوسط بين محض الخبر والقدر وعملا كالتعبد بأداء الواجبات المتوسط بين البطالة والترهب وخلقا كالجود المتوسط بين البخل والتبذير { والإحسان } إحسان الطاعات وهو إما بحسب الكمية كالتطوع بالنوافل أو بحسب الكيفية كما قال عليه الصلاة و السلام [ الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ] { وإيتاء ذي القربى } وإعطاء الأقارب ما يحتاجون إليه وهو تخصيص بعد تعميم للمبالغة { وينهى عن الفحشاء } عن الإفراط في متابعة القوة الشهوية كالزنا فإنه أقبح أحوال الإنسان وأشنعها { والمنكر } ما ينكر على متعاطيه في إثارة القوة الغضبية { والبغي } والاستعلاء والاستيلاء على الناس والتجبر عليهم فإنها الشيطنة التي هي مقتضى القوة الوهمية ولا يوجد من الإنسان شر إلا وهو مندرج في هذه الأقسام صادر بتوسط إحدى هذه القوى الثلاث ولذلك قال ابن مسعود رضى الله عنه : هي أجمع آية في القرآن للخير والشر وصارت سبب إسلام عثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنه ولو لم يكن في القرآن غير هذه الآية لصدق عليه أنه تبيان لكل شيء وهدى ورحمة للعالمين
ولعل إيرادها عقب قوله : { ونزلنا عليك الكتاب } للتنبيه عليه { يعظكم } بالأمر والنهي والميز بين الخير والشر { لعلكم تذكرون } تتعظون

91 - { وأوفوا بعهد الله } يعني البيعة لرسول الله صلى الله عليه و سلم لقوله تعالى : { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } وقيل كل أمر يجب الوفاء به ولا يلائمه قوله : { إذا عاهدتم } وقيل النذور وقيل الإيمان بالله { ولا تنقضوا الأيمان } أي أيمان البيعة أو مطلق الأيمان { بعد توكيدها } بعد توثيقها بذكر الله تعالى ومنه أكد بقلب الواو همزة { وقد جعلتم الله عليكم كفيلا } شاهدا بتلك البيعة فإن الكفيل مراع لحال المكفول به رقيب عليه { إن الله يعلم ما تفعلون } من نقض الإيمان والعهود

92 - { ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها } ما غزلته مصدر بمعنى المفعول { من بعد قوة } متعلق ب { نقضت } أي نقضت غزلها من بعد إبرام وإحكام { أنكاثا } طاقات نكث فتلها جمع نكث وانتصابه على الحال من { غزلها } أو المفعول الثاني لنقضت فإنه بمعنى صيرت والمراد به تشبيه الناقض بمن هذا شأنه وقيل هي ريطة بنت سعد بن تيم القرشية إنها كانت خرقاء تفعل ذلك { تخذون أيمانكم دخلا بينكم } حال من الضمير في { ولا تكونوا } أو في الجار الواقع موقع الخبر أي لا تكونوا متشبهين بامرأة هذا شأنها متخذي أيمانكم مفسدة ودخلا بينكم وأصل الدخل ما يدخل الشيء ولم يكن من { أن تكون أمة هي أربى من أمة } لأن تكون جماعة أزيد عددا وأوفر مالا من جماعة والمعنى لا تغدروا بقوم لكثرتكم وقلتهم أن لكثرة منابذتهم وقوتهم كقريش فإنهم كانوا إذا رأوا شوكة في أعادي حلفائهم نقضوا عهدهم وحالفوا أعداءهم { إنما يبلوكم الله به } الضمير لن تكون أمة لأنه بمعنى المصدر أي يختبركم بكونهم أربى لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وبيعة رسوله أم تغترون بكثرة قريش وشوكتهم وقلة المؤمنين وضعفهم وقيل الضمير للرياء وقيل للأمر بالوفاء { وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون } إذا جازاكم على أعمالكم بالثواب والعقاب

93 - { ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة } متفقة على الإسلام { ولكن يضل من يشاء } بالخذلان { ويهدي من يشاء } بالتوفيق { ولتسألن عما كنتم تعملون } سؤال تبكيت ومجازة

94 - { ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم } تصريح بالنهي عنه بعد التضمين تأكيدا ومبالغة في قبح المنهي { فتزل قدم } أي عن محجة الإسلام { بعد ثبوتها } عليها والمراد أقدامهم وإنما وحد ونكر للدلالة على أن زلل قدم واحدة عظيم فيكف بأقدام كثيرة { وتذوقوا السوء } العذاب في الدنيا { بما صددتم عن سبيل الله } بصدكم عن الوفاء أن صدكم غيركم عنه فإن من نقض البيعة وارتد جعل ذلك سنة لغيره { ولكم عذاب عظيم } في الآخرة

95 - { ولا تشتروا بعهد الله } ولا تستبدلوا عهد الله وبيعة رسوله صلى الله عليه و سلم { ثمنا قليلا } عرضا يسيرا وهو ما كانت قريش يعدون لضعفاء المسلمين ويشترطون لهم على الارتداد { إنما عند الله } من النصر والتغنيم في الدنيا والثواب في الآخرة { هو خير لكم } مما يعدونكم { إن كنتم تعلمون } إن كنتم من أهل العلم والتمييز

96 - { ما عندكم } من أعراض الدنيا { ينفد } ينقضي ويفنى { وما عند الله } من خزائن رحمته { باق } لا ينفد وهو تعليل للحكم السابق ودليل على أن نعيم أهل الجنة باق { ولنجزين الذين صبروا أجرهم } على الفاقة وأذى الكفار أو على مشاق التكاليف وقرأ ابن كثير و عاصم بالنون { بأحسن ما كانوا يعملون } بما يرجح فعله من أعمالهم كالواجبات والمندوبات أو بحزاء أحسن من أعمالهم

97 - { من عمل صالحا من ذكر أو أنثى } بينه بالنوعين دفعا للتخصيص { وهو مؤمن } إذ لا اعتداد بأعمال الكفرة في استحقاق الثواب وإنما المتوقع عليها تخفيف العذاب { فلنحيينه حياة طيبة } في الدنيا يعيش عيشا طيبا فإنه إن كان موسرا فظاهر وإن كان معسرا يطيب عيشه بالقناعة والرضا بالقسمة وتوقع الأجر العظيم في الآخرة بخلاف الكافر فإنه إن كان معسرا فظاهر وإن كان موسرا لم يدعه الحرص وخوف الفوات أن يتهنأ بعيشه وقيل في الآخرة { ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } من الطاعة

98 - { فإذا قرأت القرآن } إذا أردت قراءته كقوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة } { فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } فاسأل الله أن يعيذك كم وساوسه لئلا يوسوسك في القراءة والجمهور على أنه للاستحباب وفيه دليل على أن المصلى يستعيذ في كل ركعة لأن الحكم المترتب على شرط يتكرر بتكرره قياسا وتعقيبه لذلك العمل الصالح والوعد عليه إيذان بأن الاستعاذة عند القرءاة من هذا القبيل وعن ابن مسعود [ قرأت على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم فقال : قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأنيه جبريل عن القلم عن اللوح المحفوظ ]

99 - { إنه ليس له سلطان } تسلط وولاية { على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون } على أولياء الله تعالى المؤمنين به والمتوكلين عليه فإنهم لا يطيعون أوامره ولا يقبلون وساوسه إلا فيما يحتقرون على ندور وغفلة ولذلك أمروا بالاستعاذة فذكر السلطنة بعد الأمر بالاستعاذة لئلا يتوهم منه أن له سلطانا

100 - { إنما سلطانه على الذين يتولونه } يحبونه ويطيعونه { والذين هم به } بالله أو بسبب الشيطان { مشركون }

101 - { وإذا بدلنا آية مكان آية } بالنسخ فجعلنا الآية الناسخة مكان المنسوخة لفظا أو حكما { والله أعلم بما ينزل } من المصالح فلعل ما يكون مصلحة في وقت يصير مفسدة بعده فينسخه وما لا يكون مصلحة حينئذ يكون مصلحة الآن فيثبته مكانه وقرأ ابن كثير و أبو عمرو ينزل بالتخفيف { قالوا } أي الكفرة { إنما أنت مفتر } متقول على الله تأمر بشيء ثم يبدو لك فتنهى عنه وجواب { إذا } { والله أعلم بما ينزل } اعتراض لتوبيخ الكفار على قولهم والتنبيه على فساد سندهم ويجوز أن يكون حالا { بل أكثرهم لا يعلمون } حكمة الأحكام ولا يميزون الخطأ من الصواب

102 - { قل نزله روح القدس } يعني جبريل عليه الصلاة و السلام وإضافة الروح إلى القدس وهو الطهر كقولهم : حاتم الجود وقرأ ابن كثير روح القدس بالتخفيف وفي { ينزل } و { نزله } تنبيه على أن إنزاله مدرجا على حسب المصالح بما يقتضي التبديل { من ربك بالحق } ملتبسا بالحكمة { ليثبت الذين آمنوا } ليثبت الله الذين آمنوا على الإيمان بأنه كلامه وأنهم إذا سمعوا الناسخ وتدبروا ما فيه من رعاية الصلاح والحكمة رسخت عقائدهم واطمأنت قلوبهم { وهدى وبشرى للمسلمين } المنقادين لحكمه وهما معطوفان على محل { ليثبت } أي تثبيتا وهداية وبشارة وفيه تعريض بحصول أضداد ذلك لغيرهم وقرئ { ليثبت } بالتخفيف

103 - { ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر } يعنون جبرا الرومي غلام عامر بن الحضرمي وقيل جبرا ويسارا كانا يصنعان السيوف بمكة ويقرأن التوراة والإنجيل وكان الرسول صلى الله عليه و سلم يمر عليهما ويسمع ما يقرأنه وقيل عائشا غلام حويطب بن عبد العزى قد أسلم وكان صاحب كتب وقيل سلمان الفارسي { لسان الذي يلحدون إليه أعجمي } لغة الرجل الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه مأخوذ من لحد القبر وقرأ حمزة و الكسائي يلحدون بفتح الياء والحاء لسان أعجمي غير بين { وهذا } وهذا القرآن { لسان عربي مبين } ذو بيان وفصاحة والجملتان مستأنفتان لإبطال طعنهم وتقريره يحتمل وجهين أحدهما : أن ما سمعه منه كلام أعجمي لا يفهمه هو ولا أنتم والقرآن عربي تفهمونه بأدنى تأمل فيكف يكون ما تلقفه منه وثانيهما : هب أنه تعلم منه المعنى باستماع كلامه لكن لم يتلقف منه اللفظ لأن ذلك أعجمي وهذا عربي والقرآن كما هو معجز باعتبار المعنى فهو معجز من حيث اللفظ مع أن العلوم الكثيرة التي في القرآن لا يمكن تعلمها إلا بملازمة معلم فائق فيتلك العلوم مدة متطاولة فيكف تعلم جميع ذلك من غلام سوقي سمع منه في بعض أوقات مروره عليه كلمات أعجمية لعلهما لم يعرفا معناها وطعنهم في القرآن بأمثال هذه الكلمات الركيكة دليل على غاية عجزهم

104 - { إن الذين لا يؤمنون بآيات الله } لا يصدقون أنها من عند الله { لا يهديهم الله } إلى الحق أو إلى سبيل النجاة وقيل إلى الجنة { ولهم عذاب أليم } في الآخرة هددهم على كفرهم بالقرآن بعدما أماط شبهتهم ورد طعنهم فيه ثم قلب الأمر عليهم فقال :

105 - { إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله } لأنهم لا يخافون عقابا يردعهم عنه { وأولئك } إشارة إلى الذين كفروا أو إلى قريش { هم الكاذبون } أي الكاذبون على الحقيقة أو الكاملون في الكذب لأن تكذيب آيات الله والطعن فيها بهذه الخرافات أعظم الكذب أو الذين عادتهم الكذب لا يصرفهم عنه دين ولا مروءة أو الكاذبون في قولهم : { إنما أنت مفتر } { إنما يعلمه بشر }

106 - { من كفر بالله من بعد إيمانه } بدل من الذين لا يؤمنون وما بينهما اعتراض أومن { أولئك } أو من { الكاذبون } أو مبتدأ خبره محذوف دل عليه قوله : { فعليهم غضب } ويجوز أن ينتصب بالذم وأن تكون من شرطية محذوف الجواب دل عليه قوله : { إلا من أكره } على الافتراء أو كلمة الكفر استثناء متصل لأن الكفر لغة يعم القول والعقد كالإيمان { وقلبه مطمئن بالإيمان } لم تتغير عقدته وفيه دليل على أن الإيمان هو التصديق بالقلب { ولكن من شرح بالكفر صدرا } اعتقده وطاب به نفسا { فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم } إذ لا أعظم من جرمه [ روي أن قريشا أكرهوا عمارا وأبويه ياسرا وسمية على الارتداد فربطوا سمية بين بعيرين وجيء بحربة في قبلها وقالوا : إنك أسلمت من أجل الرجال فقتلت وقتلوا ياسرا وهما أول قتيلين في الإسلام وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا مكرها فقيل : يا رسول الله إن عمارا كفر فقال : كلا إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يبكي فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يمسح عينيه ويقول : ما لك إن عادوا لك فعد لهم بما قلت ]
وهو دليل على جواز التكلم بالكفر عند الإكراه وإن كان الأفضل أن يتجنب عنه إعزازا للدين كما فعله أبواه لما [ روي أن مسيلمة أخذ رجلين فقال لأحدهما : ما تقول في محمد ؟ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : فما تقول في فقال : أنت فخلاه وقال للآخر ما تقول في محمد قال : رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قال فما تقول في ؟ قال : أنا أصم فأعاد عليه ثلاثا فأعاد جوابه فقتله فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أما الأول فقد أخذ رخصة الله وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئا له ]

107 - { ذلك } إشارة إلى الكفر بعد الإيمان أو الوعيد { بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة } بسبب أنهم آثروها عليها { وأن الله لا يهدي القوم الكافرين } أي الكافرين في علمه إلى ما يوجب ثبات الإيمان ولا يعصمهم من الزيغ

108 - { أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم } فأبت عن إدراك الحق والتأمل فيه { وأولئك هم الغافلون } الكاملون في الغفلة إذ أغفلتهم الحالة الراهنة عن تدبر العواقب

109 - { لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون } إذ ضيعوا أعمارهم وصرفوها فيما أفضى بهم إلى العذاب المخلد

110 - { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا } أي عذبوا كعمار رضي الله تعالى عنه بالولاية والنصر و { ثم } لتباعد حال هؤلاء عن حال أولئك وقرأ ابن عامر فتنوا بالفتح أي من بعد ما عذبوا المؤمنين كالحضرمي أكره مولاه جبرا حتى ارتد ثم أسلم وهاجر { ثم جاهدوا وصبروا } على الجهاد وما أصابهم من المشاق { إن ربك من بعدها } من بعد الهجرة والجهاد والصبر { لغفور } لما فعلوا قبل { رحيم } منعم عليهم مجازاة على ما صنعوا بعد

111 - { يوم تأتي كل نفس } منصوب ب { رحيم } أو باذكر { تجادل عن نفسها } تجادل عن ذاتها وتسعى في خلاصها لا يهمها شأن غيرها فتقول نفسي نفسي { وتوفى كل نفس ما عملت } جزاء ما عملت { وهم لا يظلمون } لا ينقصون أجورهم

112 - { وضرب الله مثلا قرية } أي جعلها مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة فكفروا فأنزل الله بهم نقمته أو لمكة { كانت آمنة مطمئنة } لا يزعج أهلها خوف { يأتيها رزقها } أقواتها { رغدا } واسعا { من كل مكان } من نواحيها { فكفرت بأنعم الله } بنعمه جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء كدرع وأدرع أو جمع نعم كبؤس وأبؤس { فأذاقها الله لباس الجوع والخوف } استعار الذوق لإدراك أثر الضرر واللباس لما غشيهم واشتمل عليهم من الجوع والخوف وأوقع الإذاقة عليه بالنظر إلى المستعار له كقول كثير :
( عمر الرداء إذا تبسم ضاحكا ... غلقت لضحكته رقاب المال )
فإنه استعار الرداء للمعروف لأنه يصون عرض صاحبه صون الرداء لما يلقى عليه وأضاف إليه الغمر الذي هو وصف المعروف والنوال لا وصف الرداء نظرا إلى المستعار له وقد ينظر إلى المستعار كقوله :
( ينازعني ردائي عبد عمرو ... رويدك يا أخا عمرو بن بكر )
( لي الشطر الذي ملكت يميني ... ودونك فاعتجر منه بشطر )
استعار الرداء لسيفه ثم قال فاعتجر نظرا إلى المستعار { بما كانوا يصنعون } بصنيعهم

113 - { ولقد جاءهم رسول منهم } يعني محمدا صلى الله عليه و سلم والضمير لأهل مكة عاد إلى ذكرهم بعد ما ذكر مثلهم { فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون } أي حال التباسهم بالظلم والعذاب ما أصابهم من الجدب الشديد أو وقعة بدر

114 - { فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا } أمرهم بأكل ما أحل الله لهم وشكر ما أنعم عليهم بعدما زجرهم عن الكفر وهددهم عليه بما ذكر من التمثيل والعذاب الذي حل بهم صدا لهم عن صنيع الجاهلية ومذاهبها الفاسدة { واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون } تطيعون أو إن صح زعمكم أنكم تقصدون بعبادة الآلهة عبادته

115 - { إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم } لما أمرهم بتناول ما أحل الهم عدد عليهم محرماته ليعلم أن ما عداها حل لهم ثم أكد ذلك بالنهي عن التحريم والتحليل بأهوائهم فقال :

116 - { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام } كما قالوا { ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا } الآية ومقتضى سياق الكلام وتصدير الجملة بإنما حصر المحرمات في الأجناس الأربعة إلا ما ضم إليه دليل : كالسباع والحمر الأهلية وانتصاب { الكذب } ب { ولا تقولوا } و { هذا حلال وهذا حرام } بدل منه أو متعلق بتصف على إرادة القول أي : ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم فتقولوا هذا حلال وهذا حرام أو مفعول { لا تقولوا } و { الكذب } منتصب ب { تصف } وما مصدرية أي ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب أي : لا تحرموا ولا تحللوا بمجرد قول تنطق به ألسنتكم من غير دليل ووصف ألسنتهم الكذب مبالغة فيوصف كلامهم بالكذب كأن حقيقة الكذب كانت مجهولة وألسنتكم تصفها وتعرفها بكلامهم هذا ولذلك عد من تصحيح الكلام كقولهم : وجهها يصف الجمال وعينها تصف السحر وقرئ { الكذب } بالجر بدلا من ما و { الكذب } جمع كذوب أو كذاب بالرفع صفة للألسنة وبالنصب على الذم أو بمعنى الكلم الكواذب { لتفتروا على الله الكذب } تعليل لا يتضمن الغرض { إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون } لما كان المعتري يفتري لتحصيل مطلوب نفي عنهم الفلاح وبينه بقوله :

117 - { متاع قليل } أي ما يفترون لأجله أو ما هم فيه منفعة قليلة تنقطع عن قريب { ولهم عذاب أليم } في الآخرة

118 - { وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك } أي وفي سورة الأنعام في قوله : { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } { من قبل } متعلق ب { قصصنا } أو ب { حرمنا } { وما ظلمناهم } بالتحريم { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } حيث فعلوا ما عوقبوا به عليه وفيه تنبيه على الفرق بينهم وبين غيرهم في التحريم وأنه كما يكون المضرة يكون العقوبة

119 - { ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة } بسببها او ملتبسين بها ليعم الجهل بالله وبعقابه وعدم التدبر في العواقب لغلبة الشهوة والسوء يعم الافتراء على الله وغيره { ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها } من بعد التوبة { لغفور } لذلك السوء { رحيم } يثيب على الإنابة

120 - { إن إبراهيم كان أمة } لكماله واستجماعه فضائل لا تكاد توجد إلا مفرقة في أشخاص كثيرة كقوله :
( ليس من الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد )
وهو رئيس الموحدين وقدوة المحققين الذي جادل فرق المشركين وأبطل مذاهبهم الزائغة بالحجج الدامغة ولذلك عقب ذكره بتزييف مذاهب المشركين من الشرك والطعن في النبوة وتحريم ما أحله أو لأنه كان وحده مؤمنا وكان سائر الناس كفارا وقيل هي فعلة بمعنى مفعول كالرحلة والنخبة من أمه إذا قصده أو اقتدى به فإن الناس كانوا يؤمونه للاستفادة ويقتدون بسيرته كقوله : { إني جاعلك للناس إماما } { قانتا لله } مطيعا له قائما بأوامره { حنيفا } مائلا عن الباطل { ولم يك من المشركين } كما زعموا فإن قريشا كانوا يزعمون أنهم على ملة إبراهيم

121 - { شاكرا لأنعمه } ذكر بلفظ القلة للتنبيه على أنه كان لا يخل بشكر النعم القليلة فيكف بالكثيرة { اجتباه } للنبوة { وهداه إلى صراط مستقيم } في الدعوة إلى الله

122 - { وآتيناه في الدنيا حسنة } بأن حببه إلى الناس حتى أن أرباب الملل يتولونه ويثنون عليه ورزقه أولادا طيبة وعمرا طويلا في السعة والطاعة { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } لمن أهل الجنة كما سأله بقوله : { وألحقني بالصالحين }

123 - { ثم أوحينا إليك } يا محمد و { ثم } إما لتعظيمه والتنبيه على أن أحل ما أوتي إبراهيم اتباع الرسول عليه الصلاة و السلام ملته أو لتراخي أيامه { أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا } في التوحيد والدعوة إليه بالرفق وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى والمجادلة مع كل أحد على حسب فهمه { وما كان من المشركين } بل كان قدوة الموحدين

124 - { إنما جعل السبت } تعظيم السبت أو التخلي فيه للعبادة { على الذين اختلفوا فيه } أي على نبيهم وهم اليهود أمرهم موسى عليه السلام أن يتفرغوا للعبادة يوم الجمعة فأبوا وقالوا : نريد يوم السبت لأنه تعالى فرغ فيه من خلق السموات والأرض فألزمهم الله السبت وشدد الأمر عليهم وقيل معناه إنما جعل وبال السبت وهو المسخ على الذين اختلفوا فيه فأحلوا الصيد في تارة وحرموه أخرى واحتالوا له الحيل وذكرهم هنا لتهديد المشركين كذكر القرية التي كفرت بأنعم الله { وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } بالمجازاة على الاختلاف أو بمجازاة كل فريق بما يستحقه

125 - { ادع } من بعثت إليهم { إلى سبيل ربك } إلى الإسلام { بالحكمة } بالمقالة المحكمة وهو الدليل الموضح للحق المزيح للشبهة { والموعظة الحسنة } الخطابات المقنعة والعبر النافعة فالأولى لدعوة خواص الأمة الطالبين للحقائق و الثانية لدعوة عوامهم { وجادلهم } وجادل معانديهم { بالتي هي أحسن } بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين وإيثار الوجه الأيسر والمقدمات التي هي أشهر فإن ذلك أنفع في تسكين لهبهم وتبين شغبهم { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين } أي إنما عليك البلاغ والدعوة وأما حصول الهداية والضلال والمجازاة عليهما فلا إليك بل الله أعلم بالضالين والمهتدين وهو المجازي لهم

سورة الإسراء
126 - دل مع من يناصبهم فإن الدعوة لا تنفك عنه من حيث إنها تتضمن رفض العادات وترك الشهوات والقدح في دين الأسلاف والحكم عليهم بالكفر والضلال وقيل إنه عليه الصلاة و السلام [ لما رأى حمزة وقد مثل به فقال : ( والله لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين مكانك ) فنزلت ] فكفر عن يمينه وفيه دليل على أن للمقتص أن يماثل الجاني وليس له أن يجاوزه وحث على العفو تعريضا بقوله : { وإن عاقبتم } وتصريحا على الوجه الآكد بقوله : { ولئن صبرتم لهو } أي الصبر { خير للصابرين } من الانتقام للمنتقمين ثم صرح بالأمر به لرسوله لأنه أولى الناس به لزيادة لعلمه بالله ووثوقه عليه فقال :

127 - { واصبر وما صبرك إلا بالله } إلا بتوفيقه وتثبيته { ولا تحزن عليهم } على الكافرين أو على المؤمنين وما فعل بهم { ولا تك في ضيق مما يمكرون } في ضيق صدر من مكرهم وقرأ ابن كثير في { ضيق } بالكسر هنا وفي النمل وهما لغتان كالقول والقيل ويجوز أن يكون الضيق تخفيف ضيق

128 - { إن الله مع الذين اتقوا } المعاصي { والذين هم محسنون } في أعمالهم بالولاية والفضل أو مع الذين اتقوا الله بتعظيم أمره والذين هم محسنون بالشفقة على خلقه [ عن النبي صلى الله عليه و سلم من قرأ سورة النحل لم يحاسبه الله بما أنعم عليه في دار الدنيا وإن مات في يوم تلاها أو ليلة كان له من الأجر كالذي مات وأحسن الوصية ]

وقيل إلا قوله تعالى : { وإن كادوا ليفتنونك } إلى آخر ثمان آيات وهي مائة وإحدى عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
1 - { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } سبحان اسم بمعنى التسبيح { الذي } هو التنزيه يستعمل علما له فيقطع عن الإضافة ويمنع عن الصرف قال :
( قد قلت لما جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر )
وانتصابه بفعل متروك إظهاره وتصدير الكلام به للتنزيه عن العجز عما ذكر بعد و { أسرى } وسرى بمعنى و { ليلا } نصب على الظرف وفائدته الدلالة بتنكيره على تقليل مدة الإسراء ولذلك قرئ : من الليل أي بعضه كقوله : { ومن الليل فتهجد به } { من المسجد الحرام } بعينه [ لما روي أنه عليه الصلاة السلام قال : بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق ] أو من الحرم وسماه المسجد الحرام لأنه كله مسجد أو لأنه محيط به أو ليطابق المبدأ المنتهى [ لما روي أنه صلى الله عليه و سلم كان نائما في بيت أم هانئ بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته وقص القصة عليها وقال : مثل لي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فصليت بهم ثم خرج إلى المسجد الحرام وأخبر به قريشا فتعجبوا منه استحالة وارتد ناس ممن آمن به وسعى رجال إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال : إن كان قال لقد صدق فقالوا : أتصدقه على ذلك فقال : إني لأصدقه على أبعد من ذلك فسمي الصديق و استنعته طائفة سافروا إلى بيت المقدس فجلى له فطفق ينظر إليه وينعته لهم فقالوا : أما النعت فقد أصاب فقالوا أخبرنا عن عيرنا فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها وقال تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس بقدمها جمل أورق فخرجوا يشتدون إلى الثنية فصادفوا العير كما أخبر ثم لم يؤمنوا وقالوا ما هذا إلا سحر مبين وكان ذلك قبل الهجرة بسنة ] واختلف في أنه كان في المنام أو في اليقظة بروحه أو بجسده والأكثر على أنه أسري بجسده إلى بيت المقدس ثم عرج به إلى السموات حتى انتهى إلى سدرة المنتهى ولذلك تعجب قريش و استحالوه والاستحالة مدفوعة بما ثبت في الهندسة أن ما بين طرفي قرص الشمس ضعف ما بين طرفي كرة الأرض مائة ونيفا وستين مرة ثم إن طرفها الأسفل يصل موضع طرفها الأعلى في أقل من ثانية وقد برهن في الكلام أن الأجسام متساوية في قبول الأعراض وأن الله قادر على كل الممكنات فيقدر أن يخلق مثل هذه الحركة السريعة في بدن النبي صلى الله عليه و سلم أو فيما يحمله والتعجب من لوازم المعجزات { إلى المسجد الأقصى } بيت المقدس لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد { الذي باركنا حوله } ببركات الدين والدنيا لأنه مهبط الوحي ومتعبد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من لدن موسى عليه الصلاة و السلام ومحفوف بالأنهار والأشجار { لنريه من آياتنا } كذهابه في برهة من الليل مسرة شهر ومشاهدته بيت المقدس وتمثل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام له ووقوفه على مقاماتهم وصرف الكلام من الغيبة إلى التكلم لتعظيم تلك البركات والآيات وقرئ ليريه بالياء { إنه هو السميع } لأقوال محمد صلى الله عليه و سلم { البصير } بأفعاله فيكرمه ويقربه على حسب ذلك

2 - { وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل أن لا تتخذوا } على أن لا تتخذوا كقولك : كتبت إليك إن افعل كذا وقرأ أبو عمرو بالياء على أن لا يتخذوا { من دوني وكيلا } ربا تكلون إليه أموركم غيري

3 - { ذرية من حملنا مع نوح } نصب على الاختصاص أو النداء أن قرئ أن لا تتخذوا بالتاء على النهي يعني : قلنا لهم لا تتخذوا من دوني وكيلا أو على أنه أحد مفعولي { لا تتخذوا } و { من دوني } حال من { وكيلا } فيكون كقوله : { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا } وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو بدل من واو { تتخذوا } و { ذرية } بكسر الذال وفيه تذكير بإنعام الله تعالى عليهم في إنجاء آبائهم من الغرق بحملهم مع نوح عليه السلام في السفينة { إنه } إن نوحا عليه السلام { كان عبدا شكورا } يحمد الله تعالى على مجامع حالاته وفيه إيماء بأن إنجاءه ومن معه كان ببركة شكره وحث للذرية على الاقتداء به وقيل الضمير لموسى عليه الصلاة و السلام

4 - { وقضينا إلى بني إسرائيل } وأوحينا إليهم وحيا مقضيا مبتوتا { في الكتاب } في التوراة { لتفسدن في الأرض } جواب قسم محذوف أو قضينا على إجراء القضاء المبتوت مجرى القسم { مرتين } إفسادتين أولاهما مخالفة أحكام التوراة وقتل شعياء وقيل أرمياء وثانيهما قتل زكريا ويحيى وقصد قتل عيسى عليهم السلام { ولتعلن علوا كبيرا } ولتستكبرن عن طاعة الله تعالى أو لتظلمن الناس

5 - { فإذا جاء وعد أولاهما } وعد عقاب أولاهما { بعثنا عليكم عبادا لنا } بختنصر عامل لهراسف على بابل وجنوده وقيل جالوت الجزري وقيل سنحاريب من أهل نينوى { أولي بأس شديد } ذوي قوة وبطش في الحرب شديد { فجاسوا } فترددوا لطلبكم وقرئ بالحاء المهملة هما أخوان { خلال الديار } وسطها للقتل والغارة فقتلوا كبارهم وسبوا صغارهم وحرقوا التوراة وخربوا المسجد والمعتزلة لما منعوا تسليط الله الكافر على ذلك أولوا البعث بالتخلية وعدم المنع { وكان وعدا مفعولا } وكان وعد عقابهم لا بد أن يفعل

6 - { ثم رددنا لكم الكرة } أي الدولة والغلبة { عليهم } على الذين بعثوا عليكم وذلك بأن ألقى الله في قلوب بهمن بن اسفنديار لما ورث الملك من جده كشتاسف بن لهراسف شفقة عليهم فرد أسراهم إلى الشام وملك دانيال عليهم فاستولوا على من كان فيها من أتباع بختنصر أو بأن سلط الله داود عليه الصلاة و السلام على جالوت فقتله { وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا } مما كنتم والنفير من ينفر مع الرجل من قومه وقيل جمع نفر وهم المجتمعون للذهاب إلى العدو

7 - { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم } لأن ثوابه لها { وإن أسأتم فلها } فإن وباله عليها وإنما ذكرها باللازم ازدواجا { فإذا جاء وعد الآخرة } وعد عقوبة المرة الآخرة { ليسوءوا وجوهكم } أي بعثناهم { ليسوءوا وجوهكم } أي يجعلوها بادية آثار المساءة فيها فحذف لدلالة ذكره أولا عليه وقرأ أبن عامر و حمزة ليسوء على التوحيد والضمير فيه للوعد أو للبعث أو لله ويعضده قراءة الكسائي بالنون وقرئ لنسوأن بالنون والياء والنون المخففة والمثقلة والنسوأن بفتح اللام على الأوجه الأربعة على أنه جواب إذا واللام في قوله : { وليدخلوا المسجد } متعلق بمحذوف هو بعثناهم { كما دخلوه أول مرة وليتبروا } ليهكلوا { ما علوا } ما غلبوه واستولوا عليه أو مدة علوهم { تتبيرا } ذلك بأن سلط الله عليهم الفرس مرة أخرى فغزاهم ملك بابل من ملوك الطوائف اسمه جودرز و قيل حردوس قيل دخل صاحب الجيش مذبح قرابينهم فوجد فيه دما يغلي فسألهم عنه فقالوا : دم قربان لم يقبل منا فقال : ما صدقوني فقتل عليه ألوفا منهم فلم يهدأ الدم ثم قال إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحدا فقالوا : إنه دم يحيى فقال لمثل هذا ينتقم ربكم منكم ثم قال يا يحيى قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك فاهدأ بإذن الله تعالى قبل أن لا أبقي أحدا منهم فهدأ

8 - { عسى ربكم أن يرحمكم } بعد المرة الآخرة { وإن عدتم } نوبة أخرى { عدنا } مرة ثالثة إلى عقوبتكم وقد عادوا بتكذيب محمد صلى الله عليه سلم وقصد قتله فعاد الله تعالى بتسليطه عليهم فقتل قريظة وأجلى بني النضير وضرب الجزية على الباقين هذا لهم في الدنيا { وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا } محبسا لا يقدرون على الخروج منها أبد الآباد وقيل بساطا كما يبسط الحصير

9 - { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } للحالة أو الطريقة التي هي أقوم الحالات أو الطلاق { ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا } وقرأ حمزة و الكسائي { ويبشر } بالتخفيف

10 - { وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما } عطف على { أن لهم أجرا كبيرا } والمعنى أنه يبشر المؤمنين ببشارتين ثوابهم وعقاب أعدائهم أو على { يبشر } بإضمار يخبر

11 - { ويدع الإنسان بالشر } ويدعوالله تعالى عند غضبه بالشر على نفسه وأهله وماله أو يدعوه بما يحسبه خيرا وهو شر { دعاءه بالخير } مثل دعائه بالخير { وكان الإنسان عجولا } يسارع إلىكل ما يخطر بباله لا ينظر عاقبته وقيل المراد آدم عليه الصلاة و السلام فإنه لما انتهى الروح إلىسرته ذهب لينهض فسقط [ روي : أنه عليه السلام دفع أسيرا إلى سودة بنت زمعة فرحمته لأنينه فأرخت كتافه فهرب فدعا عليها بقطع اليد ثم ندم فقال عليه السلام : اللهم إنما أنا بشر فمن دعوة عليه فاجعل دعائي رحمة له فنزلت ] ويجوز أن يريد بالإنسان الكافر وبالدعاء استعجاله بالعذاب استهزاء كقول النضر بن الحارث : اللهم انصر خيرا الحربين { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك } الآية فأجيب له فضرب عنقه صبرا يوم بدر

12 - { وجعلنا الليل والنهار آيتين } تدلان على القادر الحكيم بتعاقبهما على نسق واحد بإمكان غيره { فمحونا آية الليل } أي الآية التي هي الليل بالإشراف و الإضافة فيهما للتبيين كإضافة العدد إلى المعدود { وجعلنا آية النهار مبصرة } مضيئة أو مبصرة للناس من أبصره فبصر أو مبصرا أهله كقوله : أجبن الرجل إذا كان أهله جبناء وقيل الآيتان القمر والشمس وتقدير الكلام وجعلنا نيري الليل و النهار آيتين أو جعلنا الليل والنهار ذوي آيتين ومحو آية الليل التي هي القمر جعلها مظلمة في نفسها مطموسة النور أو نقص نورها شيئا فشيئا إلى المحاق وجعل آية النهار التي هي الشمس مبصرة جعلها ذات شعاع تبصر الأشياء بضوئها { لتبتغوا فضلا من ربكم } لتطلبوا في بياض النهار أسباب معاشكم وتتوصلوا به إلى استبانة أعمالكم { ولتعلموا } باختلافهما أو بحركاتهما { عدد السنين والحساب } وجنس الحساب { وكل شيء } تفتقرون إله في أمر الدين والدنيا { فصلناه تفصيلا } بيناه بيانا غير ملتبس

13 - { وكل إنسان ألزمناه طائره } علمه وما قدر له كأنه طير إليه من عش الغيب ووكر القدر لما كانوا يتيمنون ويتشاءمون بسنوح الطائر وبروحه استعير لما هو سبب الخير والشر من قدر الله تعالى وعمل العبد { في عنقه } لزوم الطوق في عنقه { ونخرج له يوم القيامة كتابا } هي صحيفة علمه أو نفسه المنتقشة بآثار أعماله فإن الأعمال الاختيارية تحدث في النفس أحوالا ولذلك يفيد تكريرها لها ملكات ونصبه بأنه مفعول أو حال من مفعول محذوف وهو ضمير الطائر ويعضده قراءة يعقوب ويخرج من خرج ويخرج وقرئ ويخرج أي الله عز و جل { يلقاه منشورا } لكشف الغطاء وهما صفتان للكتاب أو { يلقاه } صفة و { منشورا } حال من مفعول وقرأ ابن عامر يلقاه على البناء للمفعول من لقيته كذا

14 - { اقرأ كتابك } على إرادة القول { كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا } أي كفى نفسك والباء مزيدة و { حسيبا } تمييز وعلى صلته لأنه إما بمعنى الحاسب كالصريم بمعنى الصارم وضريب القداح بمعنى ضاربها من حسب عليه كذا أو بمعنى الكافي فوضع موضع الشهيد لأنه يكفي المدعي ما أهمه وتذكيره على أن الحساب والشهادة مما يتولاه الرجال أو على تأويل النفس بالشخص

15 - { من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها } لا ينجي اهتداؤه غيره ولا يردي ضلاله سواه { ولا تزر وازرة وزر أخرى } ولا تحمل نفس حاملة وزرا وزر نفس أخرى بل إنما تحمل وزرها { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } يبين الحجج ويمهد الشرائع فيلزمهم الحجة وفيه دليل على أن لا وجوب قبل الشرع

16 - { وإذا أردنا أن نهلك قرية } وإذا تعلقت إرادتنا بإهلاك قوم لا نفاذ قضائنا السابق أو دنا وقته المقدر كقولهم : إذا أراد المريض أن يموت ازداد مرضه شدة { أمرنا مترفيها } متنعميها الطاعة على لسان رسول بعثناه إليهم ويدل على ذلك ما قبله وما بعده فإن الفسق هو الخروج عن الطاعة والتمرد في العصيان فيدل على الطاعة من طريق المقابلة وقيل أمرناهم بالفسق لقوله : { ففسقوا فيها } كقولك أمرته فقرأ فإنه لا يفهم منه إلا الأمر بالقراءة على أن الأمر مجاز من الحمل عليه أو التسبب له بأن صب عليهم من النعم ما أبطرهم وأفضى بهم إلى الفسوق ويحتمل أن لا يكون له مفعول منوي كقولهم : أمرته فعصاني وقيل معناه كثرنا يقال : أمرت الشيء وآمرته فأمر إذا كثرته وفي الحديث [ خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة ] أي كثيرة النتاج وهو أيضا مجاز من معنى الطلب ويؤيده قراءة يعقوب آمرنا ورواية { أمرنا } عن أبي عمرو ويحتمل أن يكون منقولا من أمر بالضم أمارة أي جعلناهم أمراء وتخصيص المترفين لأن غيرهم يتبعهم ولأنهم أسرع إلى الحماقة وأقدر على الفجور { فحق عليها القول } يعني كلمة العذاب السابقة بحلوله أو بظهور معاصيهم أو بانهماكهم في المعاصي { فدمرناها تدميرا } أهكلناها بإهلاك أهلها وتخريب ديارهم

17 - { وكم أهلكنا } وكثيرا أهلكنا { من القرون } بيان لكم وتمييز له { من بعد نوح } كعاد وثمود { وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا } يدرك بواطنها وظواهرها فيعاقب عليها وتقديم الخبير لتقديم متعلقه

18 - { من كان يريد العاجلة } مقصورا عليها همه { عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد } قيد المعجل والمعجل له بالمشيئة والإرادة لأنه لا يجد كل متمن ما يتمناه ولا كل واجد جميعا يهواه وليعلم أن الأمر بالمشيئة والهم فضل و { لمن نريد } بدل من له بدل البعض وقرئ ما يشاء والضمير فيه لله تعالى حتى يطابق المشهورة وقيل { لمن } فيكون مخصوصا بمن أراد الله تعالى به ذلك وقيل الآية في المنافقين كانوا يراءون المسلمين ويغزون معهم ولم يكن غرضهم إلا مساهمتهم في الغنائم ونحوها { ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا } مطرودا من رحمة الله تعالى

19 - { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها } حقها من السعي وهو الإتيان بما أمر به والانتهاء عما نهى عنه لا التقرب بما يخترعون بآرائهم وفائدة اللام اعتبار النية والإخلاص { وهو مؤمن } إيمانا صحيحا لا شرك معه ولا تكذيب فإنه العمدة { فأولئك } الجامعون للشروط الثلاثة { كان سعيهم مشكورا } من الله تعالى أي مقبولا عنده مثابا عليه فإن شكر الله الثواب على الطاعة

20 - { كلا } كل واحد من الفريقين والتنوين بدل من المضاف إليه { نمد } بالعطاء مرة بعد أخرى ونجعل آنفه مددا لسالفه { هؤلاء وهؤلاء } بدل من { كلا } { من عطاء ربك } من معطاه متعلق ب { نمد } { وما كان عطاء ربك محظورا } ممنوعا لا يمنعه في الدنيا من مؤمن ولا كافر تفضلا

21 - { انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض } في الرزق وانتصاب { كيف } ب { فضلنا } على الحال { وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا } أي التفاوت في الآخرة أكبر لأن التفاوت فيها بالجنة ودرجاتها والنار ودركاتها

22 - { لا تجعل مع الله إلها آخر } الخطاب للرسول صلى الله عليه و سلم والمراد به أمته أو لكل أحد { فتقعد } فتصير من قولهم شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة أو فتعجز من قولهم قعد عن الشيء إذا عجز عنه { مذموما مخذولا } جامعا على نفسك الذم من الملائكة والمؤمنين والخذلان من الله تعالى ومفهومه أن الموحد يكون ممدوحا منصورا

23 - { وقضى ربك } وأمر أمرا مقطوعا به { أن لا تعبدوا } بأن لا تعبدوا { إلا إياه } لأن غاية التعظيم لا تحق إلا لمن له غاية العظمة ونهاية الإنعام وهو كالتفصيل لسعي الآخرة ويجوز أن تكون { أن } مفسرة و { لا } ناهية { وبالوالدين إحسانا } وبأن تحسنوا أو وأحسنوا بالوالدين إحسانا لأنهما السبب الظاهر للوجود والتعيش ولا يحوز أن تتعلق الباء بالإحسان لأن صلته لا تتقدم عليه { إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما } { إما } هي إن الشرطية زيدت عليها ما تأكيدا ولذلك صح لحوق النون والمؤكدة للفعل وأحدهما فاعل { يبلغن } ويدل على قراءة حمزة و الكسائي من ألف يبلغان الراجع إلى الوالدين وكلاهما عطف على أحدهما فاعلا أو بدلا ولذلك لم يجز أن يكون تأكيدا للألف ومعنى { عندك } أن يكونا في كنفك وكفالتك { فلا تقل لهما أف } فلا تتضجر مما يستقذر منهما وتستثقل من مؤنتهما وهو صوت يدل على تضجر وقيل هو اسم الفعل الذي هو أتضجر وهو مبنى على الكسر لالتقاء الساكنين وتنوينه في قراءة نافع و حفص للتنكير وقرأ ابن كثير و ابن عامر و يعقوب بالفتح على التخفيف وقرئ منونا والضم للاتباع كمنذ منونا وغير منون والنهي عن ذلك يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء قياسا بطريق الأولى وقيل عرفا كقولك : فلان لا يملك النقير والقطمير ولذلك منع رسول الله صلى الله عليه و سلم حذيفة من قتل أبيه وهو في صف المشركين نهى عما يؤذيهما بعد الأمر بالإحسان بهما { ولا تنهرهما } ولا تزجرهما عما لا يعجبك بإغلاظ وقيل النهي والنهر والنهم أخوات { وقل لهما } بدل التأفيف والنهر { قولا كريما } جميلا لا شراسة فيه

24 - { واخفض لهما جناح الذل } تذلل لهما وتواضع فيهما وجعل للذل جناحا كما جعل لبيد في قوله :
( وغداة ... ريح قد كشفت وقرة إذ أصبحت بيد الشمال زمامها )
للشمال يدا أو للقرة زماما وأمرره بخفضه مبالغة أو أراد جماحه كقوله تعالى : { واخفض جناحك للمؤمنين } وإضافته إلى الذل للبيان والمبالغة كما أضيف حاتم إلى الجود والمعنى واخفض لهما جناحك الذليل وقرئ الذل بالكسر وهو الانقياد والنعت منه ذلول { من الرحمة } من فرط رحمتك عليهما لافتقارهما إلى من كان أفقر خلق الله تعالى إليهما بالأمس { وقل رب ارحمهما } وادع الله تعالى أن يرحمهما برحمته الباقية ولا تكتف برحمتك الفانية وإن كانا كافرين لن من الرحمة أن يهديهما : { كما ربياني صغيرا } رحمة مثل رحمتهما علي وتربيتهما وإرشادهما لي في صغري وفاء بوعدك للراحمين روي [ أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم : إن أبوي بلغا من الكبر أن ألي منهما ما وليا مني في الصغر فهل قضيتهما حقهما قال : لا فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك وأنت تفعل ذلك وتريد موتهما ]

25 - { ربكم أعلم بما في نفوسكم } من قصد البر إليهما واعتقاد ما يحب لهما من التوقير وكأنه تهديد على أن يضمر لهما كراهة واستثقالا { إن تكونوا صالحين } قاصدين للصلاح { فإنه كان للأوابين } للتوابين { غفورا } ما فرط منهم عند حرج الصدر من أذية أو تقصير وفيه تشديد عظيم ويجوز أن يكون عاما لكل تائب ويندرج فيه الجاني على أبويه التائب من جنايته لوروده على أثره

26 - { وآت ذا القربى حقه } من صلة الرحم وحسن المعاشرة والبر عليهم وقال أبو حنيفة : حقهم إذا كانوا محارم فقراء أن ينفق عليهم وقيل المراد بذي القربى أقارب الرسول صلى الله عليه و سلم { والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا } بصرف المال فيما لا ينبغي وإنفاقه على وجه الإسراف وأصل التبذير التفريق وعن النبي صلى الله عليه و سلم [ أنه قال لسعد وهو يتوضأ : ما هذا السرف قال : أو في الوضوء سرف قال : نعم وإن كنت على نهر جار ]

27 - { إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين } أمثالهم في الشرارة فإن التضييع و الإتلاف شر أو أصدقاءهم وأتباعهم لأنهم يطيعونهم في الإسراف والصرف في المعاصي روي : أنهم كانوا ينحرون الإبل ويتياسرون عليها ويبذرون أموالهم في السمعة فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم بالإنفاق في القربات { وكان الشيطان لربه كفورا } مبالغا في الكفر به فينبغي أن لا يطاع

28 - { وإما تعرضن عنهم } وإن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل حياء من الرد ويجوز أن يراد بالإعراض عنهم أن لا ينفعهم على سبيل الكناية { ابتغاء رحمة من ربك ترجوها } لانتظار رزق من الله ترجوه أن يأتيك فتعطيه أو منتظرين له وقيل معناه لفقد رزق من ربك ترجوه أن يفتح لك فوضع الابتغاء موضعه لأنه مسبب عنه ويجوز أن يتعلق بالجواب الذي هو قوله : { فقل لهم قولا ميسورا } أي فقل لهم قولا لينا ابتغاء رجمة الله برحمتك عليهم بإجمال القول لهم ولميسور وهو اليسر مثل أغناكم الله تعالى ورزقنا الله وإياكم

29 - { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط } تمثيلان لمنع الشحيح وإسراف المبذر نهى عنهما آمرا بالاقتصاد بينهما الذي هو الكرم { فتقعد ملوما } فتصير ملوما عند الله وعند الناس بالإسراف وسوء التدبير { محسورا } نادما أو منقطعا بك لا شيء عندك من حسرة السفر إذا بلغ منه وعن جابر [ بينا رسول الله صلى الله عليه و سلم جالس أتاه صبي فقال : إن أمي تستكسيك درعا فقال صلى الله عليه و سلم من ساعة إلى ساعة فعد إلينا فذهب إلى أمه فقالت : قل له إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك فدخل داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عريانا وأذن بلال وانتظروه للصلاة فلم يخرج فأنزل الله ذلك ] ثم سلاه بقوله : { إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } يوسعه ويضيقه بمشيئته التابعة للحكمة البالغة فليس ما يرهقك من الإضافة إلا لمصلحتك { إنه كان بعباده خبيرا بصيرا } يعلم سرهم وعلنهم فيعلم من مصالحهم ما يخفى عليهم ويجوز أن يراد أن البسط والقبض من أمر الله تعالى العالم بالسرائر والظواهر فأما العباد فعليهم أن يقتصدوا أو أنه تعالى يبسط تارة ويقبض أخرى فاستنوا بسنته ولا تقبضوا كل القبض ولا تبسطوا كل البسط وأن يكون تمهيدا لقوله تعالى :

30 - { إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } يوسعه ويضيقه بمشيئته التابعة للحكمة البالغة فليس ما يرهقك من الإضافة إلا لمصلحتك { إنه كان بعباده خبيرا بصيرا } يعلم سرهم وعلنهم فيعلم من مصالحهم ما يخفى عليهم ويجوز أن يراد أن البسط والقبض من أمر الله تعالى العالم بالسرائر والظواهر فأما العباد فعليهم أن يقتصدوا أو أنه تعالى يبسط تارة ويقبض أخرى فاستنوا بسنته ولا تقبضوا كل القبض ولا تبسطوا كل البسط وأن يكون تمهيدا لقوله تعالى :

31 - { و لا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } مخافة الفاقة وقتلهم أولادهم هو وأدهم بناتهم مخافة الفقر فنهاهم عنه وضمن لهم أرزاقهم فقال : { نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطأ كبيرا } ذنبا كبيرا لما فيه من قطع التناسل وانقطاع النوع وال { خطأ } الإثم يقال خطئ خطأ كأثم إثما وقرأ ابن عامر خطأ وهو اسم من اخطأ يضاد الصواب وقيل لغة فيه كمثل ومثل وحذر وحذر وقرأ ابن كثير خطاء بالمد والكسر وهو إما لغة فيه أو مصدر خاطأ وهو وإن لم يسمع لكنه جاء تخاطأ في وقوله :
( تخاطأه القاص حتى وجدته ... وخرطومه في منقع الماء راسب )
وهو مبني عليه وقرئ خطاء بالفتح والمد وخطا بحذف الهمزة مفتوحا ومكسورا

32 - { ولا تقربوا الزنى } بالعزم والإتيان بالمقدمات فضلا عن أن تباشروه { إنه كان فاحشة } فعلة ظاهرة القبح زائدته { وساء سبيلا } وبئس طريقا طريقه وهو الغصب على الابضاع المؤدي إلى قطع الأنساب وهيج الفتن

33 - { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل مؤمن معصوم عمدا { ومن قتل مظلوما } غير مستوجب للقتل { فقد جعلنا لوليه } للذي يلي أمره بعد وفاته وهو الوارث { سلطانا } تسلطا بالمؤاخذة بمقتضى القتل على من عليه أو بالقصاص على القاتل فإن قوله تعالى { مظلوما } بدل على أن القتل عمدا عدوان فإن الخطأ لا يسمى ظلما { فلا يسرف } أي القاتل { في القتل } بأن يقتل من لا يستحق قتله فإن العاقل لا يفعل ما يعود عليه بالهلاك أو الولي بالمثلة أو قتل غير القاتل ويؤيد الأول قراءة أبي فلا تسرفوا وقرأ حمزة و الكسائي فلا تسرف على خطاب أحدهما { إنه كان منصورا } علة النهي على الاستئناف والضمير إما للمقتول فإنه منصور في الدنيا بثبوت القصاص بقتله وفي الآخرة بالثواب وإما لوليه فإن الله تعالى نصره حيث أوجب القصاص له وأمر الولاة بمعونته وإما للذي يقتله الولي إسرافا بإيجاب القصاص أو التعزيز والوزر على المسرف

34 - { ولا تقربوا مال اليتيم } فضلا أن تتصرفوا فيه { إلا بالتي هي أحسن } إلا بالطريقة التي هي أحسن { حتى يبلغ أشده } غاية لجواز التصرف الذي دل عليه الاستثناء { وأوفوا بالعهد } بما عاهدكم الله من تكاليفه أو ما عاهدتموه وغيره { إن العهد كان مسؤولا } مطلوبا يطلب من المعاهد أن لا يضيعه ويفي به أو مسؤولا عنه يسأل الناكث ويعاتب عليه لم نكثت أو يسأل العهد تبكيتا للناكث كما يقال للموءودة { بأي ذنب قتلت } فيكون تخييلا ويجوز أ يراد أن صاحب العهد كان مسؤولا

35 - { وأوفوا الكيل إذا كلتم } ولا تبخسوا فيه { وزنوا بالقسطاس المستقيم } بالميزان السوي وهو رومي عرب ولا يقدح ذلك في عربية القرآن لأن العجمي إذا استعملته العرب وأجرته مجرى كلامهم في الإعراب والتعريف والتنكير ونحوها صار عربيا وقرأ حمزة و الكسائي و حفص بكسر القاف هنا وفي الشعراء { ذلك خير وأحسن تأويلا } وأحسن عاقبة تفعيل من آل إذا رجع

36 - { ولا تقف } ولاتتبع وقرئ { ولا تقف } من قاف أثره إذا قفاه ومنه القافة { ما ليس لك به علم } ما لم يتعلق به علمك تقليدا أو رجما بالغيب واحتج به من منع اتباع الظن وجوابه أن المراد بالعلم هو الاعتقاد الراجح المستفاد من سند سواء كان قطعا أو ظنا واستعماله بهذا المعنى سائغ شائع وقيل إنه مخصوص بالعقائد وقيل بالرمي وشهادة الزور ويؤيده [ قوله عليه الصلاة و السلام من قفا مؤمنا بما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال حتى يأتي بالمخرج ] وقال الكميت :
( ولا أرمي البريء بغير ذنب ... ولا أقفو الحواصن إن قفينا )
{ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك } أي كل هذه الأعضاء فأجراها مجرى العقلاء لما كانت مسؤولة عن أحولها شاهدة على صاحبها هذا وإن أولاء وإن غلب في العقلاء لكنه من حيث إنه اسم جمع لذا وهو يعم القبيلين جاء لغيرهم كقوله :
( والعيش بعد أولئك الأيام )
{ كان عنه مسؤولا } في ثلاثتها ضمير كل أي كان كل واحد منها مسؤولا عن نفسه يعني عما فعل به صاحبه ويجوز أن يكون الضمير في عنه لمصدر { لا تقف } أو لصاحب السمع والبصر وقيل { مسؤولا } مسند إلى { عنه } كقوله تعالى : { غير المغضوب عليهم } والمعنى يسأل صاحبه عنه وهو خطأ لأن الفاعل وما يقوم مقامه لا يتقدم وفيه دليل على أن العبد مؤاخذ بعزمه على المعصية وقرئ { والفؤاد } بقلب الهمزة واوا بعد الضمة ثم إبدالها بالفتح

37 - { ولا تمش في الأرض مرحا } أي ذا مرح وهو الاختيال وقرئ { مرحا } وهو باعتبار الحكم أبلغ وغن كان المصدر آكد من صريح النعت { إنك لن تخرق الأرض } لن تجعل فيها خرقا بشدة وطأتك { ولن تبلغ الجبال طولا } بتطاولك وهو تهكم بالمختال وعليل للنهي بأن الاختيال حماقة مجردة لا تعود بجدوى ليس في التذلل

38 - { كل ذلك } إشارة إلى الخصال الخمس والعشرين المذكورة من قوله تعالى : { لا تجعل مع الله إلها آخر } وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أنها المكتوبة في ألواح موسى عليه السلام { كان سيئه } يعني المنهي عنه فإن المذكورات مأمورات ومناه وقرأ الحجازيان والبصريان { سيئه } على أنها خبر { كان } والاسم ضمير { كل } و { ذلك } إشارة إلى ما نهى عنه خاصة وعلى هذا قوله : { عند ربك مكروها } بدل من { سيئه } أو صفة لها محمولة على المعنى فإنه بمعنى سيئا وقد قرئ به ويجوز أن ينتصب مكروها على الحال من المستكن في { كان } أو في الظرف على أنه صفة { سيئه } والمراد به المبغوض المقابل للمرضى لا ما يقابل المراد ليقام القاطع على أن الحوادث كلها واقعة بإرادته تعالى

39 - { ذلك } إشارة إلى الأحكام المتقدمة { مما أوحى إليك ربك من الحكمة } التي هي معرفة الحق لذاته والخير للعمل به { ولا تجعل مع الله إلها آخر } كرره للتنبيه على أن التوحيد مبدأ الأمر ومنتهاه فإن من لا قصد له بطل علمه ومن قصد يفعله أو تركه غيره ضاع سعيه وأنه رأس الحكمة وملاكها ورتب عليه أولا ما هو عائده الشرك في الدنيا وثانيا ما هو نتيجته في العقبى فقال تعالى : { فتلقى في جهنم ملوما } تلوم نفسك { مدحورا } مبعدا من رحمة الله تعالى

40 - { أفأصفاكم ربكم بالبنين } خطاب لمن قالوا الملائكة بنات الله والهمزة للإنكار والمعنى : أفخصكم ربكم بأفضل الأولاد وهم البنون { واتخذ من الملائكة إناثا } بنات لنفسه وهذا خلاف ما عليه عقولكم وعادتكم { إنكم لتقولون قولا عظيما } بإضافة الأولاد إليه وهي خاصة بعض الأجسام لسرعة زوالها ثم بتفصيل أنفسكم عليه حيث تجعلون له ما تكرهون ثم يجعل الملائكة الذين هم من أشرف خلق الله أدونهم

41 - { ولقد صرفنا } كررنا هذا المعنى بوجوه من التقرير { في هذا القرآن } في مواضع منه ويجوز أن يراد بهذا القرآن إبطال إضافة البنات إليه على تقدير : ولقد صرفنا هذا القول في هذا لمعنى أو أوقعنا التصريف فيه وقرئ { صرفنا } بالتخفيف { ليذكروا } ليتذكروا وقرأ حمزة و الكسائي هنا وفي الفرقان { ليذكروا } من الذكر الذي هو بمعنى التذكر { وما يزيدهم إلا نفورا } عن الحق وقلة طمأنينة إليه

42 - { قل لو كان معه آلهة كما يقولون } أيها المشركون وقرأ ابن كثير و حفص عن عاصم بالياء فيه وفيما بعده على أن الكلام مع الرسول صلى الله عليه و سلم أن يخاطب به المشركين والثانية مما نزه به نفسه عن مقالتهم { إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا } جواب عن قولهم وجزاء للو والمعنى : لطلبوا إلى من هو مالك الملك سبيلا بالمعازة كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض أو بالتقرب إليه والطاعة لعلمهم بقدرته وعجزهم كقولهم تعالى : { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة }

43 - { سبحانه } ينزه تنزيها { وتعالى عما يقولون علوا } تعاليا { كبيرا } متباعدا غاية البعد عما يقولون فإنه في أعلى مراتب الوجود وهو كونه واجب الوجود والبقاء لذاته واتخاذ الولد من أدنى مراتبه فإنه من خواص ما يمتنع بقاؤه

44 - { تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده } ينزهه عما هو من لوازم الإمكان وتوابع الحدوث بلسان الحال حيث تدل بإمكانها وحدوثها على الصانع القديم الواجب لذاته { ولكن لا تفقهون تسبيحهم } أيها المشركون لإخلالكم بالنظر الصحيح الذي به يفهم تسبيحهم ويجوز أن يحمل التسبيح على المشترك بين اللفظ والدلالة لإسناده إلى ما يتصور منه اللفظ وإلى ما لا يتصور منه وعليهما عند من جوز إطلاق اللفظ على معنييه وقرأ ابن كثير و ابن عامر و نافع و أبو بكر يسبح بالياء { إنه كان حليما } حيث لم يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم وشرككم { غفورا } لمن تاب منكم

45 - { وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا } يحجبهم عن فهم ما تقرؤه عليهم { مستورا } ذا ستر كقوله تعالى : { وعده مأتيا } وقولهم سيل مفعم أو مستورا عن الحس أو بحجاب آخر لا يفهمون أنهم لا يفهمون نفي عنهم أن يفهموا ما أنزل عليهم من الآيات بعدما نفى عنهم التفقه للدلالات المنصوبة في الأنفس والآفاق تقريرا له وبيانا لكونهم مطبوعين على الضلالة كما صرح به بقوله :

46 - { وجعلنا على قلوبهم أكنة } تكنها وتحول دونها عن إدراك الحق وقبوله { أن يفقهوه } كراهة أن يفقهوه ويجوز أن يكون مفعولا لما دل عليه قوله : { وجعلنا على قلوبهم أكنة } أي منعناهم أن يفقهوه { وفي آذانهم وقرا } يمنعهم عن استماعه ولما كان القرآن معجزا من حيث اللفظ والمعنى أثبت لمنكريه ما يمنع عن فهم المعنى وإدراك اللفظ { وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده } واحدا غير مشفوع به آلهتهم مصدر وقع موقع الحال وأصله يحد وحده بمعنى واحدا وحده { ولوا على أدبارهم نفورا } هربا من استماع التوحيد ونفرة أو تولية و يجوز أن يكون جمع نافر كقاعد وقعود

47 - { نحن أعلم بما يستمعون به } بسببه ولأجله من الهزء بك وبالقرآن { إذ يستمعون إليك } ظرف ل { أعلم } وكذا { وإذ هم نجوى } أي نحن أعلم بغرضهم من الاستماع حين هم مستمعون إليك مضمرون له وحين هم ذوو نجوى يتناجون به و { نجوى } مصدر ويحتمل أن يكون جمع نجى { إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا } مقدر باذكر أو بدل من { إذ هم نجوى } على وضع { الظالمون } موضع الضمير للدلالة على أن تناجيهم بقولهم هذا من باب الظلم والمسحور هو الذي سحر فزال عقله وقيل الذي له سحر وهو الرئة أي إلا رجلا يتنفس ويأكل ويشرب مثلكم

48 - { انظر كيف ضربوا لك الأمثال } مثلوك بالشاعر والساحر والكاهن والمحنون { فضلوا } عن الحق في جميع ذلك { فلا يستطيعون سبيلا } إلى طعن موجه فيتهافتون ويخبطون كالمتحير في أمره لا يدري ما يصنع أو إلى الرشاد

49 - { وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا } حطاما { أإنا لمبعوثون خلقا جديدا } على الإنكار و الاستبعاد لما بين غضاضة الحي ويبوسة الرميم من المباعدة والمنافاة والعامل في إذا ما دل عليه مبعوثون لا نفسه لأن ما بعد إن لا يعمل فيما قبلها و { خلقا } مصدر أوحال

50 - { قل } جوابا لهم { كونوا حجارة أو حديدا }

51 - { أو خلقا مما يكبر في صدوركم } أي مما يكبر عندكم عن قبول الحياة لكونه أبعد شيء منها فإن قدرته تعالى لا تقصر عن إحيائكم لاشتراك الأجسام في قبول الإعراض فكيف إذا كنتم عظاما مرفوتة وقد كانت غضة مرصوفة بالحياة قبل والشيء أقبل لما عهد فيه مما لم يعهد { فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة } وكنتم ترابا وما هو أبعد منه من الحياة { فسينغضون إليك رؤوسهم } فسيحركونها نحوك تعجبا واستهزاء { ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا } فإن كل ما هو آت قريب وانتصابه على الخبر أو الظرف أي يكون في زمان قريب و { أن يكون } اسم { عسى } أو خبره والاسم مضمر

52 - { يوم يدعوكم فتستجيبون } أي يوم يبعثكم فتنبعثون استعار لهما الدعاء والاستجابة للتنبيه على سرعتهما وتيسر أمرهما وأن المقصود منهما الإحضار للمحاسبة والجزاء { بحمده } حال منهم أي حامدين الله تعالى كمال قدرته كما قيل إنهم ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون : سبحانك اللهم وبحمدك أو منقادين لبعثه انقياد الحامدين علي { وتظنون إن لبثتم إلا قليلا } وتستقصرون مدة لبثكم في القبور كالذي مر على قرية أو مدة حياتكم لما ترون من الهول

53 - { وقل لعبادي } يعني المؤمنين { يقولوا التي هي أحسن } الكلمة التي هي أحسن ولا يخاشنوا المشركين { إن الشيطان ينزغ بينهم } يهيج بينهم المراء والشر فلعل المخاشنة بهم تفضي إلى العناد وازدياد الفساد { إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا } ظاهر العداوة

54 - { ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم } تفسير ل { التي هي أحسن } وما بينهما اعتراض أي قولوا لهم هذه الكلمة ونحوها ولا تصرحوا بأنهم من أهل النار فإنه يهيجهم على الشر مع أن ختام أمرهم غيب لا يعلمه إلا الله { وما أرسلناك عليهم وكيلا } موكولا إليك أمرهم تقسرهم على الإيمان وإنما أرسلناك مبشرا ونذيرا فدارهم ومر أصحابك بالاحتمال منهم وروي أن المشركين أفرطوا في إيذائهم فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت وقيل شتم عمر رضي الله تعالى عنه رجل منهم فهم به فأمره الله بالعفو

55 - { وربك أعلم بمن في السموات والأرض } وبأحوالهم فيختار منهم لنبوته وولايته من يشاء وهو رد لاستبعاد قريش أن يكون يتيم أبي طالب نبيا وأن يكون العراة الجؤع أصحابه { ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض } بالفضائل النفسانية والتبري عن العلائق الجسمانية لا بكثرة الأموال والأتباع حتى داود عليه الصلاة السلام فإن شرفه بما أوحى إليه من الكتاب لا بما أوتيه من الملك قيل هو إشارة إلى تفضيل رسول الله صلى الله عليه و سلم وقوله : { وآتينا داود زبورا } تنبيه على وجه تفضيله وهو أنه خاتم الأنبياء وأمته خير الأمم المدلول عليه بما كتب في الزبور من أن الأرض يرثها عبادي الصالحون وتنكيره ها هنا وتعريفه في قوله تعالى : { ولقد كتبنا في الزبور } لأنه في الأصل فعول للمفعول كالحلوب أو المصدر كالقبول ويؤيده قراءة حمزة بالضم وهو كالعباس أو الفضل أو لأن المراد وآتينا داود بعض الزبر أو بعضا من الزبور فيه ذكر الرسول عليه الصلاة و السلام

56 - { قل ادعوا الذين زعمتم } أنها آلهة { من دونه } كالملائكة والمسيح و عزير { فلا يملكون } فلا يستطيعون { كشف الضر عنكم } كالمرض والفقر والقحط { ولا تحويلا } ولا تحويل ذلك منكم إلى غيركم

57 - { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة } هؤلاء الآلهة يبتغون إلى الله القرابة بالطاعة { أيهم أقرب } بدل من واو { يبتغون } أي يبتغي من هو أقرب منهم إلى الله الوسيلة فيكف بغير الأقرب { ويرجون رحمته ويخافون عذابه } كسائر العباد فيكف تزعمون أنهم آلهة { إن عذاب ربك كان محذورا } حقيقا بأن يحذره كل أحد حتى الرسل والملائكة

58 - { وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة } بالموت والاستئصال { أو معذبوها عذابا شديدا } بالقتل وأنواع البلية { كان ذلك في الكتاب } في اللوح المحفوظ { مسطورا } مكتوبا

59 - { وما منعنا أن نرسل بالآيات } ما صرفنا عن إرسال الآيات التي اقترحها قريش { إلا أن كذب بها الأولون } إلا تكذيب الأولين الذين هم أمثالهم في الطبع كعاد وثمود وأنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك واستوجبوا الاستئصال على ما مضت به سنتنا وقد قضينا أن لا نستأصلهم لأنه منهم من يؤمن أو يلد من يؤمن ثم ذكر بعض الأمم المهلكة بتكذيب الآيات المقترحة فقال :
{ وآتينا ثمود الناقة } بسؤالهم { مبصرة } بينة ذات أبصار أو بصائر أو جاعلتهم ذوي بصائر وقرئ بالفتح { فظلموا بها } فكفروا بها أو فظلموا أنفسهم بسبب عقرها { وما نرسل بالآيات } أي بالآيات المقترحة { إلا تخويفا } من نزول العذب المستأصل فإن لم يخافوا نزل أو بغير المقترحة كالمعجزات وآيات القرآن إلا تخويفا بعذاب الآخرة فإن أمر من بعثت إليهم مؤخر إلى يوم القيامة والياء مزيدة أو في موقع الحال والمفعول محذوف

60 - { وإذ قلنا لك } واذكر إذ أوحينا إليك { إن ربك أحاط بالناس } فهم في قبضة قدرته أو أحاط بقريش بمعنى أهلكهم من أحاط بهم العدو فهي بشارة بوقعة بدر والتعبير بلفظ الماضي لتحقق وقوعه { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك } ليلة المعراج وتعل به من قال إنه كان في المنام ومن قال إنه كان في اليقظة فسر الرؤيا بالرؤية أو عام الحديبية حين رأى أنه دخل مكة وفيه أن الآية مكية إلا أن يقال رآها بمكة وحكاها حينئذ ولعله رؤيا رآها في وقعة بدر لقوله تعالى : { إذ يريكهم الله في منامك قليلا } ولما روي [ أنه لما ورد ماءه قال لكأني أنظر إلى مصارع القوم هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان فتسامعت به قريش و استسخروا منه ] وقيل [ رأى قوما من بني أمية يرقون منبره و ينزون عليه نزو القردة فقال : هذا حظهم من الدنيا يعطونه بإسلامهم ] وعلى هذا كان المراد بقوله : { إلا فتنة للناس } ما حدث في أيامهم { والشجرة الملعونة في القرآن }
عطف على { الرؤيا } وهي شجرة الزقوم لما سمع المشركون ذكرها قالوا إن محمدا يزعم أن الجحيم تحرق الحجارة ثم يقول ينبت فيها الشجر ولم يعلموا أن من قدر أن يحمي وبر السمندل من أن تأكله النار وأحشاء النعامة من أذى الجمر وقطع الحديد المحماة الحمر التي تبتلعها قدر أن يخلق في النار شجرة لا تحرقها ولعنها في القرآن لعن طاعميها وصفت به على المجاز للمبالغة أو وصفها بأنها في أصل الجحيم فإنه أبعد مكان من الرحمة أو بأنها مكروهة مؤذية من قولهم طعام ملعون لما كان ضارا وقد أولت بالشيطان وأبي جهل والحكم بن أبي العاص وقرئت بالرفع على الابتداء والخبر محذوف أي والشجرة الملعونة في القرآن كذلك { ونخوفهم } بأنواع التخويف { فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا } إلا عتوا متجاوز الجد

61 - { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا } لمن خلقته من طين فنصب بنزع الخافض ويجوز أن يكون حالا من الراجع إلى الموصول أي خلقته وهو طين أو منه أي أأسجد له وأصله طين وفيه على الوجوه الثلاثة إيماء بعلة الإنكار

62 - { قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي } الكاف لتأكيد الخطاب لا محل له من الإعراب وهذا مفعول أو والذي صفته والمفعول الثاني محذوف لدلالة صلته عليه والمعنى أخبرني عن هذا الذي كرمته علي بأمري بالسجود له لم كرمته علي { لئن أخرتن إلى يوم القيامة } كلام مبتدأ واللام موطئة للقسم وجوابه : { لأحتنكن ذريته إلا قليلا } أي لأستأصلنهم بالإغواء إلا قليلا لا أقدر أن أقاوم شكيمتهم من احتنك الجراد الأرض إذا جرد ما عليها أكلا مأخوذ من الحنك وإنما علم أن ذلك يتسهل له إما استنباطا من قوله الملائكة { أتجعل فيها من يفسد فيها } مع التقرير أو تفرسا من خلقه ذا وهم وشهوة وغضب

63 - { قال اذهب } امض لما قصدته وهو طرد وتخلية بينه وبين ما سولت له نفسه { فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم } جزاؤك وجزاؤهم فغلب المخاطب على الغائب وبجوز أن يكون الخطاب للتابعين على الالتفات { جزاء موفورا } مكملا من قولهم فر لصاحبك عرضه وانتصاب جزاء على المصدر بإضمار فعله أو بما في { جزاؤكم } من معنى تجازون أو حال موطئة لقوله { موفورا }

64 - { واستفزز } واستخفف { من استطعت منهم } أن تستفزه والفز الخفيف { بصوتك } بدعائك إلى الفساد { وأجلب عليهم } وصح عليهم من الجلبة وهي الصياح { بخيلك ورجلك } بأعوانك من راكب وراجل والخيل الخيالة ومنه قوله عليه ولصلاة والسلام [ يا خيل الله اركبي ] والرجل اسم جمع للراجل كالصحب والكب ويجوز أن يكون تمثيلا لتسلطه على من يغويه بمغوار صوت على قوم فاستفزهم من أماكنهم وأجلب عليهم بجنده حتى استأصلهم وقرأ حفص { ورجلك } بالكسر وغيره بالضم وهما لغتان كندس وندس ومعناه : وجمعك الرجل وقرئ ورجالك ورجالك { وشاركهم في الأموال } بحملهم على كسبها وجمعها من الحرام والتصرف فيها على مالا ينبغي { والأولاد } بالحث على التوصل إلى الولد بالسبب المحرم والإشراك فيه بتسميته عبد العزى والتضليل بالحمل على الأديان الزائغة والحرف الذميمة والأفعال القبيحة { وعدهم } المواعيد الباطلة كشافعة الآلهة والاتكال على كرامة الآباء وتأخير التوبة لطول الأمل { وما يعدهم الشيطان إلا غرورا } اعتراض لبيان مواعيد الباطلة والغرور تزيين الخطأ بما يوهم أنه صواب

65 - { إن عبادي } يعني المخلصين وتعظيم الإضافة والتقييد في قوله : { إلا عبادك منهم المخلصين } يخصصهم { ليس لك عليهم سلطان } أي على إغوائهم قدرة { وكفى بربك وكيلا } يتوكلون عليه في الاستعاذة منك على الحقيقة

66 - { ربكم الذي يزجي } هو الذين يجزي { لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله } الريح وأنواع الأمتعة التي لا تكون عندكم { إنه كان بكم رحيما } حيث هيأ لكم ما تحتاجون إليه وسهل عليكم ما تعسر من أسبابه

67 - { وإذا مسكم الضر في البحر } خوف الغرق { ضل من تدعون } ذهب عن خواطركم كل من تدعونه في حوادثكم { إلا إياه } وحده فإنكم حينئذ لا يخطر ببالكم سواه فلا تدعون لكشفه إلا إياه أو ضل كل من تعبدونه عن إغاثتكم إلا الله { فلما نجاكم } من الغرق { إلى البر أعرضتم } عن التوحيد وقيل اتسعتم في كفران النعمة كقول ذي الرمة :
( عطاء فتى تمكن في المعالي ... فأعرض في المكارم واستطالا )
{ وكان الإنسان كفورا } كالتعليل للإعراض

68 - { أفأمنتم } الهمزة فيه للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره : أنجوتم فأمنتم فحملكم ذلك على الإعراض فإن من قدر أن يهلككم في البحر بالغرق قدر أن يهلككم في البر بالخسف وغيره { أن يخسف بكم جانب البر } أن يقلبه الله وأنتم عليه أو يقلبه بسببكم فبكم حال أو صلة ليخسف وقرأ ابن كثير و أبو عمرو بالنون فيه وفي الأربعة التي بعده وفي ذكر الجانب تنبيه على أنهم لما وصلوا الساحل كفروا وأعرضوا وأن الجوانب والجهات في قدرته سواء لا معقل يؤمن فيه من أسباب الهلاك { أو يرسل عليكم حاصبا } ريحا تحصب أي ترمي بالحصباء { ثم لا تجدوا لكم وكيلا } يحفظكم من ذلك فإنه لا رادا لفضله

69 - { أم أمنتم أن يعيدكم فيه } في البحر { تارة أخرى } بخلق دواع تلجئكم إلى أن ترجعوا فتركبوه { فيرسل عليكم قاصفا من الريح } لا تمر بشيء إلا قصفته أي كسرته { فيغرقكم } وعن يعقوب بالتاء على إسناده إلى ضمير { الريح } { بما كفرتم } بسبب إشراككم أو كفرانكم نعمة الإنجاء { ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا } مطالبا يتبعنا بانتصار أو صرف

70 - { ولقد كرمنا بني آدم } بحسن الصورة والمزاج الأعدل واعتدال القامة والتمييز بالعقل والإفهام بالنطق والإشارة والخط والتهدي إلى أسباب المعاش والمعاد والتسلط على ما في الأرض والتمكن من الصناعات وانسياق الأسباب والمسببات العلوية والسفلية إلى ما يعود عليهم بالمنافع إلى غير ذلك مما يقف الحصر دون إحصائه ومن ذلك ما ذكره ابن عباس وهو أن كل حيوان يتناول طعامه بفيه إلا الإنسان فإنه يرفعه إليه بيده { وحملناهم في البر والبحر } على الدواب والسفن من حملته حملا إذا جعلت له ما يركبه أو حملناهم فيهما حتى لم تخسف بهم الأرض ولم يغرقهم الماء { ورزقناهم من الطيبات } المستلذات مما يحصل بفعلهم وبغير فعلهم { وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا } بالغلبة والاستيلاء أو بالشرف والكرامة والمستثنى جنس الملائكة عليهم الصلاة والسلام أو الخواص منهم ولا يلزم من عدم تفضيل الجنس عدم تفضيل بعض أفراده والمسألة موضع نظر وقد أول الكثير بالكل وفيه تعسف

71 - { يوم ندعو } نصب بإضمار اذكر أو ظرف لما دل عليه { ولا يظلمون } وقرئ يدعو ويدعي ويدعو قال قلب الألف واوا في لغة من يقول أفعو في أفعى أو على أن الواو علامة الجمع كما في قوله : { وأسروا النجوى الذين ظلموا } أو ضميره وكل بدل منه والنون محذوفة لقلة المبالاة بها فإنها ليست إلا علامة الرفع وهو قد يقدر كما في يدعي { كل أناس بإمامهم } بمن ائتموا به من نبي أو مقدم في الدين أو كتاب أو دين وقيل بكتاب أعمالهم التي قدموها فيقال يا صاحب كتاب كذا أي تنقطع علقة الأنساب وتبقى نسبة الأعمال وقيل بالقوى الحاملة لهم على عقائدهم وأفعالهم وقيل بأمهاتهم جمع أم كخف وخفاف والحكمة في ذلك إجلال عيسى عليه السلام وإظهار شرف الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما وأن لا يفتضح أولاد الزنا { فمن أوتي } من المدعوين { كتابه بيمينه } أي كتاب علمه { فأولئك يقرؤون كتابهم } ابتهاجا وتبجحا بما يرون فيه { ولا يظلمون فتيلا } ولا ينقصون من أجورهم أدنى شيء وجمع اسم الإشارة والضمير لأن من أوتي في معنى الجمع وتعليق القراءة بإيتاء الكتاب باليمين يدل على أن من أوتي كتاب بشماله إذا اطلع ما فيه غشيهم من الخجل والحيرة ما يحبس ألسنتهم عن القراءة ولذلك لم يذكرهم مع أن قوله :

72 - { ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى } أيضا مشعر بذلك فإن الأعمى لا يقرأ الكتاب والمعنى ومن كان في هذه الدنيا أعمى القلب لا يبصر رشده كان في الآخرة أعمى لا يرى طريق النجاة { وأضل سبيلا } منه في الدنيا لزوال الاستعداد فقدان الآلة والمهلة وقيل لأن الاهتداء بعد لا ينفعه والأعمى مستعار من فاقد الحاسة وقيل الثاني للتفضيل من عمي بقلبه كالأجهل والأبله ولذلك لم يمله أبو عمرو و يعقوب فإن أفعل التفضيل تمامه بمن فكانت ألفه في حكم المتوسطة كما في أعمالكم بخلاف النعت فإن ألفه واقعة ف الطرف لفظا وحكما فكانت معرضة للإمالة من حيث إنها تصير ياء في التثنية وقد أمالهما حمزة و الكسائي و أبو بكر وقرأ ورش بين بين فيهما

73 - { وإن كادوا ليفتنونك } نزلت في ثقيف قالوا لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خصالا نفتخر بها على العرب لا نعشر ولا نحشر ولا نجبى في صلاتنا وكل ربا لنا فهو لنا وكل ربا علينا فهو موضوع عنا وأن تمتعنا باللات سنة وأن تحرم وادينا كما حرمت مكة فإن قالت العرب لم فعلت ذلك فقل إن الله أمرني وقيل في قريش قالوا لا نمكنك من استلام الحجر حتى تلم بآلهتنا وتمسها بيدك وإن هي المخففة واللام هي الفارقة والمعنى : أن الشأن قاربوا بمبالغتهم أن يوقعوك في الفتنة بالاستنزال { عن الذي أوحينا إليك } من الأحكام { لتفتري علينا غيره } غير ما أوحينا إليك { وإذا لاتخذوك خليلا } ولو اتبعت مرادهم لاتخذوك بافتتانك وليا لهم بريئا من ولايتي

74 - { ولولا أن ثبتناك } ولولا تثبيتنا إياك { لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا } لقاربت أن تميل إلى ابتاع مرادهم والمعنى أنك كنت على صدد الركون إليهم لقوة خدعهم وشدة احتيالهم لكن أدركتك عصمتنا فمنعت أن تقرب من الركون فضلا عن أن تركن إليهم وهو صريح في أنه عليه الصلاة و السلام ما هم بإجابتهم مع قوة الدواعي إليها ودليل على أن العصمة بتوفيق الله وحفظه

75 - { إذا لأذقناك } أي لو قاربت لأذقناك { ضعف الحياة وضعف الممات } أي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ضعف ما نعذب به في الدارين بمثل هذا الفعل غيرك لأن خطأ الخطير أخطر وكان أصل الكلام عذابا ضعفا في الحياة وعذابا ضعفا في الممات بمعنى مضاعفا ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه ثم أضيفت كما يضاف موصوفها وقيل الضعف من أسماء العذاب وقيل المراد ب { ضعف الحياة } عذاب الآخرة { وضعف الممات } عذاب القبر { ثم لا تجد لك علينا نصيرا } يدفع العذاب عنك

76 - { وإن كادوا } وإن كاد أهل مكة { ليستفزونك } ليزعجوك بمعاداتهم { من الأرض } أرض مكة { ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك } ولو خرجت لا يبقون بعد خروجك { إلا قليلا } إلا زمانا قليلا وقد كان كذلك فإنهم أهلكوا ببدر بعد هجرته بسنة وقيل الآية : نزلت في اليهود حسدوا مقام النبي بالمدينة فقالوا : الشام مقام الأنبياء فإن كنت نبيا فالحق بها حتى نؤمن بك فوقع ذلك في قلبه فخرج مرحلة فنزلت فرجع ثم قتل منهم بنو قريظة وأجلى بنو النضير بقليل وقرئ لا يلبثوا منصوبا ب { إذا } على أنه معطوف على جملة قوله : { وإن كادوا ليستفزونك } لا على خبر كاد فإن إذا لا تعمل إذا كان معتمدا ما بعدها على ما قبلها وقرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي و يعقوب و حفص { خلافك } وهو لغة فيه قال الشاعر :
( عفت الديار خلافهم فكأنما ... بسط الشواطب بينهن حصيرا )

77 - { سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا } نصب على المصدر أي سن الله ذلك سنة وهو أن يهلك كل أمة أخرجوا رسولهم من بين أظهرهم فالسنة لله وإضافتها إلى الرسل لأنها من أجلهم ويدل عليه { ولا تجد لسنتنا تحويلا } أي تغييرا

78 - { أقم الصلاة لدلوك الشمس } لزوالها ويدل عليه قوله عليه الصلاة و السلام [ أتاني جبريل لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر ] وقيل لغروبها وأصل التركيب للانتقال ومنه الدلك فإن الدلك لا تستقر يده وكذا كل ما تركب من الدال واللام : كدلج ودلح ودلع ودلف ودله وقيل الدلوك من الدلك لأن الناظر إليها يدلك عينيه ليدفع شعاعها وللام للتأقيت مثلها في : لثلاث خلون { إلى غسق الليل } إلى ظلمته وهو وقت صلاة العشاء الأخيرة { وقرآن الفجر } وصلاة الصبح سميت قرآنا لأنه ركنها كما سميت ركوعا وسجودا واستدل به على وجوب القراءة فيها ولا دليل فيه لجواز أن يكون التجوز لكونها مندوبة فيها نعم لو فسر القراءة في صلاة الفجر دل الأمر بإقامتها على الوجوب فيها نصا وفي غيرها قياسا { إن قرآن الفجر كان مشهودا } تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار أو شواهد القدرة من تبدل الظلمة بالضياء والنوم الذي هو أخو الموت بالانتباه أو كثير من المصلين أو من حقه أن يشهده الجم الغفير والآية جامعة للصلوات الخمس إن فسر الدلوك بالزوال ولصلوات الليل وحدها إن فسر بالغروب وقيل المراد بالصلاة صلاة المغرب وقوله { لدلوك الشمس إلى غسق الليل } بيان لمبدأ الوقت ومنتهاه واستدل به على أن الوقت يمتد إلى غروب الشفق

79 - { ومن الليل فتهجد به } وبعض الليل فاترك الهجود للصلاة والضمير لل { قرآن } { نافلة لك } فريضة زائدة لك على الصلوات المفروضة أو فضيلة لك لاختصاص وجوبه بك { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } مقاما يحمده القائم فيه وكل من عرفه وهو مطلق في كل مكان يتضمن كرامة والمشهور أنه مقام الشفاعة لما روي أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة و السلام قال : [ هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي ] ولإشعاره بأن الناس يحمدونه لقيامه فيه وما ذاك إلا مقام الشفاعة وانتصابه على الظرف بإضمار فعله أي فيقيمك مقاما أو بتضمين { يبعثك } معناه أو الحال بمعنى أن يبعثك ذا مقام

80 - { وقل رب أدخلني } أي في القبر { مخرج صدق } إدخالا مرضيا { وأخرجني } أي منه عند البعث { مخرج صدق } إخراجا ملقى بالكرامة وقيل المراد إدخال المدينة والإخراج من مكة وقيل إدخاله مكة ظاهرا عليها وإخراجه منها آمنا من المشركين وقيل إدخاله الغار وإخراجه منه سالما وقيل إدخاله فيما حمله من أعباء الرسالة وإخراجه منه مؤديا حقه وقيل إدخاله في كل ما يلابسه من مكان أو أمر وإخراجه منه وقرئ مدخل ومخرج بالفتح على معنى أدخلني فأدخل دخولا وأخرجني فأخرج خروجا { واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا } حجة تنصرين على من خالفني أو ملكا ينصر الإسلام على الكفر فاستجاب له بقوله : { فإن حزب الله هم الغالبون } { ليظهره على الدين كله } { ليستخلفنهم في الأرض }

81 - { وقل جاء الحق } الإسلام { وزهق الباطل } وذهب وهلك الشرك من زهق روحه إذا خرج { إن الباطل كان زهوقا } مضمحلا غير ثابت عن ابن مسعود رضي الله عنه [ أنه عليه والصلاة والسلام دخل مكة يوم الفتح وفيها ثلاثمائة وستون صنما ينكت بمخصرته في عين واحد واحد منها فيقول جاء الحق وزهق الباطل فينكب لوجهه حتى ألقى جميعها وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة وكان من صفر فقال : يا علي ارم به فصعد فرمى به فكسره ]

82 - { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين } ما هو في تقويم دينهم واستصلاح نفوسهم كالدواء الشافي للمرضى و { من } للبيان فإن كله كذلك وقيل إنه للتبعيض والمعنى أن منه ما يشفي من المرض كالفاتحة وآيات الشفاء وقرأ البصريان { ننزل } بالتخفيف { ولا يزيد الظالمين إلا خسارا } لتكذيبهم وكفرهم به

83 - { وإذا أنعمنا على الإنسان } بالصحة والسعة { أعرض } عن ذكر الله { ونأى بجانبه } لوى عطفه وبعد بنفسه عنه كأنه مستغن مستبد بأمره ويجوز أن يكون كناية عن الاستكبار لأنه من عادة المستكبرين وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان هنا وفي فصلت { ونأى } على القلب أو على أنه معنى نهض { وإذا مسه الشر } من مرض أو فقر { كان يؤوسا } شديد اليأس من روح الله

84 - { قل كل يعمل على شاكلته } قل كل أحد يعمل على طريقته التي تشاكل حاله في الهدى والضلالة أو جوهر روحه وأحواله التابعة لمزاج بدنه { فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا } أسد طريقا وأبين منهجا وقد فسرت الشاكلة بالطبيعة والعادة والدين

85 - { ويسألونك عن الروح } الذي يحيا به بدن الإنسان ويدبره { قل الروح من أمر ربي } من الإبداعيان الكائنة ب { كن } من غير مادة وتولد من أصل كأعضاء جسده أو وجد بأمره وحدث بتكونيه على أن السؤال عن قدمه وحدوثه وقيل مما استأثر الله بعلمه لما روي : أن اليهود قالوا لقريش سلوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فإن أجاب عنها أو سكت فليس بنبي وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي فبين لهم القصتين وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة وقيل الروح جبريل وقيل خلق أعظم من الملك وقيل القرآن ومن أمر ربي معناه من وحيه { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } تستفيدونه بتوسط حواسكم فإن اكتساب العقل للمعارف النظرية إنما هو من الضروريات المستفادة من إحساس الجزئيات ولذلك قيل من فقد حسا فقد فقد علما ولعل أكثر الأشياء لا يدركه الحس ولا شيئا من أحواله المعروفة لذاته وهو إشارة إلى أن الروح مما لا يمكن معرفة ذاته إلا بعوارض تميزه عما يلتبس به فلذلك اقتصر على هذا الجواب كما اقتصر موسى في جواب : وما رب العالمين بذكر بعض صفاته روي : أنه عليه الصلاة و السلام لما قال لهم ذلك قالوا : أنحن مختصون بهذا الخطاب ؟ فقال : بل نحن وأنتم فقالوا : ما أعجب شأنك ساعة تقول { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا } وساعة تقول هذا فنزلت { ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام } وما قالوه لسوء فهمهم لأن الحكمة الإنسانية أن يعلم من الخير والحق ما تسعه القوة البشرية بل ما ينتظم به معاشه ومعاده وهو والإضافة إلى معلومات الله التي لا نهاية لها قليل ينال به خير الدارين وهو بالإضافة إليه كثيرا

86 - { ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك } اللام الأولى موطئة للقسم و { لنذهبن } جوابه النائب مناب جزاء الشرط والمعنى إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه من المصاحف والصدور { ثم لا تجد لك به علينا وكيلا } من يتوكل علينا استرداده مسطورا محفوظا

87 - { إلا رحمة من ربك } فإنها إن نالتك فلعها تسترده عليك ويجوز أن يكون استثناء منقطعا معنى ولكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به فيكون امتنانا بإبقائه بعد المنة في تنزيله { إن فضله كان عليك كبيرا } كإرساله وإنزال الكتاب عليه وإبقائه في حفظه

88 - { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن } في البلاغة وحسن النظم وكمال المعنى { لا يأتون بمثله } وفيهم العرب العرباء وأرباب البيان وأهل التحقيق وهو جواب قسم محذوف دل عليه اللام الموطئة ولولا هي لكان جواب الشرط بلا جزم لكون الشرط ماضيا كقول زهير :
( وإن أتاه خليل يوم مسألة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم )
{ ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } ولو تظاهروا على الإتيان به ولعله لم يذكر الملائكة لأن إتيانهم بمثله لا يخرجه عن كونه معجزا ولأنهم كانوا وسائط في إتيانه ويجوز أن تكون الآية تقريرا لقوله : { ثم لا تجد لك به علينا وكيلا }

89 - { ولقد صرفنا } كررنا بوجوه مختلفة زيادة في التقرير والبيان { للناس في هذا القرآن من كل مثل } من كل معنى كالمثل في غرابته ووقوعه موقعها في الأنفس { فأبى أكثر الناس إلا كفورا } إلا جحودا وإنما جاز ذلك ولم يجز : ضربت إلا زيدا لأنه متأول بالنفي

90 - { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا } تعنتا واقتراحا بعد ما لزمتهم الحجة بيان إعجاز القرآن وانضمام غيره من المعجزات إليه وقرأ الكوفيون ويعقوب { تفجر } بالتخفيف والأرض ارض مكة والينبوع عين لا ينضب ماؤها يفعول من نبع الماء كيعبوب من عب الماء إذا زخر

91 - { أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا } أو يكون لك بستان يشتمل على ذلك

92 - { أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا } يعنون قوله تعالى : { أو نسقط عليهم كسفا من السماء } وهو كقطع لفظا ومعنى وقد سكنه ابن كثير و أبو عمرو و حمزة و الكسائي و يعقوب في جميع القرآن إلا في الروم و ابن عامر إلا في هذه السورة وأبو بكر و نافع في غيرهما و حفص فيما عدا الطور وهو إما مخفف من المفتوح كسدرة وسدر أو فعل بمعنى مفعول كالطحن { أو تأتي بالله والملائكة قبيلا } كفيلا بما تدعيه أي شاهدا على صحته ضامنا لدركه أو مقابلا كالعشير بمعنى المعاشر وهو حال من الله وحال الملائكة محذوفة لدلالتها عليها كما حذف الخبر في قوله :
( فإني وقيار بها لغريب )
أو جماعة فيكون حالا من { الملائكة }

93 - { أو يكون لك بيت من زخرف } من ذهب وقد قرئ به وأصله الزينة { أو ترقى في السماء } في معارجها { ولن نؤمن لرقيك } وحده { حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه } وكان فيه تصديقك { قل سبحان ربي } تعجبا من اقتراحاتهم أو تنزيها لله من أن يأتي أو يتحكم عليه أو يشاركه أحد في القدرة وقرأ ابن كثير و ابن عامر : قال سبحان ربي أي قال الرسول : { هل كنت إلا بشرا } كسائر الناس { رسولا } كسائر الرسل وكانوا لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله عليهم على ما يلائم حال قومهم ولم يكن أمر الآيات إليهم ولا لهم أن يتحكموا على الله حتى يتخيروها علي هذا هو الجواب المجمل وأما التفصيل فقد ذكر في آيات أخر كقوله : { ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس } { ولو فتحنا عليهم بابا }

94 - { وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى } أي وما منعهم الإيمان بعد نزول الوحي وظهور الحق { إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا } إلا قولهم هذا والمعنى أنه لم يبق لهم شبهة تمنعهم عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه و سلم والقرآن إلا إنكارهم أن يرسل الله بشرا

95 - { قل } جوابا لشبهتهم { لو كان في الأرض ملائكة يمشون } كما يمشي بنو آدم { مطمئنين } ساكنين فيها { لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا } لتمكنهم من الاجتماع به والتلقي منه وأما الإنس فعامتهم عماة عن إدراك الملك والتلقف منه فإن ذلك مشروط بنوع من التناسب والتجانس وملكا يحتمل أن يكون حالا من رسولا وأن يكون موصوفا به وكذلك بشرا والأول أوفق

96 - { قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم } على أني رسول الله إليكم بإظهاره المعجزة على وفق دعواي أو على أني بلغت ما أرسلت به إليكم وأنكم عاندتم وشهيدا نصب على الحال أو التمييز { إنه كان بعباده خبيرا بصيرا } يعلم أحوالهم الباطنة منها والظاهرة فيجازيهم عليهما وفيه تسلية للرسول صلى الله عليه و سلم وتهديد للكفار

97 - { ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه } يهدونه { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم } يسحبون عليها أو يمشوهن بها [ روي أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه و سلم كيف يمشون على وجوههم قال : إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم ] { عميا وبكما وصما } لا يبصرون ما يقر أعينهم ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم ولا ينطقون بما يقبل منهم لأنهم في دنياهم لم يستبصروا بالآيات والعبر و تصاموا عن استماع الحق وأبوا أن ينطقوا بالصدق ويجوز أن يحشروا بعد الحساب من الموقف إلى النار مؤفي القوى والحواس { مأواهم جهنم كلما خبت } سكن لهبها بأن أكلت جلودهم ولحومهم { زدناهم سعيرا } توقدا بأن نبدل جلودهم ولحومهم فتعود ملتهبة مستعرة كأنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء جزاهم الله بأن لا يزالوا على الإعادة والإفناء وإليه أشار بقوله :

98 - { ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا } لأن الإشارة إلى ما تقدم من عذابهم

99 - { أو لم يروا } أو لم يعلموا { أن الله الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم } فإنهم ليسوا أشد خلقا منهن ولا الإعادة أصعب عليه من الإبداء { وجعل لهم أجلا لا ريب فيه } هو الموت أو القيامة { فأبى الظالمون } مع وضوح الحق { إلا كفورا } إلا جحودا

100 - { قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي } خزائن رزقه وسائر نعمه وأنتم مرفوع بفعل يفسره ما بعده كقول حاتم : لو ذات سوار لطمتني وفائدة هذا الحذف والتفسير المبالغة مع الإيجاز والدلالة على الاختصاص { إذا لأمسكتم خشية الإنفاق } لبخلتم مخافة النفاد بالنفاق إذ لا أحد إلا ويختار النفع لنفسه ولو آثر غيره بشيء فإنما يؤثره لعوض يفوقه فهو إذن بخيل بالإضافة إلى جود الله تعالى وكرمه هذا وإن البخلاء أغلب فيهم { وكان الإنسان قتورا } بخيلا لأن بناء أمره على الحاجة والضنة بما يحتاج إليه وملاحظة العوض فيما يبذله

101 - { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات } هي العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم وانفجار الماء من الحجر وانفلاق البحر ونتق الطور على بني إسرائيل وقيل الطوفان والسنون ونقص الثمرات مكان الثلاثة الأخيرة [ وعن صفوان أن يهوديا سأل النبي صلى الله عليه و سلم عنها فقال : أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرفوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله ولا تقذفوا محصنة ولا تفروا من الزحف وعليكم خاصة اليهود أن لا تعدوا في السبت فقبل اليهودي يده ورجله ] فعلى هذا المراد بالآيات الأحكام العامة للملل الثابتة في كل الشرائع سميت بذلك لأنها تدل على حال من يتعاطى متعلقها في الآخرة من السعادة أو الشقاوة وقوله وعليكم خاصة اليهود أن لا تعدوا حكم مستأنف زائد على الجواب ولذلك غير فيه سياق الكلام { فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم } فقلنا له سلهم من فرعون ليرسلهم معك أو سلهم عن حال دينهم ويؤيده قراءة رسول الله صلى الله عليه و سلم فسأل على لفظ المضي بغير همز وهو لغة قريش و { إذ } متعلق بقلنا أو اسأل على هذه القراءة أو فاسأل يا محمد بني إسرائيل عما جرى بين موسى وفرعون إذ جاءهم أو عن الآيات ليظهر للمشركين صدقك أو لتتسلى نفسك أو لتعلم أنه تعالى لو أتى بما اقترحوا لأصروا على العناد والمكابرة كمن قبلهم أو ليزداد يقينك لأن تظاهر الأدلة يوجب قوة اليقين وطمأنينة القلب وعلى هذا كان { إذ } نصبا بآيتنا أو بإضمار يخبروك على أنه جواب الأمر أو بإضمار اذكر على الاستئناف { فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا } سحرت فتخبط عقلك

102 - { قال لقد علمت } يا فرعون وقرأ الكسائي بالضم على إخباره عن نفسه { ما أنزل هؤلاء } يعني الآيات { إلا رب السموات والأرض بصائر } بينات تبصرك صدقي ولكنك تعاند وانتصابه على الحال { وإني لأظنك يا فرعون مثبورا } مصروفا عن الخير مطبوعا على الشر من قولهم : ما ثبرك عن هذا أي ما صرفك أو هالكا قارع ظنه بظنه وشتان ما بين الظنين فإن ظن فرعون كذب بحت وظن موسى يحوم حول اليقين من تظاهر أماراته وقرئ وإن أخالك يا فرعون لمثبورا على أن المخففة وللام هي الفارقة

103 - { فأراد } فرعون { أن يستفزهم } أن يستخف موسى وقومه ونفيهم { من الأرض } أرض مصر أو الأرض مطلقا بالقتل والاستئصال { فأغرقناه ومن معه جميعا } فعكسنا عليه مكره فاستفززناه وقومه بالإغراق

104 - { وقلنا من بعده } من بعد فرعون أو إغراقه { لبني إسرائيل اسكنوا الأرض } التي أراد أن يستفزكم منها { فإذا جاء وعد الآخرة } الكرة أو الحياة أو الساعة أو الدار الآخرة يعين قيام القيامة { جئنا بكم لفيفا } مختلطين إياكم وإياهم ثم نحكم بينك ونمير سعداءكم من أشقيائكم واللفيف الجماعات من قبائل شتى

105 - { وبالحق أنزلناه وبالحق نزل } أي وما أنزلنا القرآن إلا ملتبسا بالحق المقتضي لإنزاله وما نزل على الرسول إلا ملتبسا بالحق الذي اشتمل عليه وقيل وما أنزلناه من السماء إلا محفوظا بالرصد من الملائكة وما نزل على الرسول إلا محفوظا بهم من تخليط الشياطين ولعله أراد به نفي اعتراء البطلان له أو الأمر وآخره { وما أرسلناك إلا مبشرا } للمطيع بالثواب { ونذيرا } للعاصي بالعقاب فلا عليك إلا التبشير والإنذار

106 - { وقرآنا فرقناه } نزلناه مفرقا منجما وقيل فرقنا فيه الحق من الباطل فحذف الجار كما في قوله : ويوما شهدناه وقرئ بالتشديد لكثرة نجومه فإنه نزل في تضاعيف عشرين سنة { لتقرأه على الناس على مكث } على مهل وتؤدة فإنه أيسر للحفظ وأعون في الفهم وقرئ بالفتح وهو لغة فيه { ونزلناه تنزيلا } على حسب الحوادث

107 - { قل آمنوا به أو لا تؤمنوا } فإن إيمانكم بالقرآن لا يزيده كمالا وامتناعكم عنه لا يورثه نقصا وقوله : { إن الذين أوتوا العلم من قبله } تعليل له أي إن لم تؤمنون به فقد آمن به من هو خير منكم وهم العلماء الذين قرؤوا الكتب السابقة وعرفوا حقيقة الوحي وأمارات النبوة وتمكنوا من الميز بين المحق والمبطل أو رأوا نعتك وصفة ما أنزل إليك في تلك الكتب وبجوز أن يكون تعليلا ل { قل } على سبيل التسلية كأنه قيل : تسل بإيمان العلماء عن إيمان الجهلة ولا تكترث بإيمانهم وإعراضهم { إذا يتلى عليهم } القرآن { يخرون للأذقان سجدا } يسقطون على وجوههم تعظيما لأمر الله أو شكرا لإنجاز وعده في تلك الكتب ببعثه محمد صلى الله عليه و سلم على فترة من الرسل وإنزال القرآن عليه

108 - { ويقولون سبحان ربنا } عن خلف الموعد { إن كان وعد ربنا لمفعولا } إنه كان وعده كائنا لا محالة

سورة الكهف
109 - ن مواعظ القرآن حال كونهم باكين من خشية الله وذكر الذقن لأنه أول ما يلقى الأرض من وجه الساجد واللام فيه لاختصاص الخرور به { ويزيدهم } سماع القرآن { خشوعا } كما يزيدهم علما ويقينا بالله

110 - { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } [ نزلت حين سمع المشركون رسول الله يقول : يا الله يا رحمن فقالوا إنه ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلها آخر ] أو قالت اليهود : إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثره الله في التوراة والمراد على الأول هو التسوية بين اللفظين بأنهما يطلقان على ذات واحدة وإن اختلف اعتبار إطلاقهما والتوحيد إنما هو للذات الذي هو المعبود المطلق وعلى الثاني أنهما سيان في حسن الإطلاق والإفضاء إلى المقصود وهو أجود لقوله : { أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى } والدعاء في الآية بمعنى التسمية وهو يتعدى إلى مفعولين حذف أولهما استغناء عنه وأو للتخيير والتنوين في { أيا } عوض عن المضاف إليه و { ما } صلة لتأكيد ما في { أيا } من الإبهام والضمير في { فله } للمسمى لأن التسمية له لا للاسم وكان أصل الكلام { أيا ما تدعوا } فهو حسن فوضع موضعه فله الأسماء الحسنى للمبالغة والدلالة على ما هو الدليل عليه وكونها حسنى لدلالتها على صفات الجلال والإكرام { ولا تجهر بصلاتك } بقراءة صلاتك حتى تسمع المشركين فإن ذلك يحملهم على السب واللغو فيها { ولا تخافت بها } حتى لا تسمع من خلفك من المؤمنين { وابتغ بين ذلك } بين الجهر والمخافتة { سبيلا } وسطا فإن الاقتصاد في جميع الأمور محبوب [ روي أن أبا بكر رضي الله عنه كان يخفت ويقول : أناجي ربي وقد علم حاجتي وعمر رضي الله عنه كان يجهر ويقول أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان فلما نزلت أمر رسول الله أبا بكر أن يرفع قليلا وعمر أن يخفض قليلا ] وقيل معناه لا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها بأسرها وابتغ بين ذلك سبيلا بالإخفات نهارا والجهر ليلا

111 - { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك } في الألوهية { ولم يكن له ولي من الذل } ولي يواليه من أجل مذلة به ليدفعها بموالاته نفى عنه أن يكون له ما يشاركه من جنسه ومن غير جنسه اختيارا واضطرارا وما يعاونه ويقويه ورتب الحمد عليه للدلالة على أنه الذي يستحق جنس الحمد لأنه الكامل الذات المنفرد بالإيجاد المنعم على الإطلاق وما عداه ناقص مملوك نعمة أو منعم عليه ولذلك عطف عليه قوله : { وكبره تكبيرا } وفيه تنبيه على أن العبد وإن بالغ في التنزيه والتمجيد واجتهد في العبادة والتحميد ينبغي أن يعترف بالقصور عن حقه في ذلك
روي [ أنه صلى الله عليه و سلم كان إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه هذه الآية ] [ وعنه عليه الصلاة و السلام من قرأ سورة بني إسرائيل فرق قلبه عند ذكر الوالدين كان له قنطار في الجنة ] والقنطار ألف أوقية ومائتا أوقية والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب

وقيل إلا قوله { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم } الآية وهي مائة وإحدى عشر آية
بسم الله الرحمن الرحيم
1 - { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب } يعني القرآن رتب استحقاق الحمد على إنزاله تنبيها على أنه أعظم نعمائه وذلك لأنه الهادي إلى ما فيه كمال العباد والداعي إلى ما يه ينتظم صلاح المعاش والمعاد { ولم يجعل له عوجا } شيئا من العوج باختلال في اللفظ وتناف في المعنى أو انحراف من الدعوة إلى جانب الحق وهو في المعاني كالعوج في الأعيان

2 - { قيما } مستقيما معتدلا لا إفراط فيه ولا تفريط أو { قيما } بمصالح العباد فيكون وصفا له بالتكميل بعد وصفه بالكمال أو على الكتب السابقة يشهد بصحتها وانتصابه بمضمر تقديره جعله قيما أو على الحال من الضمير في { له } أو من { الكتاب } على أن الواو { ولم يجعل } للحال دون القطف إذ لو كان العطف كان المعطوف فاصلا بين أبعاض المعطوف عليه ولذلك قيل فيه تقديم وتأخير { قيما } { لينذر بأسا شديدا } أي لينذر الذين كفروا عذابا شديدا فحذف المفعول الأول اكتفاء بدلالة القرينة واقتصارا على الغرض المسوق إليه { من لدنه } صادرا من عنده وقرأ أبو بكر بإسكان الدال كإسكان الباء من سبع مع الإشمام ليدل على أصله وكسر النون لالتقاء الساكنين وكسر الهاء للإتباع { و يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا } هو الجنة

3 - { ماكثين فيه } في الأجر { أبدا } بلا انقطاع

4 - { وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا } خصهم بالذكر وكرر والإنذار متعلقا بهم استعظاما لكفرهم وإنما لم يذكر المنذر به استغناء بتقدم ذكره

5 - { ما لهم به من علم } أي بالولد أو باتخاذه أو بالقول والمعنى أنهم يقولونه عن جهل مفرط وتوهم كاذب أو تقليد لما سمعوه من أوائلهم من غير علم بالمعنى الذي أرادوا به فإنهم كانوا يطلقون الأب والابن بمنى المؤثر والأثر أو بالله إذ لو علموه لما جوزوا نسبة الاتخاذ إليه { ولا لآبائهم } الذين تقولوه بمعنى التبني { كبرت كلمة } عظمت مقالتهم هذه في الكفر لما فيها من التشبيه والتشريك وإيهام احتياجه تعالى إلى ولد يعينه ويخلفه إلى غير ذلك من الزيغ و { كلمة } نصب على التمييز وقرئ بالرفع على الفاعلية والأول أبلغ وأدل على المقصود { تخرج من أفواههم } صفة لها تفيد استعظام اجترائهم على إخراجها من أفواهم والخارج بالذات هو الهواء الحامل لها وقيل صفة محذوف هو المخصوص بالذم لأن كبرها هنا بمعنى بئس وقرئ { كبرت } بالسكون مع الإشمام { إن يقولون إلا كذبا }

6 - { فلعلك باخع نفسك } قاتلها { على آثارهم } إذا ولوا عن الإيمان لما يداخله من الوجد على توليهم بمن فارقته أعزتاه فهو يتحسر على آثارهم ويبخع نفسه وجدا عليهم وقرئ { باخع نفسك } على الإضافة { إن لم يؤمنوا بهذا الحديث } بهذا القرآن { أسفا } للتأسف عليهم أو متأسفا عليهم والأسف فرط الحزن والغضب وقرئ أن بالفتح على لأن فلا يجوز إعمال باخع إلا إذا جعل حكاية حال ماضية

7 - { إنا جعلنا ما على الأرض } من الحيوان والنبات والمعادن { زينة لها } ولأهلها { لنبلوهم أيهم أحسن عملا } في تعاطيه وهو من زهد فيه ولم يغتر به وقنع منه بما يزجي به أيامه وصرفه على ما ينبغي وفيه تسكين لرسول الله صلى الله عليه و سلم

8 - { وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا } تزهيد فيه والجرز الأرض التي قطع نباتها مأخوذ من الجرز وهو القطع والمعنى إنا لنعيد ما عليها من الزينة ترابا مستويا بالأرض ونجعله كصعيد أملس لا نبات فيه

9 - { أم حسبت } بل أحسبت { أن أصحاب الكهف والرقيم } في إبقاء حياتهم مدة مديدة { كانوا من آياتنا عجبا } وقصتهم بالإضافة إلى خلق ما على الأرض من الأجناس والأنواع الفائتة للحصر على طبائع متباعدة وهيئات متخالفة تعجب الناظرين من مادة واحدة ثم ردها إليها ليس بعجيب مع أنه من آيات الله كالنزر الحقير و { الكهف } الغار الواسع في الجبل و { الرقيم } اسم الجبل أو الوادي الذي فيه كهفهم أو اسم قريتهم أن كلبهم قال أمية بن أبي الصلت :
( وليس بها إلا الرقيم مجاورا ... وصيدهمو والقوم في الكهف هجد )
أو لوح رصاصي أو حجري رقمت فيه أسماؤهم وجعل على باب الكهف وقيل أصحاب الرقيم قوم آخرون كانوا ثلاثة خرجوا يرتادون لأهلهم فأخذتهم السماء فأووا إلى الكهف فانحطت صخرة وسدت بابه فقال أحدهم اذكروا أيكم عمل حسنة لعل الله يرحمنا ببركته فقال أحدهم : استعملت أجراء ذات يوم فجاء رجل وسط النهار وعمل في بقيته مثل عملهم فأعطينه مثل أجرهم فغضب أحدهم وترك أجره فوضعته في جانب البيت ثم مر بي بقر فاشتيرت به فصيلة فبلغت ما شاء الله فرجع إلى بعد حين شيخا ضعيفا لا أعرفه وقال : إنه لي عندك حقا وذكره لي حتى عرفته فدفعتها إليه جميعا اللهم إن كنت فعلت ذلك لوجهك فافرج عنا فانصدع الجبل حتى رأوا الضوء وقال آخر : كان في فضل وأصابت الناس شدة فجاءتني امرأة فطلبت مني معروفا فقلت : والله ما هو دون نفسك فأبت وعادت ثم رجعت ثلاثا ثم ذكرت لزوجها فقال أجيبي له وأغيثي عيالك فأتت وسلمت إلي نفسها فلما تكشفتها وهممت بها ارتعدت فقلت : مالك قالت أخاف الله فقلت لها : خفته في الشدة ولم أخفه في الرخاء فتركتها وأعطيتها ملتمسها اللهم إن كنت فعلته لوجهك فافرج عنا فانصدع حتى تعارفوا وقال الثالث كان لي أبوان هرمان وكانت لي غنم وكنت أطعمهما وأسقيهما ثم أرجع إلى غنمي فحبسني ذات يوم غيث فلم أبرح حتى أمسيت فأتيت أهلي وأخذت محلبي فحلبت فيه ومضيت إليهما فوجدتهما نائمين فشق علي أن أوقظهما فتوقعت جالسا و محلبي على يدي حتى أيقظهما الصبح فسقيتهما اللهم إن كنت فعلته لوجهك فافرج عنا ففرج الله عنهم فخرجوا وقد رفع ذلك نعمان بن بشير

10 - { إذ أوى الفتية إلى الكهف } يعني فتية من أشراف الروم أرادهم دقيانوس على الشرك فأبوا وهربوا إلى الكهف { فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة } توج لنا المغفرة والرزق والأمن من العدو { وهيئ لنا من أمرنا } من الأمر الذي نحن عليه من مفارقة الكفار { رشدا } نصير بسببه راشدين مهتدين أو اجعل أمرانا كله رشدا كقولك : رأيت منك أسدا وأصل التهيئة إحداث هيئة الشيء

11 - { فضربنا على آذانهم } أي ضربنا عليهم حجابا يمنع السماع بمعنى أنمناهم إنامة لا تنبههم فيها الأصوات فحذف المفعول كما حذف في قولهم : بنى على امرأته : { في الكهف سنين } ظرفان لضربنا { عددا } أي ذوات عدد ووصف السنين به يحتمل التكثير والتقليل فإن مدة لبثهم كبعض يوم عنده

12 - { ثم بعثناهم } أيقظناهم { لنعلم } ليتعلق علمنا تعلقا حاليا مطابقا لتعلقه أولا تعلقا استقباليا { أي الحزبين } المختلفين منهم أو من غيرهم في مدة لبثهم { أحصى لما لبثوا أمدا } ضبط أمد الزمان لبثهم وما في أي من معنى الاستفهام علق عنه لنعلم فهو مبتدأ و { أحصى } خبره وهو فعل ماض و { أمدا } مفعول له و { لما لبثوا } حال منه أو مفعول له وقيل إن المفعول واللام مزيدة وما موصولة و { أمدا } تمييز وقيل { أحصى } اسم تفضيل من الإحصاء بحذف الزوائد كقولهم : هو أحصى للمال وأفلس من ابن المذلق و { أمدا } نصب بفعل دل عليه { أحصى } كقوله :
( وأضرب منا بالسيوف القوانسا )

13 - { نحن نقص عليك نبأهم بالحق } بالصدق { إنهم فتية } شبان جمع فتى كصبي وصبية { آمنوا بربهم وزدناهم هدى } بالتثبيت

14 - { وربطنا على قلوبهم } وقويناها بالصبر على هجر الوطن والأهل والمال والجراءة على إظهار الحق والرد على دقيانوس الجبار { إذ قاموا } بين يديه { فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا } والله لقد قلنا قولا ذا شطط أي ذا بعد عن الحق مفرط في الظلم

15 - { هؤلاء } مبتدأ { قومنا } عطف بيان { اتخذوا من دونه آلهة } خبره وهو إخبار في معنى إنكار { لولا يأتون } هلا يأتون { عليهم } على عبادتهم { بسلطان بين } ببرهان ظاهر فإن الدين لا يؤخذ إلا به وفيه دليل على أن ما لا دليل عليه من الديانات مردود وأن التقليد فيه غير جائز { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا } بنسبة الشريك إليه

16 - { وإذ اعتزلتموهم } خطاب بعضهم لبعض { وما يعبدون إلا الله } عطف على الضمير المنصوب أي وإذا اعتزلتم القوم ومعبوديهم إلا الله فإنهم كانوا يعبدون الله ويعبدون الأصنام كسائر المشركين وبجوز أن تكون { ما } مصدرية على تقدير وإذ اعتزلتموهم وعبادتهم إلا عبادة الله وأن تكون نافية على أنه إخبار من الله تعالى عن الفتية بالتوحيد معترض بين { إذ } وجوابه لتحقيق اعتزالهم { فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم } يبسط الرزق الكم ويوسع عليكم { من رحمته } في الدارين { ويهيئ لكم من أمركم مرفقا } ما ترتفقون به أي تنتفعون و جزمهم بذلك لنصوع يقينهم وقوة وثوقهم بفضل الله تعالى وقرأ نافع و ابن عامر { مرفقا } بفتح الميم وكسر الفاء وهو مصدر جاء شاذا كالمرجع والمحيض فإن قياسه الفتح

17 - { وترى الشمس } لو رأيتهم و الخطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم أو لكل أحد { إذا طلعت تزاور عن كهفهم } تميل عنه ولا يقع شعاعها عليهم فيؤذيهم لأن الكهف كان جنوبيا أو لأن الله تعالى زورها عنهم وأصله تتزاور فأدغمت التاء في الزاي وقرأ الكوفيون بحذفها وأبن عامر و يعقوب تزور كتحمر وقرئ تزوار كتحمار وكلها من الزور بمعنى الميل { ذات اليمين } جهة اليمين وحقيقتها الجهة ذات اسم اليمين { وإذا غربت تقرضهم } تقطعهم و تصرم عنهم { ذات الشمال } يعني يمين الكهف وشماله لقوله : { وهم في فجوة منه } أي وهم في متسع من الكهف يعني في وسطه بحيث ينالهم روح الهواء ولا يؤذيهم كرب الغار ولا حر الشمس وذلك لأن باب الكهف في مقابلة بنات نعش وأقرب المشارق والمغارب إلى محاذاته مشرق رأس السرطان ومغربه والشمس إذا كان مدارها مداره تطلع مائلة عنه مقابلة لجانبه الأبيض وهو الذي يلي المغرب و تغرب محاذية لجانبه الأيسر فيقع شعاعها على جانبيه ويحلل عفونته ويعدل هواءه ولا يقع عليهم فيؤذي أجسادهم ويبلي ثيابهم { ذلك من آيات الله } أي شأنهم وإيواؤهم إلى كهف شأنه كذلك أو إخبارك قصتهم أو ازورار الشمس عنهم وقرضها طالعة وغربة من آيات الله { من يهد الله } بالتوفيق { فهو المهتد } الذي أصاب الفلاح والمراد به إما الثناء عليهم أو التنبيه على أن أمثال هذه الآيات كثيرة ولكن المنتفع بها من وفقه الله للتأمل فيها و الاستبصار بها { ومن يضلل } ومن يخذله { فلن تجد له وليا مرشدا } من يليه ويرشده

18 - { وتحسبهم أيقاظا } لانفتاح عيونهم أو لكثرة تقلبهم { وهم رقود } نيام { و نقلبهم } في رقدتهم { ذات اليمين وذات الشمال } كيلا تأكل الأرض ما يليها من أبدانهم على طول الزمان وقرئ و يقلبهم بالياء والضمير الله تعالى و تقلبهم على المصدر منصوبا بفعل يدل عليه تحسبهم أي وترى تقلبهم { وكلبهم } هو كلب مروا به فتبعهم فطردوه فأنطقه الله تعالى فقال : أنا أحب أحباء الله فناموا وأنا أحرسكم أو كلب راع مروا به فتبعهم وتبعه الكلب ويؤيده قراءة من قرأ : وكالبهم أي وصاحب كلبهم { باسط ذراعيه } حكاية حال ماضية ولذلك أعمل اسم الفاعل { بالوصيد } بفناء الكهف وقيل الصيد الباب وقيل العتبة { لو اطلعت عليهم } فنظرت إليهم وقرئ لو اطلعت بضم الواو { لوليت منهم فرارا } لهربت منهم و { فرارا } يحتمل المصدر لأنه نوع من التولية والعلة والحال { ولملئت منهم رعبا } خوفا يملأ صدرك بما ألبسهم الله من الهيبة أو لعظم أجرامهم وانفتاح عيونهم وقيل لوحشة مكانهم وعن معاوية رضي الله عنه أنه غزا الروم فمر بالكهف فقال : لو كشفت لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال اله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ليس لك ذلك قد منع الله تعالى منه من هو خير منك فقال { لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا } فلم يسمع وبعث ناسا فلما دخلوا جاءت ريح فأحرقتهم وقرأ الحجازيان لملئت بالتشديد للمبالغة و ابن عامر و الكسائي و يعقوب { رعبا } بالتثقيل

19 - { وكذلك بعثناهم } وكما أنمناهم آية بعثناهم آية على كمال قدرتنا { ليتساءلوا بينهم } ليسأل بعضهم بعضا فتعرفوا حالهم وما صنع الله بهم فيزدادوا يقينا على كمال قدرة الله تعالى ويستبصروا به أمر البعث ويشكروا ما أنعم الله به عليهم { قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم } يناء على غالب ظنهم لأن النائم لا يحصي مدة نومه ولذلك أحالوا العلم إلى الله تعالى { قالوا ربكم أعلم بما لبثتم } ويجوز أن يكون ذلك قول بعضهم وذا إنكار الآخرين عليهم وقيل إنهم دخلوا الكهف غدوة وانتبهوا ظهيرة وظنوا أنهم في يومهم أو اليوم الذي بعده قالوا ذلك فلما نظروا إلى طول أظفارهم وأشعراهم قالوا هذا ثم لما علموا أن الأمر ملتبس لا طريق لهم إلى علمه أخذوا فيما يهمهم وقالوا : { فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة } والورق الفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة وقرأ أبو بكر و أبو عمرو و حمزة و روح عن يعقوب بالتخفيف وقرئ بالتثقيل وإدغام القاف في الكاف وبالتخفيف مكسور الواو مدغما وغير مدغم ورد المدغم لالتقاء الساكنين على غير حده وحملهم له دليل على أن التزود أي المتوكلين والمدينة طرسوس { فلينظر أيها } أي أهلها { أزكى طعاما } أحل وأطيب أو أكثر وأرخص { فليأتكم برزق منه وليتلطف } وليتكلف اللطف في المعاملة حتى لا يغبن أو في التخفي حتى لا يعرف { ولا يشعرن بكم أحدا } ولا يفعلن ما يؤدي إلى الشعور

20 - { إنهم إن يظهروا عليكم } أي يطلعوا عليكم أو يظفروا بكم والضمير لأهل المقدر في { أيها } { يرجموكم } يقتلوكم بالرجم { أو يعيدوكم في ملتهم } أو يصيروكم إليها كرها من العود بمعنى الصيرورة وقيل كانوا أولا على دينهم فآمنوا { ولن تفلحوا إذا أبدا } إن دخلتم في ملتهم

21 - { وكذلك أعثرنا عليهم } وكما أنمناهم وبعثناهم لتزداد بصيرتهم أطلعنا عليهم { ليعلموا } ليعلم الذين أطلعناهم على حالهم { أن وعد الله } بالبعث أو الموعود الذي هو البعث { حق } لأن نومهم وانتباهم كحال من يموت ثم يبعث { وأن الساعة لا ريب فيها } وأن القيامة لا ريب في إمكانها فإن من توفى نفوسهم وأمسكها ثلاثمائة سنين حافظا أبدانها عن التحلل والتفتت ثم أرسلها إليها قدر أن يتوفى نفوس جميع الناس ممسكا إياها إلى أن يحشر أبدانهم فيردها عليها { إذ يتنازعون } ظرف ل { أعثرنا } أي أعثرنا عليهم حين يتنازعون { بينهم أمرهم } أمر دينهم وكان بعضهم يقول تبعث الأرواح مجردة وبعضهم يقول يبعثان معا ليرتفع الخلاف ويتبين أنهما يبعثان معا أو أمر الفتية حنا أماتهم الله ثانيا بالموت فقال بعضهم ماتوا وقال آخرون ناموا نومهم أول مرة أو قالت طائفة نبني عليهم بنيانا يسكنه الناس ويتخذون قربة وقال آخرون لنتخذن عليهم مسجدا يصلى فيه كما قال تعالى { فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا } وقوله { ربهم أعلم بهم } اعتراض إما من الله ردا على الخائضين في أمرهم من أولئك المتنازعين أو من المتنازعين في زمانهم أو من المتنازعين فيهم على عهد الرسول صلى الله عليه و سلم أو من المتنازعين للرد إلى الله بعد ما تذكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أنسابهم وأحوالهم فلم يتحقق لهم ذلك حكي أن المبعوث لما دخل السوق وأخرج الدراهم وكان عليها اسم دقيانوس اتهموه بأنه وجد كنزا فذهبوا به إلى الملك - وكان نصرانيا موحدا - فقص عليه القصص فقال بعضهم : إن آباءنا أخبرونا أن فتية فروا بدينهم من دقيانوس فلعلهم هؤلاء فانطلق الملك وأهل المدينة من مؤمن وكافر وأبصروهم وكلموهم ثم قالت الفتية للملك نستودعك الله ونعيذك به من شر الجن والإنس ثم رجعوا إلى مضاجعهم فماتوا فدفنهم الملك في الكهف وبنى عليهم مسجدا وقيل لما انتهوا إلى الكهف قال لهم الفتى مكانكم حتى أدخل أولا لئلا يفزعوا فدخل فعمي عليهم المدخل فبنوا ثم مسجدا

22 - { سيقولون } أي الخائضون في قصتهم في عهد الرسول صلى الله عليه و سلم من أهل الكتاب والمؤمنين { ثلاثة رابعهم كلبهم } أي هم ثلاثة رجال يربعهم كلبهم بانضمامه إليهم قيل هو قول اليهود وقيل هو قول السيد من نصارى نجران وكان يعقوبيا { ويقولون خمسة سادسهم كلبهم } قاله النصارى أو العاقب منهم وكان نسطوريا { رجما بالغيب } يرمون رميا بالخبر الخفي الذي لا مطلع لهم عليه وإتيانا به أو ظنا بالغيب من قولهم رجم بالظن إذا ظن وإنما لم يذكر السين اكتفاء بعطفه على ما هو فيه { ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم } إنما قاله المسلمون بإخبار الرسول لهم عن جبريل علهما الصلاة والسلام وإيماء الله تعالى إليه بأن أتبعه قوله { قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل } وأتبع الأولين قوله رجما بالغيب وبأن أثبت العلم بهم لطائفة بعد ما حصر أقوال الطوائف في الثلاثة المذكورة فإن عدم إيراد رابع في نحو هذا المحل دليل العدم مع أن الأصل بنفيه ثم رد الأولين بأن أتبعهما قوله { رجما بالغيب } ليتعين الثالث وبأن أدخل فيه الواو على الجملة الواقعة صفة للنكرة تشبيها لها بالواقعة حالا من المعرفة لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت وعن علي رضي الله عنه هم سبعة وثامنهم كلبهم وأسماؤهم : يمليخا و مكشلينيا ومشلينيا هؤلاء أصحاب يمين الملك ومرنوش ودبرنوش وشاذنوش أصحاب يساره وكان يستشيرهم والسابع الراعي الذي وافقهم واسم كلبهم قطمير واسم مدينتهم أفسوس وقيل الأقوال الثلاثة لأهل الكتاب والقليل منهم { فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا } فلا تجادل في شأن الفتية إلا جدالا ظاهرا غير متعمق فيه وهو أن تقص عليهم ما في القرآن من غير تجهيل لهم والرد عليهم { ولا تستفت فيهم منهم أحدا } ولا تسأل أحدا منهم عن قصتهم سؤال مسترشد فإن فيما أوحي إليك لمندوحة من غيره مع أنه لا علم لهم بها ولا سؤال متعنت تريد تفضيح المسؤول وتزييف ما عنده فإنه مخل بمكارم الأخلاق

23 - { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله } نهي تأديب من الله تعالى لنبيه حين قالت اليهود لقريش : سلوه عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين فسألوه فقال : ائتوني غدا أخبركم ولم يستثن فأبطأ عليه الوحي بضعة عشر نوما حتى شق عليه وكذبه قريش والاستثناء من النهي أي ولا تقولن لأجل شيء تعزم عليه إني فاعله فيما يستقبل إلا ب { أن يشاء الله } أي إلا ملتبسا بمشيئته قائلا إن شاء الله أو إلا وقت أن يشاء الله أن تقوله بمعنى أن يأذن لك فيه ولا يجوز تعليقه بفاعل لأن استثناء اقتران المشيئة بالفعل غير سديد واستثناء اعتراضها دونه لا يناسب النهي

24 - { واذكر ربك } مشيئة ربك وقل إن شاء الله كما روي أنه لما نزل قال عليه الصلاة و السلام إن شاء الله { إذا نسيت } إذا فرط منك نسيان لذلك ثم تذكرته وعن أبن عباس ولو بعد سنة ما لم يحنث ولذلك جوز تأخير الاستثناء عنه وعامة الفقهاء على خلافة لأنه لو صح ذلك لم يتقرر إقرار ولا طلاق ولا عتاق ولم يعلم صدق ولا كذب وليس في الآية والخبر أن الاستثناء المتدارك به من القول السابق بل هو من مقدر مدلول به عليه ويجوز أن يكون المعنى واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت الاستثناء مبالغة في الحث عليه أو اذكر ربك وعقابه إذا تركت بعض ما أمرك به ليبعثك على التدارك أو اذكره إذا اعتراك النسيان ليذكرك المنسي { وقل عسى أن يهدين ربي } يدلني { لأقرب من هذا رشدا } لأقرب رشدا وأظهر دلالة على أن نبي من نبأ أصحاب الكهف وقد هداه لأعظم من ذلك كقصص الأنبياء المتباعدة عنه أيامهم والإخبار بالغيوب والحوادث النازلة في الأعصار المستقبلة إلى قيام الساعة أو لأقرب رشدا وأدنى خيرا من المنسي

25 - { ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا } يعني لبثهم فيه أحياء مضروبا على آذانهم وهو بيان لما أجمل قبل وقيل إنه حكاية كلام أهل الكتاب فإنهم اختلفوا في مدة لبثهم كما اختلفوا في عدتهم فقال بعضهم ثلاثمائة وقال بعضهم ثلثمائة وتسع سنين وقرأ حمزة و الكسائي ثلاثمائة سنين بالإضافة على وضع الجمع موضع الواحد ويحسنه ها هنا أن علامة الجمع فيه جبر لما حذف من الواحد وأن الأصل في العدد إضافته إلى الجمع ومن لم يضف أبدل السنين من ثلثمائة

26 - { قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السموات والأرض } له ما غاب فيهما وخفي من أحوال أهلهما فلا خلق يخفى عليه علما { أبصر به وأسمع } ذكر بصيغة التعجب للدلالة على أن أمره في الإدراك خارج عما عليه إدراك السامعين والمبصرين إذ لا يحجبه شيء ولا يتفاوت دونه لطيف وكثيف وصغير وكبير وخفي وجلي والهاء تعود إلى الله ومحله الرفع على الفاعلية والباء مزيدة عند سيبويه وكان أصله أبصر أي صار ذا بصر ثم نقل إلى صيغة الأمر بمعنى الإنشاء فبرز الضمير لعدم لياق الصيغة له أو لزيادة الباء كما في قوله تعالى { وكفى به } والنصب على المفعولية عند الأخفش والفاعل ضمير المأمور وهو كل أحد والباء مزيدة إن كانت الهمزة للتعدية ومعدية إن كانت للصيرورة { مالهم } الضمير لأهل السموات والأرض { من دونه من ولي } من يتولى أمورهم { ولا يشرك في حكمه } في قضائه { أحدا } منهم ولا يجعل له فيه مدخلا وقرأ ابن عامر و قالون عن يعقوب بالتاء الجزم على نهي كل أحد عن الإشراك ثم لما دل اشتمل القرآن على قصة أصحاب الكهف من حيث إنها من المغيبات بالإضافة إلى رسول الله على أنه وحي معجز أمره أن يداوم درسه ويلازم أصحابه فقال :

27 - { واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك } من القرآن ولا تسمع لقولهم { ائت بقرآن غير هذا أو بدله } { لا مبدل لكلماته } لا أحد يقدر على تبديلها وتغييرها غيره { ولن تجد من دونه ملتحدا } ملتجأ عليه إن هممت به

28 - { واصبر نفسك } واحبسها وثبتها { مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } في مجامع أوقاتهم أو في طرفي النهار وقرأ ابن عامر بالغدوة وفيه أن غدوة علم في الأكثر فتكون اللام فيه على تأويل التنكير { يريدون وجهه } رضا الله وطاعته { ولا تعد عيناك عنهم } ولا يجاوزهم نظرك إلى غيرهم وتعديته بعن لتضمينه معنى نبأ وقرئ ولا تعد عينيك { ولا تعد } من أعداه وعداه والمراد نهي الرسول صلى الله عليه و سلم أن يزدري بفقراء المؤمنين وتعلو عينه عن رثاثة زيهم طموحا إلى طراوة زي الأغنياء { تريد زينة الحياة الدنيا } حال من الكاف في المشهورة ومن المستكن في الفعل في غيرها { ولا تطع من أغفلنا قلبه } من جعلنا قلبه غافلا { عن ذكرنا } كأمية بن خلف في دعائك إلى طرد الفقراء عن مجلسك لصناديد قريش وفيه تنبيه على أن الداعي له إلى هذا الاستدعاء غفلة قلبه عن المعقولات وانهماكه في المحسوسات حتى خفي عليه أن الشرف بحلية النفس لا بزينة الجسد وأنه لو أطاعه كان مثله في الغباوة المعتزلة لما غاظهم إسناد الإغفال إلى الله تعالى قالوا : إنه مثل أجبنته إذا وجدته كذلك أو نسبته إليه أو من أغفل إبله إذا تركها بغير سمة أي لم نسمه بذكرنا كقلوب الذين كتبنا في قلوبهم الإيمان واحتجوا على أن المراد ليس ظاهر ما ذكر أولا بقوله : { واتبع هواه } وجوابه ما مر غير مرة وقرئ { أغفلنا } بإسناد الفعل إلى القلب على معنى حسبنا قلبه غافلين عن ذكرنا إياه بالمؤاخذة { وكان أمره فرطا } أي تقدما على الحق ونبذا له وراء ظهره يقال : فرس فرط أي متقدم للخيل ومنه الفرط

29 - { وقل الحق من ربكم } الحق ما يكون من جهة الله لا ما يقتضيه الهوى ويجوز أن يكون الحق خبر مبتدأ محذوف و { من ربكم } حالا { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } لا أبالي بإيمان من آمن ولا كفر من كفر وهو لا يقتضي استقلال العبد بفعله فإنه وإن كان بمشيئته فمشيئته ليست بمشيئته { إنا أعتدنا } هيأنا { للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها } فسطاطها شبه به ما يحيط بهم من النار وقيل السرادق الحجرة التي تكون حول الفسطاط وقيل سرادقها دخانها وقيل حائط من نار { وإن يستغيثوا } من العطش { يغاثوا بماء كالمهل } كالجسد المذاب وقيل كدردي الزيت وهو على طريقة قوله : فأعتبوا بالصيلم { يشوي الوجوه } إذا قدم ليشرب من فرط حرارته وهو صفة ثانية لماء أو حال من المهل أو الضمير في الكاف { بئس الشراب } المهل { وساءت } النار { مرتفقا } متكأ وأصل الارتفاق نصب المرفق تحت الخد وهو لمقابلة قوله وحسنت مرتفقا وإلا فلا ارتفاق لأهل النار

30 - { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا } خبر إن الأولى وهي الثانية بما في حيزها والراجع محذوف تقديره من أحسن عملا منهم أو مستغنى عنه بعموم من أحسن عملا كما هو مستغني عنه في قولك : نعم الرجل زيد أو واقع موقعه الظاهر فإن من أحسن عملا لا يحسن إطلاقه على الحقيقة إلا على الذين آمنوا وعملوا الصالحات

31 - { أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار } وما بينهما اعتراض وعلى الأول استئناف لبيان الأجر أو خبر ثان { يحلون فيها من أساور من ذهب } من الأولى للابتداء والثانية للبيان صفة ل { أساور } وتنكيره لتعظيم حسنها من الإحاطة به وهو جمع أسورة أو أسوار في جمع سوار { ويلبسون ثيابا خضرا } لأن الخضرة أحسن الألوان وأكثرها طراوة { من سندس وإستبرق } مما رق من الديباج وما غلظ منه جمع بين النوعين للدلالة على أن فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين { متكئين فيها على الأرائك } على السرر كما هو هيئة المتنعمين { نعم الثواب } الجنة ونعيمها { وحسنت } الأرائك { مرتفقا } متكأ

32 - { واضرب لهم مثلا } للكافر والمؤمن { رجلين } حال رجلين مقدرين أو موجودين هما أخوان من بني إسرائيل كافر اسمه قطروس ومؤمن اسمه يهوذا ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فتشاطرا فاشترى الكافر بها ضياعا وعقارا وصرفها المؤمن في وجوه الخير وآل أمرهما إلى ما حكاه الله تعالى وقيل الممثل بهما أخوان من بني مخزوم كافر وهو الأسود بن عبد الشد ومؤمن وهو أبو سلمة عبدالله زوج أم سلمة قبل رسول الله صلى الله عليه و سلم { جعلنا لأحدهما جنتين } بستانين { من أعناب } من كروم والجملة بتمامها بيان للتمثيل أو صفة للرجلين { وحففناهما بنخل } وجعلنا النخل محيطة بهما مؤزرا بها كرومهما يقال حفه القوم إذا أطافوا به وحففته بهم إذا جعلتهم حافين حوله فتزيده الباء مفعولا ثانيا كقولك : غشيته به { وجعلنا بينهما } وسطهما { زرعا } ليكون كل منهما جامعة للأقوات والفواكه متواصل العمارة على الشكل الحسن والترتيب الأنيق

33 - { كلتا الجنتين آتت أكلها } ثمرها وإفراد الضمير لإفراد { كلتا } وقرئ كل الجنتين آتى أكله { ولم تظلم منه } ولم تنقص من أكلها { شيئا } يعهد في سائر البساتين فإن الثمار تتم في عام وتنقص في عام غالبا { وفجرنا خلالهما نهرا } ليدوم شربهما فإنه الأصل ويزيد بهاؤهما وعن يعقوب وفجرنا بالتخفيف

34 - { وكان له ثمر } أنواع من المال سوى الجنتين من ثمر ماله إذا كثره وقرأ عاصم بفتح الثاء والميم وأبو عمرو بضم الثاء وإسكان الميم والباقون بضمهما وكذلك في قوله { وأحيط بثمره } { فقال لصاحبه وهو يحاوره } يراجعه في الكلام من حار إذا رجع { أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا } حشما وأعوانا وقيل أولادا ذكورا لأنهم الذين ينفرون معه

35 - { ودخل جنته } بصاحبه يطوف به فيها ويفاخره بها وإفراد الجنة لأن المراد ما هو جنته وما متع به من الدنيا تنبيها على أن لا جنة له غيرها ولا حظ له في الجنة التي وعد المتقون أو لاتصال كل واحدة من جنتيه بالأخرى أو لأن الدخول يكون في واحدة واحدة { وهو ظالم لنفسه } ضار لها بعجبه وكفره { قال ما أظن أن تبيد } أن تفنى { هذه } الجنة { أبدا } لطول أمله وتمادي غفلته واغتراره بمهلته

36 - { وما أظن الساعة قائمة } كائنة { ولئن رددت إلى ربي } بالبعث كما زعمت { لأجدن خيرا منها } من جنته وقرأالحجازيان و الشامي منهما أي من الجنتين { منقلبا } مرجعا وعاقبة لأنها فانية وتلك باقية وإنما أقسم على ذلك لاعتقاده أنه تعالى إنما أولاه لاستئهاله واستحقاقه إياه لذاته وهو معه أينما تلقاه

37 - { قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب } لأنه أصل مادتك أو مدة أصلك { ثم من نطفة } فإنها مادتك القريبة { ثم سواك رجلا } ثم عدلك وكملك إنسانا ذكرا بالغا مبلغ الرجال جعل كفره بالبعث كفرا بالله تعالى لأن منشأه الشك في كمال قدرة الله تعالى ولذلك رتب الإنكار على خلقه إياه من التراب فإن من قدر على بدء خلقه منه قدر أن يعيده منه

38 - { لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا } أصله لكن أنا فحذفت الهمزة بنقل الحركة أو دونه فتلاقت النونان فكان الإدغام وقرأ ابن عامر و يعقوب في رواية بالألف في الوصل لتعويضها من الهمزة أو لإجراء الوصل مجرى الوقف وقد قرئ لكن أنا على الأصل وهو ضمير الشأن وهو بالجملة خبرا له خبر أنا أو ضمير { الله } و { الله } بدله وربي خبره والجملة خبر أنا والاستدراك من أكفرت كأنه قال : أنت كافر بالله لكني مؤمن به وقد قرئ لكم هو الله ربي ولكن أنا لا إله إلا هو ربي

39 - { ولولا إذ دخلت جنتك قلت } وهلا قلت عند دخولها : { ما شاء الله } الأمر ما شاء أو ما شاء كائن على أن ما موصولة أو أي شيء شاء الله كان على أنها شرطية والجواب محذوف إقرارا بأنها وما فيها بمشيئة الله إن شاء أبقاها وإن شاء أبادها { لا قوة إلا بالله } وقلت لا قوة إلا بالله اعترافا بالعجز على نفسك والقدرة لله وإن ما تيسر لك من عمارتها وتدبير أمرها بمعونته وإقدراه وعن النبي صلى الله عليه و سلم [ من رأى شيئا فأعجبه فقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره ] { إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا } يحتمل أن يكون فصلا وأن يكون تأكيدا للمفعول الأول وقرئ { أقل } بالرفع على أنه خبر { أنا } والجملة مفعول ثاني ل { ترن } وفي قوله { وولدا } دليل لمن فسر النفر بالأولاد

40 - { فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك } في الدنيا أو في الآخرة لإيماني وهو جواب الشرط { ويرسل عليها } على جنتك لكفرك { حسبانا من السماء } مرامي جمع حسبانة وهي الصواعق وقيل هو مصدر بمعنى الحساب والمراد به التقدير بتخريبها أو عذاب حساب الأعمال السيئة { فتصبح صعيدا زلقا } أرضا ملساء يزلق عليها باستئصال نباتها وأشجارها

41 - { أو يصبح ماؤها غورا } أي غائرا في الأرض مصدر وصف به كالزلق { فلن تستطيع له طلبا } للماء الغائر ترددا في رده

42 - { وأحيط بثمره } وأهلك أمواله حسبما توقعه صاحبه وأنذره منه وهو مأخوذ من أحاط به العدو فإنه إذا أحاط به غلبه وإذا غلبه أهلكه ونظيره أتى عليه إذا أهلكه من أتى عليهم العدو إذا جاءهم مستعليا عليهم { فأصبح يقلب كفيه } ظهرا لبطن تلهفا وتحسرا { على ما أنفق فيها } في عمارتها وهو متعلق ب { يقلب } لأن تقليب الكفين كناية عن الندم فكأنه قيل : فأصبح يندم أو حال أي متحسرا على ما أنفق فيها { وهي خاوية } ساقطة { على عروشها } بأن سقطت عروشها على الأرض وسقطت الكروم فوقها عليها { ويقول } عطف على { يقلب } أو حال من ضميره { يا ليتني لم أشرك بربي أحدا } كأنه تذكر موعظة أخيه وعلم أنه أتى من قبل شركه فتمنى لو لم يكن مشركا فلم يهلك الله بستانه ويحتمل أن يكون توبة من الشرك وندما على ما سبق منه

43 - { ولم تكن له فئة } وقرأ حمزة و الكسائي بالياء لتقدمه { ينصرونه } يقدرون على نصره بدفع الإهلاك أورد المهلك أو الإتيان بمثله { من دون الله } فإنه القادر على ذلك وحده { وما كان منتصرا } وما كان ممتنعا بقوته عن انتقام الله منه

44 - { هنالك } في ذلك المقام وتلك الحال { الولاية لله الحق } النصرة له وحده لا يقدر عليها غيره تقديرا لقوله { ولم تكن له فئة ينصرونه } أو ينصر فيها أوليائه المؤمنين على الكفرة كما نصر فيما فعل الكافر أخاه المؤمن ويعضده قوله : { هو خير ثوابا وخير عقبا } أي لأوليائه وقرأ حمزة والكسائي بالكسر ومعناه السلطان والملك أي هنالك السلطان له لا يغلب ولا يمنع منه أو لا يعبد غيره كقوله تعالى { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين } فيكون تنبيها على أن قوله { يا ليتني لم أشرك } كان عن اضطرار وجزع مما دهاه وقيل { هنالك } إشارة إلى الآخرة وقرأ أبو عمرو و الكسائي { الحق } بالرفع صفة للولاية وقرئ بالنصب على المصدر المؤكد وقرأ عاصم و حمزة عقبا بالسكون وقرئ عقبى وكلها بمعنى العاقبة

45 - { واضرب لهم مثل الحياة الدنيا } واذكر لهم ما يشبه الحياة الدنيا في زهرتها وسرعة زوالها أو صفتها الغريبة { كماء } هي كماء ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا ل { اضرب } على أنه بمعنى صير { أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض } فالتفت بسببه وخالط بعضه بعضا من كثرته وتكاثفه أو نجع في النبات حتى روى ورف وعلى هذا كان حقه فاختلط بنبات الأرض لكنه لما كان كل من المختلطين موصوفا بصفة صاحبه عكس للمبالغة في كثرته { فأصبح هشيما } مهشوما مكسورا { تذروه الرياح } تفرقه وقرئ تذريه من أذرى والمشبه به ليس الماء ولا حاله بل الكيفية المنتزعة من الجملة وهي حال النبات المنبت بالماء يكون أخضر وارفا ثم هشيما تطيره الرياح فيصير كأن لم يكن { وكان الله على كل شيء } من الإنشاء والإفناء { مقتدرا } قادرا

46 - { المال والبنون زينة الحياة الدنيا } يتزين بها الإنسان في دنياه وتفنى عنه عما قريب { والباقيات الصالحات } وأعمال الخيرات التي تبقى له ثمرتها أبد الآباد
ويندرج فيها ما فسرت به من الصلوات الخمس وأعمال الحج وصيام رمضان وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر والكلام الطيب { خير عند ربك } من المال والبنين { ثوابا } عائدة { وخير أملا } لأن صاحبها ينال بها في الآخرة ما كان يؤمل بها في الدنيا

47 - { ويوم نسير الجبال } واذكر يوم نقلعها ونسيرها في الجو أو نذهب بها فنجعلها هباء منبثا ويجوز عطفه على { عند ربك } أي الباقيات الصالحات خير عند الله ويوم القيامة وقرأ ابن كثير و أبو عمرو و ابن عامر تسير بالتاء والبناء للمفعول وقرئ تسير من سارت { وترى الأرض بارزة } بادية برزت من تحت الجبال ليس عليها ما يسترها وقرئ وترى على بناء المفعول { وحشرناهم } وجمعناهم إلى الموقف ومجيئه ماضيا بعد { نسير } { وترى } لتحقق الحشر أو للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير ليعاينوا ويشاهدوا ما وعد لهم وعلى هذا تكون الواو للحال بإضمار قد { فلم نغادر } فلم نترك { منهم أحدا } يقال غادره وأغدره إذا تركه ومنه الغدر لترك الوفاء والغدير لما غادره السيل وقرئ بالياء

48 - { وعرضوا على ربك } شبه حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان لا ليعرفهم بل ليأمر فيهم { صفا } مصطفين لا يحجب أحد أحدا { لقد جئتمونا } على إضمار القول على وجه يكون حالا أو عاملا في يوم نسير { كما خلقناكم أول مرة } عراة لا شيء معكم من المال والولد كقوله { ولقد جئتمونا فرادى } أو أحياء كخلقتكم الأولى لقوله : { بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا } وقتا لإنجاز الوعد بالبعث والنشور وأن الأنبياء كذبوكم به وبل للخروج من قصة إلى أخرى

49 - { ووضع الكتاب } صحائف الأعمال في الأيمان والشمائل أو في الميزان وقيل هو كناية عن وضع الحساب { فترى المجرمين مشفقين } خائفين { مما فيه } من الذنوب { ويقولون يا ويلتنا } ينادون هلكتهم التي هلكوها من بين الهلكات { مال هذا الكتاب } تعجبا من شأنه { لا يغادر صغيرة } هنة صغيرة { ولا كبيرة إلا أحصاها } إلا عددها وأحاط بها { ووجدوا ما عملوا حاضرا } مكتوبا في الصحف { ولا يظلم ربك أحدا } فيكتب عليه ما لم يفعل أو يزيد في عقابه الملائم لعمله

50 - { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس } كرره في مواضع لكونه مقدمة للأمور المقصود بيانها في تلك المحل و ها هنا لم شنع على المفتخرين واستقبح صنيعهم قرر ذلك بأنه من سنن إبليس أو لما بين حال المغرور بالدنيا والمعرض عنها وكان سبب الاغترار بها حب الشهوات وتسويل الشيطان زهدهم أولا في زخارف الدنيا بأنها عرضة الزوال والأعمال الصالحة خير وأبقى من أنفسها وأعلاها ثم نفرهم عن الشيطان بتذكير ما بينهم من العداوة القديمة وهكذا مذهب كل تكرير في القرآن { كان من الجن } حال بإضمار قد أو استئناف للتعليل كأنه قيل : ماله لم يسجد فقيل كان من الجن { ففسق عن أمر ربه } فخرج عن أمره بترك السجود والفاء للسبب وفيه دليل على الملك لا يعصى البتة وإنما عصى إبليس لأنه كان جنيا في أصله والكلام المستقصى فيه في سورة البقرة { أفتتخذونه } أعقيب ما وجد منه تتخذونه والهمزة للإنكار والتعجب { وذريته } أولاده أو أتباعه وسماهم ذرية مجازا { أولياء من دوني } فتستبدلونهم بي فتطيعونهم بدل طاعتي { وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا } من الله تعالى إبليس وذريته

51 - { ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم } نفى إحضار إبليس وذريته خلق السموات والإرض وإحضار بعضهم خلق بعض ليدل على نفي الاعتضاد بهم في ذلك كما صرح به بقوله : { وما كنت متخذ المضلين عضدا } أي أعوانا ردا لاتخاذهم أولياء من دون الله شركاء له في العبادة فإن استحقاق العبادة من توابع الخالقية والاشتراك فيه يستلزم الاشتراك فيها فوضع { المضلين } موضع الضمير ذما لهم واستبعادا للاعتضاد بهم وقيل الضمير للمشركين والمعنى : ما أشهدتهم خلق ذلك وما خصصتهم بعلوم لا يعرفها غيرهم حتى لو آمنوا اتبعهم الناس كما يزعمون فلا تلتفت إلى قولهم طمعا في نصرتهم للدين فإنه لا ينبغي لي أن أعتضد بالمضلين لديني ويعضده قراءة من قرأ { وما كنت } على خطاب الرسول صلى الله عليه و سلم وقرئ { متخذ المضلين } على الأصل و { عضدا } بالتخفيف و { عضدا } بالتباع و { عضدا } كخدم جمع عاضد من عضده إذا قواه

52 - { ويوم يقول } أي الله تعالى للكافرين وقرأ حمزة بالنون { نادوا شركائي الذين زعمتم } أنهم شركائي وشفعاؤكم ليمنعوكم من عذابي وإضافة الشركاء على زعمهم للتوبيخ والمراد ما عبد من دونه وقيل إبليس وذريته { فدعوهم } فنادوهم للإغاثة { فلم يستجيبوا لهم } فلم يغيثوهم { وجعلنا بينهم } بين الكفار وآلهتهم { موبقا } مهلكا يشتركون فيه وهو النار أو عداوة هي في شدتها هلاك كقول عمر رضي الله عنه : لا يكن حبك كلفا ولا بغضك تلفا و { موبقا } اسم مكان أو مصدر من وبق يوبق وبقا إذا هلك وقيل البين الوصف أي وجعلنا تواصلهم في الدنيا هلاكا يوم القيامة

53 - { ورأى المجرمون النار فظنوا } فأيقنوا { أنهم مواقعوها } مخالطوها واقعون فيها { ولم يجدوا عنها مصرفا } انصرافا أو مكانا ينصرفون إليه

54 - { ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل } من كل جنس يحتاجون إليه { وكان الإنسان أكثر شيء } يتأتى منه الجدل { جدلا } خصومة بالباطل وانتصابه على التمييز

55 - { وما منع الناس أن يؤمنوا } من الإيمان { إذ جاءهم الهدى } وهو الرسول الداعي والقرآن المبين { ويستغفروا ربهم } ومن الاستغفار من الذنوب { إلا أن تأتيهم سنة الأولين } إلا طلب أو انتظار أو تقدير أن تأتيهم سنة الأولين وهي الاستئصال فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه { أو يأتيهم العذاب } عذاب الآخرة { قبلا } عيانا وقرأ الكوفيون { قبلا } بضمتين وهو لغة فيه أو جمع قبيل بمعنى أنواع وقرئ بفتحتين وهو أيضا لغة يقال لقيته مقابلة وقبلا وقبلا قبليا وانتصابه على الحال من الضمير أو { العذاب }

56 - { وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين } للمؤمنين والكافرين { ويجادل الذين كفروا بالباطل } باقتراح الآيات بعد ظهور المعجزات والسؤال عن قصة أصحب الكهف ونحوها تعنتا { ليدحضوا به } ليزيلوا بالجدال { الحق } عن مقره ويبطلوه من إدحاض القدم وهو إزلاقها وذلك قولهم للرسل { ما أنتم إلا بشر مثلنا } { ولو شاء الله لأنزل ملائكة } ونحو ذلك { واتخذوا آياتي } يعني القرآن { وما أنذروا } وإنذارهم أو والذي أنذروا به من العقاب { هزوا } استهزاء وقرئ هزأ بالسكون وهو ما يستهزأ به على التقديرين

57 - { ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه } بالقرآن { فأعرض عنها } فلم يتدبرها ولم بتذكر بها { ونسي ما قدمت يداه } من الكفر والمعاصي ولم يتفكر في عاقبتهما { إنا جعلنا على قلوبهم أكنة } تعليل لإعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوع على قلوبهم { أن يفقهوه } كراهة أن يفقهوه وتذكير الضمير وإفراده للمعنى { وفي آذانهم وقرا } يمنعهم أن يستمعوه حق استماعه { وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا } تحقيقا و لا تقليدا لأنهم لا يفقهون ولا يسمعون وإذا كما عرفت جزاء وجواب للرسول صلى الله عليه و سلم على تقدير قوله مالي لا أدعوهم فإن حرصه صلى الله عليه و سلم على إسلامهم يدل عليه

58 - { وربك الغفور } البليغ المغفرة { ذو الرحمة } الموصوف بالرحمة { لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب } استشهاد على ذلك بإمهال قريش مع إفراطهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه و سلم { بل لهم موعد } وهو يوم بدرر أو يوم القيامة { لن يجدوا من دونه موئلا } منجا ولا ملجأ يقال وأل إذا نجا ووأل إليه إذا لجأ إليه

59 - { وتلك القرى } يعني قرى عاد وثمود وأضرابهم { وتلك } مبتدأ خبره { أهلكناهم } أو مفعول مضمر مفسر به و { القرى } صفته ولا بد من تقدير مضاف في أحدهما ليكون مرجع الضمائر { لما ظلموا } كقريش بالتكذيب والمراء وأنواع المعاصي { وجعلنا لمهلكهم موعدا } لإهلاكهم وقتا لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون فليعتبروا بهم ولا يغتروا بتأخير العذاب عنهم وقرأ أبو بكر لمهلكهم بفتح الميم واللام أي لهلاكهم و حفص بكسر اللام حملا على ما شذ من مصادر يفعل كالمرجع والمحيض

60 - { وإذ قال موسى } مقدر باذكر { لفتاه } يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف عليهم الصلاة والسلام فإنه كان يخدمه ويتبعه ولذلك سماه فتاه وقيل لعبده { لا أبرح } أي لا أزال أسير فحذف الخبر لدلالة حاله وهو السفر وقوله : { حتى أبلغ مجمع البحرين } من حيث إنها تستدعي ذا غاية عليه ويجوز أن يكون أصله لا يبرح مسيري حتى أبلغ على أن حتى أبلغ هو الخبر فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فانقلب الضمير والفعل وأن يكون { لا أبرح } هو بمعنى لا أزول عما أنا عليه من السير والطلب ولا أفارقه فلا يستدعي الخبر و { مجمع البحرين } ملتقى بحري فارس والروم مما يلي المشرق وعد لقاء الخضر فيه وقيل الحران موسى وخضر عليهما الصلاة والسلام فإن موسى كان بحر علم الظاهر والخضر كان بحر علم الباطن وقرئ مجمع بكسر الميم على الشذوذ من يفعل كالمشرق والمطلع { أو أمضي حقبا } أو أسير زمانا طويلا والمعنى حتى يقع إما بلوغ المجمع أو مضي الحقب أو حتى أبلغ إلا أن أمضي زمامنا أتيقن معه فوات المجمع والحقب الدهر وقيل ثمانون سنة وقيل سبعون روي : أن موسى عليه الصلاة و السلام خطب الناس بعد هلاك القبط ودخوله مصر خطبة بليغة فأعجب بها فقيل له : هل تعلم أحدا أعلم منك فقال : لا فأوحى الله إليه بل أعلم منك عبدنا الخضر وهو بمجمع البحرين وكان الخضر في أيام افريدون وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر وبقي إلى أيام موسى وقيل إن موسى عليه السلام سأل ربه أي عبادك أحب إليك قال الذي يذكرني ولا ينساني قال فأي عبادك أقضى قال الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى قال فأي عبادك أعلم قال الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردى فقال إن كان في عبادك أعلم مني فادللني عليه قال أعلم منك الخضر قال : أين اطلبه قال على الساحل عند الصخرة قال كيف لي به قال تأخذ حوتا في مكتل فحيث فقدته فهو هناك فقال لفتاه إذا فقدت الحوت فأخبرني فذهبا يمشيان

61 - { فلما بلغا مجمع بينهما } أي مجمع البحرين و { بينهما } ظرف أضيف إليه على الاتساع أو بمعنى الوصل { نسيا حوتهما } نسي موسى عليه الصلاة و السلام أن يطلبه ويتعرف حاله ويوشع أن يذكر له ما رأى من حياته ووقوعه في البحر روي : أن موسى عليه السلام رقد فاضطرب الحوت المشوي ووثب في البحر معجزة لموسى أو الخضر وقيل توضأ يوشع من عين الحياة فانتضح الماء عليه فعاش ووثب في الماء وقيل نسيا تفقد أمره وما يكون منه أمارة على الظفر بالمطلوب { فاتخذ سبيله في البحر سربا } فاتخذ الحوت طريقه في البحر مسلكا من قوله { وسارب بالنهار } وقيل أمسك الله جرية الماء على الحوت فصار كالطاق عليه وصبه على المفعول الثاني وفي البحر حال منه أو من السبيل ويجوز تعلقه باتخذ

62 - { فلما جاوزا } مجمع البحرين { قال لفتاه آتنا غداءنا } ما نتغدى به { لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا } قيل لم ينصب حتى جاوز المرعد فلما جاوزه وسار الليلة والغد إلى الظهر ألقي عليه الجوع والنصب وقيل لم يعي موسى في سفر غيره ويؤيده التقييد باسم الإشارة

63 - { قال أرأيت إذ أوينا } أرأيت ما دهاني إذ أوينا { إلى الصخرة } يعين الصخرة التي رقد عندها موسى وقيل هي الصخرة التي دون نهر الزيت { فإني نسيت الحوت } فقدته أو نسيت ذكره بما رأيت منه { وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره } أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان فإن { أن أذكره } بدل من الضمير وقرئ أن أذكركه وهو اعتذار عن نسيانه بشغل الشيطان له بوساوسه والحال وإن كانت عجيبة لا ينسى مثلها لكنه لما ضرى بمشاهدة أمثالها عند موسى وألفها قل اهتمامه بها ولعله نسي ذلك لاستغراقه في الاستبصار وانجذاب شرا شره إلى جناب القدس بما عراه من مشاهدة الآيات الباهرة وإنما نسبه إلى الشيطان هضما لنفسه أو لأن عدم احتمال القوة للجانبين واشتغالها بأحدهما عن الآخر يعد من نقصان { واتخذ سبيله في البحر عجبا } سبيلا عجبا وهو كونه كالسرب أو اتخاذا عجبا والمفعول الثاني هو الظرف وقيل هو مصدر فعله المضمر أي قال في آخر كلامه أو موسى في جوابه عجبا تعجبا من تلك الحال وقيل الفعل لموسى أي اتخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجبا

64 - { قال ذلك } أي أمر الحوت { ما كنا نبغ } نطلب لأنه أمارة المطلوب { فارتدا على آثارهما } فرجعا في الطريق الذي جاءا فيه { قصصا } يقصان قصصا أي يتبعان آثارهما اتباعا أو مقتصين حتى أتيا الصخرة

65 - { فوجدا عبدا من عبادنا } الجمهور على أنه الخضر عليه السلام واسمه بليا بن ملكان وقيل اليسع وقيل إلياس { آتيناه رحمة من عندنا } هي الوحي والنبوة { وعلمناه من لدنا علما } مما يختص بنا ولا يعلم إلا بتوفيقنا وهو علم الغيوب

66 - { قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن } على شرط أن تعلمني وهو في موضع الحال من الكاف { مما علمت رشدا } علما ذا رشد وهو إصابة الخير وقرأالبصريان بفتحتين وهما لغتان كالبخل والبخل وهو مفعول { تعلمن } ومفعول { علمت } العائد المحذوف وكلاهما منقولان من علم الذي له مفعول واحد ويجوز أن يكون رشدا علة لأتبعك أو مصدرا بإضمار فعله ولا ينافي نبوته وكونه صاحب شريعة أن يتعلم من غيره ما لم يكن شرطا في أبواب الدين فإن الرسول ينبغي أن يكون أعلم ممن أرسل إليه فيما بعث به من أصول الدين وفروعه لا مطلقا وقد راعى في ذلك غاية التواضع والأدب فاستجهل نفسه واستأذن أن يكون تابعا له وسأل منه أن يرشده وينعم عليه بتعليم بعض ما أنعم الله عليه

67 - { قال إنك لن تستطيع معي صبرا } نفى عنه استطاعة الصبر معه على وجوه من التأكيد كأنها مما لا يصح ولا يستقيم وعلل ذلك واعتذر عنه بقوله :

68 - { وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا } أي وكيف تصبر وأنت نبي على ما أتولى من أمور ظواهرها مناكير وبواطنها لم يحط بها خبرك وخبرا تمييز أو مصدر لأن لم تحط به بمعنى لم تخبره

69 - { قال ستجدني إن شاء الله صابرا } معك غير منكر عليك { ولا أعصي لك أمرا } عطف على صابرا أ ي ستجدني صابرا وغير عاص أو على ستجدني وتعليق الوعد بالمشيئة إما للتيمن وخلفه ناسيا لا يقدح في عصمته أو لعلمه بصعوبة الأمر فإن مشاهدة الفساد والصبر على خلاف المعتاد شديد فلا خلف وفيه دليل على أن أفعال العباد واقعة بمشيئة الله تعالى

70 - { قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء } فلا تفاتحني بالسؤال عن شيء أنكرته مني ولم تعلم وجه صحته { حتى أحدث لك منه ذكرا } حتى أبتدئك ببيانه وقرأ نافع و ابن عامر فلا تسألني بالنون الثقيلة

71 - { فانطلقا } على الساحل يطلبان السفينة { حتى إذا ركبا في السفينة خرقها } أخذ الخضر فأسا فخرق السفينة بأن قلع لوحين من ألواحها { قال أخرقتها لتغرق أهلها } فإن خرقها سبب لدخول الماء فيها المفضي إلى غرق أهلها وقرئ لتغرق بالتشديد للتكثير وقرأ حمزة و الكسائي ليغرق أهلها على إسناده إلى الأهل { لقد جئت شيئا إمرا } أتيت أمرا عظيما من أمر الأمر إذا عظم

72 - { قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا } تذكير لما ذكره قبل

73 - { قال لا تؤاخذني بما نسيت } بالذي نسيته أو بشيء نسيته يعني وصيته بأن لا يعترض عليه أو بنسياني إياها وهو اعتذار بالنسيان أخرجه في معرض النهي عن المؤاخذة مع قيام المانع لها وقيل أراد بالنسيان الترك أي لا تؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرة وقيل إنه من معاريض الكلام والمراد شيء آخر نسيه { ولا ترهقني من أمري عسرا } ولا تغشني عسرا من أمري بالمضايقة والمؤاخذة على المنسي فإن ذلك يعسر على متابعتك و { عسرا } مفعول ثان لترهق فانه يقال : رهقه إذا غشيه وأرهقه إياه وقرئ عسرا بضمتين

74 - { فانطلقا } أي بعد ما خرجا من السفينة { حتى إذا لقيا غلاما فقتله } قيل فتل عنقه وقيل ضرب برأسه الحائط وقيل أضجعه فذبحه والفاء للدلالة على أنه كما لقيه قتله من غير ترو واستكشاف حال ولذلك : { قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس } أي طاهرة من الذنوب وقرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو و رويس عن يعقوب زاكية والأول أبلغ وقال أبو عمرو الزاكية التي لم تذنب قط والزكية التي أذنبت ثم غفرت ولعله اختار الأول لذلك فإنها كانت صغيرة ولم تبلغ الحلم أو أنه لم يرها قد أذنبت ذنبا يقتضي قبلها أو قتلت نفسا فتقاد بها نبه به على أن القتل إنما يباح حدا أو قصاصا وكلا الأمرين منتف ولعل تغيير النظم بأن جعل خرقها جزاء واعتراض موسى عليه الصلاة و السلام مستأنفا في الأولى في الثانية قتله من جملة الشرط واعتراضه جزاء ن لأن القتل أقبح والاعتراض عليه أدخل فكان جديرا بأن يجعل عمدة الكلام ولذلك فصله بقوله : { لقد جئت شيئا نكرا } أي منكرا وقرأ نافع في رواية قالون و ورش و ابن عامر و يعقوب و أبو بكر { نكرا } بضمتين

75 - { قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا } زاد فيه { لك } مكافحة بالعتاب على رفض الوصية ووسما بقلة الثبات والصبر لما تكرر منه الاشمئزاز والاستنكار ولم يرعو بالتذكير أول مرة حتى زاد في الاستنكار ثاني مرة

76 - { قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني } وإن سألت صحبتك وعن يعقوب فلا تصحبني أي فلا تجعلني صاحبك { قد بلغت من لدني عذرا } قد
وجدت عذرا من قبلي لما خالفتك ثلاث مرات [ وعن رسول الله صلى الله عليه و سلم رحم الله أخي موسى استحيا فقال ذلك لو لبث مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب ] وقرأ نافع من لدني بتحريك النون والاكتفاء بها عن نون الدعامة كقوله :
( قدني من نصر الحبيبين قدى )
و أبو بكر { لدني } بتحريك النون وإسكان الضاد من عضد

77 - { فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية } قرية أنطاكية وقيل أبلة البصرة وقيل باجروان أرمينية { استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما } وقرئ { يضيفوهما } من أضافه يقال ضافه إذا نزل به ضيفا وأضافه وضيفه أنزله وأصل التركيب للميل يقال ضاف السهم عن الغرض إذا مال { فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض } يداني أن يسقط فاستعيرت الإرادة للمشارفة كما استعير لها الهم والعزم قال :
( يريد الرمح ... صدر أبي براء ويعدل عن دماء بني عقيل )
وقال :
( إن دهرا يلم شملي بجمل ... لزمان يهم بالإحسان )
وانقض انفعل من قضضته إذا كسرته ومنه انقضاض الطير والكواكب لهويه أو أفعل من النقض وقرئ أن ينقض و أن ينقاص بالصاد المهملة من انقاصت السن إذا انشقت طولا { فأقامه } بعمارته أو بعمود عمده به وقيل مسحه بيده فقام وقيل نقضه وبناه { قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا } تحريضا على أخذ الجعل لينتعشا به أو تعريضا بأنه فضول لما في { لو } من النفي كأنه لما رأى الحرمان ومساس الحاجة واشتغاله بما لا يعنيه لم يتمالك نفسه واتخذ افتعل من تخذ كإتباع من تبع وليس من الأخذ عند البصريين وقرأ ابن كثر والبصريان لتخذت أي لأخذت وأظهر ابن كثر و يعقوب و حفص الدال وأدغمه الباقون

78 - { قال هذا فراق بيني وبينك } الإشارة إلى الفراق الموعود بقوله { فلا تصاحبني } أو إلى الاعتراض الثالث أو الوقت أي هذا الاعتراض سبب فراقنا أو هذا الوقت وقته وإضافة الفراق إلى البين إضافة المصدر إلى الظرف على الأتساع وقد قرئ على الأصل { سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا } بالخبر الباطن فيما لم تستطع الصبر عليه لكونه منكرا من حيث الظاهر

79 - { أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر } لمحاويج و هو دليل على أن المسكين يطلق على من يملك شيئا إذا لم يكفه وقيل سموا مساكين لعجزهم عن دفع الملك أو لزمانتهم فإنها كانت لعشرة أخوة خمسة زمنى وخمسة يعلمون في البحر { فأردت أن أعيبها } أن أجعلها ذات عيب { وكان وراءهم ملك } قدامهم أو خلفهم وكان رجوعهم عليه واسمه جلندى بن كركر وقيل منوار بن جلندى الأزدي { يأخذ كل سفينة غصبا } من أصحابها وكان حق النظم أن يتأخر قوله { فأردت أن أعيبها } عن قوله { وكان وراءهم ملك } لأن إرادة التعيب مسببة عن خوف الغصب وإنما قدم للعناية أو لأن السبب لما كان مجموع الأمرين خوف الغصب ومسكنه الملاك رتبه على أقوى الجزأين وأدعاهما وعقبه بالآخر على سبيل التقييد والتتميم وقرئ كل سفينة صالحة والمعنى عليها

80 - { وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما } أن يغشيهما { طغيانا وكفرا } لنعمتهما بعقوقه فيلحقهما شرا أو يقرن بإيمانها طغيانه وكفره يجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر أو يعديهما بعلته فيرتدا بإضلاله أو بممالأته على طغيانه وكفره حياله وإنما خشي ذلك لأن الله تعالى أعلمه وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أن نجدة الحروري كتب إليه كيف قتله وقد نهى النبي صلى الله عليه سلم عن قتل الوالدان فكتب إليه إن كنت علمت من حال الولدان ما عليه عالم موسى فلك أن تقتل وقرئ فخاف ربك أي فكره كراهة من خاف سوء عاقبته ويجوز أن يكون قوله { فخشينا } حكاية قول الله عز و جل

81 - { فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه } أن يرزقهما ولدا خيرا منه { زكاة } طهارة من الذنوب والأخلاق الرديئة { وأقرب رحما } رحمة وعطفا على والديه قيل ولدت لهما جارية فتزوجها نبي فولدت له نبيا هدى الله به أمة من الأمم وقرأ نافع وأبو عمرو ويبدلهما بالتشديد و ابن عامر و يعقوب و عاصم رحما بالتخفيف وانتصابه على التمييز والعامل اسم التفضيل وكذلك { زكاة }

82 - { وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة } قيل اسمهما أصرم وصريم واسم المقتول جيسور { وكان تحته كنز لهما } من ذهب وفضة روي ذلك مرفوعا والذم على كنزهما في قوله تعالى : { والذين يكنزون الذهب والفضة } لمن لا يؤدي زكاتهما وما تعلق بهما من الحقوق وقيل من كتب العلم وقيل كان لوح من ذهب مكتوب فيه : عجبت لمن يؤمن القدر كيف يحزن وعجبت لمن يؤمن الرزق كيف يتعب وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها لا إله إلا الله محمد رسول الله { وكان أبوهما صالحا } تنبيه على أن سعيه ذلك كان لصلاحه قيل كان بينهما وبين الأب حفظا فيه سبعة آباء وكان سياحا واسمه كاشح { فأراد ربك أن يبلغا أشدهما } أي الحلم وكمال الرأي { ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك } مرحومين من ربك ويجوز أن يكون علة أو مصدرا لأراد فإن إرادة الخير رحمة وقيل متعلق بمحذوف تقديره فعلت ما فعلت رحمة من ربك ولعل إسناد الإرادة أولا نفسه لأنه المباشر للتعييب وثانيا إلى الله وإلى نفسه لأن التبديل بإهلاك الغلام وإيجاد الله بدله وثالثا إلى الله وحده لأنه لا مدخل له في بلوغ الغلامين أو لأن الأول في نفسه شر والثالث خير والثاني ممتزج أو لاختلاف حال العارف في الالتفات إلى الوسائط { وما فعلته } وما فعلت ما رأيته { عن أمري } عن رأيي وإنما فعلته بأمر الله عز و جل ومبنى ذلك على أنه إذا تعارض ضرران يجب تحمل أهونهما لدفع أعظمهما وهو أصل ممهد غير أن الشرائع في تفاصليه مختلفة { ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا } أي ما لم تستطع فحذف التاء تخفيفا
ومن فوائد هذه القصة أن لا بعجب المرء بعلمه ولا يبادر إلى إنكار ما لم يستحسنه فلعل فيه سرا لا يعرفه وأن يداوم على التعلم ويتذلل للمعلم ويراعي الأدب في المقابل وأن ينبه المجرم على جرمه ويعفو عنه حتى يتحقق إصراره ثم يهاجر عنه

83 - { ويسألونك عن ذي القرنين } يعني إسكندر الرومي ملك فارس والروم وقيل المشرق والغرب ولذلك سمي ذا القرنين أو لأنه طاف فرني الدنيا شرقها وغربها وقيل لأنه انقرض في أيامه قرنان من الناس وقيل كان له قرنان أي ضفيرتان وقيل كان لتاجه قرنان ويحتمل أنه لقب بذلك لشجاعته كما يقال الكبش للشجاع كأنه ينطح أقرانه واختلف في نبوته مع الاتفاق على إيمانه وصلاحه والسائلون هم اليهود سألوه امتحانا أو مشركو مكة { قل سأتلو عليكم منه ذكرا } خطاب للسائلين والهاء لذي القرنين وقيل لله

84 - { إنا مكنا له في الأرض } أي مكنا له أمره من التصرف فيها كيف شاء فحذف المفعول { وآتيناه من كل شيء } أراده وتوجه إليه { سببا } وصلة توصله إليه من العلم والقدرة والآلة

85 - { فأتبع سببا } أي فأراد بلوغ المغرب فاتبع سببا يوصله إليه وقرأ الكوفيون و ابن عامر بقطع الألف مخففة التاء

86 - { حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة } ذات حمأ من حمئت البئر إذا صارت ذابت حمأة وقرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي و أبو بكر حامية أي حارة ولا تنافي بينهما لجواز أن تكون العين جامعة للوصفين أو حمية على أن ياءها مقلوبة عن الهمزة لكسر ما قبلها ولعله بلغ ساحل المحيط فرآها كذلك إذ لم يكن في مطمح بصره غير الماء ولذلك قال { وجدها تغرب } ولم يقل كانت تغرب وقيل إن ابن عباس سمع معاوية يقرأ حامية فقال حمئة فبعث معاوية إلى كعب الأحبار كيف تجد الشمس تغرب قال في ماء وطين كذلك نجده في التوراة { ووجد عندها } عند تلك العين { قوما } قيل كان لباسهم جلود الوحش وطعامهم ما لفظه البحر وكانوا كفارا فخيره الله بين أن يعذبهم أو يدعوهم إلى الإيمان كما حكى بقوله : { قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب } أي بالقتل على كفرهم { وإما أن تتخذ فيهم حسنا } بالإرشاد وتعليم الشرائع وقيل خيره الله بين القتل والأسر وسماه إحسانا في مقابلة القتل ويؤيده الأول قوله :

87 - { قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا } أي فاختار الدعوة وقال : أما من دعوته فظلم نفسه بالإصرار على كفره أو استمر على ظلمه الذي هو الشرك فنعذبه أنا ومن معي في الدنيا بالقتل ثم يعذبه الله في الآخرة عذابا منكرا لم يعهد مثله

88 - { وأما من آمن وعمل صالحا } وهو ما يقتضيه الإيمان { فله } في الدارين { جزاء الحسنى } فعلته الحسنى وقرأ حمزة و الكسائي و يعقوب و حفص جزاء منونا منصوبا على الحال أي فله المثوبة الحسنى مجزيا بها أو على المصدر لفعله المقدر حالا أي يجزي بها جزاء أو التمييز وقرئ منصوبا غير منون على أن تنوينه حذف لالتقاء الساكنين ومنونا مرفوعا على أنه المبتدأ و { الحسنى } بدله ويجوز أن يكون { أما } وما للتقسيم دون التخيير أي ليكن شأنك معهم إما التعذيب وإما الإحسان فالأول لمن أصر على الكفر والثاني لمن تاب عنه ونداء الله إياه إن كان نبيا فبوحي وإن كان غيره فبإلهام أو على لسان نبي { وسنقول له من أمرنا } بما نأمر به { يسرا } سهلا ميسرا غير شاق وتقديره ذا يسر وقرئ بضمتين

89 - { ثم أتبع سببا } ثم أتبع طريقا يوصله إلى المشرق

90 - { حتى إذا بلغ مطلع الشمس } يعني الموضع الذي تطلع الشمس عليه أولا من معمورة الأرض وقرئ بفتح اللام على إضمار مضاف أي مكان مطلع الشمس فإنه مصدر { وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا } من اللباس أو البناء فإن أرضهم لا تمسك الأبينة أو أنهم اتخذوا الأسراب بدل الأبنية

91 - { كذلك } أي أمر ذي القرنين كما وصفناه في رفعة المكان وبسطة الملك أو أمره فيهم كأمره في أهل المغرب من التخيير والاختيار ويجوز أن يكون صفة مصدر محذوف لوجد أو { نجعل } أو صفة قوم أي على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليهم الشمس في الكفر والحكم { وقد أحطنا بما لديه } من الجنود والآلات والعدد والأسباب { خبرا } علما تعلق بظواهره وخفاياه والمراد أن كثرة ذلك بلغت مبلغا لا يحيط به إلا علم اللطيف الخبير

92 - { ثم أتبع سببا } يعني طريقا ثالثا معترضا بين المشرق والمغرب آخذا من الجنوب إلى الشمال

93 - { حتى إذا بلغ بين السدين } بين الجبلين المبني بينهما سده وهما جبلا أرمينية وأذربيجان وقيل جبلان منيفان في أواخر الشمال في منقطع أرض الترك من ورائهما يأجوج ومأجوج وقرأ نافع و ابن عامر و حمزة و الكسائي و أبو بكر و يعقوب بين السدين بالضم وهما لغتان وقيل المضموم لما خلقه الله تعالى والمفتوح لما عمله الناس لأنه في الأصل مصدر سمي به حدث يحدثه الناس وقيل بالعكس وبين ها هنا مفعول به وهو من الظروف المتصرفة { وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا } لغرابة لغتهم وقلة فطنتهم وقرأ حمزة و الكسائي لا يفقهون ألا لا يفهمون السامع كلامهم ولا يبينونه لتعلثمهم فيه

94 - { قالوا يا ذا القرنين } أي قال مترجمهم وفي مصحف ابن مسعود قال الذين من دونهم { إن يأجوج ومأجوج } قبيلتان من ولد يافث بن نوح وقيل يأجوج من الترك ومأجوج من الجيل وهما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف وقيل عربيان من أج الظليم إذا أسرع وأصلهما الهمز كما قرأ عاصم ومنع صرفهما للتعريف والتأنيث { مفسدون في الأرض } أي في أرضنا بالقتل والتخريب وإتلاف الزرع قيل كانوا يخرجون أيام الربيع فلا يتركون أخضر إلا أكلوه ولا يابسا إلا احتملوه وقيل كانوا يأكلون الناس { فهل نجعل لك خرجا } نخرجه من أموالنا وقرأ حمزة و الكسائي خراجا وكلاهما واحد كالنول والنوال وقيل الخراج على الأرض والذمة والخرج المصدر { على أن تجعل بيننا وبينهم سدا } يحجز دون خروجهم علينا وقد ضمه من ضم السدين غير حمزة و الكسائي

95 - { قال ما مكني فيه ربي خير } ما جعلني فيه مكينا من المال والملك خير مما تبذلون لي من الخراج ولا حاجة بي إليه وقرأ ابن كثير مكنني على الأصل { فأعينوني بقوة } أي بقوة فعله أو بما أتقوى به من الآلات { أجعل بينكم وبينهم ردما } حاجزا حصينا وهو أكبر من السد من قولهم ثوب مردم إذا كان رقاعا فوق رقاع

96 - { آتوني زبر الحديد } قطعه والزبرة القطعة الكبيرة وهو لا ينافي رد الخراج والاقتصار على المعونة لأن الإيتاء بمعنى المناولة ويدل عليه قراءة أبي بكر ردما ائتوني بكسر التنوين موصولة الهمزة على معنى جيئوني بزبر الحديد والباء محذوفة حذفها في أمرتك الخير ولأن إعطاء الآلة من الإعانة بالقوة دون الخراج على العمل { حتى إذا ساوى بين الصدفين } بين جانبي الجبلين بتنضيدها وقرأ ابن كثر و ابن عامر والبصريان بضمتين و أبو بكر بضم الصاد وسكون الدال وقرئ بفتح الصاد وضم الدال وكلها لغات من الصدف وهو الميل لأن كلا منهما منعزل عن الآخر ومنه التصادف للتقابل { قال انفخوا } أي قال للعملة انفخوا في الأكوار والحديد { حتى إذا جعله } جعل المنفوخ فيه { نارا } كالنار بالإحماء { قال آتوني أفرغ عليه قطرا } أي آتوني قطرا أي نحاسا مذابا أفرغ عليه قطرا فحذف الأول لدلالة الثاني عليه وبه تمسك البصريون على أن إعمال الثاني من العاملين المتوجهين نحو معمول واحد أولى إذا لو كان قطرا مفعول أفرغ مفعول أفرغ حذرا من الإلباس وقرا حمزة و أبو بكر قال أتوني موصولة الألف

97 - { فما اسطاعوا } بحذف التاء حذرا من تلاقي متقاربين وقرأ حمزة بالإدغام جامعا بين الساكنين على غير حده وقرئ بقلب السن صادا { أن يظهروه } أن يعلوه بالصعود لارتفاعه وانملاسه { وما استطاعوا له نقبا } لثخنه وصلابته وقيل خفر للأساس حتى بلغ الماء وجعله من الصخر والنحاس المذاب والبنيان من زبر الحديد بينهما الحطب والفحم حتى ساوى أعلى الجبلين ثم وضع المنافيخ حتى صارت كالنار فصب النحاس المذاب عليه فاختلط والتصق بعضه ببعض وصار جبلا صلدا وقيل بناه من الصخور مرتبطا بعضها ببعض بكلاليب من حديد ونحاس مذاب في تجاويفها

98 - { قال هذا } هذا السد أو الأقدار على تسويته { رحمة من ربي } على عباده { فإذا جاء وعد ربي } وقت وعده بخروج يأجوج ومأجوج أو بقيام الساعة بأن شارف يوم القيامة { جعله دكا } مدكوكا مبسوطا مسوى بالأرض مصدر بمعنى مفعول ومنه جمل أدك لمنبسط السنام وقرأ الكوفيون دكاء بالمد أي أرضا مستوية { وكان وعد ربي حقا } كائنا لا محالة وهذا آخر حكاية قول ذي القرنين

99 - { وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض } وجعلنا بعض يأجوج ومأجوج حين يخرجون مما وراء السد يموجون في بعض مزدحمين في البلاد أو يموج بعض الخلق في بعض فيضطربون ويختلطون إنسهم وجنهم حيارى ويؤيده قوله : { ونفخ في الصور } لقيام الساعة { فجمعناهم جمعا } للحساب والجزاء

100 - { وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا } وأبرزناها وأظهرناها لهم

101 - { الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري } عن آياتي التي ينظر إليها فأذكر بالتوحيد والتعظيم { وكانوا لا يستطيعون سمعا } استماعا لذكري وكلامي لإفراط صممهم عن الحق فإن الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به وهؤلاء كأنهم أصمت مسامعهم بالكلية

102 - { أفحسب الذين كفروا } أظنوا والاستفهام للإنكار { أن يتخذوا عبادي } اتخاذهم الملائكة والمسيح { من دوني أولياء } معبودين نافعهم أو لا أعذبهم به فحذف المفعول الثاني كما يحذف الخبر للقرينة أوسد أن يتخذوا مسد مفعوليه وقرئ { أفحسب الذين كفروا } أي إفكا فيهم في النجاة و أن بما في حيزها مرتفع بأنه فاعل حسب فإن النعت إذا اعتمد على الهمزة ساوى الفعل في العمل أو خبر له { إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا } ما يقام للنزيل وفيه تهكم وتنبيه على أن لهم وراءها من العذاب ما تستحقر دونه

103 - { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا } نصب على التمييز وجمع لأنه من أسماء الفاعلين أو لتنوع أعمالهم

104 - { الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا } ضاع وبطل لكفرهم وعجبهم كالرهابنة فإنهم خسروا دنياهم وأخراهم ومحله الرفع على الخبر المحذوف فإنه جواب السؤال أو الجر على البدل أو النصب على الذم { وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا } بعجبهم واعتقادهم أنهم على الحق

105 - { أولئك الذين كفروا بآيات ربهم } بالقرآن أو بدلائله المنصوبة على التوحيد والنبوة { ولقائه } بالبعث على ما هو عليه أو لقاء عذابه { فحبطت أعمالهم } بكفرهم فلا يثابون عليها { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا } فنزدري بهم ولا نجعل لهم مقدارا واعتبارا ن أو لا نضع لهم ميزانا يوزن به أعمالهم لانحباطها

106 - { ذلك } أي الأمر ذلك وقوله : { جزاؤهم جهنم } جملة مبينة له ويجوز أن يكون { ذلك } مبتدأ والجملة خبره والعائد محذوف أي جزاؤهم به أو جزاؤهم بدله و { جهنم } خبره أو { جزاؤهم } خبره { جهنم } عطف بيان للخبر { بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا } أي بسبب ذلك

107 - { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا } فيما سبق من حكم الله ووعده و { الفردوس } أعلى درجات الجنة وأصله البستان الذي يجمع الكرم والنخل

سورة مريم
108 - يجوز أن يراد به تأكيد الخلود

109 - { قل لو كان البحر مدادا } ما يكتب به وهو اسم ما يمد الشيء كالحبر للدواة والسليط للسراج { لكلمات ربي } لكلمات علمه وحكمته { لنفد البحر } لنفد جنس البحر بأمره لأن كل جسم متناه { قبل أن تنفد كلمات ربي } فإنها غير متناهية لا تنفد كعلمه وقرأ حمزة و الكسائي بالياء { ولو جئنا بمثله } بمثل البحر الموجود { مددا } زيادة ومعونة لأن مجموع المتناهين متناه بل مجموع ما يدخل في الوجود من الأجسام لا يكون إلا متناهيا للدلائل القاطعة على تناهي الأبعاد والمتناهي ينفذ قبل أن ينفد غير المتناهي لا محالة وقرئ ينفد بالياء و { مددا } يكسر الميم جمع مدة وهي ما يستمده الكاتب ومدادا وسبب نزولها أن اليهود قالوا في كتابكم { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا } وتقرؤون { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا }

110 - { قل إنما أنا بشر مثلكم } لا أدعي الإحاطة على كلماته { يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد } وإنما تميزت عنكم بذلك { فمن كان يرجو لقاء ربه } يؤمل حسن لقائه أو يخاف سوء لقائه { فليعمل عملا صالحا } يرتضيه الله { ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } بأن يرائيه أو يطلب منه أجرا [ روي أن جندب بن زهير قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم : إني لأعمل العمل لله فإذا أطلع عليه سرني فقال : إن الله لا يقبل ما شورك فيه ] فنزلت تصديقا له وعنه عليه الصلاة السلام [ اتقوا الشرك الأصغر قالوا وما الشرك الأصغر قال الرياء ] والآية جامعة لخلاصتي العلم والعمل وهما التوحيد والإخلاص في الطاعة وعن النبي صلى الله عليه و سلم [ من قرأها عند مضجعه كان له نورا في مضجعه يتلألأ إلى مكة حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يقوم فإن كان مضجعه بمكة كان له نورا يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يستيقظ ] وعنه عليه الصلاة و السلام [ من قرأ سورة الكهف من آخرها كانت له نورا من قرنه إلى قدمه ومن قرأها كلها كانت له نورا من الأرض إلى السماء ]

1 - { كهيعص }
أمال أبو عمرو الهاء لأن ألفات أسماء التهجي ياءات و ابن عامر و حمزة الياء و الكسائي و أبو بكر كليهما ونافع بين بين و نافع و ابن كثير و عاصم يظهرون دال الهجاء عند الذال والباقون يدغمونها

2 - { ذكر رحمة ربك } خبر ما قبله إن أول السورة أو بالقرآن فإنه مشتمل عليه أو خبر محذوف أي : هذا المتلو { ذكر رحمة ربك } أو مبتدأ حذف خبره أي فيما يتلى عليك ذكرها وقرئ { ذكر رحمة } على الماضي و { ذكر } على الأمر { عبده } مفعول الرحمة أو الذكر على أن الرحمة فاعله على الاتساع كقولك : ذكرني جود زيد { زكريا } بدل منه أو عطف بيان له

3 - { إذ نادى ربه نداء خفيا } لأن الإخفاء والجهر عند الله سيان والإخفاء أشد إخباتا وأكثر إخلاصا أو لئلا يلام على طلب الولد في إبان الكبر أو لئلا يطلع عليه مواليه الذين خافهم أو لأن ضعف الهرم أخفى صوته واختلف في سنه حينئذ فقيل ستون وقيل سبعون وقيل خمس وسبعون وقيل خمس وثمانون وقيل تسع وتسعون

4 - { قال رب إني وهن العظم مني } تفسير للنداء والوهن الضعف وتخصيص العظم لأنه دعامة البدن وأصل بناءه ولأنه أصلب ما فيه فإذا وهن كان ما وراءه أوهن وتوحيده لأن المراد به الجنس وقرئ و { هن } و { وهن } بالضم والكسر ونظيره كمل بالحركات الثلاث { واشتعل الرأس شيبا } شبه الشيب في بياضه وإنارته بشواظ النار وانتشاره وفشوه في الشعر باشتعالها ثم أخرجه مخرج الاستعارة وأسند الاشتعال إلى الرأس الذي هو مكان الشيب مبالغة وجعله مميزا إيضاحا للمقصود واكتفى باللام على الإضافة للدلالة على أن علم الخاطب بتعين المراد يغني عن التقييد { ولم أكن بدعائك رب شقيا } بل كلما دعوتك استجبت لي وهو توسل بما سلف معه من الاستجابة وتنبيه على أن المدعو له وإن لم يكن معتادا فإجابته معتادة وأنه تعالى عوده بالإجابة وأطمعه فيها ومن حق الكريم أن لا يخيب من أطمعه

5 - { وإني خفت الموالي } يعني بني عمه وكانوا أشرار بني إسرائيل فخاف أن لا يحسنوا خلافته على أمته ويبدلوا عليهم دينهم { من ورائي } بعد موتي وعن ابن كثير بالمد والقصر بفتح الياء وهو يتعلق بمحذوف أو بمعنى الموالي أي خفت فعل الموالي من ورائي أو الذين يلون الأمر من ورائي وقرئ خفت الموالي من ورائي أي قلوا وعجزوا عن إقامة الدين بعدي أو خفوا ودرجوا قدامي فعلى هذا كان الظرف متعلقا ب { خفت } { وكانت امرأتي عاقرا } لا تلد { فهب لي من لدنك } فإن مثله لا يرجى إلا من فضلك وكمال قدرتك فإني وامرأتي لا نصلح للولادة { وليا } من صلبي

6 - ـ { يرثني ويرث من آل يعقوب } صفتان له وجزمهما أبو عمرو و الكسائي على أنهما جواب الدعاء والمراد وراثة الشرع والعلم فإن الأنبياء لا يورثون المال وقيل يرثني الحبورة فإنه كان حبرا ويرث من آل يعقوب الملك وهو يعقوب بن إسحاق عليهما الصلاة والسلام وقيل يعقوب كان أخا زكريا أو عمران بن ماثان من نسل سليمان عليه السلام وقرئ ( يرثني وارث آل يعقوب ) على الحال من أحد الضميرين وأو ( يرث ) بالتصغير لصغره ووارث من آل يعقوب على أنه فاعل { يرثني } وهذا يسمى الجريد في علم البيان لأنه جرد عن المذكور أولا مع أنه المراد { واجعله رب رضيا } ترضاه قولا وعملا

7 - { يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى } جواب لندائه ووعد بإجابة دعائه وإنما تولى تسميته تشريفا له { لم نجعل له من قبل سميا } لم يسم أحد بيحيى قبله وهو شاهد بأن التسمية بالأسامي الغريبة تنويه للمسمى وقيل سميا شبيها كقوله تعالى : { هل تعلم له سميا } لأن المتماثلين يتشاركان في الاسم والأظهر أنه أعجمي وإن كان عربيا فمنقول عن فعل كيعيش ويعمر وقيل سمي به لأنه حيي به رحم أمه أو لأن دين الله حيي بدعوته

8 - { قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا } جساوة وقحولا في المفاصل وأصله عتو وكقعود فاستثقلوا توالي الضمتين والواوين فكسروا التاء فانقلبت الواو الأولى ياء ثم قلبت الثانية وأدغمت وقرأ حمزة و الكسائي و حفص { عتيا } بالكسر وإنما استعجب الولد من شيخ فان وعجوز عاقر اعترافا بأن المؤثر فيه كمال قدرته وأن الوسائط عند التحقيق ملغاة ولذلك :

9 - { قال } أي الله تعالى أو الملك المبلغ للبشارة تصديقا له { كذلك } الأمر كذلك ويجوز أن تكون الكاف منصوبة ب { قال } في : { قال ربك } وذلك إشارة إلى مبهم يفسره { هو علي هين } ويؤيد الأول قراءة من قرأ ( وهو على هين ) أي الأمر كما قلت أو كما وعدت وهو على ذلك يهون علي أو كما وعدت وهو علي هين لا أحتاج فيما أريد أن أفعله إلى الأسباب ومفعول قال الثاني محذوف
{ وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا } بل كنت معدوما صرفا وفيه دليل على أن المعدوم ليس بشيء وقرأ حمزة و الكسائي ( وقد خلقناك )

10 - ـ { قال رب اجعل لي آية } علامة أعلم بها وقوع ما بشرتني به { قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا } سوي الخلق ما بك من خرس ولا بكم وإنما ذكر الليالي هنا والأيام في ( آل عمران ) للدلالة على أنه استمر عليه المنع من كلام الناس والتجرد للذكر والشكر ثلاثة أيام ولياليهن

11 - { فخرج على قومه من المحراب } من المصلى أو من الغرفة { فأوحى إليهم } فأومأ إليهم لقوله { إلا رمزا } وقيل كتب لهم على الأرض { أن سبحوا } صلوا أو نزهوا ربكم { بكرة وعشيا } طرفي النهار ولعله كان مأمورا بأن يسبح ويأمر قومه بأن يوافقوه و { أن } تحتمل أن تكون مصدرية وأن تكون مفسرة

12 - { يا يحيى } على تقدير القول { خذ الكتاب } التوراة { بقوة } بجد واستظهار بالتوفيق { وآتيناه الحكم صبيا } يعني الحكمة وفهم التوراة وقيل النبوة أحكم الله عقله في صباه واستنبأه

13 - { وحنانا من لدنا } ورحمة منا عليه أو رحمة وتعطفا في قلبه علي أبويه وغيرهما عطف على الحكم { وزكاة } وطهارة من الذنوب أو صدقة أي تصدق الله به على أبويه أو مكنه ووفقه للتصديق على الناس { وكان تقيا } مطيعا متجنبا عن المعاصي

14 - { وبرا بوالديه } وبارا بهما { ولم يكن جبارا عصيا } عاقا أو عاصي ربه

15 - { وسلام عليه } من الله { يوم ولد } من أن يناله الشيطان بما ينال به بني آدم { ويوم يموت } من عذاب القبر { ويوم يبعث حيا } من عذاب النار وهو القيامة

16 - { واذكر في الكتاب } في القرآن { مريم } يعني قصتها { إذ انتبذت } اعتزلت بدل من { مريم } بدل الاشتمال لأن الأحيان مشتملة على ما فيها أو بدل الكل لأن المراد ب { مريم } قصتها وبالظرف الأمر الواقع فيه وهما واحد أو ظرف لمضاف مقدر وقيل { إذ } بمعنى أن المصدرية كقولك : أكرمتك إذ لم تكرمني فتكون بدلا لا محالة { من أهلها مكانا شرقيا } شرقي بيت المقدس أو شرقي دارها ولذلك اتخذ النصارى المشرق قبلة ومكانا ظرف أو مفعول لأن { انتبذت } متضمن معنى أتت

17 - { فاتخذت من دونهم حجابا } سترا { فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا } قيل قعدت في مشرفة للاغتسال من الحيض متحجبة بشيء يسترها - وكانت تتحول من المسجد إلى بيت خالتها إذا حاضت وتعود إليه إذا طهرت - فبينما هي في مغتسلها أتاها جبريل عليه السلام متمثلا بصورة شاب أمرد سوي الخلق لتستأنس بكلامه ولعله لتهييج شهوتها به فتنحدر نطفتها إلى رحمها

18 - { قالت إني أعوذ بالرحمن منك } من غاية عفافها { إن كنت تقيا } تتقي الله وتحتفل بالاستعاذة وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي فإني عائذة منك أو فتتعظ بتعويذي أو فلا تتعرض لي ويجوز أن يكون للمبالغة أي إن كنت تقيا متورعا فإني أتعوذ منك فكيف إذا لم تكن كذلك

19 - { قال إنما أنا رسول ربك } الذي استعذت به { لأهب لك غلاما } أي لأكون سببا في هبته بالنفخ في الدرع ويجوز أن يكون حكاية لقول الله تعالى ويؤيده قراءة أبي عمرو والأكثر عن نافع و يعقوب بالياء { زكيا } طاهرا من الذنوب أو ناميا على الخير أي مترقيا من سن إلى سن على الخير والصلاح

20 - { قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر } ولم يباشرني رجل بالحلال فإن هذه الكنايات إنما تطلق فيه أما الزنا فإنما يقال فيه خبث بها وفجر ونحو ذلك ويعضده عطف قوله : { ولم أك بغيا } عليه وهو فعول من البغي قلبت واوه ياء وأدغمت ثم كسرت الغين اتباعا ولذلك لم تلحقه التاء أو فعيل بمعنى فاعل ولم تلحقه التاء لأنه للمبالغة أو للنسب كطالق

21 - { قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله } أي ونفعل ذلك لنجعله آيه أو لنبين به قدرتنا ولنجعله وقيل عطف على ليهب على طريقة الالتفات { آية للناس } علامة لهم وبرهانا على كمال قدرتنا { ورحمة منا } على العباد يهتدون بإرشاده { وكان أمرا مقضيا } أي تعلق به قضاء الله في الأزل أو قدر وسطر في اللوح أو كان أمرا حقيقيا بأن يقضى ويفعل لكونه آية ورحمة

22 - { فحملته } بأن نفخ في درعها فدخلت النفخة في جوفها وكان مدة حملها سبعة أشهر وقيل ستة وقيل ثمانية ولم يعش مولود وضع لثمانية غيره وقيل ساعة كما حملته نبذته وسنها ثلاث عشرة سنة وقيل عشر سنين وقد حاضت حيضتين { فانتبذت به } فاعتزلت وهو في بطنها كقوله :
( تدوس بنا الجماجم والتريبا )
والجار والمجرور في موضع الحال { مكانا قصيا } بعيدا من أهلها وراء الجبل وقيل أقصى الدار

23 - { فأجاءها المخاض } فألجأها المخاض وهو في الأصل منقول من جاء لكنه خص به في الاستعمال كآتي في أعطى وقرئ المخاض بالكسر وهما مصدر مخضت المرأة إذا تحرك الولد في بطنها للخروج { إلى جذع النخلة } لتستتر به وتعتمد عليه عند الولادة وهو ما بين العرق والغصن وكانت نخلة يابسة لا رأس لها ولا خضرة وكان الوقت شتاء والتعريف إما للجنس أو للعهد إذا لم يكن ثم غيرها وكانت كالمتعلم عند الناس ولعله تعالى ألهمها ذلك ليريها من آياته ما يسكن روعتها ويطعمها الرطب الذي هو خرسة النفساء الموافقة لها { قالت يا ليتني مت قبل هذا } استحياء من الناس ومخافة لومهم وقرأ أبوعمرو و ابن كثير و ابن عامر و أبو بكر { مت } من مات يموت { وكنت نسيا } ما من شأنه أن ينسى ولا يطلب ونظيره الذبح لما يذبح وقرأ حمزة و حفص بالفتح وهو لغة فيه أو مصدر سمي به وقرئ به وبالهمز وهو الحليب المخلوط بالماء ينسؤه أهله لقلته { منسيا } منسي الذكر بحيث لا يخطر ببالهم وقرئ بكسر الميم على الاتباع

24 - { فناداها من تحتها } عيسى وقيل جبريل كان يقبل الولد وقيل تحتها أسفل من مكانها وقرأ نافع و حمزة و الكسائي و حفص وروح ( من تحتها ) بالكسر والجر على أن في نادى ضمير أحدهما وقيل الضمير في تحتها النخلة { أن لا تحزني } أي لا تحزني أو بأن لا تحزني { قد جعل ربك تحتك سريا } جدولا هكذا روي مرفوعا وقيل سيدا من السرو وهو عيسى عليه الصلاة و السلام

25 - { وهزي إليك بجذع النخلة } وأميليه إليك والباء مزيدة للتأكيد أو افعلي الهز والإمالة به أو { هزي } الثمرة بهزه والهز تحريك بجذب ودفع { تساقط عليك } تتساقط فأدغمت التاء الثانية في السين وحذفها حمزة وقرأ يعقوب بالياء و حفص ( تساقط ) من ساقطت بمعنى أسقطت وقرئ ( تتساقط ) و ( تسقط ) و ( يسقط ) فالتاء للنخلة والياء للجذع { رطبا جنيا } تمييز أو مفعول روي أنها كانت نخلة يابسة لا رأس لها ولا ثمر وكان الوقت شتاء فهزتها فجعل الله تعالى لها رأسا وخوصا ورطبا وتسليتها بذلك لما فيه من المعجزات الدالة على براءة ساحتها فإن مثلها لا يتصور لمن يرتكب الفواحش والمنبهة لمن رآها على أن من قدر أن يثمر النخلة اليابسة في الشتاء قدر أن يحبلها من غير فحل وأنه ليس ببدع من شأنها مع ما فيه من الشراب والطعام ولذلك رتب عليه الأمرين فقال :

26 - { فكلي واشربي } أي من الرطب وماء السرى أو من الرطب وعصيره { وقري عينا } وطيبي نفسك وارفضي عنها ما أحزنك وقرئ ( وقري ) بالكسر وهو لغة نجد واشتقاقه من القرار فإن العين إذا رأت ما يسر النقس سكنت إليه من النظر إلى غيره أو من القرفان دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة ولذلك يقال قرة العين للمحبوب وسخنتها للمكروه { فإما ترين من البشر أحدا } فإن تري آدميا وقرئ ( ترئن ) على لغة من يقول لبأت بالحج لتآخ بين الهمزة وحرف اللين { فقولي إني نذرت للرحمن صوما } صمتا وقد قرئ به أو صياما وكانوا لا يتكلمون في صيامهم { فلن أكلم اليوم إنسيا } بعد أن أخبرتكم بنذري وإنما أكلم الملائكة وأناجي ربي وقيل أخبرتهم بنذرها بالإشارة وأمرها بذلك لكراهة المجادلة والاكتفاء بكلام عيسى عليه الصلاة و السلام فإنه قاطع في قطع الطاعن

27 - { فأتت به } أي مع ولدها { قومها } راجعة إليهم بعد ما طهرت من النفاس { تحمله } حاملة إياه { قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا } أي بديعا منكر من فرى الجلد

28 - { يا أخت هارون } يعنون هرون النبي عليه الصلاة و السلام وكانت من أعقاب من كان معه في طبقة الأخوة وقيل كانت من نسله وكان بينهما ألف سنة وقيل هو رجل طالح أو صالح كان في زمانهم شبهوها به تهكما أو لما رأوا قبل من صلاحها أو شتموها به { ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا } تقرير لأن ما جاءت به فري وتنبيه على أن الفواحش من أولاد الصالحين أفحش

29 - { فأشارت إليه } إلى عيسى عليه الصلاة و السلام أي كلموه ليجيبكم { قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا } ولم نعهد صبيا في المهد كلمه عاقل و { كان } زائدة والظرف صلة من و { صبيا } حال من المستكن فيه أو تامة أو دائمة كقوله تعالى : { وكان الله عليما حكيما } أو بمعنى صار

30 - { قال إني عبد الله } أنطقه الله تعالى به أولا لأنه أول المقامات وللرد على من يزعم ربوبيته { آتاني الكتاب } الإنجيل { وجعلني نبيا }

31 - { وجعلني مباركا } نفاعا معلما للخير والتعبير بلفظ الماضي إما باعتبار ما سبق في قضائه أو بجعل المحقق وقوعه كالواقع وقيل أكمل الله عقله واستنبأه طفلا { أين ما كنت } حيث كنت { وأوصاني } وأمرني { بالصلاة والزكاة } زكاة المال إن ملكته أو تطهير النفس عن الرذائل { ما دمت حيا }

32 - { وبرا بوالدتي } وبارا بها عطف على { مباركا } وقرئ بالكسر على أنه مصدر وصف به أو منصوب بفعل دل عليه أوصاني أي وكلفني برا ويؤيده القراءة بالكسر والجر عطفا على ( الصلاة ) { ولم يجعلني جبارا شقيا } عند الله من فرط تكبره

33 - { والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا } كما هو على يحيى والتعريف للعهد والأظهر أنه للجنس والتعريض باللعن على أعدائه فإنه لما جعل جنس السلام على نفسه عرض بأن ضده عليهم كقوله تعالى : { والسلام على من اتبع الهدى } فإنه تعريض بأن العذاب على من كذب وتولى

34 - { ذلك عيسى ابن مريم } أي الذي تقدم نعته هو عيسى ابن مريم لا ما يصفه النصارى وهو تكذيب لهم فيما يصفونه على الوجه الأبلغ والطريق البرهاني حيث جعله موصوفا بأضداد ما يصفونه ثم عكس الحكم { قول الحق } خبر محذوف أي هو قول الحق الذي لا ريب فيه والإضافة للبيان والضمير للكلام السابق أو لتمام القصة وقيل صفة { عيسى } أو بدل أو خبر ثان ومعناه كلمة الله وقرأ عاصم و ابن عامر و يعقوب { قول } بالنصب على أنه مصدر مؤكد وقرىء ( قال الحق ) وهو بمعنى القول { الذي فيه يمترون } في أمره يشكون أو يتنازعون فقالت اليهود ساحر وقالت النصارى ابن الله وقرئ بالتاء على الخطاب

35 - { ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه } تكذيب للنصارى وتنزيه لله تعالى عما بهتوه { إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } تبكيت لهم فان من إذا أراد شيئا أوجده بـ { كن } كان منزها عن شبه الخلق إلى الحاجة في اتخاذ الولد بإحبال الإناث وقرأ ابن عامر { فيكون } بالنصب على الجواب

{ وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم } سبق تفسيره في سورة ( آل عمران ) وقرأ الحجازيان و البصريان { وأن } بالفتح على ولأن وقيل إنه معطوف على { الصلاة }

37 - { فاختلف الأحزاب من بينهم } اليهود والنصارى أو فرق النصارى نسطورية قالوا إنه ابن الله ويعقوبية قالوا هو الله هبط إلى الأرض ثم صعد إلى السماء وملكانية قالوا هو عبد الله ونبيه { فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم } من شهود يوم عظيم هوله وحسابه وجزاؤه وهو يوم القيامة أو من وقت الشهود أو من مكانه فيه أو من شهادة ذلك اليوم عليهم وهو أن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء وألسنتهم وآرابهم وأرجلهم بالكفر والفسق أو من وقت الشهادة أو من مكانها وقيل هو ما شهدوا به في عيسى وأمه

38 - { أسمع بهم وأبصر } تعجب معناه أن استماعهم وإبصارهم { يوم يأتوننا } أي يوم القيامة جدير بأن يتعجب منهما بعد ما كانوا صما عميا في الدنيا أو التهديد بما يسمعون ويبصرون يومئذ وقيل أمر بأن يسمعهم ويبصرهم مواعيد ذلك اليوم وما يحيق بهم فيه والجار والمجرور على الأول في موضع الرفع وعلى الثاني في موضع النصب { لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين } أوقع الظالمون موقع الضمير إشعارا بأنهم ظلموا أنفسهم حيث أغفلوا الاستماع والنظر حين ينفعهم وسجل على إغفالهم بأنه ضلال بين

39 - { وأنذرهم يوم الحسرة } يوم يحسر الناس المسيء على إساءته والمحسن على قلة إحسانه { إذ قضي الأمر } فرغ من الحساب وتصادر الفريقان إلى الجنة والنار وإذ بدل من اليوم أو ظرف لـ { لحسرة } { وهم في غفلة وهم لا يؤمنون } حال متعلقة بقوله { في ضلال مبين } وما بينهما اعتراض أو بـ { أنذرهم } أي أنذرهم غافلين غير مؤمنين فتكون حالا متضمنة للتعليل

40 - { إنا نحن نرث الأرض ومن عليها } لا يبقى لأحد غيرنا عليها وعليهم ملك ولا ملك أو نتوفى الأرض ومن عليها بالإفناء والإهلاك توفي الوارث لإرثه { وإلينا يرجعون } يردون للجزاء

41 - { واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا } ملازما للصدق أو كثير التصديق لكثرة ما صدق به من غيوب الله تعالى وآياته وكتبه ورسله { نبيا } استنبأه الله

42 - { إذ قال } بدل من { إبراهيم } وما بينهما اعتراض أو متعلق بـ { كان } أو بـ { صديقا نبيا } { لأبيه يا أبت } التاء معوضة من ياء الإضافة ولذلك لا يقال يا أبتي ويقال يا أبتا وإنما تذكر للاستعطاف ولذلك كررها { لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر } فيعرف حالك ويسمع ذكرك ويرى خضوعك { ولا يغني عنك شيئا } في جلب نفع أو دفع ضر دعاه إلى الهدى وبين ضلاله واحتج عليه أبلغ احتجاج وأرشقه برفق وحسن أدب حيث لم يصرح بضلاله بل طلب العلة التي تدعوه إلى عبادة ما يستخف به العقل الصريح ويأبى الركون إليه فضلا عن عبادته التي هي غاية التعظيم ولا تحق إلا لمن له الاستغناء التام والإنعام العام وهو الخالق الرزاق المحيي المميت المعاقب المثيب ونبه على أن العاقل ينبغي أن يفعل ما يفعل لغرض صحيح والشيء لو كان حيا مميزا سميعا بصيرا مقتدرا على النفع والضر ولكن كان ممكنا لاستنكف العقل القويم عن عبادته وإن كان أشرف الخلق كالملائكة والنبيين لما يراه مثله في الحاجة والانقياد للقدرة الواجبة فكيف إذا كان جمادا لا يسمع ولا يبصر ثم دعاه إلى أن يتبعه ليهديه إلى الحق القويم والصراط المستقيم لما لم يكن محظوظا من العلم الإلهي مستقلا بالنظر السوي فقال :

43 - { يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا } ولم يسم أباه بالجهل المفرط ولا نفسه بالعلم الفائق بل جعل نفسه كرفيق له في مسير يكون أعرف بالطريق ثم ثبطه عما كان عليه بأنه مع خلوه عن النفع مستلزم للضر فإنه في الحقيقة عبادة الشيطان من حيث إنه الآمر به فقال :

44 - { يا أبت لا تعبد الشيطان } ولما استهجن ذلك بين وجه الضر فيه بأن الشيطان مستعص على ربك المولي للنعم كلها بقوله : { إن الشيطان كان للرحمن عصيا } ومعلوم أن المطاوع للعاصي عاص وكل عاص حقيق بأن تسترد منه النعم وينتقم منه ولذلك عقبه بتخويفه سوء عاقبته وما يجر إليه فقال :

45 - { يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا } قرينا في اللعن والعذاب تليه ويليك أو ثابتا في موالاته فإنه أكبر من العذاب كما أن رضوان الله أكبر من الثواب وذكر الخوف والمس و تنكير العذاب إما للمجاملة أو لخفاء العاقبة ولعل اقتصاره على عصيان الشيطان من بين جناياته لارتقاء همته في الربانية أو لأنه ملاكها أو لأنه من حيث إنه نتيجة معاداته لآدم وذريته منبه عليها

46 - { قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم } قابل استعطافه ولطفه في الإرشاد بالفظاظة وغلظة العناد فناداه باسمه ولم يقابل { يا أبت } : بيا بني وأخره وقدم الخبر على المبتدأ وصدره بالهمزة لإنكار نفس الرغبة على ضرب من التعجب كأنها مما لايرغب عنها عاقل ثم هدده فقال : { لئن لم تنته } عن مقالك فيها أو الرغبة عنها { لأرجمنك } بلساني يعني الشتم والذم أو بالحجارة حتى تموت أو تبعد مني { واهجرني } عطف على ما دل عليه { لأرجمنك } أي فاحذرني واهجرني { مليا } زمانا طويلا من الملاوة أو مليا بالذهاب عني

47 - { قال سلام عليك } توديع ومتاركة ومقابلة للسيئة بالحسنة أي لا أصيبك بمكروه ولا أقول لك بعد ما يؤذيك ولكن : { سأستغفر لك ربي } لعله يوفقك للتوبة والإيمان فإن حقيقة الاستغفار للكافر استدعاء التوفيق لما يوجب مغفرته وقد مر تقريره في سورة التوبة { إنه كان بي حفيا } بليغا في البر والإلطاف

48 - { وأعتزلكم وما تدعون من دون الله } بالمهاجرة بديني { وأدعو ربي } وأعبده وحده { عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا } خائبا ضائع السعي مثلكم في دعاء آلهتكم وفي تصدير الكلام بـ { عسى } التواضع وهضم النفس والتنبيه على أن الإجابة والإثابة تفضل غير واجبتين وأن ملاك الأمر خاتمته وهو غيب

49 - { فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله } بالهجرة إلى الشام { وهبنا له إسحاق ويعقوب } بدل من فارقهم من الكفرة قيل إنه لما قصد الشام أتى أولا حران وتزوج بسارة وولدت له إسحق وولد منه يعقوب ولعل تخصيصهما بالذكر لأنهما شجرتا الأنبياء أو لأنه أراد أن يذكر إسماعيل بفضله على الانفراد { وكلا جعلنا نبيا } وكلا منهما أو منهم

50 - { وهبنا لهم من رحمتنا } النبوة والأموال والأولاد { وجعلنا لهم لسان صدق عليا } يفتخر بهم الناس ويثنون عليهم استجابة لدعوته { واجعل لي لسان صدق في الآخرين } والمراد باللسان ما يوجد به ولسان العرب لغتهم وإضافته إلى الصدق وتوصيفه بالعو للدلالة على أنهم أحقاء بما يثنون عليهم وأن محامدهم لا تخفى على تباعد الأعصار وتحول الدول وتبدل الملل

51 - { واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا } موحدا أخلص عبادته عن الشرك والرياء أو أسلم وجهه لله وأخلص نفسه عما سواه وقرأ الكوفيون بالفتح على أن الله أخلصه { وكان رسولا نبيا } أرسله الله إلى الخلق فأنبأهم عنه ولذلك قدم { رسولا } مع أنه أخص وأعلى

52 - { وناديناه من جانب الطور الأيمن } من ناحيته اليمنى من اليمين وهي التي تلي يمين موسى أو من جانبه الميمون من اليمن بأن تمثل له الكلام من تلك الجهة { وقربناه } تقريب تشريف شبهه بمن قربه الملك لمناجاته { نجيا } مناجيا حال من أحد الضميرين وقيل مرتفعا من النجوة وهو الارتفاع لما روي أنه فوق السموات حتى سمع صرير القلم

53 - { ووهبنا له من رحمتنا } من أجل رحمتنا أو بعض رحمتنا { أخاه } معاضدة أخيه ومؤازرته إجابة لدعوته { واجعل لي وزيرا من أهلي } فإنه كان أسن من موسى وهو مفعول أو بدل على تقدير أن تكون { من } للتبعيض { هارون } عطف بيان له { نبيا } حال منه

54 - { واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد } ذكره بذلك لأنه المشهور به والموصوف بأشياء في هذا الباب لم تعهد من غيره وناهيك أنه وعد الصبر على الذبح فقال : { ستجدني إن شاء الله من الصابرين } فوفى { وكان رسولا نبيا } يدل على أن الرسول لا يلزم أن يكون صاحب شريعة فإن أولاد إبراهيم كانوا على شريعته

55 - { وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة } اشتغالا بالأهم وهو أن يقبل الرجل على نفسه ومن هو أقرب الناس إليه بالتكميل قال الله تعالى { وأنذر عشيرتك الأقربين } { وأمر أهلك بالصلاة } { قوا أنفسكم وأهليكم نارا } وقيل أهله أمته فإن الأنبياء آباء الأمم { وكان عند ربه مرضيا } لاستقامة أقواله وأفعاله

56 - { واذكر في الكتاب إدريس } وهو سبط شيث وجد أبي نوح عليهم السلام واسمه أخنوخ واشتقاق إدريس من الدرس يرده منع صرفه نعم لا يبعد أن يكون معناه في تلك اللغة قريبا من ذلك فلقب به لكثرة درسه إذ روي أنه تعالى أنزل عليه ثلاثين صحيفة وأنه أول من خط بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب { إنه كان صديقا نبيا }

57 - { ورفعناه مكانا عليا } يعني شرف النبوة والزلفى عند الله وقيل الجنة وقيل السماء السادسة أو الرابعة

58 - { أولئك } إشارة إلى المذكورين في السورة من زكريا إلى إدريس عليهم السلام { الذين أنعم الله عليهم } بأنواع النعم الدينية والدنيوية { من النبيين } بيان للموصول { من ذرية آدم } بدل منه بإعادة الجار ويجوز أن تكون { من } فيه للتبعيض لأن المنعم عليهم أعم من الأنبياء وأخص من الذرية { وممن حملنا مع نوح } أي ومن ذرية من حملنا خصوصا وهم من عدا إدريس فإن إبراهيم كان من ذرية سام بن نوح { ومن ذرية إبراهيم } الباقون { وإسرائيل } عطف على { إبراهيم } أي ومن ذرية إسرائيل وكان منهم موسى وهرون وزكريا ويحي وعيسى وفيه دليل على أن أولاد البنات من الذرية { وممن هدينا } ومن جملة من هديناهم إلى الحق { واجتبينا } للنبوة والكرامة { إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا } خبر لـ { أولئك } إن جعلت الموصول صفته واستئناف إن جعلته خبره لبيان خشيتهم من الله وإخباتهم له مع ما لهم من علو الطبقة في شرف النسب وكمال النفس والزلفى من الله تعالى وعن النبي عليه الصلاة و السلام [ اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكو فتباكوا ] والبكي جمع باك كالسجود في جمع ساجد وقرىء ( يتلى ) بالياء لأن التأنيث غير حقيقي وقرأ حمزة و الكسائي ( بكيا ) بكسر الباء

59 - { فخلف من بعدهم خلف } فعقبهم وجاء بعدهم عقب سوء يقال خلف صدق بالفتح وخلف سوء بالسكون { أضاعوا الصلاة } تركوها أو أخروها عن وقتها { واتبعوا الشهوات } كشرب الخمر واستحلال نكاح الأخت من الأب والانهماك في المعاصي وعن علي رضي الله تعالى عنه في قوله { واتبعوا الشهوات } من بنى الشديد وركب المنظور ولبس المشهور { فسوف يلقون غيا } شرا كقوله :
( فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائما )
أو جزاء غي كقوله تعالى : { يلق أثاما } أو غيا عن طريق الجنة وقيل هو واد في جهنم يستعيذ منه أوديتها

60 - { إلا من تاب وآمن وعمل صالحا } يدل على أن الآي في الكفرة { فأولئك يدخلون الجنة } وقرأ ابن كثير و وأبو عمرو و أبو بكر و يعقوب على البناء للمفعول من أدخل { ولا يظلمون شيئا } ولا ينقصون شيئا من جزاء أعمالهم ويجوز أن ينتصب { شيئا } على المصدر وفيه تنبيه على أن كفرهم السابق لا يضرهم ولا ينقص أجورهم

61 - { جنات عدن } بدل من الجنة بدل البعض لاشتمالها عليها أو مصوب على المدح وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وعدن لأنه المضاف إليه في العلم أو علم للعدن بمعنى الإقامة كبرة ولذلك صح وصف ما أضيف إليه بقوله : { التي وعد الرحمن عباده بالغيب } أي وعدها إياهم وهي غائبة عنهم أو وهم غائبون عنها أو وعدهم بإيمانهم بالغيب { إنه } إن الله { كان وعده } الذي هو الجنة { مأتيا } يأتيها أهلها الموعود لهم لا محالة وقيل هو من أتى إليه إحسانا أي مفعولا منجزا

62 - { لا يسمعون فيها لغوا } فضول كلام { إلا سلاما } ولكن يسمعون قولا يسلمون فيه من العيب والنقيصة أو تسليم الملائكة عليهم أو تسليم بعضهم على بعض على الاستثناء المنقطع أو على أن معنى التسليم إن كان لغوا فلا يسمعون لغوا سواه كقوله :
( ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب )
أو على أن معناه الدعاء بالسلامة وأهلها أغنياء عنه فهو من باب اللغو ظاهرا وإنما فائدته الإكرام { ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا } على عادة المتنعمين والتوسط بين الزهادة والرغابة وقيل المراد دوام الرزق ودروره

63 - { تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا } نبقيها عليهم من ثمرة تقواهم كما يبقى على الوارث مال مورثه والوراثة أقوى لفظ يستعمل في التملك والاستحقاق من حيث إنها لا تعقب بفسخ ولا استرجاع ولا تبطل برد ولا إسقاط وقيل يورث المتقون من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار لو أطاعوا زيادة في كرامتهم وعن يعقوب ( نورث ) بالتشديد

64 - { وما نتنزل إلا بأمر ربك } حكاية قول جبريل عليه الصلاة و السلام حين استبطأه رسول الله صلى الله عليه و سلم لما سئل عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح ولم يدر ما يجيب ورجا أن يوحي إليه فيه فأبطأ عليه خمسة عشر يوما وقيل أربعين يوما حتى قال المشركون ودعه ربه وقلاه ثم نزل ببيان ذلك والتنزل النزول على مهل لأنه مطاوع نزل وقد يطلق بمعنى النزول مطلقا كما يطلق نزل بمعنى أنزل والمعنى وما ننزل وقتا عب وقت إلا بأمر الله على ما تقتضيه حكمته وقرئ ( وما يتنزل ) بالياء والضمير للوحي { له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك } وهو ما نحن فيه من الأماكن والأحايين لا ننتقل من مكان إلى مكان ولا ننزل في زمان دون زمان إلا بأمره ومشيئته { وما كان ربك نسيا } تاركا لك أي ما كان عدم النزول إلا لعدم الأمر به ولم يكن ذلك عن ترك الله لك وتوديعه إياك كما زعمت الكفرة وإنما كان لحكمة رآها فيه وقيل أول الآية حكاية قول المتقين حين يدخلون الجنة والمعنى وما ننزل الجنة إلا بأمر الله ولطفه وهو مالك الأمور كلها السالفة والمترقبة والحاضرة فما وجدناه وما نجده من لطفه وفضله وقوله { وما كان ربك نسيا } تقرير من الله لقولهم أي وما كان ربك نسيا لأعمال العاملين وما وعد لهم من الثواب عليها وقوله :

65 - { رب السموات والأرض وما بينهما } بيان لامتناع النسيان عليه وهو خبر محذوف أو بدل من { ربك } فاعبده واصطبر لعبادته خطاب للرسول صلى الله عليه و سلم مرتب عليه أي لما عرفت ربك لأنه لا ينبغي له أن ينساك أو أعمال العمال فأقبل على عبادته واصطبر عليها ولا تتشوش بإبطاء الوحي وهزء الكفر وإنما عدي باللام لتضمنه معنى الثبات للعبادة فيما يورد عليه من الشدائد والمشاق كقولك للمحارب : اصطبر لقرنك { هل تعلم له سميا } مثلا يستحق أن يسمى إلها أو أحدا سمي الله فإن المشركين وإن سموا الصنم إلها لم يسموه الله قط وذلك لظهور أحديته تعالى وتعالى ذاته عن المماثلة بحيث لم يقبل اللبس والمكابرة وهو تقرير للأمر أي إذا صح أن لا أحد مثله ولا يستحق العبادة غيره لم يكن بد من التسليم لأمره والاشتغال بعبادته والاصطبار على مشاقها

66 - { ويقول الإنسان } المراد به الجنس بأسره فإن المقول مقول فيما بينهم وإن لم يقله كلهم كقولك : بنو فلان قتلوا فلانا والقاتل واحد منهم أو بعضهم المعهود وهم الكفرة أو أبي بن خلف فإنه أخذ عظاما بالية ففتها وقال : يزعم محمد أننا نبعث بعدما نموت { أإذا ما مت لسوف أخرج حيا } من الأرض أو من حال الموت وتقديم الظرف وإيلاؤه حرف الإنكار لأن المنكر كون ما بعد الموت وقت الحياة وانتصابه بفعل دل عليه أخرج لا به فإن ما بعد اللام لا يعمل فيما قبلها وهي ها هنا مخلصة للتوكيد مجرد عن معنى الحال كما خلصت الهمزة واللام في يا ألله للتعويض فساغ اقترانها بحرف الاستقبال وروي عن ابن ذكوان إذا ما مت بهمزة واحدة مكسورة على الخبر

67 - { أو لا يذكر الإنسان } عطف على { يقول } وتوسيط همزة الإنكار بينه وبين العاطف مع أن الأصل أن يتقدمهما للدلالة على أن المنكر بالذات هو المعطوف وأن المعطوف عليه إنما نشأ منه فإنه لو تذكر وتأمل : { أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا } بل كان عدما صرفا لم يقل ذلك فإن أعجب من جمع المواد بعد التفريق وإيجاد مثل ما كان فيها من الأعراض وقرأ نافع و ابن عامر و عاصم و قالون عن يعقوب ( يذكر ) من الذكر الذي يراد به التفكر وقرئ ( يتذكر ) على الأصل

68 - { فوربك لنحشرنهم } أقسم باسمه تعالى مضافا إلى نبيه تحقيقا للأمر وتفخيما لشأن رسول الله صلى الله عليه و سلم { والشياطين } عطف أو مفعول معه لما روي أن الكفرة يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم كل مع شيطانه في سلسلة وهذا وإن كان مخصوصا بهم ساغ نسبته إلى الجنس بأسره فإنهم إذا حشروا وفيهم الكفرة مقرونين بالشياطين فقد حشروا جميعا معهم { ثم لنحضرنهم حول جهنم } ليرى السعداء ما نجاهم الله منه فيزدادوا غبطة وسرورا وينال الأشقياء ما ادخروا لمعادهم عدة ويزدادوا غيظا من رجوع السعداء عنهم إلى دار الثواب وشماتتهم عليهم { جثيا } على ركبهم لما يدهمهم من هول المطلع أو لأنه من توابع التواقف للحساب قبل التواصل إلى الثواب والعقاب وأهل الموقف جاثون لقوله تعالى { وترى كل أمة جاثية } على المعتاد في مواقف التقاول وإن كان المراد بالإنسان الكفرة فلعلهم يساقون جثاة من الموقف إلى شاطئ جهنم إهانة بهم أو لعجزهم عن القيام لما عراهم من الشدة وقرأ حمزة و الكسائي و حفص { جثيا } بكسر الجيم

69 - { ثم لننزعن من كل شيعة } من كل أمة شاعت دينا { أيهم أشد على الرحمن عتيا } من كان أعصى وأعتى منهم فنطرحهم فيها وفي ذكر الأشد تنبيه على أنه تعالى يعفو كثيرا من أهل العصيان ولو خص ذلك بالكفرة فالمراد أنه يميز طوائفهم أعتاهم فأعتاهم ويطرحهم في النار على الترتيب أو يدخل كلا طبقتها التي تليق به و { أيهم } مبني على الضم عند سيبويه لأن حقه أن يبنى كسائر الموصولات لكنه أعرب حملا على { كل } وبعض للزوم الإضافة وإذا حذف صدر صلته زاد نقصه فعاد إلى حقه منصوب المحل بننزعن ولذلك قرىء منصوبا ومرفوع عند غيره إما بالابتداء على أنه استفهامي وخبره { أشد } والجملة محكية وتقدير الكلام : { لننزعن } من كل شيعة الذين يقال فيهم أيهم أشد أو معلق عنها للننزعن لتضمنه معنى التمييز اللازم للعلم أو مستأنفة والفعل واقع على { من كل شيعة } على زيادة من أو على معنى للننزعن بعض كل شيعة وإما بشيعة لأنها بمعنى تشيع وعلى للبيان أو متعلق بافعل وكذا الباء في قوله :

70 - { ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا } أي لنحن أعلم بالذين هم أولى بالصلي أو صليهم أولى بالنار وهم المنتزعون ويجوز أن يراد بهم وبأشدهم عتيا رؤساء الشيع فإن عذابهم مضاعف لضلالهم وإضلالهم وقرأ حمزة و الكسائي و حفص { صليا } بكسر الصاد

71 - { وإن منكم } وما منكم التفات إلى الإنسان ويؤيده أنه قرىء وإن منهم { إلا واردها } إلا واصلها وحاضر دونها يمر بها المؤمنون وهي خامدة وتنهار بغيرهم وعن جابر رضي الله عنه أنه عليه السلام [ سئل عنه فقال : إذا دخل أهل الجنة الجنة قال بعضهم لبعض : أليس قد وعدنا ربنا أن نرد النار فيقال لهم : قد وردتموها وهي خامدة ] وأما قوله تعالى : { أولئك عنها مبعدون } فالمراد عن عذابها وقيل ورودها الجواز على الصراط فإنه ممدود عليها { كان على ربك حتما مقضيا } كان ورودهم واجبا أوجبه الله على نفسه وقضى به بأن وعد به وعدا لا يمكن خلفه وقيل أقسم عليه

72 - { ثم ننجي الذين اتقوا } فيساقون إلى الجنة وقرأ
الكسائي و يعقوب ننجي بالتخفيف وقرئ ثم بفتح الثاء أي هناك { ونذر الظالمين فيها جثيا } منهارا بهم كما كانوا وهو دليل على أن المراد بالورود الجثو حواليها وأن المؤمنين يفارقون الفجرة إلى الجنة بعد تجاثيهم وتبقى الفجرة فيها منهارا بهم على هيئاتهم

73 - { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات } مرتلات الألفاظ مبينات المعاني بنفسها أو ببيان الرسول صلى الله عليه و سلم أو واضحات الإعجاز { قال الذين كفروا للذين آمنوا } لأجلهم أو معهم { أي الفريقين } المؤمنين والكافرين { خير مقاما } موضع قيام أو مكانا وقرأ ابن كثير بالضم أي موضع إقامة ومنزل { وأحسن نديا } مجلسا ومجتمعا والمعنى أنهم لما سمعوا الآيات الواضحات وعجزوا عن معارضتها والدخل عليها أخذوا في الافتخار بما لهم من حظوظ الدنيا والاستدلال بزيادة حظهم فيها على فضلهم وحسن حالهم عند الله تعالى لقصور نظرهم على الحال وعلمهم بظاهر من الحياة الدنيا فرد عليهم ذلك أيضا مع التهديد نقضا بقوله :

74 - { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا } و { كم } مفعول { أهلكنا } و { من قرن } بيانه وإنما سمي أهل كل عصر قرنا أي مقدما من قرن الدابة وهو مقدمها لأنه يتقدم من بعده وهم أحسن صفة لكم وأثاثا تمييز عن النسبة وهو متاع البيت وقيل هو ما جد منه والخرثي ما رث والرئي المنظر فعل من الرؤية لما يرى كالطحن والخبز وقرأ نافع و ابن عامر ريا على قلب الهمزة وإدغامها أو على أنه من الري الذي هو النعمة وقرأ أبو بكر رييا على القلب وقرئ ريا بحذف الهمزة و زيا من الزي وهو الجمع فإنه محاسن مجموعة ثم بين أن تمتيعهم استدراج وليس بإكرام وإنما العيار على الفضل والنقص ما يكون في الآخرة بقوله :

75 - { قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا } فيمده ويمهله بطول العمر والتمتع به وإنما أخرجه على لفظ الأمر إيذانا بأن إمهاله مما ينبغي أن يفعله استدراجا وقطعا لمعاذيره كقوله تعالى : { إنما نملي لهم ليزدادوا إثما } وكقوله { أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر } { حتى إذا رأوا ما يوعدون } غاية المد وقيل غاية قول الذين كفروا للذين آمنوا أي قالوا أي الفريقين حتى إذا رأوا ما يوعدون { إما العذاب وإما الساعة } تفصيل للموعود فإنه إما العذاب في الدنيا وهو غلبة المسلمين عليهم وتعذيبهم إياهم قتلا وأسرا وإما يوم القيامة وما ينالهم فيه من الخزي والنكال { فسيعلمون من هو شر مكانا } من الفريقين بأن عاينوا الأمر على عكس ما قدروه وعاد ما متعوا به خذلانا ووبالا عليهم وهو جواب الشرط والجملة محكية بعد { حتى } { وأضعف جندا } أي فئة وأنصارا قابل به أحسن نديا من حيث إن حسن النادي باجتماع وجوه القوم وأعيانهم وظهور شوكتهم واستظهارهم

76 - { ويزيد الله الذين اهتدوا هدى } عطف على الشرطية المحكية بعد القول كأنه لما بين أن إمهال الكافر وتمتيعه بالحياة الدنيا ليس لفضله أراد أن يبين أن قصور حظ المؤمن منها ليس لنقصه بل لأن الله عز و جل أراد به ما هو خير له وعوضه منه وقيل عطف على فليمدد لأنه في معنى الخبر كأنه قيل من كان في الضلالة يزيد الله في ضلاله ويزيد المقابل له هداية { والباقيات الصالحات } الطاعات التي تبقى عائدتها أبد الآباد ويدخل فيها ما قيل من الصلوات الخمس وقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر { خير عند ربك ثوابا } عائدة مما متع به الكفرة من النعم المخدجة الفانية التي يفتخرون بها سيما ومآلها النعيم المقيم ومآل هذه الحسرة والعذاب الدائم كما أشار إليه بقوله : { وخير مردا } والخير ها هنا إما لمجرد الزيادة أو على طريقة قولهم الصيف أحر من الشتاء أي أبلغ في حره منه في برده

77 - { أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا } نزلت في العاص بن وائل كان لخباب عليه مال فتقاضاه فقال له : لا حتى تكفر بمحمد فقال : لا والله لا أكفر بمحمد حيا ولا ميتا ولا حين تبعث قال فإذا بعثت جئتني فيكون لي ثم مال وولد فأعطيك ولما كانت الرؤية أقوى سند الإخبار استعمل أرأيت بمعنى الإخبار والفاء أصلها في التعقيب والمعنى : أخبر بقصة هذا الكافر عقب حديث ألئك وقرأ حمزة و الكسائي ولدا وهو جمع ولد كأسد في أسد أو لغة فيه كالعرب والعرب

78 - { أطلع الغيب } أقد بلغ من عظمة شأنه إلى أن أرتقى إلى علم الغيب الذي توحد به الواحد القهار حتى ادعى أن يؤتى في الآخرة مالا وولدا وتألى عليه { أم اتخذ عند الرحمن عهدا } أو اتخذ من عالم الغيب عهدا بذلك فإنه لا يتوصل إلى العلم به إلا بأحد هذين الطريقين وقيل العهد كلمة الشهادة والعمل الصالح فإن وعد الله بالثواب عليهما كالعهد عليه

79 - { كلا } ردع وتنبيه على أنه مخطئ فيما تصوره لنفسه { سنكتب ما يقول } سنظهر له أنا كتبنا قوله على طريقة قوله :
( إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة )
أي تبين أني لم تلدني لئيمة أو سننتقم منه انتقام من كتب جريمة العدو وحفظها عليه فإن نفس الكتابة لا تتأخر عن القول لقوله تعالى :
{ ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } { ونمد له من العذاب مدا } ونطول له من العذاب ما يستأهله أو نزيد عذابه ونضاعفه له لكفره وافترائه واستهزائه على الله جلت عظمته ولذلك أكده بالمصدر دلالة على فرط غضبه عليه

80 - { ونرثه } بموته { ما يقول } يعني المال والولد { ويأتينا } يوم القيامة { فردا } لا يصحبه مال ولا ولد كان له في الدنيا فضلا أن يؤتى ثم زائدا وقيل { فردا } رافضا لهذا القول متفردا عنه

81 - { واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا } ليتعززوا بهم حيث يكونون لهم وصلة إلى الله وشفعاء عنده

82 - { كلا } ردع وإنكار لتعززهم بها { سيكفرون بعبادتهم } ستجحد الآلهة عبادتهم ويقولون ما عبدتمونا لقوله تعالى : { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا } أو سينكر الكفرة لسوء العاقبة أنهم عبدوها لقوله تعالى : { ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين } { ويكونون عليهم ضدا } يؤيد الأول إذا فسر الضد بضد العز أي ويكونون عليهم ذلا أو بضدهم على معنى أنها تكون معونة في عذابهم بأن توقد بها نيرانهم أو جعل الواو للكفرة أي يكونون كافرين بهم بعد أن كانوا يعبدونها وتوحيده لوحدة المعنى الذي به مضادتهم فإنهم بذلك كالشيء الواحد ونظيره قوله عليه الصلاة و السلام [ وهم يد على من سواهم ] وقرئ { كلا } بالتنوين على قلب الألف نونا في الوقف قلب ألف الإطلاق في قوله :
( أقلي اللوم عاذل والعتابن )
أو على معنى كل هذا الرأي كلا وكلا على إضمار فعل يفسره ما بعده أي سيجحدون { كلا سيكفرون بعبادتهم }

83 - { ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين } بأن سلطانهم عليهم أو قيضنا لهم قرناء { تؤزهم أزا } تهزهم وتغريهم على المعاصي بالتسويلات وتحبيب الشهوات والمراد تعجيب رسول الله صلى الله عليه و سلم من أقاويل الكفرة وتماديهم في الغي وتصميمهم على الكفر بعد وضوح الحق على ما نطقت به الآيات المتقدمة

84 - { فلا تعجل عليهم } بأن يهلكوا حتى تستريح أنت والمؤمنون من شرورهم وتطهر الأرض من فسادهم { إنما نعد لهم } أيام آجالهم { عدا } والمعنى لا تعجل بهلاكهم فإنه لم يبق لهم إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة

85 - { يوم نحشر المتقين } نجمعهم { إلى الرحمن } إلى ربهم الذي غمرهم برحمته ولاختبار هذا الاسم في هذه السورة شأن ولعله لأن مساق هذا الكلام فيها لتعداد نعمه الجسام وشرح حال الشاكرين لها والكافرين بها { وفدا } وافدين عليه كما يفد الوفاد على الملوك منتظرين لكرامتهم وإنعامهم

86 - { ونسوق المجرمين } كما تساق البهائم { إلى جهنم وردا } عطاشا فإن من يرد الماء لا يرده إلا لعطش أو كالدواب التي ترد الماء

87 - { لا يملكون الشفاعة } الضمير فيها للعباد المدلول عليها بذكر القسمين وهو الناصب لليوم { إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا } إلا من تحلى بما يستعد به ويستأهل أن يشفع للعصاة من الإيمان والعمل الصالح على ما وعد الله تعالى أو إلا من اتخذ من الله إذنا فيها كقوله تعالى : { لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن } من قولهم : عهد الأمير إلى فلان بكذا إذا أمره به ومحله الرفع على البدل من الضمير أو النصب على تقدير مضاف أي إلا شفاعة من اتخذ أو على الاستثناء وقيل الضمير للمجرمين والمعنى : لا يملكون الشفاعة فيهم إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا يستعد به أن يشفع له بالإسلام

88 - { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا } الضمير يحتمل الوجهين لأن هذا لما كان مقولا فيما بين الناس جاز أن ينسب إليهم

89 - { لقد جئتم شيئا إدا } على الالتفات للمبالغة في الذم والتسجيل عليهم بالجراءة على الله تعالى والإد بالفتح والكسر العظيم المنكر والإدة الشدة و أدني الأمر وآدني أثقلني وعظم علي

90 - { تكاد السموات } وقرأ نافع و الكسائي بالياء { يتفطرن منه } يتشققن مرة بعد أخرى وقرأ أبو عمرو و ابن عامر و حمزة و أبو بكر و يعقوب ( ينفطرن ) والأول أبلغ لأن التفعل مطاوع فعل والانفعال مطاوع فعل ولأن أصل التفعل التكلف { وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا } تهد هدا أو مهدودة أو لأنها تهد أي تكسر وهو تقرير لكونه أدا والمعنى أن هول هذه الكلمة وعظمها بحيث لو تصورت بصورة محسوسة لم تتحملها هذه الأجرام العظام وتفتتت من شدتها أو أن فظاعتها مجلبة لغضب الله بحيث لولا حلمه لخرب العالم وبدد قوائمه غضبا على من تفوه بها

91 - { أن دعوا للرحمن ولدا } يحتمل النصب على العلة لـ { تكاد } أو لـ { هدا } على حذف اللام وإفضاء الفعل إليه والجر بإضمار اللام أو بالإبدال من الهاء في منه والرفع على أنه خبر محذوف تقديره الموجب لذلك { أن دعوا } أو فاعل { هدا } أي هدها دعاء
الولد للرحمن وهو من دعا بمعنى سمى المتعدي إلى مفعولين وإنما اقتصر على المفعول الثاني ليحيط بكل ما دعي له ولدا أو من دعا بمعنى نسب الذي مطاوعه ادعى إلى فلان إذا انتسب إليه

92 - { وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا } ولا يليق به اتخاذ الولد ولا يتطلب له لو طلب مثلا لأنه مستحيل ولعل ترتيب الحكم بصفة الرحمانية للإشعار بأن كل ما عداه نعمة ومنعم عليه فلا يجانس من هو مبدأ النعم كلها ومولي أصولها وفروعها فكيف يمكن أن يتخذه ولدا ثم صرح به في قوله :

93 - { إن كل من في السموات والأرض } أي ما منهم { إلا آتي الرحمن عبدا } إلا وهو مملوك له يأوي إليه بالعبودية والانقياد وقرئ { آتي الرحمن } على الأصل

94 - { لقد أحصاهم } حصرهم وأحاط بهم بحيث لا يخرجون عن حوز علمه وقبضة قدرته { وعدهم عدا } عد أشخاصهم وأنفاسهم وأفعالهم فإن كل شيء عنده بمقدار

95 - { وكلهم آتيه يوم القيامة فردا } منفردا عن الاتباع والأنصار فلا يجانسه شيء من ذلك ليتخذه ولدا ولا يناسبه ليشرك به

سورة طه
96 - ض منهم لأسبابها وعن النبي صلى الله عليه و سلم [ إذا أحب الله عبدا يقول لجبريل أحببت فلانا فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله قد أحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم توضع له المحبة في الأرض ] والسين إما لأن السورة مكية وكانوا ممقوتين حينئذ بين الكفرة فوعدهم ذلك إذا دجا الإسلام أو لأن الموعود في القيامة حين تعرض حسناتهم على رؤوس الأشهاد فينزع ما في صدوره من الغل

97 - { فإنما يسرناه بلسانك } بأن أنزلناه بلغتك والباء بمعنى على أو على أصله لتضمن { يسرناه } معنى أنزلناه أي أنزلناه بلغتك { لتبشر به المتقين }
الصائرين إلى التقوى { وتنذر به قوما لدا } أشداء الخصومة آخذين في كل لديد أي شق من المراء لفرط لجاجهم فبشر به وأنذر

98 - { وكم أهلكنا قبلهم من قرن } تخويف للكفرة وتجسير للرسول صلى الله عليه و سلم على إنذارهم { هل تحس منهم من أحد } هل تشعر بأحد منهم وتراه { أو تسمع لهم ركزا } وقرئ { تسمع } من أسمعت والركز الصوت الخفي وأصل التركيب هو الخفاء ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض والركاز المال المدفون عن رسول الله [ من قرأ سورة مريم أعطي عشر حسنات بعدد من كذب زكريا وصدق به ويحيى ومريم وعيسى وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام المذكورين فيها وبعدد من دعا الله في الدنيا ومن لم يدع الله ]

1 - { طه } فخمها قالون و ابن كثير و ابن عامر و حفص
و ويعقوب على الأصل وفخم الطاء وحده أبو عمرو و ورش
لاستعلائه وأمالها الباقون وهما من أسماء الحروف وقيل معناه يا رجل على لغة عك فإن صح فلعل أصله يا هذا فتصرفوا فيه بالقلب والاختصار والاستشهاد بقوله :
( إن السفاهة طاها فين خلائقكم ... لا قدس الله أخلاق الملاعين )
ضعيف لجواز أن يكون قسما كقوله حم لا ينصرون وقرئ { طه } على أنه أمر للرسول صلى الله عليه و سلم بأن يطأ الأرض بقدميه فإنه كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه وأن أصله طأ فقلبت همزته هاء أو قلبت في يطأ ألفا كقوله : لا هناك المرتع ثم بنى عليه الأمر وضم إليه هاء السكت وعلى هذا يحتمل أن يكون أصل { طه } طأها والألف مبدلة من الهمزة والهاء كناية الأرض لكن يرد ذلك كتابتهما على صورة الحرف وكذا التفسير بيا رجل أو اكتفى بشطري الكلمتين وعبر عنهما باسمهما

2 - { ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } خبر { طه } إن جعلته مبتدأ على أنه مؤول بالسورة أو { القرآن } والقرآن واقع فيه موقع العائد وجوابه إن جعلته مقسما به ومنادى له إن جعلته نداء واستئناف إن كانت جملة فعلية أو اسمية بإضمار مبتدأ أو طائفة من الحروف محكية والمعنى : ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب بفرط تأسفك على كفر قريش إذ ما عليك إلا أن تبلغ أو بكثرة الرياضة وكثرة التهجد والقيام على ساق والشقاء شائع بمعنى التعب ومنه أشقى من رائض المهر وسيد القوم أشقاهم ولعله عدل إليه للإشعار بأنه أنزل عليه ليسعد وقيل رد وتكذيب للكفرة فإنهم لما رأوا كثرة عبادته قالوا إنك لتشقى بترك ديننا وإن القرآن أنزل عليك لتشقى به

3 - { إلا تذكرة } لكن تذكيرا وانتصابها على الاستثناء المنقطع ولا يجوز أن يكون بدلا من محل { لتشقى } لاختلاف الجنسين ولا مفعولا له لـ { أنزلنا } فإن الفعل الواحد لا يتعدى إلى علتين وقيل هو مصدر في موقع الحال من الكاف أو القرآن أو مفعول له على أن { لتشقى } متعلق بمحذوف هو صفة القرآن أي ما أنزلنا عليك القرآن المنزل لتتعب بتبليغه إلا تذكرة { لمن يخشى } لمن في قلبه خشية ورقة تتأثر بالإنذار أو لمن علم الله منه أنه يخشى بالتخويف منه فإنه المنتفع به

4 - { تنزيلا } نصب بإضمار فعله أو بـ { يخشى } أو على المدح أو البدل من { تذكرة } إن جعل حالا وإن جعل مفعولا له لفظا أو معنى فلا لأن الشيء لا يعلل بنفسه ولا بنوعه { ممن خلق الأرض والسموات العلى } مع ما بعده إلى قوله { له الأسماء الحسنى } تفخيم لشأن المنزل بفرط تعظيم المنزل بذكر أفعاله وصفاته على الترتيب الذي هو عند العقل فبدأ بخلق الأرض
والسموات التي هي أصول العالم وقدم الأرض لأنها أقرب إلى الحس وأظهر عنده من السموات العلى وهو جمع العليا تأنيث الأعلى ثم أشار إلى وجه إحداث الكائنات وتدبير أمرها بأن قصد العرش فأجرى منه الأحكام والتقادير وأنزل منه الأسباب على ترتيب ومقادير حسب ما اقتضته حكمته وتعلقت به مشيئته فقال :

5 - { الرحمن على العرش استوى } ليدل بذلك على كمال قدرته وإرادته

6 - { له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى } لما كانت القدرة تابعة للإرادة وهي لا تنفك عن العلم عقب ذلك بإحاطة علمه تعالى بجليات الأمور وخفياتها على سواء فقال :

7 - { وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى } أي وإن تجهر بذكر الله ودعائه فاعلم أنه غني عن جهرك فإنه سبحانه يعلم السر وأخفى منه وهو ضمير النفس وفيه تنبيه على أن شرع الذكر والدعاء و الجهر فيهما ليس لإعلام الله بل لتصوير النفي بالذكر ورسوخه فيها ومنعها عن الاشتغال بغيره وهضمها بالتضرع والجؤار ثم إنه لما ظهر بذلك أنه المستجمع لصفات الألوهية بين أنه المتفرد بها والمتوحد بمقتضاها فقال :

8 - { الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى } ومن في { ممن خلق الأرض } صلة لـ { تنزيلا } أو صفة { له } والانتقال من التكلم إلى الغيبة للتفنن في الكلام وتفخيم المنزل من وجهين إسناد إنزاله إلى ضمير الواحد العظيم الشأن ونسبته إلى المختص بصفات الجلال والإكرام والتنبيه على أنه واجب الإيمان به والانقياد له من حيث إنه كلام من هذا شأنه ويجوز أن يكون أنزلناه حكاية كلام جبريل والملائكة النازلين معه وقرئ { الرحمن } على الجر صفة لمن خلق فيكون { على العرش استوى } خبر محذوف وكذا إن رفع { الرحمن } على المدح دون الابتداء ويجوز أن يكون خبرا ثانيا والثرى الطبقة الترابية من الأرض وهي آخر طبقاتها و { الحسنى } تأنيث الأحسن وفضل أسماء الله تعالى على سائر الأسماء في الحسن لدلالتها على معان هي أ شرف المعاني وأفضلها

9 - { وهل أتاك حديث موسى } قفى تمهيد نبوته صلى الله عليه و سلم بقصة موسى ليأتم به في تحمل أعباء النبوة وتبليغ الرسالة والصبر على مقاساة الشدائد فإن هذه السورة من أوائل ما نزل

10 - { إذ رأى نارا } ظرف للـ { حديث } لأنه حدث أو مفعول لا ذكر قيل إنه اسأذن شعيبا عليهما الصلاة والسلام في الخرج إلى أمه وخرج بأهله فلما وافى وادي طوى وفيه الطور ولد له ابن في ليلة شاتية مظلمة مثلجة وكانت ليلة الجمعة وقد ضل الطريق وتفرقت ماشيته إذ رأى من جانب الطور نارا { فقال لأهله امكثوا } أقيموا مكانكم وقرأ حمزة ( لأهله امكثوا ها هنا ) وفي ( القصص ) بضم الهاء في الوصل والباقون بكسرها { إني آنست نارا } أبصرتها إبصارا لا شبهة فيه وقيل الإيناس إبصار ما يؤنس به { لعلي آتيكم منها بقبس } بشعلة من النار وقيل جمرة { أو أجد على النار هدى } هاديا يدلني على الطريق أو يهديني أبواب الدين فإن أفكار الأبرار مائلة إليها في كل ما يعن لهم ولما كان حصولهما مترقبا بني الأمر فيهما على الرجاء بخلاف الإيناس فإنه كان محققا ولذلك حققه لهم ليوطنوا أنفسهم عليه ومعنى الاستعلاء في { على النار } أن أهلها مشرفون عليها أو مستعلون المكان القريب منها كما قال سيبويه في : مررت بزيد إنه لصوق بمكان يقرب منه

11 - { فلما أتاها } أي النار وجد نارا بيضاء تتقد في شجرة خضراء { نودي يا موسى }

12 - { إني أنا ربك } فتحه ابن كثير و أبو عمرو أي بأني وكسره الباقون بإضمار القول أو إجراء النداء مجراه وتكرير الضمير للتوكيد والتحقيق قيل إنه لما نودي قال : من المتكلم قال : إني أنا الله فوسوس إليه إبليس لعلك تسمع كلام شيطان فقال : أنا عرقت أنه كلام الله بأي أسمعه من جميع الجهات وبجميع الأعضاء وهو إشارة إلى أنه عليه الصلاة و السلام تلقى من ربه كلامه تلقيا روحانيا ثم تمثل ذلك الكلام لبدنه وانتقل إلى الحس المشترك فانتقش به من غير اختصاص بعضو وجهة { فاخلع نعليك } أمره بذلك لأن الحفوة تواضع وأدب ولذلك طاف السلف حافين وقيل لنجاسة نعليه فإنهما كانتا من جلد حما غير مدبوغ وقيل معناه فرغ قلبك من الأهل والمال { إنك بالواد المقدس } تعليل للأمر باحترام البقعة والمقدس يحتمل المعنيين { طوى } عطف بيان للوادي ونونه ابن عامر والكوفيون بتأويل المكان وقيل هو كثني من الطي مصدر لـ { نودي } أو { المقدس } أي : نودي نداءين أو قدس مرتين

13 - { وأنا اخترتك } اصطفيتك للنبوة وقرأ حمزة ( وإنا اخترناك ) { فاستمع لما يوحى } للذي يوحى إليك أو للوحي واللام تحتمل التعلق بكل من الفعلين

14 - { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني } بدل مما يوحى دال على أنه مقصور على تقرير التوحيد الذي هو منتهى العلم والأمر بالعبادة التي هي كمال العمل { وأقم الصلاة لذكري } خصها بالذكر وأفردها بالأمر للعلة التي أناط بها إقامتها وهو تذكر المعبود وشغل القلب واللسان بذكره وقيل { لذكري } لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها أو لأن أذكرك بالثناء أو { لذكري } خاصة لا ترائي بها ولا تشوبها بذكر غيري وقيل لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة أو لذكر صلاتي لما روي أنه عليه الصلاة و السلام قال [ من نام عن صلاة أو نسيها فليقضها إذا ذكرها إن الله تعالى يقول أقم الصلاة لذكري ]

15 - { إن الساعة آتية } كائنة لا محالة { أكاد أخفيها } أريد إخفاء وقتها أو أقرب أن أخفيها فلا أقول إنها آتية ولولا ما في الأخبار بإتيانها من اللطف وقطع الأعذار لما أخبرت به أو أكاد أظهرها من أخفاه إذا سلب خفاءه ويؤيده القراءة بالفتح من خفاه إذا أظهره { لتجزى كل نفس بما تسعى } متعلق بـ { آتية } أو بـ { أخفيها } على المعنى الأخير

16 - { فلا يصدنك عنها } عن تصديق الساعة أو عن الصلاة { من لا يؤمن بها } نهى الكافر أن يصد موسى عليه الصلاة و السلام عنها والمراد نهيه أن ينصد عنها كقولهم : لا أرينك ها هنا تنبيها على أن فطرته السليمة لو خليت بحالها لاختارها ولم يعرض عنها وأنه ينبغي أن يكون راسخا في دينه فإن صد الكافر إنما يكون بسبب ضعفه فيه { واتبع هواه } ميل نفسه إلى اللذات المحسوسة المخدجة فقصر نظره عن غيرها { فتردى } فتهلك بالانصداد بصده

17 - { وما تلك } استفهام يتضمن استيقاظا لما يريه فيها من العجائب { بيمينك } حال من معنى الإشارة وقيل صلة { تلك } { يا موسى } تكرير لزيادة الاستئناس والتنبيه

18 - { قال هي عصاي } وقرئ ( عصي ) على لغة هذيل { أتوكأ عليها } أعتمد عليها إذا أعييت أو وقفت على رأس القطيع { وأهش بها على غنمي } وأخبط الورق بها على رؤوس غنمي وقرئ { أهش } وكلاهما من هش الخبز يهش إذا انكسر لهشاشته وقرئ بالسين من الهس وهو زجر الغنم أي أنحي عليها زاجرا لها { ولي فيها مآرب أخرى } حاجات أخر مثل أن كان إذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته وعرض الزندين على شعبيتها وألقى عليها الكساء واستظل به وإذا قصر الرشاء وصله بها وإذا تعرضت السباع لغنمه قاتل بها وكأنه صلى الله عليه و سلم فهم أن المقصود من السؤال أن يذكر حقيقتها وما يرى من منافعها حتى إذا رآها بعد ذلك على خلاف تلك الحقيقة ووجد منها خصائص أخرى خارقة للعادة مثل أن تشتعل شعبتاه بالليل كالشمع وتصيران دلوا عند الاستقاء وتطول بطول البئر وتحارب عنه إذا ظهر عدو وينبع الماء بركزها وينضب بنزعها وتورق وتثمر إذا اشتهى ثمرة فركزها على أن ذلك آياته باهرة ومعجزات قاهرة أحدثها الله فيها لأجله وليست من خواصها فذكر حقيقتها ومنافعها مفصلا ومجملا على معنى أنها من جنس العصي تنفع منافع أمثالها ليطابق جوابه الغرض الذي فهمه

19 - { قال ألقها يا موسى }

20 - { فألقاها فإذا هي حية تسعى } قيل لما ألقاها انقلبت حية صفراء بغلظ العصا ثم تورمت وعظمت فلذلك سماها جانا تارة نظرا إلى المبدأ وثعبانا مرة باعتبار المنتهى وحية أخرى باعتبار الاسم الذي يعم الحالين وقيل كانت في ضخامة الثعبان وجلادة الجان ولذلك قال { كأنها جان }

21 - { قال خذها ولا تخف } فإنه لما رآها حية تسرع وتبتلع الحجر والشجر خاف وهرب منها { سنعيدها سيرتها الأولى } هيئتها وحالتها المتقدمة وهي فعلة من السير تجوز بها للطريقة والهيئة وانتصابها على نزع الخافض أو على أن أعاد منقول من عاده بمعنى عاد إليه أو على الظرف أي سنعيدها في طريقتها أو على تقدير فعلها أي سنعيد العصا بعد ذهابها تسير سيرتها الأولى فتنتفع بها ما كنت تنتفع قبل قيل لما قال له ربه ذلك اطمأنت نفسه حتى أدخل يده في فمها وأخذ بلحييها

22 - { واضمم يدك إلى جناحك } إلى جنبك تحت العضد يقال لكل ناحيتين جناحان كجناحي العسكر استعارة من جناحي الطائر سيما بذلك لأنه يجنحهما عند الطيران { تخرج بيضاء } كأنها مشعة { من غير سوء } من غير عاهة وقبح كنى به عن البرص كما كنى بالسوأة عن العورة لأن الطباع تعافه وتنفر عنه { آية أخرى } معجزة ثانية وهي حال من ضمير { تخرج بيضاء } أو من ضميرها أو مفعول بإضمار خذ أو دونك

23 - { لنريك من آياتنا الكبرى } متعلق بهذا المضمر أو بما دل عليه آية أو القصة التي دللنا بها أو فعلنا ذلك { لنريك } و { الكبرى } صفة { آياتنا } أو مفعول ( نريك ) و { من آياتنا } حال منها

24 - { اذهب إلى فرعون } بهاتين الآيتين وادعه إلى العبادة { إنه طغى } عصى وتكبر

25 - { قال رب اشرح لي صدري } لما أمره الله بخطب عظيم وأمر جسيم سأله أن يشرح صدره ويفسح قلبه لتحمل أعبائه والصبر على مشاقه

26 - { ويسر لي أمري } والتلقي لما ينزل عليه ويسهل الأمر له بإحداث الأسباب ورفع الموانع وفائدة لي إبهام المشروح والميسر أولا ثم رفعه بذكر الصدر والأمر تأكيدا ومبالغة

27 - { واحلل عقدة من لساني } فإنما يحسن التبليغ من البليغ وكان في لسانه رتة من جمرة أدخلها فاه وذلك أن فرعون حمله يوما فأخذ بلحيته ونتفها فغضب وأمر بقتله فقالت آسية : إنه صبي لا يفرق بين الجمر والياقوت فأحضرا بين يديه فأخذ الجمرة ووضعها في فيه ولعل تبييض يده كان لذلك وقيل احترقت يده فاجتهد فرعون في علاجها فلم تبرأ ثم لما دعاه قال إلى أي رب تدعوني قال إلى الذي أبرأ يدي وقد عجزت عنه واختلف في زوال العقدة بكمالها فمن قال به تمسك بقوله { قد أوتيت سؤلك يا موسى } ومن لم يقل احتج بقوله { هو أفصح مني لسانا } وقوله { ولا يكاد يبين } وأجاب عن الأول بأنه لم يسأل حل عقدة لسانه مطلقا بل عقدة تمنع الإفهام ولذلك نكرها وجعل يفقهوا جواب الأمر ومن لساني يحتمل أن يكون صفة عقدة و أن يكون صلة احلل

28 - { يفقهوا قولي }

29 - { واجعل لي وزيرا من أهلي } يعينني على ما كلفتني به واشتقاق الوزير إما من الوزر لأنه يحمل الثقل عن أميره أو من الوزر وهو الملجأ لأن الأمير يعتصم برأيه ويلتجئ إليه في أموره ومنه الموازرة وقيل أصله أزير من الأزر بمعنى القوة فعيل بمعنى مفاعل كالعشير والجليس قلبت همزته واوا كقلبها في موازر ومفعولا اجعل وزيرا

30 - { هارون أخي } و { هرون } قدم ثانيهما للعناية به و { لي } صلة أو حال أو { لي وزيرا } و { هرون } عطف بيان للوزير أو { وزيرا من أهلي } و { لي } تبيين كقوله { ولم يكن له كفوا أحد } و { أخي } على الوجوه بدل من { هرون } أو مبتدأ خبره

31 - { اشدد به أزري } على لفظ الأمر وقرأهما ابن عامر بلفظ الخبر على أنهما جواب الأمر

32 - { وأشركه في أمري }

33 - { كي نسبحك كثيرا } فإن التعاون يهيج الرغبات ويؤدي إلى تكاثر الخير وتزايده

34 - { ونذكرك كثيرا }

35 - { إنك كنت بنا بصيرا } عالما بأحوالنا وأن التعاون مما يصلحنا وأن هرون نعم المعين لي فيما أمرتني به

36 - { قال قد أوتيت سؤلك يا موسى } أي مسؤولك فعل بمعنى مفعول كالخبز والأكل بمعنى المخبوز والمأكول

37 - { ولقد مننا عليك مرة أخرى } أي أنعمنا عليك في وقت آخر

38 - { إذ أوحينا إلى أمك } بإلهام أو في منام أو على لسان نبي في وقتها أو ملك ـ لا على وجه النبوة ـ كما أوحي إلى مريم { ما يوحى } ما لا يعلم إلا بالوحي أو مما ينبغي أن يوحي ولا يخل به لعظم شأنه وفرط الاهتمام به

39 - { أن اقذفيه في التابوت } بأن اقذفيه أو أي اقذفيه لأن الوحي بمعنى القول { فاقذفيه في اليم } والقذف يقال للإلقاء وللوضع كقوله تعالى : { وقذف في قلوبهم الرعب } وكذلك الرمي كقوله :
( غلام رماه الله بالحسن يافعا )
{ فليلقه اليم بالساحل } لما كان إلقاء البحر إياه إلى الساحل أمرا واجب الحصول لتعلق الإرادة به وجعل البحر كأنه ذو تمييز مطيع أمره بذلك وأخرج الجواب مخرج الأمر والأولى أن تجعل الضمائر كلها لموسى مراعاة للنظم فالمقذوف في البحر والملقى إلى الساحل وإن كان التابوت بالذات فموسى بالعرض { يأخذه عدو لي وعدو له } جواب { فليلقه } وتكرير { عدو } للمبالغة أو لأن الأول باعتبار الواقع والثاني باعتبار المتوقع قيل إنها جعلت في التابوت قطنا ووضعته فيه ثم قيرته وألقته في اليم وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر فدفعه الماء إليه فأداه إلى بركة في البستان وكان فرعون جالسا على رأسها مع امرأته آسية بنت مزاحم فأمر به فأخرج ففتح فإذا هو صبي أصبح الناس وجها فأحبه حبا شديدا كما قال سبحانه وتعالى : { وألقيت عليك محبة مني } أي محبة كائنة مني قد زرعتها في القوب بحيث لا يكاد يصبر عنك من رآك فلذلك أحبك فرعون ويجوز أن يتعلق { مني } بـ { ألقيت } أي أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب وظاهر اللفظ أن اليم ألقاه بساحله وهو شاطئه لأن الماء يسحله فالتقط منه لكن لا يبعد أن يؤول الساحل بجنب فوهة نهره { ولتصنع على عيني } لتربى ويحسن إليك وأنا راعيك وراقبك والعطف على علة مضمرة مثل ليتعطف عليك أو على الجملة السابقة بإضمار فعل معلل مثل فعلت ذلك وقرئ { ولتصنع } بكسر اللام وسكونها والجزم على أنه أمر { ولتصنع } بكسر اللام وسكونها والجزم على أنه أمر { ولتصنع } بالنصب وفتح التاء أي وليكن عملك على عين مني لئلا تخالف به عن أمري

40 - { إذ تمشي أختك } ظرف لـ { ألقيت } أو { لتصنع } أو بدل من { إذ أوحينا } على أن المراد بها وقت متسع { فتقول هل أدلكم على من يكفله } وذلك لأنه كان لا يقبل ثدي المراضع فجاءت أخته مريم متفحصة خبره فصادفتهم يطلبون له مرضعة يقبل ثديها فقالت { هل أدلكم } فجاءت بأمه فقبل ثديها { فرجعناك إلى أمك } وفاء بقولنا { إنا رادوه إليك } { كي تقر عينها } بلقائك { ولا تحزن } هي بفراقك أو أنت على فراقها وفقد إشفاقها { وقتلت نفسا } نفس القبطي الذي استغاثه عليه الإسرائيلي { فنجيناك من الغم } غم قتله خوفا من عقاب الله تعالى واقتصاص فرعون بالمغفرة والأمن منه بالهجرة إلى مدين { وفتناك فتونا } وابتليناك ابتلاء أو أنواعا من الابتلاء على أنه جمع فتن أو فتنة على ترك الاعتداد بالتاء كحجوز وبدور في حجزة وبدرة فخلصناك مرة بعد أخرى وهو إجمال لما ناله في سفره من الهجرة عن الوطن ومفارقة الألاف والمشي راجلا على حذر وفقد الزاد وأجر نفسه إلى غير ذلك أوله ولما سبق ذكره { فلبثت سنين في أهل مدين } لبثت فيهم عشر سنين قضاء لأوفي الأجلين ومدين على ثمان مراحل من مصر { ثم جئت على قدر } قدرته لأن أكلمك وأستنبئك غير مستقدم وقته المعين ولا مستأخر أو على مقدار من السن يوحى فيه إلى الأنبياء { يا موسى } كرره عقيب ما هو غاية الحكاية للتنبيه على ذلك

41 - { واصطنعتك لنفسي } واصطفيتك لمحبتي مثله فيما خوله من الكرامة بمن قربه الملك واستخلصه لنفسه

42 - { اذهب أنت وأخوك بآياتي } بمعجزاتي { ولا تنيا } ولا تفترا ولا تقصرا وقرئ ( تنيا ) بكسر التاء { في ذكري } لا تنسياني حيثما تقلبتما
وقيل في تبليغ ذكري والدعاء إلي

43 - { اذهبا إلى فرعون إنه طغى } أمر به أولا موسى عليه الصلاة و السلام وحده وههنا إياه وأخاه فلا تكرير قيل أوحى إلى هرون أن يتلقى موسى وقيل سمع بمقبله فاستقبله

44 - { فقولا له قولا لينا } مثل { هل لك إلى أن تزكى * وأهديك إلى ربك فتخشى } فإنه دعوة في صورة عرض ومشورة حذرا أن تحمله الحماقة على أن يسطو عليكما أو احتراما لما له من حق التربية عليك وقيل كنياه وكان له ثلاث كنى : أبو العباس وأبو الوليد وأبو مرة وقيل عداه شبابا لا يهرم بعده وملكا لايزول إلا بالموت { لعله يتذكر أو يخشى } متعلق بـ { اذهبا } أو ( قولا ) أي : باشرا الأمر على رجائكما وطمعكما أنه يثمر ولا يخيب سعيكما فإن الراجي مجتهد والآيس متكلف والفائدة في إرسالهما والمبالغة عليهما في الاجتهاد مع علمه بأنه لا يؤمن إلزام الحجة وقطع المعذرة وإظهار ما حده في تضاعيف ذلك من الآيات والتذكر للتحقق والخشية للمتوهم ولذلك قدم الأول أي إن لم يتحقق صدقكما ولم يتذكر فلا أقل من أن يتوهمه فيخشى

45 - { قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا } أن يعجل علينا بالعقوبة ولا يصبر إلى تمام الدعوة وإظهار المعجزة من فرط إذا تقدم ومنه الفارط وفرس فرط يسبق الخيل وقرئ { يفرط } من أفرطته إذا حملته على العجلة أي نخاف أن يحمله حامل من استكبار أو خوف على الملك أو شيطان إنسي أو جني على المعالجة بالعقاب و { يفرط } من الإفراط في الأذية { أو أن يطغى } أو أن يزداد طغيانا فيتخطى إلى أن يقول فيك ما لا ينبغي لجراءته و قساوته وإطلاقه من حسن الأدب

46 - { قال لا تخافا إنني معكما } بالحفظ والنصر { أسمع وأرى } ما يجري بينكما وبينه من قول وفعل فأحدث في كل ما يصرف شره عنكما ويوجب نصرتي لكما ويجوز أن لا قدر شيء على معنى إنني حافظكما سامعا ومبصرا والحافظ إذا كان قادرا سميعا بصيرا تم الحفظ

47 - { فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل } أطلقهم { ولا تعذبهم } بالتكاليف الصعبة وقتل الولدان فإنهم كانوا في أيدي القبط يستخدمونهم ويتعبونهم في العمل ويقتلون ذكور أولادهم في عام دون عام وتعقيب الإتيان بذلك دليل على أن تخليص المؤمنين من الكفرة أهم من دعوتهم إلى الإيمان ويجوز أن يكون للتدريج في الدعوة { قد جئناك بآية من ربك } جملة مقررة لما تضمنه الكلام السابق من دعوى الرسالة وإنما وحد الآية وكان معه آيتان لأن المراد إثبات الدعوى ببرهانها لا الإشارة إلى وحدة الحجة وتعددها وكذلك قوله : { قد جئتكم ببينة } { فأت بآية } { قال أو لو جئتك بشيء مبين } { والسلام على من اتبع الهدى } وسلام الملائكة وخزنة الجنة على المهتدين أو السلامة في الدارين لهم

48 - { إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى } أن عذاب المنزلين على المكذبين للرسل ولعل تغيير النظم والتصريح بالوعيد والتوكيد فيه لأن التهديد في أول الأمر أهم وأنجع وبالواقع أليق

49 - { قال فمن ربكما يا موسى } أن بعد ما أتياه وقالا له ما أمرا به ولعله حذف لدلالة الحال عليه فإن المطيع إذا أم بشيء فعله لا محالة وإنما خاطب الاثنين وخص موسى عليه الصلاة و السلام بالنداء لأنه الأصل وهرون وزيره وتابعه أو لأنه عرف أن له رتة ولأخيه فصاحة فأراد أن يفحمه ويدل عليه قوله { أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين }

50 - { قال ربنا الذي أعطى كل شيء } من الأنواع { خلقه } صورته وشكله الذي يطابق كماله الممكن له أو أعطى خليقته كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به فقدم المفعول الثاني لأنه المقصود بيانه وقيل أعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة زوجا وقرئ { خلقه } صفة للمضاف إليه أو المضاف على شذوذ فيكون المفعول الثاني محذوفا أي : أعطى كل مخلوق ما يصلحه { ثم هدى } ثم عرفه كيف يرتفق بما أعطي وكيف يتوصل به إلى بقائه وكماله اختيارا أو طبعا وهو جواب في غاية البلاغة لاختصاره وإعرابه عن الموجودات بأسرها على مراتبها ودلالته على أن الغني القادر بالذات المنعم على الإطلاق هو الله تعالى وأن جميع ما عداه مفتقر إليه منعم عليه في حد ذاته وصفاته وأفعاله ولذلك بهت الذي كفر وأفحم عن الدخل عليه فلم ير إلا صرف الكلام عنه

51 - { قال فما بال القرون الأولى } فما حالهم بعد موتهم من السعادة والشقاوة

52 - { قال علمها عند ربي } أي هو غيب لا يعلمه إلا هو وإنما أنا عبد مثلك لا أعلم منه إلا ما أخبرني به { في كتاب } مثبت في اللوح المحفوظ ويجوز أن يكون تمثيلا لتمكنه في علمه بما استحفظه العالم وقيده بالكتبة ويؤيده { لا يضل ربي ولا ينسى } والضلال أن تخطىء الشيء في مكانه فيم تهتد إليه والنسيان أن تذهب عنه بحيث لا يخطر ببالك وهما محالان على العالم بالذات ويجوز أن يكون سؤاله دخلا على إحاطة قدرة الله تعالى بالأشياء كلها وتخصيصه ابعاضها بالصور والخواص المختلفة بأن ذلك يستدعي علمه بتفاصيل الأشياء وجزئياتها والقرون الخالية مع كثرتهم وتمادي مدتهم وتباعد أطرافهم كيف أحاط علمه بهم وبأجزائهم وأحوالهم فيكون معني الجواب : أن علمه تعالى محيط بذلك كله وأنه مثبت عنده لا يضل ولا ينسى

53 - { الذي جعل لكم الأرض مهدا } مرفوع صفة لـ { ربي } أو خبر لمحذوف أو منصوب على المدح وقرأ الكوفيون هنا وفي ( الزخرف ) { مهدا }
أي كالمهد تتمدونها وهو مصدر سمي به والباقون مهادا وهو اسم ما يمهد كالفراش أو جمع مهد ولم يختلفوا في الذي في ( النبأ ) { وسلك لكم فيها سبلا } وجعل لم فيها سبلا بين الجبال والأودية والبراري تسلكونها من أرض إلى أرض لتبلغوا منافعها { وأنزل من السماء ماء } مطرا { فأخرجنا به } عدل به عن لفظ الغيبة إلى صيغة التكلم على الحكاية لكلام الله تعالى تنبيها على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة والحكمة وإيذانا بأنه مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لمشيئته وعلى هذا نظائره كقوله : { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها } { أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق } الآية { أزواجا } أصنافا سميت بذلك لازدواجها واقتران بعضها ببعض { من نبات } بيان أو صفة لأزواجا وكذلك : { شتى } ويحتمل أن يكون صفة لـ { نبات } فإنه من حيث إنه مصدر في الأصل يستوي فيه الواحد والجمع وهو جمع شتيت كمريض ومرضى أي متفرقات في الصور والأغراض والمنافع يصلح بعضها للناس وبعضها للبهائم فلذلك قال :

54 - { كلوا وارعوا أنعامكم } وهو حال من ضمير { فأخرجنا } على إرادة القول أي أخرجنا أصناف النبات قائلين { كلوا وارعوا } والمعنى معديهما لانتفاعكم بالأكل والعلف آذنين فيه { إن في ذلك لآيات لأولي النهى } لذوي العقول الناهية عن اتباع الباطل وارتكاب القبائح جمع نهية

55 - { منها خلقناكم } فإن التراب أصل خلقة أول آبائكم وأول مواد أبدانكم { وفيها نعيدكم } بالموت وتفكيك الأجزاء { ومنها نخرجكم تارة أخرى } بتأليف أجزائكم المتفتتة المختلطة بالتراب على الصور السابقة ورد الأرواح إليها

56 - { ولقد أريناه آياتنا } بصرنا إياها أو عرفناه صحتها { كلها } تأكيد لشمول الأنواع أو لشمول الأفراد على أن المراد بآياتنا آيات معهودة وهي الآيات التسع المختصة بموسى أو أنه عليه السلام أراه آياته وعدد عليه ما أوتي غيره من المعجزات { فكذب } موسى من فرط عناده { وأبى } الإيمان والطاعة لعتوه

57 - { قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا } أرض مصر { بسحرك يا موسى } هذا تعلل وتحير ودليل على أنه علم كونه محقا حتى خاف منه على ملكه فإن الساحر لا يقدر أن يخرج ملكا مثله من أرضه

58 - { فلنأتينك بسحر مثله } مثل سحرك { فاجعل بيننا وبينك موعد } وعدا لقوله : { لا نخلفه نحن ولا أنت } فإن الإخلاف لا يلائم الزمان والمكان وانتصاب { مكانا سوى } بفعل دل عليه المصدر لا به لأنه موصوف أو بأنه بدل من { موعدا } على تقدير مكان مضاف إليه وعلى هذا يكون طباق الجواب في قوله :

59 - { قال موعدكم يوم الزينة } من حيث المعنى فإن يوم الزينة يدل على مكان مشتهر باجتماع الناس فيه في ذلك اليوم أو بإضمار مثل مكان موعدكم مكان يوم الزينة كما هو على الأول أو وعدكم وعد يوم الزينة وقرئ { يوم } بالنصب وهو ظاهر في أن المراد يهما المصدر ومعنى سوى منتصفا يستوي مسافته إلينا وإليك وهو في النعت كقولهم : قوم عدى في الشذوذ وقرأ ابن عامر و عاصم و حمزة و ويعقوب بالضم وقيل في ( يوم الزينة ) يوم عاشوراء أو يوم النيروز أو يوم عيد كان لهم في كل عام وإنما عينه ليظهر الحق ويزهق الباطل على رؤوس الأشهاد ويشيع ذلك في الأقطار { وأن يحشر الناس ضحى } عطف على الـ { يوم } أو { الزينة } وقرئ
على البناء للفاعل بالتاء على خطاب فرعون والياء على أن فيه ضمير الـ { يوم } أو ضمير { فرعون } على أن الخطاب لقومه

60 - { فتولى فرعون فجمع كيده } ما يكاد به يعني السحرة وآلاتهم { ثم أتى } الموعد

61 - { قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا } بأن تدعوا آياته سحرا { فيسحتكم بعذاب } فيهلككم ويستأصلكم وبه قرأ حمزة و والكسائي و حفص و يعقوب بالضم من الاسحات وهو لغة نجد وتميم والسحت لغة الحجاز { وقد خاب من افترى } كما خاب فرعون فإنه افترى واحتال ليبقى الملك عليه فلم ينفعه

62 - { فتنازعوا أمرهم بينهم } أي تنازعت السحرة في أمر موسى حين سمعوا كلامه فقال بعضهم : ليس هذا من كلام السحرة { وأسروا النجوى } بأن موسى إن غلبنا اتبعناه أو تنازعوا واختلفوا فيما يعارضون به موسى وتشاوروا في السر وقيل الضمير لفرعون وقومه وقوله :

63 - { قالوا إن هذان لساحران } تفسيره لـ { أسروا النجوى } كأنهم تشاوروا في تلفيقه حذرا أن يغلبا فيتبعهما الناس و { هذان } اسم إن على لغة ب لحرث بن كعب فإنهم جعلوا الألف للتثنية وأعربوا المثنى تقديرا وقيل اسمها ضمير الشأن المحذوف و { هذان لساحران } خبرها وقيل { إن } بمعنى نعم وما بعدها مبتدأ وخبر وفيهما إن اللام لا تدخل خبر المبتدأ وقيل أصله إنه هذان لهما ساحران فحذف الضمير وفيه أن المؤكد باللام لا يليق به الحذف وقرأ أبو عمرو ( أن هذين ) وهو ظاهر و ابن كثير و حفص { إن هذان } على أنها هي المخففة واللام هي الفارقة أو النافية واللام بمعنى إلا { يريدان أن يخرجاكم من أرضكم } بالاستيلاء عليها { بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى } بمذهبكم الذي هو أفضل المذاهب بإظهار مذهبهما وإعلاء دينهما لقوله { إني أخاف أن يبدل دينكم } وقيل أرادوا أهل طريقتكم وهم بنو إسرائيل فإنهم كانوا أرباب علم فيما بينهم لقول موسى { أرسل معنا بني إسرائيل } وقيل الطريقة اسم لوجوه القوم وأشرافهم من حيث إنهم قدوة لغيرهم

64 - { فأجمعوا كيدكم } فأزمعوه واجعلوه مجمعا عليه لا يتخلف عنه واحد منكم وقرأ أبو عمرو { فأجمعوا } ويعضده قوله { فجمع كيده } والضمير في { قالوا } إن كان للسحرة فهو قول بعضهم لبعض { ثم ائتوا صفا } مصطفين لأنه أهيب في صدور الرائين قيل كانوا سبعين ألفا مع كل واحد منهم جبل وعصا وأقبلوا عليه إقبالة واحدة { وقد أفلح اليوم من استعلى } فاز بالمطلوب من غلب وهو اعتراض

65 - { قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى } أي بعد ما أتوا مراعاة للأدب و { أن } بما بعده منصوب بفعل مضمر أو مرفوع بخبرية محذوف أي اختر إلقاءك أولا أو إلقاءنا أو الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا

66 - { قال بل ألقوا } مقابلة أدب بأدب وعدم مبالاة بسحرهم وإسعافا إلى ما أوهموا من الميل إلى البدء بذكر الأول في شقهم وتغيير النظم إلى وجه أبلغ ولأن يبرزوا ما معهم ويستنفذوا أقصى وسعهم ثم يظهر الله سلطانه فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه { فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى } أي فألقوا فإذا حبالهم وعصيهم وهي للمفاجأة والتحقيق أنها أيضا ظرفية تستدعي متعلقا ينصبها وجملة تضاف إليها لكنها خصت بأن يكون المتعلق فعل المفاجأة والجملة ابتدائية والمعنى : فألقوا ففاجأ موسى عليه الصلاة و السلام وقت تخييل سعي حبالهم وعصيهم من سحرهم وذلك بأنهم لطخوها بالزئبق فلما ضربت عليها الشمس اضطربت فخيل إليه أنها تتحرك وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان وروح ( تخيل ) بالتاء على إسناده إلى ضمير الحبال والعصي وإبدال أنها { تسعى } منه بدل الاشتمال وقرئ { يخيل } بالياء على إسناده إلى الله تعالى و ( تخيل ) بمعنى تتخيل

67 - { فأوجس في نفسه خيفة موسى } فأضمر فيها خوفا من مفاجأته على ما هو مقتضى الجبلة البشرية أو من أن يخالج الناس شك فلا يتبعوه

68 - { قلنا لا تخف } ما توهمت { إنك أنت الأعلى } تعليل للنهي وتقرير لغلبته مؤكدا بالاستئناف وحرف التحقيق وتكرير الضمير وتعريف الخبر ولفظ العلو الدال على الغلبة الظاهرة وصيغة التفضيل

69 - { وألق ما في يمينك } أبهمه ولم يقل عصاك تحقيرا لها أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم وألق العويدة التي في يدك أو تعظيما لها أي لاتحتفل بكثرة هذه الأجرام وعظمها فإن في يمينك ما هو أعظم منها أثرا فألقه { تلقف ما صنعوا } تبتلعه بقدر الله تعالى وأصله تتلقف فحذفت إحدى التاءين وتاء المضارعة تحتمل التأنيث والخطاب على إسناد الفعل إلى المسبب وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان بالرفع على الحال أو الاستنئاف و حفص بالجزم والتخفيف على أنه من لقفته بمعنى تلقفته { إنما صنعوا } إن الذي زوروا وافتعلوا { كيد ساحر } وقرئ بالنصب على أن ما كافة وهو مفعول صنعوا وقرأ حمزة و الكسائي ( سحر ) بمعنى ذي سحر أو بتسمية الساحر سحرا على المبالغة أو بإضافة الكيد إلى السحر للبيان كقولهم : علم فقه وإنما وحد الساحر لأن المراد به الجنس المطلق ولذلك قال : { ولا يفلح الساحر } أي هذا الجنس وتنكير الأول لتنكير المضاف كقول العجاج :
( يوم ترى النفوس ما أعدت ... في سعي دنيا طالما قد مدت )
كأنه قيل إنما صنعوا كيد سحري { حيث أتى } حيث كان وأين أقبل

70 - { فألقي السحرة سجدا } أي فألقى فتلقفت فتحقق عند السحرة أنه ليس بسحر وإنما هو آية من آيات الله ومعجزة من معجزاته فألقاهم ذلك على وجوههم سجدا لله توبة عما صنعوا وإعتابا وتعظيما لما رأوا { قالوا آمنا برب هارون وموسى } قدم هارون لكبر سنه أو لروي الآية أو لأن فرعون ربى موسى في صغره فلو اقتصر على موسى أو قدم ذكره لربما توهم أن المراد فرعون وذكر هارون على الاستتباع روي أنهم رأوا في سجودهم الجنة ومنازلهم فيها

71 - { قال آمنتم له } أي لموسى واللام لتضمن الفعل معنى الاتباع وقرأ قنبل و حفص { آمنتم له } على الخبر والباقون على الاستفهام { قبل أن آذن لكم } في الإيمان له { إنه لكبيركم } لعظيمكم في فنكم وأعلمكم به أو لأستاذكم { الذي علمكم السحر } وأنتم تواطأتم على ما فعلتم { فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف } اليد اليمنى والرجل اليسرى ومن ابتدائية كأن القطع ابتدأ من مخالفة العضو العضو وهي مع المجرور بها في حيز النصب على الحال أي لأقطعنها مختلفات وقرئ ( لأقطعن ) ( و لأصلبن ) بالتخفيف { ولأصلبنكم في جذوع النخل } شبه تمكن المصلوب بالجذع بتمكن المظروف بالظرف وهو أول من صلب { ولتعلمن أينا } يريد نفسه وموسى لقوله { آمنتم له } واللام مع الإيمان في كتاب الله لغير الله أراد به توضيع موسى والهزء به فإنه لم يكن من التعذيب في شيء وقيل رب موسى الذي آمنوا به { أشد عذابا وأبقى } وأدوم عقابا

72 - { قالوا لن نؤثرك } لن نختارك { على ما جاءنا } موسى به ويجوز أن يكون الضمير فيه لما { من البينات } المعجزات الواضحات { والذي فطرنا } عطف على ما جاءنا أو قسم { فاقض ما أنت قاض } ما أنت قاضيه أي صانعه أو حاكم به { إنما تقضي هذه الحياة الدنيا } إنما تصنع ما تهواه أو تحكن ما تراه في هذه الدنيا { والآخرة خير وأبقى } فهو كالتعليل لما قبله والتمهيد لما بعده قرئ { تقضي هذه الحياة الدنيا } كقولك : صيم يوم الجمعة

73 - { إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا } من الكفر والمعاصي { وما أكرهتنا عليه من السحر } من معارضة المعجزة روي أنهم قالوا لفرعون أرنا موسى نائما فوجدوه تحرسها العصا فقالوا ما هذا بسحر فإن الساحر إذا نام بطل سحره فأبى إلا أن يعارضوه { والله خير وأبقى } جزاء أو خير ثوابا وأبقى عقابا

74 - { إنه } إن الأمر { من يأت ربه مجرما } بأن يموت على كفره وعصيانه { فإن له جهنم لا يموت فيها } فيستريح { ولا يحيا } حياة مهنأة

75 - { ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات } في الدنيا { فأولئك لهم الدرجات العلى } المنازل الرفيعة

76 - { جنات عدن } بدل من الدرجات { تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } حال والعامل فيها معنى الإشارة أو الاستقرار { وذلك جزاء من تزكى } تطهر من أدناس الكفر والمعاصي والآيات الثلاث يحتمل أن تكون من كلام السحرة وأن تكون ابتداء كلام من الله تعالى

77 - { ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي } أي من مصر { فاضرب لهم طريقا } فاجعل لهم من قولهم ضرب له في ماله سهما أو فاتخذ من ضرب اللبن إذا عمله { في البحر يبسا } يابسا مصدر وصف به يقال يبس يبسا ويبسا كسقم سقما وسقما ولذلك وصف به المؤنث فقيل شاة يبس للتي جف لبنها وقرىء { يبسا } وهو إما مخفف منه أو وصف على فعل كصعب أو جمع يابس كصحب وصف به الواحد مبالغة كقوله :
( كأن قتود رحلي حين ضمت ... حوالب غرزا ومعي جياعا ) أو لتعدده معنى فإنه جعل لكل سبط منهم طريقا { لا تخاف دركا } حال من المأمور أي آمنا من أن يدرككم العدو أو صفة ثانية والعائد محذوف وقرأ حمزة ( لا تخف ) على أنه جواب الأمر { ولا تخشى } استئناف أي وأنت لا تخشى أو عطف عليه والألف فيه للإطلاق كقولهم { وتظنون بالله الظنونا } أو حال بالواو والمعنى ولا تخشى الغرق

78 - { فأتبعهم فرعون بجنوده } وذلك أن موسى عليه السلام خرج بهم أول الليل فأخبر فرعون بذلك فقص أثرهم والمعنى فأتبعهم فرعون نفسه ومعه جنوده فحذف المفعول الثاني وقيل { فأتبعهم } بمعنى فأتبعهم ويؤيده القراءة به والباء للتعدية وقيل الباء مزيدة والمعنى : فاتبعهم جنوده وذادهم خلفهم { فغشيهم من اليم ما غشيهم } الضمير لجنوده أوله ولهم وفيه مبالغة و وجازة أي : غشيهم ما سمعت قصته ولا يعرف كنهه إلا الله وقرئ ( فغشاهم ما غشاهم ) أي غطاهم ما غطاهم والفاعل هو الله تعالى أو ما غشاهم أو فرعون لأنه الذي ورطهم للهلاك

79 - { وأضل فرعون قومه وما هدى } أي أضلهم في الدين وما هداهم وهو تهكم به في قوله { وما أهديكم إلا سبيل الرشاد } أو أضلهم في البحر وما نجا

80 - { يا بني إسرائيل } خطاب لهم بعد إنجائهم من البحر وإهلاك فرعون على إضمار قلنا أو للذين منهم في عهد النبي عليه الصلاة و السلام بما فعل بآبائهم { قد أنجيناكم من عدوكم } فرعون وقومه { وواعدناكم جانب الطور الأيمن } بمناجاة موسى وإنزال التوراة وإنما عد المواعدة إليهم وهي لموسى أو له وللسبعين المختارين للملابسة { ونزلنا عليكم المن والسلوى } يعني في التيه

81 - { كلوا من طيبات ما رزقناكم } لذائذه أو حلالاته وقرأ حمزة و الكسائي ( أنجيتكم ) ( وواعدتم ) و ( رزقتكم ) على التاء وقرئ ( ووعدتكم ) ( ووعدناكم ) والأيمن بالجر على الجوار مثل : حجر ضب خرب { ولا تطغوا فيه } فيما رزقناكم بالإخلال بشكره والتعدي لما حد الله لكم فيه كالسرف والبطر والمنع عن المستحق { فيحل عليكم غضبي } فيلزمكم عذابي ويجب لكم من حل الدين إذا وجب أداؤه { ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى } فقد تردى وهلك وقيل وقع في الهاوية وقرأ الكسائي ( يحل ) و { يحلل } بالضم من حل يحل إذا نزل

82 - { وإني لغفار لمن تاب } عن الشرك { وآمن } بما يجب الإيمان به { وعمل صالحا ثم اهتدى } ثم استقام على الهدى المذكور

83 - { وما أعجلك عن قومك يا موسى } سؤال عن سبب العجلة يتضمن إنكارها من حيث إنها نقيصة في نفسها انضم إليها إغفال القوم وإيهام التعظم عليهم فلذلك أجاب موسى عن الأمرين وقدم جواب الإنكار لأنه أهم

84 - { قال } موسى { هم أولاء على أثري } أي ما تقدمتهم إلا بخطى يسيرة لا يعتد بها عادة وليس بيني وبينهم إلا مسافة قريبة يتقدم بها الرفقة بعضهم بعضا { وعجلت إليك رب لترضى } فإن المسارعة إلى امتثال أمرك والوفاء بعهدك توجب مرضاتك

85 - { قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك } ابتليناهم بعبادة العجل بعد خروجك من بينهم وهم الذين خلفهم مع هارون وكانوا ستمائة ألف ما نجا من عبادة العجل منهم إلا اثنا عشر ألفا { وأضلهم السامري } باتخاذ العجل والدعاء إلى عبادته وقرئ { وأضلهم } أي أشدهم ضلالا لأنه كان ضالا مضلا وإن صح أنهم أقاموا على الدين بعد ذهابه عشرين ليلة وحسبوها بأيامها أربعين وقالوا قد أكملنا العدة ثم كان أمر العجل وإن هذا الخطاب كان له عند مقدمه إذ ليس في الآية ما يدل عليه كان ذلك إخبارا من الله له عن المترقب بلفظ الواقع على عادته فإن أصل وقوع الشيء أن يكون في علمه ومقتضى مشيئته و { السامري } منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها السامرة وقيل كان علجا من كرمان وقيل من أهل باجرما واسمه موسى بن ظفر وكان منافقا

86 - { فرجع موسى إلى قومه } بعد ما استوفى الأربعين وأخذ التوراة { غضبان } عليهم { أسفا } حزينا بما فعلوا { قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا } بأن يعطيكم التوراة فيها هدى ونور { أفطال عليكم العهد } أي الزمان يعني زمان مفارقته لهم { أم أردتم أن يحل عليكم } يجب عليكم { غضب من ربكم } بعبادة ما هو مثل في الغباوة { فأخلفتم موعدي } وعدكم إياي بالثبات على الإيمان بالله والقيام على ما أمرتكم به وقيل هو من أخلفت وعده إذا وجد الخلف فيه أي فوجدتم الخلف في وعدي لكم بالعود بعد الأربعين وهو لا يناسب الترتيب على الترديد ولا على الشق الذي يليه ولا جوابهم له

87 - { قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا } بأن ملكنا أمرنا إذا لو خلينا وأمرنا ولم يسول لنا السامري لما أخلفناه وقرأ نافع و عاصم { بملكنا } بالفتح و حمزة و الكسائي بالضم وثلاثتها في الأصل لغات في المصدر ملكت الشيء { ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم } حملنا أحمالا من حلى القبط التي استعرناها منهم حين هممنا بالخروج من مصر باسم العرس وقيل استعاروا لعيد كان لهم ثم لمن يردوا عند الخروج مخافة أن يعلموا به وقيل هي ما ألقاه البحر على الساحل بعد اغراقهم فاخذوه ولعلهم سموها أوزارا لأنها آثام فإن الغنائم لم تكن تحل بعد أو لأنهم كانوا مستأمنين وليس للمستأمن أن يأخذ مال الحربي { فقذفناها } أي في النار { فكذلك ألقى السامري } أي ما كان معه منها روي أنهم لما حسبوا أن العدة قد كملت قال لهم السامر : إنما أخلف موسى ميعادكم لما معكم من حلى القوم وهو حرام عليكم فالرأي أن نحفر حفيرة ونسجر فيها نارا ونقذف كل ما معنا فيها ففعلوا وقرأ أبو عمرو و حمزة و الكسائي و أبو بكر و روح ( حملنا ) بالفتح والتخفيف

88 - { فأخرج لهم عجلا جسدا } من تلك الحلى المذابة { له خوار } صوت العجل { فقالوا } يعني السامري ومن افتتن به أول ما رآه { هذا إلهكم وإله موسى فنسي } أي فنسيه موسى وذهب يطلبه عند الطور أو فنسي السامري أن ترك ما كان عليه من إظهار الإيمان

89 - { أفلا يرون } أفلا يعلمون { ألا يرجع إليهم قولا } أنه لا يرجع إليهم كلاما ولا يرد عليهم جوابا وقرئ { يرجع } بالنصب وفيه ضعف لأن أن الناصبة لا تقع بعد أفعال اليقين { ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا } ولا يقدر على إنفاعهم وإضرارهم

90 - { ولقد قال لهم هارون من قبل } من قبل رجوع موسى عليه الصلاة و السلام أو قول السامري كأنه أول ما وقع عليه بصره حين طلع من الحفرة توهم ذلك وبادر تحذيرهم { يا قوم إنما فتنتم به } بالعجل { وإن ربكم الرحمن } لا غير { فاتبعوني وأطيعوا أمري } في الثبات على الدين

91 - { قالوا لن نبرح عليه } على العجل وعبادته { عاكفين } مقيمين { حتى يرجع إلينا موسى } وهذا الجواب يؤيده الوجه الأول

92 - { قال يا هارون } أي قال له موسى حين رجع { ما منعك إذ رأيتهم ضلوا } بعبادة العجل

93 - { أن لا تتبعن } أن تتبعني في الغضب في الله والمقاتلة مع من كفر به أو أن تأتي عقبي وتلحقني و ( لا ) مزيدة كما في قوله { ما منعك أن لا تسجد } { أفعصيت أمري } بالصلابة في الدين والمحاماة عليه

94 - { قال يا ابن أم } خص الأم استعطافا وترقيقا وقيل لأنه كان أخاه من الأم والجمهور على أنهما كانا من أب وأم { لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي } أي بشعر رأسي قبض عليهما يجره إليه من شدة غيظه وفرط غضبه لله وكان عليه الصلاة و السلام حديدا خشنا متصلبا في كل شيء فلم يتمالك حين رآهم يعبدن العجل { إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل } لو قاتلت أو فارقت بعضهم ببعض { ولم ترقب قولي } حين قلت { اخلفني في قومي وأصلح } فإن الإصلاح كان في حفظ الدهماء والمداراة لهم أن ترجع إليهم فتتدارك الأمر برأيك

95 - { قال فما خطبك يا سامري } أي ثم أقبل عليه وقال له منكرا ما خطبك أي ما طلبك له وما الذي حملك عليه وهو مصدر خطب الشيء إذا طلبه

96 - { قال بصرت بما لم يبصروا به } و قرأ حمزة و الكسائي بالتاء على الخطاب أي علمت بما لم تعلموه وفطنت لما لم تفطنوا له وهو أن الرسول الذي جاءك روحاني لا يمس أثره شيئا إلا أحياه أو رأيت ما لم تروه وهو أن جبريل عليه الصلاة و السلام جاءك على فرس الحياة وقيل إنما عرفه لأن أمه ألقته حين ولدته خوفا من فرعون وكان جبريل يغذوه حتى استقل { فقبضت قبضة من أثر الرسول } من تربة موطئه والقبضة المرة من القبض فأطلق على المقبوض كضرب الأمير وقرئ بالصاد والأول للأخذ بجميع الكف والثاني للأخذ بأطراف الأصابع ونحوهما الخضم والقضم والرسول جبريل عليه الصلاة و السلام ولعله لم يسمه لأنه لم يعرف أنه جبريل أو أراد أن ينبه على الوقت وهو حين أرسل إليه ليذهب به إلى الطور { فنبذتها } في الحلي المذاب أو في جوف العجل حتى حيي { وكذلك سولت لي نفسي } زينته وحسنته لي

97 - { قال فاذهب فإن لك في الحياة } عقوبة على ما فعلت { أن تقول لا مساس } خوفا من أن يمسك أحد فتأخذك الحمى ومن مسك فتحامى الناس ويتحاموك وتكون طريدا وحيدا كالوحش النافر وقرئ { لا مساس } كفجار وهو علم للمسة { وإن لك موعدا } في الآخرة { لن تخلفه } لن يخلفكه الله وينجزه لك في الآخرة بعد ما عاقبك في الدنيا وقرأ ابن كثير و البصريان بكسر اللام أي لن تخلف الواعد إياه وسيأتيك لامحالة فحذف المفعول الأول لأن المقصود هو الموعد ويجوز أن يكون من أخلفت الموعد إذا وجدته خلفا وقرئ بالنون على حكاية قول الله { وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا } ظللت على عبادته مقيما فحذف اللام الأولى تخفيفا وقرئ بكسر الظاء على نقل حركة اللام إليها { لنحرقنه } أي بالنار ويؤيده قراءة { لنحرقنه } أو بالمبرد على أنه مبالغة في حرق إذ برد بالمبرد ويعضده قراءة { لنحرقنه } { ثم لننسفنه } ثم لنذرينه رمادا أو مبرودا وقرئ بضم السين { في اليم نسفا } فلا يصادف منه شيء والمقصود من ذلك زيادة عقوبته وإظهار غباوة المفتتنين به لمن له أدنى نظر

98 - { إنما إلهكم } المستحق لعبادتكم { الله الذي لا إله إلا هو } إذ لا أحد يماثله أو يدانيه في كمال العلم والقدرة { وسع كل شيء علما } وسع علمه كل ما يصح أن يعلم لا العجل الذي يصاغ ويحرق وإن كان حيا في نفسه كان مثلا في الغباوة وقرئ { وسع } فيكون انتصاب { علما } على المفعولية لأنه وإن انتصب على التمييز في المشهورة لكنه فاعل في المعنى فلما عدي الفعل بالتضعيف إلى المفعولين صار مفعولا

99 - { كذلك } مثل ذلك الاقتصاص يعني اقتصاص قصة موسى عليه الصلاة و السلام { نقص عليك من أنباء ما قد سبق } من أخبار الأمور الماضية والأمم الدارجة تبصرة لك وزيادة في علمك وتكثيرا لمعجزاتك وتنبيها وتذكيرا للمستبصرين من أمتك { وقد آتيناك من لدنا ذكرا } كتابا مشتملا على هذه الأقاصيص والأخبار حقيقا بالتفكر والاعتبار والتنكير فيه للتعظيم وقيل ذكرا جميلا وصيتا عظيما بين الناس

100 - { من أعرض عنه } عن الذكر الذي هو القرآن الجامع لوجوه السعادة والنجاة وقيل عن الله { فإنه يحمل يوم القيامة وزرا } عقوبة ثقيلة فادحة على كفره وذنوبه سماها { وزرا } تشبيها في ثقلها على المعاقب وصعوبة احتمالها بالحمل الذي يفدح الحامل وينقض ظهره أو إثما عظيما

101 - { خالدين فيه } في الوزر أو في حمله والجمع فيه والتوحيد في أعرض للحمل على المعنى واللفظ { وساء لهم يوم القيامة حملا } أي بئس لهم ففيه ضمير مبهم يفسره { حملا } والمخصوص بالذم محذوف أي ساء حملا وزرهم واللام في { لهم } للبيان كما في { هيت لك } ولو جعلت { ساء } بمعنى أحزن والضمير الذي فيه للوزر أشكل أمر اللام ونصب { حملا } ولم يفد مزيد معنى

102 - { يوم ينفخ في الصور } وقرأ أبو عمرو بالنون على إسناد النفخ إلى الآمر به تعظيما له أو للنافخ قرئ بالياء المفتوحة على أن فيه ضمير الله أو ضمير إسرافيل وإن لم يجر ذكره لأنه المشهور بذلك وقرئ { في الصور } وهو جمع صورة وقد سبق بيان ذلك { ونحشر المجرمين يومئذ } وقرئ ( ويحشر المجرمون ) { زرقا } زرق العيون وصفوا بذلك لأن الزرقة أسوأ ألوان العين وأبغضها إلى العرب لأن الروم كانوا أعدى أعدائهم وهم زرق العين ولذلك قالوا : صفة العدو أسود الكبد أصهب السبال أزرق العين أو عميا فإن حدقة الأعمى تزراق

103 - { يتخافتون بينهم } يخفضون أصواتهم لما يملأ صدورهم من الرعب والهول والخفت خفض الصوت وإخفاؤه { إن } ما { لبثتم إلا عشرا } أي في الدنيا يستقصرون مدة لبثهم فيها لزوالها أو لاستطالتهم مدة الآخرة أو لتأسفهم عليها لما عاينوا الشدائد وعلموا أنهم استحقوها على إضاعتها في قضاء الأوطار واتباع الشهوات أو في القبر لقوله { ويوم تقوم الساعة } إلى آخر الآيات

104 - { نحن أعلم بما يقولون } وهو مدة لبثهم { إذ يقول أمثلهم طريقة } أعدلهم رأيا أو عملا { إن لبثتم إلا يوما } استرجاح لقول من يكون أشد تقالا منهم

105 - { ويسألونك عن الجبال } عن مآل أمرها وقد سأل عنها رجل من ثقيف { فقل } لهم { ينسفها ربي نسفا } يجعلها كالرمل ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها

106 - { فيذرها } فيذر مقارها أو الأرض وإضمارها من غير ذكر لدلالة { الجبال } عليها كقوله تعالى : { ما ترك عليها من دابة } { قاعا } خاليا { صفصفا } مستويا كأن أجزاءها على صف واحد

107 - { لا ترى فيها عوجا ولا أمتا } اعوجاجا ولا نتوا إن تأملت فيها بالقياس الهندسي وثلاثتها أحوال مترتبة فالأولان باعتبار الإحساس والثالث باعتبار المقياس ولذلك ذكر العوج بالكسر وهو يخص بالمعاني والأمت وهو النتوء اليسير وقيل لا ترى استئناف مبين للحالين

108 - { يومئذ } أي يوم إذ نسفت على إضافة اليوم إلى وقت النسف ويجوز أن يكون بدلا ثانيا من يوم القيامة { يتبعون الداعي } داعي الله إلى المحشر قيل هو إسرافيل يدعو الناس قائما على صخرة بيت المقدس فيقلبون من كل أوب إلى صوبه { لا عوج له } لا يعوج له مدعو ولا يعدل عنه { وخشعت الأصوات للرحمن } خفضت لمهابته { فلا تسمع إلا همسا } صوتا خفيا ومنه الهميس لصوت أخفاف الإبل وقد فسر الهمس بخفق أقدامهم ونقلها إلى المحشر

109 - { يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن } الاستثناء من الشفاعة أي إلا شفاعة من أذن له أو من أعم المفاعيل أي إلا من أذن في أن يشفع له فإن الشفاعة تنفعه فـ { من } على الأول مرفوع على البدلية وعلى الثاني منصوب على المفعولية و { أذن } يحتمل أن يكون من الاذن ومن الأذن { ورضي له قولا } أي ورضي لمكانه عند الله قوله في الشفاعة أو رضي لأجله قول الشافع في شأنه أو قوله لأجله وفي شأنه

110 - { يعلم ما بين أيديهم } ما تقدمهم من الأحوال { وما خلفهم } وما بعدهم مما يستقبلونه { ولا يحيطون به علما } ولا يحيط علمهم بمعلوماته وقيل بذاته وقيل الضمير لأحد الموصولين أو لمجموعهما فإنهم لم يعلموا جميع ذلك ولا تفصيل ما علموا منه

111 - { وعنت الوجوه للحي القيوم } ذلت وخضعت له خضوع العناة وهم الأسارى في يد الملك القهار وظاهرها يقتضي العموم ويجوز أن يراد بها وجوه المجرمين فتكون اللام بدل الإضافة ويؤيده { وقد خاب من حمل ظلما } وهو يحتمل الحال والاستئناف لبيان ما لأجله عنت وجوههم

112 - { ومن يعمل من الصالحات } بعض الطاعات { وهو مؤمن } إذ الإيمان شرط في صحة الطاعات وقبول الخيرات { فلا يخاف ظلما } منع ثواب مستحق بالوعد { ولا هضما } ولا كسرا منه بنقصان أو جزاء ظلم وهضم لأنه لم يظلم غيره ولم يهضم حقه وقرئ ( فلا يخف ) على النهي

113 - { وكذلك } عطف على كذلك نقص أي مثل ذلك الإنزال أو مثل إنزال هذه الآيات المتضمنة للوعيد { أنزلناه قرآنا عربيا } كله على هذه الوتيرة { وصرفنا فيه من الوعيد } مكررين فيه آيات الوعيد { لعلهم يتقون } المعاصي فتصير التقوى لهم ملكة { أو يحدث لهم ذكرا } عظة واعتبارا حين يسمعونها فتثبطهم عنها ولهذه النكتة أسند التقوى إليهم والإحداث إلى القرآن

114 - { فتعالى الله } في ذاته وصفاته عن مماثلة المخلوقين لا يماثل كلامه كلامهم كما لا تماثل ذاته ذاتهم { الملك } النافذ أمره ونهيه الحقيق بأن يرجى وعده ويخشى وعيده { الحق } في ملكوته يستحقه لذاته أو الثابت في ذاته وصفاته { ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه } نهي عن الاستعجال في تلقي الوحي من جبريل عليه السلام ومساوقته في القراءة حتى يتم وحيه بعد ذكر الإنزال على سبيل الاستطراد وقيل نهي عن تبليغ ما كان مجملا قبل أن يأتي بيانه { وقل رب زدني علما } أي سل الله زيادة العلم بدل الاستعجال فإن ما أوحي إليك تناله لا محالة

115 - { ولقد عهدنا إلى آدم } ولقد أمرناه يقال تقدم الملك إليه وأوعز إليه وعزم عليه وعهد إليه إذ أمره واللام جواب قسم محذوف وإنما عطف قصة آدم على قوله { وصرفنا فيه من الوعيد } للدلالة على أن أساس بني آدم على العصيان وعرقهم راسخ في النسيان { من قبل } من قبل هذا الزمان { فنسي } العهد ولم يعن به حتى غفل عنه أو ترك ما وصي به من الاحتراز عن الشجرة { ولم نجد له عزما } تصميم رأي وثباتا على الأمر إذ لو كان ذا عزيمة وتصلب لم يزله الشيطان ولم يستطع تغريره ولعل ذلك كان في بدء أمره قبل أن يجرب الأمور ويذوق شريها وأريها وعن النبي صلى الله عليه و سلم [ لو وزنت أحلام بني آدم بحلم آدم لرجح حلمه ] وقد قال الله تعالى { ولم نجد له عزما } وقيل عزما على الذنب لأنه أخطأ ولم يتعمده ونجد إن كان من الوجود الذي بمعنى العلم فله عزما مفعولاه وإن كان من الوجود المناقض للعدم فله حال من عزما أو متعلق بنجد==

4.  مجلد 4.تفسير البيضاوي البيضاوي

116 - { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } مقدر باذكر أي اذكر حاله في ذلك الوقت ليتبين لك أنه نسي ولم يكن من أولي العزيمة والثبات { فسجدوا إلا إبليس } قد سبق القول فيه { أبى } جملة مستأنفة لبيان ما منعه من السجود وهو الاستكبار وعلى هذا لا يقدر له مفعول مثل السجود المدلول عليه بقوله { فسجدوا } لأن المعنى أظهر الإباء عن المطاوعة

117 - { فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما } فلا يكونن سببا لإخراجكما والمراد نهيهما عن أن يكون بحيث يتسبب الشيطان إلى إخراجهما { من الجنة فتشقى } وأفرده بإسناد الشقاء إليه بعد إشراكهما في الخروج اكتفاء باستلزام شقائه شقاءها من حيث إنه قيم عليها ومحافظة على الفواصل أو لأن المراد بالشقاء التعب في طلب المعاش وذلك وظيفة الرجال ويؤيده قوله :

118 - { إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى }

119 - { وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى } فإنه بيان وتذكير لما له في الجنة من أسباب الكفاية وأقطاب الكفاف التي هي الشبع والري والكسوة والسكن مستغنيا عن اكتسابها والسعي في تحصيل أغراض ما عسى ينقطع ويزول منها بذكر نقائضها ليطرق سمعه بأصناف الشقوة المحذر عنها والعاطف وإن ناب عن أن لكنه ناب من حيث إنه عامل لا من حيث إنه حرف تحقيق فلا يمتنع دخوله على أن امتناع دخول إن عليه وقرأ نافع و أبو بكر ( وإنك لا تظمأ ) بكسر الهمزة والباقون بفتحها

120 - { فوسوس إليه الشيطان } فانتهى إليه وسوسته { قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد } الشجرة التي من أكل منها خلد ولم يمت أصلا فأضافها إلى الخلد أي الخلود لأنها سببه بزعمه { وملك لا يبلى } لا يزول ولا يضعف

121 - { فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة } أخذا يلزقان الورق على سوآتهما للتستر وهو ورق التين { وعصى آدم ربه } بأكل الشجرة { فغوى } فضل عن المطلوب وخاب حيث طلب الخلد بأكل الشجرة أو عن المأمور به أو عن الرشد حيث اغتر بقول العدو وقرئ
( فغوى ) من غوى الفصيل إذا أتخم من اللبن وفي النعي عليه بالعصيان والغواية مع صغر زلته تعظيم للزلة وزجر بليغ لأولاده عنها

122 - { ثم اجتباه ربه } اصطفاه وقربه بالحمل على التوبة والتوفيق لها من أجبى إلى كذا فاجتبيته مثل جليت على العروس فاجتليتها وأصل معنى الكلمة الجمع { فتاب عليه } فقبل توبته لما تاب { وهدى } إلى الثبات على التوبة والتثبت بأسباب العصمة

123 - { قال اهبطا منها جميعا } الخطاب لآدم وحواء أو له ولإبليس لما كانا أصلي الذرية خاطبهما مخاطبتهم فقال : { بعضكم لبعض عدو } لأمر المعاش كما عليه الناس من التجاذب والتحارب أو لاختلال حال كل من النوعين بواسطة الآخر ويؤيد الأول قوله : { فإما يأتينكم مني هدى } كتاب ورسول { فمن اتبع هداي فلا يضل } في الدنيا { ولا يشقى } في الآخرة

124 - { ومن أعرض عن ذكري } عن الهدى الذاكر لي والداعي إلى عبادتي { فإن له معيشة ضنكا } ضيقا مصدر وصف به ولذلك يستوي فيه المذكر والمؤنث وقرئ ( ضنكى ) كسكرى وذلك لأن مجامع همته ومطامح نظره تكون إلى أعراض الدنيا متهالكا على ازديادها خائفا على انتقاصها بخلاف المؤمن الطالب للآخرة مع أنه تعالى قد يضيق بشؤم الكفر ويوسع ببركة الإيمان كما قال { وضربت عليهم الذلة والمسكنة } { ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل } { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا } الآيات وقيل هو الضريع والزقوم في النار وقيل عذاب القبر { ونحشره } قرئ بسكون الهاء على لفظ الوقف وبالجزم عطفا على محل { فإن له معيشة ضنكا } لأنه جواب الشرط { يوم القيامة أعمى } أعمى البصر أو القلب ويؤيد الأول

125 - { قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا } وقد أمالهما حمزة و الكسائي لأن الألف منقلبة من الياء وفرق أبو عمرو بأن الأول رأس الآية ومحل الوقف فهو جدير بالتغيير

126 - { قال كذلك } أي مثل ذلك فعلت ثم تفسره فقال : { أتتك آياتنا } واضحة نيرة { فنسيتها } فعميت عنها وتركتها غير منظور إليها { وكذلك } ومثل تركك إياها { اليوم تنسى } تترك في العمى والعذاب

127 - { وكذلك نجزي من أسرف } بالانهماك في الشهوات والإعراض عن الآيات { ولم يؤمن بآيات ربه } بل كذب بها وخالفها { ولعذاب الآخرة } وهو الحشر على العمى وقيل عذاب النار أي وللنار بعد ذلك { أشد وأبقى } من ضنك العيش أو منه ومن العمى ولعله إذا دخل النار زال عماه ليرى محله وحاله أو مما فعله من ترك الآيات والكفر بها

128 - { أفلم يهد لهم } مسند إلى الله تعالى أو الرسول أو ما دل عليه { كم أهلكنا قبلهم من القرون } أي إهلاكنا إياهم أو الجملة بمضمونها والفعل على الأولين معلق يجري مجرى أعلم ويدل عليه القراءة بالنون { يمشون في مساكنهم } ويشاهدون آثار هلاكهم { إن في ذلك لآيات لأولي النهى } لذوي العقول الناهية عن التغافل والتعامي

129 - { ولولا كلمة سبقت من ربك } وهي العدة بتأخير عذاب هذه الأمة إلى الآخرة { لكان لزاما } لكان مثل ما نزل بعاد وثمود لازما لهؤلاء الكفرة وهو مصدر وصف به أو اسم آلة سمي به اللازم لفرط لزومه كقولهم لزاز خصم { وأجل مسمى } عطف على كلمة أي ولولا العدة بتأخير العذاب وأجل مسمى لأعمارهم أو لعذابهم وهو يوم القيامة أو يوم بدر لكان العذاب لزاما والفصل للدلالة على استقلال كل منهما بنفي لزوم العذاب ويجوز عطفه على المستكن في كان أي لكان الأخذ العاجل وأجل مسمى لازمين له

130 - { فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك } وصل وأنت حامد لربك على هدايته وتوفيقه أو نزهه عن الشرك وسائر ما يضيفون إليه من النقائص حامدا له على ما ميزك بالهدى معترفا بأنه المولى للنعم كلها { قبل طلوع الشمس } يعنى الفجر { وقبل غروبها } يعني الظهر والعصر لأنهما في آخر النهار أو العصر وحده { ومن آناء الليل } ومن ساعاته جمع أنا بالكسر والقصر أو أناء بالفتح والمد { فسبح } يعني المغرب والعشاء وإما قدم زمان الليل لاختصاصه بمزيد الفضل فإن القلب فيه أجمع والنفس أميل إلى الاستراحة فكانت العبادة فيه أحمز ولذلك قال سبحانه وتعالى : { إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا } { وأطراف النهار } تكرير لصلاتي الصبح والمغرب إرادة الاختصاص ومجيئه بلفظ الجمع لأمن الإلباس كقوله :
( ظهراهما مثل ظهور الترسين )
أو أمر بصلاة الظهر فإنه نهاية النصف الأول من النهار وبداية النصف الآخر وجمعه باعتبار النصفين أو لأن النهار جنس أو بالتطوع في أجزاء النهار { لعلك ترضى } متعلق بـ { سبح } أي سبح في هذه الأوقات طمعا أن تنال عند الله ما به ترضي نفسك : وقرأ الكسائي و أبو بكر بالبناء للمفعول أي يرضيك ربك

131 - { ولا تمدن عينيك } أي نظر عينيك { إلى ما متعنا به } استحسانا له وتمنيا أن يكون لك مثله { أزواجا منهم } وأصنافا من الكفرة ويجوز أن يكون حالا من الضمير في به والمفعول منهم أي الذي متعنا به وهو أصناف بعضهم أو ناسا منهم { زهرة الحياة الدنيا } منصوب بمحذوف دل عليه { متعنا } أو { به } على تضمينه معنى أعطينا أو بالبدل من محل { به } أو من { أزواجا } بتقدير مضاف ودونه أو بالذم وهي الزينة والبهجة وقرأ يعقوب بالفتح وهو لغة كالجهرة في الجهرة أو جمع زاهر وصف لهم بأنهم زاهرو الدنيا لتنعمهم وبهاء زيهم بخلاف ما عليه المؤمنون الزهاد { لنفتنهم فيه } لنبلوهم ونختبرهم فيه أو لنعذبهم في الآخرة بسببه { ورزق ربك } وما ادخر لك في الآخرة أو ما رزقك من الهدى والنبوة { خير } مما منحهم في الدنيا { وأبقى } فإنه لا ينقطع

132 - { وأمر أهلك بالصلاة } أمره بأن بأمر أهل بيته أو التابعين له من أمته بالصلاة بعد ما أمر بها ليتعاونوا على الاستعانة بها على خصاصتهم ولا يهتموا بأمر المعيشة ولا يلتفتوا لفت أرباب الثروة { واصطبر عليها } وداوم عليها { لا نسألك رزقا } أي أن ترزق نفسك ولا أهلك { نحن نرزقكم وإياهم } ففرغ بالك لأمر الآخرة { والعاقبة } المحمودة { للتقوى } لذوي التقوى روي [ أنه عليه الصلاة و السلام كان إذا أصاب أهله ضر أمرهم بالصلاة وتلا هذه الآية ]

سورة الأنبياء
133 - تعنتا وعنادا فألزمهم بإتيانه بالقرآن الذي هو أم المعجزات وأعظمها وأبقاها لأن حقيقة المعجزة اختصاص مدعي النبوة بنوع من العلم أو العمل على وجه خارق للعادة ولا شك أن العلم تأصل العمل وأعلى منه قدرا وأبقى أثرا فكذا ما كان من هذا القبيل ونبههم أيضا على وجه أبين من وجوه إعجازه المختصة بهذا الباب فقال : { أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى } من التوراة والإنجيل وسائر الكتب السماوية فإن اشتمالها على زبدة ما فيها من العقائد والأحكام الكلية مع أن الآتي بها أمي لم يرها ولم يتعلم ممن علمها إعجاز بين وفيه إشعار بأنه كما يدل على نبوته برهان لما تقدمه من الكتب من حيث إنه معجز وتلك ليست كذلك بل هي مفتقرة إلى ما يشهده على صحتها وقرئ ( الصحف ) بالتخفيف وقرأ نافع و أبو عمرو و حفص عن عاصم { أولم تأتهم } بالتاء والباقون بالياء

135 - { ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله } من قبل محمد عليه الصلاة و السلام أو البينة والتذكير لأنها في معنى البرها أو المراد بها القرآن { لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل } بالقتل والسبي في الدنيا { ونخزى } بدخول النار يوم القيامة وقد قرئ بالبناء للمفعول فيهما

135 - { قل كل } أي كل واحد منا ومنكم { متربص } منتظر لما يؤول إليه أمرنا وأمركم { فتربصوا } وقرئ ( فتمتعوا ) { فستعلمون من أصحاب الصراط السوي } المستقيم وقرئ ( السواء ) أي الوسط الجيد و ( السوآى ) و ( السوء ) أي الشر و ( السوي ) هو تصغيره { ومن اهتدى } من الضلالة و { من } في الموضعين للاستفهام ومحلها الرفع بالابتداء ويجوز أن تكون الثانية موصولة بخلاف الأولى لعدم العائد فتكون معطوفة على محل الجملة الاستفهامية المعلق عنها الفعل على أن العلم بمعنى المعرفة أو على أصحاب أو على الصراط على أن المراد به النبي صلى الله عليه و سلم وعنه صلى الله عليه و سلم [ من قرأ طه أعطي يوم القيامة ثواب المهاجرين والأنصار رضوان الله عليهم أجمعين ]

1 - { اقترب للناس حسابهم } بالإضافة إلى ما مضى أو ما عند الله لقوله تعالى : { إنهم يرونه بعيدا * ونراه قريبا } وقوله { ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون } أو لأن كل ما هو آت قريب وإنما البعيد ما انقرض ومضى واللام صلة لـ { اقترب } أو تأكيد للإضافة وأصله اقترب حساب الناس ثم اقترب للناس الحساب ثم اقترب للناس حسابهم وخص الناس بالكفار لتقييدهم بقوله : { وهم في غفلة } أي في غفلة عن الحساب { معرضون } عن التفكر فيه وهما خبران للضمير ويحوز أن يكون الظرف حالا من المستكن في { معرضون }

2 - { ما يأتيهم من ذكر } ينبههم من سنة الغفلة والجهالة { من ربهم } صفة لـ { ذكر } أو صلة لـ { يأتيهم } { محدث } تنزيله ليكرر على أسماعهم التنبيه كي يتعظوا وقرىء بالرفع حملا على المحل { إلا استمعوه وهم يلعبون } يستهزئون به ويستسخرون منه لتناهي غفلتهم وفرط إعراضهم عن النظر في الأمور والتفكر في العواقب { وهم يلعبون } حال من الواو وكذلك :

3 - { لاهية قلوبهم } أي استمعوه جامعين بين الاستهزاء والتلهي والذهول عن التفكر فيه ويجوز أن يكون من واو { يلعبون } وقرئت بالرفع على أنها خبرا آخر للضمير { وأسروا النجوى } بالغوا في إخفائها أو جعلوها بحيث خفي تناجيهم بها { الذين ظلموا } بدل من واو { وأسروا } للإيماء بأنهم ظالمون فيما أسروا به أو فاعل له والواو لعلامة الجمع أو مبتدأ والجملة المتقدمة خبره وأصله وهؤلاء أسروا النجوى فوضع الموصول موضعه تسجيلا على فعلهم بأنه ظلم أو منصوب على الذم { هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون } بأمره في موضع النصب بدلا من { النجوى } أو مفعولا لقول مقدر كأنهم استدلوا بكونه بشرا على كذبه في ادعاء الرسالة لاعتقادهم أن الرسول لا يكون إلا ملكا واستلزموا منه أن ما جاء به من الخوارق كالقرآن سحر فأنكروا حضوره وإنما أسروا به تشاورا في استنباط ما يهدم أمره ويظهر فساده للناس عامة

4 - { قال ربي يعلم القول في السماء والأرض } جهرا كان أو سرا عما أسروا به فهو آكد من قوله { قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض } ولذلك اختير ها هنا وليطابق قوله { وأسروا النجوى } في المبالغة وقرأ حمزة و الكسائي و حفص { قال } بالإخبار عن الرسول صلى الله عليه و سلم { وهو السميع العليم } فلا يخفى عليه ما يسرون ولا ما يضمرون

5 - { بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر } إضراب لهم عن قولهم هو سحر إلى أنه تخاليط أحلام ثم إلى أنه كلام افتراه ثم إلى أنه قول شاعر والظاهر أن { بل } الأولى لتمام حكاية والابتداء بأخرى أو للإضراب عن تحاورهم في شأن الرسول صلى الله عليه و سلم وما ظهر عليه من الآيات إلى تقاولهم في أمر القرآن والثانية والثالثة لإضرابهم عن كونه أباطيل خيلت إليه وخلطت عليه إلى كونه مفتريا اختلقها من تلقاء نفسه ثم إلى أنه كلام شعري يخيل إلى السامع معاني لا حقيقة لها ويرغبه فيها ويجوز أن يكون الكل من الله تنزيلا لأقوالهم في درج الفساد لأن كونه شعرا أبعد من كونه مفترى لأنه مشحون بالحقائق والحكم وليس فيه ما يناسب قول الشعراء وهو من كونه أحلاما لأنه مشتمل على مغيبات كثيرة طابقت الواقع والمفتري لا يكون كذلك بخلاف لأحلام ولأنهم جربوا رسول الله صلى الله عليه و سلم نيفا وأربعين سنة وما سمعوا منه كذبا قط وهو أبعد من كونه سحرا لأنه يجانسه من حيث إنهما من الخوارق { فليأتنا بآية كما أرسل الأولون } أي كما أرسل به الأولون مثل اليد البيضاء والعصا وإبراء الأكمه وإحياء الموتى وصحة التشبيه من حيث إن الإرسال يتضمن الإتيان بالآية

6 - { ما آمنت قبلهم من قرية } من أهل قرية { أهلكناها } باقتراح الآيات لما جاءتهم { أفهم يؤمنون } لو جئتهم بها وهم أعتى منهم وفيه تنبيه على أن عدم الإتيان بالمقترح للإبقاء عليهم إذ لو أتى به ولم يؤمنوا استوجبوا عذاب الاستئصال كمن قبلهم

7 - { وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } جواب لقولهم { هل هذا إلا بشر مثلكم } فأمرهم أن يسألوا أهل الكتاب عن حال الرسل المتقدمة ليزول عنهم الشبهة والإحالة عليهم إما للإلزام فإن المشركين كانوا يشاورونهم في أمر النبي عليه الصلاة و السلام ويثقون بقولهم أو لأن إخبار الجم الغفير يوجب العلم وإن كانوا كفارا وقرأ حفص ( نوحي ) بالنون

8 - { وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين } نفي لما اعتقدوا أنها من خواص الملك عن الرسل تحقيقا لأنهم كانوا أبشارا مثلهم وقيل جواب لقولهم { مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } { وما كانوا خالدين } تأكيد وتقرير له فإن التعيش بالطعام من توابع التحليل المؤدي إلى الفناء وتوحيد الجسد لإرادة الجنس أو لأنه مصدر في الأصل أو على حذف المضاف أو تأويل الضمير بكل واحد وهو جسم ذو لون فلذلك لا يطلق على الماء والهواء ومنه الجساد للزعفران وقيل جسم ذو تركيب لأن أصله لجمع الشيء واشتداده

9 - { ثم صدقناهم الوعد } أي في الوعد { فأنجيناهم ومن نشاء } يعني المؤمنين بهم ومن في إبقائه حكمة كمن سيؤمن هو أو أحد من ذريته ولذلك حميت العرب من عذاب الاستئصال { وأهلكنا المسرفين } في الكفر والمعاصي

10 - { لقد أنزلنا إليكم } يا قريش { كتابا } يعني القرآن { فيه ذكركم } صيتكم كقوله { وإنه لذكر لك ولقومك } أو موعظتكم أو ما تطلبون به حسن الذكر من مكارم الأخلاق { أفلا تعقلون } فتؤمنون

11 - { وكم قصمنا من قرية } وارادة عن غضب عظيم لأن القصم كسر يبين تلاؤم الأجزاء بخلاف الفصم { كانت ظالمة } صفة لأهلها وصفت بها لما أقيمت مقامه { وأنشأنا بعدها } بعد إهلاك أهلها { قوما آخرين } مكانهم

12 - { فلما أحسوا بأسنا } فلما أدركوا شدة عذابنا إدراك المشاهد المحسوس والضمير للأهل المحذوف { إذا هم منها يركضون } يهربون مسرعين راكضين دوابهم أو مشبهين بهم من فرط إسراعهم

13 - { لا تركضوا } على إرادة القول أي قيل لهم استهزاء لا تركضوا إما بلسان الحال أو المقال والقائل ملك أو من ثم من المؤمنين { وارجعوا إلى ما أترفتم فيه } من التنعم والتلذذ والإتراف إبطار النعمة { ومساكنكم } التي كانت لكم { لعلكم تسألون } غدا عن أعمالكم أو تعذبون فإن السؤال من مقدمات العذاب أو تقصدون للسؤال والتشاور في المهام والنوازل

14 - { قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين } لما رأوا العذاب ولم يروا وجه النجاة فلذلك لم ينفعهم وقيل إن أهل حضور من قرى اليمن بعث إليهم نبي فقتلوه فسلط الله عليهم بختنصر فوضع السيف فيهم فنادى مناد من السماء يا لثارات الأنبياء فندموا وقالوا ذلك

15 - { فما زالت تلك دعواهم } فما زالوا يرددون ذلك وإنما سماه دعوى لأن المولول كأنه يدعو الويل ويقول : يا ويل تعال فهذا أوانك وكل من { تلك } و { دعواهم } يحتمل الاسمية والخبرية { حتى جعلناهم حصيدا } مثل الحصيد وهو النبت المحصود ولذلك لم يجمع { خامدين } ميتين من خمدت النار وهو مع { حصيدا } منزلة المفعول الثاني كقولك : جعلته حلوا حامضا إذ المعنى : وجعلناهم جامعين لمماثلة الحصيد والخمود أو صفة له أو حال من ضميره

16 - { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين } وإنما خلقناها مشحونة بضروب البدائع تبصرة للنظار وتذكرة لذوي الاعتبار وتسببا لما ينتظم به أمور العباد في المعاش والمعاد فينبغي أن يتسلقوا بها إلى تحصيل الكمال ولا يغتروا بزخارفها فإنها سريعة الزوال

17 - { لو أردنا أن نتخذ لهوا } ما يتلهى به ويلعب { لاتخذناه من لدنا } من جهة قدرتنا أو من عندنا مما يليق بحضرتنا من المجردات لا من الأجسام المرفوعة والأجرام المبسوطة كعادتكم في رفع السقوف وتزويقها وتسوية الفرش وتزيينها وقيل اللهو الولد بلغة اليمن وقيل الزوجة والمراد به الرد على النصارى { إن كنا فاعلين } ذلك ويدل على جواب الجواب المتقدم وقيل { إن } نافية والجملة كالنتيجة للشرطية

18 - { بل نقذف بالحق على الباطل } إضراب عن اتخاذ اللهو وتنزيه لذاته عن اللعب أي بل من شأننا أن تغلب الحق الذي من جملته الجد على الباطل الذي من عداده اللهو { فيدمغه } فيمحقه وإنما استعار لذلك القذف وهو الرمي البعيد المستلزم لصلابة المرمى والدمغ الذي هو كسر الدماغ بحيث يشق غشاؤه المؤدي إلى زهوق الروح تصويرا لإبطاله ومبالغة فيه وقرئ { فيدمغه } بالنصب كقوله :
( سأترك منزلي لبني تميم ... وألحق بالحجاز فأستريحا )
وجهه مع الحمل على المعنى والعطف على ( الحق ) { فإذا هو زاهق } هالك والزهوق ذهاب الروح وذكره لترشيح المجاز { ولكم الويل مما تصفون } مما تصفونه به مما لا يجوز عليه وهو في موضع الحال وما مصدرية أو موصولة أو موصوفة

19 - { وله من في السموات والأرض } خلقا وملكا { ومن عنده } يعني الملائكة المنزلين منه لكرامتهم عليه منزلة المقربين عند الملوك وهو معطوف على { من في السموات } وأفرده للتعظيم أو لأنه أعم منه من وجه أو المراد به نوع من الملائكة متعال عن التبوؤ في السماء والأرض أو مبتدأ خبره : { لا يستكبرون عن عبادته } لا يتعظمون عنها { ولا يستحسرون } ولا يعيون مها وإنما جيء بالاستحسار الذي هو أبلغ من الحسور تنبيها على أن عبادتهم بثقلها ودوامها حقيقة بأن يستحسر منها ولا يستحسرون

20 - { يسبحون الليل والنهار } ينزهونه ويعظمونه دائما { لا يفترون } حال من الواو في { يسبحون } وهو استئناف أو حال من ضمير قبله

21 - { أم اتخذوا آلهة } بل اتخذوا والهمزة لإنكار اتخاذهم { من الأرض } صفة لآلهة أو متعلقة بالفعل على معنى الابتداء وفائدتها التحقير دون التخصيص { هم ينشرون } الموتى وهم وإن لم يصرحوا به لكن لزم ادعاؤهم لها الإلهية فإن من لوازمها الاقتدار على جميع الممكنات والمراد به تجهيلهم والتهكم بهم وللمبالغة في ذلك زيد الضمير الموهم لاختصاص الانشار بهم

22 - { لو كان فيهما آلهة إلا الله } غير الله وصف بـ { إلا } لتعذر الاستثناء لعدم شمول ما قبلها لما بعدها ودلالته على ملازمة الفساد لكون الآلهة فيهما دونه والمراد ملازمته لكونها مطلقا أو معه حملا لها على غير كما استثنى بغير حملا عليها ولا يجوز الرفع على البدل لأنه متفرع على الاستثناء ومشروط بأن يكون في كلام غير موجب { لفسدتا } لبطلتا لما يكون بينهما من الاختلاف والتمانع فإنها إن توافقت في المراد تطاردت عليه القدر وإن تخالفت فيه تعاوقت عنه { فسبحان الله رب العرش } المحيط بجميع الأجسام الذي هو محل التدابير ومنشأ التقادير { عما يصفون } من اتخاذ الشريك والصاحبة والولد

23 - { لا يسأل عما يفعل } لعظمته وقوة سلطانه وتفرده بالألوهية والسلطنة الذاتية { وهم يسألون } لأنهم مملوكون مستعبدون والضمير للـ آلهة أو للعباد

24 - { أم اتخذوا من دونه آلهة } كرره استعظاما لكفرهم واستفظاعا لأمرهم وتبكيتا وإظهارا لجهلهم أو ضما لإنكار ما يكون لهم سندا من النقل إلى إنكار ما يكون لهم دليلا من العقل على معنى أوجدوا آلهة ينشرون الموتى فاتخذوهم آلهة لما وجدوا فيهم من خواص الألوهية أو وجدوا في الكتب الإلهية الأمر بإشراكهم فاتخذوهم متابعة للأمر ويعضد ذلك أنه رتب على الأول ما يدل على فساد عقلا وعلى الثاني ما يدل على فساده نقلا { قل هاتوا برهانكم } على ذلك إما من العقل أو من النقل فإنه لا يصح القول بما لا دليل عليه كيف وقد تطابقت الحجج على بطلانه عقلا ونقلا { هذا ذكر من معي وذكر من قبلي } من الكتب السماوية فانظروا هل تجدون فيها إلا الأمر بالتوحيد والنهي عن الإشراك والتوحيد لما لم يتوقف على صحته بعثة الرسل وإنزال الكتب صح الاستدلال فيه بالنقل و { من معي } أمته و { من قبلي } الأمم المتقدمة وإضافة الـ { ذكر } إليهم لأنه عظتهم وقرئ بالتنوين ولا إعمال وبه وبـ { من } الجارة على أن مع اسم هو ظرف كقبل وبعد وشبههما وبعدما { بل أكثرهم لا يعلمون الحق } ولا يميزون بينه وبين الباطل وقرئ { الحق } بالرفع على أنه خبر محذوف وسط للتأكيد بين السبب والمسبب { فهم معرضون } عن التوحيد واتباع الرسول من أجل ذلك

25 - { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } تعميم بعد تخصيص فإن { ذكر من قبلي } من حيث إنه خبر لاسم الإشارة مخصوص بالموجود بين أظهرهم وهو الكتب الثلاثة وقرأ حفص و حمزة و الكسائي ( نوحى إليه ) بالنون وكسر الحاء والباقون بالياء وفتح الحاء

26 - { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا } نزلت في خزاعة حيث قالوا الملائكة بنات الله { سبحانه } تنزيه له عن ذلك { بل عباد } بل هم عباد من حيث إنهم مخلوقون وليسوا بالأولاد { مكرمون } وفيه تنبيه على مدحض القوم وقرئ بالتشديد

27 - { لا يسبقونه بالقول } لا يقولون شيئا حتى يقوله كما هو ديدن العبيد المؤدبين وأصله لا يسبق قولهم قوله فنسب السبق إليه وإليهم وجعل القول محله وأداته تنبيها على استهجان السبق المعرض به للقائلين على الله ما لم يقله وأنيبت اللام على الإضافة اختصارا وتجافيا عن تكرير الضمير وقرئ { لا يسبقونه } بالضم من سابقته فسبقته أسبقه { وهم بأمره يعملون } لا يعملون قط ما لم يأمرهم به

28 - { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } لا تخفى عليه خافية مما قدموا وأخروا وهو كالعلة لما قبله والتمهيد لما بعده فإنهم لإحاطتهم بذلك يضبطون أنفسهم ويراقبون أحوالهم { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } أن يشفع له مهابة منه { وهم من خشيته } عظمته ومهابته { مشفقون } مرتعدون وأصل الخشية خوف مع تعظيم ولذلك خص بها العلماء والإشفاق خوف مع اعتناء فإن عدي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر وإن عدي بعلى فبالعكس

29 - { ومن يقل منهم } من الملائكة أو من الخلائق { إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم } يريد به نفي النبوة وادعاء ذلك عن الملائكة وتهديد المشركين بتهديد مدعي الربوبية { كذلك نجزي الظالمين } من ظلم بالإشراك وادعاء بالربوبية

30 - { أولم ير الذين كفروا } أو لم يعلموا وقرأ ابن كثير بغير واو { أن السموات والأرض كانتا رتقا } ذات رتق أو مرتوقتين وهو الضم والالتحام أي كانتا واحدا وحقيقة متحدة { ففتقناهما } بالتنويع والتمييز أو كانت السموات واحدة ففتقت بالتحريكات المختلفة حتى صارت أفلاكا وكانت الأرضون واحدة فجعلت باختلاف كيفياتها وأحوالها طبقات أو أقاليم وقيل { كانتا } بحيث لا فرجة بينهما ففرج قيل { كانتا رتقا } لا تمطر ولا تنبت ففتقناهما بالمطر والنبات فيكون المراد بـ { السموات } سماء الدنيا وجمعها باعتبار الآفاق أو { السموات } بأسرها على أن لها مدخلا ما في الأمطار والكفرة وإن لم يعلموا ذلك فهم متمكنون من العلم به نظرا فإن الفتق عارض مفتقر إلى مؤثر واجب وابتداء أو بوسط أو استفسارا من العلماء ومطالعة للكتب وإنما قال { كانتا } ولم يقل كن لأن المراد جماعة السموات وجماعة الأرض وقرئ { رتقا } بالفتح على تقدير شيئا رتقا أي مرتوقا كالرفض بمعنى المرفوض { وجعلنا من الماء كل شيء حي } وخلقنا من الماء كل حيوان كقوله تعالى { الله خلق كل دابة من ماء } وذلك لأنه من أعظم مواده أو لفرط احتياجه إليه وانتفاعه به بعينه أو صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء لا يحيا دونه وقرئ ( حيا ) على صفة { كل } أو مفعول ثان والظرف لغو والشيء مخصوص بالحيوان { أفلا يؤمنون } مع ظهور الآيات

31 - { وجعلنا في الأرض رواسي } ثابتات ممن رسا الشيء إذا ثبت { أن تميد بهم } كراهة أن تميل بهم وتضطرب وقيل لأن لا تميد فحذف لا لأمن الإلباس { وجعلنا فيها } في الأرض أو الرواسي { فجاجا سبلا } مسالك واسعة وإنما قدم فجاجا وهو وصف له ليصير حالا فيدل على أنه حين خلقها خلقها كذلك أو ليبدل منها { سبلا } فيدل ضمنا على أنه خلقها ووسعها للسابلة مع ما يكون فيه من التوكيد { لعلهم يهتدون } إلى مصالحهم

32 - { وجعلنا السماء سقفا محفوظا } عن الوقوع بقدرته أو الفساد والانحلال إلى الوقت المعلوم بمشيئته أو استراق السمع بالشهب { وهم عن آياتها } عن أحوالها الدالة على وجود الصانع ووحدته وكمال قدرته وتناهي حكمته التي يحس ببعضها ويبحث عن بعضها في علمي الطبيعة والهيئة { معرضون } غير متفكرين

33 - { وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر } بيان لبعض تلك الآيات { كل في فلك } أي كل واحد منهما والتنوين بدل من المضاف إليه والمراد بالفلك الجنس كقولهم : كساهم الأمير حلة { يسبحون } يسرعون على سطح الفلك إسراع السابح على سطح الماء وهو خبر { كل } والجملة حال من { الشمس والقمر } وجاز انفرادهما بها لعدم اللبس والضمير لهما وإنما جمع باعتبار المطالع وجعل الضمير واو العقلاء لأن السباحة فعلهم

34 - { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون } نزلت حين قالوا نتربص به ريب المنون وفي معناه قوله :
( فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا )
والفاء لتعلق الشرط بما قبله والهمزة لإنكاره بعد ما تقرر ذلك

35 - { كل نفس ذائقة الموت } ذائقة مرارة مفارقتها وهو برهان على ما أنكروه { ونبلوكم } ونعاملكم معاملة المختبر { بالشر والخير } بالبلايا والنعم { فتنة } ابتلاء مصدر من غير لفظة { وإلينا ترجعون } فنجازيكم حسب ما يوجد منكم من الصبر والشكر وفيه إيماء بأن المقصود من هذه الحياة والابتلاء والتعريض للثواب والعقاب تقريرا لما سبق

36 - { وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك } ما يتخذونك { إلا هزوا } إلا مهزوءا به ويقولون : { أهذا الذي يذكر آلهتكم } أي بسوء وإنما أطلقه لدلالة الحال فإن ذكر العدو لا يكون إلا بسوء { وهم بذكر الرحمن } بالتوحيد أو بإرشاد الخلق ببعث الرسل وإنزال الكتب رحمة عليهم أو بالقرآن { هم كافرون } منكرون فهم أحق أن يهزأ بهم وتكرير الضمير للتأكيد والتخصيص ولحيلولة الصلة بينه وبين الخبر

37 - { خلق الإنسان من عجل } كأنه خلق منه لفرط استعجاله وقلة ثباته كقولك : خلق زيد من الكرم جعل ما طبع عليه منزلة المطبوع وهو منه مبالغة في لزومه له ولذلك قيل إنه على القلب ومن عجلته مبادرته إلى الكفر واستعجال الوعيد روي أنها نزلت في النضر بن الحارث حين استعجل العذاب { سأريكم آياتي } نقماتي في الدنيا كوقعة بدر وفي الآخرة عذاب النار { فلا تستعجلون } بالإتيان بها والنهي عما جبلت عليه نفوسهم ليقعدوها عن مرادها

38 - { ويقولون متى هذا الوعد } وقت وعد العذاب أو القيامة { إن كنتم صادقين } يعنون النبي عليه الصلاة و السلام وأصحابه رضي الله عنهم

39 - { لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون } محذوف الجوال و { حين } مفعول { يعلم } أي : لو يعلمون الوقت الذي يستعجلون منه بقولهم { متى هذا الوعد } وهو حين تحيط بهم النار من كل جانب بحيث لا يقدرون على دفعها ولا يجدون ناصرا يمنعها لما استعجلوا ويجوز أن يترك مفعول { يعلم } ويضمر لحين فعل بمعنى : لو كان لهم علم لما استعجلوا يعلمون بطلان ما هم عليه حين لا يكفون وإنما وضع الظاهر فيه موضع الضمير للدلالة على ما أوجب لهم ذلك

40 - { بل تأتيهم } العدة أو النار أو الساعة { بغتة } فجأة مصدر أو حال وقرئ بفتح الغين { فتبهتهم } فنغلبهم أو تحيرهم وقرئ الفعلان بالياء والضمير لـ { الوعد } أو الـ { حين } وكذا في قوله : { فلا يستطيعون ردها } لأن الوعد بمعنى النار أو العدة والحين بمعنى الساعة ويجوز أن يكون لـ { النار } أو للـ { بغتة } { ولا هم ينظرون } يمهلون وفيه تذكير بإمهالهم في الدنيا

41 - { ولقد استهزئ برسل من قبلك } تسلية لرسول الله صلى الله عليه و سلم { فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون } وعد له بأن ما يفعلونه به يحيق بهم كما حاق بالمستهزئين بالأنبياء ما فعلوا يعني جزاءه

42 - { قل } يا محمد للمستهزئين { من يكلؤكم } يحفظكم { بالليل والنهار من الرحمن } من بأسه إن أراد بكم وفي لفظ { الرحمن } تنبيه على أن لا كالئ غير رحمته العامة وأن اندفاعه بمهلته { بل هم عن ذكر ربهم معرضون } لا يخطرونه ببالهم فضلا أن يخافوا بأسه حتى إذا كلؤا منه عرفوا الكالئ وصلحوا للسؤال عنه

43 - { أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا } بل ألهم آلهة تمنعهم من العذاب تتجاوز منعنا أو من عذاب يكون من عندنا والإضرابان عن الأمر بالسؤال على الترتيب فإنه عن المعرض الغافل عن الشيء بعيد وعن المعتقد لنقضيه أبعد { لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون } استئناف بإبطال ما اعتقدوه فإن من لا يقدر على نصر نفسه ولا يصحبه نصر من الله فكيف ينصر غيره

44 - { بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر } إضراب عما توهموا ببيان ما هو الداعي إلى حفظهم وهو الاستدراج والتمتع بما قدر لهم من الأعمار أو عن الدلالة على بطلانه ببيان ما أوهمهم ذلك وهو أنه تعالى متعهم بالحياة الدنيا وأمهلهم حتى طالت أعمارهم فحسبوا أن لا يزالون كذلك وأنه بسبب ما هم عليه ولذلك عقبه بما يدل على أنه أمل كاذب فقال : { أفلا يرون أنا نأتي الأرض } أرض الكفرة { ننقصها من أطرافها } بتسليط المسلمين عليها وهو تصوير لما يجريه الله تعالى على أيدي المسلمين { أفهم الغالبون } رسول الله والمؤمنين

45 - { قل إنما أنذركم بالوحي } بما أوحي إلي { ولا يسمع الصم الدعاء } وقرأ ابن عامر ولا تسمع الصم على خطاب النبي صلى الله عليه و سلم وقرئ بالياء على أن فيه ضميره وإنما سماهم { الصم } ووضعه موضع ضميرهم للدلالة على تصامهم وعدم انتفاعهم بما يسمعون { إذا ما ينذرون } منصوب بـ { يسمع } أو بـ { الدعاء } والتقييد به لأن الكلام في الإنذار أو للمبالغة في تصامهم وتجاسرهم

46 - { ولئن مستهم نفحة } أدنى شيء وفيه مبالغات ذكر المس وما فيه النفحة من معنى القلة فإن أصل النفح هبوب رائحة الشيء والبناء الدال على المرة { من عذاب ربك } من الذي ينذرون به { ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين } لدعوا على أنفسهم بالويل واعترفوا عليها بالظلم

47 - { ونضع الموازين القسط } العدل توزن بها صحائف الأعمال وقيل وضع الموازين تمثيل لإرصاد الحساب السوي والجزاء على حسب الأعمال بالعدل وإفراد { القسط } لأنه مصدر وصف به للمبالغة { ليوم القيامة } لجزاء يوم القيامة أو لأهله أو فيه كقولك : جئت لخمس خلون من الشهر { فلا تظلم نفس شيئا } من حقها أو من الظلم { وإن كان مثقال حبة من خردل } أي وإن كان العمل أو الظلم مقدار حبة ورفع نافع { مثقال } على { كان } التامة { أتينا بها } أحضرناها وقرئ { آتينا } بمعنى جازينا بها من الإيتاء فإنه قريب من أعطينا أو من المؤاتاة فإنهم أتوه بالأعمال وأتاهم بالجزاء وأثبنا من الثواب وجئنا والضمير للمثقال وتأنيثه لإضافته إلى الـ { حبة } { وكفى بنا حاسبين } إذ لا مزيد على علمنا وعدلنا

48 - { ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين } أي الكتاب الجامع لكونه فارقا بين الحق والباطل { وضياء } يستضاء به في ظلمات الحيرة والجهالة { وذكرا } يتعظ به المتقون أو ذكر ما يحتاجون إليه من الشرائع وقيل { الفرقان } النصر وقيل فلق البحر وقرئ { ضياء } بغير واو على أنه حال من { الفرقان }

49 - { الذين يخشون ربهم } صفة { للمتقين } أو مدح لهم منصوب أو مرفوع { بالغيب } حالم من الفاعل أو المفعول { وهم من الساعة مشفقون } خائفون وفي تصدير الضمير وبناء الحكم عليه مبالغة وتعريض

50 - { وهذا ذكر } يعني القرآن { مبارك } كثير خيره { أنزلناه } على محمد عليه الصلاة و السلام { أفأنتم له منكرون } استفهام توبيخ

51 - { ولقد آتينا إبراهيم رشده } الاهتداء لوجوه الصلاح وإضافته ليدل على أنه رشد مثله وأن له شأنا وقرئ ( رشده ) وهو لغة { من قبل } من قبل موسى وهرون أو محمد عليه الصلاة و السلام وقيل من قبل استنبائه أو بلوغه حيث قال : { إني وجهت } { وكنا به عالمين } علمنا أنه أهل لما آتيناه أو جامع لمحاسن الأوصاف ومكارم الخصال وفيه إشارة إلى أن فعله سبحانه وتعالى باختيار وحكمة وأنه عالم بالجزئيات

52 - { إذ قال لأبيه وقومه } متعلق بـ { آتينا } أو بـ { رشده } أو بمحذوف : أي اذكر من أوقات رشده وقت قوله : { ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون } تحقير لشأنها وتوبيخ على إجلالها فإن التمثال صورة لا روح فيها لا يضر ولا ينفع واللام للاختصاص لا للتعدية فإن تعدية العكوف بعلى والمعنى أنتم فاعلون العكوف لها ويحوز أن يؤول بعلى أو يضمن العكوف معنى العبادة

53 - { قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين } فقلدناهم وهو جواب عما لزم الاستفهام من السؤال عما اقتضى عبادتها وحملهم عليها

54 - { قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين } منخرطين في سلك ضلال لا يخفى على عاقل لهدم استناد الفريقين إلى دليل والتقليد إن جاز فإنما يجوز لمن علم في الجملة أنه على حق

55 - { قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين } كأنهم لاستبعادهم تضليله إياهم ظنوا أن ما قاله إنما قاله على وجه الملاعبة فقالوا أبجد تقوله أم تلعب به

56 - { قال بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن } إضراب عن كونه لاعبا بإقامة البرهان على ما ادعاه وهن للسموات والأرض أو للتماثيل وهو أدخل في تضليلهم وإلزام الحجة عليهم { وأنا على ذلكم } أي المذكور من التوحيد { من الشاهدين } من المتحققين له والمبرهنين عليه فإن الشاهد من تحقيق الشيء وحققه

57 - { وتالله } وقرئ بالباء وهي الأصل والتاء بدل من الواو المبدلة منها وفيها تعجب { لأكيدن أصنامكم } لأجتهدن في كسرها ولفظ الكيد وما في التاء من التعجب لصعوبة الأمر وتوقفه على نوع من الحيل { بعد أن تولوا } عنها { مدبرين } إلى عيدكم ولعله قال ذلك سرا

58 - { فجعلهم جذاذا } قطاعا فعال بمعنى مفعول كالحطام من الجذ وهو القطع وقرأ الكسائي بالكسر وهو لغة أو جمع جذيذ كخفاف وخفيف قرئ بالفتح و { جرزا } جمع جذيذ وجذذا جمع جذة { إلا كبيرا لهم } للأصنام كسر غيره واستبقاه وجعل الفأس على عنقه { لعلهم إليه يرجعون } لأنه غلب على ظنه أنهم لا يرجعون إلا إليه لتفرده واشتهاره بعداوة آلهتهم فيحاجهم بقوله : { بل فعله كبيرهم } فيحجهم أو أنهم يرجعون إلى الكبير فيسألونه عن كاسرها إذ من شأن المعبود أن يرجع إليه في حل العقد فيبكتهم بذلك أو إلى الله أي { يرجعون } إلى توحيده عند تحققهم عجز آلهتهم

59 - { قالوا } حين رجعوا { من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين } بجرأته على الآلهة الحقيقة بالإعظام أو بإفراطه في حطمها أو بتوريط نفسه للهلاك

60 - { قالوا سمعنا فتى يذكرهم } يعيبهم فلعله فعله ويذكر ثاني مفعولي سمع أو صفة لـ { فتى } مصححة لأن يتعلق به السمع وهو أبلغ في نسبة الذكر إله { يقال له إبراهيم } خبر محذوف أي هو إبراهيم ويجوز أن يرفع بالفعل لأن المراد به الاسم

61 - { قالوا فاتوا به على أعين الناس } بمرأى منهم بحيث تتمكن صورته في أعينهم تتمكن الراكب على المركوب { لعلهم يشهدون } بفعله أو قوله أو يحضرون عقوبتنا له

62 - { قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم } حين أحضروه

63 - { قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون } أسند الفعل إله تجوزا لأن غيظه لما رأى من زيادة تعظيمهم له تسبب لمباشرته إياه أو تقريرا لنفسه مع الاستهزاء والتبكيت على أسلوب تعريضي كما لو قال لك من لا يحسن الخط فيما كتبته بخط رشيق : أأنت كتبت هذا فقلت بل كتبته أنت أو حكاية لما لزم من مذهبهم جوازه وقيل إنه في المعنى متعلق بقوله { إن كانوا ينطقون } وما بينهما اعتراض أو إلى ضمير { فتى } أو { إبراهيم } وقوله { كبيرهم هذا } مبتدأ وخبر ولذلك وقف على فعله وما روي أنه عليه الصلاة و السلام قال ( لإبراهيم ثلاث كذبات ) تسمية للمعاريض كذبا لما شابهت صورتها صورته

64 - { فرجعوا إلى أنفسهم } وراجعوا عقولهم { فقالوا } فقال بعضهم لبعض { إنكم أنتم الظالمون } بهذا السؤال أو بعبادة من لا ينطق ولا يضر ولا ينفع لا من ظلمتموه بقولكم { إنه لمن الظالمين }

65 - { ثم نكسوا على رؤوسهم } انقلبوا إلى المجادلة بعدما استقاموا بالمراجعة شبه عودهم إلى الباطل بصيرورة أسفل الشيء مستعليا على أعلاه وقرئ ( نكسوا ) 0 بالتشديد و { نكسوا } أي نكسوا أنفسهم { لقد علمت ما هؤلاء ينطقون } فكيف تأمرنا بسؤالها وهو على إرادة القول

66 - { قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم } إنكار لعبادتهم لها بعد اعترافهم بأنها جمادات لا تنفع ولا تضر فإنه ينافي الألوهية

67 - { أف لكم ولما تعبدون من دون الله } تضجر منه على إصرارهم بالباطل البين و { أف } صوت المتضجر ومعناه قبحا ونتنا واللام لبيان المتأفف له { أفلا تعقلون } قبح صنيعكم

68 - { قالوا } أخذا في المضارة لما عجزوا عن المحاجة { حرقوه } فإن النار أهول ما يعاقب به { وانصروا آلهتكم } بالانتقام لها { إن كنتم فاعلين } إن كنتم ناصرين لها نصرا مؤزرا والقائل فيهم رجل من أكراد فارس اسمه هيون خسف به الأرض وقيل نمروذ

69 - { قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم } ذات برد وسلام أي ابردي بردا غير ضار وفيه مبالغات جعل النار المسخرة لقدرته مأمورة مطيعة وإقامة { كوني } ذات برد مقام أبردي ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وقيل نصب { سلاما } بفعله أي وسلمنا سلاما عليه روي أنهم بنوا حظيرة بكوثى وجمعوا فيها نارا عظيمة ثم وضعوه في المنجنيق مغلولا فرموا به فيها فقال له جبريل : هل لك حاجة فقال : أما إليك فلا فقال : فسل ربك فقال : حسبي من سؤالي علمه بحالي فجعل الله تعالى ـ ببركة قوله ـ الحظيرة روضة ولمن يحترق منه إلا وثاقه فاطلع عليه نمروذ من الصرح فقال إني مقرب إلى إلهك فذبح أربعة آلاف بقرة وكف عن إبراهيم عليه الصلاة و السلام وكان إذ ذاك ابن ست عشرة سنة وانقلاب النار هواء طيبا ليس ببدع غير أنه هكذا على خلاف المعتاد فهو إذن من معجزاته وقيل كانت النار بحالها لكنه سبحانه وتعالى دفع عنه أذاها كما ترى في السمندل ويشعر به قوله على إبراهيم

70 - { وأرادوا به كيدا } مكرا في إضراره { فجعلناهم الأخسرين } أخسر من كل خاسر لما عاد سعيهم برهانا قاطعا على أنهم على الباطل وإبراهيم على الحق وموجبا لمزيد درجته واستحقاقهم أشد العذاب

71 - { ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين } أي من العراق إلى الشام وبركاته العامة أن أكثر الأنبياء بعثوا فيه فانتشرت في العالمين شرائعهم التي هي مبادي الكمالات والخيرات الدينية والدنيوية وقيل كثرة النعم والخصب الغالب روي [ أنه عليه الصلاة و السلام نزل بفلسطين ولوط عليه الصلاة و السلام بالمؤتفكة وبينهما مسيرة يوم وليلة ]

72 - { ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة } عطية فهي حال منهما أو ولد ولد أو زيادة على ما سأل وهو إسحاق فتختص بيعقوب ولا بأس به للقرينة { وكلا } يعني الأربعة { جعلنا صالحين } بأن وفقناهم للصلاح وحملناهم عليه فصاروا كاملين

73 - { وجعلناهم أئمة } يقتدى بهم { يهدون } الناس إلى الحق { بأمرنا } لهم بذلك وإرسالنا إياهم حتى صاروا مكملين { وأوحينا إليهم فعل الخيرات } ليحثوهم عليها فيتم كمالها بانضمام العمل إلى العلم وأصله أن تفعل الخيرات ثم فعلا الخيرات ثم { فعل الخيرات } وكذلك قوله : { وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة } وهو من عطف الخاص على العام للتفضيل وحذفت تاء الإقامة المعوضة من إحدى الألفين لقيام المضاف إليه مقامها { وكانوا لنا عابدين } موحدين مخلصين في العبادة ولذلك قدم الصلة

74 - { ولوطا آتيناه حكما } حكمة أو نبوة أو فصلا بين الخصوم { وعلما } بما ينبغي علمه للأنبياء { ونجيناه من القرية } قرية سدوم { التي كانت تعمل الخبائث } يعني اللواطة وصفها بصفة أهلها أو أسندها إليها على حذف المضاف وإقامتها مقامه ويدل عليه : { إنهم كانوا قوم سوء فاسقين } فإنه كالتعليل له

75 - { وأدخلناه في رحمتنا } في أهل رحمتنا أو جنتنا { إنه من الصالحين } الذين سبقت لهم منا الحسنى

76 - { ونوحا إذ نادى } إذ دعا الله سبحانه على قومه بالهلاك { من قبل } من قبل المذكورين { فاستجبنا له } دعاءه { فنجيناه وأهله من الكرب العظيم } من الطوفان أو أذى قومه والكرب الغم الشديد

77 - { ونصرناه } مطاوع أي جعلناه منتصرا { من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين } لاجتماع الأمرين تكذيب الحق والانهماك في الشر ولعلهما لم يجتمعا في قوم إلا وأهلكهم الله تعالى

78 - { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث } في الزرع وقيل في كرم تدلت عناقيده { إذ نفشت فيه غنم القوم } رعته ليلا { وكنا لحكمهم شاهدين } لحكم الحاكمين والمتحاكمين إليهما عالمين

79 - { ففهمناها سليمان } الضمير للحكومة أو للفتوى وقرئ ( فأفهمناها ) روي أن داود حكم بالغنم لصاحب الحرث فقال سليمان وهو ابن إحدى عشرة سنة : غير هذا أرفق بهما فأمر بدفع الغنم إلى أهل الحرث ينتفعون بألبانها وأولادها وأشعارها والحرث إلى أرباب الغنم يقومون عليه حتى يعود إلى ما كان ثم يترادان ولعلهما قالا اجتهادا والأول نظير قول أبى حنيفة في العبد الجاني والثاني مثل قول الشافعي بغرم
الحيلولة في العبد المغصوب إذا أبق وحكمه في شرعنا عند الشافعي وجوب ضمان المتلف بالليل إذ المعتاد ضبط الدواب ليلا وهكذا [ قضى النبي صلى الله عليه و سلم لما دخلت ناقة البراء حائطا وأفسدته فقال على أهل الأموال حفظها بالنهار وعلى أهل الماشية حفظها بالليل ] وعند أبي حنيفة لا ضمان إلا أن يكون معها حافظ لقوله صلى الله عليه و سلم [ جرح العجماء جبار ] { وكلا آتينا حكما وعلما } دليل على أن خطأ المجتهد لا يقدح فيه وقيل على أن كل مجتهد مصيب وهو مخالف لمفهوم قوله تعالى : { ففهمناها } ولولا النقل لاحتمل توافقهما على أن قوله ففهمناها لإظهار ما تفضل عليه في صغره { وسخرنا مع داود الجبال يسبحن } يقدسن الله معه إما بلسان الحال أو بصوت يتمثل له أو بخلق الله تعالى فيها الكلام وقيل يسرن معه من السباحة وهو حال أو استئناف لبيان وجه التسخير و { مع } متعلقة بـ { سخرنا } أو { يسبحن } { والطير } عطف على { الجبال } أو مفعول معه وقرئ بالرفع على الابتداء أو العطف على الضمير على ضعف { وكنا فاعلين } لأمثاله فليس ببدع منا وإن كان عجبا عندكم

80 - { وعلمناه صنعة لبوس } عمل الدرع وهو في الأصل اللباس قال : ( البس لكل حالة لبوسها ... إما نعيمها وإما بوسها )
قيل كانت صفائح فحلقها وسردها { لكم } متعلق بعلم أو صفة للبوس { لتحصنكم من بأسكم } بدل منه بدل الاشتمال بإعادة الجار
والضمير لدواد عليه الصلاة و السلام أو للبوس وفي قراءة ابن عامر
و حفص بالتاء للصنعة أو للبوس على تأويل الدرع وفي قراءة أبي بكر و رويس بالنون لله عز و جل { فهل أنتم شاكرون } ذلك أمر أخرجه في صورة الاستفهام للمبالغة والتقريع

81 - { ولسليمان } وسخرنا له ولعل اللام فيه دون الأول لأن الخارق فيه عائد إلى سليمان نافع له وفي الأول أمر يظهر في الجبال والطير مع داود وبالإضافة إليه { الريح عاصفة } شديدة الهبوب من حيث إنها تبعد بكرسيه في مدة يسيرة كما قال تعالى : { غدوها شهر ورواحها شهر } وكانت رخاء في نفسها طيبة وقيل كانت رخاء تارة وعاصفة أخرى حسب إرادته { تجري بأمره } بمشيئته حال ثانية أو بدل من الأولى أو حالم من ضميرها { إلى الأرض التي باركنا فيها } إلى الشام رواحا بعدما سارت به منه بكرة { وكنا بكل شيء عالمين } فنجريه على ما تقتضيه الحكمة

82 - { ومن الشياطين من يغوصون له } في البحار ويخرجون نفائسها { ومن } عطف على { الريح } أو مبتدأ خبره ما قبله وهي نكرة موصوفة { ويعملون عملا دون ذلك } ويتجاوزون ذلك إلى أعمال أخر كبناء المدن والقصور واختراع الصنائع الغريبة كقوله تعالى : { يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل } { وكنا لهم حافظين } أن يزيغوا عن أمره أو يفسدوا على ما هو مقتضى جبلتهم

83 - { وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر } باني مسني الضر وقرئ بالكسر على إضمار القول أو تضمين النداء معناه و { الضر } بالفتح شائع في كل ضرر وبالضم خاص بما في النفس كمرض وهزال { وأنت أرحم الراحمين } وصف ربه بغاية الرحمة بعدما ذكر نفسه بما يوجبها واكتفى بذلك عن عرض المطلوب لطفا في السؤال وكان روميا من ولد عيص بن إسحاق استنبأه الله وكثر أهله وماله فابتلاه الله بهلاك أولاده بهدم بيت عليهم وذهاب أمواله والمرض في بدنه ثماني عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة أو سبعا وسبعة أشهر وسبع ساعات روي أن امرأته ماخير بنت ميشا بن يوسف أو رحمة بنت إفراثيم بن يوسف قالت له يوما : لو دعوت الله فقال : كم كانت مدة الرخاء فقالت ثمانين سنة فقال : أستحيي من الله أن أدعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي

84 - { فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر } بالشفاء من مرضه { وآتيناه أهله ومثلهم معهم } بأن ولد له ضعف ما كان أو أحيي ولده وولد له منهم نوافل { رحمة من عندنا وذكرى للعابدين } رحمة على أيوب وتذكرة لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر فيثابوا كما أثيب أو لرحمتنا للعابدين فإنا نذكرهم بالإحسان ولا ننساهم

85 - { وإسماعيل وإدريس وذا الكفل } يعني إلياس وقيل يوشع وقيل زكريا سمي به لأنه كان ذا حظ من الله تعالى أو تكفل أمته أو له ضعف عمل أنبياء زمانه وثوابهم والكفل يجيء بمعنى النصيب والكفالة والضعف { كل } كل هؤلاء { من الصابرين } على مشاق التكاليف وشدائد النوب

86 - { وأدخلناهم في رحمتنا } يعني النبوة أو نعمة الآخرة { إنهم من الصالحين } الكاملين في الصلاح وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإن صلاحهم معصوم عن كدر الفساد

87 - { وذا النون } وصاحب الحوت يونس بن متى { إذ ذهب مغاضبا } لقومه لما برم بطول دعوتهم وشدة شكيمتهم وتمادي إصرارهم مهاجرا عنهم قبل أن يؤمر وقبل وعدهم بالعذاب فلم يأتهم لميعادهم بتوبتهم ولم يعرف الحال فظن أنه كذبهم وغضب من ذلك وهو من بناء المغالبة للمغالبة أو لأنه أغضبهم بالمهاجرة لخوفهم لحوق العذاب عندها وقرئ ( مغضبا ) { فظن أن لن نقدر عليه } لن نضيق عليه أو لن نقضي عليه بالعقوبة من القدر ويعضده أنه قرىء مثقلا أو لن نعمل فيه قدرتنا وقيل هو تمثيل لحاله بحال من ظن أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه من غير انتظار لأمرنا أو خطرة شيطانية سبقت إلى وهمه فسميت ظنا للمبالغة وقرئ بالياء وقرأ يعقوب على البناء للمفعول وقرئ به مثقلا { فنادى في الظلمات } في الظلمة الشديدة المتكاثفة أو ظلمات بطن الحوت والبحر والليل { أن لا إله إلا أنت } بأنه لا إله إلا أنت { سبحانك } من أن يعجزك شيء { إني كنت من الظالمين } لنفسي بالمبادرة إلى المهاجرة وعن النبي عليه الصلاة و السلام [ ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له ]

88 - { فاستجبنا له ونجيناه من الغم } بأن قذفه الحوت إلى الساحل بعد أربع ساعات كان في بطنه وقيل ثلاثة أيام والغم غم الالتقام وقيل غم الخطيئة { وكذلك ننجي المؤمنين } من غموم دعوا الله فيها بالإخلاص وفي الإمام : ( نجي ) ولذلك أخفى الجماعة النون الثانية فإنها تخفى مع حروف الفم وقرأ ابن عامر و أبو بكر بتشديد الجيم على أن أصله { ننجي } فحذفت النون الثانية كما حذفت التاء الثانية في { تظاهرون } وهي وإن كانت فاء فحذفها أوقع من حذف حرف المضارعة التي لمعنى ولا يقدح فيه اختلاف حركتي النونين فإن الداعي إلى الحذف اجتماع المثلين مع تعذر الإدغام وامتناع الحذف في تتجافى لخوف اللبس وقيل هو ماض مجهول أسند إلى ضمير المصدر وسكن آخره تخفيفا ورد بأنه لا يسند إلى المصدر والمفعول مذكور والماضي لا يسكن آخره

89 - { وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا } وحيدا بلا ولد يرثني { وأنت خير الوارثين } فإن لم ترزقني من يرثني فلا أبالي به

90 - { فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه } أي أصلحناها للولادة بعد عقرها أو لـ زكريا بتحسين خلقها وكانت حردة { إنهم } يعني المتوالدين أو المذكورين من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام { كانوا يسارعون في الخيرات } يبادرون إلى أبواب الخير { ويدعوننا رغبا ورهبا } ذوي رغب ورهب أو راغبين في الثواب راجين للإجابة أو في الطاعة وخائفين العقاب أو المعصية { وكانوا لنا خاشعين } مخبتين أو دائبين الوجل والمعنى أنهم نالوا من الله ما نالوا بهذه الخصال

91 - { والتي أحصنت فرجها } من الحلال والحرام يعني مريم { فنفخنا فيها } أي في عيسى عليه الصلاة و السلام فيها أي أحييناه في جوفها وقيل فعلنا النفخ فيها { من روحنا } من الروح الذي هو بأمرنا وحده أو من جهة روحنا يعني جبريل عليه الصلاة و السلام { وجعلناها وابنها } أي قصتهما أو حالهما ولذلك وحد قوله : { آية للعالمين } فإن من تأمل حالهما تحقق كمال قدرة الصانع تعالى

92 - { إن هذه أمتكم } أي إن ملة التوحيد والإسلام ملتكم التي يجب أن تكونوا عليها فكونوا عليها { أمة واحدة } غير مختلفة فيما بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولا مشاركة لغيرها في صحة الاتباع وقرئ { أمتكم } بالنصب على البدل و { أمة } بالرفع على الخبر وقرئتا بالرفع عن أنهما خبران { وأنا ربكم } لا إله لكم غيري { فاعبدون } لا غير

93 - { وتقطعوا أمرهم بينهم } صرفه إلى الغيبة التفاتا لينعى على الذين تفرقوا في الدين وجعلوا أمره قطعا موزعة بقبيح فعلهم إلى غيرهم { كل } من الفرق المتحزبة { إلينا راجعون } فنجازيهم

94 - { فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن } بالله ورسله { فلا كفران } فلا تضييع { لسعيه } استعير لمنع الثواب كما استعير الشكر لإعطائه ونفي نفي الجنس للمبالغة { وإنا له } لسعيه { كاتبون } مثبتون في صحيفة عمله لا يضيع بوجه ما

95 - { وحرام على قرية } وممتنع على أهلها غير متصور منهم وقرأ أبو بكر و حمزة و الكسائي ( وحرم ) بكسر الحاء وإسكان الراء وقرئ ( حرم ) { أهلكناها } حكمنا بإهلاكها أو وجدناها هالكة { أنهم لا يرجعون } رجوعهم إلى التوبة أو الحياة ولا صلة أو عدم رجوعهم للجزاء وهو مبتدأ خبره حرام أو فاعل له ساد مسد خبره أو دليل عليه وتقديره : توبتهم أو حياتهم أو عدم بعثهم أو لأنهم { لا يرجعون } ولا ينيبون { وحرام } خبر محذوف أي وحرام عليها ذاك وهو المذكور في الآية المتقدمة ويؤيده القراءة بالكسر وقيل { حرام } عزم وموجب عليهم { أنهم لا يرجعون }

ـ { حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج } متعلق بـ { حرام } أو بمحذوف دل الكلام عليه أو بـ { لا يرجعون } أي يستمر الامتناع أو الهلاك أو عدم الرجوع إلى قيام الساعة وظهور أماراتها : وهو فتح سد يأجوج ومأجوج وهي حتى التي يحكى الكلام بعدها والمحكي هي الجملة الشرطية وقرأ ابن عامر
و يعقوب ( فتحت ) بالتشديد { وهم } يعني يأجوج ومأجوج أو الناس كلهم { من كل حدب } نشز من الأرض وقرئ جدث وهو القبر { ينسلون } يسرعون من نسلان الذئب وقرئ بضم السين

97 - { واقترب الوعد الحق } وهو القيامة { فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا } جواب الشرط و ( إذا ) للمفاجأة تسد كمسد الفاء الجزائية كقوله تعالى : { إذا هم يقنطون } فإذا جاءت الفاء معها تظاهرتا على وصل الجزاء بالشرط فيتأكد والضمير للقصة أو مبهم يفسره الأبصار { يا ويلنا } مقدر بالقول واقع موقع الحال من الموصول { قد كنا في غفلة من هذا } لم نعلم أنه حق { بل كنا ظالمين } لأنفسنا بالإخلال بالنظر وعدم الاعتداد بالنذر

98 - { إنكم وما تعبدون من دون الله } يحتمل الأوثان وإبليس وأعوانه لأنهم بطاعتهم تلهم في حكم عبدتهم لما [ روي أنه عليه الصلاة و السلام لما تلا الآية على المشركين قال له ابن الزبعرى : قد خصمتك ورب الكعبة أليس اليهود عبدوا عزيرا والنصارى عبدوا المسيح وبنو مليح عبدوا الملائكة فقال صلى الله عليه و سلم : بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك ] فأنزل الله تعالى : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } الآية وعلى هذا يعم الخطاب ويكون { ما } مؤولا بـ { من } أو بما يعمه ويدل عليه ما روي [ أن ابن الزبعرى قال : هذا شيء لآلهتنا خاصة أو لكل من عبد من دون الله فقال صلى الله عليه و سلم بل لكل من عبد من دون الله ] ويكون قوله { إن الذين } بيانا للتجوز أو للتخصيص فأخر عن الخطاب { حصب جهنم } ما يرمي به إليها وتهيج به من حصبه يحصبه إذا رماه بالحصباء وقرئ بسكون الصاد وصفا بالمصدر { أنتم لها واردون } استئناف أو بدل من { حصب جهنم } واللام معوضة من على للاختصاص والدلالة على أن ورودهم لأجلها

99 - { لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها } لأن المؤاخذ بالعذاب لا يكون إلها { وكل فيها خالدون } لا خلاص لهم عنها

100 - { لهم فيها زفير } أنين وتنفس شديد وهو من إضافة فعل البعض إلى الكل للتغلب إن أريد { ما تعبدون } الأصنام { وهم فيها لا يسمعون } من الهول وشدة العذاب وقيل { لا يسمعون } ما يسرهم

101 - { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } أي الخصلة الحسنى وهي السعادة أو التوفيق بالطاعة أو البشرى بالجنة { أولئك عنها مبعدون } لأنهم يرفعون إلى أعلى عليين روي أن عليا كرم الله وجهه خطب وقرأ هذه الآية ثم قال : أنا منهم وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وابن الجراح ثم أقيمت الصلاة فقام يجر رداءه ويقول :

102 - { لا يسمعون حسيسها } وهو بدل من { مبعدون } أو حال من ضميره سيق للمبالغة في إبعادهم عنها والحسيس صوت يحس به { وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون } دائمون في غاية التنعم وتقديم الظرف للاختصاص والاهتمام به

103 - { لا يحزنهم الفزع الأكبر } النفخة الأخيرة لقوله تعالى : { ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض } أو الانصراف إلى النار أو حين يطبق على النار أو يذبح الموت { وتتلقاهم الملائكة } تستقبلهم مهنئين لهم { هذا يومكم } يوم ثوابكم وهو مقدر بالقول { الذي كنتم توعدون } في الدنيا

104 - { يوم نطوي السماء } مقدر باذكر أو ظرف لـ { لا يحزنهم } أو { تتلقاهم } أو حال مقدرة من العائد المحذوف من { توعدون } والمراد بالطي ضد النشر أو المحو من قولك طوعي هذا الحديث وذلك لأنها نشرت مظلة لبني آدم فإذا انتقلوا قوضت عنهم وقرئ بالياء والبناء للمفعول { كطي السجل للكتب } طيا كطي الطومار لأجل الكتابة أو لما يكتب أو كتب فيه ويدل عليه قراءة حمزة و الكسائي و حفص على الجمع أي للمعاني الكثيرة المكتوبة فيه وقيل { السجل } ملك يطوي كتب الأعمال إذا رفعت إليه أو كاتب كان لرسول الله صلى الله عليه و سلم وقرئ { السجل } كالدلو { السجل } كالعتل وهما لغتان فيه { كما بدأنا أول خلق نعيده } أي نعيد ما خلقناه مبتدأ إعادة مثل بدئنا إياه في كونهما إيجادا عن العدم أو جمعا بين الأجزاء المتبددة والمقصود بيان صحة الإعادة بالقياس على الإبداء لشمول الإمكان الذاتي المصحح للمقدورية وتناول القدرة القديمة لهما على السواء و ( ما ) كافة أو مصدرية وأول مفعول لـ { بدأنا } أو لفعل يفسره { نعيده } أو موصولة والكاف متعلقة بمحذوف يفسره { نعيده } أي نعيد مثل الذي بدأنا وأول خلق ظرف لـ { بدأنا } أو حال من ضمير الموصول المحذوف { وعدا } مقدر بفعله تأكيدا لـ { نعيده } أو منتصب به لأنه عدة بالإعادة { علينا } أي علينا إنجازه { إنا كنا فاعلين } ذلك لا محالة

105 - { ولقد كتبنا في الزبور } في كتاب داود عليه السلام { من بعد الذكر } أي التوراة وقيل المراد بـ { الزبور } جنس الكتب المنزل وبـ { الذكر } اللوح المحفوظ { أن الأرض } أي أرض الجنة أو الأرض المقدسة { يرثها عبادي الصالحون } يعني عامة المؤمنين أو الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها أو أمة محمد صلى الله عليه و سلم

106 - { إن في هذا } أي فيما ذكر من الأخبار والمواعظ والمواعيد { لبلاغا } لكفاية أو لسبب بلوغ إلى البغية { لقوم عابدين } همهم العبادة دون العادة

107 - { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } لأن ما بعثت به سبب لإسعادهم وموجب لصلاح معاشهم ومعادهم وقيل كونه رحمة للكفار أمنهم به من الخسف والمسخ وعذاب الاستئصال

108 - { قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد } أي ما يوحى إلي إلا أنه لا إله لكم إلا إله واحد وذلك لأن المقصود الأصلي من بعثته مقصور على التوحيد فالأولى لقصر الحكم على الشيء والثانية على العكس { فهل أنتم مسلمون } مخلصون العبادة لله تعالى على مقتضى الوحي المصدق بالحجة وقد عرفت أن التوحيد مما يصح إثباته بالسمع

109 - { فإن تولوا } عن التوحيد { فقل آذنتكم } أي أعلمتكم ما أمرت به أو حربي لكم { على سواء } مستوين في الإعلام به أو مستوين أنا وأنتم في العلم بما أعلمتكم به أو في المعاداة أو إيدانا على سواء وقيل أعلمتكم أني على { سواء } أي عدل واستقامة رأي بالرهان النير { وإن أدري } وما أدري { أقريب أم بعيد ما توعدون } من غلبة المسلمين أو الحشر لكنه كائن لا محالة

سورة الحج
110 - مين فيجازيكم عليه

111 - { وإن أدري لعله فتنة لكم } وما أدري لعل تأخير جزائكم استدراج لكم وزيادة في افتتانكم أو امتحان لننظر كيف تعملون { ومتاع إلى حين } وتمتيع إلى أجل مقدر تقتضيه مشيئته

112 - { قال رب احكم بالحق } اقض بيننا وبين أهل مكة بالعدل المقتضى لاستعجال العذاب والتشديد عليهم وقرأ حفص { قال } على حكاية قول رسول الله صلى الله عليه و سلم وقرئ ( رب ) بالضم و ( ربي ) احكم على بناء التفضيل و { احكم } من الأحكام { وربنا الرحمن } كثير الرحمة على خلقه { المستعان } المطلوب منه المعونة { على ما تصفون } من الحال بأن الشوكة تكون لهم وأن راية الإسلام تخفق أياما ثم تسكن وأن الموعد به لو كان حقا لنزل بهم فأجاب الله تعالى دعوة رسوله صلى الله عليه و سلم فخيب أمانيهم ونصر رسوله صلى الله عليه و سلم عليهم وقرئ بالياء [ وعن النبي صلى الله عليه و سلم من قرأ اقترب حاسبه الله حسابا يسيرا وصافحه وسلم عليه كل نبي ذكر اسمه في القرآن ] والله تعالى أعلم

1 - { يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة } تحريكها للأشياء على الإسناد المجازي أو تحريك الأشياء فيها فأضيفت إليها إضافة معنوية بتقدير في أو إضافة المصدر إلى الظرف على إجرائه مجرى المفعول به وقيل هي زلزلة تكون قبيل طلوع الشمس من مغربها وإضافتها إلى الساعة لأنها من أشراطها { شيء عظيم } هائل علل أمرهم بالتقوى بفظاعة الساعة ليتصوروها بعقولهم ويعلموا أنه لا يؤمنهم منها سوى التدرع بلباس التقوى فيبقوا على أنفسهم ويتقوها بملازمة التقوى

2 - { يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت } تصوير لهولها والضمير للـ { زلزلة } و { يوم } منصوب بـ { تذهل } وقرئ { تذهل } مجهولا ومعروفا أي تذهلها الزلزلة والذهول الذهاب عن الأمر بدهشة والمقصود الدلالة على أن هولها بحيث إذا دهشت التي ألقمت الرضيع ثديها نزعنه من فيه وذهلت عنه و { ما } موصولة أو مصدرية { وتضع كل ذات حمل حملها } جنينها { وترى الناس سكارى } كأنهم سكارى { وما هم بسكارى } على الحقيقة { ولكن عذاب الله شديد } فأرهقهم هوله بحيث طير عقولهم وأذهب تمييزهم وقرئ { ترى } من أريتك قائما أو رؤيت قائما بنصب الناس ورفعه على أنه نائب مناب الفاعل وتأنيثه على تأويل الجماعة وإفراده بعد جمعه لأن الزلزلة يراها الجميع وأثر السكر إنما يراه كل أحد على غيره وقرأ حمزة و الكسائي ( سكرى ) كعطش إجراء للسكر مجرى العلل

3 - { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم } نزلت في النضر بن الحارث وكان جدلا يقول الملائكة بنات الله والقرآن أساطير الأولين ولا بعث بعد الموت هي تعمه وأضرابه { ويتبع } في المجادلة أو في عامة أحواله { كل شيطان مريد } متجرد للفساد وأصله العري

4 - { كتب عليه } على الشيطان { أنه من تولاه } تبعه والضمير للشأن { فأنه يضله } خبر لمن أو جواب له والمعنى كتب عليه إضلال من يتولاه لأنه جبل عليه وقرئ بالفتح على تقدير فشأنه أنه يضله لا على العطف فإنه يكون بعد تمام الكلام وقرئ بالكسر بالموضعين على حكاية المكتوب أو إضمار القول أو تضمين الكتب معناه { ويهديه إلى عذاب السعير } بالحمل على ما يؤدي إليه

5 - { يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث } من إمكانه وكونه مقدورا وقرئ { من البعث } بالتحريك كالجلب { فإنا خلقناكم } أي فانظروا في بدء خلقكم فإنه يزيح ريبكم فإنا خلقناكم { من تراب } بخلق آدم منه أو الأغذية التي يتكون منها المني { ثم من نطفة } مني من النطف وهو الصب { ثم من علقة } قطعة من الدم جامدة { ثم من مضغة } قطعة من اللحم وهي في الأصل قدر ما يمضغ { مخلقة وغير مخلقة } مسواة لا نقص فيها ولا عيب وغير مسواة أو تامة وساقطة أو مصورة وغير مصورة { لنبين لكم } بهذا التدريج قدرتنا وحكمتنا وأن ما قبل التغير والفساد والتكون مرة قبلها أخرى وأن من قدر على تغييره وتصويره أولا قدر على ذلك ثانيا وحذف المفعول إيماء إلى أن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وحكمته ما لا يحيط به الذكر { ونقر في الأرحام ما نشاء } أن نقره { إلى أجل مسمى } هو وقت الوضع وأدناه بعد ستة أشهر وأقصاه أربع سنين وقرئ ( ونقره ) بالنصب وكذا قوله : { ثم نخرجكم طفلا } عطفا على ( نبين ) كأن خلقهم مدرجا لغرضين تبيين القدرة وتقريرهم في الأرحام حتى يولدوا وينشؤوا ويبلغوا حد التكليف وقرئا بالياء رفعا ونصبا ويقر بالياء { ونقر } من قررت الماء إذا صببته و { طفلا } حال أجريت على تأويل كل واحد أو للدلالة على الجنس أو لأنه في الأصل مصدر { ثم لتبلغوا أشدكم } كمالكم في القوة والعقل جمع شدة كالأنعم جمع نعمة كأنها شدة في الأمور { ومنكم من يتوفى } عند بلوغ الأشد أو قبله وقرىء { يتوفى } أو يتوفاه الله تعالى { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } وهو الهرم والخرف وقرئ بسكون الميم { لكيلا يعلم من بعد علم شيئا } ليعود كهيئته الأولى في أوان الطفولية من سخافة العقل وقلة الفهم فينسى ما عمله وينكر ما عرفه والآية استدلال ثان على إمكان البعث بما يعتري الإنسان في أسنانه من الأمور المختلفة والأحوال المتضادة فإن من قدر على ذلك قدر على نظائره { وترى الأرض هامدة } ميتة يابسة من همدت النار إذا صارت رمادا { فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت } تحركت بالنبات { وربت } وانتفخت وقرئ ( وربأت ) أي ارتفعت { وأنبتت من كل زوج } من كل صنف { بهيج } حسن رائق وهذه دلالة ثالثة كررها الله تعالى في كتابه لظهورها وكونها مشاهدة

6 - { ذلك } إشارة إلى ما ذكر من خلق الإنسان في أطوار مختلفة وتحويله على أحوال متضادة وإحياء الأرض بعد موتها وهو مبتدأ خبره : { بأن الله هو الحق } أي بسبب أنه الثابت في نفسه الذي به تتحقق الأشياء { وأنه يحيي الموتى } وأنه يقدر على إحيائها وإلا لما أحيا النطفة والأرض الميتة { وأنه على كل شيء قدير } لأن قدرته لذاته الذي نسبته إلى الكل على سواء فلما دلت المشاهدة على قدرته على إحياء بعض الأموات لزم اقتداره على إحياء كلها

7 - { وأن الساعة آتية لا ريب فيها } فإن التغير من مقدمات الانصرام وطلائعه { وأن الله يبعث من في القبور } بمقتضى وعده الذي لا يقبل الخلف

8 - { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم } تكرير للتأكيد ولما نيط به من الدلالة بقوله : { ولا هدى ولا كتاب منير } على أنه لا سند له عن استدلال أو وحي أو الأول في المقلدين وهذا في المقلدين والمراد بالعلم العلم الفطري ليصح عطف الـ { هدى } والـ { كتب عليه }

9 - { ثاني عطفه } متكبرا وثنى العطف كناية عن التكبر كلي الجيد أو معرضا عن الحق استخفافا به وقرئ بفتح العين أي مانع تعطفه { ليضل عن سبيل الله } علة للجدال وقرأ ابن كثير و أبو عمرو و رويس بفتح الياء على أن إعراضه عن الهدى المتمكن منه بالإقبال على الجدال الباطل خروج من الهدى إلى الضلال وأنه من حيث مؤداه كالغرض له { له في الدنيا خزي } وهو ما أصابه يوم بدر { ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق } المحروق وهو النار

10 - { ذلك بما قدمت يداك } على الالتفات أو إرادة القول أي يقال له يوم القيامة ذلك الخزي والتعذيب بسبب ما اقترفته من الكفر والمعاصي { وأن الله ليس بظلام للعبيد } وإنما هو مجاز لهم على أعمالهم والمبالغة لكثرة العبيد

11 - { ومن الناس من يعبد الله على حرف } على طرف من الدين لا ثبات له فيه كالذي يكون على طرف الجيش فإن أحسن بظفر قر وإلا فر { فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه } روي أنها نزلت في أعاريب قدموا المدينة فكان أحدهم إذا صح بدنه ونتجت فرسه مهرا سريا وولدت امرأته غلاما سويا وكثر ماله وماشيته قال : ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلا خيرا واطمأن وإن كان الأمر بخلافه قال ما أصبت إلا شرا وانقلب وعن أبي سعيد [ أن يهوديا أسلم فأصابته مصائب فتشاءم بالإسلام فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : أقلني فقال إن الإسلام لا يقال فنزلت ] { خسر الدنيا والآخرة } بذهاب عصمته وحبوط عمله بالارتداد وقرئ ( خاسرا ) بالنصب على الحال والرفع على الفاعلية ووضع كالظاهر موضع الضمير تنصيصا على خسرانه أو على أنه خبر محذوف { ذلك هو الخسران المبين } إذ لا خسران مثله

12 - { يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه } يعبد جمادا لا يضر بنفسه ولا ينفع { ذلك هو الضلال البعيد } عن المقصد مستعار من ضلال من أبعد في التيه ضالا

13 - { يدعو لمن ضره } بكونه معبودا لأنه يوجب القتل في الدنيا والعذاب في الآخرة { أقرب من نفعه } الذي يتوقع بعبادته وهو الشفاعة والتوسل بها إلى الله تعالى واللام معلقة لـ { يدعو } من حيث إنه بمعنى يزعم والزعم قول مع اعتقاد أو داخلة على الجملة الواقعة مقولا إجراء له مجرى قول : أي يقول الكافر ذلك بدعاء وصراخ حين يرى استضراره به أو مستأنفة على أن يدعو تكرير للأول ومن مبتدأ خبره { لبئس المولى } الناصر { ولبئس العشير } الصاحب

14 - { إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إن الله يفعل ما يريد } من إثابة الموحد الصالح وعقاب المشرك الطالح لا دافع له ولا مانع

15 - { من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة } كلام فيه اختصار والمعنى : أن الله ناصر رسوله في الدنيا والآخرة فمن كانت يظن خلاف ذلك ويتوقعه من غيظه وقيل المراد بالنصر الرزق والضمير لمن { فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع } فليستقص في إزالة غيظه أو جزعه بأن يفعل كل ما يفعله الممتلئ غيظا أو المبالغ جزعا حتى يمد حبلا إلى سماء بيته فيختنق من قطع إذا اختنق فإن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه وقيل فليمدد حبلا إلى سماء الدنيا ثم ليقطع به المسافة حتى يبلغ عنانها فيجتهد في دفع نصره أو تحصيل رزقه وقرأ ورش و أبو عمرو و ابن عامر ( ليقطع ) بكسر اللام { فلينظر } فليتصور في نفسه { هل يذهبن كيده } فعله ذلك وسماه على الأول كيدا لأنه منتهى ما يقدر عليه { ما يغيظ } غيظه أو الذي يغيظه من نصر الله وقيل نزلت في قوم مسلمين استبطأوا نصر الله لاستعجالهم وشده غيظهم على المشركين

16 - { وكذلك } ومثل ذلك الإنزال { أنزلناه } أنزلنا القرآن كله { آيات بينات } واضحات { وأن الله يهدي } به أو يثبت على الهدى { من يريد } هدايته أو إثباته أنزله كذلك مبينا

17 - { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة } بالحكومة بينهم وإظهار المحق منهم على المبطل أو ا لجزاء فيجازي كلا ما يليق به ويدخله المحل المعد له وإنما أدخلت إن على كل واحد من طرفي الجملة لمزيد التأكيد { إن الله على كل شيء شهيد } عالم به مراقب لأحواله

18 - { ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض } يتسخر لقدرته ولا يتأتى عن تدبيره أو يدل بذلته على عظمة مدبره ومن يجوز أن يعم أولي العقل وغيرهم على التغليب فيكون قوله : { والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب } إفرادا لها بالذكر لشهرتها واستبعاد ذلك منها وقرئ { والدواب } بالتخفيف كراهة التضعيف أو الجمع بين الساكنين { وكثير من الناس } عطف عليها إن جوز إعمال اللفظ الواحد في كل واحد من مفهومية وإسناده باعتبار أحدهما إلى أمر وباعتبار الآخر إلى آخر فإن تخصيص الكثير يدل على خصوص المعنى المسند إليهم أو مبتدأ خبره محذوف يدل عليه خبر قسيمه نحو حق له الثواب أو فاعل فعل مضمر أي ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة { وكثير حق عليه العذاب } بكفره وإبائه عن الطاعة ويجوز أن يجعل ( وكثيرا ) تكريرا للأول مبالغة في تكثير المحقوقين بالعذاب وأن يعطف به على الساجدين بالمعنى العام موصوفا بما بعده وقرىء { حق } بالضم و ( حقا ) بإضمار فعله { ومن يهن الله } بالشقاوة { فما له من مكرم } يكرمه بالسعادة وقرئ بالفتح بمعنى الإكرام { إن الله يفعل ما يشاء } من الإكرام والإهانة

19 - { هذان خصمان } أي فوجان مختصمان ولذلك قال : { اختصموا } حملا على المعنى ولو عكس لجاز والمراد بهما المؤمنون والكافرون { في ربهم } في دينه أو في ذاته وصفاته وقيل تخاصمت اليهود والمؤمنون فقال اليهود : نحن أحق بالله وأقدم منكم كتابا ونبيا قبل نبيكم وقال المؤمنون : نحن أحق بالله آمنا بمحمد ونبيكم وبما أنزل الله من كتاب وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم كفرتم به حسدا فنزلت { فالذين كفروا } فصل لخصومتهم وهو المعني بقوله تعالى : { إن الله يفصل بينهم يوم القيامة } { قطعت لهم } قدرت لهم على مقادير جثثهم وقرئ بالتخفيف { ثياب من نار } نيران تحيط بهم إحاطة الثياب { يصب من فوق رؤوسهم الحميم } حالم من الضمير في { لهم } أو خبر ثان والحميم الماء الحار

20 - { يصهر به ما في بطونهم والجلود } أي يؤثر من فرط حرارته في بطونهم تأثيره في ظاهرهم فتذاب به أحشاؤهم كما تذاب به جلودهم والجملة حال من { الحميم } أو من ضميرهم وقرئ بالتشديد للتكثير

21 - { ولهم مقامع من حديد } سياط منه يجلدون بها وجمع مقمعة وحقيقتها ما يقمع به أي يكف بعنف

22 - { كلما أرادوا أن يخرجوا منها } من النار { من غم } من عمومها بدل من الهاء بإعادة الجار { أعيدوا فيها } أي فخرجوا أعيدوا لأن الإعادة لا تكون إلا بعد الخروج وقيل يضربهم لهيب النار فيرفعهم إلى أعلاها فيضربون بالمقامع فيهوون فيها { وذوقوا } أي وقيل لهم ذوقوا { عذاب الحريق } أي النار البالغة في الإحراق

23 - { إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار } غير الأسلوب فيه وأسند الإدخال إلى الله تعالى وأكده بإن إحمادا لحال المؤمنين وتعظيما لشأنهم { يحلون فيها } من حليت المرأة إذا ألبستها الحلى وقرىء بالتخفيف والمعنى واحد { من أساور } صفة مفعول محذوف { أساور } جمع أسورة وهو جمع سوار { من ذهب } بيان له { ولؤلؤا } عطف عليها لا على { ذهب } لأنه لم يعهد السوار منه إلا أن يراد المرصعة به ونصبهم نافع و عاصم عطفا على محلها أو إضمار الناصب مثل ويؤتون وقرئ ( لؤلؤا ) بقلب الثانية واوا و ( لوليا ) بقلبهما و ( لوين ) ثم تقلب الثانية ياء و ( ليليا ) بقلبهما ياءين و ( لول ) كأدل { ولباسهم فيها حرير } غير أسلوب الكلام فيه للدلالة على أن الحرير ثيابهم المعتادة أو للمحافظة على هيئة الفواصل

24 - { وهدوا إلى الطيب من القول } وهو قولهم { الحمد لله الذي صدقنا وعده } أو كلمة التوحيد { وهدوا إلى صراط الحميد } المحمود نفسه أو عاقبته وهو الجنة أو الحق أو المستحق لذاته الحمد وهو الله سبحانه وتعالى وصراطه الإسلام

25 - { إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله } لا يريد به حالا ولا استقبالا وإنما يريد به استمرار الصد منهم كقولهم : فلان يعطي ويمنع ولذلك حين عطفه على الماضي وقيل هو حال من فاعل { كفروا } وخبر { إن } محذوف دل عليه آخر الآية أي معذبون { والمسجد الحرام } عطف على اسم الله وأوله الحنفية بمكة واستشهدوا بقوله : { الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد } أي المقيم والطارئ على عدم جواز بيع دورها وإجارتها وهو مع ضعفه معارض بقوله تعالى : { الذين أخرجوا من ديارهم } وشراء عمر رضي الله تعالى عنه دار السجن فيها من غير نكير و { سواء } خبر مقدم والجملة مفعول ثان لـ { جعلناه } إن جعل { للناس } حالا من الهاء وإلا فحال من المستكن فيه ونصبه حفص على أنه المفعول أو الحال و { العاكف } مرتفع به وقرىء { العاكف } بالجر على أنه بدل من الناس { ومن يرد فيه } مما ترك مفعوله ليتناول كل متناول وقرئ بالفتح من الورود { بإلحاد } عدول عن القصد { بظلم } بغير حق وهما حالان مترادفان أو الثاني بدل من الأول بإعادة الجار أو صلة له : أي ملحدا بسبب الظلم كالإشراك واقتراف الآثام { نذقه من عذاب أليم } جواب لـ { من }

26 - { وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت } أي واذكر إذ عيناه وجعلناه له مباءة وقيل اللام زائدة ومكان ظرف أي وإذ أنزلناه فيه قيل رفع البيت إلى السماء وانطمس أيام الطوفان فأعلمه الله مكانه بريح أرسله فكنست ما حوله فبناه على أسه القديم { أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود } { أن } مفسرة لـ { بوأنا } من حيث إنه تضمن معنى تعبدنا لأن التبوئة من أجل العبادة أو مصدرية موصولة بالنهي أي : فعلنا ذلك لئلا تشرك بعبادتي وطهر بيتي من الأوثان والأقذار لمن يطوف به ويصلي فيه ولعله عبر عن الصلاة بأركانها للدلالة على أن كل واحد منها مستقل باقتضاء ذلك كيف وقد اجتمعت وقرئ { يشرك } بالياء وقرأ نافع و حفص وهشام { بيتي } بفتح الياء

27 - { وأذن في الناس } ناد فيهم وقرئ ( وآذن ) { بالحج } بدعوة الحج والأمر به [ روي أنه عليه الصلاة و السلام صعد أبا قبيس فقال : يا أيها الناس حجوا بيت ربكم فأسمعه الله من أصلاب الرجال وأرحام النساء فيما بين المشرق والمغرب ممن سبق في علمه أن يحج ] وقيل الخطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم أمر بذلك في حجة الوداع { يأتوك رجالا } مشاة جمع راجل كقائم وقيام وقرئ بضم الراء مخفف الجيم ومثقله ورجالى كعجالى { وعلى كل ضامر } أي وركبانا على كل بعير مهزل أتعبه بعد السفر فهزله { يأتين } صفة لـ { ضامر } محمولة على معناه وقرئ ( يأتون ) صفة للرجال والركبان أو استئناف فيكون الضمير لـ { الناس } { من كل فج } طريق { عميق } بعيد وقرئ ( معيق ) يقال بئر بعيدة العمق والمعق بمعنى

28 - { ليشهدوا } ليحضروا { منافع لهم } دينية ودنيوية وتنكيرها لأن المراد بها نوع من المنافع مخصوص بهذه العبادة { ويذكروا اسم الله } عند إعداد الهدايا والضحايا وذبحها وقيل كنى بالذكر عن النحر لأن ذبح المسلمين لا ينفك عنه تنبيها على أنه المقصود مما بتقرب به إلى الله تعالى { في أيام معلومات } هي عشر ذي الحجة وقيل أيام النحر { على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } علق الفعل بالمروزق وبينه بالبهيمة تحريضا على التقرب وتنبيها على مقتضى الذكر { فكلوا منها } من لحومها أمر بذلك إباحة وإزالة لما عليه أهل الجاهلية من التحرج فيه أو ندبا إلى مواساة الفقراء ومساواتهم وهذا في المتطوع به دون الواجب { وأطعموا البائس } الذي أصابه بؤس أي شدة { الفقير } المحتاج والأمر فيه للوجوب وقد قيل به في الأول

29 - { ثم ليقضوا تفثهم } ثم ليزيلوا وسخهم بقص الشارب والأظفار ونتف الإبط والاستحداد عند الإحلال { وليوفوا نذورهم } ما ينذرون من البر في حجهم وقيل مواجب الحج وقرأ أبو بكر بفتح الواو وتشيد الفاء { وليطوفوا } طواف الركن الذي به تمام التحلل فإنه قرينة قضاء التفث وقيل طواف الوداع وقرأ ابن عامر وحده بكسر اللام فيهما { بالبيت العتيق } القديم لأنه أول بيت وضع للناس أو المعتق من تتسلط الجبابرة فكم جبار رسا إليه ليهدمه فمنعه الله تعالى وأما الحجاج فإنما قصد إخراج ابن الزبير منه دون التسلط عليه

30 - { ذلك } خبر محذوف أي الأمر ذلك وهو وأمثاله تطلق للفصل بين كلامين { ومن يعظم حرمات الله } أحكامه وسائر ما لا يحل هتكه أو الحرم وما يتعلق بالحج من التكاليف وقيل الكعبة والمسجد الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام والمحرم { فهو خير له } فالتعظيم { خير له } { عند ربه } ثوابا { وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم } إلا المتلو عليكم تحريمه وهو ما حرم منهما لعارض : كالميتة وما أهل به لغير الله فلا تحرموا منها غير ما حرمه الله كالبحيرة والسائبة { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان كما تجتنب الأنجاس وهو غاية المبالغة في النهي عن تعظيمها والتنفير عن عبادتها { واجتنبوا قول الزور } تعميم بعد تخصيص فإن عبادة الأوثان رأس الزور كأنه لما حث على تعظيم الحرمات أتبعه ذلك ردا لما كانت الكفرة عليه من تحريم البحائر والسوائب وتعظيم الأوثان والافتراء على الله تعالى بأنه حكم بذلك وقيل شهادة الزور لما [ روي أنه عليه الصلاة و السلام قال عدلت شهادة الزور الإشراك بالله تعالى ثلاثا وتلا هذه الآية ] و { الزور } من الزور وهو الانحراف كما أن الإفك من الأفك وهو الصرف فإن الكذب منحرف مصروف عن الواقع

31 - { حنفاء لله } مخلصين له { غير مشركين به } وهما حالان من الواو { ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء } لأنه سقط من أوج الإيمان إلى حضيض الكفر { فتخطفه الطير } فإن الأهواء الرديئة توزع أفكاره وقرأ نافع وحده { فتخطفه } بفتح الخاء وتشديد الطاء { أو تهوي به الريح في مكان سحيق } بعيد فإن الشيطان قد طرح به في الضلالة وأو للتخيير كما قوله تعالى : { أو كصيب من السماء } أو للتنويع فإن من المشركين من لا خلاص له أصلا ومنهم من يمكن خلاصه بالتوبة لكن على بعد ويجوز أن يكون من التشبيهات المركبة فيكون المعنى : ومن يشرك بالله فقد هلكت نفسه هلاكا يشبه أحد الهلاكين

32 - { ذلك ومن يعظم شعائر الله } دين الله أو فرائض الحج ومواضع نسكه أو الهدايا لأنها من معالم الحج وهو أوفق لظاهر ما بعده وتعظيمها أن تختارها حسانا سمانا غالية الأثمان [ روي أنه صلى الله عليه و سلم أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب ] وأن عمر رضي الله تعالى عنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلثمائة دينار { فإنها من تقوى القلوب } فإن تعظيمها منه من أفعال ذوي تقوى القلوب فحذفت هذه المضافات والعائد إلى من وذكر القلوب لأنها منشأ التقوى والفجور أو الآمرة بهما

33 - { لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق } أي لكم فيها منافع درها ونسلها وصوفها وظهرها إلى أن تنحر ثم وقت نحرها منتهية إلى البيت أي ما يليه من الحرم و { ثم } تحتمل التراخي في الوقت والتراخي في الرتبة أي لكم فيها منافع دنيوية إلى وقت النحر وبعده منافع دينية أعظم منها وهو على الأولين إما متصل بحديث { الأنعام } والضمير فيه لها أو المراد على الأول لكم فيها منافع دينية تنتفعون بها إلى أجل مسمى هو الموت ثم محلها منتهية إلى البيت العتيق الذي ترفع إليه الأعمال أو يكون فيه ثوابها وهو البيت المعمور أو الجنة وعلى الثاني { لكم فيها منافع } التجارات في الأسواق إلى وقت المراجعة ثم وقت الخروج منها منتهية إلى الكعبة بالإحلال بطواف الزيارة

34 - { ولكل أمة } ولكل أهل دين { جعلنا منسكا } متعبدا أو قربانا يتقربون به إلى الله وقرأ حمزة و الكسائي بالكسر أي موضع نسك { ليذكروا اسم الله } دون غيره ويجعلوا نسيكتهم لوجهه علل الجعل به تنبيها على أن المقصود من المناسك تذكر المعبود { على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } عند ذبحها وفيه تنبيه على أن القربان يجب أن يكون نعما { فإلهكم إله واحد فله أسلموا } أخلصوا التقرب أو الذكر ولا تشوبوه بالإشراك { وبشر المخبتين } المتواضعين أو المخلصين فإن الإخبات صفتهم

35 - { الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } هيبة منه لإشراق أشعة جلاله عليها { والصابرين على ما أصابهم } من الكلف والمصائب { والمقيمي الصلاة } في أوقاتها وقرئ ( والمقيمي الصلاة ) على الأصل { ومما رزقناهم ينفقون } في وجوه الخير

36 - { والبدن } جمع بدنة كخشب وخشبة وأصله الضم وقد قرئ به وإنما سميت بها الإبل لعظم بدنها مأخوذة من بدن بدانة ولا يلزم من مشاركة البقرة لها في أجزائها عن سبعة [ بقوله عليه الصلاة و السلام البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة ] تناول اسم البدنة لها شرعا بل الحديث يمنع ذلك وانتصابه بفعل يفسره { جعلناها لكم } ومن رفعه جعله مبتدأ { من شعائر الله } من أعلام دينه التي شرعها الله تعالى { لكم فيها خير } منافع دينية ودنيوية { فاذكروا اسم الله عليها } بأن تقولوا عند ذبحها الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر اللهم منك وإليك { صواف } قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن وقرىء ( صوافن ) من صفن الفرس إذ قام على ثلاث وعلى طرف حافر الرابعة لأن البدنة تعقل إحدى يديها فتقوم على ثلاث وقرئ ( صوافنا ) بإبدال التنوين من حرف الإطلاق عند الوقف و ( صوافي ) أي خوالص لوجه الله و ( صوافي ) بسكون الياء على لغة من يسكن الياء مطلقا كقولهم : أعط القوس باريها { فإذا وجبت جنوبها } سقطت على الأرض وهو كناية عن الموت { فكلوا منها وأطعموا القانع } الراضي بما عنده وبما يعطى من غير مسألة ويؤيده قراءة ( القنع ) أو السائل من قنعت إليه قنوعا إذا خضعت له في السؤال { والمعتر } والمعترض بالسؤال وقرى ء ( والمعتري ) يقال عره وعراه واعتره واعتراه { كذلك } مثل ما وصفنا من نحرها قياما { سخرناها لكم } مع عظمهما وقوتها حتى تأخذوها منقادة فتعقلوها وتحبسوها صافة قوائمها ثم تطعنون في لباتها { لعلكم تشكرون } إنعامنا عليكم بالتقرب والإخلاص

37 - { لن ينال الله } لن يصيب رضاه ولن يقع منه موقع القبول { لحومها } المتصدق بها { ولا دماؤها } المهراقة بالنحر من حيث إنها لحوم ودماء { ولكن يناله التقوى منكم } ولكن يصيبه ما يصحبه من تقوى قلوبكم التي تدعوكم إلى تعظيم أمره تعالى والتقرب إله والإخلاص له وقيل كان أهل الجاهلية إذا ذبحوا القرابين لطخوا الكعبة بدمائها قربة إلى الله تعالى فهم به المسلمون فنزلت { كذلك سخرها لكم } كرره تذكيرا للنعمة وتعليلا له بقوله : { لتكبروا الله } أي لتعرفوا عظمته باقتداره على ما لا يقدر عليه غير ه فتوحدوه بالكبرياء وقيل هو التكبير عند الإحلال أو الذبح { على ما هداكم } أرشدكم إلى طريق تسخيرها وكيفية التقرب بها و { ما } تحتمل المصدرية والخبرية و { على } متعلقة بـ { لتكبروا } لتضمنه معنى الشكر { وبشر المحسنين } المخلصين فيما يأتونه ويذرونه

38 - { إن الله يدافع عن الذين آمنوا } غائلة المشركين وقرأ نافع و ابن عامر والكوفيون ( يدافع ) أي يبالغ في الدفع مبالغة من يغالب فيه { إن الله لا يحب كل خوان } في أمانة الله { كفور } لنعمته كمن يتقرب إلى الأصنام بذبيحته فلا يرتضي فعلهم ولا ينصرهم

39 - { أذن } رخص وقرأ ابن كثير و ابن عامر و حمزة و الكسائي على البناء للفاعل وهو الله { للذين يقاتلون } المشركين والمأذون فيه محذوف لدلالته عليه وقرأ نافع و ابن عامر و حفص بفتح التاء أي الذين يقاتلهم المشركون { بأنهم ظلموا } بسبب أنهم ظلموا وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كان المشركون يؤذونهم وكانوا يأتونه من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه فيقول لهم : اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر فأنزلت وهي أول آية نزلت في القتال بعدما نهي عنه في نيف وسبعين آية { وإن الله على نصرهم لقدير } وعد لهم بالنصر كما وعد بدفع أذى الكفار عنهم

40 - { الذين أخرجوا من ديارهم } يعني مكة { بغير حق } بغير موجب استحقوه به { إلا أن يقولوا ربنا الله } على طريقة قول النابغة :
( ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من راع الكتائب )
وقيل منقطع { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض } بتسليط المؤمنين منهم على الكافرين { لهدمت } لخربت باستيلاء المشركين على أهل الملل وقرأ نافع ( دفاع ) وقرأ نافع و ابن كثير { لهدمت } بالتخفيف { صوامع } صوامع الرهبانية { وبيع } بيع النصارى { وصلوات } كنائس اليهود سميت بها لأنها يصلى فيها وقيل أصلها صلوتا بالعبرانية فعربت { ومساجد } مساجد المسلمين { يذكر فيها اسم الله كثيرا } صفة للأربع أو لمساجد خصت بها تفضيلا { ولينصرن الله من ينصره } من ينصره دينه وقد أنجز وعده بأن سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرتهم وأورثهم أرضهم وديارهم { إن الله لقوي } على نصرهم { عزيز } لا يمانعه شيء

41 - { الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر } وصف للذين أخرجوا وهو ثناء قبل بلاء وفيه دليل على صحة أمر الخلفاء الراشدين إذ لم يستجمع ذلك غيرهم من المهاجرين وقيل بدل ممن ينصره { ولله عاقبة الأمور } فإن مرجعها لى حكمه وفيه تأكيد لما وعده

42 - ـ { وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود }

43 - { وقوم إبراهيم وقوم لوط }

43 - { وأصحاب مدين } تسلية له صلى الله عليه و سلم بأن قومه إن كذبوه فهو ليس بأوحدي في التكذيب فإن هؤلاء قد كذبوا رسلهم قبل قومه { وكذب موسى } غير فيه النظم وبنى الفعل للمفعول لأن قومه بنو إسرائيل ولم يكذبوه وإنما كذبه القبط ولأن تكذيبه كان أشنع وآياته كانت أعظم وأشيع { فأمليت للكافرين } فأمهلتهم حتى انصرمت آجالهم المقدرة { ثم أخذتهم فكيف كان نكير } أي إنكاري عليهم بتغيير النعمة محنة والحياة هلاكا والعمارة خرابا

45 - { فكأين من قرية أهلكناها } بإهلاك أهلها وقرأ البصريان بغير لفظ التعظيم { وهي ظالمة } أي أهلها { فهي خاوية على عروشها } ساقطة حيطانها على سقوفها بأن تعطل بنيانها فخرت سقوفها ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف أو خالة مع بقاء عروشها وسلامتها فيكون الجار متعلقا بـ { خاوية } ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر أي هي خالية وهي على عروشها أي : مطلة عليها بأن سقطت وبقيت الحيطان مائلة مشرفة عليها والجملة معطوفة على { أهلكناها } لا على { وهي ظالمة } فإنها حال والإهلاك ليس حال خوائها فلا محل لها إن نصبت كأي بمقدر يفسره { أهلكناها } وإن رفعته بالابتداء فمحلها الرفع { وبئر معطلة } عطف على { قرية } أي وكم بئر عامرة في البوادي تركت لا يستقى منها لهلاك أهلها وقرئ بالتخفيف من أعطله بمعنى عطله { وقصر مشيد } مرفوع أو مجصص أخليناه عن ساكنيه وذلك يقوي أن معنى { خاوية على عروشها } خالية مع بقاء عروشها وقيل المراد بـ { بئر } بئر في سفح جبل بحضر موت وبقصر قصر مشرف على قلته كانا لقوم حنظلة بن صفوان من قوم صالح فلما قتلوه أهلكهم الله تعالى وعطلهما

46 - { أفلم يسيروا في الأرض } حث لهم على أن يسافروا ليروا مصارع المهلكين فيعتبروا وهم وإن كانوا قد سافروا فلم يسافروا لذلك { فتكون لهم قلوب يعقلون بها } ما يجب أن يعقل من التوحيد بما حصل لهم من الاستبصار والاستدلال { أو آذان يسمعون بها } ما يجب أن يسمع من الوحي والتذكير بحال من شاهدوا آثارهم { فإنها } الضمير للقصة أو مبهم يفسره الأبصار وفي { تعمى } راجع إليه والظاهر أقيم مقامه { لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } عن الاعتبار أي ليس الخلل في مشاعرهم وإنما أيفت عقولهم باتباع الهوى والانهماك في التقليد وذكر { الصدور } للتأكيد ونفي التجوز وفضل التنبيه على أن العمى الحقيقي ليس المتعارف الذي يخص البصر قيل لما نزل { ومن كان في هذه أعمى } قال ابن أم مكتوم يا رسول الله أنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى فنزلت { فإنها لا تعمى الأبصار }

47 - { ويستعجلونك بالعذاب } المتوعد به { ولن يخلف الله وعده } لامتناع الخلف في خبره فيصيبهم ما أوعدهم به ولو بعد حين لكنه صبور لا يعجل بالعقوبة { وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون } بيان لتناهي صبره وتأنيه حتى استقصر المدد الطوال أو لتمادي عذابه وطول أيامه حقيقة أو من حيث إن أيام الشدائد مستطالة وقرأ ابن كثير و حمزة و الكسائي بالياء

48 - { وكأين من قرية } وكم من أهل قرية فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب ورجع للضمائر والأحكام مبالغة في التعميم والتهويل وإنما عطف الأولى بالفاء وهذه بالواو لأن الأولى بدل من قوله { فكيف كان نكير } وهذه في حكم مما تقدمها من الجملتين لبيان أن المتوعد به يحيق بهم لا محالة وأن تأخيره لعادته تعالى { أمليت لها } كما أمهلتكم { وهي ظالمة } مثلكم { ثم أخذتها } بالعذاب { وإلي المصير } وإلى حكمي مرجع الجميع

49 - { قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين } أوضح لكم ما أنذركم به والاقتصار على الإنذار مع عموم الخطاب وذكر الفريقين لأن صدر الكلام ومساقه للمشركين وإنما ذكر المؤمنين وثوابهم زيادة في غيظهم

50 - { فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة } لما بدر منهم { ورزق كريم } هي الجنة والـ { كريم } من كل نوع ما يجمع فضائله

51 - { والذين سعوا في آياتنا } بالرد والإبطال { معاجزين } مسابقين مشاقين للساعين فيها بالقبول والتحقيق ومن عاجزه فأعجزه وعجزه إذا سابقه فسبقه لأن كلا من المتسابقين يطلب إعجاز الآخر عن اللحوق به وقرأ ابن كثير و أبو عمرو { معجزين } على أنه حال مقدرة { أولئك أصحاب الجحيم } النار الموقدة وقيل اسم دركة

52 - { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي } الرسول من بعثه الله بشريعة مجددة يدعو الناس إليها والنبي يعمه ومن بعثه لتقرير شرع سابق كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهم السلام ولذلك شبه النبي صلى الله عليه و سلم علماء أمته بهم فالنبي أعم من الرسول ويدل عليه [ أنه عليه الصلاة و السلام سئل عن الأنبياء فقال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا قيل فكم الرسل منهم قال : ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا ] وقيل الرسول من جمع إلى المعجزة كتابا منزلا عليه والنبي غير الرسول من لا كتاب له وقيل الرسول من يأتيه الملك بالوحي والنبي يقال له ولمن يوحى إليه في المنام { إلا إذا تمنى } زور في نفسه ما يهواه { ألقى الشيطان في أمنيته } في تشهيه ما يوجب اشتغاله بالدنيا كما [ قال عليه الصلاة و السلام وإنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة ] { فينسخ الله ما يلقي الشيطان } فيبطله ويذهب به بعصمته عن الركون إليه والإرشاد إلى ما يزيحه { ثم يحكم الله آياته } ثم يثبت آياته الداعية إلى الاستغراق في أمر الآخرة { والله عليم } بأحوال الناس { حكيم } فيما يفعله بهم قيل حدث نفسه بزوال المسكنة فنزلت وقيل تمني لحرصه على إيمان قومه أن ينزل عليه ما يقربهم إليه واستمر به ذلك حتى كان قي ناديهم فنزلت عليه سورة ( والنجم ) فأخذ يقرؤها فلما بلغ { ومناة الثالثة الأخرى } وسوس إليه الشيطان حتى سبق لسانه سهوا إلى أن قال تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى ففرح به المشركون حتى شايعوه بالسجود لما سجد في آخرها بحيث لم يبق في المسجد مؤمن ولا مشرك إلا سجد ثم نبهه جبريل عليه السلام فاغتم لذلك فعزاه الله بهذه الآية وهو مردود عند المحققين وإن صح فابتلاء يتميز به الثابت على الإيمان عن المتزلزل فيه وقيل تمنى قرأ كقوله
( تمنى كتاب الله أول ليله ... تمني داود الزبور على رسل )
وأمنيته قراءته وإلقاء الشيطان فيها أن تكلم بذلك رافعا صوته بحيث ظن السامعون أنه من قراءة النبي صلى الله عليه و سلم وقد رد أيضا بأنه يخل بالوثوق على القرآن ولا يندفع بقوله { فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته } لأنه أيضا يحتمله والآية تدل على جواز السهو على الأنبياء وتطرق الوسوسة إليهم

53 - { ليجعل ما يلقي الشيطان } علة لتمكين الشيطان منه وذلك يدل على أن الملقى أمر ظاهر عرفه المحق والمبطل { فتنة للذين في قلوبهم مرض } شك ونفاق { والقاسية قلوبهم } المشركين { وإن الظالمين } يعني الفريقين فوضع الظاهر موضع ضميرهم قضاء عليهم بالظلم { لفي شقاق بعيد } عن الحق أو عن الرسول والمؤمنين

54 - { وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك } أن القرآن هو الحق النازل من عند الله أو تمكين الشيطان من الإلقاء هو الحق الصادر من الله لأنه مما جرت به عادته في الإنس من لدن آدم { فيؤمنوا به } بالقرآن أو بالله { فتخبت له قلوبهم } بالانقياد والخشية { وإن الله لهاد الذين آمنوا } فيما أشكل { إلى صراط مستقيم } هو نظر صحيح يوصلهم إلى ما هو الحق فيه

55 - { ولا يزال الذين كفروا في مرية } في شك { منه } من القرآن أو الرسول أو مما ألقى الشيطان في أمنيته يقولون ما باله ذكرها بخير ثم ارتد عنها { حتى تأتيهم الساعة } القيامة أو أشراطها أو الموت { بغتة } فجأة { أو يأتيهم عذاب يوم عقيم } يوم حرب يقتلون فيه كيوم بدر سمي به لأن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كالعقم أو لأن المقاتلين أبناء الحرب فإذا قتلوا صارت عقيما فوصف اليوم بوصفها اتساعا أو لأنه لا خير لهم فيه ومنه الريح العقيم لما لم تنشئ مطرا ولم تلقح شجرا أو لأنه لا مثل له لقتال الملائكة فيه أو يوم القيامة على أن المراد بـ { الساعة } غيره أو على وضعه موضع ضميرها للتهويل

56 - { الملك يومئذ لله } التنوين فيه ينوب عن الجملة التي دلت عليها الغاية أي : يوم تزول مريتهم { يحكم بينهم } بالمجازاة والضمير يعم المؤمنين والكافرين لتفصيله بقوله : { فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم }

57 - { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين } وإدخال الفاء في خبر الثاني دون الأول تنبيه على أن إثابة المؤمنين بالجنات تفضل من الله تعالى وأن عقاب الكافرين مسبب عن أعمالهم فلذلك قال { لهم عذاب } ولم يقل : هم في عذاب

58 - ـ { والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا } في الجهاد { أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا } الجنة ونعيمها وإنما سوى بين من قتل في الجهاد ومن مات حتف أنفه في الوعد لاستوائهما في القصد وأصل العمل روي أن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا : يا نبي الله هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله تعالى من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا فنزلت { وإن الله لهو خير الرازقين } فإنه يرزق بغير حساب

59 - ـ { ليدخلنهم مدخلا يرضونه } هو الجنة فيها ما يحبونه { وإن الله لعليم } بأحوالهم وأحوال معادهم { حليم } لا يعاجل في العقوبة

60 - ـ { ذلك } أي الأمر ذلك { ومن عاقب بمثل ما عوقب به } ولم يزد في الاقتصاص وإنما سمي الابتداء بالعقاب الذي هو الجزاء للازدواج أو لأنه سببه { ثم بغي عليه } بالمعاودة إلى العقوبة { لينصرنه الله } لا محالة { إن الله لعفو غفور } للمنتصر حيث اتبع هواه في الانتقام وأعرض عما ندب الله إليه بقوله ولمن صبر وغفران ذلك لمن عزم الأمور وفيه تعريض بالحث على العفو والمغفرة فإنه تعالى مع كمال قدرته وتعالي شأنه لما كان يعفو ويغفر فغيره بذلك أولى وتنبيه على أنه تعالى قادر على العقوبة إذ لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده

61 - { ذلك } أي ذلك النصر { بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل } بسبب أن الله تعالى قادر على تغليب الأمور بعضها على بعض جار عادته على المداولة بين الأشياء المتعاندة ومن ذلك إيلاج أحد الملوين في الآخر بأن يزيد فيه ما ينقص منه أو بتحصيل ظلمة الليل في مكان ضوء النهار بتغييب الشمس وعكس ذلك باطلاعها { وأن الله سميع } يسمع قول المعاقب والمعاقب { بصير } يرى أفعالهما فلا يهملهما

62 - ـ { ذلك } الوصف بكمال القدرة والعلم { بأن الله هو الحق } الثابت في نفسه الواجب لذاته وحده فإن وجوب وجوده ووحدته يقتضيان أن يكون مبدأ لكل ما يوجد سواه عالما بذاته وبما عداه أو الثابت الإلهية ولا يصلح لها إلا من كان قادرا عالما { وأن ما يدعون من دونه } إلها وقرأ ابن كثير و نافع و ابن عامر و أبو بكر بالتاء على مخاطبة المشركين وقرأ بالبناء للمفعول فتكون الواو لما فإنه في معنى الآلة { هو الباطل } المعدوم في حد ذاته أو باطل الألوهية { وأن الله هو العلي } على الأشياء { الكبير } على أن يكون له شريك لا شيء أعلى منه شأنا وأكبر منه سلطانا

63 - ـ { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء } استفهام تقرير ولذلك رفع { فتصبح الأرض مخضرة } عطف على { أنزل } إذ لو نصب جوابا لدل على نفي الاخضرار كما في قولك : ألم تر أني جئتك فتكرمني والمقصود إثباته وإنما عدل به عن صيغة الماضي للدلالة على بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان { إن الله لطيف } يصل علمه أو لطفه إلى كل ما جل ودق { خبير } بالتدابير الظاهرة والباطنة

64 - { له ما في السموات وما في الأرض } خلقا وملكا { وإن الله لهو الغني } في ذاته عن كل شيء { الحميد } المستوجب للحمد بصفاته وأفعاله

65 - { ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض } جعلها مذللة لكم معدة لمنافعكم { والفلك } عطف على { ما } أو على اسم { أن } وقرئ بالرفع على الابتداء { تجري في البحر بأمره } حال منها أو خبر { ويمسك السماء أن تقع على الأرض } من أن تقع أو كراهة بأن خلقها على صورة متداعية إلى الاستمساك { إلا بإذنه } إلا بمشيئته وذلك يوم القيامة وفيه رد لاستمساكها بذاتها فإنها مساوية لسائر الأجسام في الجسمية فتكون قابلة للميل الهابط قبول غيرها { إن الله بالناس لرؤوف رحيم } حيث هيأ لهم أسباب الاستدلال وفتح عليهم أبواب المنافع ودفع عنهم أنواع المضار

66 - { وهو الذي أحياكم } بعد أن كنتم جمادا عناصر ونطفا { ثم يميتكم } إذ جاء أجلكم { ثم يحييكم } في الآخرة { إن الإنسان لكفور } لجحود لنعم الله مع ظهورها

67 - { لكل أمة } أهل دين { جعلنا منسكا } متعبدا أو شريعة تعبدوا بها وقيل عيدا { هم ناسكوه } ينسكونه { فلا ينازعنك } سائر أرباب الملل { في الأمر } في أمر الدين أو النسائك لأنهم بين جهال وأهل عناد أو لأن أمر دينك أظهر من أن يقبل النزاع وقيل المراد نهي الرسول صلى الله عليه و سلم عن الالتفات إلى قولهم وتمكينهم من المناظرة المؤدية إلى نزاعهم فإنها إنما تنفع طالب الحق وهؤلاء أهل مراء أو عن منازعتهم قولك : لا يضار بك زيد وهذا إنما يجوز في أفعال المغالبة للتلازم وقيل نزلت في كفار خزاعة قالوا للمسلمين : ما لكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله وقرى { فلا ينازعنك } على تهييج الرسول والمبالغة في تثبيته على دينه على أنه من نازعته إذا غلبته { وادع إلى ربك } إلى توحيده وعبادته { إنك لعلى هدى مستقيم } طريق إلى الحق سوي

68 - { وإن جادلوك } وقد ظهر الحق ولزمت الحجة { فقل الله أعلم بما تعملون } من المجادلة الباطلة وغيرها فيجازيكم عليها وهو وعيد فيه رفق

69 - { الله يحكم بينكم } يفصل بين المؤمنين منكم والكافرين بالثواب والعقاب { يوم القيامة } كما فصل في الدنيا بالحجج والآيات { فيما كنتم فيه تختلفون } من أمر الدين

70 - { ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض } فلا يخفى عليه شيء { إن ذلك في كتاب } هو اللوح كتبه فيه قبل حدوثه فلا يهمنك أمرهم مع علمنا به وحفظنا له { إن ذلك } إن الإحاطة به وإثباته في اللوح المحفوظ أو الحكم بينكم { على الله يسير } لأن علمه مقتضى ذاته المتعلق بكل المعلومات على سواء

71 - { ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا } حجة تدل على جواز عبادته { وما ليس لهم به علم } حصل لهم من ضرورة العقل أو استدلاله { وما للظالمين } وما للذين ارتكبوا مثل هذا الظلم { من نصير } يقرر مذهبهم أو يدفع العذاب عنهم

72 - { وإذا تتلى عليهم آياتنا } من القرآن { بينات } واضحات الدلالة على العقائد الحقية والأحكام الإلهية { تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر } الانكار لفرك نكيرهم للحق وغيظهم لأباطيل أخذوها تقليدا وهذا منتهى الجهالة والإشعار بذلك وضع الذين كفروا موضع الضمير أو ما يقصدونه من الشر { يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا } يثبون ويبطشون بهم { قل أفأنبئكم بشر من ذلكم } من غيظكم على التالين وسطوتكم عليهم أو مما أصابكم من الضجر بسبب ما تلوا عليكم { النار } أي هو النار كأنه جواب سائل قال : ما هو ويجوز أن يكون مبتدأ خبره : { وعدها الله الذين كفروا } وقرئ بالنصب على الاختصاص وبالجر بدلا من شر فتكون الجملة استئنافا كما إذا رفعت خبرا أو حالا منها { وبئس المصير } النار

73 - { يا أيها الناس ضرب مثل } بين لكم حال مستغربة أو قصة رائعة ولذلك سماها مثلا أو جعل لله مثل أي مثل في استحقاق العبادة { فاستمعوا له } للمثل أو لشأنه استماع تدبر وتفكر { إن الذين تدعون من دون الله } يعني الأصنام وقرأ يعقوب بالياء وقرئ مبينا للمفعول والراجح إلى الموصول محذوف على الأولين { لن يخلقوا ذبابا } لا يقدرون على خلقه مع صغره لأن { لن } بما فيها من تأكيد والنفي دالة على منافاة ما بين المنفي والمنفي عنه و { الذباب } من الذب لأنه يذب وجمعه أذبة وذبان { ولو اجتمعوا له } أي للخلق هو بجوابه المقدر في موضع حال جيء به للمبالغة أي لا يقدرون على خلقه مجتمعين له متعاونين عليه فكيف إذا كانوا منفردين { وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه } جهلهم غاية التجهيل بأن أشركوا إلها قدر على المقدورات كلها وتفرد بإيجاد الموجودات بأسرها تماثيل هي أعجز الأشياء وبين ذلك بأنها لا تقدر على خلق أقل الأحياء وأذلها ولو اجتمعوا له بل لا تقوى على مقاومة هذا الأقل الأذل وتعجز عن ذبه عن نفسها واستنقاذ ما يختطفه من عندها قيل كانوا يطلونها بالطيب والعسل ويغلقون عليا الأبواب فيدخل الذباب من الكوى فيأكله { ضعف الطالب والمطلوب } عابد الصنم ومعبوده أو الذباب يطلب ما يسلب عن الصنم من الطيب والصنم يطلب الذباب منه السلب أو الصنم والذباب كأنه يطلبه ليستنقذ منه ما يسلبه ولو حققت وجدت الصنم أضعف بدرجات

74 - { ما قدروا الله حق قدره } ما عرفوه حق معرفته حيث أشركوا به وسموا باسمه ما هو أبعد الأشياء عنه مناسبة { إن الله لقوي } على خلق الممكنات بأسرها { عزيز } لا يغلبه شيء وآلهتهم التي يعبدونها عاجزة عن أقلها مقهورة من أذلها

75 - { الله يصطفي من الملائكة رسلا } يتوسطون بينه وبين الأنبياء بالوحي { ومن الناس } يدعون سائرهم إلى الحق ويبلغون إليهم ما نزل عليهم كأنه لما قرر وحدانيته في الألوهية ونفى أن يشاركه غيره في صفاتها بين أن له عبادا مصطفين للرسالة يتوسل بإجابتهم والاقتداء بهم إلى عبادة الله سبحانه وتعالى وهو أعلى المراتب ومنتهى الدرجات لمن سواه من الموجودات تقريرا للنبوة وتزييفا لقولهم { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } والملائكة بنات الله تعالى ونحو ذلك { إن الله سميع بصير } مدرك للأشياء كلها

سورة المؤمنون
76 - الأمور } وإليه ترجع الأمور كلها لأنه مالكها بالذات لا يسأل عما يفعل من الاصطفاء وغيره وهم يسألون

77 - { يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا } في صلاتكم أمرهم بهما لأنهم ما كانوا يفعلونها أول الإسلام أو صلوا وعبر عن الصلاة بهما لأنهما أعظم أركانها أو اخضعوا لله وخروا له سجدا { واعبدوا ربكم } بسائر ما تعبدكم به { وافعلوا الخير } وتحروا ما هو 0خير وأصلح فيما تأتون وتذرون كنوافل الطاعات وصلة الأرحام ومكارم الأخلاق { لعلكم تفلحون } أي افعلوا هذه كلها وأنتم راجون الفلاح غير متيقنين له واثقين على أعمالكم والآية آية سجدة عندنا لظاهر ما فيها من الأمر بالسجود [ ولقوله عليه الصلاة و السلام فضلت سورة الحج بسجدتين من لم يسجدهما فلا يقرؤها ]

78 - { وجاهدوا في الله } أي لله ومن أجله أعداء دينه الظاهرة كأهل الزيغ والباطنة كالهوى والنفس [ وعنه عليه الصلاة و السلام أنه رجع من غزوة تبوك فقال رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ] { حق جهاده } أي جهادا فيه حقا خالصا لوجهه فعكس وأضيف الحق إلى الجهاد مبالغة كقولك : هو حق عالم وأضيف الجهاد إلى الضمير اتساعا أو لأنه مختص بالله من حيث إنه مفعول لوجه الله تعالى ومن أجله { هو اجتباكم } اختاركم لدينه ولنصرته وفيه تنبيه على المقتضى للجهاد والداعي إليه وفي قوله : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } أي ضيق بتكليف ما يشتد القيام به عليكم إشارة إلى أنه لا مانع لهم عنه ولا عذر لهم في تركه أو إلى الرخصة في إغفال بعض ما أمرهم به حيث شق عليهم [ لقوله عيه الصلاة والسلام إذا أمرت بشيء فائتوا منه ما استطعتم ] وقيل ذلك بأن جعل لهم من كل ذنب مخرجا بأن رخص لهم في المضايق وفتح عليهم باب التوبة وشرع لهم باب الكفارات في حقوقه والأروش والديات في حقوق العباد { ملة أبيكم إبراهيم } منتصبة على المصدر بفعل دل عليه مضمون ما قبلها بحذف المضاف أي : وسع دينكم توسعة ملة أبيكم أو على الإغراء أو على الاختصاص وإنما جعله أباهم لأنه أبو رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو كالأب لأمته من حيث إنه سبب لحياتهم الأبدية ووجودهم على الوجه المعتد به في الآخرة أو لأن أكثر العرب كانوا من ذريته فغلبوا على غيرهم { هو سماكم المسلمين من قبل } من قبل القرآن في الكتب المتقدمة { وفي هذا } وفي القرآن والضمير لله تعالى ويدل عليه أنه قرئ ( الله سماكم ) أو لـ { إبراهيم } وتسميتهم بمسلمين في القرآن وإن لم تكن منه كانت بسبب تسميته من قبل في قوله { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } وقيل وفي هذا تقديره وفي هذا بيان تسميته إياكم مسلمين { ليكون الرسول } يوم القيامة متعلق بسماكم { شهيدا عليكم } بأنه بلغكم فيدل على قبول شهادته لنفسه اعتمادا على عصمته أو بطاعة من أطاع وعصيان من عصى { وتكونوا شهداء على الناس } بتبليغ الرسل إليهم { فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } فتقربوا إلى الله تعالى بأنواع الطاعات لما خصكم بهذا الفضل والشرف { واعتصموا بالله } وثقوا به في مجامع أموركم ولا تطلبوا الإعانة والنصرة إلا منه { هو مولاكم } ناصركم ومتولي أموركم { فنعم المولى ونعم النصير } هو إذا لا مثل له سبحانه في الولاية والنصرة بل لا مولى ولا نصير سواه في الحقيقة [ عن النبي عليه الصلاة و السلام من قرأ سورة الحج أعطي من الأجر كحجة حجها وعمرة اعتمرها بعدد من حج واعتمر فيما مضى وفيما بقي ]

1 - { قد أفلح المؤمنون } قد فازوا بأمانيهم توقد تثبت المتوقع كما أن لما تنفيه وتدل على ثباته إذا دخلت على الماضي ولذلك تقربه من الحال ولما كان المؤمنون متوقعين ذلك من فضل الله صدرت بها بشارتهم وقرأ ورش عن نافع { قد أفلح } بإلقاء حركة الهمزة على الدال وحذفها وقرئ ( أفلحوا ) على لغة : أكلوني البراغيث أو على الإبهام والتفسير و { أفلح } بالضم اجتزاء بالضمة عن الواو و ( أفلح ) على البناء للمفعول

2 - { الذين هم في صلاتهم خاشعون } خائفون من الله سبحانه وتعالى متذللون له ملزمون أبصارهم مساجدهم [ روي أنه صلى الله عليه و سلم كان يصلي رافعا بصره إلى السماء فلما نزلت رمى ببصره نحو مسجده ] [ وأنه رأى رجلا يعبث بلحيته فقال : لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه ]

3 - { والذين هم عن اللغو } عما لا يعنيهم من قول أو فعل { معرضون } لما بهم من الجد ما شغلهم عنه وهو أبلغ من الذين لا يلهون من وجوه جعل الجملة اسمية وبناء الحكم على الضمير والتعبير عنه بالاسم وتقديم الصلة عليه وإقامة الإعراض مقام الترك ليدل على بعدهم عنه رأسا مباشرة وتسببا وميلا وحضورا فإن أصله أن يكون في عرض غير عرضه وكذلك قوله :

4 - { والذين هم للزكاة فاعلون } وصفهم بذلك بعد وصفهم بالخشوع في الصلاة ليدل على أنهم بلغوا الغاية في القيام على الطاعات البدنية والمالية والتجنب عن المحرمات وسائر ما توجب المروءة اجتنابه والزكاة تقع على المعنى والعين والمراد الأول لأن الفاعل فاعل الحدث لا المحل الذي هو موقعه أو الثاني على تقدير مضاف

5 - { والذين هم لفروجهم حافظون } لا يبذلونها

6 - { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } زوجاتهم أو سرياتهم و { على } صلة لـ { حافظون } من قولك احفظ على عنان فرسي أو حال أي حافظوها في كافة الأحوال إلا في حال التزوج أو التسري أو بفعل دل عليه غير ملومين وإنما قال : ما إجراء للماليك مجرى غير العقلاء إذ الملك أصل شائع فيه وإفراد ذلك بعد تعميم قوله : { والذين هم عن اللغو معرضون } لأن المباشرة أشهى الملاهي إلى النفس وأعظمها خطرا { فإنهم غير ملومين } الضمير لحافظون أو لمن دل عليه الاستثناء أي فإن بذلوها لأزواجهم أو إمائهم فإنهم غير ملومين على ذلك

7 - { فمن ابتغى وراء ذلك } المستثنى { فأولئك هم العادون } الكاملون في العدوان

8 - { والذين هم لأماناتهم وعهدهم } لما يؤتمنون عليه ويعاهدون من جهة الحق أو الخلق { راعون } قائمون بحفظها وإصلاحها وقرأ ابن كثير هنا وفي ( المعارج ) { لأماناتهم } على الإفراد ولأمن الإلباس أو لأنها في الأصل مصدر

9 - { والذين هم على صلواتهم يحافظون } يواظبون عليها ويؤدونها في أوقاتها ولفظ الفعل فيه لما في الصلاة من التجدد والتكرر ولذلك جمعه غير حمزة و الكسائي وليس ذلك تكريرا لما وصفهم به أولا فإن الخشوع في الصلاة غير المحافظة عليها وفي تصدير الأوصاف وختمها بأمر الصلاة تعظيم لشأنها

10 - { أولئك } الجامعون لهذه الصفات { هم الوارثون } الأحقاء بأن يسموا وراثا دون غيرهم

11 - { الذين يرثون الفردوس } بيان لما يرثونه وتقييد للوراثة بعد إطلاقها تفخيما لها وتأكيدا وهي مستعارة لاستحقاقهم الفردوس من أعمالهم وإن كان بمقتضى وعده مبالغة فيه وقيل إنهم يرثون من الكفار منازلهم فيها حيث فوتوها على أنفسهم لأنه تعلى خلق لكل إنسان منزلا في الجنة ومنزلا في النار { هم فيها خالدون } أنث الضمير لأنه اسم للجنة أو لطبقتها العليا

12 - { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة } من خلاصة سلت من بين الكدر { من طين } متعلق بمحذوف لأنه صفة لـ { سلالة } أو من بيانية أو بمعنى { سلالة } لأنها في معنى مسلولة فتكون ابتدائية كالأولى والإنسان آدم عليه الصلاة و السلام خلق من صفوة سلت من الطين أو الجنس فإنهم خلقوا من سلالات جعلت نطفا بعد أدوار وقيل المراد بالطين أدم لأنه خلق منه والسلالة نطفته

13 - { ثم جعلناه } ثم جعلنا نسله فحذف المضاف { نطفة } بأن خلقناه منها أو ثم جعلنا السلالة نطفة وتذكير الضمير على تأويل الجوهر أو المسلول أو الماء { في قرار مكين } مستقر حصين يعني الرحم وهو في الأصل صفة للمستقر وصف به المحل للمبالغة كما عبر عنه بالقرار

14 - { ثم خلقنا النطفة علقة } بأن أحلنا النطفة البيضاء علقة حمراء { فخلقنا العلقة مضغة } فصيرناها قطعة لحم { فخلقنا المضغة عظاما } بأن صلبناها { فكسونا العظام لحما } مما بقي من المضغة أو مما أنبتنا عليها مما يصل إليها واختلاف العواطف لتفاوت الاستحالات والجمع لاختلافها في الهيئة والصلابة وقرأ ابن عامر و أبو بكر على التوحيد فيهما اكتفاء باسم الجنس عن الجمع وقرى بإفراد أحدهما وجمع الآخر { ثم أنشأناه خلقا آخر } وهو صورة البدن أو الروح أو القوى بنفخة فيه أو المجموع و { ثم } لما بين الخلقين من التفاوت واحتج به أبو حنيفة على أن من غصب بيضة أفرخت عنده لزمه ضمان البيضة لا الفرخ لأنه خلق آخر { فتبارك الله } فتعالى شأنه في قدرته وحكمته { أحسن الخالقين } المقدرين تقديرا فحذف المميز لدلالة { الخالقين } عليه

15 - { ثم إنكم بعد ذلك لميتون } لصائرون إلى الموت لا محالة ولذلك ذكر النعت الذي للثبوت دون اسم الفاعل وقد قرئ به

16 - { ثم إنكم يوم القيامة تبعثون } للمحاسبة والمجازاة

17 - { ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق } سموات لأنها طورق بعضها فوق بعض مطارقة النعل بالنعل وكل ما فوقه مثله فهو طريقه أو لأنها طرق الملائكة أو الكواكب فيها مسيرها { وما كنا عن الخلق } عن ذلك المخلوق الذي هو السموات أو عن جميع المخلوقات { غافلين } مهملين أمرها بل نحفظها عن الزوال والاختلال وندبر أمرها حتى تبلغ منتهى ما قدر لها من الكمال حسبما اقتضته الحكمة وتعلقت به المشيئة

18 - { وأنزلنا من السماء ماء بقدر } بتقدير يكثر نفعه ويقل ضرره أو بمقدار ما علمنا من صلاحهم { فأسكناه } فجعلناه ثابتا مستقرا { في الأرض وإنا على ذهاب به } على إزالته بالإفساد أو التصعيد أو التعميق بحيث يتعذر استنباطه { لقادرون } كما كنا قادرين على إنزاله وفي تنكير { ذهاب } إيماء إلى كثرة طرقه ومبالغة في الإيعاد به ولذلك جعل أبلغ من قوله تعالى : { قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين }

19 - { فأنشأنا لكم به } بالماء { جنات من نخيل وأعناب لكم فيها } في الجنات { فواكه كثيرة } تتفكهون بها { ومنها } ومن الجنات ثمارها وزروعها { تأكلون } تغذيا أو ترزقون وتحصلون معايشكم من قولهم : فلان يأكل من حرفته ويجوز أن يكون الضميران للـ { نخيل } والـ { أعناب } أي لكم تفي ثمراتها أنواع من الفواكه الرطب والعنب والتمر والزبيب والعصير والدبس وغير ذلك وطعام تأكلونه

20 - { وشجرة } عطف على { جنات } وقرئت بالرفع على الابتداء أي : ومما أنشأنا لكم يه شجرة { تخرج من طور سيناء } جبل موسى عليه الصلاة و السلام بين مصر وأيلة وقيل بفلسطين وقد يقال له طور سينين ولا يخلو من أن يكون الطور للجبل وسيناء اسم بقعة أضيف إليها أو المركب منهما علم له كامرىء القيس ومنع صرفه للتعريف والعجمة أو التأنيث على تأويل البقعة لا للألف لأنه فيعال كديماس من السناء بالمد وهو الرفعة أو بالقصر وهو النور أو ملحق بفعلال كعلباء من السين إذ لا فعلاء بألف التأنيث بخلاف { سيناء } على قراءة الكوفيين والشامي و يعقوب فإنه فيعال ككيسان أو فعلاء كصحراء لا فعلال إذ ليس في كلامهم وقرئ بالكسر والقصر { تنبت بالدهن } أي تنبت ملتبسا بالدهن ومستصحبا له ويجوز أن تكون الباء صلة معدية لـ { تنبت } كما في قولك : ذهبت بزيد وقرأ ابن كثير و أبو عمرو و يعقوب في رواية { تنبت } وهو إما من أنبت بمعنى نبت كقول زهير :
( رأيت ذوي الحاجات عند بيوتهم ... فطينا لهم حتى إذا أنبت البقل )
أو على تقدير { تنبت } زيتونها ملتبسا بالدهن وقرئ على البناء للمفعول وهو كالأول وتثمر بالدهن وتخرج بالدهن وتخرج الدهن وتنبت بالدهان { وصبغ للآكلين } معطوف على الدهن جار على إعرابه عطف أحد وصفي الشيء على الآخر أي : تنبت بالشيء الجامع بين كونه دهنيا يدهن به ويسرج منه وكونه إداما يصبغ فيه الخبز أي : يغمس فيه للائتدام وقرئ ( وصباغ ) كدباغ في دبغ

21 - { وإن لكم في الأنعام لعبرة } تعتبرون بحالها وتستدلون بها { نسقيكم مما في بطونها } من الألبان أو من العلف فإن اللبن يتكون منه فمن للتبعيض أو للابتداء وقرأ نافع و ابن عامر و أبو بكر و يعقوب { نسقيكم } بفتح النون { ولكم فيها منافع كثيرة } في ظهورها وأصوافها وشعورها { ومنها تأكلون } فتنتفعون بأعيانها

22 - { وعليها } وعلى الأنعام فإن منها ما يحمل عليه كالإبل والبقر وقيل المراد الإبل لأنها هي المحمول عليها عندهم والمناسب للفلك فإنها سفائن البر قال ذو الرمة :
( سفينة بر تحت خدي زمامها )
فيكون الضمير فيه كالضمير في { وبعولتهن أحق بردهن } { وعلى الفلك تحملون } في البر والبحر

23 - { ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله } إلى آخر القصص مسوق لبيان كفران الناس ما عدد عليهم من النعم المتلاحقة وما حاق بهم من زوالها { ما لكم من إله غيره } استئناف لتعليل الأمر بالعبادة وقرأ الكسائي غيره بالجر على اللفظ { أفلا تتقون } أفلا تخافون أن يزيل عنكم نعمه فيهلككم ويعذبكم برفضكم عبادته إلى عبادة غيره وكفرانكم نعمه التي لا تحصونها

24 - { فقال الملأ } الأشراف { الذين كفروا من قومه } لعوامهم { ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم } أن يطلب الفضل عليكم ويسودكم { ولو شاء الله } أن يرسل رسولا { لأنزل ملائكة } رسلا { ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين } يعنون نوحا عليه السلام أي ما سمعنا به أنه نبي أو ما كلمهم به من الحث على عبادة الله سبحانه وتعالى ونفي إله غيره أم من دعوى النبوة وذلك إما لفرط عنادهم أو لأنهم كانوا في فترة متطاولة

25 - { إن هو إلا رجل به جنة } أي جنون ولأجله يقول ذلك { فتربصوا به } فاحتملوه وانتظروا { حتى حين } لعله يفيق من جنونه

26 - { قال } بعدما أيس من إيمانهم { رب انصرني } بإهلاكهم إو بإنجاز ما وعدتهم من العذاب { بما كذبون } بدل تكذيبهم إياي أو بسببه

27 - { فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا } بحفظنا نحفظه أن تخطئ فيه أو يفسده عليك مفسد { و وحينا } وأمرنا وتعليمنا كيف تصنع { فإذا جاء أمرنا } بالركوب أو نزول العذاب { وفار التنور } روي أنه قيل لنوح إذا فار الماء من التنور اركب أنت ومن معك فلما نبع الماء منه أخبرته امرأته فركب ومحله في مسجد الكوفة عن يمين الداخل مما يلي باب كندة وقيل عين وردة من الشام وفيه وجوه أخر ذكرتها في ( هود ) { فاسلك فيها } فادخل فيها يقال سلك فيه وسلك غيره قال تعالى { ما سلككم في سقر } { من كل زوجين اثنين } من كل أمتي الذكر والأنثى واحدين مزدوجين وقرأ حفص ( من كل ) بالتنوين أي من كل نوع زوجين واثنين تأكيد { وأهلك } وأهل بيتك أو من آمن معك { إلا من سبق عليه القول منهم } أي القول من الله تعالى بإهلاكه لكفره وإنما جيء بعلى لأن السابق ضار كما جيء باللام حيث كان نافعا في قوله تعالى : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } { ولا تخاطبني في الذين ظلموا } بالدعاء لهم بالإنجاء { إنهم مغرقون } لا محالة لظلمهم بالإشراك والمعاصي ومن هذا شأنه لا يشفع له ولا يشفع فيه كيف وقد أمره بالحمد على النجاة منهم بهلاكهم بقوله :

28 - { فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين } كقوله تعالى : { فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين }

29 - { وقل رب أنزلني } في السفينة أو في الأرض { منزلا مباركا } يتسبب لمزيد الخير في الدارين على قراءة أبي بكر وقرئ ( منزلا ) بمعنى إنزالا أو موضع إنزال { وأنت خير المنزلين } ثناء مطابق لدعائه أمره بأن يشفعه به مبالغة فيه وتوسلا به إلى الإجابة وإنما أفرده بالأمر والمعلق به أن يستوي هو ومن معه إظهارا لفضله وإشعارا بأن في دعائه مندوحة عن دعائهم فإنه يحيط بهم

30 - { إن في ذلك } فيما فعل بنوح وقومه { لآيات } يستدل بها ويعتبر أولو الاستبصار والاعتبار { وإن كنا لمبتلين } لمصيبين قوم نوح ببلاء عظيم أو ممتحنين عبادنا بهذه الآيات { وإن } هي المخففة واللام هي الفارقة

31 - { ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين } هم عاد أو ثمود

32 - { فأرسلنا فيهم رسولا منهم } هو هود أو صالح وإنما جعل القول موضع الإرسال ليدل على أنه لم يأتهم من مكان غير مكانهم وإنما أوحي إليه وهو بين أظهرهم { أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } تفسير لأرسلنا أي قلنا لهم على لسان الرسول اعبدوا الله { أفلا تتقون } عذاب الله

33 - { وقال الملأ من قومه الذين كفروا } لعله ذكر بالواو لأن كلامهم لم يتصل بكلام الرسول صلى الله عليه و سلم بخلاف قول قوم نوح حيث استؤنف به فعلى تقدير سؤال { وكذبوا بلقاء الآخرة } بلقاء ما فيها من الثواب والعقاب أو بمعادهم إلى الحياة الثانية بالبعث { وأترفناهم } ونعمناهم { في الحياة الدنيا } بكثرة الأموال والأولاد { ما هذا إلا بشر مثلكم } في الصفة والحالة { يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون } تقدير للمماثلة و ( ما ) خبرية والعائد إلى الثاني منصوب محذوف أو مجرور حذف مع الجار لدلالة ما قبله عليه

34 - { ولئن أطعتم بشرا مثلكم } فيما يأمركم به { إنكم إذا لخاسرون } حيث أذللتم أنفسكم و { إذا } جزاء للشرط وجواب للذين قاولوهم من قومه

35 - { أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما } مجردة عن اللحوم والأعصاب { أنكم مخرجون } من الأجداث أو من العدم تارة أخرى إلى الوجود و { أنكم } تكرير للأول أكد به لما طال الفصل بينه وبين خبره أو أنكم لمخرجون مبتدأ خبره الظرف المقدم أو فاعل للفعل المقدر جوابا للشرط والجملة خبر الأول أي : أنكم إخراجكم إذا متم أو إنكم إذا متم وقع إخراجكم ويجوز أن يكون خبر الأول محذوفا لدلالة خبر الثاني عليه لا أن يكون الظرف لأن اسمه جثة

36 - { هيهات هيهات } بعد التصديق أو الصحة { لما توعدون } أو بعدما توعدون واللام للبيان كما في { هيت لك } كأنهم لما صوتوا بكلمة الاستبعاد قيل : فما له هذا الاستبعاد ؟ قالوا : { لما توعدون } وقيل { هيهات } بمعنى البعد وهو مبتدأ خبره { لما توعدون } وقرئ بالفتح منونا للتكبير وبالضم منونا على أنه جمع هيهة وغير منون تشبيها بقبل وبالكسر على الوجهين وبالسكون على لفظ الوقف وبإبدال التاء هاء

37 - { إن هي إلا حياتنا الدنيا } أصله إن الحياة { إلا حياتنا الدنيا } فأقيم الضمير مقام الأولى لدلالة الثانية عليها حذرا عن التكرير وإشعارا بأن تعينها مغن عن التصريح بها كقوله :
( هي النفس ما حملتها تتحمل )
ومعناه لا حياة إلا هذه الحياة لأن { أن } نافية دخلت على { هي } التي في معنى الحياة الدالة على الجنس فكانت مثل لا التي تنفي ما بعدها نفي الجنس { نموت ونحيا } يموت بعضنا ويولد بعض { وما نحن بمبعوثين } بعد الموت

38 - { إن هو } ما هو { إلا رجل افترى على الله كذبا } فيما يدعيه من إرساله له وفيما يعدنا من البعث { وما نحن له بمؤمنين } بمصدقين

39 - { قال رب انصرني } عليهم وانتقم لي منهم { بما كذبون } بسبب تكذيبهم إياي

40 - { قال عما قليل } عن زمان قليل و ( ما ) صلة لتوكيد معنى القلة أو نكرة موصوفة { ليصبحن نادمين } على التكذيب إذا عاينوا العذاب

41 - { فأخذتهم الصيحة } صيحة جبريل صاح عليهم صيحة هائلة تصدعت منها قلوبهم فماتوا واستدل به على أن القوم صالح { بالحق } بالوجه الثالث الذي لا دافع له أو بالعدل من الله كقولك فلان يقضي بالحق أو بالوعد الصدق { فجعلناهم غثاء } شبههم في دمارهم بغثاء السيل وهو حميله كقول العرب : سال به الوادي لمن هلك { فبعدا للقوم الظالمين } يحتمل الإخبار والدعاء وبعدا مصدر بعد إذا هلك وهو من المصادر التي تنصب بأفعال لا يستعمل إظهارها واللام لبيان من دعي عليه بالبعد ووضع الظاهر موضع ضميرهم للتعليل

42 - { ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين } هي قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم

43 - { ما تسبق من أمة أجلها } الوقت الذي حد لهلاكها و { من } مزيدة للاستغراق { وما يستأخرون } الأجل

44 - { ثم أرسلنا رسلنا تترا } متواترين واحدا بعد واحد من الوتر وهو الفرد والتاء بدل من الواو كتولج وتيقور والألف للتأنيث لأن الرسل جماعة وقرأ أبو عمرو و ابن كثير بالتنوين على أنه مصدر بمعنى المواترة وقع حالا وأماله حمزة و ابن عامر و الكسائي { كلما جاء أمة رسولها كذبوه } إضافة الرسول مع الإرسال إلى المرسل ومع المجيء إلى المرسل إليهم لأن الإرسال الذي هو مبدأ الأمر منه والمجيء الذي هو منتهاه إليهم { فأتبعنا بعضهم بعضا } في الإهلاك { وجعلناهم أحاديث } لم نبق منهم إلا حكايات يسمر بها وهو اسم جمع للحديث أو جمع أحدوثة وهي ما يتحدث به تلهيا { فبعدا لقوم لا يؤمنون }

45 - { ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا } بالآيات التسع { وسلطان مبين } وحجة واضحة ملزمة للخصم ويجوز أن يراد به العصا وأفرادها لأنها أول المعجزات وأمها تعلقت بها معجزات شتى : كانقلابها حية وتلقفها ما أفكته السحرة وانفلاق البحر وانفجار العيون من الحجر بضربهما بها وحراستها ومصيرها شمعة وشجرة خضراء مثمرة ورشاء ودلوا وأن يراد به المعجزات وبالآيات الحجج وأن يراد بهما المعجزات فإنها آيات للنبوة وحجة بينة على ما يدعيه النبي صلى الله عليه و سلم

46 - { إلى فرعون وملئه فاستكبروا } على الإيمان والمتابعة { وكانوا قوما عالين } متكبرين

47 - { فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا } ثنى البشر لأنه يطلق للواحد كقوله { بشرا سويا } كما يطلق للجمع كقوله : { فإما ترين من البشر أحدا } ولم يثن المثل لأنه في حكم المصدر وهذه القصص كما نرى تشهد بأن قصارى شبه المنكرين للنبوة قياس حال الأنبياء على أحوالهم لما بينهم من المماثلة في الحقيقة وفساده يظهر للمستبصر بأدنى تأمل فإن النفوس البشرية وإن تشاركت في أصل القوى والإدراك لكنها متباينة الأقدام فيهما وكما ترى في جانب النقصان أغبياء لا يعود عليهم الفكر برادة يمكن أن يكون في طرف الزيادة أغنياء عن التفكر والتعلم في أكثر الأشياء وأغلب الأحوال فيدركون ما لا يدرك غيرهم ويعلمون ما لا ينتهي إليه علمهم وإليه أشار بقوله تعالى : { قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد } { وقومهما } يعني بني إسرائيل { لنا عابدون } خادمون منقادون كالعباد

48 - { فكذبوهما فكانوا من المهلكين } بالغرق في بحر قلزم

49 - { ولقد آتينا موسى الكتاب } التوراة { لعلهم } لعل بني إسرائيل ولا يجوز عود الضمير إلى { فرعون } وقومه لأن التوراة نزلت بعد إغراقهم { يهتدون } إلى المعارف والأحكام

50 - { وجعلنا ابن مريم وأمه آية } بولادتها إياه من غير مسيس فالآية أمر واحد مضاف إليهما أو { جعلنا ابن مريم } آية بأن تكلم في المهد وظهرت منه معجزات أخر { وأمه } آية بأن ولدت من غير مسيس فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها { وآويناهما إلى ربوة } أرض بيت المقدس فإنها مرتفعة أو دمشق أو رملة فلسطين أو مصر فإن قراها على الربى وقرأ ابن عامر و وعاصم بفتح الراء وقرىء ( رباوة ) بالضم والكسر { ذات قرار } مستقر من الأرض منبسطة وقيل ذات ثمار و زروع فإن ساكنيها يستقرون فيها لأجلها { ومعين } وماء معين ظاهر جار فعيل من معن الماء إذا جرى وأصله الإبعاد في الشيء أو من الماعون وهو المنفعة لأنه نفاع أو مفعول من عانه إذا أدركه بعينه لأنه لظهوره مدرك بالعيون وصف ماءها بذلك لأنه الجامع لأسباب التنزه وطيب المكان

51 - { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات } نداء وخطاب لجميع الأنبياء لا على أنهم خوطبوا بذلك دفعة لأنهم أرسلوا في أزمنة مختلفة بل على معنى أن كلا منهم خوطب به في زمانه فيدخل تحته عيسى دخولا أوليا ويكون ابتداء كلام تنبيها على أن تهيئة أسباب التنعم لم تكن له خاصة وأن إباحة الطيبات للأنبياء شرع قديم واحتجاجا على الرهبانية في رفض الطبيبات أو حكاية لما ذكر لعيسى وأمه عند إيوائهما إلى الربوة ليقتديا بالرسل في تناول ما رزقا وقيل النداء له ولفظ الجمع للتعظيم والطيبات ما يستلذ به من المباحات وقيل الحلال الصافي القوام فالحلال ما لا يعصى الله فيه والصافي ما لا ينسى الله فيه والقوام ما يمسك النفس ويحفظ العقل { واعملوا صالحا } فإنه المقصود منكم والنافع عند ربكم { إني بما تعملون عليم } فأجازيكم عليه

52 - { وإن هذه } أي ولأن { هذه } والمعلل به { فاتقون } أو واعلموا أن هذه وقيل إنه معطوف على { ما تعملون } وقرأ ابن عامر بالتخفيف والكوفيون بالكسر على الاستئناف { أمتكم أمة واحدة } ملتكم ملة واحدة أي متحدة في الاعتقاد وأصول الشرائع أو جماعتكم جماعة واحدة متفقة على الإيمان والتوحيد في العبادة ونصب { أمة } على الحال { وأنا ربكم فاتقون } في شق العصا ومخالفة الكلمة

53 - { فتقطعوا أمرهم بينهم } فتقطعوا أمر دينهم جعلوه أديانا مختلفة أو فتفرقوا وتحزبوا وأمرهم منصوب بنزع الخافض أو التمييز والضمير لما دل عليه الأمة من أربابها أولها { زبرا } قطعا جمع زبور الذي بمعنى الفرقة ويؤيده القراءة بفتح الباء فإنه جمع زبرة وهو حال من أمرهم أو من الواو أو مفعول ثان لـ { فتقطعوا } فإنه متضمن معنى جعل وقيل كتبا من زبرت الكتاب فيكون مفعولا ثانيا أو حالا من أمرهم على تقدير مثل كتب وقرئ بتخفيف الباء كرسل في { رسل } { كل حزب } من المتحزبين { بما لديهم } من الدين { فرحون } معجبون معتقدون أنهم على الحق

54 - { فذرهم في غمرتهم } في جهالتهم شبهها بالماء الذي يغمر القامة لأنهم مغمورون فيهما أو لاعبون بها وقرئ في ( غمراتهم ) { حتى حين } إلى أن يقتلوا أو يموتوا

55 - { أيحسبون أنما نمدهم به } أن ما نعطيهم ونجعله لهم مددا { من مال وبنين } بيان لما وليس خبرا له فإنه غير معاتب عليه وإنما المعاتب عليه اعتقادهم أن ذلك خير لهم خبره

56 - { نسارع لهم في الخيرات } والراجع محذوف والمعنى : أيحسبون أن الذي نمدهم به تسارع به لهم فيما فيه خيرهم وإكرامهم { بل لا يشعرون } بل هم كالبهائم لا فطنة لهم ولا شعور ليتأملوا فيه فيعلموا أن ذلك الإمداد استدراج لا مسارعة في الخير وقرئ ( يمدهم ) على الغيبة وكذلك ( يسارع ) و ( يسرع ) ويحتمل أن يكون فيهما ضمير الممد به و ( يسارع ) مبنيا للمفعول

57 - { إن الذين هم من خشية ربهم } من خوف عذابه { مشفقون } حذرون

58 - { والذين هم بآيات ربهم } المنصوبة والمنزلة { يؤمنون } بتصديق مدلولها

59 - { والذين هم بربهم لا يشركون } شركا جليا ولا خفيا

60 - { والذين يؤتون ما آتوا } يعطون ما أعطوه من الصدقات وقرىء ( يأتون مات أتوا ) أي يفعلون ما فعلوا من الطاعات { وقلوبهم وجلة } خائفة أن لا يقبل منهم وأن لا يقع على الوجه اللائ4ق فيؤاخذ به { أنهم إلى ربهم راجعون } لأن مرجعهم إليه أو من أن مرجعهم إليه وهو يعلم ما يخفي عليهم

61 - { أولئك يسارعون في الخيرات } يرغبون في الطاعات أشد الرغبة فيبادرونها أو يسارعون في نيل الخيرات الدنيوية الموعودة على صالح الأعمال بالمبادرة إليها كقوله تعالى : { فآتاهم الله ثواب الدنيا } فيكون إثباتا لهم ما نفي عن أضداهم { وهم لها سابقون } لأجلها فاعلون السبق أو سابقون الناس إلى الطاعة أو الثواب أو الجنة أو سابقونها أي ينالونها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا كقوله تعالى : { هم لها عاملون }

62 - { ولا نكلف نفسا إلا وسعها } قدر طاقتها يريد به التحريض على ما وصف به الصالحين وتسهيله على النفوس { ولدينا كتاب } يريد به اللوح أو صحيفة الأعمال { ينطق بالحق } بالصدق لا يوجد فيه ما يخالف الواقع { وهم لا يظلمون } بزيادة عقاب أو نقصان ثواب

63 - { بل قلوبهم } قلوب الكفرة { في غمرة } في غفلة غامرة لها { من هذا } من الذي وصف به هؤلاء أو كتاب الحفظة { ولهم أعمال } خبيثة { من دون ذلك } متجاوزة لما وصفوا به أو متخطية عما هم عليه من الشرك { هم لها عاملون } معتادون فعلها

64 - { حتى إذا أخذنا مترفيهم } متنعميهم { بالعذاب } يعني القتل يوم بدر أو الجوع حين [ دعا عليهم الرسول صلى الله عليه و سلم فقال اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف ] فقحطوا حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحرقة { إذا هم يجأرون } فاجئوا الصراخ بالاستغاثة وهو جواب الشرط والجملة مبتدأ بعد حتى ويجوز أن يكون الجواب :

65 - { لا تجأروا اليوم } فإنه مقدر بالقول أي قيل لهم { لا تجأروا اليوم } { إنكم منا لا تنصرون } تعليل للنهي أي لا تجأروا فإنه لا ينفعكم إذ لا تمنعون منا أو لا يلحقكم نصر ومعونة من جهتنا

66 - { قد كانت آياتي تتلى عليكم } يعني القرآن { فكنتم على أعقابكم تنكصون } تعرضون مدبرين عن سماعها وتصديقها والعمل بها والنكوص الرجوع قهقرى

67 - { مستكبرين به } الضمير للبيت وشهوة استكبارهم وافتخارهم بأنه قوامه أغنت عن سبق ذكره أو لآياتي فإنها بمعنى كتابي والباء متعلقة بـ { مستكبرين } لأنه بمعنى مكذبين أو لأن استكبارهم على المسلمين حدث بسبب استماعه أو بقوله : { سامرا } أي تسمرون بذكر القرآن والطعن فيه وهو في الأصل مصدر جاء على لفظ الفاعل كالعاقبة وقر ( سمرا ) جمع سامر { تهجرون } من الهجر بالفتح إما بمعنى القطيعة أو الهذيان أي تعرضون عن القرآن أو تهذون في شأنه أو الهجر بالضم أي الفحش ويؤيده الثاني قراءة نافع { تهجرون } من أهجر وقرئ { تهجرون } على المبالغة

68 - { أفلم يدبروا القول } أي القرآن ليعلموا أنه الحق من ربهم بإعجاز لفظه ووضوح مدلوله { أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين } من الرسول والكتاب أو من الأمن من عذاب الله تعالى فلم يخافوا كما خاف آباؤهم الأقدمون كإسماعيل وأعقابه فآمنوا به وبكتابه ورسله وأطاعوه

69 - { أم لم يعرفوا رسولهم } بالأمانة والصدق وحسن الخلق وكمال العلم مع عدم التعلم إلى غيره ذلك مما هو صفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام { فهم له منكرون } دعواه لأحد هذه الوجوه إذ لا وجه له غيرها فإن إنكار الشيء قطعا أو ظنا إنما يتجه إذا ظهر امتناعه بحسب النوع أو الشخص أو بحث عما يدل عليه أقصى ما يمكن فلم يوجد

70 - { أم يقولون به جنة } فلا يبالون بقوله وكانوا يعلمون أنه صلى الله عليه و سلم أرجحهم عقلا وأدقهم نظرا { بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون } لأنه يخالف شهواتهم وأهواءهم فلذلك أنكروه وإنما قيد الحكم بالأكثر لأنه كان منهم من ترك الإيمان استنكافا من توبيخ قومه أو لقلة فطنته وعدم فكرته لا كراهة للحق

71 - { ولو اتبع الحق أهواءهم } بأن كان في الواقع آلهة شتى { لفسدت السموات والأرض ومن فيهن } كما سبق تقريره في قوله تعالى : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } ويل لو اتبع الحق أهواءهم وانقلب باطلا لذهب ما قام به العالم فلم يبق أو لو اتبع الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه و سلم أهواءهم وانقلب شركا لجاء الله بالقيامة وأهلك العالم من فرط غضبه أو لو اتبع الله أهواءهم بأن أنزل ما يشتهونه من الشرك والمعاصي لخرج عن الألوهية ولم يقدر أن يمسك السموات والأرض وهو على أصل المعتزلة { بل أتيناهم بذكرهم } بالكتاب الذي هو ذكرهم أي وعظهم أو صيتهم أو الذكر الذي تمنوه بقوله { لو أن عندنا ذكرا من الأولين } وقرئ ( بذكراهم ) { فهم عن ذكرهم معرضون } لا يلتفتون إله

72 - { أم تسألهم } قيل إنه قسيم قوله { أم به جنة } { خرجا } أجرا على أداء الرسالة { فخراج ربك } رزقه في الدنيا أو ثوابه في العقبى { خير } لسعته ودوامه ففيه مندوحة لك عن عطائهم والخرج بإزاء الدخل يقال لكل ما تخرجه إلى غيرك والخراج غالب في الضريبة على الأرض ففيه إشعار بالكثرة واللزوم فيكون أبلغ ولذلك عبر به عن عطاء الله إياه وقرأ ابن عامر ( خرجا فخرج ) و حمزة و الكسائي ( خراجا فخراج ) للمزاوجة { وهو خير الرازقين } تقرير لخيرية خراجه تعالى 44

73 - { وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم } تشهد العقول السليمة على استقامته لا عوج فيه يوجب اتهامهم له واعلم أنه سبحانه ألزمهم الحجة وأزاح العلة في هذه الآيات بأن حصر أقسام ما يؤدي إلى الإنكار والاتهام وبين انتفاءها ما عدا كراهة الحق وقلة الفطنة

74 - { وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط } عن الصراط السوي { لناكبون } لعادلون عنه فإن خوف الآخرة أقوى البواعث على طلب الحق وسلوك طريقه

75 - { ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر } يعني القحط { للجوا } لثبتوا واللجاج التمادي في الشيء { في طغيانهم } إفراطهم في الكفر والاستكبار عن الحق وعداوة الرسول والمؤمنين { يعمهون } عن الهدى روي [ أنهم قحطوا حتى أكلوا العلهز فجاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك رحمة للعالمين قال بلى فقال : قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فنزلت ]

76 - { ولقد أخذناهم بالعذاب } يعني القتل يوم بدر { فما استكانوا لربهم } بل أقاموا على عتوهم واستكبارهم واستكان استفعل من الكون لأن المفتقر انتقل من كون إلى كون أو افتعل من السكون أشبعت فتحته { وما يتضرعون } وليس من عادتهم التضرع وهو استشهاد على ما قبله

77 - { حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد } يعي الجوع فإنه أشد من القتل والأسر { إذا هم فيه مبلسون } متحيرون آيسون من كل خير حتى جاءك أعتاهم يستعطفك

78 - { وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار } لتحسوا بها ما نصب من الآيات { والأفئدة } لتتفكروا فيها وتستدلوا بها إلى غير ذلك من المنافع الدينية والدنيوية { قليلا ما تشكرون } تشكرونها شكرا قليلا لأن العمدة في شكرها استعمالها فيما خلقت لأجله والإذعان لمانحها من غير إشراك و { ما } صلة للتأكيد

79 - { وهو الذي ذرأكم في الأرض } خلقكم وبثكم فيها بالتناسل { وإليه تحشرون } تجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم

80 - { وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار } ويختص به تعاقبهما لا يقدر على غيره فيكون ردا لنسبته إلى الشمس حقيقة أو لأمره وقضائه تعاقبهما أو انتقاص أحدهما وازدياد الآخر { أفلا تعقلون } بالنظر والتأمل أن الكل منا وأن قدرتنا تعم الممكنات كلها وأن البعث من جملتها وقرئ بالياء على أن الخطاب السابق لتغليب المؤمنين

81 - { بل قالوا } أي كفار مكة { مثل ما قال الأولون } آباؤهم ومن دان بدينهم

82 - { قالوا أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون } استبعادا ولم يتأملوا أنهم كانوا قبل ذلك أيضا ترابا فخلقوا

83 - { لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين } إلا أكاذيبهم التي كتبوها جمع أسطورة لأنه يستعمل فيما يتلهى به كالأعاجيب والأضاحيك وقيل جمع أسطار جمع سطر

84 - { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون } إن كنتم من أهل العلم أو من العالمين بذلك فيكون استهانة بهم وتقريرا لفرط جهالتهم حتى جهلوا مثل هذا الجلي الواضح إلزاما بما لا يمكن لمن له مسكة من العلم إنكاره ولذلك أخبر عن جوابهم قبل أن يجيبوا فقال :

85 - { سيقولون لله } لأن العقل الصريح قد اضطرهم بأدنى نظر إلى الإقرار بأنه خالقها { قل } أي بعد ما قالوه { أفلا تذكرون } فتعلمون أن من فطر الأرض ومن فيها ابتداء قادر على إيجادها ثانيا فإن بدء الخلق ليس أهون من إعادته وقرئ ( تتذكرون ) على الأصل

86 - { قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم } فإنها أعظم من ذلك { سيقولون لله } قرأ أبو عمرو و يعقوب بغير لام فيه وفيما بعده على ما يقتضيه لفظ السؤال

87 - { قل أفلا تتقون } عقابه فلا تشركوا به بعض مخلوقاته ولا تنكروا قدرته على بعض مقدوراته

88 - { قل من بيده ملكوت كل شيء } ملكه غاية ما يمكن وقيل خزائنه { وهو يجير } يغيث من يشاء وحرسه { ولا يجار عليه } ولا يغاث أحد ويمنع منه وتعديته بعلى لتضمين معنى النصرة { إن كنتم تعلمون }

89 - { سيقولون لله قل فأنى تسحرون } فمن أين تخدعون فتصرفون عن الرشد مع ظهور الأمر وتظاهر الأدلة

90 - { بل أتيناهم بالحق } من التوحيد والوعد بالنشور { وإنهم لكاذبون } حيث أنكروا ذلك

91 - { ما اتخذ الله من ولد } لتقدسه عن مماثلة أحد { وما كان معه من إله } يساهمه في الألوهية { إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض } جواب محاجتهم وجزاء شرط حذف لدلالة ما قبله عليه أي لو كان معه آلهة كما تقولون لذهب كل منهم بما خلقه واستبد به وامتاز ملكه عن ملك الآخرين وظهر بينهم التحارب والتغالب كما هو حال ملوك الدنيا فلم يكن بيده وحده ملكوت كل شيء واللازم باطل بالإجماع والاستقراء وقيان البرهان على استناد جميع الممكنات إلى واجب واحد { سبحان الله عما يصفون } من الولد والشريك لما سبق من الدليل على فساده

92 - { عالم الغيب والشهادة } خبر مبتدأ محذوف وقد جره ابن كثير و ابن عامر و أبو عمرو و يعقوب و حفص على الصفة وهو دليل آخر على نفي الشريك بناء على توافقهم في أنه المفرد بذلك ولهذا رتب عليه { فتعالى عما يشركون } بالفاء

93 - { قل رب إما تريني } إن كان لابد من أن تريني لأن ما والنون للتأكيد { ما يوعدون } من العذاب في الدنيا والآخرة

94 - { رب فلا تجعلني في القوم الظالمين } قرينا لهم في العذاب وهو إما لهضم النفس أو لأن شؤم الظلمة قد يحيق بمن وراءهم كقوله تعالى : { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } عن الحسن أنه تعالى أخبر نبيه عليه السلام أنه له في أمته نقمة ولم يطلعه على وقتها فأمره بهذا الدعاء وتكرير النداء وتصدير كل واحد من الشرط والجزاء به فضل تضرع وجؤار

95 - { وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون } لكنا نؤخره علمنا بأن بعضهم أو بعض أعقابهم يؤمنون أو لأنا لا نعذبهم وأنت فيهم ولعله رد لإنكارهم الموعود واستعجالهم له استهزاء به وقيل قد أراه : وهو قتل بدر أو فتح مكة

96 - { ادفع بالتي هي أحسن السيئة } وهو الصفح عنها والإحسان في مقابلتها لكن بحيث لم يؤد إلى وهن في الدين وقيل هي كلمة التوحيد والسيئة الشرك وقيل هو الأمر بالمعروف والسيئة المنكر وهو أبلغ مه ادفع بالحسنة السيئة لما فيه من التنصيص على التفضيل { نحن أعلم بما يصفون } يما يصفونك به أو بوصفهم إياك على خلاف حالك وأقدر على جزائهم فوكل إلينا أمرهم

97 - { وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين } وساوسهم وأصل الهمز النخس ومنه مهماز الرائض شبه حثهم الناس على المعاصي بهمز الراضة للدواب على المشي والجم للمرات أو لتنوع الوساوس أو لعدد المضاف إليه

98 - { وأعوذ بك رب أن يحضرون } يحوموا حولي في شيء من الأحوال وتخصيص حال الصلاة وقراءة القرآن وحلول الأجل لأنها أحرى الأحوال بأن يخاف عليه

99 - { حتى إذا جاء أحدهم الموت } متعلق بـ { يصفون } وما بينهما اعتراض لتأكيد الإغضاء بالاستعاذة بالله من الشيطان أن يزله عن الحلم ويغريه على الانتقام أو بقوله { إنهم لكاذبون } { قال } تحسرا على ما فرط فيه من الإيمان والطاعة لما اطلع على الأمر { رب ارجعون } ردوني إلى الدنيا والواو لتعظيم المخاطب وقيل لتكرير قوله ارجعني كما قيل في قفا وأطرقا

100 - { لعلي أعمل صالحا فيما تركت } في الإيمان الذي تركته أي لعلي آتي الإيمان وأعمل فيه وقيل في المال أو في الدنيا [ وعنه عليه الصلاة و السلام قال إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا أنرجعك إلى الدنيا فيقول إلى دار الهموم والأحزان بل قدوما إلى الله تعالى وأما الكافر فيقول رب ارجعون ] { كلا } ردع من طلب الرجعة واستبعاد لها { إنها كلمة } معنى قوله { رب ارجعون } الخ والكلمة الطائفة من الكلام المنتظم بعضها مع بعض { هو قائلها } لا محالة لتسلط الحسرة عليه { ومن ورائهم } أمامهم والضمير للجماعة { برزخ } حائل بينهم وبين الرجعة { إلى يوم يبعثون } يوم القيامة وهو إقناط كلي عن الرجوع إلى الدنيا لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلى الدنيا وإنما الرجوع فيه إلى حياة تكون في الآخرة

101 - { فإذا نفخ في الصور } لقيام الساعة والقراءة بفتح الواو وبه وبكسر الصاد يؤيد أن { الصور } أيضا جمع الصورة { فلا أنساب بينهم } تنفعهم لزوال التعاطف والتراحم من فرط الحيرة واستيلاء الدهشة بحيث يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه أو يفتخرون بها { يومئذ } كما يفعلون اليوم { ولا يتساءلون } { ويلعن بعضكم بعضا } لاشتغاله بنفسه وهو لا يناقض قوله { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } لأنه عند النفخة وذلك بعد المحاسبة أو دخول أهل الجنة الجنة والنار النار

102 - { فمن ثقلت موازينه } موزونات عقائده وأعماله أي فمن كانت له عقائد وأعمال صالحة يكون لها وزن عند الله تعالى وقدر { فأولئك هم المفلحون } الفائزون بالنجاة والدرجات

103 - { ومن خفت موازينه } ومن لم يكن له ما يكون له وزن وهم الكفار لقوله تعالى : { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا } { فأولئك الذين خسروا أنفسهم } غبنوها حيث ضيعوا زمان استكمالها وأبطلوا استعدادها لنيل كمالها { في جهنم خالدون } بدل من الصلة أو خبر ثان ( لأولئك )

104 - { تلفح وجوههم النار } تحرقها واللفح كالنفح إلا أنه أشد تأثيرا { وهم فيها كالحون } من شدة الاحتراق والكلوح تقلص الشفتين عن الأسنان وقرئ ( كلحون )

105 - { ألم تكن آياتي تتلى عليكم } على إضمار القول أي يقال لهم { ألم تكن } { فكنتم بها تكذبون } تأنيب وتذكير لهم بما استحقوا هذا العذاب لأجله

106 - { قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا } ملكتنا بحيث صارت أحوالنا مؤدية إلى سوء العاقبة وقرأ حمزة و الكسائي ( شقوتنا ) بالفتح كالسعادة وقرئ بالكسر كالكتابة { وكنا قوما ضالين } عن الحق

107 - { ربنا أخرجنا منها } من النار { فإن عدنا } إلى التكذيب { فإنا ظالمون } لأنفسنا

108 - { قال اخسؤوا فيها } اسكتوا سكوت هوان في النار فإنها ليست مقام سؤال من خسأت الكلب إذا زجرته فخسأ { ولا تكلمون } في رفع العذاب أو لا تكلمون رأسا قيل إن أهل النار يقولون ألف سنة : { ربنا أبصرنا وسمعنا } فيجابون { حق القول مني } فيقولون ألفا { ربنا أمتنا اثنتين } فيجابون { ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم } فيقولون ألفا { يا مالك ليقض علينا ربك } فيجابون { إنكم ماكثون } فيقولون ألفا { ربنا أخرنا إلى أجل قريب } فيجابون { أولم تكونوا أقسمتم من قبل } فيقولون ألفا { ربنا أخرجنا نعمل صالحا } فيجابون { أولم نعمركم } فيقولون ألفا { رب ارجعون } فيجابون { اخسؤوا فيها } ثم لا يكون لهم فيها إلا زفير وشهيق وعواء ذكب

109 - { إنه } إن الشأن وقرئ بالفتح أي لأنه { كان فريق من عبادي } يعني المؤمنين وقيل الصحابة وقيل أهل الصفة { يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين }

110 - { فاتخذتموهم سخريا } هزؤا وقرأ نافع وحمزة و الكسائي هنا وفي ( ص ) بالضم وهما مصدر سخر زيدت فيهما ياء النسب للمبالغة وعند الكوفيين المكسور بمعنى الهزء والمضموم من السخرة بمعنى الانقياد والعبودية { حتى أنسوكم ذكري } من فرط تشاغلكم بالاستهزاء بهم فلم تخافوني في أوليائي { وكنتم منهم تضحكون } استهزاء بهم

111 - { إني جزيتهم اليوم بما صبروا } على أذاكم { أنهم هم الفائزون } فوزهم بمجامع مراداتهم مخصوصين به وهو ثاني مفعولي { جزيتهم } وقرأ حمزة و الكسائي بالكسر استئنافا

112 - { قال } أي الله أو الملك المأمور بسؤالهم وقرأ ابن كثير و حمزة و الكسائي على الأمر للملك أو لبعض رؤساء أهل النار { كم لبثتم في الأرض } أحياء أو أمواتا في القبور { عدد سنين } تمييز لكم

113 - { قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم } استقصارا لمدة لبثهم فيها بالنسبة إلى خلودهم في النار أو لأنها كانت أيام سرورهم وأيام السرور قصار أو لأنها منقضية والمنقضي في حكم المعدوم { فاسأل العادين } الذين يتمكنون من عد أيامها إن أردت تحقيقها فإنا لما نحن فيه من العذاب مشغولون عن تذكرها وإحصائها أو الملائكة الذين يعدون أعمار الناس ويحصون أعمالهم وقرئ { العادين } بالتخفيف أي الظلمة فإنهم يقولون ما نقول و { العادين } أي القدماء المعمرين فإنهم أيضا يستقصرون

114 - { قال } وفي قراءة حمزة و الكسائي ( قل ) { إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون } تصديق لهم في مقالهم

115 - { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا } توبيخ على تغافلهم و { عبثا } حال بمعنى عابثين أو مفعول له أي : لم نخلقكم تلهيا بكم وإنما خلقناكم لنتعبدكم ونجازيكم على أعمالكم وهو كالدليل على البعث { وأنكم إلينا لا ترجعون } معطوف على { أنما خلقناكم } أو { عبثا } وقرأ حمزة و الكسائي و ويعقوب بفتح التاء وكسر الجيم

سورة النور
116 - ال دون حال { لا إله إلا هو } فإن ما عداه عبيد له { رب العرش الكريم } الذي يحيط بالأجرام وينزل منه محكمات الأقضية والأحكام ولذلك وصفة بالكرم أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين وقرئ بالرفع على أنه صفة الرب

117 - { ومن يدع مع الله إلها آخر } يعبده إفرادا أو إشراك { لا برهان له به } جيء بها للتأكيد وبناء الحكم عليه تنبيها على أن التدين بما لا دليل عليه ممنوع فضلا عما دل الدليل على خلافه أو اعتراض بين الشرط والجزاء لذلك : { فإنما حسابه عند ربه } فهو مجاز له مقدار ما يستحقه { إنه لا يفلح الكافرون } إن الشأن وقرئ بالفتح على التعليل أو الخبر أي حسابه عدم الفلاح بدأ السورة بتقرير فلاح المؤمنين وختمها بنفي الفلاح عن الكافرين ثم أمر رسوله بأن يستغفره ويسترحمه فقال :

118 - { وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين } عن النبي صلى الله عليه و سلم [ من قرأ سورة المؤمنين بشرته الملائكة بالروح الريحان وما تقر به عينه عند نزول ملك الموت ] وعنه عليه الصلاة و السلام أنه قال [ لقد أنزلت علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قرأ { قد أفلح المؤمنون } حتى ختم العشر ] و [ روي أن أولها وآخرها من كنوز الجنة من عمل بثلاث آيات من أولها واتعظ بأربع من آخرها فقد نجا وأفلح ]

1 - { سورة } أي هذه سورة أو فيما أوحينا إليك سورة { أنزلناها } صفتها ومن نصبها جعله مفسرا لناصبها فلا يكون له محل إلا إذا قدر اتل أو دونك نحوه { وفرضناها } وفرضنا ما فيها من الأحكام وشدده ابن كثير وأبو عمرو لكثرة فرائضها أو المفروض عليهم أو للمبالغة في إيجابها { وأنزلنا فيها آيات بينات } واضحات الدلالة { لعلكم تذكرون } فتتقون المحارم وقرئ بتخفيف الذال

2 - { الزانية والزاني } أو فيما فرضنا أو أنزلنا حكمها وهو الجلد ويجوز أن يرفعا بالابتداء والخبر : { فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } والفاء لتضمنها معنى الشرط إذ اللام بمعنى الذي وقرئ بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر وهو أحسن من نصب سورة لأجل الأمر والزان بلا ياء وإنما قدم { الزانية } لأن الزنا في الأغلب يكون بتعرضها للرجل وعرض نفسها عليه ولأن مفسدته تتحقق بالإضافة إليها والجلد ضرب الجلد وهو حكم يخص بمن ليس بمحصن لما دل على أن حد المحصن هو الرجم وزاد الشافعي عليه تغريب الحر سنة لقوله عليه الصلاة و السلام [ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ] وليس في الآية ما يدفعه لينسخ أحدها الآخر نسخا مقبولا أو مردودا وله في العبد ثلاثة أقوال والإحصان : بالحرية والبلوغ والعقل والإصابة في نكاح صحيح واعتبرت الحنفية الإسلام أيضا وهو مردود برجمه عليه الصلاة و السلام يهوديين ولا يعارضه [ من أشرك بالله فليس بمحصن ] إذ المراد بالمحصن الذي يقتص له من المسلم { ولا تأخذكم بهما رأفة } رحمة { في دين الله } في طاعته وإقامة حده فتعطلوه أن تسامحوا فيه لذلك قال عليه الصلاة و السلام [ لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها ] وقرأ ابن كثير بفتح الهمزة وقرئت بالمد على فعالة { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } فإن الإيمان يقتضي الجد في طاعة الله تعالى والاجتهاد في إقامة حدوده وأحكامه وهو من باب التهييج { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } زيادة في التنكيل فإن التفضيح قد ينكل أكثر مما ينكل التعذيب والـ { طائفة } فرقة يمكن أن تكون حافة حول شيء من الطوف وأقلها ثلاثة وقيل واجدا واثنان والمراد جمع يحصل به التشهير

3 - { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك } إذ الغالب أن المائل إلى الزنا لا يرغب في نكاح الصوالح والمسافحة لا يرغب فيها الصلحاء فإن المشاكلة علة للألفة والتضام والمخالفة سبب للنفرة والافتراق وكان نحق المقابلة أن يقال والزانية لا تنكح إلا من هو زان أو مشرك لكن المراد بيان أحوال الرجال في الرغبة فيهن لأن الآية نزلت في ضعفة المهاجرين لما هموا أن يتزوجوا بغايا يكرين أنفسهن لينفقن عليهم من أكسابهن على عادة الجاهلية ولذلك قدم الزاني { وحرم ذلك على المؤمنين } لأنه تشبه بالفساق وتعرض للتهمة وتسبب لسوء القالة والطعن في النسب وغير ذلك من المفاسد ولذلك عبر عن التنزيه بالتحريم مبالغة وقيل النفي بمعنى النهي وقد قرئ به والحرمة على ظاهرها والحكم مخصوص بالسبب الذي ورد فيه أو منسوخ بقوله تعالى : { وأنكحوا الأيامى منكم } فإنه يتناول المسافحات ويؤيده أنه عليه الصلاة و السلام سئل عن ذلك فقال : [ أوله سفاح وآخره نكاح والحرام لا يحرم الحلال ] وقيل المراد بالنكاح الوطء فيؤول إلى نهي الزاني عن الزنا إلا بزانية والزانية أن يزني بها إلا زان وهو فاسد

4 - { والذين يرمون المحصنات } يقذفوهن بالزنا لوصف المقذوفات بالإحصان وذكرهن عقيب الزواني واعتبار أربعة شهداء بقوله : { ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } والقذف بغيره مل يا فاعل ويا شارب الخمر يوجب التعزير كقذف غير المحصن والإحصان ها هنا بالحرية والبلوغ والعقل والإسلام والعفة عن الزنا ولا فرق فيه بين الذكر والأنثى وتخصيص { المحصنات } لخصوص الواقعة أو لأن قذف النساء أغلب وأشنع ولا يشترط اجتماع الشهود عند الآداء ولا تعتبر شهادة زوج المقذوفة خلافا لأبي حنيفة وليكن ضربه أخف من ضرب الزنا لضعف سببه واحتماله ولذلك نقص عدده { ولا تقبلوا لهم شهادة } أي شهادة كانت لأنه مفتر وقيل شهادتهم في القذف ولا يتوقف ذلك على استيفاء الجلد خلافا لأبي حنيفة فإن الأمر بالجلد والنهي عن القبول سيان في وقوعهما جوابا للشرط لا ترتيب بينهما فيترتبان عليه دفعة كيف وحاله قبل الجلد أسوأ مما بعده { أبدا } ما لم يتب وعند أبي حنيفة إلى آخر عمره { وأولئك هم الفاسقون } المحكوم بفسقهم

5 - { إلا الذين تابوا } عن القذف { من بعد ذلك وأصلحوا } أعمالهم بالتدارك ومنه الاستسلام للحد أو الاستحلال من المقذوف والاستثناء راجع إلى أصل الحكم وهو اقتضاء الشرط لهذه الأمور ولا يلزمه سقوط الحد به كما قيل لأن من تمام التوبة الاستسلام له أو الاستحلال ومحل المستثنى النصب على الاستثناء وقيل إلى النهي ومحله الجر على البدل من هم في لهم وقيل إلى الأخيرة ومحله النصب لأنه من موجب وقيل منقطع متصل بما بعده { فإن الله غفور رحيم } علة للاستثناء

6 - { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم } نزلت في هلال بن أمية رأى رجلا على فراشه وأنفسهم بدل من شهداء أو صفة لهم على أن إلا بمعنى غير { فشهادة أحدهم أربع شهادات } فالواجب شهادة أحدهم أو فعليهم شهادة أحدهم و { أربع } نصب على المصدر وقد رفعه حمزة و الكسائي و حفص على أنه خبر ( شهادة ) { بالله } متعلق بشهادات لأنها أقرب وقيل بشاهدة لتقدمها { إنه لمن الصادقين } أي فيما رماها به من الزنا وأصله على أنه فحذف الجار وكسرت إن وعلق العامل عنه باللام تأكيدا

7 - { والخامسة } والشهادة الخامسة { أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين } في الرمي هذا لعان الرجل وحكمه سقوط حد القذف عنه وحصول الفرقة بينهما بنفسه فرقة فسخ عندنا لقوله عليه الصلاة و السلام [ المتلاعنان لا يجتمعان أبدا ]

8 - وتفريق الحاكم فرقة طلاق عند أبي حنيفة ونفي الولد أن تعرض له فيه وثبوت حد الزنا على المرأة لقوله : { ويدرأ عنها العذاب } أي الحد { أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين } فيما رماني به

9 - { والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين } في ذلك ورفع الخامسة بالابتداء وما بعدها الخبر أو بالعطف على أن تشهد ونصبها حفص عطفا على { أربع } وقرأ نافع و يعقوب { أن لعنة الله } و { أن غضب الله } بتخفيف النون فيهما وكسر الضاد وفتح الباء من { غضب } ورفع الهاء من اسم { الله } والباقون بتشديد النون فيهما ونصب التاء وفتح الضاد وجر الهاء

10 - { ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم } متروك الجواب للتعظيم أي لفضحكم وعاجلكم بالعقوبة

11 - { إن الذين جاؤوا بالإفك } بأبلغ ما يكون من الكذب من الإفك وهو الصرف لأنه قول مأفوك عن وجهه والمراد ما أفك به على عائشة رضي الله عنها وذلك أنه عليه والصلاة والسلام استصحبها في بعض الغزوات فأذن ليلة القفول بالرحيل فمشت لقضاء حاجة ثم عادت إلى الرحل فلمست صدرها فإذا عقد من جزع ظفار قد انقطع فرجعت لتلتمسه فظن الذي كان يرحلها أنها دخلت الهودج فرحله على مطيتها وسار فلما عادت إلى منزلها لم تجد ثمة أحدا فجلست كي يرجع إليها منشد وكان صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه قد عرس وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلها فعرفها فأناخ راحلته فركبتها فقادها حتى أتيا الجيش فاتهمت به { عصبة منكم } جماعة منكم وهي من العشرة إلى الأربعين وكذلك العصابة يريد عبد الله بن أبي وزيد بن رفاعة وحسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم وهي خبر إن وقوله : { لا تحسبوه شرا لكم } مستأنف والخطاب للرسول صلى الله عليه و سلم وأبي بكر وعائشة وصفوان رضي الله تعالى عنهم والهاء للإفك { بل هو خير لكم } لاكتسابكم به الثواب العظيم وظهور كرامتكم على الله بإنزال ثماني عشرة آية في براءتكم وتعظيم شأنكم وتهويل الوعيد لمن تكل فيكم والثناء على من ظن بكم خيرا { لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم } لكل جزاء ما اكتسب بقدر ما خاض فيه مختصا به { والذي تولى كبره } معظمه وقرأ يعقوب بالضم وهو لغة فيه { منهم } من الخائضين وهو ابن أبي فإنه بدأ به وأذاعه عداوة لرسول الله صلى الله عليه و سلم أو هو وحسان ومسطح فإنهما شايعاه بالتصريح به { والذي } بمعنى الذين { له عذاب عظيم } في الآخرة أو في الدنيا بأن جلدوا وصار ابن أبي مطرودا مشهورا بالنفاق وحسان أعمى أشل اليدين ومسطح مكفوف البصر

12 - { لولا } هلا { إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا } بالذين منهم من المؤمنين والمؤمنات كقوله تعالى : { ولا تلمزوا أنفسكم } وإنما عدل فيه من الخطاب إلى الغيبة مبالغة في التوبيخ وإشعارا بأن الإيمان يقتضي ظن الخير بالمؤمنين والكف عن الطعن فيهم وذب الطاعنين عنهم كما يذبونهم عن أنفسهم وإنما جاز الفصل بين { لولا } وفعله بالظرف لأنه منزل منزلته من حيث إنه لا ينفك عنه وذلك يتسع فيه ما لا يتسع في غيره وذلك لأن ذكر الظرف أهم فإن التحضيض على أن لا يخلوا بأوله { وقالوا هذا إفك مبين } كما يقول المستيقن المطلع على الحال

13 - { لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون } من جملة المقول تقريرا لكونه كذبا فإن ما لا حجة عليه كذب عند الله أي في حكمه ولذلك رتب الحد عليه

14 - { ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة } لولا هذه لامتناع الشيء لوجود غيره والمعنى لولا فضل الله عليكم في الدنيا بأنواع النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة { ورحمته } في الآخرة بالعفو والمغفرة المقدران لكم { لمسكم } عاجلا { في ما أفضتم } خضتم { فيه عذاب عظيم } يستحقر دونه اللوم والجلد

15 - { إذ } ظرف { لمسكم } أو { أفضتم } { تلقونه بألسنتكم } يأخذه بعضكم من بعض بالسؤال عنه يقال تلقى كتلقفه وتلقنه قرئ ( تتلقونه ) على الأصل و { تلقونه } من لقيه إذا لقفه و { تلقونه } بكسر حرف المضارعة و { تلقونه } من إلقائه بعضهم على بعض و { تلقونه } و ( تألقونه ) من الألق والألق وهو الكذب و ( تثقفونه ) من ثقفته إذا طلبته فوجدته و ( تقفونه ) أي تتبعونه { وتقولون بأفواهكم } أي وتقولون كلاما مختصا بالأفواه بلا مساعدة من القلوب { ما ليس لكم به علم } لأنه ليس تعبيرا عن علم به في قلوبكم كقوله تعالى : { يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم } { وتحسبونه هينا } سهلا لا تبعة له { وهو عند الله عظيم } في الوزر واستجرار العذاب فهذه ثلاثة آثام مترتبة علق بها مس العذاب العظيم تلقي الإفك بألسنتهم والتحدث به من غير تحقق واستصغارهم لذلك وهو عند الله عظيم

16 - { ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا } ما ينبغي وما يصح لنا { أن نتكلم بهذا } يجوز أن تكون الإشارة إلى القول المخصوص وأن تكون إلى نوعه فإن قذف آحاد الناس محرم شرعا فضلا عن تعرض الصديقة ابنة الصديق حرمة رسول الله صلى الله عليه و سلم { سبحانك } تعجب من ذلك الإفك أو ممن يقول ذلك وأصله أن يذكر عند كل متعجب تنزيها لله تعالى من أن يصعب عليه مثله ثم كثر فاستعمل لكل متعجب أو تنزيه لله تعالى من أن تكون حرمة نبيه فاجرة فإن فجورها ينفر عنه ويخل بمقصود الزواج بخلاف كفرها فيكون تقريرا لما قبله وتمهيدا لقوله : { هذا بهتان عظيم } لعظمة المبهوت عليه فإن حقارة الذنوب وعظمها باعتبار متعلقاتها

17 - { يعظكم الله أن تعودوا لمثله } كراهة أن تعودوا أو في أن تعودوا { أبدا } ما دمتم أحياء مكلفين { إن كنتم مؤمنين } فإن الإيمان يمنع عنه وفيه تهييج وتقريع

18 - { يبين الله لكم الآيات } الدالة على الشرائع ومحاسن الآداب كي تتعظوا وتتأدبوا { والله عليم } بالأحوال كلها { حكيم } في تدابيره ولا يجوز الكشخنة على نبيه ولا يقرره عليها

19 - { إن الذين يحبون } يريدون { أن تشيع } أن تنتشر { الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة } بالحد والسعير إلى غير ذلك { والله يعلم } ما في الضمائر { وأنتم لا تعلمون } فعاقبوا في الدنيا على ما دل عليه الظاهر والله سبحانه يعاقب على ما في القلوب من حب الإشاعة

20 - { ولولا فضل الله عليكم ورحمته } تكرير للمنة بترك المعاجلة بالعقاب للدلالة على عظم الجريمة ولذا عطف قوله : { وأن الله رؤوف رحيم } على حصول فضله ورحمته عليهم وحذف الجواب وهو مستغنى عنه بذكره مرة

21 - { يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان } بإشاعة الفاحشة وقرئ بفتح الطاء وقرأ نافع و البزي و أبو عمرو و أبو بكر و حمزة بسكونها { ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر } بيان لعلة النهي عن اتباعه و ( الفحشاء ) ما أفرط قبحه و ( المنكر ) ما أنكره الشرع { ولولا فضل الله عليكم ورحمته } بتوفيق التوبة الماحية للذنوب وشرع الحدود المكفرة لها { ما زكا } ما طهر من دنسها { منكم من أحد أبدا } آخر الدهر { ولكن الله يزكي من يشاء } بحمله على التوبة وقبولها { والله سميع } لمقالهم { عليم } بنياتهم

22 - { ولا يأتل } ولا يحلف افتعال من الألية أو ولا يقصر من الألو ويؤيد الأول أنه قرئ ولا ( يتأل ) وأنه نزل في أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وقد حلف أن لا ينفق على مسطح بعد وكان ابن خالته من فقراء المهاجرين { أولو الفضل منكم } في الدين { والسعة } في المال وفيه دلالة على فضل أبي بكر وشرف رضي الله تعالى عنه { أن يؤتوا } على أن لا { يؤتوا } أو في { أن يؤتوا } وقرئ بالتاء على الالتفات { أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله } صفات لموصوف واحد أي ناسا جامعين لها لأن الكلام فيمن كان كذلك أو لموصوفات أقيمت مقامها فيكون أبلغ في تعليل المقصود { وليعفوا } عما فرط منهم { وليصفحوا } بالإغماض عنه { ألا تحبون أن يغفر الله لكم } على عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم { والله غفور رحيم } من كمال قدرته فتخلقوا بأخلاقه روي أنه عليه الصلاة و السلام قرأها على أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال : بلى أحب ورجع إلى مسطح نفقته

23 - { إن الذين يرمون المحصنات } العفائف { الغافلات } عما قذفن به { المؤمنات } بالله وبرسوله استباحة لعرضهن وطعنا في الرسول عليه الصلاة و السلام والمؤمنين كابن أبي { لعنوا في الدنيا والآخرة } لما طعنوا فيهن { ولهم عذاب عظيم } لعظم ذنوبهم وقيل هو حكم كل قاذف ما لم يتب وقيل مخصوص بمن قذف أزواج النبي صلى الله عليه و سلم ولذلك قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لا توبة له ولو فتشت وعيدات القرآن لم تجد أغلظ مما نزل في إفك عائشة رضي الله تعالى عنها

24 - { يوم تشهد عليهم } ظرف لما في لهم من معنى الاستقرار لا للعذاب لأنه موصوف وقرأ حمزة و الكسائي بالياء للتقدم والفصل { ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون } يعترفون بها بإنطاق الله تعالى إياها بغير اختيارهم أو بظهور آثاره عليها وفي ذلك مزيد تهويل للعذاب

25 - { يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق } جزاءهم المستحق { ويعلمون } لمعاينتهم الأمر { أن الله هو الحق المبين } الثابت بذاته الظاهر ألوهيته لا يشاركه في ذلك غيره ولا يقدر على الثواب والعقاب سواه أو ذو الحق البين أي العادل الظاهر عدله ومن كان هذا شأنه ينتقم من الظالم للمظلوم لا محالة

26 - { الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات } أي الخبائث يتزوجن الخباث وبالعكس وكذلك أهل الطيب فيكون كالدليل على قوله : { أولئك } يعني أهل بيت النبي صلى الله عليه و سلم أو الرسول وعائشة وصفوان رضي الله تعالى عنهم { مبرؤون مما يقولون } إذ لو صدق لم تكن زوجته عليه السلام ولم يقرر عليها وقيل { الخبيثات } { والطيبات } من الأقوال والإشارة إلى { للطيبين } والضمير في { يقولون } للآفكين أي مبرؤون مما يقولون فيهم أو { للخبيثين } و { الخبيثات } أي مبرؤون من أن يقولون مثل قولهم { لهم مغفرة ورزق كريم } يعني الجنة ولقد برأ الله أربعة بأربعة : برأ يوسف عليه السلام بشاهد من أهلها وموسى عليه الصلاة و السلام من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه ومريم بإنطاق ولدها وعائشة رضي الله تعالى عنها بهذه الآيات الكريمة مع هذه المبالغة وما ذلك إلا لإظهار منصب الرسول صلى الله عليه و سلم وإعلاه منزلته

27 - { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم } التي لا تسكنونها فإن الآجر والمعير أيضا لا يدخلان إلا بإذن { حتى تستأنسوا } تستأذنوا من الاستئناس بمعنى الاستعلام من آنس الشيء إذا أبصره فإن المستأذن مستعلم للحال مستكشف أنه هل يراد دخوله أو يؤذن له أو من الاستئناس الذي هو خلاف الاستيحاش فإن المستأذن مستوحش خائف أن لا يؤذن له فإذا أذن له استأنس أو تتعرفوا هل ثم إنسان من الإنس { وتسلموا على أهلها } بأن تقولوا السلام عليكم أ أدخل وعنه عليه الصلاة و السلام [ التسليم أن يقول السلام عليكم أ أدخل ثلاث مرات فإن أذن له دخل وإلا رجع ] { ذلك خير لكم } أي الاستئذان أو التسليم خير لكم من أن تدخلوا بغتة أو من تحية الجاهلية كان الرجل منهم إذا دخل بيتا غير بيته قال : حييتم صباحا أو حييتم مساء ودخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف وروي [ أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه و سلم أأستأذن على أمي قال : نعم قال : إنها ليس لها خادم غيري أ أستأذن عليها كلما دخلت قال : أتحب أن تراها عريانة قال : لا قال : فاستأذن ] { لعلكم تذكرون } متعلق بمحذوف أي أنزل عليكم أو قيل لكم هذا إرادة أن تذكروا وتعملوا بما هو أصلح لكم

28 - { فإن لم تجدوا فيها أحدا } يأذن لكم { فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم } حتى يأتي من يأذن لكم فإن المانع من الدخول ليس الإطلاع على العورات فقط بل وعلى ما يخفيه الناس عادة مع أن التصرف في ملك الغير بغير إذنه محظور واستثنى ما إذا عرض فيه حرق أو غرق أو كان فيه منكر ونحوها { وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا } ولا تلحوا { هو أزكى لكم } الرجوع أطهر لكم عما لا يخلو الإلحاح والوقوف على الباب عنه من الكراهة وترك المروءة أو أنفع لدينكم ودنياكم { والله بما تعملون عليم } فيعلم ما تأتون وما تذرون مما خوطبتم به فيجازيكم عليه

29 - { ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة } كالربط والحوانيت والخانات والخانقات { فيها متاع } استمتاع { لكم } كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الأمتعة والجلوس للمعاملة و1لك استثناء من الحكم السابق لشموله البيوت المسكونة وغيرها { والله يعلم ما تبدون وما تكتمون } وعيد لمن دخل مدخلا لفساد أو تطلع على عورات

30 - { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم } أي ما يكون نحو محرم { ويحفظوا فروجهم } إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ولما كان المستثنى منه كالشاذ النادر بخلاف الغض أطلقه وقيد الغض بحرف التبعيض وقيل حفظ الفروج ها هنا خاصة سترها { ذلك أزكى لهم } أنفع لهم أو أطهر لما فيه من البعد عن الريبة { إن الله خبير بما يصنعون } لا يخفى عليه إجالة أبصارهم واستعمال سائر حواسهم وتحريك جوارحهم وما يقصدون بها فليكونوا على حذر منه في كل حركة وسكون

31 - { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن } فلا ينظرن إلى ما لا يحل لهن النظر إليه من الرجال { ويحفظن فروجهن } بالتستر أو التحفظ عن الزنا وتقديم الغض لأن النظر بريد الزنا { ولا يبدين زينتهن } كالحلي والثياب والأصباغ فضلا عن مواضعها لمن لا يحل أن تبدي له { إلا ما ظهر منها } عند مزاولة الأشياء كالثياب والخاتم فإن نفي سترها حرجا وقيل المراد بالزينة مواضعها على حذف المضاف أو ما يعم المحاسن الخلقية والتزيينية والمستثنى هو الوجه والكفان لأنها ليست بعورة والأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر فإن كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة { وليضربن بخمرهن على جيوبهن } ستراص لأعناقهن وقرأ نافع و عاصم و أبو عمرو و هشام بضم الجيم { ولا يبدين زينتهن } كرره لبيان من يحل الإبداء ومن لا يحل له { إلا لبعولتهن } فإنهم المقصودون بالزينة ولهم أن ينظروا إلى جميع بدنهن حتى الفرج بكره { أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن } لكثرة مداخلتهم عليهن وإحتياجهن إلى مداخلتهم وقلة توقع الفتنة من قبلهم لما في الطباع من النفرة عن مماسة القرائب ولهم أن ينظروا منهن ما يبدو عند المهنة والخدمة وإنما لم يذكر الأعمام والأخوال لأنهم في معنى الإخوان أولان الأحوط أن يتسترن عنهم حذرا أن يصفوهن لأبنائهم { أو نسائهن } يعني المؤمنات فإن الكافرات لا يتحرجن عن وصفهن للرجال أو النساء كلهن وللعلماء في ذلك خلاف { أو ما ملكت أيمانهن } يعم الإماء والعبيد لما روي [ أنه عليه الصلاة و السلام أتى فاطمة بعبد وهبه لها وعليها ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها فقال عليه الصلاة و السلام : إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك ] وقيل المراد بها الإماء وعبد المرأة كالأجنبي منها { أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال } أي أولي الحاجة إلى النساء وهم الشيوخ الهم والممسوحون وفي المجبوب والخصي خلاف وقيل البله الذين يتبعون الناس لفضل طعامهم ولا يعرفون شيئا من أمور النساء وقرأ ابن عامر و أبو بكر غير بالنصب على الحال { أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء } لعدم تمييزهم من الظهور بمعنى الإطلاع أو لعدم بلوغهم حد الشهوة من الظهور بمعنى الغلبة والطفل جنس وضع موضع الجمع اكتفاء بدلالة الوصف { ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن } ليتقعقع خلخالها فيعلم أنها ذات خلخال فإن ذلك يورث ميلا في الرجال وهو أبلغ من النهي عن إظهار الزينة وأدل على المنع من رفع الصوت { وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون } إذ لا يكاد يخلو أحد منكم من تفريط سيما في الكف عن الشهوات وقيل توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية فإنه وإن جب بالإسلام لكنه يجب الندم عليه والعزم على الكف عنه كلما يتذكر وقرأ ابن عامر ( أيه المؤمنون ) وفي ( الزخرف ) { يا أيها الساحر } وفي ( الرحمن ) { أيها الثقلان } بضم الهاء في الوصل في الثلاثة والباقون بفتحها ووقف أبو عمرو و الكسائي عليهن بالألف ووقف الباقون بغير الألف { لعلكم تفلحون } بسعادة الدارين

32 - { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم } لما نهى عما عسى يفضي إلى السفاح المخل بالنسب المقتضي للألفة وحسن التربية ومزيد الشفقة المؤدية إلى بقاء النوع بعد الزجر عن مبالغة فيه عقبه بأمر النكاح الحافظ له والخطاب للأولياء والسادة وفيه دليل على وجوب تزويج المولية والمملوك وذلك عند طلبهما وإشعار بأن المرأة والعبد لا يستبدان به إذ لو استبدا لما وجب على الولي والمولى و ( أيامى ) مقلوب أيايم كيتامى جميع أيم وهو العزب ذكرا كان أو أنثى بكرا كان أو ثيبا قال :
( فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي ... وإن كنت أفتى منكم أتأيم )
وتخصيص { الصالحين } لأن إحصان دينهم والاهتمام بشأنهم أهم وقيل المراد الصالحون للنكاح والقيام بحقوقه { إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله } رد لما عسى يمنع من النكاح والمعنى لا يمنعن فقر الخطاب أو المخطوبة من المناكحة فإن في فضل الله غنية عن المال فإنه غاد ورائح أو وعد من الله بالإغناء لقوله صلى الله عليه و سلم [ اطلبوا الغنى في هذه الآية ] لكن مشروط بالمشيئة كقوله تعالى : { إن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء } { والله واسع } ذو سعة لا تنفد نعمته إذ لا تنتهي قدرته { عليم } يبسط الرزق ويقدر على ما تقتضيه حكمته

33 - { وليستعفف } وليجتهد في العفة وقمع الشهوة { الذين لا يجدون نكاحا } أسبابه ويجوز أن يراد بالنكاح ما ينكح به أو بالوجدان التمكن منه { حتى يغنيهم الله من فضله } فيجدوا ما يتزوجون به { والذين يبتغون الكتاب } المكاتبة وهو أن يقول الرجل لمملوكه كاتبتك على كذا من الكتاب لأن السيد كتب على نفسه عتقه إذا أدى المال أو لأنه مما يكتب لتأجيله أو من الكتب بمعنى الجمع لأن العوض فيه يكون منجما بنجوم يضم بعضها إلى بعض { مما ملكت أيمانكم } عبدا كان أو أمة والموصول بصلته مبتدأ خبره { فكاتبوهم } أو مفعول لمضمر هذا تفسيره والفاء لتضمن معنى الشرط والأمر فيه للندب عند أكثر العلماء لأن الكتابة معاوضة تتضمن الإرفاق فلا تجب كغيرها واحتجاج الحنفية بإطلاقه على جواز الكتابة الحالية ضعيف لأن المطلق لا يعم مع أن العجز عن الأداء في الحال يمنع صحتها كما في السلم فيما لا يوجد عند المحل { إن علمتم فيهم خيرا } أمانة وقدرة على أداء المال بالاحتراف وقد روي مثله مرفوعا وقيل صلاحا في الدين وقيل مالا وضعفه ظاهر لفظا ومعنى وهو شرط الأمر فلا يلزم من عدمه عدم الجواز { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } أمر للموالي كما قبله بأن يبذلوا لهم شيئا من أموالهم وفي معناه حط شيء من مال الكتابة وهو للوجوب عند الأكثر ويكفي أقل ما يتمول وعن علي رضي الله تعالى عنه يحط الربع وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الثلث وقيل يدب لهم إلى الأنفاق عليهم بعد أن يؤتوا ويعتقوا وقيل أمر لعامة المسلمين بإعانة المكاتبين وإعطائهم سهمهم من الزكاة ويحل للمولى وإن كان غنيا لأنه لا يأخذه صدقة كالدائن والمشتري ويدل عليه قوله عليه الصلاة و السلام في حديث بريرة [ هو لها صدقة ولنا هدية ] { ولا تكرهوا فتياتكم } إماءكم { على البغاء } على الزنا كانت لعبد الله بن أبي ست جوار يكرههن على الزنا وضرب عليهن الضرائب فشكا بعضهن إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت { إن أردن تحصنا } تعففا شرط للإكراه فإنه لا يوجد دونه وإن جعل شرطا للنهي لم يلزم من عدمه جواز الإكراه لجواز أن يكون ارتفاع النهي بامتناع المنهي عنه وإيثار إن على إذا لأن إرادة المحصن من الإماء كالشاذ النادر { لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم } أي لهن أوله إن تاب والأول أوفق للظاهر ولما في مصحف ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : من بعد إكراههن لهن غفور رحيم ولا يرد عليه أن المكرهة غير آثمة فلا حاجة إلى المغفرة لأن الإكراه لا ينافي المؤاخذة بالذات ولذلك حرم على المكره القتل وأوجب عليه القصاص

34 - { ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات } يعني الآيات التي بينت في هذه السورة وأوضحت فيها الأحكام والحدود وقرأ ابن عامر و حفص و والكسائي بالكسر في هذا وفي ( الطلاق ) لأنها واضحات تصدقها الكتب المتقدمة والعقول المستقيمة من بين بمعنى تبين أو لأنها بينت الأحكام والحدود { ومثلا من الذين خلوا من قبلكم } أو ومثلا من أمثال من قبلكم أي وقصة عجيبة مثل قصصهم وهي قصة عائشة رضي الله تعالى عنها فإنها كقصة يوسف ومريم { وموعظة للمتقين } يعني ما وعظ به في تلك الآيات وتخصيص المتقين لأنهم المنتفعون بها وقيل المراد بالآيات القرآن والصفات المذكورة صفاته

35 - { الله نور السماوات والأرض } النور في الأصل كيفية تدركها الباصرة أولا وبواسطتها سائر المبصرات كالكيفية الفائضة ن النيرين على الأجرام الكثيفة المحاذية لهما وهو بهذا المعنى لا يصح إطلاقه على الله تعالى إلا بتقدير مضاف كقولك : زيد كرم بمعنى ذو كرم أو على تجوز إما بمعنى منور السموات والأرض وقد قرئ به فإنه تعالى نورهما بالكواكب وما يفيض عنها من الأنوار أو بالملائكة والأنبياء أو مدبرهما من قولهم للرئيس الفائق في التدبير : نور القوم لأنهم يهتدون به في الأمور أو موجدهما فإن النور ظاهر بذاته مظهر لغيره وأصل الظهور هو الوجود كما أن أصل الخفاء هو العدم والله سبحانه وتعالى موجود بذاته موجد لما عداه أو الذي به تدرك أو يدرك أهلها من حيث إنه يطلق على الباصرة لتعلقها به أو لمشاركتها له في توقف الإدراك عليه ثم على البصيرة لأنها أقوى إدراكا فإنها تدرك نفسها وغيرها من الكليات والجزئيات الموجودات والمعدومات وتغوص في بواطنها وتتصرف فيها بالتركيب والتحليل ثم إن هذه الإدراكات ليست لذاتها وإلا لما فارقتها فهي إذن من سبب يفيضها عليها وهو الله سبحانه وتعالى ابتداء أو بتوسط من الملائكة والأنبياء ولذلك سموا أنوارا ويقرب منه قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : معناه هادي من فيهما فهم بنوره يهتدون وإضافته إليهما للدلالة على سعة إشراقه أو لاشتمالهما على الأنوار الحسية والعقلية وقصور الإدراكات البشرية عليهما وعلى المتعلق بهما والمدلول لهما { مثل نوره } صفة نوره العجيبة الشأن وإضافته إلى ضميره سبحانه وتعالى دليل على أن إطلاقه عليه لم يكن على ظاهره { كمشكاة } كصفة مشكاة وهي الكوة الغير النافذة وقرأ الكسائي برواية الدوري بالإمالة { فيها مصباح } سراج ضخم ثاقب وقيل المشكاة الأنبوبة في وسط القنديل والمصباح الفتيلة المشتعلة { المصباح في زجاجة } في قنديل ن الزجاج { الزجاجة كأنها كوكب دري } مضيء متلألئ كالزهرة في صفائه وزهرته منسوب إلى الدر أو فعيل كمريق من الدرء فإنه يدفع الظلام بضوئه أو بعض ضوئه بعضا من لمعانه إلا أنه قلبت همزته ياء ويدل عليه قراءة حمزة و أبي بكر على الأصل وقراءة أبي عمرو و الكسائي ( دريء ) كشريب وقد قرئ به مقلوبا { يوقد من شجرة مباركة زيتونة } أي ابتداء ثقوب المصباح من شجرة الزيتون المتكاثر نفعه بأن رويت ذبالته بزيتها وفي إبهام الشجرة ووصفها بالبركة ثم إبدال الزيتونة عنها تفخيم لشأنها وقرأ نافع و ابن عامر و حفص بالياء والبناء للمفعول من أوقد و حمزة و الكسائي و أبو بكر بالتاء كذلك على إسناده إلى { الزجاجة } بحذف المضاف وقرئ ( توقد ) من تتوقد ويوقد بحذف التاء لاجتماع زيادتين وهو غريب { لا شرقية ولا غربية } تقع الشمس عليها حينا بعد حين بل بحيث تقع عليها طول النهار كالتي تكون على قلة أو صحراء واسعة فإن ثمرتها تكون أنضج وزيتها أصفى أو لا نابتة في شرق المعمورة وغربها بل في وسطها وهو الشام فإن زيتونه أجود الزيتون أو لا في مضحى تشرق الشمس عليها دائما فتحرقها أو في مقيأة تغيب عنها دائما فتتركها نيئا وفي الحديث [ لا خير في شجرة ولا نبات في مقيأة ولا خير فيهما في مضحى ] { يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار } أي يكاد يضيء بنفسه من غير نار لتلألئه وفرط وبيصه { نور على نور } نور متضاعف فإن نور المصباح زاد في إنارته صفاء الزيت وزهرة القنديل وضبط المشكاة لأشعته وقد ذكر في معنى التمثيل وجوه الأول : أنه تمثيل للهدى الذي دلت عليه الآيات المبينات في جلاء مدلولها وظهور ما تضمنته من الهدى بالمشكاة المنعوتة أو تشبيه للهدى من حيث إنه محفوف بظلمات أوهام الناس وخيالاتهم بالمصباح وإنما ولي الكاف المشكاة لاشتمالها عليه وتشبيهه به أوفق من تشبيهه بالشمس أو تمثيل لما نور الله به قلب المؤمن من المعارف والعلوم بنور المشكاة المنبث فيها من مصباحها ويؤيده قراءة أبي : ( مثل نور المؤمن ) أو تمثيل لما منح الله به عباده من القوى الداركة الخمس المترتبة التي منوط بها المعاش والمعاد وهي : الحساسة التي تدرك بها المحسوسات بالحواس الخمس والخيالية التي تحفظ صور تلك المحسوسات لتعرضها على القوة العقلية متى شاءت والعاقلة التي تدرك الحقائق الكلية والمفكرة وهي التي تؤلف المعقولات لتستنتج منها علم ما لم تعلم والقوة القدسية التي تتجلى فيها لوائج الغيب وأسرار الملكوت المختصة بالأنبياء والأولياء المعنية بقوله تعالى : { ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا } بالأشياء الخمسة المذكورة في الآية وهي : ( المشكاة ) و ( الزجاجة ) و ( المصباح ) و ( الشجرة ) و ( الزيت ) فإن الحساسة كالمشكاة لأن محلها كالكوى ووجهها إلى الظاهر لا تدرك ما وراءها وإضاءتها بالمعقولات لا بالذات والخيالية كالزجاجة في قبول صور المدركات من الجوانب وضبطها للأنوار العقلية وإنارتها بما تشتمل عليه من المعقولات والعاقلة كالمصباح لإضاءتها بالإدراكات الكلية والمعارف الإلهية والمفكرة كالشجرة المباركة لتأديتها إلى ثمرات لا نهاية لها الزيتونة المثمرة بالزيت الذي هو مادة المصابيح التي لا تكون شرقية ولا غربية لتجردها عن اللواحق الجسمية أو لوقوعها بين الصور والمعاني متصرفة في القبيلين منتفعة من الجانبين والقوة القدسية كالزيت فإنها لصفائها وشدة ذكائها تكاد تضيء بالمعارف من غير تفكر ولا تعلم أو تمثيل للقوة العقلية في مراتبها بذلك فإنها في بدء أمرها خالية عن العلوم مستعدة لقبولها كالمشكاة ثم تنتقش بالعلوم الضرورية بتوسط إحساس الجزئيات بحيث تتمكن من تحصيل النظريات فتصير كالزجاجة متلألئة في نفسها قابلة للأنوار وذلك التمكن إن كان بفكر واجتهاد فكالشجرة الزيتونة وإن كان بالحدس فكالزيت وإن كان بقوة قدسية فكالتي يكاد زيتها يضيء لأنها تكاد تعلم ولو لم تتصل بملك الوحي والإلهام الذي مثله النار من حيث إن العقول تشتعل عنه ثم إذا حصلت لها العلوم بحيث تتمكن من استحضارها متى شاءت كانت كالمصباح فإذا استحضرتها كانت نورا على نور { يهدي الله لنوره } لهذا النور الثاقب { من يشاء } فإن الأسباب دون مشيئته لاغية إذ بها تمامها { ويضرب الله الأمثال للناس } إدناء للمعقول من المحسوس توضيحا وبيانا { والله بكل شيء عليم } معقولا كان أو محسوسا ظاهرا كان أو خفيا وفيه وعد ووعيد لمن تدبرها ولمن لم يكترث بها

36 - { في بيوت } متعلق بما قبله أي كمشكاة في بعض بيوت أو توقد في بيوت فيكون تقييد للممثل به بما يكون تحييرا ومبالغة فيه فإن قناديل المساجد تكون أعظم أو تمثيلا لصلاة المؤمنين أو أبدانهم بالمساجد ولا ينافي جمع البيوت وحدة المشكاة إذ المراد بها ما له هذا الوصف بلا اعتبار وحدة ولا كثرة أو بما بعده وهو يسبح وفيها تكرير مؤكد لا يذكر لأنه من صلة أن فلا يعمل فيما قبله أو بمحذوف مثل سبحوا في بيوت والمراد بها المساجد لأن الصفة تلائمها وقيل المساجد الثلاثة والتنكير للتعظيم { أذن الله أن ترفع } بالبناء أو التعظيم { ويذكر فيها اسمه } عام فيما يتضمن ذكره حتى المذاكرة في أفعاله والمباحثة في أحكامه { يسبح له فيها بالغدو والآصال } ينزهونه أي يصلون له فيها بالغدوات والعشيات والغدو مصدر أطلق للوقت ولذلك حسن اقترانه بالآصال وهو جمع أصيل وقرئ ( والايصال ) وهو الدخول في الأصيل وقرأ ابن عامر و أبو بكر ( يسبح ) بالفتح على إسناده إلى أحد الظروف الثلاثة ورفع رجال بما يدل عليه وقرئ تسبح بالتاء مكسورا لتأنيث الجمع ومفتوحا على إسناده إلى أوقات الغدو

37 - { رجال لا تلهيهم تجارة } لا تشغلهم معاملة رابحة { ولا بيع عن ذكر الله } مبالغة بالتعميم بعد التخصيص إن أريد به مطلق المعارضة أو بإفراد ما هو الأهم من قسمي التجارة فإن الربح يتحقق بالبيع ويتوقع بالشراء وقيل المراد بالتجارة الشراء فإنه أصلها ومبدؤها وقيل الجلب لأنه الغالب فيها ومنه يقال تجر في كذا إذا جلبه وفيه إيماء بأنهم تجار { وإقام الصلاة } عوض فيه الإضافة من التاء المعوضة عن العين الساقطة بالإعلال كقوله :
( وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا )
{ وإيتاء الزكاة } ما يجب إخراجه من المال للمستحقين { يخافون يوما } مع ما هم عليه من الذكر والطاعة { تتقلب فيه القلوب والأبصار } تضطرب وتتغير من الهول أو تتقلب أحوالها فتفقه القلوب ما لم تكن تفقه وتبصر الأبصار ما لم تكن تبصره أو تتقلب القلوب مع توقع النجاة وخوف الهلاك والأبصار من أي ناحية يؤخذ بهم ويؤتى كتبهم

38 - { ليجزيهم الله } متعلق بيسبح أو لا تلهيهم أو يخافون { أحسن ما عملوا } أحسن جزاء ما عملوا الموعود لهم من الجنة { ويزيدهم من فضله } أشياء لم يعدهم بها على أعمالهم ولم تخطر ببالهم { والله يرزق من يشاء بغير حساب } تقرير للزيادة وتنبيه على كمال القدرة ونفاذ المشيئة وسعة الإحسان

39 - { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة } والذين كفروا حالهم على ضد ذلك فإن أعمالهم التي يحسبونها صالحة نافعة عند الله يجدونها لاغية مخيبة في العاقبة كالسراب وهو ما يرى في الفلاة من لمعان الشمس عليها وقت الظهيرة فيظن أنه ماء يسرب أي يجري والقيعة بمعنى القاع وهو الأرض الخالية عن النبات وغيره المستوية وقيل جمعه كجار وجيرة وقرئ ( بقيعات ) كديمات في ديمة { يحسبه الظمآن ماء } أي العطشان وتخصيصه لتشبيه الكافر به في شدة الخيبة عند مسيس الحالجة { حتى إذا جاءه } جاء ما توهمه ماء أو موضعه { لم يجده شيئا } مما ظنه { ووجد الله عنده } عقابه أو زبانيته أو وجده محاسبا إياه { فوفاه حسابه } استعراضا أو مجازاة { والله سريع الحساب } لا يشغله حساب عن حساب روي أنها نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية تعبد في الجاهلية والتمس الدين فلما جاء الإسلام كفر

40 - { أو كظلمات } عطف على { كسراب } و { أو } للتخيير فإن أعمالهم لكونها لاغية لا منفعة لها كالسراب ولكونها خالية عن نور الحق كالظلمات المتراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب أو للتنويع فإن أعمالهم إن كانت حسنة فكالسراب وإن كانت قبيحة فكالظلمات أو للتقسيم باعتبار وقتين فإنها كالظلمات في الدنيا وكالسراب في الآخرة { في بحر لجي } ذي لج أي عميق منسوب إلى اللج وهو معظم الماء { يغشاه } يغشى البحر { موج من فوقه موج } أي أمواج مترادفة متراكمة { من فوقه } من فوق الموج الثاني { سحاب } غطى النجوم وحجب أنوارها والجملة صفة أخرى للـ { بحر } { ظلمات } أي هذه ظلمات { بعضها فوق بعض } وقرأ ابن كثير { ظلمات } بالجر على إيدالها من الأولى أو بإضافة الـ { سحاب } إليها في رواية البزي { إذا أخرج يده } وهي أقرب ما يرى إليه { لم يكد يراها } لم يقرب أن يراها فضلا أن يراها كقول ذي الرمة :
( إذا غير النأي المحبين لم يكد ... رسيس الهوى من حب مية يبرح )
والضمائر للواقع في البحر وإن لم يجر ذكره لدلالة المعنى عليه { ومن لم يجعل الله له نورا } ومن لم يقدر له الهداية لم يوفقه لأسبابها { فما له من نور } خلاف الموفق الذي له نور على نور

41 - { ألم تر } ألم تعلم علما يشبه المشاهدة في اليقين والوثاقة بالوحي أو الاستدلال { أن الله يسبح له من في السماوات والأرض } ينزه ذاته من كل نقص وآفة أهل السموات والأرض و { من } لتغليب العقلاء أو الملائكة والثقلان بما يدل عليه من مقال أو دلالة حال { والطير } على الأول تخصيص لما فيها من الصنع الظاهر والدليل الباهر ولذلك قيدها بقوله : { صافات } فإن إعطاء الأجرام الثقيلة ما به تقوى على الوقوف في الجو باسطة أجنحتها بما فيها من القبض والبسط حجة قاطعة على كمال قدرة الصانع تعالى ولطف تدبيره { كل } كل واحد مما ذكر أو من الطير { قد علم صلاته وتسبيحه } أي قد علم الله دعاءه وتنزيهه اختبارا أو طبعا لقوله : { والله عليم بما يفعلون } أو علم كل على تشبيه حاله في الدلالة على الحق والميل إلى النفع على وجه يخصه بحال من علم ذلك مع أنه لا يبعد أن يلهم الله تعالى الطير دعاء وتسبيحا كما ألهمها علوما دقيقة في أسباب تعيشها لا تكاد تهتدي إليها العقلاء

42 - { ولله ملك السماوات والأرض } فإنه الخالق لما وما فيهما من الذوات والصفات والأفعال من حيث إنها ممكنة واجبة الانتهاء إلى الواجب { وإلى الله المصير } مرجع الجميع

43 - { ألم تر أن الله يزجي سحابا } يسوقه ومنه البضاعة المزجاة فإنه يزجيها كل أحد { ثم يؤلف بينه } بأن يكون قزعا فيضم بعضه إلى بعض وبهذا الاعتبار صح بينه إذ المعنى بين أجزائه وقرأ نافع برواية ورش ( يولف ) غير مهموز { ثم يجعله ركاما } متراكما بعضه فوق بعض { فترى الودق } المطر { يخرج من خلاله } من فتوقه جمع خلل كجبال في جبل وعرئ من ( خلله ) { وينزل من السماء } من الغمام وكل ما علاك فهو سماء { من جبال فيها } من قطع عظام تشبه الجبال في عظمها أو جمودها { من برد } بيان للجبال والمفعول محذوف أي { ينزل } مبتدأ { من السماء من جبال فيها من برد } بردا ويجوز أن تكون من الثانية أو الثالثة للتبعيض واقعة موقع المفعول وقيل المراد بالسماء المظلة وفيها جبال من برد كما في الأرض جبال من حجر وليس في العقل قاطع يمنعه والمشهور أن الأبخرة إذا تصاعدت ولم تحللها حرارة فبلغت الطبقة الباردة من الهواء وقوي البرد هناك اجتمع وصار سحابا فإن لم يشتد البرد تقاطر مطرا وإن اشتد فإن وصل إلى الأجزاء البخارية قبل اجتماعها نزل ثلجا وإلا نزل بردا وقد يبرد الهواء بردا مفرطا فينقبض وينعقد سحابا وينزل منه المطر أو الثلج وكل ذلك لا بد أن يستند إلى إرادة الواجب الحكيم لقيام الدليل على أنها الموجبة لاختصاص الحوادث بمحالها وأوقاتها وإليها أشار بقوله : { فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء } والضمير الـ { برد } { يكاد سنا برقه } ضوء برقه وقرئ بالمد بمعنى العلو وبإدغام الدال في السين و { برقه } بضم الباء وفتح الراء وهو جمع برقة وهي المقدار من البرق كالغرفة وبضمها للإتباع { يذهب بالأبصار } بأبصار الناظرين إليه من فرط الإضاءة وذلك أقوى دليل على كمال قدرته من حيث إنه توليد للضد من الضد وقرئ { يذهب } على زيادة الباء

44 - { يقلب الله الليل والنهار } بالمعاقبة بينهما أو بنقص أحدهما وزيادة الآخر أو بتغيير أحوالهما بالحر والبرد والظلمة والنور أو بما يعم ذلك { إن في ذلك } فيما تقدم ذكره { لعبرة لأولي الأبصار } لدلالة على وجود الصانع القديم وكمال قدرته وإحاطة علمه ونفاذ مشيئته وتنزهه عن الحاجة وما يفضي إليها لمن يرجع إلى بصيرة

45 - { والله خلق كل دابة } حيوان يدب على الأرض وقرأ حمزة و لكسائي ( خالق كل دابة ) بالإضافة { من ماء } هو جزء مادته أو ماء مخصوص هو النطفة فيكون تنزيلا للغالب منزلة الكل إذ من الحيوانات ما يتولد عن النطفة وقيل { من ماء } متعلق بـ { دابة } وليس بصلة لـ { خلق } { فمنهم من يمشي على بطنه } كالحية وإنما سمي الزحف مشيا على الاستعارة أو المشاكلة { ومنهم من يمشي على رجلين } كالإنس والطير { ومنهم من يمشي على أربع } كالنعم والوحش ويندرج فيه ما له أكثر من أربع كالعناكب فإن اعتمادها إذا مشت على أربع وتذكير الضمير لتغليب العقلاء والتعبير عن الأصناف ليوافق التفصيل الجملة والترتيب لتقديم ما هو أعرف في القدرة { يخلق الله ما يشاء } مما ذكر ومما لم يذكر بسيطا ومركبا على اختلاف الصور والأعضاء والهيئات والحركات والطبائع والقوى والأفعال مع اتحاد العنصر بمقتضى مشيئته { إن الله على كل شيء قدير } فيفعل ما يشاء

46 - { لقد أنزلنا آيات مبينات } للحقائق بأنواع الدلائل { والله يهدي من يشاء } بالتوفيق للنظر فيها والتدبر لمعانيها { إلى صراط مستقيم } هو دين الإسلام الموصل إلى درك الحق والفوز بالجنة

47 - { ويقولون آمنا بالله وبالرسول } نزلت في بشر المنافق خاصم يهوديا فدعاه إلى كعب بن الأشرف وهو يدعوه إلى النبي صلى الله عليه و سلم وقيل في مغيرة بن وائل خاصم عليا رضي الله عنه في أرض فأبى أن يحاكمه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم { وأطعنا } أي وأطعناهما { ثم يتولى } بالامتناع عن قبول حكمه { فريق منهم من بعد ذلك } بعد قولهم هذا { وما أولئك بالمؤمنين } إشارة إلى القائلين بأسرهم فيكون إعلاما من الله تعالى بأن جميعهم وإن آمنوا بلسانهم لم تؤمن قلوبهم أو إلى الفريق منهم وسلب الإيمان عنهم لتوليهم والتعريف فيه للدلالة على أنهم ليسوا بالمؤمنين الذين عرفتهم وهم المخلصون في الإيمان والثابتون عليه

48 - { وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم } أي ليحكم النبي صلى الله عليه و سلم في الحقيقة حكم الله تعالى { إذا فريق منهم معرضون } فاجأ فريق منهم الإعراض إذا كان الحق عليهم لعلمهم بأنك لا تحكم لهم وهو شرح للتولي ومبالغة فيه

49 - { وإن يكن لهم الحق } أي الحكم لا عليهم { يأتوا إليه مذعنين } منقادين لعلمهم بأنه يحكم لهم و { إليه } صلة لـ { يأتوا } أو لـ { مذعنين } وتقديمه للاختصاص

50 - { أفي قلوبهم مرض } كفر أو ميل إلى الظلم { أم ارتابوا } بأن رأوا منك تهمة فزال يقينهم وثقتهم بك { أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله } في الحكومة { بل أولئك هم الظالمون } إضراب عن القسمين الأخيرين لتحقيق القسم فتعين الأول ووجه التقسيم أن امتناعهم إما لخلل فيهم أو في الحاكم والثاني إما أن يكون محققا عندهم أو متوقعا وكلاهما باطل لأن منصب نبوته وفرط أمانته صلى الله عليه و سلم يمنعه فتعين الأول وظلمهم يعم خلل عقيدتهم وميل نفوسهم إلى الحيف والفصل لنفي ذلك عن غيرهم سيما المدعو إلى حكمه

51 - { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون } على عادته تعالى في إتباع ذكر المحق المبطل والتنبيه على ما ينبغي بعد إنكاره لما لا ينبغي وقرئ { قول } بالرفع و { ليحكم } على البناء للمفعول وإسناده إلى ضمير مصدره على معنى ليفعل الحكم

52 - { ومن يطع الله ورسوله } فيما يأمرانه أو في الفرائض والسنن { ويخش الله } على ما صدر عنه من الذنوب { ويتقه } فيما بقي من عمره وقرأ يعقوب و قالون عن نافع بلا ياء و أبو بكر و أبو عمرو بسكون الهاء و حفص بسكون القاف فشبه تقه بكتف وخفف والهاء ساكنة في الوقف بالاتفاق { فأولئك هم الفائزون } بالنعيم المقيم

53 - { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } إنكار للامتناع عن حكمه { لئن أمرتهم } الخروج عن ديارهم وأموالهم { ليخرجن } جواب لـ { أقسموا } على الحكاية { قل لا تقسموا } على الكذب { طاعة معروفة } أي المطلوب منكم طاعة معروفة لا اليمين على الطاعة النفاقية المنكرة أو { طاعة معروفة } أمثل منها أو لتكن طاعة وقرئت بالنصب على أطيعوا طاعة { إن الله خبير بما تعملون } فلا يخفى عليه سرائركم

54 - { قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } أمر بتبليغ ما خاطبهم الله به على الحكاية مبالغة في تبكيتهم { فإن تولوا فإنما عليه } أي على محمد صلى الله عليه و سلم { ما حمل } من التبليغ { وعليكم ما حملتم } من الامتثال { وإن تطيعوه } في حكمه { تهتدوا } إلى الحق { وما على الرسول إلا البلاغ المبين } التبليغ الموضح لما كلفتم به وقد أدى وإنما بقي { ما حملتم } فإن أديتم فلكم وإن توليتم فعليكم

55 - { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات } خطاب للرسول صلى الله عليه و سلم وللأمة أوله ولمن معه ومن للبيان { ليستخلفنهم في الأرض } ليجعلهم خلفاء متصرفين في الأرض تصرف الملوك في مماليكهم وهو جواب قسم مضمر تقديره وعدهم الله وأقسم ليستخلفنهم أو الوعد في تحققه منزل منزلة القسم { كما استخلف الذين من قبلهم } يعني بني إسرائيل استخلفهم في مصر والشام بعد الجبابرة وقرأ أبو بكر بضم التاء وكسر اللام وإذا ابتدأ ضم الألف والباقون بفتحهما وإذا ابتدؤوا كسورا الألف { وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم } وهو الإسلام بالتقوية والتثبيت { وليبدلنهم من بعد خوفهم } من الأعداء وقرأ ابن كثير و أبو بكر بالتخفيف { أمنا } منهم وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه مكثوا بمكة عشر سنين خائفين ثم هاجروا إلى المدينة وكان يصبحون في السلاح ويمسون فيه حتى أنجز الله وعده فأظهرهم على العرب كلهم وفتح لهم بلاد الشرق والغرب وفيه دليل على صحة النبوة للإخبار عن الغيب على ما هو به وخلافة الخلفاء الراشدين إذ لم يجتمع الموعود والموعود عليه لغيرهم بالإجماع وقيل الخوف من العذاب والأمن منه في الآخرة { يعبدونني } حال من الذين لتقييد الوعد بالثبات على التوحيد أو استئناف ببيان المقتضي للاستخلاف والأمن { لا يشركون بي شيئا } حال من الواو أي يعبدونني غير مشركين { ومن كفر } ومن ارتد أو كفر هذه النعمة { بعد ذلك } بعد الوعد أو حصول الخلافة { فأولئك هم الفاسقون } الكاملون في فسقهم حيث ارتدوا بعد وضوح مثل هذه الآيات أو كفروا تلك النعمة العظيمة

56 - { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول } في سائر ما أمركم به ولا يبعد عطف ذلك على أطيعوا الله فإن الفاصل وعد على المأمور به فيكون تكرير الأمر بطاعة الرسول صلى الله عليه و سلم للتأكيد وتعليق الرحمة بها أو بالمندرجة هي فيه بقوله : { لعلكم ترحمون } كما علق به الهدى

57 - { لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض } لا تحسبن يا محمد الكفار معجزين لله عن إدراكهم وإهلاكهم و { في الأرض } صلة { معجزين } وقرأ ابن عامر و حمزة بالياء على أن الضمير فيه لمحمد صلى الله عليه و سلم والمعنى كما هو في القراءة بالتاء أو { الذين كفروا } فاعل والمعنى ولا يحسبن الكفار في الأرض أحدا معجزا لله فيكون { معجزين في الأرض } مفعوليه أو لا يحسبونهم { معجزين } فحذف المفعول الأول لأن الفاعل والمفعولين لشيء واحد فاكتفى بذكر اثنين عن الثالث { ومأواهم النار } عطف عليه من حيث المعنى كأنه قيل : الذين كفروا ليسوا بمعجزين ومأواهم النار لأن المقصود من النهي عن الحسبان تحقيق نفي الإعجاز { ولبئس المصير } المأوى الذي يصيرون إليه

58 - { يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم } رجوع إلى تتمة الأحكام السالفة بعد الفراغ من الإلهيات الدالة على وجوب الطاعة فيما سلف من الأحكام وغيرها والوعد عليها والوعيد على الإعراض عنها والمراد به خطاب الرجال والنساء غلب فيه الرجال لما روي أن غلام أسماء بنت أبي مرثد دخل عليها في وقت كرهته فنزلت وقيل أرسل رسول الله صلى الله عليه و سلم مدلج بن عمرو الأنصاري وكان غلاما وقت الظهيرة ليدعو عمر فدخل وهو نائم وقد انكشف عنه ثوبه فقال عمر رضي الله تعالى عنه : لوددت أن الله عز و جل نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا أن لا يدخلوا هذه الساعات علينا إلا بإذن ثم انطلق معه إلى النبي صلى الله عليه و سلم فوجده وقد أنزلت هذه الآية : { والذين لم يبلغوا الحلم منكم } والصبيان الذي لم يبلغوا من الأحرار فعبر عن البلوغ بالاحتلام لأنه أقوى دلائله { ثلاث مرات } في اليوم والليلة مرة { من قبل صلاة الفجر } لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ثياب النوم ولبس ثياب اليقظة ومحله النصب بدلا من ثلاث مرات أو الرفع خبرا لمحذوف أي هي من قبل صلاة الفجر { وحين تضعون ثيابكم } أي ثيابكم لليقظة للقيلولة { من الظهيرة } بيان للحين { ومن بعد صلاة العشاء } لأنه وقت التجرد عن اللباس والالتحاف باللحاف { ثلاث عورات لكم } أي هي ثلاث أوقات يختل فيها تستركم ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره ما بعده وأصل العورة الخلل ومنها اعور المكان ورجل أعور وقرأ أبو بكر و حمزة و الكسائي { ثلاث } بالنصب بدلا من { ثلاث مرات } { ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن } بعد هذه الأوقات في ترك الاستئذان وليس فيه ما ينافي آية الاستئذان فينسخها لأنه في الصبيان ومماليك المدخول عليه وتلك في الأحرار البالغين { طوافون عليكم } أي هم طوافون استئناف ببيان العذر الرخص في ترك الاستئذان وهو المخالطة وكثرة المداخلة وفيه دليل على تعليل الأحكام وكذا في الفرق بين الأوقات الثلاثة وغيرها بأنها عورات { بعضكم على بعض } بعضكم طائف على بعض أو يطوف بعضكم على بعض { كذلك } مثل ذلك التبيين { يبين الله لكم الآيات } أي الأحكام { والله عليم } بأحوالكم { حكيم } فيما شرع لكم

59 - { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم } الذين بلغوا من قبلهم في الأوقات كلها واستدل به من أوجب استئذان العبد البالغ على سيدته وجوابه أن المراد بهم المعهودين الذين جعلوا قسيما للمماليك فلا يندرجون فيهم { كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم } كرره تأكيدا ومبالغة في الأمر بالاستئذان

60 - { والقواعد من النساء } والعجائز اللاتي قعدن عن الحيض والحمل { اللاتي لا يرجون نكاحا } لا يطمعن فيه لكبرهن { فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن } أي الثياب الظاهرة كالجلباب والفاء فيه لأن اللام في { القواعد } بمعنى اللاتي أولوصفها بها { غير متبرجات بزينة } غير مظهرات زينة مما أمرن بإخفائه في قوله تعالى { ولا يبدين زينتهن } وأصل التبرج التكلف في إظهار ما يخفى من قولهم سفينة
بارجة لا غطاء عليها والبرج سعة العين بحيث يرى بياضها محيطا بسوادها كله لا يغيب منه شيء إلا أنه خص بتكشف المرأة زينتها ومحاسنها للرجال { وأن يستعففن خير لهن } من الوضع لأنه أبعد من التهمة { والله سميع } لمقالتهن للرجال
{ عليم } بمقصودهن

61 - { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج } نفي لما كانوا يتحرجون من مؤاكلة الأصحاء حذرا من استقذارهم أو أكلهم من بيت من يدفع إليهم المفتاح ويبيح لهم التبسط فيه إذا خرج إلى الغزو وخلفهم على المنازل مخافة أن لا يكون ذلك من طيب قلب أو من إجابة من يدعوهم إلى بيوت آبائهم وأولادهم وأقاربهم فيطعمونهم كراهة أن يكونوا كلا عليهم وهذا إنما يكون إذا علم رضا صاحب البيت بإذن أو قرينة أو كان في أول الإسلام ثم نسخ بنحو قوله { لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام } وقيل نفي للحرج عنهم في القعود عن الجهاد وهو لا يلائم ما قبله ولا ما بعده { ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم } من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم فيدخل فيها بيوت الأولاد لأن بيت الولد كبيته لقوله عليه الصلاة و السلام [ أنت ومالك لأبيك ] وقوله عليه الصلاة و السلام [ إن أطيب ما يأكل المؤمن من كسبه وإن ولده من كسبه ] { أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه } وهو ما يكون تحت أيديكم وتصرفكم من ضيعة أو ماشية وكالة أو حفظا وقيل بيوت المماليك والمفاتح جمع مفتح وهو ما يفتح به وقرئ { مفاتحه } { أو صديقكم } أو بيوت صديقكم فإنهم أرضى بالتبسط في أموالهم وأسر به وهو يقع على الواحد والجمع كالخليط هذا كله إنما يكون إذا علم رضا صاحب البيت بإذن أو قرينة ولذلك خصص هؤلاء فإنه يعتاد التبسط بينهم أو كان ذلك في أول الإسلام فنسخ فلا احتجاج للحنفية به على أن لا قطع بسرقة مال المحرم { ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا } مجتمعين أو متفرقين نزلت في بني ليث بن عمرو من كنانة كانوا يتحرجون أن يأكل الرجل وحده أو في قوم من الأنصار إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلا معه أو في قوم تحرجوا عن الاجتماع على الطعام لاختلاف الطبائع في القذارة والنهمة { فإذا دخلتم بيوتا } من هذه البيوت { فسلموا على أنفسكم } على أهلها الذين هم منكم دينا وقرابة { تحية من عند الله } ثابتة بأمره مشروعة من لدنه ويجوز أن تكون من صلة للتحية فإنه طلب الحياة وهي من عنده تعالى وانتصابها بالمصدر لأنها بمعنى التسليم { مباركة } لأنها يرجى بها زيادة الخير والثواب { طيبة } تطيب بها نفس المستمع وعن أنس رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة و السلام قال لي [ متى لقيت أحدا من أمتي فسلم عليه يطل عمرك وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوابين ] { كذلك يبين الله لكم الآيات } كرره ثلاثا لمزيد التأكيد وتفخيم الأحكام المختتمة به وفصل الأولين بما هو المقتضى لذلك وهذا بما هو المقصود منه فقال : { لعلكم تعقلون } أي الحق والخير في الأمور

سورة الفرقان
62 - لله ورسوله } من صميم قلوبهم { وإذا كانوا معه على أمر جامع } كالجمعة والأعياد والحروب والمشاورة في الأمور ووصف الأمر بالجمع للمبالغة وقرئ ( أمر جميع ) { لم يذهبوا حتى يستأذنوه } يستأذنوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فيأذن لهم واعتباره في كمال الإيمان لأنه كالمصداق لصحته والمميز للمخلص فيه عن المنافق فإن ديدنه التسلل والفرار ولتعظيم الجرم في الذهاب عن مجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم بغير إذنه ولذلك أعاده مؤكدا على أسلوب أبلغ فقال : { إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله } فإنه يفيد أن المستأذن مؤمن لا محالة وأن الذهاب بغير إذن ليس كذلك { فإذا استأذنوك لبعض شأنهم } ما يعرض لهم من المهام وفيه أيضا مبالغة وتضييق الأمر { فأذن لمن شئت منهم } تفويض للأمر إلى رأي الرسول صلى الله عليه و سلم واستدل به على أن بعض الأحكام مفوضة إلى رأيه ومن منع ذلك قيد المشيئة بأن تكون تابعة لعلمه بصدقه فكأن المعنى : فائذن لمن علمت أن له عذرا { واستغفر لهم الله } بعد الإذن فن الاستئذان ولو لعذر قصور لأنه تقديم لأمر الدنيا على أمر الدين { إن الله غفور } لفرطات العباد { رحيم } بالتيسير عليهم

63 - { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا } لا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضا في جواز الإعراض والمساهلة في الإجابة والرجوع بغير إذن فإن المبادرة إلى إجابته عليه الصلاة و السلام واجبة والمراجعة بغير إذنه محرمة وقيل لا تجعلوا نداءه وتسميته كنداء بعضكم بعضا باسمه ورفع الصوت به والنداء من وراء الحجرات ولكن بلقبه المعظم مثل يا نبي الله ويا رسول الله مع التوقير والتواضع وخفض الصوت أو لا تجعلوا دعاءه عليكم كدعاء بعضكم على بعض فلا تبالوا بسخطه فإن دعاءه موجب أو لا تجعلوا دعاءه ربه كدعاء صغيركم وكبيركم يجيبه مرة ويرده أخرى فإن دعاءه مستجاب { قد يعلم الله الذين يتسللون منكم } ينسلون قليلا قليلا من الجماعة ونظير تسلل تدرج وتدخل { لواذا } ملاوذة بأن يستتر بعضكم ببعض حتى يخرج أو يلوذ بمن يؤذن له فينطلق معه كأنه تابعه وانتصابه على الحال وقرئ بالفتح { فليحذر الذين يخالفون عن أمره } يخالفون أمره بترك مقتضاه ويذهبون سمتا خلاف سمته و { عن } لتضمنه معنى الإعراض أو يصدون عن أمره دون المؤمنين من خالفه عن الأمر إذا صد عنه دونه وحذف المفعول لأن المقصود بيان المخالف والمخالف عنه والضمير لله تعالى فإن الأمر له في الحقيقة أو للرسول فإنه المقصود بالذكر { أن تصيبهم فتنة } محنة في الدنيا { أو يصيبهم عذاب أليم } في الآخرة واستدل به على أن لأمر للوجوب فإنه يدل على أن ترك مقتضى الأمر مقتض لأحد العذابين فإن الأمر بالحذر عنه يدل على خشية المشروط بقيام المقتضي له وذلك يستلزم الوجوب

64 - { ألا إن لله ما في السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه } أيها المكلفون من المخالفة والموافقة والنفاق والإخلاص وإنما أكد علمه بـ { قد } لتأكيد الوعيد { ويوم يرجعون إليه } يوم يرجع المنافقون إليه للجزاء ويجوز أن يكون الخطاب أيضا مخصوصا بهم على طريق الالتفات وقرأ يعقوب بفتح الياء وكسر الجيم { فينبئهم بما عملوا } من سوء الأعمال بالتوبيخ والمجازاة عليه { والله بكل شيء عليم } لا يخفى عليه خافية
عن النبي صلى الله عليه و سلم [ من قرأ سورة النور أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل مؤمن ومؤمنة فيما مضى وفيما بقي ]

1 - { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده } تكاثر خيره من البركة وهي كثرة الخير أو تزايد على كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله فإن البركة تتضمن معنى الزيادة وترتيبه عن إنزاله { الفرقان } لما فيه من كثرة الخير أو لدلالته على تعاليه وقيل دام من بروك الطير على الماء ومنه البركة لدوام الماء فيها وهو لا يتصرف فيه ولا يستعمل إلا لله تعالى و { الفرقان } مصدر فرق بين الشيئين إذا فصل بينهما سمي به القرآن لفصله بين الحق والباطل بتقريره أو المحق والمبطل بإعجازه أو لكونه مفصولا بعضه عن بعض في الإنزال وقرئ ( على عباده ) وهم رسول الله صلى الله عليه و سلم وأمته كقوله تعالى : { ولقد أنزلنا إليكم آيات } أو الأنبياء على أن { الفرقان } اسم جنس للكتب السماوية { ليكون } العبد أو الفرقان { للعالمين } للجن والأنس { نذيرا } منذرا أو إنذارا كالنكير بمعنى الإنكار هذه الجملة وإن لم تكن معلومة لكنها لقوة دليلها أجريت مجرى المعلوم وجعلت صلة

2 - { الذي له ملك السماوات والأرض } بدل من الأول أو مدح مرفوع أو منصوب { ولم يتخذ ولدا } كزعم النصارى { ولم يكن له شريك في الملك } كقول الثنوية أثبت له الملك مطلقا ونفى ما يقوم مقامه وما يقاومه فيه ثم نبه على ما يدل عليه فقال : { وخلق كل شيء } أحدثه إحداثا مراعى فيه التقدير حسب إرادته كخلقه الإنسان من مواد مخصوصة وصور وأشكال معينة { فقدره تقديرا } فقدره وهيأه لما أراد منه من الخصائص والأفعال كتهيئة الإنسان للإدراك والفهم والنظر والتدبير واستنباط الصنائع المتنوعة مزاولة الأعمال المختلفة إلى غير ذلك أو { فقدره } للبقاء إلى أجل مسمى وقد يطلق الخلق لمجرد الإيجاد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق فيكون المعنى وأوجد كل شيء فقدره في إيجاده حتى لا يكون متفاوتا

3 - { واتخذوا من دونه آلهة } لما تضمن إثبات التوحيد والنبوة أخذ في الرد على المخالفين فيهما { لا يخلقون شيئا وهم يخلقون } لأن عبدتم ينحتونهم ويصورونهم
{ ولا يملكون } ولا يستطيعون { لأنفسهم ضرا } دفع ضر { ولا نفعا } ولا جلب نفع { ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا } ولا يملكون إماتة أحد وإحياءه أولا وبعثه ثانيا ومن كان كذلك فبمعزل عن الألوهية لعرائه عن لوازمها واتصافه بما ينافيها وفيه تنبيه على أن الإله يجب أن يكون قادرا على البعث والجزاء

4 - { وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك } كذب مصروف عن وجهه
{ افتراه } اختلقه { وأعانه عليه قوم آخرون } أي اليهود فإنهم يلقون إليه أخبار الأمم وهو يعبر عنها بعبارته وقيل جبر ويسار وعداس وقد سبق في قوله { إنما يعلمه بشر } { فقد جاؤوا ظلما } يجعل الكلام المعجز { إفك } مختلقا متلقفا من اليهود { وزورا } بنسبة ما هو بريء منه إليه وأتى وجاء يطلقان بمعنى فعل فيعديان تعديته

5 - { وقالوا أساطير الأولين } ما سطره المتقدمون { اكتتبها } كتبها لنفسه أو استكتبها وقرئ على البناء للمفعول لأنه أمي وأصله : اكتتبها كاتب له فحذف اللام وأفضى الفعل إلى الضمير فصار اكتتبها إياه كاتب ثم حذف الفاعل وبني الفعل للضمير فاستتر فيه { فهي تملى عليه بكرة وأصيلا } ليحفظها فإنه أمي لا يقدر أن يكرر من الكتاب أو لتكتب

6 - { قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض } لأنه أعجزكم عن آخركم بفصاحته وتضمنه أخبارا عن مغيبات مستقبلة وأشياء مكنونة لا يعلمها إلا عالم الأسرار فكيف تجعلونه { أساطير الأولين } { إنه كان غفورا رحيما } فلذلك لا يعجل في عقوبتكم على ما تقولون مع كمال قدرته عليها واستحقاقكم أن يصب عليكم العذاب صبا

7 - { وقالوا مال هذا الرسول } ما لهذا الذي يزعم الرسالة وفيه استهانة وتهكم { يأكل الطعام } كما نأكل { ويمشي في الأسواق } لطلب المعاش كما نمشي والمعنى إن صح دعواه فما باله لم يخالف حاله حالنا وذلك لعمههم وقصور نظرهم على المحسوسات فإن تميز الرسل عمن عداهم ليس بأمور جسمانية وإنما هو بأحوال نفسانية كما أشار إليه تعالى بقوله { قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد } { لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا } لنعلم صدقه بتصديق الملك

8 - { أو يلقى إليه كنز } فيستظهر به ويستغني عن تحصيل المعاش { أو تكون له جنة يأكل منها } هذا على سبيل التنزل أي إن لم يلق إليه كنز فلا أقل من أن يكون له بستان كما للدهاقين والمياسير فيتعيش بريعه وقرأ حمزة و الكسائي
بالنون والضمير للكفار { وقال الظالمون } وضع { الظالمون } موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالظلم فيما قالوه { إن تتبعون } ما تتبعون { إلا رجلا مسحورا } سحر فغلب على عقله وقيل ذا سحر وهو الرئة أي بشرا لا ملكا

9 - { انظر كيف ضربوا لك الأمثال } أي قالوا فيك الأقوال الشاذة واخترعوا لك الأحوال النادرة { فضلوا } عن الطريق الموصل إلى معرفة خواص النبي والمميز بينه وبين المتنبي فخبطوا خبطه عشواء { فلا يستطيعون سبيلا } إلى القدح في نبوتك أو إلى الرشد والهدى

10 - { تبارك الذي إن شاء جعل لك } في الدنيا { خيرا من ذلك } مما قالوا لكن أخره إلى الآخرة لأنه خير وأبقى { جنات تجري من تحتها الأنهار } بدل من { خيرا } { ويجعل لك قصورا } عطف على محل الجزاء وقرأ أبن كثير و ابن عامر و أبو بكر بالرفع لأن الشرط إذا كان ماضيا جاز في جزائه الجزم والرفع كقوله :
( وإن أتاه خليل يوم مسبغة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم )
ويجوز أن يكون استئنافا بوعد ما يكون له في الآخرة وقرئ بالنصب على أنه جواب بالواو

11 - { بل كذبوا بالساعة } فقصرت أنظارهم على الحطام الدنيوية وظنوا أن الكرامة إنما هي بالمال فطعنوا فيك لفقرك أو فلذلك كذبوك لا لما تمحلوا من المطاعن الفاسدة أو فكيف يلتفتون إلى هذا الجواب ويصدقونك بما وعد الله لك في الآخرة أو فلا تعجب من تكذيبهم إياك فإنه أعجب منه { وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا } نارا شديدة الاستعار وقيل هو اسم لجهنم فيكون صرفه باعتبار المكان

12 - { إذا رأتهم } إذا كانت بمرأى منهم [ كقوله عليه السلام لا تتراءى نارهما ] أي لا تتقربان بحيث تكون إحداهما من الأخرى على المجاز والتأنيث لأنه بمعنى النار أو جهنم { من مكان بعيد } هو أقصى ما يمكن أن يرى منه { سمعوا لها تغيظا وزفيرا } صوت تغيظ شبه صوت غليانها بصوت المغتاظ وزفيره وهو صوت يسمع مه جوفه هذا وإن الحياة لما لم تكن مشروطة عندنا بالبنية أمكن أن يخلق الله فيها حياة فترى وتتغيظ وتزفر وقيل إن ذلك لزبانيتها فنسب إليها على حذف المضاف

13 - { وإذا ألقوا منها مكانا } في مكان ومنها بيان تقدم فصار حالا
{ ضيقا } لزيادة العذاب فإن الكرب مع الضيق والروح مع السعة ولذلك وصف الله الجنة بأن عرضها كعرض السموات والأرض { مقرنين } قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل { دعوا هنالك } في ذلك المكان { ثبورا } هلاكا أي يتمنون الهلاك وينادونه فيقولون تعل يا ثبوراه فهذا حينك

14 - { لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا } أي يقال لهم ذلك { وادعوا ثبورا كثيرا } لأن عذابكم أنواع كثيرة كل نوع منها ثبور لشدته أو لأنه يتجدد لقوله تعالى : { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب } أو لأنه لا ينقطع فهو في كل وقت ثبور

15 - { قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون } الإشارة إلى العذاب والاستفهام والتفضيل والترديد للتقريع مع التهكم أو إلى الـ { كنز } أو الـ { جنة } والراجع إلى الموصول محذوف وإضافة الـ { جنة } إلى { الخلد } للمدح أو للدلالة على خلودها أو التميز عن جنات الدنيا { كانت لهم } في علم الله أو اللوح أو لأن ما وعده الله تعالى في تحققه كالواقع { جزاء } على أعمالهم بالوعد { ومصيرا } ينقلبون إليه ولا يمنع كونها جزاء لهم أن يتفضل بها على غيرهم برضاهم مع جواز أن يراد بالمتقين من يتقي الكفر والتكذيب لأنهم في مقابلتهم

16 - { لهم فيها ما يشاؤون } ما يشاؤونه من النعيم ولعله تقصر همم كل طائفة على ما يليق برتبته إذا الظاهر أن الناقص لا يدرك شأو الكامل بالتشهي وفيه تنبيه على أن كل المرادات لا تحصل إلا في الجنة { خالدين } حال من أحد ضمائرهم { كان على ربك وعدا مسؤولا } الضمير في { كان } لـ { ما يشاؤون } والوعد الموعود أي : كان ذلك موعدا حقيقا بأن يسأل ويطلب أو مسؤولا سأله الناس في دعائهم { ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك } أو الملائكة بقولهم { ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم } وما في { على } من معنى الوجوب لامتناع الخلف في وعده تعالى ولا يلزم منه الإلجاء إلى الإنجاز فإن تعلق الإرادة بالوعود مقدم على الوعد الموجب للإنجاز

17 - { ويوم نحشرهم } للجزاء وقرئ بكسر الشين وقرأ ابن كثير و يعقوب و حفص بالياء { وما يعبدون من دون الله } يعم كل معبود سواه تعالى واستعمال { ما } إما لأن وضعه أعم ولذلك يطلق لكل شبح يرى ولا يعرف أو لأنه أريد به الوصف كأنه قيل ومعبودهم أو لتغليب الأصنام تحقيرا أو اعتبارا لغلبة عبادها أو يخص الملائكة وعزيرا والمسيح بقرينة السؤال والجواب أو الأصنام ينطقها الله أو تتكلم بلسان الحال كما قيل في كلام الأيدي والأرجل { فيقول } أي للمعبودين وهو على تلوين الخطاب وقرأ ابن عامر بالنون { أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل } لإخلالهم بالنظر الصحيح وإعراضهم عن المرشد النصيح وهو استفهام تقريع وتبكيت للعبدة وأصله { أضللتم } أو { ضلوا } فغير النظم ليلي حرف الاستفهام المقصود بالسؤال وهو المتولي للفعل دونه لأنه لا شبهة فيه وإلا لما توجه العتاب وحذف صلة الضل مبالغة

18 - { قالوا سبحانك } تعجبا مما قيل لهم لأنهم إما ملائكة أو أنبياء معصومون أو جمادات لا تقدر على شيء أو إشعارا بأنهم الموسومون بتسبيحه وتوحيده فكيف يليق بهم إضلال عبيده أو تنزيها لله تعالى عن الأنداد { ما كان ينبغي لنا } ما يصح لنا { أن نتخذ من دونك من أولياء } للعصمة أو لعدم القدرة فكيف يصح لنا أن ندعو غيرنا أن يتولى أحدا دونك وقرئ { نتخذ } على البناء للمفعول من اتخذ الذي له مفعولان كقوله تعالى : { واتخذ الله إبراهيم خليلا } ومفعوله الثاني { من أولياء } و { من } للتبعيض و على الأول مزيدة لتأكيد النفي { ولكن متعتهم وآباءهم } بأنواع النعم فاستغرقوا في الشهوات { حتى نسوا الذكر } حتى غفلوا عن ذكرك أو التذكر لآلائك والتدبر في آياتك وهو نسبة للضلال إليهم من حيث إنه بكسبهم وإسناد له إلى ما فعل الله بهم فحملهم عليه وهو عين ما ذهبنا إليه فلا ينتهض حجة علينا للمعتزلة { وكانوا } في قضائك { قوما بورا } هالكين مصدر وصف به ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع أو جمع بائر كعائذ وعوذ

19 - { فقد كذبوكم } التفات إلى العبدة بالاحتجاج والإلزام على حذف القول والمعنى فقد كذبكم المعبودون { بما تقولون } في قولكم إنهم آلهة أو هؤلاء أضلونا والباء بمعنى في أو مع المجرور بدل من الضمير وعن ابن كثير
بالياء أي : { كذبوكم } بقولهم { سبحانك ما كان ينبغي لنا } { وما يستطيعون } أي المعبودون وقرأ حفص بالتاء على خطاب العابدين
{ صرفا } دفعا للعذاب عنكم وقيل حيلة من قولهم إنه ليتصرف أي يحتال { ولا نصرا } يعينكم عليه { ومن يظلم منكم } أيها المكلفون { نذقه عذابا كبيرا } هي النار والشرط وإن عم كل من كفر أو فسق لكنه في اقتضاء الجزاء مقيد بعدم المزاحم وفاقا وهو التوبة والإحباط بالطاعة إجماعا وبالعفو عندنا

20 - { وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق } أي رسلا إنهم فحذف الموصوف لدلالة المرسلين عليه وأقيمت الصفة مقامه كقوله تعالى : { وما منا إلا له مقام معلوم } ويجوز أن تكون حالا اكتفى فيها بالضمير وهو جواب لقولهم { مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } وقرئ { يمشون } أي تمشيهم حوائجهم أو الناس { وجعلنا بعضكم } أيها الناس { لبعض فتنة } ابتلاء ومن ذلك ابتلاء الفقراء بالأغنياء والمرسلين بالمرسل إليهم ومناصبتهم لهم العداوة وإيذائهم لهم وهو تسلية لرسول الله صلى الله عليه و سلم على ما قالوه بعد نقضه وفيه دليل على القضاء والقدر { أتصبرون } علة للجعل والمعنى { وجعلنا بعضكم لبعض فتنة } لنعلم أيكم يصبر ونظيره قوله تعالى : { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } أو حث على الصبر على ما افتتنوا به { وكان ربك بصيرا } بمن يصبر أو بالصواب فيما يبتلى به وغيره

21 - { وقال الذين لا يرجون } لا يأملون { لقاءنا } بالخير لكفرهم بالبعث أو لا يخافون { لقاءنا } بالشر على لغة تهامة وأصل اللقاء الوصول إلى الشيء ومنه الرؤية فإنه وصول إلى المرئي والمراد به الوصول إلى جزائه ويمكن أن يراد به الرؤية على الأول { لولا } هلا { أنزل علينا الملائكة } فتخبرنا بصدق محمد صلى الله عليه و سلم وقيل فيكونوا رسلا إلينا { أو نرى ربنا } فيأمرنا بتصديقه واتباعه { لقد استكبروا في أنفسهم } أي في شأنها حتى أرادوا لها ما يتفق لأفراد من الأنبياء الذين هم أكمل خلق الله في أكمل أوقاتها وما هو أعظم من ذلك { وعتوا } وتجاوزوا الحد في الظلم { عتوا كبيرا } بالغا أقصى مراتبه حيث عاينوا المعجزات القاهرة فأعرضوا عنها واقترحوا لأنفسهم الخبيثة ما سدت دونه مطامح النفوس القدسية واللام جواب قسم محذوف وفي الاستئناف بالجملة حسن وإشعار بالتعجب من استكبارهم وعتوهم كقوله :
( وجاره جساس أبأنا بنابها ... كليبا علت ناب كليب بواؤها )

22 - { يوم يرون الملائكة } ملائكة الموت أو العذاب و { يوم } نصب باذكر أو بما دل عليه { لا بشرى يومئذ للمجرمين } فإنه بمعنى يمنعون البشرى أو يعدمونها و { يومئذ } تكرر أو خبر و { للمجرمين } تبيين أو خبر ثان أو ظرف لما يتعلق به اللام أو لـ { بشرى } إن قدرت منونة غير مبينة مع { لا } فإنها لا تعمل وللـ { مجرمين } إما عام يتناول حكمه حكمهم من طريق البرهان و يلزم عن نفي البشرى لعامة المجرمين حينئذ نفي البشرى بالعفو والشفاعة في وقت آخر وإما خاص وضع موضع ضميرهم تسجيلا على جرمهم وإشعارا بما هو المانع للبشرى والموجب لما يقابلها { ويقولون حجرا محجورا } عطف على المدلول أي ويقول الكفرة حينئذ هذه الكلمة استعاذة وطلبا من الله تعالى أن يمنع لقاءهم وهي مما كانوا يقولون عند لقاء عدو أو هجوم مكروه أو تقولها الملائكة بمعنى حراما عليكم الجنة أو البشرى وقرئ { حجرا } بالضم وأصله الفتح غير أنه لما اختص بموضع مخصوص غير كقعدك وعمرك ولذلك لا يتصرف فيه و لا يظهر ناصبه ووصفه بمحجورا للتأكيد كقولهم : موت مائت

23 - { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا } أي وعمدنا إلى ما عملوا في كفرهم من المكارم كقري الضيف وصلة الرحم وإغاثة الملهوف فأحبطناه لفقد ما هو شرط اعتباره وهو تشبيه حالهم وأعمالهم بحال قوم استعصوا على سلطانهم فقدم إلى أشيائهم فمزقها وأبطلها ولم يبق لها أثرا والـ { هباء } غبار يرى في شعاع يطلع من الكوة من الهبوة وهي الغبار و
{ منثورا } صفته شبه عملهم المحبط بالهباء في حقارته وعدم نفعه ثم بالمنثور منه في انتشاره بحيث لا يمكن نظمه أو تفرقه نحو أغراضهم التي كانوا يتوجهون به نحوها أو مفعول ثالث من حيث إنه كالخبر بعد الخبر كقوله تعالى : { كونوا قردة خاسئين }

24 - { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا } مكانا يستقر فيه أكثر الأوقات للتجالس والتحادث { وأحسن مقيلا } مكانا يؤوي إله للاسترواح بالأزواج والتمتع بهن تجوزا له من مكان القيلولة على التشبيه أو لأنه لا يخلو من ذلك غالبا إذ لا نوم في الجنة وفي أحسن رمز إلى ما يتميز به مقيلهم من حين الصور وغيره من التحاسيس ويحتمل أن يراد بأحدهما المصدر أو الزمان إشارة إلى أن مكانهم وزمانهم أطيب ما يتخيل من الأمكنة والأزمنة والتفضيل إما لإرادة الزيادة مطلقا أو بالإضافة إلى ما للمترفين في الدنيا روي أنه يفرغ من الحساب في نصف ذلك اليوم فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار

25 - { ويوم تشقق السماء } أصله تتشقق فحذفت التاء وأدغمها ابن كثير و ونافع و ابن عامر و يعقوب { بالغمام } بسبب طلوع الغمام منها
وهو الغمام المذكور في قوله { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة } { ونزل الملائكة تنزيلا } في ذلك الغمام بصحائف أعمال العباد وقرأ ابن كثير ( وننزل ) وقرئ ( نزلت ) ( وأنزل ) { ونزل الملائكة } بحذف نون
الكلمة

26 - { الملك يومئذ الحق للرحمن } الثابت له لأن كل ملك يبطل يومئذ ولا يبقى إلا ملكه فهم الخبر و { للرحمن } صلته أو تبيين و { يومئذ } معمول { الملك } لا { الحق } لأنه متأخر أو صفته والخبر { يومئذ } أو { للرحمن } { وكان يوما على الكافرين عسيرا } شديدا

27 - { ويوم يعض الظالم على يديه } من فرط الحسرة وعض اليدين وأكل البنان وحرق الأسنان ونحوها كنايات عن الغيظ والحسرة لأنها من روادفهما والمراد بـ { الظالم } الجنس وقيل عقبة بن أبي معيط كان يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه و سلم فدعاه إلى ضيافته فأبى أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين ففعل وكان أبي بن خلف صديقه فعاتبه وقال صبأت فقال : لا ولكن آلى أن لا يأكل من طعامي وهو في بيتي فاستحيت منه فشهدت له فقال لا أرى منك إلا أن تأتيه فتطأ قفاه وتبزق في وجهه فوجده ساجدا في دار الندوة ففعل ذلك فقال عليه الصلاة و السلام : لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف فأسر يوم بدر فأمر عليا فقتله وطعن أبيا بأحد في المبارزة فرجع لى مكة ومات { يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا } طريقا إلى النجاة أو طريقا واحدا وهو طريق الحق ولم تتشعب بي طرق الضلالة

28 - { يا ويلتى } وقرئ بالياء على الأصل { ليتني لم أتخذ فلانا خليلا } يعني من أضله وفلان كناية عن الأعلام كما أن هنا كناية عن الأجناس

29 - { لقد أضلني عن الذكر } عن ذكر الله أو كتابه أو موعظة الرسول أو كلمة الشهادة { بعد إذ جاءني } وتمكنت منه { وكان الشيطان } يعني الخليل المضل أو إبليس لأنه حمله على مخالته ومخالفة الرسول أو كل من تشيطن من جن وإنس { للإنسان خذولا } يواليه حتى يؤديه إلى الهلاك ثم يتركه ولا ينفعه فعول من الخذلان

30 - { وقال الرسول } محمد يومئذ أو في الدنيا بثا إلى الله تعالى { يا رب إن قومي } قريشا { اتخذوا هذا القرآن مهجورا } بأن تركوه وصدوا عنه وعنه عليه الصلاة و السلام [ من تعلم القرآن وعلق مصحفه ولم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقا به يقول : يا رب عبدك هذا اتخذني مهجورا اقض بيني وبينه ] أو هجروا ولغوا فيه إذا سمعوه أو زعموا أنه هجر وأساطير الأولين فيكون أصله { مهجورا } فيه فحذف الجار ويجوز أن يكون بمعنى الهجر كالمجلود والمعقول وفيه تخويف لقومه فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا شكوا إلى الله تعالى قومهم عجل لهم العذاب

31 - { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين } كما جعلناه لك فاصبر كما صبروا وفيه دليل على أنه خالق الشر والعدو يحتمل الواحد والجمع { وكفى بربك هاديا } إلى طريق قهرهم { ونصيرا } لك عليهم

32 - { وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن } أي أنزل عليه كخبر بمعنى أخبر لئلا يناقض قوله : { جملة واحدة } دفعة واحدة كالكتب الثلاثة وهو اعتراض لا طائل تحته لأن الإعجاز لا يختلف بنزوله جملة أو مفرقا مع أن للتفريق فوائد منها ما أشار إليه بقوله : { كذلك لنثبت به فؤادك } أي كذلك أنزلناه مفرقا لنقوى بتفريقه فؤادك على حفظه وفهمه لأن حاله يخالف حال موسى وداود وعيسى حيث كان عليه الصلاة و السلام أميا وكانوا يكتبون فلو ألقي عليه جملة لعيل بحفظه ولعله لم يستتب له فإن التلقف يتأتى إلا شيئا فشيئا ولأن نزوله بحسب الوقائع يوجب مزيد بصيرة وغوص في المعنى ولأنه إذا نزل منجما وهو يتحدى بكل نجم فيعجزون عن معارضته زاد ذلك قوة قلبه ولأن إذا نزل به جبريل حالا بعد حال يثبت به فؤاده ومها معرفة الناسخ والمنسوخ ومنها انضام القرائن الحالية إلى الدلالات اللفظية فإنه يعين على البلاغة وكذلك صفة مصدر محذوف والإشارة إلى إنزاله مفرقا فإنه مدلول عليه بقوله { لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } ويحتمل أن يكون من تمام كلام الكفرة ولذلك وقف عليه فيكون حالا والإشارة إلى الكتب السابقة واللام على الوجهين متعلق بمحذوف { ورتلناه ترتيلا } وقرأناه عليك شيئا بعد شيء على تؤدة وتمهل في عشرين سنة أو ثلاث وعشرين وأصل الترتيل في الأسنان وهو تفليجها

33 - { ولا يأتونك بمثل } سؤال عجيب كأنه مثل في البطلان يريدون به القدح في نبوتك { إلا جئناك بالحق } الدامغ له في جوابه { وأحسن تفسيرا } وبما هو أحسن بيانا أو معنى من سؤالهم أو { لا يأتونك } بحال عجيبة يقولون هلا كانت هذه حاله إلا أعطيناك من الأحوال ما يحق لك في حكمتنا وما هو أحسن كشفا لما بعثت له

34 - { الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم } أي مقلوبين أو مسحوبين عليها أو متعلقة قلوبهم بالسفليات متوجهة وجوههم إليها [ وعنه عليه الصلاة السلام يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف صنف على الدواب وصنف على الأقدام وصنف على الوجوه ] وهو ذم منصوب أو مرفوع أو مبدأ خبره { أولئك شر مكانا وأضل سبيلا } والمفضل عليه وهو الرسول صلى الله عليه و سلم على طريقة قوله تعالى : { قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه } كأنه قيل إن حاملهم على هذه الأسئلة تحقير مكانه وتضليل سبيله ولا يعلمون حالهم ليعلموا أنهم شر مكانا وأضل سبيلا وقيل إنه متصل بقوله { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا } ووصف السبيل بالضلال من الإسناد المجازي للمبالغة

35 - { ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا } يوازره في الدعوة وإعلاء الكلمة ولا ينافي ذلك مشاركته في النبوة لأن المتشاركين في الأمر متوازرون عليه

36 - { فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا } يعني فرعون وقومه { بآياتنا فدمرناهم تدميرا } أي فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناهم فاقتصر على حاشيتي القصة اكتفاء بما هو المقصود منها وهو إلزام الحجة ببعثة الرسل واستحقاق التدمير بتكذيبهم والتعقيب باعتبار الحكم بالوقوع وقرئ ( فدمرتهم )
( فدمراهم فدمرانهم ) على التأكيد بالنون الثقيلة

37 - { وقوم نوح لما كذبوا الرسل } كذبوا نوحا ومن قبله أو نوحا وحده ولكن تكذيب واحد من الرسل كتكذيب الكل أو بعثة الرسل مطلقا كالبراهمة { أغرقناهم } بالطوفان { وجعلناهم } وجعلنا إغراقهم أو قصتهم { للناس آية } عبرة { وأعتدنا للظالمين عذابا أليما } يحتمل التعميم والتخصيص فيكون وضعا للظاهر موضع المضمر تظليما لهم

38 - { وعادا وثمود } عطف على هم في { جعلناهم } أو على ( الظالمين ) لأن المعنى ووعدنا الظالمين وقرأ حمزة و حفص ( وثمود ) على تأويل القبيلة { وأصحاب الرس } قوم كان يعبدون الأصنام فبعث الله تعالى إليهم شعيبا فكذبوه فبينما هم حول الرس وهي البئر الغير المطوية فانهارت فخسف بهم وبديارهم وقيل { الرس } قرية بفلج اليمامة كان فيها بقايا ثمود فبعث إليهم نبي فقتلوه فهلكوا وقيل الأخدود وقيل بئر بانطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار وقيل هو أصحاب حنظلة بن صفوان النبي ابتلاهم الله تعالى بطير عظيم كان فيها من كل لون وسموها عنقاء لطول عنقها وكانت تسكن جبلهم الذي يقال له فتخ أو دمخ وتنقض على صبيانهم فتخطفهم إذا أعوزها الصيد ولذلك سميت مغربا فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة ثم أنهم قتلوه فأهلكوا وقيل هم قوم كذبوا نبيهم ورسوه أي دسوه في بئر { وقرونا } وأهل أعصار قيل القرن أربعون سنة وقيل سبعون وقيل مائة وعشرون { بين ذلك } إشارة إلى ما ذكر { كثيرا } لا يعلمها إلا الله

39 - { وكلا ضربنا له الأمثال } بينا له القصص العجيبة قصص
لأولين إنذارا وإعذارا فما أصروا أهلكوا كما قال : { وكلا تبرنا تتبيرا } فتتناه
تفتيتا ومنه التبر لفتات الذهب والفضة { وكلا } الأول منصوب بما دل عليه
{ ضربنا } كأنذرنا والثاني بـ { تبرنا } لأنه فارغ

40 - { ولقد أتوا } يعني قريشا مروا مرارا في متاجرهم إلى الشام { على القرية التي أمطرت مطر السوء } يعني سدوم عظمى قرى قوم لوط أمطرت عليها الحجارة { أفلم يكونوا يرونها } في مرار مرورهم فيتعظوا بما يرون فيها من آثار عذاب الله { بل كانوا لا يرجون نشورا } بل كانوا كفرة لا يتوقعون نشورا ولا عاقبة فلذلك لم ينظروا ولم يتعظوا فمروا بها كما مرت ركابهم أو لا يأملون نشورا كما يأمله المؤمنون طمعا في الثواب أو لا يخافونه على اللغة التهامية

41 - { وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا } ما يتخذونك إلا موضع هزء أو مهزوءا به { أهذا الذي بعث الله رسولا } محكي بعد قول مضمر والإشارة للاستحقار وإخراج بعث الله رسولا في معرض التسليم يجعله صلة وهم على غاية الإنكار واستهزاء ولولاه لقالوا أهذا الذي زعم أنه بعثه الله رسولا

42 - { إن } إنه { كاد ليضلنا عن آلهتنا } ليصرفنا عن عبادتها بفرط اجتهاده في الدعاء إلى التوحيد وكثرة ما يوردها مما يسبق إلى الذهن بأنها حجج ومعجزات { لولا أن صبرنا عليها } ثبتنا عليها واستمسكنا بعبادتها و
{ لولا } في مثله تقيد الحكم المطلق من حيث المعنى دون اللفظ { وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا } كالجواب لقولهم { إن كاد ليضلنا } فإنه يفيد نفي ما يلزمه ويكون الموجب له وفيه وعيد ودلالة على أنه لا يهملهم وإن أمهلهم

43 - { أرأيت من اتخذ إلهه هواه } بأن أطاعه وبنى عليه دينه لا يسمع حجة ولا يبصر دليلا وإنما قدم المفعول الثاني للعناية به { أفأنت تكون عليه وكيلا } حفيظا تمنعه عن الشرك والمعاصي وحاله هذا فالاستفهام الأول للتقرير والتعجيب والثاني للإنكار

44 - { أم تحسب } بل أتحسب { أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون } فتجدي لهم الآيات أو الحجج فتهتم بشأنهم وتطمع في إيمانهم وهو أشد مذمة مما قبله حتى حق بالإضراب عنه إليه وتخصيص الأكثر لأنه كان منهم من آمن ومنهم من عقل الحق وكابر استكبارا وخوفا على الرئاسة { إن هم إلا كالأنعام } في عدم انتفاعهم بقرع الآيات آذانهم وعدم تدبرهم فيما شاهدوا من الدلائل والمعجزات { بل هم أضل سبيلا } من الأنعام لأنها تنقاد لمن يتعهدها وتميز من يحسن إليها ممن يسيء إليها وتطلب ما ينفعها وتتجنب ما يضرها وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه من إساءة الشيطان ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار ولأنها إن لم تعتقد حقا ولم تكتسب خيرا لم تعتقد باطلا ولم تكتسب شرا بخلاف هؤلاء ولأن جهالتها لا تضر بأحد وجهالة هؤلاء تؤدي إلى هيج الفتن وصد الناس عن الحق ولأنها غير متمكنة من طلب الكمال فلا تقصير منها ولا ذم وهؤلاء مقصرون ومستحقون أعظم العقاب على تقصيرهم

45 - { ألم تر إلى ربك } ألم تنظر إلى صنعه { كيف مد الظل } كيف بسطه أو ألم تنظر إلى الظل كيف مده ربك فغير النظم إشعارا بأنه المعقول من هذا الكلام لوضوح برهانه وهو دلالة حدوثه وتصرفه على الوجه النافع بأسباب ممكنة على أن ذلك فعل الصانع الحكيم كالمشاهد المرئي فكيف بالمحسوس منه أو ألم ينته علمك إلى أن ربك كيف مد الظل وهو فيما بين طلوع الفجر والشمس وهو أطيب الأحوال فإن الظلمة الخالصة تنفر الطبع وتسد النظر وشعاع الشمس : يسخن الجو ويبهر البصر ولذلك وصف به الجنة فقال { وظل ممدود } { ولو شاء لجعله ساكنا } ثابتا من السكنى أم غير متقلص من السكون بأن يجعل الشمس مقيمة على وضع واحد { ثم جعلنا الشمس عليه دليلا } فإنه لا يظهر للحس حتى تطلع فيقع ضوؤها على بعض الأجرام أو لا يوجد ولا يتفاوت إلا بسبب حركتها

46 - { ثم قبضناه إلينا } أي أزلناه بإيقاع الشمس موقعه لما عبر عن أحداثه بالمد بمعنى التسيير عبر عن إزالته بالقبض إلى نفسه الذي هو في معنى الكف { قبضا يسيرا } قليلا قليلا حسبما ترتفع الشمس لينتظم بذلك مصالح الكون ويتحصل به ما لا يحصى من منافع الخلق و { ثم } في الموضعين لتفاضل الأمور أو لتفاضل مبادئ أوقات ظهورها وقيل { مد الظل } لما بنى السماء بلا نير ودحا الأرض تحتها فألقت عليها ظلها ولو شاء لجعله ثابتا على تلك الحالة ثم خلق الشمس عليه دليلا أي مسلطا عليه مستتبعا إياه كما يستتبع الدليل المدلول أو دليل الطريق من يهديه فإنه يتفاوت بحركتها ويتحول بتحولها { ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا } شيئا فشيئا إلى أن تنتهي غاية نقصانه أو
{ قبضا } سهلا عند قيام الساعة بقض أسبابه من الأجرام المظلة والمظل عليها

47 - { وهو الذي جعل لكم الليل لباسا } شبه ظلامه باللباس في ستره
{ والنوم سباتا } راحة للأبدان بقطع المشاغل وأصل السبت القطع أو موتا كقوله : { وهو الذي يتوفاكم بالليل } لأنه قطع الحياة ومنه المسبوت للميت { وجعل النهار نشورا } ذا نشور أي انتشار ينتشر فيه الناس للمعاش أو بعث من النوم بعث الأموات فيكون إشارة إلى أن النوم واليقظة أنموذج للموت والنشور وعن لقمان عليه السلام يا بني كما تنام فتوقظ كذلك تموت فتنشر

48 - { وهو الذي أرسل الرياح } وقرأ ابن كثير على التوحيد إرادة للجنس { نشرا } ناشرات للحساب جمع نشور وقرأ ابن عامر بالسكون على التخفيف و حمزة و الكسائي به وبفتح النون على أنه مصدر وصف به و عاصم { بشرا } تخفيف بشر جمع بشور بمعنى مبشر { بين يدي رحمته } يعنى قدام المطر { وأنزلنا من السماء ماء طهورا } مطهر ا لقوله { ليطهركم به } وهو اسم لما يتطهر به كالوضوء والوقود لما يتوضأ به ويوقد به [ قال عليه الصلاة و السلام التراب طهور المؤمن طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسل سبعا إحداهن بالتراب ] وقيل بليغا في الطهارة وفعول وإن غلب في المعنيين لكنه قد جاء للمفعول كالضبوث وللمصدر كالقبول وللاسم كالذنوب وتوصيف الماء به إشعارا بالنعمة فيه وتتميم للمنة فيما بعده فإن الماء الطهور أهنأ وأنفع مما خالطه ما يزيل طهوريته وتنبيه على أن ظواهرهم لما كانت مما ينبغي أن يطهروها فبواطنهم بذلك أولى

49 - { لنحيي به بلدة ميتا } بالنبات وتذكير { ميتا } لأن البلدة في معنى البلد ولأنه غير جار على الفعل كسائر أبنية المبالغة فأجري مجرى الجامد { ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا } يعني أهل البوادي الذين يعيشون بالحيا ولذلك نكر الأنعام والأناسي وتخصيصهم لأن أهل المدن والقرى يقيمون بقرب الأنهار والمنافع فيهم وبما حولهم من الأنعام غنية عم سقيا السماء وسائر الحيوانات تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب غالبا مع أن مساق هذه الآيات كما هو للدلالة على عظم القدرة فهو لتعداد أنواع النعمة والأنعام قنية الإنسان وعامة منافعهم وعلية معايشهم منوطة بها ولذلك قدم سقيها على سقيهم كما قدم عليها إحياء الأرض فإنه سبب لحياتها وتعيشها وقرىء { نسقيه } بالفتح وسقى وأسقى لغتان وقيل أسقاه جعل له سقيا { وأناسي } بحذف ياء وهو جمع إنسي أو إنسان كظرابي في ظربان على أن أصله أناسين فقلبت النون ياء

50 - { ولقد صرفناه بينهم } صرفنا هذا القول بين الناس في القرآن الكريم وسائر الكتب أو المطر بينهم في البلدان المختلفة والأوقات المتغايرة وعلى الصفات المتفاوتة من وابل وطل وغيرهما وعن ابن عباس رضي الله عنه : ( ما عام أمطر من عام ولكن الله قسم ذلك بين عباده على ما شاء وتلا هذه الآية ) أو في الأنهار والمنافع { ليذكروا } ليتفكروا ويعرفوا كمال القدرة وحق النعمة في ذلك ويقوموا بشكره أو ليعتبروا بالصرف عنهم وإليهم { فأبى أكثر الناس إلا كفورا } إلا كفران النعمة وقلة الاكتراث لها أو جحودها بأن يقولوا مطرنا بنوء كذا ومن لا يرى الأمطار إلا من الأنواء كان كافرا بخلاف من يرى أنها من خلق الله والأنواء وسائط وأمارات بجعله تعالى

51 - { ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا } نبيا ينذر أهلها فيخف عليك أعباء النبوة لكن قصرنا الأمر عليك إجلالا لك وتعظيما لشأنك وتفضيلا لك على سائر الرسل فقابل ذلك بالثبات والاجتهاد في الدعوة وإظهار الحق

52 - { فلا تطع الكافرين } فيما يريدونك عليه وهو تهييج له عليه الصلاة و السلام وللمؤمنين { وجاهدهم به } بالقرآن أوبترك طاعتهم الذي يدل عليه فلا تطع والمعنى إنهم يجتهدون في إبطال حقك فقابلهم بالاجتهاد في مخالفتهم وإزاحة باطلهم { جهادا كبيرا } لأن مجاهدة السفهاء بالحجج أكبر من مجاهدة الأعداء بالسيف أو لأن مخالفتهم ومعاداتهم فيما بين أظهرهم مع عتوهم وظهورهم أو لأنه جهاد مع كل الكفرة لأنه مبعوث إلى كافة القرى

53 - { وهو الذي مرج البحرين } خلاهما متجاورين متلاصقين بحيث لا يتمازجان من مرج دابته إذا خلاها { هذا عذب فرات } قامع للعطش من فرط عذوبته { وهذا ملح أجاج } بليغ الملوحة وقرئ { ملح }
على فعل ولعل أصله مالح فخفف كبرد في بار { وجعل بينهما برزخا } حاجزا من قدرته { وحجرا محجورا } وتنافرا بليغا كأن كلا منهما يقول للآخر ما يقوله المتعوذ للمتعوذ عنه وقيل حدا محدودا وذلك كدجلة تدخل البحر فتشقه فتجري في خلاله فراسخ لا يتغير طعمها وقيل المراد بالبحر العذب النهر العظيم مثل النيل وبالبحر الملح البحر الكبير وبالبرزخ ما يحول بينهما من الأرض فتكون القدرة في الفصل واختلاف الصفة منع أن مقتضى طبيعة أجزاء كل عنصر أن تضامت وتلاصقت وتشابهت في الكيفية

54 - { وهو الذي خلق من الماء بشرا } يعني الذي خمر به طينة آدم أو جعله جزءا من مادة البشر لتجتمع لتبشر وتسلس وتقبل الأشكال والهيئات بسهولة أو النطفة { فجعله نسبا وصهرا } أي قسمه قسمين ذوي نسب أي ذكورا ينسب إليهم وذاوت صهر أي إناثا يصاهر بهن كقوله تعالى : { فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى } { وكان ربك قديرا } حيث خلق من مادة واحدة بشرا ذا أعضاء مختلفة وطباع متباعدة وجعله قسمين متقابلين وربما يخلق من نطفة واحدة توأمين ذكرا وأنثى

55 - { ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم } يعني الأصنام أو كل ما عبد من دون الله إذ ما من مخلوق يستقل بالنفع والضر { وكان الكافر على ربه ظهيرا } يظاهر الشيطان بالعداوة والشرك والمراد بـ { الكافر } الجنس أو جهل وقيل هينا مهينا لا وقعه له عنده من قولهم ظهرت به إذا نبذته خلف ظهرك خلف ظهرك فيكون كقوله { ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم }

56 - { وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا } للمؤمنين والكافرين

57 - { قل ما أسألكم عليه } على تبليغ الرسالة الذي يدل عليه { إلا مبشرا ونذيرا } { من أجر إلا من شاء } إلا فعل من شاء { أن يتخذ إلى ربه سبيلا } أن يتقرب إليه ويطلب الزلفى عنده بالإيمان والطاعة فصور ذلك بصورة الأجر من حيث إنه مقصود فعله واستثناه منه قلعا لشبهة الطمع وإظهارا لغاية الشفقة حيث اعتد بإنفاعك نفسك بالتعرض للثواب والتخلص عن العقاب أجرا وافيا مرضيا به مقصورا عليه وإشعارا بأن طاعتهم تعود عليه بالثواب من حيث إنها بدلالته وقيل الاستثناء منقطع معناه لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا فليفعل

58 - { وتوكل على الحي الذي لا يموت } في استكفاء شرورهم والإغناء عن أجورهم فإنه الحقيق بأن يتوكل عليه دون الأحياء الذين يموتون فإنهم إذا ماتوا ضاع من توكل عليهم { وسبح بحمده } ونزهه عن صفات النقصان مثنيا عليه بأوصاف الكمال طالبا لمزيد الإنعام بالشكر على سوابغه { وكفى به بذنوب عباده } ما ظهر منها وما بطن { خبيرا } مطلعا فلا عليك أن آمنوا أو كفروا

59 - { الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن } قد سبق الكلام فيه ولعل ذكره زيادة تقرير لكونه حقيقا بأن يتوكل عليه من حيث إنه الخالق للكل والمتصرف فيه وتحريض على الثبات والتأني في الأمر فإنه تعالى مع كمال قدرته وسرعة نفاذ أمره في كل مراد خلق الأشياء على تؤدة وتدرج و { الرحمن } خبر للذي إن جعلته مبتدأ ولمحذوف إن جعلته صفة للحي أو بدل من المستكن فقي { استوى } وقرىء بالجر صفة للحي { فاسأل به خبيرا } فاسأل عما ذكر من الخلق والاستواء عالما يخبرك بحقيقته وهو الله تعالى أو جبريل أو من وجد في الكتب المتقدمة ليصدقك فيه وقيل الضمير { للرحمن } والمعنى إن أنكروا إطلاقه على الله تعالى فاسأل عن من يخبرك من أهل الكتاب ليعرفوا مجيء ما يرادفه في كتبهم وعلى هذا يجوز أن يكون { الرحمن } مبتدأ والخبر ما بعده والسؤال كما يعدى بعن لتضمنه معنى التفتيش يعدى بالياء لتضمنه معنى الاعتناء وقيل إنه صلة { خبيرا }

60 - { وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن } لأنهم ما كانوا يطلقونه على الله أو لأنهم ظنوا أنه أراد به غيره ولذلك قالوا : { أنسجد لما تأمرنا } أي للذي تأمرنا يعني تأمرنا بسجوده أو لأمرك لنا من غير عرقان وقيل لأنه كان معربا لم يسمعوه وقرأ حمزة و الكسائي ( يأمرنا ) بالياء على أنه قول بعضهم لبعض { وزادهم } أي الأمر بالسجود { للرحمن } { نفورا } عن الإيمان

61 - { تبارك الذي جعل في السماء بروجا } يعني البروج الاثني عشر سميت به وهي القصور العالية لأنها للكواكب السيارة كالمنازل لسكانها واشتقاقه من التبرج لظهوره { وجعل فيها سراجا } يعني الشمس لقوله { وجعل الشمس سراجا } وقرأ حمزة و الكسائي ( سرجا ) وهي الشمس والكواكب الكبار { وقمرا منيرا } مضيئا بالليل وقرئ { وقمرا } أي ذا قمر وهو جمع قمراء ويحتمل أن يكون بمعنى القمر كالرشد والرشد والعرب والعرب

62 - { وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة } أي ذوي خلفة يخلف كل منهما الآخر بأن يقوم مقامه فيما ينبغي أن يعمل فيه أو بأن يعتقبا لقوله تعالى : { واختلاف الليل والنهار } وهي للحالة من خلف كالركبة والجلسة
{ لمن أراد أن يذكر } بأن يتذكر آلاء الله ويتفكر في صنعه فيعلم أن لا بد له من صانع حكيم واجب الذاب رحيم على العباد { أو أراد شكورا } أن يشكر الله تعالى على ما فيه من النعم أو ليكونا وقتين للمتذكرين والشاكرين من فاته ورده في أحدهما تداركه في الآخرة وقرأ حمزة { أن يذكر } من ذكر بمعنى تذكر وكذلك ليذكروا ووافقه الكسائي فيه

64 - { وعباد الرحمن } مبتدأ خبره { أولئك يجزون الغرفة } أو : { الذين يمشون على الأرض } وإضافتهم إلى { الرحمن } للتخصيص والتفضيل أو لأنهم الراسخون في عبادته على أن عباد جمع عابد كتاجر وتجار { هونا } هينين أو مشيا هينا مصدر وصف به والمعنى أنهم يمشون بسكينة وتواضع { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما } تسلما منكم ومتاركة لكم لا خير بيننا ولا شر أو سدادا من القول يسلمون فيه من الإيذاء والإثم ولا ينافيه آية القتال لتنسخه فإن المراد به الإغضاء عن السفهاء وترك مقابلتهم في الكلام

64 - { والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما } في الصلاة وتخصيص البيوتة لأن العبادة بالليل أحمز وأبعد عن الرياء وتأخير القيام لروي وهو جمع قائم أو مصدر أجري مجراه

65 - { والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما }
لازما ومنه الغريم لملازمته وهو إيذان بأنهم مع حسن مخالطتهم مع الخلق واجتهادهم في عبادة الحق وجلون من العذاب مبتهلون إلى الله تعالى في صرفه عنهم لعدم اعتدادهم بأعمالهم ووثوقهم على استمرار أحوالهم

66 - { إنها ساءت مستقرا ومقاما } أي بئست مستقرا وفيها ضمير مبهم يفسره المميز والمخصوص بالذم ضمير محذوف به ترتبط الجملة باسم إن أو أحزنت وفيها ضمير اسم أن ومستقرا حال أو تمييز والجملة تعليل للعلة الأولى أو تعليل ثان وكلاهما يحتملان الحكاية والابتداء من الله

67 - { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا } لم يجاوزوا حد الكرم { ولم يقتروا } ولم يضيقوا تضييق الشحيح وقيل الإسراف هو الإنفاق في المحارم والتقتير منع الواجب وقرأ ابن كثير و أبو عمرو بفتح الياء وكسر التاء و نافع و ابن عامر والكوفيون بضم الياء وكسر التاء من أقتر وقرئ بالتشديد والكل { وكان بين ذلك قواما } وسطا عدلا سمي به لاستقامة الطرفين كما سمي سواء لاستوائهما وقرئ بالكسر وهو ما يقام به الحاجة لا يفضل عنها ولا ينقص وهو خبر ثان أو حال مؤكدة ويجوز أن يكون الخبر بين ذلك لغوا وقيل إنه اسم { كان } لكنه مبني لإضافته إلى غير متمكن وهو ضعيف لأنه بمعنى القوام فيكون كالإخبار بالشيء عن نفسه

68 - { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله } أي حرمها بمعنى حرم قتلها { إلا بالحق } متعلق بالقتل المحذوف أو بلا يقتلونه { ولا يزنون } نفى عنهم أمهات المعاصي بعدما أثبت لهم أصول الطاعات إظهارا لكمال إيمانهم وإشعارا بأن الأجر المذكور موعود للجامع بين ذلك وتعريضا للكفرة بأضداده ولذلك عقبه بالوعيد تهديدا لههم فقال : { ومن يفعل ذلك يلق أثاما } جزاء إثم أو إثما بإضمار الجزاء وقرىء ( أياما ) أي شدائد يقال يوم ذو أيام أي صعب

69 - { يضاعف له العذاب يوم القيامة } بدل من { يلق } لأنه في معناه كقوله :
( متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطبا جزلا ونارا تأججا )
وقرأ أبو بكر بالرفع على بالاستئناف أو الحال وكذلك : { ويخلد فيه مهانا } وابن كثير و ويعقوب يضعف بالجزم ابن عامر بالرفع فيهما مع التشديد وحذف الألف في ( يضعف ) وقرئ { ويخلد } على بناء المفعول مخففا وقرئ مثقلا وتضعيف العذاب مضاعفته لانضمام المعصية إلى الكفر ويدل عليه قوله :

70 - { إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } بأن يمحو سوابق معاصيهم بالتوبة ويثبت مكانها لواحق طاعتهم أو يبدل ملكة المعصية في النفس بملكة الطاعة وقيل بأن يوفقه لأضداد ما سلف منه أو بأن يثبت له بدل كل عقاب ثوابا { وكان الله غفورا رحيما } فلذلك يعفو عن السيئات ويثيب على الحسنات

71 - { ومن تاب } عن المعاصي بتركها والندم عليها { وعمل صالحا } يتلافى به ما فرط أو خرج عن المعاصي ودخل في الطاعة { فإنه يتوب إلى الله } يرجع إلى الله بذلك { متابا } مرضيا عند الله ماحيا للعقاب محصلا للثواب أو يتوب متابا إلى الله الذي يحب التائبين ويصطنع بهم أو فإنه يرجع إلى الله وإلى ثوابه مرجعا حسنا وهو تعميم بعد تخصيص

72 - { والذين لا يشهدون الزور } لا يقيمون الشهادة الباطلة أ و لا يحضرون محاضر الكذب فإن مشاهدة الباطل شركة فيه { وإذا مروا باللغو } ما يجب أن يلقى ويطرح { مروا كراما } معرضين عنه مكرمين أنفسهم عن الوقوف عليه والخوض فيه ومن ذلك الإغضاء عن الفواحش والصفح عن الذنوب والكناية فيما يستهجن التصريح به

73 - { والذين إذا ذكروا بآيات ربهم } بالوعظ أو القراءة { لم يخروا عليها صما وعميانا } لم يقيموا عليها غير واعين لها ولا متبصرين بما فيها كمن لا يسمع ولا يبصر بل أكبوا عليها سامعين بآذان واعية مبصرين بعيون راعية فالمراد من النفي نفي الحال دون الفعل كقولك : لا يلقاني زيد مسلما وقيل الهاء للمعاصي المدلول عليها { باللغو }

74 - { والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين } بتوفيقهم للطاعة وحيازة الفضائل فإن المؤمن إذا شاركه أهله في طاعة الله سر بهم قلبه وقرت بهم عينه لما يرى من مساعدتهم له في الدين وتوقع لحوقهم به الجنة و { من } ابتدائية أو بيانية كقولك : رأيت منك أسدا وقرأ حمزة و أبو عمرو و الكسائي و أبو بكر ( وذريتنا ) وقرأ ابن عامر و الحرميان و حفص و يعقوب { وذرياتنا } بالألف وتنكير الـ { أعين } لإرادة تنكير الـ { قرة } تعظيما وتقليلها لأن المراد أعين المتقين وهي قليلة بالإضافة إلى عيون غيرهم { واجعلنا للمتقين إماما } يقتدون بنا في أمر الدين بإضافة العلم والتوفيق للعمل وتوحيده إما للدلالة على الجنس وعدم اللبس كقوله { ثم يخرجكم طفلا } أو لأنه مصدر في أصله أو لأن المراد واجعل كل واحد منا أو لأنهم كنفس واحدة لاتحاد طريقتهم واتفاق كلمتهم وقيل جمع آم كصائم وصيام ومعناه قاصدين لهم مقتدين بهم

سورة الشعراء
75 - تعالى : { وهم في الغرفات آمنون } وللقراءة بها وقيل هي من أسماء الجنة { بما صبروا } بصبرهم على المشاق من مضض الطاعات ورفض الشهوات وتحمل المجاهدات { ويلقون فيها تحية وسلاما } دعاء بالتعمير والسلامة أي يحييهم الملائكة ويسلمون عليهم أو يحيي بعضهم بعضا ويسلم عليه أو تبقية دائمة وسلامة من كل آفة وقرأ حمزة و الكسائي و أبو بكر { يلقون } من لقي

76 - { خالدين فيها } لا يموتون فيها ولا يخرجون { حسنت مستقرا ومقاما } مقابل { ساءت مستقرا } معنى ومثله إعرابا

77 - { قل ما يعبأ بكم ربي } ما يصنع بكم من عبأت الجيش إذا هيأته أو لا يعتد بكم { لولا دعاؤكم } لولا عبادتكم فإن شرف الإنسان وكرامته بالمعرفة والطاعة وإلا فهو وسائر الحيوانات سواء وقيل معناه ما يصنع بعذابكم لولا دعاؤكم معه آلهة إن جعلت استفهامية فمحلها النصب على المصدر كأنه قيل : أي عبء يعبأ بكم { فقد كذبتم } بما أخبرتكم به حيث خالفتموه وقيل فقد قصرتم في العبادة من قولهم : كذب القتال إذا لم يبالغ فيه وقرئ ( فقد كذب الكافرون ) أي الكافرون منكم لأن توجه الخطاب إلى الناس عامة بما وجد في جنسهم من العبادة والتكذيب { فسوف يكون لزاما } يكون جزاء التكذيب لازما يحيق بكم لا محالة أو أثره لازما بكم حتى يكبكم في النار وإنا أضمر من غير ذكر للتهويل والتنبيه على أنه لا يكتنهه الوصف وقيل المراد قتل يوم بدر وأنه لزوم بين القتلى لزاما وقرئ ( لزاما ) ) بالفتح بمعنى اللزوم كالثبات والثبوت
[ عن النبي صلى الله عليه و سلم من قرأ سورة الفرقان لقي الله وهو مؤمن بأن الساعة آتية لا ريب فيها وأدخل الجنة بغير نصب ]

1 - { طسم } قرأ حمزة و الكسائي و أبو بكر بالإمالة ونافع بين كراهة للعود إلى الياء المهروب منها وأظهر نونه حمزة لأنه في الأصل منفصل عما بعده

2 - { تلك آيات الكتاب المبين } الظاهر إعجازه وصحته والإشارة إلى السورة أو القرآن على ما قرر في أول ( البقرة )

3 - { لعلك باخع نفسك } قاتل نفسك وأصل البخع أن يبلغ بالذبح النخاع وهو عرق مستبطن الفقار وذلك أقصى حد الذبح وقرئ { باخع نفسك } بالإضافة ولعل للإشفاق أي أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة { أن لا يكونوا مؤمنين } لئلا يؤمنوا أو خيفة أن لا يؤمنوا

4 - { إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية } دلالة ملجئة إلى الإيمان أو بلية قاسرة عليه { فظلت أعناقهم لها خاضعين } منقادين وأصله فظلوا لها خاضعين فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع وترك الخبر على أصله وقيل لما وصفت الأعناق بصفات العقلاء أجريت مجراهم وقيل المراد بها الرؤساء أو الجماعات من قولهم : جاءنا عنق من الناس لفوج منهم وقرئ { خاشعة } و { ظلت } عطف على { ننزل } عطف وأكن على فأصدق لأنه لو قيل أنزلنا بدله لصح

5 - { وما يأتيهم من ذكر } موعظة أو طائفة من القرآن { من الرحمن } يوحيه إلى نبيه { محدث } مجدد إنزاله لتكرير التذكير وتنويع التقرير { إلا كانوا عنه معرضين } إلا جددوا إعراضا عنه وإصرارا على ما كانوا عليه

6 - { فقد كذبوا } أي بالذكر بعد إعراضهم وأمعنوا في تكذيبه بحيث أدى بهم إلى الاستهزاء به المخبر به عنهم ضمنا في قوله : { فسيأتيهم } أي إذا مسهم عذاب الله يوم بدر أو يوم القيامة { أنباء ما كانوا به يستهزئون } من أنه كان حقا أم باطلا وكان حقيقا بأن يصدق ويعظم قدره أو يكذب فيستخف أمره

7 - { أولم يروا إلى الأرض } أو لم ينظروا إلى عجائبها { كم أنبتنا فيها من كل زوج } صنف { كريم } محمود كثير المنفعة وهو صفة لكل ما يحمد ويرضى وهنا يحتمل أن تكون مقيدة لما يتضمن الدلالة على القدرة وأن تكون مبينة منبهة على أنه ما من نبت إلا وله فائدة إما وحده أو مع غيره و { كل } لإحاطة الأزواج { وكم } لكثرتها

8 - { إن في ذلك } إن في إنبات تلك الأصناف أو في كل واحد { لآية } على أن منبتها تام القدرة والحكمة سابغ النعمة والرحمة { وما كان أكثرهم مؤمنين } في علم الله وقضائه فلذلك لا ينفعهم أمثال هذه الآيات العظام

9 - { وإن ربك لهو العزيز } الغالب القدر على الانتقام من الكفرة { الرحيم } حيث أمهلهم أو العزيز في انتقامه ممن كفر الرحيم لمن تاب وآمن

10 - { وإذ نادى ربك موسى } مقدر باذكر أو ظرف لما بعده { أن ائت } أي { ائت } أو بأن { ائت } { القوم الظالمين } بالكفر واستعباد بني إسرائيل وذبح أولادهم

11 - { قوم فرعون } بدل من الأول أو عطف بيان له ولعل الاقتصار على القوم للعلم بأن فرعون كان أولى بذلك { ألا يتقون } استئناف أتبعه إرساله إليهم للإنذار تعجيبا له من إفراطهم في الظلم واجترائهم عليه وقرئ بالتاء على الالتفات إليهم زجرا لهم وغضبا عليهم وهم وإن كان غيبا حينئذ أجروا مجرى الحاضرين في كلام المرسل إليهم من حيث إنه مبلغه إليهم وإسماعه مبدأ إسماعهم مع ما فيه من مزيد الحث على التقوى لمن تدبره وتأمل مورده وقرئ بكسر النون اكتفاء بها عن ياء الإضافة ويحتمل أن يكون بمعنى ألا يا ناس اتقون كقوله : ألا يا اسجدوا

12 - { قال رب إني أخاف أن يكذبون }

13 - { ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون } رتب استدعاء ضم أخيه إليه وإشراكه له في الأمر على الأمور الثلاثة : خوف التكذيب وضيق القلب انفعالا عنه وازدياد الحبسة في اللسان بانقباض الروح إلى باطن القلب عند ضيقه بحيث لا ينطلق لأنها إذا اجتمعت مست الحاجة إلى معين يقوي قلبه وينوب منابه متى تعتريه حتى لا تختل دعوته ولا تنبثر حجته وليس ذلك تعللا منه وتوقفا في تلقي الأمر بل طلبا لما يكون معونة على امتثاله وتمهيد عذره فيه وقرأ يعقوب { ويضيق } { ولا ينطلق } بالنصب عطفا على { يكذبون } فيكونان من جملة ما خاف منه

14 - { ولهم علي ذنب } أي تبعة ذنب فحذف المضاف أو سمي باسمه والمراد قتل القبطي وإنما سماه ذنبا على زعمهم وهذا اختصار قصته المبسوطة في مواضع { فأخاف أن يقتلون } به قبل أداء الرسالة وهو أيضا ليس تعللا وإنما هو استدفاع للبلية المتوقعة كما أن ذاك استمداد واستظهار في أمر الدعوة وقوله :

15 - { قال كلا فاذهبا بآياتنا } إجابة له إلى الطلبتين بوعده بدفع بلائهم اللازم ردعه عن الخوف وضم أخيه إليه في الإرسال والخطاب في { فاذهبا } على تغليب الحاضر لأنه معطوف على الفعل الذي يدل عليه { كلا } كأنه قيل : ارتدع يا موسى عما تظن فاذهب أنت والذي طلبته { إنا معكم } يعني موسى وهرون وفرعون { مستمعون } سامعون لما يجري بينكما وبينه فأظهركما عليه مثل نفسه تعالى بمن حضر مجادلة قوم استماعا لما يجري بينهم وترقبا لإمداد أوليائه منهم مبالغة في الوعد بالإعانة ولذلك تجوز بالاستماع الذي هو بمعنى الإصغاء للسمع الذي هو مطلق إدراك الحروف والأصوات وهو خبر ثان أو الخبر وحده { معكم } لغو

16 - { فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين } أفرد الرسول لأنه مصدر وصف به فإنه مشترك بين المرسل والرسالة قال الشاعر :
( لقد كذب الواشون ما فهت عندهم ... بسر ولا أرسلتهم برسول )
ولذلك ثنى تارة وأفرد أخرى أو لاتحادهما للأخوة أو لوحدة المرسل والمرسل به أو لأنه أراد أن كل واحد منا

17 - { أن أرسل معنا بني إسرائيل } أي أرسل لتضمن الرسول معنى الإرسال المتضمن معنى القول والمراد خلهم ليذهبوا معنا إلى الشام

18 - { قال } أي فرعون لموسى بعد ما أتياه فقالا له ذلك { ألم نربك فينا } في منازلنا { وليدا } طفلا سمي به لقربه من الولادة { ولبثت فينا من عمرك سنين } قيل لبث فيهم ثلاثين سنة ثم خرج إلى مدين عشر سنين ثم عاد إليهم يدعوهم إلى الله ثلاثين ثم بقي بعد الغرق خمسين

19 - { وفعلت فعلتك التي فعلت } يعني قتل القبطي وبخه به معظما إياه بعدما عدد عليه نعمته وقرئ فعلتك بالكسر لأنها كانت قتلة بالوكز { وأنت من الكافرين } بنعمتي حتى عمدت إلى قتل خواصي أو ممن تكفرهم الآن فإنه عليه الصلاة و السلام كان يعايشهم بالتقية فهو حال من إحدى التاءين ويجوز أن يكون حكما مبتدأ عليه بأنه من الكافرين بآلهيته أو بنعمته لما عاد عليه بالمخالفة أو من الذين كانوا يكفرون في دينهم

20 - { قال فعلتها إذا وأنا من الضالين } من الجاهلين وقد قرئ به والمعنى من الفاعلين فعل أولي الجهل والسفه أو من الخاطئين لأنه لم يتعمد قتله أو من الذاهلين عما يؤول إليه الوكز لأنه أراد به التأديب أو الناسين من قوله تعالى : { أن تضل إحداهما }

21 - { ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما } حكمة { وجعلني من المرسلين } رد أولا بذلك ما وبخه به قدحا في نبوته ثم كر على ما عد عليه من النعمة ولم يصرح برده لأنه كان صدقا غير قادح في دعواه بل نبه على أنه كان في الحقيقة نقمة لكونه مسببا عنها فقال :

22 - { وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل } أي وتلك التربية نعمة تمنها علي ظاهرا وهي في الحقيقة تعبيدك بني إسرائيل وقصدهم بذبح أبنائهم فإنه السبب في وقوعي إليك وحصولي في تربيتك وقيل إنه مقدر بهمزة الإنكار أي أو تلك النعمة تمنها علي وهي { أن عبدت } ومحل { أن عبدت } الرفع على أنه خبر محذوف أو بدل { نعمة } أو الجر بإضمار الباء أو النصب بحذفها وقيل تلك إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة و { أن عبدت } عطف بيانها والمعنى : تعبيدك بني إسرائيل نعمة { تمنها } علي وإنما وحد الخطاب في تمنها وجمع فيما قبله لأن المنة كانت منه وحده والخوف والفرار منه ومن ملئه

23 - { قال فرعون وما رب العالمين } لما سمع جواب ما طعن به فيه ورأى أنه لم يرعو بذلك شرع في الاعتراض على دعواه فبدأ بالاستفسار عن حقيقة المرسل

24 - { قال رب السموات والأرض وما بينهما } عرفه بأظهر خواصه وآثاره لما امتنع تعريف الأفراد إلا بذكر الخواص والأفعال وإليه أشار بقوله :
{ إن كنتم موقنين } أي إن كنتم موقنين الأشياء محققين لها علمتم أن هذه الأجرام المحسوسة ممكنة لتركبها وتعددها وتغير أحوالها فلها مبدئ واجب لذاته وذلك المبدئ لا بد وأن يكون مبدأ لسائر الممكنات ما يمكن أن يحس بها وما لا يمكن وإلا لزم تعدد الواجب أو استغناء بعض الممكنات عنه وكلاهما محال ثم ذلك الواجب لا يمكن تعريفه إلا بلوازمه الخارجية لامتناع التعريف بنفسه وبما هو داخل فيه لاستحالة التركيب في ذاته

25 - { قال لمن حوله ألا تستمعون } جوابه سألته عن حقيقته وهو يذكر أفعاله أو يزعم أنه { رب السموات } وهي واجبة متحركة لذاتها كما هو مذهب الدهرية أو غير معلوم افتقارها إلى مؤثر

26 - { قال ربكم ورب آبائكم الأولين } عدولا إلى ما لا يمكن أن يتوهم فيه مثله ويشك في افتقاره إلى مصور حكيم ويكون أقرب إلى الناظر وأوضح عند التأمل

27 - { قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون } أسأله عن شيء ويجيبني عن آخر وسماه رسولا على السخرية

28 - { قال رب المشرق والمغرب وما بينهما } تشاهدون كل يوم أنه يأتي بالشمس من المشرق ويحركها على مدار غير مدار اليوم الذي قبله حتى يبلغها إلى المغرب على وجه نافع تنتظم به أمور الكائنات { إن كنتم تعقلون } إن كان لكم عقل علمتم أن لا جواب لكم فوق ذلك لاينهم أولا ثم لما رأى شدة شكيمتهم خاشنهم وعارضهم بمثل مقالهم

29 - { قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين } عدولا إلى التهديد عن المحاجة بعد الانقطاع وهكذا ديدن المعاند المحجوج واستدل به على ادعائه الألوهية وإنكاره الصانع وأن تعجبه بقوله { ألا تستمعون } من نسبة الربوبية إلى غيره ولعله كان دهريا اعتقد أن من ملك قطرا أو تولى أمره بقوة طالعه استحق العبادة من أهله واللام في { المسجونين } للعهد أي ممن عرفت حالهم في سجوني فإنه كان يطرحهم في هوة عميقة حتى يموتوا ولذلك جعل أبلغ من لأسجننك

30 - { قال أو لو جئتك بشيء مبين } أي أتفعل ذلك ولو جئتك بشيء يبين صدق دعواي يعني المعجزة فإنها الجامعة بين الدلالة على وجود الصانع وحكمته والدلالة على صدق مدعي نبوته فالواو للحال وليها الهمزة بعد - حذف الفعل

31 - { قال فأت به إن كنت من الصادقين } في أن لك بينة أو في دعواك فإن مدعي النبوة لا بد له من حجة

32 - { فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين } ظاهر ثعبانيته واشتقاق الثعبان من ثعبت الماء فانثعب إذا فجرته فانفجر

33 - { ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين } روي أن فرعون لما رأى الآية الأولى قال فهل غيرها فأخرج يده قال فما فيها فأدخلها في إبطه ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشي الأبصار ويسد الأفق

34 - { قال للملإ حوله } مستقرين حوله فهو ظرف وقع موقع الحال { إن هذا لساحر عليم } فائق في علم السحر

35 - { يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون } بهره سلطان المعجزة حتى حطه عن دعوى الربوبية إلى مؤامرة القوم وائتمارهم وتنفيرهم عن موسى وإظهار الاستشعار عن ظهوره واستيلائه على ملكه

36 - { قالوا أرجه وأخاه } أي أخر أمرهما وقيل احبسهما { وابعث في المدائن حاشرين } شرطا يحشرون السحرة

37 - { يأتوك بكل سحار عليم } يفضلون عليه في هذا الفن وأمالها ابن عامر و أبو عمرو و الكسائي وقرئ ( بكل ساحر )

38 - { فجمع السحرة لميقات يوم معلوم } لما وقت به من ساعات يوم معين وهو وقت الضحى من يوم الزينة

39 - { وقيل للناس هل أنتم مجتمعون } فيه استبطاء لهم في الاجتماع حثا على مبادرتهم إليه كقول تأبط شرا :
( هل أنت باعث دينار لحاجتنا ... أو عبد رب أخا عون بن مخراق )
أي ابعث أحدهما إلينا سريعا

40 - { لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين } لعلنا نتبعهم في دينهم إن غلبوا والترجي باعتبار الغلبة المقتضية للإتباع ومقصودهم الأصل أن لا يتبعوا موسى لا أن يتبعوا السحرة فساقوا الكلام مساق الكناية لأنهم إذا اتبعوهم لم يتبعوا موسى عليه الصلاة و السلام

41 - { فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أإن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين }

42 - { قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين } التزم لهم الأجر والقربة عنده زيادة عليه إن أغلبوا فإذا على ما يقتضيه من الجواب والجزاء وقرئ { نعم } بالكسر وهما لغتان

43 - { قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون } أي بعدما قالوا له { إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين } ولم يرد به أمرهم بالسحر والتمويه بل الإذن في تقديم ما هم فاعلوه لا محالة توسلا إلى إظهار الحق

44 - { فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون } أقسموا بعزته على أن الغلبة لهم لفرط اعتقادهم في أنفسهم أو لإتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السحر

45 - { فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف } تبتلع وقرأ حفص ( تلقف ) بالتخفيف { ما يأفكون } ما يقلبونه في وجهه بتمويههم وتزويرهم فيخيلون حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى أو إفكهم تسمية للمأفوك به مبالغة

46 - { فألقي السحرة ساجدين } لعلمهم بأن مثله لا يتأتى بالسحر وفيه دليل على أن منتهى السحر تمويه وتزويق يخيل شيئا لا حقيقة له وأن التبحر في كل فن نافع وإنما يدل الخرور بالإلقاء ليشاكل ما قبله ويدل على أنهم لما رأوا ما رأوا لم يتمالكوا أنفسهم كأنهم أخذوا فطرحوا على وجوههم وأنه تعالى ألقاهم بما خولهم من التوفيق

47 - { قالوا آمنا برب العالمين } بدل من ( ألقى ) بدل الاشتمال أو حال لإضمار قد

48 - { رب موسى وهارون } إبدال للتوضيح ودفع التوهم والإشعار على أن الموجب لإيمانهم ما أجراه على أيديهما

49 - { قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر } فعلمكم شيئا دون شيء ولذلك غلبكم أو فواعدكم على ذلك وتواطأتم عليه وأراد به التلبيس على قومه كي لا يعتقدوا أنهم أمنوا عن بصيرة وظهور حق وقرأ حمزة و الكسائي و أبو بكر و روح ( أ أمنتم ) بهمزتين { فلسوف تعلمون } وبال ما فعلتم وقوله : { لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين } بيان له

50 - { قالوا لا ضير } لا ضرر علينا في ذلك { إنا إلى ربنا منقلبون } بما توعدنا به فإن الصبر عليه محاء للذنوب موجب للثواب والقرب من الله تعالى أو بسبب من أسباب الموت والقتل أنفعها وأرجاها

51 - { إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا } لأن كنا { أول المؤمنين } من أتباع فرعون أو من أهل المشهد والجملة في المعنى تعليل ثان لنفي الضمير أو تعليل للعلة المتقدمة وقرئ { إن كنا } على الشرط لهضم النفس وعدم الثقة بالخاتمة أو على طريقة المدل بأمره نحو إن أحسنت إليك فلا تنس حقي

52 - { وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي } وذلك بعد سنين أقامها بين أظهرهم يدعوهم إلى الحق ويظهر لهم الآيات فلم يزيدوا إلى عتوا وفسادا وقرأ ابن كثير و نافع ( أن أسر بعبادي ) بكسر النون ووصل الألف من سرى وقرئ ( أن أسر ) من السير { إنكم متبعون } يتبعكم فرعون وجنوده وهو علة الأمر بالإسراء أي أسر بهم حتى إذا اتبعوكم مصبحين كان لكم تقدم عليهم بحيث لا يدركونكم قبل وصولكم إلى البحر بل يكونون على أثركم حين تلجون البحر فيدخلون مدخلكم فأطبقه عليهم فأغرقهم

53 - { فأرسل فرعون } حين أخبر بسراهم { في المدائن حاشرين } العساكر ليتبعوهم

54 - { إن هؤلاء لشرذمة قليلون } على إرادة القول وإنما استقلهم وكانوا ستمائة ألف وسبعين ألفا بالإضافة إلى جنوده إذ روي أنه خرج وكانت مقدمته سبعمائة ألف والشرذمة الطائفة القليلة ومنها ثوب شراذم لما بلي وتقطع و { قليلون } باعتبار أنهم أسباط كل سبط منهم قليل

55 - { وإنهم لنا لغائظون } لفاعلون ما يغيظنا

56 - { وإنا لجميع حاذرون } وإنا لجمع من عادتنا الحذر واستعمال الحزم في الأمور أشار أولا إلى عدم ما يمنع إتباعهم من شوكتهم ثم إلى تحقق ما يدعو إليه من فرط عداوتهم ووجوب التيقظ في شأنهم حثا عليه أو اعتذر بذلك إلى أهل المدائن كي لا يظن به ما يكسر سلطانه وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان والكوفيون { حاذرون } والأول للثبات والثاني للتجدد وقيل الحاذر المؤدي في السلاح وهو أيضا من الحذر لأن ذلك إنما يفعل حذرا وقرئ ( حادرون ) بالدال المهملة أي أقوياء قال :
( أحب الصبي السوء من أجل أمه ... وأبغضه من بغضها وهو حادر )
أو تاموا السلاح فإن ذلك يوجب حدارة في أجسامهم

57 - { فأخرجناهم } بأن خلقنا داعية الخروج بهذا السبب فحملتهم عليه { من جنات وعيون }

58 - { وكنوز ومقام كريم } يعني المنازل الحسنة والمجالس البهية

59 - { كذلك } مثل ذلك الإخراج أخرجنا فهو مصدر أو مثل ذلك المقام الذي كان لهم على أنه صفة مقام أو الأمر كذلك فيكون خبر المحذوف { وأورثناها بني إسرائيل }

60 - { فأتبعوهم } وقرئ ( فاتبعوهم ) { مشرقين } داخلين في وقت شروق الشمس

61 - { فلما تراء الجمعان } تقاربا بحيث رأى كل واحد منهما الآخر وقرئ ( تراءت الفئتان ) { قال أصحاب موسى إنا لمدركون } لملحقون وقرئ ( لمدركون ) من أدرك الشيء إذا تتابع ففني أي : لمتتابعون في الهلاك على أيديهم

62 - { قال كلا } لن يدركوكم فإن الله وعدكم بالخلاص منهم { إن معي ربي } بالحفظ والنصرة { سيهدين } طريق النجاة منهم روي أن مؤمن آل فرعون كان بين يدي موسى فقال : أين أمرت فهذا البحر أمامك وقد غشيك آل فرعون فقال : أمرت بالبحر ولعلي أومر بما أصنع

63 - { فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر } بحر القلزم أو النيل { فانفلق } أي فضرب فانفلق وصار اثني عشر فرقا بينها مسالك { فكان كل فرق كالطود العظيم } كالجبل المنيف الثابت في مقره فدخلوا في شعابها كل سبط في شعب

64 - { وأزلفنا } وقربنا { ثم الآخرين } فرعون وقومه حتى دخلوا على أثرهم مداخلهم

65 - { وأنجينا موسى ومن معه أجمعين } بحفظ البحر على تلك الهيئة إلى أن عبروا

66 - { ثم أغرقنا الآخرين } بإطباقه عليهم

67 - { إن في ذلك لآية } وأية آية { وما كان أكثرهم مؤمنين } وما تنبه عليها أكثرهم إذ لم يؤمن بها أحد ممن بقي في مصر من القبط وبنو إسرائيل بعد ما نجوا سألوا بقرة يعبدونها واتخذوا العجل وقالوا { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة }

68 - { وإن ربك لهو العزيز } المنتقم من أعدائه { الرحيم } بأوليائه

69 - { واتل عليهم } على مشركي العرب { نبأ إبراهيم }

70 - { إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون } سألهم ليريهم أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة

71 - { قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين } فأطالوا جوابهم بشرح حالهم معه تبجحا به وافتخارا و ( نظل ) ها هنا بمعنى ندوم وقيل كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل

72 - { قال هل يسمعونكم } أيسمعون دعاءكم أو يسمعونكم تدعون فحذف ذلك لدلالة { إذ تدعون } عليه وقرئ ( يسمعونكم ) أي يسمعونكم الجواب عن دعائكم ومجيئه مضارعا مع { إذ } على حكاية الحال الماضية استحضارا لها

73 - { أو ينفعونكم } على عبادتكم لها { أو يضرون } من أعرض عنها

74 - { قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون } أضربوا عن أن يكون لهم سمع أو يتوقع منهم ضر أو نفع والتجأوا إلى التقليد

75 - { قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون }

76 - { أنتم وآباؤكم الأقدمون } فإن التقدم لا يدل على الصحة ولا ينقلب به الباطل حقا

77 - { فإنهم عدو لي } يريد أنهم أعداء لعابديهم من حيث إنهم يتضررون من جهتهم فوق ما يتضرر الرجل من جهة عدوه أو إن المغري بعبادتهم أعدى أعدائهم وهو الشيطان لكنه صور الأمر في نفسه تعريضا لهم فإنه أنفع في النصح من التصريح وإشعارا بأنها نصيحة بدأ بها نفسه ليكون أدعى إلى القبول وإفراد العدو لأنه في الأصل مصدر أو بمعنى النسب { إلا رب العالمين } استثناء منقطع أو متصل على أن الضمير لكل معبود عبدوه وكان من آبائهم من عبد الله

78 - { الذي خلقني فهو يهدين } لأنه يهدي كل مخلوق لما خلق له من أمور المعاش والمعاد كما قال تعالى { والذي قدر فهدى } هداية مدرجة من مبدأ إيجاده إلى منتهى أجله يتمكن بها من جلب المنافع ودفع المضار مبدؤها بالنسبة إلى الإنسان هداية الجنين إلى امتصاص دم الطمث من الرحم ومنتهاها الهداية إلى طريق الجنة والتنعم بلذاتها والفاء للسببية إن جعل الموصول مبتدأ وللعطف إن جعل صفة رب العالمين فيكون اختلاف النظم لتقدم الخلق واستمرار الهداية وقوله :

79 - { والذي هو يطعمني ويسقين } على الأول مبتدأ محذوف الخبر لدلالة ما قبله عليه وكذا اللذان بعده وتكرير الموصول على الوجهين للدلالة على أن كل واحدة من الصلات مستقلة باقتضاء الحكم

80 - { وإذا مرضت فهو يشفين } عطف على { يطعمني ويسقين } لأنه من روادفهما من حيث إن الصحة والمرض في الأغلب يتبعان المأكول والمشروب وإنما لم ينسب المرض إليه تعالى لأن المقصود تعديد النعم ولا ينتقض بإسناد الإماتة إليه فإن الموت من حيث إنه لا يحسن به لا ضرر فيه وإنما الضرر في مقدماته وهي المرض ثم إنه لأهل الكمال وصلة إلى نيل المحاب التي تستحقر دونها الحياة الدنيوية وخلاص من أنواع المحن والبليات ولأن المرض في غالب الأمر إنما يحدث بتفريط من الإنسان في مطامعه ومشاربه وبما بين الأخلاط والأركان من التنافي والتنافر والصحة إنما تحصل باستحفاظ اجتماعها والاعتدال المخصوص عليها قهرا وذلك بقدر الله العزيز العليم

81 - { والذي يميتني ثم يحيين } في الآخرة

82 - { والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } ذكر ذلك هضما لنفسه وتعليما للأمة أن يجتنبوا المعاصي ويكونوا على حذر وطلب لأن يغفر لهم ما يفرط منهم واستغفارا لما عسى يندر منه من الصغائر وحمل الخطيئة على كلماته الثلاث : { إني سقيم } { بل فعله كبيرهم هذا } وقوله ( هي أختي ) ضعيف لأنها معاريض وليست خطايا

83 - { رب هب لي حكما } كما في العلم والعمل أستعد به لخلافة الحق ورياسة الخلق { وألحقني بالصالحين } ووفقني للكمال في العمل لأنتظم به في عداد الكاملين في الصلاح الذين لا يشوب صلاحهم كبير ذنب ولا صغيره

84 - { واجعل لي لسان صدق في الآخرين } جاها وحسن صيت في الدنيا يبقى أثره إلى يوم الدين ولذلك ما من أمة إلا وهم محبون له مثنون عليه أو صادقا من ذريتي يجدد أصل ديني ويدعو الناس إلى ما كنت أدعوهم إليه وهو محمد صلى الله عليه و سلم

85 - { واجعلني من ورثة جنة النعيم } في الآخرة وقد مر معنى الوراثة فيها

86 - { واغفر لأبي } بالهداية والتوفيق للإيمان { إنه كان من الضالين } طريق الحق وإن كان هذا الدعاء بعد موته فلعله كان لظنه أنه كان يخفي الإيمان تقية من نمرود ولذلك وعده به أو لأنه لم يمنع بعد من الاستغفار للكفار

87 - { ولا تخزني } بمعاتبتي على ما فرطت أو بنقص رتبتي عن رتبة بعض الوراث أو بتعذيبي لخفاء العاقبة وجواز التعذيب عقلا أو بتعذيب والدي أو ببعثه في عداد الضالين وهو من الخزي بمعنى الهوان أو من الخزاية بمعنى الحياء { يوم يبعثون } الضمير للعباد لأنهم معلومون أو لـ { الضالين }

88 - { يوم لا ينفع مال ولا بنون } أي لا ينفعان أحدا إلا مخلصا سليم القلب عن الكفر وميل المعاصي وسائر آفاته أو لا ينفعان إلا مال من هذا شأنه وبنوه حيث أنفق ماله في سبيل البر وأرشد بنيه إلى الحق وحثهم على الخير وقصد بهم أن يكونوا عباد الله مطيعين شفعاء له يوم القيامة

89 - { إلا من أتى الله بقلب سليم } وقيل منقطع والمعنى لكن سلامة { من أتى الله بقلب سليم } تنفعه

90 - { وأزلفت الجنة للمتقين } بحيث يرونها من الموقف فيتبجحون بأنهم المحشورون إليها

91 - { وبرزت الجحيم للغاوين } فيرونها مكشوفة ويتحسرون على أنهم المسوقون إليها وفي اختلاف الفعلين ترجيح لجانب الوعد

92 - { وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون }

93 - { من دون الله } أين ألهتكم الذين تزعمون أنهم شفعاؤكم { هل ينصرونكم } بدفع العذاب عنكم { أو ينتصرون } بدفعه عن أنفسهم لأنهم وآلهتهم يدخلون النار كما قال :

94 - { فكبكبوا فيها هم والغاوون } أي الآلهة وعبدتهم والكبكبة تكرير الكب لتكرير معناه كأن من ألقى في النار ينكب مرة بعد أخرى حتى يستقر في قعرها

95 - { وجنود إبليس } متبعوه من عصاة الثقلين أو شياطينه { أجمعون } تأكيد للـ { جنود } إن جعل مبتدأ خبره ما بعده أو للضمير و { ما } عطف عليه وكذا الضمير المنفصل وما يعود إليه في قوله :

96 - { قالوا وهم فيها يختصمون } على أن الله ينطق الأصنام فتخاصم العبدة ويؤيده الخطاب في قوله :

97 - { تالله إن كنا لفي ضلال مبين }

98 - { إذ نسويكم برب العالمين } أي في استحقاق العبادة ويجوز أن تكون الضمائر للعبد كما في { قالوا } والخطاب للمبالغة في التحسر والندامة والمعنى أنهم مع تخاصمهم في مبدأ ضلالهم معترفون بانهماكهم في الضلالة متحسرون عليها

99 - { وما أضلنا إلا المجرمون }

100 - { فما لنا من شافعين } كما للمؤمنين من الملائكة والأنبياء

101 - { ولا صديق حميم } إذ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين أو فما لنا من شافعين ولا صديق ممن نعدهم شفعاء وأصدقاء أو وقعنا في مهلكة لا يخلصنا منها شافع ولا صديق وجمع الشافع ووحدة الـ { صديق } لكثرة الشفعاء في العادة وقلة الصديق أو لأن الـ { صديق } الواحد يسعى أكثر مما يسعى الشفعاء أو لإطلاق الـ { صديق } على الجمع كالعدو لأنه في الأصل مصدر كالحنين والصهيل

102 - { فلو أن لنا كرة } تمن للرجعة أقيم فيه ( لو ) مقام ليت لتلاقيهما في معنى التقدير أو شرط حذف جوابه { فنكون من المؤمنين } جواب التمني أو عطف على { كرة } أي : لو أن لنا أن نكر فنكون من المؤمنين

103 - { إن في ذلك } أي فيما ذكر من قصة إبراهيم { لآية } لحجة وعظة لمن أراد أن يستبصر بها ويعتبر فإنها جاءت على أنظم ترتيب وأحسن تقرير يتفطن المتأمل فيها لغزارة علمه لما فيها من الإشارة إلى أصول العلوم الدينية والتنبيه على دلائلها وحسن دعوته للقوم وحسن مخالفته معهم وكمال إشفاقه عليهم وتصور الأمر في نفسه وإطلاق الوعد والوعيد على سبيل الحكاية تعريضا وإيقاظا لهم ليكون أدعى لهم إلى الاستماع والقبول { وما كان أكثرهم } أكثر قومه { مؤمنين } به

104 - { وإن ربك لهو العزيز } القادر على تعجيل الانتقام { الرحيم } بالإمهال لكي يؤمنوا هم أو أحد من ذريتهم

105 - { كذبت قوم نوح المرسلين } الـ { قوم } مؤنثة ولذلك تصغر على قويمة وقد مر الكلام في تكذيبهم المرسلين

106 - { إذ قال لهم أخوهم نوح } لأنه كان منهم { ألا تتقون } الله فتتركوا عبادة غيره

107 - { إني لكم رسول أمين } مشهور بالأمانة فيكم

108 - { فاتقوا الله وأطيعون } فيما آمركم به من التوحيد والطاعة لله سبحانه

109 - { وما أسألكم عليه } على ما أنا عليه من الدعاء والنصح { من أجر إن أجري إلا على رب العالمين }

110 - { فاتقوا الله وأطيعون } كرره للتأكيد والتنبيه على دلالة كل واحد مت أمانته وحسم طعمه على وجوب طاعته فيما يدعوهم إليه فكيف إذا اجتمعا وقرأ نافع و ابن عامر و أبو عمرو و حفص بفتح الياء في { أجري } في الكلمات الخمس

111 - { قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون } الأقلون جاها ومالا جمع الأرذل على الصحة وقرأ يعقوب ( وأتباعك ) وهو جمع تابع كشاهد وأشهاد أو تبع كبطل وأبطال وهذا من سخافة عقلهم وقصور رأيهم على الحطام الدنيوية حتى جعلوا اتباع المقلين فيها مانعا على اتباعهم وإيمانهم بما يدعوهم إليه ودليلا على بطلانه وأشاروا بذلك إلى أن اتباعهم ليس عن نظر وبصيرة وإنما هو لتوقع مال ورفعة فلذلك :

112 - { قال وما علمي بما كانوا يعملون } إنهم عملوه إخلاصا أو طمعا في طعمة وما علي إلا اعتبار الظاهر

113 - { إن حسابهم إلا على ربي } ما حسابهم على بواطنهم إلا على الله فإنه المطلع عليها { لو تشعرون } لعلمتم ذلك ولكنكم تجهلون فتقولون ما لا تعلمون

114 - { وما أنا بطارد المؤمنين } جواب لما أوهم قولهم من استدعاء طردهم وتوقيف إيمانهم عليه حيث جعلوا اتباعهم عنه وقوله :

115 - { إن أنا إلا نذير مبين } كالعلة له أي ما أنا إلا رجل مبعوث لإنذار المكلفين عن الكفر والمعاصي سواء كانوا أعزاء أو أذلاء فكيف يليق بي طرد الفقراء لاستتباع الأغنياء أو ما علي إلا إنذاركم إنذارا بينا بالبرهان الواضح فلا علي أن أطردهم لاسترضائكم

116 - { قالوا لئن لم تنته يا نوح } عما تقول { لتكونن من المرجومين } من المشتومين أو المضروبين بالحجارة

117 - { قال رب إن قومي كذبون } إظهارا لما يدعو عليهم لأجله وهو تكذيب الحق لا تخويفهم له واستخفافهم عليه

118 - { فافتح بيني وبينهم فتحا } فاحكم بيني وبينهم من الفتاحة { ونجني ومن معي من المؤمنين } من قصدهم أو شؤم عملهم

119 - { فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون } المملوء

120 - { ثم أغرقنا بعد } بعد إنجائه { الباقين } من قومه

121 - { إن في ذلك لآية } شاعت وتواترت { وما كان أكثرهم مؤمنين }

122 - { وإن ربك لهو العزيز الرحيم }

123 - { كذبت عاد المرسلين } أنثه باعتبار القبيلة وهو في الأصل اسم أبيهم

124 - { إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون }

125 - { إني لكم رسول أمين }

126 - { فاتقوا الله وأطيعون }

127 - { وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين } تصدير القصص بها دلالة على أن البعثة مقصورة على الدعاء إلى معرفة الحق والطاعة فيا يقرب المدعو إلى ثوابه ويبعده عن عقابه وكان الأنبياء متفقين على ذلك وإن اختلفوا في بعض التفاريع مبرئين عن المطامع الدنيئة والأغراض الدنيوية

128 - { أتبنون بكل ريع } بكل مكان مرتفع ومنه ريع الأرض لارتفاعها { آية } علما للمارة { تعبثون } ببنائها إذ كانوا يهتدون بالنجوم في أسفارهم فلا يحتاجون إليها أو بروج الحمام أو بنيانا يجتمعون إليه للعبث بمن يمر عليهم أو قصورا يفتخرون بها

129 - { وتتخذون مصانع } مآخذ الماء وقيل قصورا مشيدة وحصونا { لعلكم تخلدون } فتحكمون بنيانها

130 - { وإذا بطشتم } بسيف أو سوط { بطشتم جبارين } متسلطين غاشمين بلا رأفة ولا قصد تأديب ونظر في العاقبة

131 - { فاتقوا الله } بترك هذه الأشياء { وأطيعون } فيما أدعوكم إليه فإنه أنفع لكم

132 - { واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون } كرره مرتبا على إمداد الله تعالى إياهم بما يعرفونه من أنواع النعم تعليلا وتنبيها على الوعد عليه بدوام الإمداد والوعيد على تركه بالانقطاع ثم فصل بعض تلك النعم كما فصل بعض مساويهم المدلول عليه إجمالا بالإنكار في { ألا تتقون } مبالغة في الإيقاظ والحث على التقوى فقال :

133 - { أمدكم بأنعام وبنين }

134 - { وجنات وعيون } ثم أوعدهم فقال :

135 - { إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } في الدنيا والآخرة فإنه كما قدر على الإنعام قدر على الانتقام

136 - { قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين } فإنا لا نرعوي عما نحن عليه وتغيير شق النفي عما تقتضيه المقابلة للمبالغة في قلة اعتدادهم بوعظه

137 - { إن هذا إلا خلق الأولين } ما هذا الذي جئتنا به إلا كذب الأولين أو ما خلقنا هذا إلا خلقهم نحيا ونموت مثلهم ولا بعث ولا حساب وقرأ نافع و ابن عامر و عاصم و حمزة ( خلق الأولين ) بضمتين أي ما هذا الذي جئت به إلا عادة الأولين كانوا يلفقون مثله أو ما هذا الذي نحن عليه من الدين إلا خلق الأولين وعادتهم ونحن بهم مقتدون أو ما هذا الذي نحن عليه من الحياة والموت إلا عادة قديمة لم تزل الناس عليها

138 - { وما نحن بمعذبين } على ما نحن عليه

139 - { فكذبوه فأهلكناهم } بسبب التكذيب بريح صرصر { إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين }

140 - { وإن ربك لهو العزيز الرحيم }

141 - { كذبت ثمود المرسلين }

142 - { إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون }

143 - { إني لكم رسول أمين }

144 - { فاتقوا الله وأطيعون }

145 - { وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين }

146 - { أتتركون في ما هاهنا آمنين } إنكار لأن يتركوا كذلك أو تذكير للنعمة في تخلية الله إياهم وأسباب تنعمهم آمنين ثم فسره بقوله :

147 - { في جنات وعيون }

148 - { وزروع ونخل طلعها هضيم } لطيف لين للطف الثمر أو لأن النخل أنثى وطلع وإناث النخل ألطف وهو ما يطلع منها كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو أو متدل منكسر من كثرة الحمل وإفراد الـ { نخل } لفضله على سائر أشجار الجنات أو لأن المراد بها غيرها من الأشجار

149 - { وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين } بطريف أو حاذقين من الفراهة وفي النشاط فإن الحاذق يعمل بنشاط وطيب قلب وقرأ نافع و ابنن كثير و أبو عمرو ( فرهين ) وهو أبلغ من ( فارهين )

150 - { فاتقوا الله وأطيعون }

151 - { ولا تطيعوا أمر المسرفين } استعير الطاعة التي هي انقياد الأمر لامتثال الأمر أو نسب حكم الآمر إلى أمره مجازا

152 - { الذين يفسدون في الأرض } وصف موضح لإسرافهم ولذلك عطف : { ولا يصلحون } على يفسدون دلالة على خلوص فسادهم

153 - { قالوا إنما أنت من المسحرين } الذين سحروا كثيرا حتى غلب على عقلهم أو من ذوي السحر وهي الرئة أي من الأناسي فيكون :

154 - { ما أنت إلا بشر مثلنا } تأكيدا له { فأت بآية إن كنت من الصادقين } في دعواك

155 - { قال هذه ناقة } أي بعدما أخرجها الله من الصخرة بدعائه كما اقترحوها { لها شرب } نصيب من الماء كالسقي والقيت للحظ من السقي والقوت وقرئ بالضم { ولكم شرب يوم معلوم } فاقتصروا على شربكم ولا تزاحموها في شربها

156 - { ولا تمسوها بسوء } كضرب وعقر { فيأخذكم عذاب يوم عظيم } عظم اليوم لعظم ما يحل فيه وهو أبلغ من تعظيم العذاب

157 - { فعقروها } أسند العقر إلى كلهم لأن عاقرها إنما عقرها برضاهم ولذلك أخذوا جميعا { فأصبحوا نادمين } على عقرها خوفا من حلول العذاب لا توبة أو عند معاينة العذاب ولذلك لم ينفعهم

158 - { فأخذهم العذاب } أي العذاب الموعود { إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين } في نفي الإيمان عن أكثرهم في هذا المعرض إيماء بأنه لو آمن أكثرهم أو شطرهم لما أخذوا بالعذاب وإن قريشا إنما عصموا من مثله ببركة من آمن منهم

159 - { وإن ربك لهو العزيز الرحيم }

160 - { كذبت قوم لوط المرسلين }

161 - { إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون }

162 - { إني لكم رسول أمين }

163 - { فاتقوا الله وأطيعون }

164 - { وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين }

165 - { أتأتون الذكران من العالمين } أتأتون من بين من عداكم من العالمين الذكران لا يشارككم فيه غيركم أو أتأتون الذكران من أولاد آدم مع كثرتهم وغلبة الإناث فيهم كأنهن قد أوعزنكم فالمراد بـ { العالمين } على الأول كل من ينكح وعلى الثاني الناس

166 - { وتذرون ما خلق لكم } لأحل استمتاعكم { ربكم من أزواجكم } للبيان إن أريد به جنس الإناث أو للتبعيض إن أريد به العضو المباح منهن فيكون تعريضا بأنهم كانوا يفعلون مثل ذلك بنسائهم أيضا { بل أنتم قوم عادون } متجاوزون عن حد الشهوة حيث زادوا على سائر الناس بل الحيوانات أو مفرطون في المعاصي وهذا من جملة ذاك أو أحقاء بأن توصفوا بالعدوان لارتكابكم هذه الجريمة

167 - { قالوا لئن لم تنته يا لوط } عما تدعيه أو عن نهينا وتقبيح أمرنا { لتكونن من المخرجين } من المنفيين من بين أظهرننا ولعلهم كانوا يخرجون من أخرجوه على عنف وسوء حال

168 - { قال إني لعملكم من القالين } من المبغضين غاية البعض لا أقف عن الإنكار عليه بالإبعاد وهو أبلغ من أن يقول ( إني لعلمكم ) قال لدلالته على أنه معدود في زمرتهم مشهور بأنه من جملتهم

169 - { رب نجني وأهلي مما يعملون } أي من شؤمه وعذابه

170 - { فنجيناه وأهله أجمعين } أهل بيته والمتبعين له على دينه بإخراجهم من بينهم وقت حلول العذاب بهم

171 - { إلا عجوزا } هي امرأة لوط { في الغابرين } مقدرة في الباقين في العذاب إذ أصابها حجر في الطريق فأهلكها لأنها كانت مائلة إلى القوم راضية بفعلهم وقيل كائنة فيمن بقي في القرية فإنها لم تخرج مع لوط

172 - { ثم دمرنا الآخرين } أهلكناهم

173 - { وأمطرنا عليهم مطرا } وقيل أمطر الله على شذاذ القوم حجارة فأهلكهم { فساء مطر المنذرين } اللام فيه للجنس حتى يصح وقوع المضاف إليه فاعل ساء والمخصوص بالذم محذوف وهو مطرهم

174 - { إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين }

175 - { وإن ربك لهو العزيز الرحيم }

176 - { كذب أصحاب الأيكة المرسلين } الأيكة غيضة تنبت ناعم الشجر يريد غيضة بقرب مدين تسكنها طائفة فبعث الله إليهن شعيبا كما بعثه إلى مدين وكان أجنبيا منهم فلذلك قال :

177 - { إذ قال لهم شعيب ألا تتقون } ولم يقل أخوهم شعيب وقيل الأيكة شجرة ملتف وكان شجرهم الدوم وهو المقل وقرأ ابن كثير و نافع و ابن عامر ( ليكة ) بحذف الهمزة وإبقاء حركتها على اللام وقرئت كذلك مفتوحة على أنها ليكة وهي اسم بلدتهم وإنما كتبت ها هنا وفي ص بغير ألف اتباعا للفظ

178 - { إني لكم رسول أمين }

179 - { فاتقوا الله وأطيعون }

180 - { وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين }

181 - { أوفوا الكيل } أتموه { ولا تكونوا من المخسرين } الناقصين حقوق الناس بالتطفيف

182 - { وزنوا بالقسطاس المستقيم } بالميزان السوي وهو وإن كان عربيا فإن كان من القسط ففعلاس بتكرير العين وإلا ففعلال وقرأ حمزة و الكسائي و حفص بكسر القاف

183 - { ولا تبخسوا الناس أشياءهم } ولا تنقصوا شيئا من حقوقهم { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } بالقتل والغرة وقطع الطريق

184 - { واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين } وذوي الجبلة الأولين يعني من تقدمهم من الخلائق

185 - { قالوا إنما أنت من المسحرين }

186 - { وما أنت إلا بشر مثلنا } أتوا بالواو للدلالة على أنه جامع بين وصفين متنافيين للرسالة مبالغة في تكذيبه { وإن نظنك لمن الكاذبين } في دعواك

187 - { فأسقط علينا كسفا من السماء } قطعة منها ولعله جواب لما أشعر به الأمر بالتقوى من التهديد وقرأ حفص بفتح السين { إن كنت من الصادقين } في دعواك

188 - { قال ربي أعلم بما تعملون } وبعذابه منزل عليكم ما أوجبه لكم عليه في وقته المقدر له لا محالة

189 - { فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة } على نحو ما اقترحوا بأن سلط الله عليهم الحر سبعة أيام حتى غلت أنهارهم وأظلتهم سحابة فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا { إنه كان عذاب يوم عظيم }

190 - { إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين }

191 - { وإن ربك لهو العزيز الرحيم } هذا آخر القصص السبع المذكورة على سبيل الاختصار تسلية لرسول الله صلى الله عليه و سلم وتهديدا للمكذبين به وإطراد نزول العذاب على تكذيب الأمم بعد إنذار الرسل به واقتراحهم له استهزاء وعدم مبالاة به يدفع أن يقال إنه كان بسبب اتصالات فلكية أو كان ابتلاء لهم لا مؤاخذة على تكذيبهم

192 - { وإنه لتنزيل رب العالمين }

193 - { نزل به الروح الأمين }

184 - { على قلبك } تقرير لحقية تلك القصص وتنبيه على إعجاز القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه و سلم فإن الإخبار عنها ممن لم يتعلمها لا يكون إلا وحيا من الله عز و جل والقلب إن أراد به الروح فذاك وإن أراد العضو فتخصيصه لأن المعاني الروحانية إنما تنزل أولا على الروح ثم تنتقل منه إلى القلب لما بينهما من التعلق ثم تتصعد منه إلى الدماغ فينتقش بها لوح المتخيلة و { الروح الأمين } جبريل عليه الصلاة و السلام فإنه أمين ا لله على وحيه وقرأ ابن عامر و أبو بكر و حمزة و الكسائي بتشديد الزاي ونصب ( الروح الأمين ) { لتكون من المنذرين } عما يؤدي إلى عذاب من فعل أو ترك

195 - { بلسان عربي مبين } واضح المعنى لئلا يقولوا ما نصنع بما لا نفهمه فهو متعلق بـ { نزل } ويجوز أن يتعلق بالمنذرين أي لتكون ممن أنذروا بلغة العرب وهم هود وصالح وإسمعيل وشعيب ومحمد عليهم الصلاة والسلام

196 - { وإنه لفي زبر الأولين } وإن ذكره أو معناه لفي الكتب المتقدمة

197 - { أو لم يكن لهم آية } على صحة القرآن أو نبوة محمد صلى الله عليه و سلم { أن يعلمه علماء بني إسرائيل } أ يعرفوه بنعته المذكور في كتبهم وهو تقرير لكونه دليلا وقرأ ابن عامر تكن بالتاء و { آية } بالرفع على أنها الاسم والخبر { لهم } { فإن الله يعلمه } بدل أو الفاعل و { أن يعلمه } بدل { وهم } حال أو أن الاسم ضمير القصة و { آية } خبر { أن يعلمه } والجملة خبر تكن

198 - { ولو نزلناه على بعض الأعجمين } كما هو زيادة في إعجازه أو بلغة العجم

199 - { فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين } لفرط عنادهم واستكبارهم أو لعدم فهمهم واستنكافهم من اتباع العجم و { الأعجمين } جمع أعجمي على التخفيف ولذلك جمع جمع السلامة

200 - { كذلك سلكناه } أدخلناه { في قلوب المجرمين } والضمير للكفر المدلول عليه بقوله { ما كانوا به مؤمنين } فتدل الآية على أنه بخلق الله وقيل للقرآن أي أدخلناه فيها فعرفوا معانيه وإعجازه ثم لم يؤمنوا به عنادا

201 - { لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم } الملجئ إلى الإيمان

202 - { فيأتيهم بغتة } في الدنيا والآخرة { وهم لا يشعرون } بإتيانه

203 - { فيقولوا هل نحن منظرون } تحسرا وتأسفا

204 - { أفبعذابنا يستعجلون } فيقولون أمطر علينا حجارة من السماء { فأتنا بما تعدنا } وحالهم عند نزول العذاب طلب النظرة

205 - { أفرأيت إن متعناهم سنين }

206 - { ثم جاءهم ما كانوا يوعدون }

207 - { ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون } لم يغن عنهم تمتعهم المتطاول في دفع العذاب وتخفيفه

208 - { وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون } أنذروا أهلها إلزاما للحجة

209 - { ذكرى } تذكرة ومحلها النصب على العلة أو المصدر لأنها في معنى الإنذار أو الرفع على أنها صفة { منذرون } بإضمار ذوو أو بجعلهم ذكرى لإمعانهم في التذكرة أو خبر محذوف والجملة اعتراضيه { وما كنا ظالمين } فنهلك غير الظالمين أو قبل الإنذار

210 - { وما تنزلت به الشياطين } كما زعم المشركون أنه من قبيل ما يلقي الشياطين على الكهنة

211 - { وما ينبغي لهم } وما يصح لهم أن يتنزلوا به { وما يستطيعون } وما يقدرون

212 - { إنهم عن السمع } لكلام الملائكة { لمعزولون } لأنه مشروط بمشاركة في صفاء الذات وقبول فيضان الحق والانتقاش بالصور الملكوتية ونفوسهم خبيثة ظلمانية شريرة بالذات لا تقبل ذلك والقرآن مشتمل على حقائق ومغيبات لا يمكن تلقيها إلا من الملائكة

213 - { فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين } تهييج لازدياد الإخلاص ولطف لسائر المكلفين

214 - { وأنذر عشيرتك الأقربين } الأقرب منهم فالأقرب فإن الاهتمام بشأنم أهم روي أنه [ لما نزلت صعد النبي صلى الله عليه و سلم الصفا وناداهم فخذا فخذا حتى اجتمعوا إليه فقال : لو أخبرتكم أن يسفح هذا الجبل خيلا أكنتم مصدقي قالوا نعم قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ]

215 - { واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين } لين جانبك لهم مستعار من خفض الطائر جناحه إذا أراد أن ينحط و { من } للتبيين لأن من اتبع أعم ممن اتبع لدين أو غيره أو للتبعيض على أن المراد { من المؤمنين } المشارفون للإيمان أو المصدقون باللسان

216 - { فإن عصوك } ولم يتبعوك { فقل إني بريء مما تعملون } بما تعملونه أو من أعمالكم

217 - { وتوكل على العزيز الرحيم } الذي يقدر على قهر أعدائه ونصر أوليائه يكفك شر من يعصيك منهم ومن غيرهم وقرأ نافع و ابن عامر ( فتوكل ) على الإبدال من جواب الشرط

218 - { الذي يراك حين تقوم } إلى التهجد

219 - { وتقلبك في الساجدين } وترددك في تصفح أحوال المجتهدين كما روي [ أنه عليه السلام لما نسخ قيام فرض الليل طاف عليه السلام تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون حرصا على كثرة طاعاتهم فوجدها كبيوت الزنابير لما سمع بها من دندنتهم بذكر الله وتلاوة القرآن ] أو تصرفك فيما بين المصلين بالقيام والركوع والسجود والقعود إذا أممتهم وإنما وصفه الله تعالى بعلمه بحاله التي بها يستأهل ولايته بعد وصفه بأن من شأنه قهر أعدائه ونصر أوليائه تحقيقا للتوكل وتطمينا لقلبه عليه

220 - { إنه هو السميع } لما تقوله { العليم } بما تنويه

221 - { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين } لما بين أن القرآن لا يصح أن يكون مما تنزلت به الشياطين أكد ذلك بأن بين أن محمد صلى الله عليه و سلم لا يصح أن يتنزلوا عليه من وجهين :

222 - { تنزل على كل أفاك أثيم } أحدهما أنه إنما يكون على شرير كذاب كثير الإثم فإن اتصال الإنسان بالغائبات لما بينهما من التناسب والتواد وحال محمد صلى الله عليه و سلم على خلاف ذلك وثانيهما قوله :

223 - { يلقون السمع وأكثرهم كاذبون } أي الأفاكون يلقون السمع إلى الشياطين فيتلقون منهم ظنونا وأمارات لنقصان علمهم فيضمون إليها على حسب تخيلاتهم أشياء لا يطابق أكثرها كما جاء في الحديث [ الكلمة يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة ] ولا كذلك محمد صلى الله عليه و سلم فإنه أخبر عن مغيبات كثيرة لا تحصى وقد طابق كلها وقد فسر الأكثر بالكل لقوله تعالى : { كل أفاك أثيم } والأظهر أن الأكثرية باعتبار أقوالهم على معنى أن هؤلاء قل من يصدق منهم فيما يحكي عن الجني وقبل الضمائر للشياطين أي يلقون السمع إلى الملأ الأعلى قبل أن يرجموا فيختطفون منهم بعض المغيبات ويوحون به إلى أوليائهم أو يلقون مسموعهم منهم إلى أوليائهم وأكثرهم كاذبون فيما يوحون به إليهم إذ يسمعونهم لا على نحو ما تكلمت به الملائكة لشرارتهم أو لقصور فهمهم أو ضبطهم أو إفهامهم

224 - { والشعراء يتبعهم الغاوون } وأتباع محمد صلى الله عليه و سلم ليسوا كذلك وهو استئناف أبطل كونه عليه والصلاة والسلام شاعرا وقرره بقوله :

سورة النمل
225 - أشار بقوله :

226 - { وأنهم يقولون ما لا يفعلون } وكأنه لما كان إعجاز القرآن من جهة اللفظ والمعنى وقد قدحوا في المعنى بأنه مما تنزلت به الشياطين وفي اللفظ بأنه من جنس كلام الشعراء تكلم في القسمين وبين منافاة القرآن لهما ومضادة حال الرسول صلى الله عليه و سلم لحال أربابهما وقرأ نافع ( يتبعهم ) على التخفيف وقرئ بالتشديد وتسكين العين تشبيها لبعضه بعضا

227 - { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا } استثناء للشعراء المؤمنين الصالحين الذين يكثرون ذكر الله ويكون أكثر أشعارهم في التوحيد والثناء على الله تعالى والحث على طاعته ولو قالوا هجوا أرادوا به الانتصار ممن هاجهم ومكافحة هجاة المسلمين كعبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت والكعبين و [ كان عليه الصلاة و السلام يقول لحسان قل وروح القدس معك ] و [ عن كعب بن مالك أنه عليه الصلاة و السلام قال له اهجوا فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل ] { وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } تهديد شديد لما في سيعلم من الوعيد البليغ وفي الذين ظلموا من الإطلاق والتعميم وفي أي منقلب ينقلبون أي بعد الموت من الإيهام والتهويل وقد تلاها أبو بكر لعمر رضي الله عنهما حين عهد إليه وقرئ ( أي منفلت ينفلتون ) من الانفلات وهو النجاة والمعنى : أن الظالمين يطمعون أن ينفلتوا عن عذاب الله وسيعلمون أن ليس لهم وجه من وجوه الانفلات
عن النبي صلى الله عليه و سلم [ من قرأ سورة الشعراء كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بنوح وكذب به وهود وصالح وشعيب وإبراهيم وبعدد من كذب بعيسى وصدق بمحمد عليهم الصلاة والسلام ]

1 - { طس } { تلك آيات القرآن وكتاب مبين } الإشارة إلى آي السورة والكتاب المبين إما اللوح المحفوظ وإبانته أنه خط فيه ما هو كائن فهو يبينه للناظرين فيه وتأخيره باعتبار تعلق علمنا به وتقديمه في الحجر باعتبار الوجود أو القرآن وإبانته لما أودع فيه من الحكم والأحكام أو لصحته بإعجازه وعطفه على القرآن كعطف إحدى الصفتين على الأخرى وتنكيره للتعظيم وقرئ { وكتاب } بالرفع على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه

2 - { هدى وبشرى للمؤمنين } حالان من الـ { آيات } والعامل فيهما معنى الإشارة أو بدلان منها أو خبران آخران أو خبران لمحذوف

3 - { الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة } الذين يعملون الصالحات من الصلاة والزكاة { وهم بالآخرة هم يوقنون } من تتمة الصلة والواو للحال أو للعطف وتغيير النظم للدلالة على قوة يقينهم وأنهم الأوحدون فيه أو جملة اعتراضية كأنه قيل : وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات هم الموقنون بالآخرة فإن تحمل المشاق إنما يكون لخوف العاقبة والوثوق على المحاسبة وتكرير الضمير للاختصاص

4 - { إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم } زين لهم أعمالهم القبيحة بأن جعلها مشتهاة للطبع محبوبة للنفس أو الأعمال الحسنة التي وجب عليهم أن يعملوها بترتيب المثوبات عليها { فهم يعمهون } عنها لا يدركون ما يتبعها من ضر أو نفع

5 - { أولئك الذين لهم سوء العذاب } كالقتل والأسر يوم بدر { وهم في الآخرة هم الأخسرون } أشد الناس خسرانا لفوات المثوبة واستحقاق العقوبة

6 - { وإنك لتلقى القرآن } لتؤتاه { من لدن حكيم عليم } أي حكيم وأي عليم والجمع بينهما مع أن العلم داخل الحكمة لعموم العلم ودلالة الحكمة على إتقان الفعل والإشعار بأن علوم القرآن منها ما هو حكمة كالعقائد و الشرائع ومنها ما ليس كذلك كالقصص والأخبار عن المغيبات ثم شرع في بيان بعض تلك العلوم بقوله :

7 - { إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا } أي اذكر قصته { إذ قال } ويجوز أن يتعلق بـ { عليم } { سآتيكم منها بخبر } أي عن حال الطريق لأنه قد ضله وجمع الضمير إن صح أنه لم يكن معه غير امرأته لما كنى عنها بالأهل والسين للدلالة على بعد المسافة والوعد بالإتيان وإن أبطأ { أو آتيكم بشهاب قبس } شعلة نار مقبوسة وإضافة الشهاب إليه لأنه قد يكون قبسا وغير قبس ونونه الكوفيون و يعقوب على أن الـ { قبس } بدل منه أو وصف له لأنه بمعنى المقبوس والعدتان على سبيل الظن ولذلك عبر عنهما بصيغة الترجي في ( طه ) والترديد للدلالة على أنه إن لم يظفر بهما لم يعدم أحدهما بناء على ظاهر الأمر أو ثقة بعبادة الله تعالى أنه لا يكاد يجمع حرمانين على عبده { لعلكم تصطلون } رجاء أن تستدفئوا بها والصلاء النار العظيمة

8 - { فلما جاءها نودي أن بورك } أي { بورك } فإن النداء فيه معنى القول أو بـ { أن بورك } على أنها مصدرية أو مخففة من الثقيلة والتخفيف وإن اقتضى التعويض بلا أو قد أو السين أو سوف لكنه دعاء وهو يخالف غيره في أحكام كثيرة { من في النار ومن حولها } { من } في مكان { النار } وهو البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى : { نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة } ومن حول مكانها والظاهر أنه عام في كل من تلك الأرض وفي ذلك الواد وحواليها من أرض الشام الموسومة بالبركات لكونها مبعث الأنبياء وكفاتهم أحياء وأمواتا وخصوصا تلك البقعة التي كلم الله فيها موسى وقيل المراد موسى والملائكة الحاضرون وتصدير الخطاب بذلك بشارة بأنه قد قضى له أمر عظيم تنتشر بركته في أقطار الشأم { وسبحان الله رب العالمين } من تمام ما نودي به لئلا يتوهم من سماع كلامه تشبيها وللتعجيب من عظمة ذلك الأمر أو تعجب من موسى لما دهاه من عظمته

9 - { يا موسى إنه أنا الله } الهاء للشأن و { أنا الله } جملة مفسرة له أو للمتكلم و { أنا } خبره و { الله } بيان له { العزيز الحكيم } صفتان لله ممهدتان لما أراد أن يظهره يريد أنا القوي القادر على ما يبعد من الأوهام كقلب العصا حية الفاعل كل ما أفعله بحكمة وتدبير

10 - { وألق عصاك } عطف على { بورك } أي نودي أن بورك من في النار وأن ألق عصاك ويدل عليه قوله { وأن ألق عصاك } بعد قوله { أن يا موسى إني أنا الله } بتكرير أن { فلما رآها تهتز } تتحرك باضطراب { كأنها جان } حية خفيفة سريعة وقرئ ( جأن ) على لغة من جد في الهرب من التقاء الساكنين { ولى مدبرا ولم يعقب } ولم لم يرجع من عقب المقاتل إذا كر بعد الفرار وإنما رعب لظنه أن ذلك الأمر أريد به ويدل عليه قوله : { يا موسى لا تخف } أي من غيري ثقة بي أو مطلقا لقوله : { إني لا يخاف لدي المرسلون } أي حين يوحى إليهم من فرط الاستغراق فإنهم أخوف الناس أي من الله تعالى أو لا يكون لهم عندي سوء عاقبة فيخافون منه

11 - { إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم } استثناء منقطع استدرك به ما يختلج في الصدر من نفي الخوف عن كلهم وفيهم من فرطت منه صغيرة فإنهم وإن فعلوها أتبعوا فعلها ما يبطلها ويستحقون به من الله مغفرة ورحمة فإنه لا يخاف أيضا وقصد تعريض موسى بوكزه القبطي وقيل متصل وثم بدل مستأنف معطوف على محذوف أي عن ظلم ثم بدل ذنبه بالتوبة

12 - { وأدخل يدك في جيبك } لأنه كان بمدرعة صوف لا كم لها وقيل الجيب القميص لأنه يجاب أي يقطع { تخرج بيضاء من غير سوء } آفة كبرص { في تسع آيات } في جملتها أو معها على أ التسع هي الفلق والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمسة والجدب في بواديهم والنقصان في مزارعهم ولمن عد العصا واليد من التسع أن يعد الأخيرين واحدا ولا يعد الفلق لأنه لم يبعث به إلى فرعون أو اذهب في تسع آيات على أنه استئناف بالإرسال فيتعلق به { إلى فرعون وقومه } وعلى الأولين يتعلق بنحو مبعوثا أو مرسلا { إنهم كانوا قوما فاسقين } تعليل للإرسال

13 - { فلما جاءتهم آياتنا } بأن جاءهم موسى بها { مبصرة } بينة اسم فاعل أطلق للمفعول وإشعارا بأنها لفرط اجتلائها للأبصار بحيث تكاد تبصر نفسها لو كانت مما يبصر أو ذات تبصر من حيث إنها تهدي والعمي لا تهتدي فضلا عن أن تهدي أو مبصرة كل من نظر إليها وتأمل فيها وقرئ ( مبصرة ) أي مكانا يكثركم فيه التبصر { قالوا هذا سحر مبين } واضح سحريته

14 - { وجحدوا بها } وكذبوا بها { واستيقنتها أنفسهم } وقد استيقنتها لأن الواو للحال { ظلما } لأنفسهم { وعلوا } ترفعا عن الإيمان وانتصابهما على العلة من { جحدوا } { فانظر كيف كان عاقبة المفسدين } وهو الإغراق في الدنيا والإحراق في الآخرة

15 - { ولقد آتينا داود وسليمان علما } طائفة منت العلم وهو علم الحكم والشرائع أو علما أي علم { وقالا الحمد لله } عطفه بالواو إشعارا بأن ما قالاه بعض ما أتيا به في مقابلة هذه النعمة كأنه قال : ففعلا شكرا له ما فعلا { وقالا الحمد لله } { الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين } يعني من لم يؤت علما أو مثل علمهما وفيه دليل على فضل العلم وشرف أهله حيث شكرا على العلم وجعلاه أساس الفضل ولم يعتبرا دونه ما أوتيا من الملك الذي لم يؤت غيرهما وتحريض للعالم على أن يحمد الله تعالى على ما آتاه من فضله وأن يتواضع ويعتقد أنه وإن فضل على كثير فقد فضل عليه كثير

16 - { وورث سليمان داود } النبوة أو العلم أو الملك بأن قام مقامه في ذلك دون سائر بنيه وكانوا تسعة عشر { وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء } تشهيرا لنعمة الله وتنويها بها ودعاء الناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير وغير ذلك من عظائم ما أوتيه والنطق والمنطق في المتعارف كل لفظ يعبر به عما في الضمير مفردا كان أو مركبا وقد يطلق لكل ما يصوت به على التشبيه أو التبع كقولهم نطقت الحمامة ومنه الناطق والصامت للحيوان والجماد فإن الأصوات الحيوانية من حيث إنها تابعة للتخيلات منزلة العبارات سيما وفيها ما يتفاوت باختلاف الأغراض بحيث يفهمها ما من جنسه ولعل سليمان عليه الصلاة و السلام مهما سمع صوت حيوان علم بقوته القدسية التخيل الذي صوته والغرض الذي توخاه به ومن ذلك ما حكي أنه مر ببلبل يصوت ويترقص فقال : يقول إذا أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء وصاحت فاختة فقال : إنها تقول ليت الخلق لم يخلقوا فلعله كان صوت البلبل عن شبع وفراغ بال وصياح الفاختة عن مقاساة شدة وتألم قلب والضمير في { علمنا } { وأوتينا } له ولأبيه عليهما الصلاة والسلام أوله وحده على عادة الملوك لمراعاة قواعد السياسة والمراد { من كل شيء } كثرة ما أوتي كقولك : فلان يقصده كل أحد ويعلم كل شيء { إن هذا لهو الفضل المبين } الذي لا يخفى على أحد

17 - { وحشر } وجمع { لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون } يحبسون بحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا

18 - { حتى إذا أتوا على واد النمل } واد بالشام كثير النمل وتعدية الفعل إليه بـ { على } إما لأن إتيانهم كان من عال أو لأن المراد قطعة من قولهم : أتى على الشيء إذا أنفده وبلغ آخره كأنهم أرادوا أن ينزلوا أخريات الوادي { قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم } كأنها لما رأتهم متوجهين إلى الوادي فرت عنهم مخافة حطمهم فتبعها غيرها فصاحت صيحة نبهت بها ما بحضرتها من النمال فتبعتها فشبه ذلك بمخاطبة العقلاء ومناصحتهم ولذلك أجروا مجراهم مع أنه لا يمتنع أن خلق الله سبحانه وتعالى فيها العقل والنطق { لا يحطمنكم سليمان وجنوده } نهي لهم عن الحطم والمراد نهيها عن التوقف بحيث يحطمونها كقولهم : لا أرينك ها هنا فهو استئناف أو بدل من الأمر لا جواب له فإن النون لا تدخله في السعة { وهم لا يشعرون } بأنهم يحطمونكم إذ لو شعروا لم يفعلوا كأنها شعرت عصمة الأنبياء من الظلم والإيذاء وقيل استئناف أي فهم سليمان والقوم لا يشعرون

19 - { فتبسم ضاحكا من قولها } تعجبا من حذرها وتحذيرها واهتدائها إلى مصالحها وسرورا بما خصه الله تعالى به من إدراك همسها وفهم غرضها ولذلك سأل توفيق شكره { وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك } أي اجعلني أزع شكر نعمتك عندي أي أكفه وأرتبطه لا ينفلت عني بحيث لا أنفك عنه وقرأ البزي و ورش بفتح ياء { أوزعني } { التي أنعمت علي وعلى والدي } أدرج فيه ذكر والديه تكثيرا للنعمة أو تعميما لها فإن النعمة عليهما نعمة عليه والنعمة عليه يرجع نفعها إليهما سيما الدينية { وأن أعمل صالحا ترضاه } إتماما للشكر واستدامة للنعمة { وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين } في عدادهم الجنة

20 - { وتفقد الطير } وتعرف الطير فلم يجد فيها الهدهد { فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين } أم منقطعة كأنه لما لم يره ظن أنه حاضر ولا يراه لساتر أو غيره فقال : ما لي لا أراه ثم احتاط فلاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول أهو غائب كأنه يسأل عن صحة ما لاح له

21 - { لأعذبنه عذابا شديدا } كنتف رشه وإلقائه في الشمس أو حيث النمل يأكله أو جعله مع ضده في قفص { أو لأذبحنه } ليعتبر به أبناء جنسه { أو ليأتيني بسلطان مبين } بحجة تبين عذره والحلف في الحقيقة على أحد الأولين بتقدير عدم الثالث لكن لما اقتضى ذلك وقوع أحد الأمور الثلاثة ثلث المحذوف عليه بعطفه عليهما وقرأ ابن كثير أو ( ليأتينني ) بنونين الأولى مفتوحة مشددة

22 - { فمكث غير بعيد } زمانا غير مديد يريد به الدلالة على سرعة رجوعه خوفا منه وقرأ عاصم بفتح الكاف { فقال أحطت بما لم تحط به } يعني حال سبأ وفي مخاطبته إياه بذلك تنبيه له على أن في أدنى خلق الله تعالى من أحاط علما بما لم يحط به لتتحاقر إليه نفسه ويتصاغر لديه علمه وقرئ بإدغام الطاء في التاء بإطباق وبغير إطباق { وجئتك من سبإ } وقرأ ابن كثير برواية البزي و أبو عمرو غير مصروف على تأويل القبيلة والبلدة والقواس بهمزة ساكنة { بنبإ يقين } بخبر متحقق روي أنه عليه الصلاة و السلام لما أتم بناء بيت المقدس تجهز للحج فوافى الحرم وأقام بها ما شاء ثم توجه إلى اليمن فخرج من مكة صباحا فوافى صنعاء ظهيرة فأعجبته نزاهة أرضها فنزل بها ثم لم يجد الماء - وكان الهدهد رائده لأنه يحسن طلب الماء - فتفقده لذلك فلم يجده إذ حلق حين نزل سليمان فرأى هدهدا واقعا فانحط إليه فتواصفا وطار معه لينظر ما وصف له ثم رجع بعد العصر وحكى ما حكى ولعل في عجائب قدرة الله وما خص به خاصة عباده أشياء أعظم من ذلك يستكبرها من يعرفها ويستنكرها من ينكرها

23 - { إني وجدت امرأة تملكهم } يعني بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن الريان والضمير لسبأ أو لأهلها { وأوتيت من كل شيء } يحتاج إليه الملوك { ولها عرش عظيم } عظمه بالنسبة إليها أو إلى عروش أمثالها وقيل كان ثلاثين ذراعا في ثلاثين عرضا وسمكا أو ثمانين من ذهب وفضة مكللا بالجواهر

24 - { وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله } كأنهم كانوا يعبدونها { وزين لهم الشيطان أعمالهم } عبادة الشمس وغيرها من مقابح أعمالهم { فصدهم عن السبيل } عن سبيل الحق والصواب { فهم لا يهتدون } إليه

25 - { أن لا يسجدوا لله } فصدهم لئلا يسجدوا أو زين لهم أن لا يسجدوا على أنه بدل من { أعمالهم } أو { لا يهتدون } إلى أن يسجدوا بزيادة { لا } وقرأ الكسائي و يعقوب { إلا } بالتخفيف على أنها للتنبيه ويا للنداء ومناداه محذوف أي : ألا يا قوم اسجدوا كقوله :
( وقالت ألا يا اسمع أعظك بخطة ... فقلت سميعا فانطقي وأصيبي )
وعلى هذا صح أن يكون استئنافا من الله أو من سليمان والوقف على { لا يهتدون } فيكون أمرا بالسجود وعلى الأول ذما على تركه وعلى الوجهين يقتضي وجوب السجود في الجملة لا عند قراءتها وقرئ ( هلا ) و ( هلا ) بقلب الهمزة هاء و ( ألا تسجودن ) و ( هلا تسجدون ) على الخطاب { الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون } وصف له تعالى بما يوجب اختصاصه باستحقاق السجود من التفرد بكمال القدرة والعلم حثا على سجوده وردا على من يسجد لغيره و { الخبء } ما خفي في غيره وإخراجه إظهار وهو يعم إشراق الكواكب وإنزال الأمطار وإنبات النبات بل الإنشاء فإنه إخراج ما في الشيء بالقوة إلى الفعل والإبداع فإنه إخراج ما في الإمكان والعدم إلى الوجوب والوجود ومعلوم أنه يختص بالواجب لذاته وقرأ حفص و الكسائي ( ما تخفون وما تعلنون ) بالتاء

26 - { الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم } الذي هو أول الأجرام وأعظمها والمحيط بجملتها فبين العظيمين بون

27 - { قال سننظر } سنعرف من النظر بمعنى التأمل { أصدقت أم كنت من الكاذبين } أي أم كذبت والتغيير للمبالغة ومحافظة الفواصل

28 - { اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم } ثم تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه { فانظر ماذا يرجعون } ما يرجع بعضهم إلى بعض من القول

29 - { قالت } أي بعد ما ألقى إليها { يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم } لكرم مضمونه أو مرسله أو لأنه كان مختوما أو لغرابة شأنه إذ كانت مستلقية في بيت مغلقة الأبواب فدخل الهدهد من كوة وألقاه على نحرها بحيث لم تشعر به

30 - { إنه من سليمان } استئناف كأنه قيل لها ممن هو وما هو فقالت إنه أي إن الكتاب أو العنوان من سليمان { وإنه } أي وإن المكتوب أو المضمون وقرئ بالفتح على الإبدال من { كتاب } أو التعليل لكرمه { بسم الله الرحمن الرحيم }

31 - { أن لا تعلوا علي } أن مفسرة أو مصدرية فتكون بصلها خبر محذوف أي هو أو المقصود أن لا تعلوا أو بدل من { كتاب } { وأتوني مسلمين } مؤمنين أو منقادين وهذا الكلام في غاية الوجازة مع كمال الدلالة على المقصود لاشتماله على البسملة الدالة على ذات الصانع تعالى وصفاته صريحا أو التزاما والنهي عن الترفع الذي هو أم الرذائل والأمر بالإسلام الجامع لأمهات الفضائل وليس الأمر فيه بالانقياد قبل إقامة الحجة على رسالته حتى يكون استدعاء للتقليد فإن الكتاب إليها على تلك الحالة من أعظم الدلالة

32 - { قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري } أجيبوني في أمري الفتي واذكروا ما تستصوبون فيه { ما كنت قاطعة أمرا } ما أبت أمرا { حتى تشهدون } إلا بمحضركم استعطفتهم بذلك ليمالئوها على الإجابة

33 - { قالوا نحن أولو قوة } بالأجساد والعدد { وأولو بأس شديد } نجدة وشجاعة { والأمر إليك } موكول { فانظري ماذا تأمرين } من المقاتلة أو الصلح نطعك ونتبع رأيك

34 - { قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية } عنوة وغلبة { أفسدوها } تزييف لما أحسنت منهم من الميل إلى المقاتلة بادعائهم القوى الذاتية والعرضية وأشعار بأنها ترى الصلح مخافة أن يتخطى سليمان خططهم فيسرع إلى إفساد ما يصادفه من أموالهم وعماراتهم ثم أن الحرب سجال لا تدري عاقبتها { وجعلوا أعزة أهلها أذلة } بنهب أموالهم وتخريب ديارهم إلى غير ذلك من الإهانة والأسر { وكذلك يفعلون } تأكيد لما وصفت من حالهم وتقرير بأن ذلك من عاداتهم الثابتة المستمرة أو تصديق لها من الله عز و جل

35 - { وإني مرسلة إليهم بهدية } بيان لما ترى تقديمه في المصالحة والمعنى إني مرسلة رسلا بهدية أدفعه بها عن ملكي { فناظرة بم يرجع المرسلون } من حاله حتى أعمل بحسب ذلك روي أنها بعثت منذر بن عمرو في وفد وأرسلت معهم غلمانا على زي الجواري وجواري على زي الغلمان وحقا فيه درة عذراء وجزعة معوجة الثقب وقالت : إن كان نبيا ميز بين الغلمان والجواري وثقب الدرة ثقبا مستويا وسلك في الخرزة خيطا فلما وصلوا إلى معسكره ورأوا عظمة شأنه تقاصرت إليهم نفوسهم فلما وقفوا بين يديه وقد سبقهم جبريل بالحال فطلب الحق وأخبر عما فيه فأمر الأرضة فأخذت شعرة ونفذت في الدرة وأمر دودة بيضاء فأخذت الخيط ونفذت في الجزعة ودعا بالماء فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله في الأخرى ثم تضرب به وجهها والغلام كما يأخذه يضرب به وجهه ثم رد الهدية

36 - { فلما جاء سليمان } أي الرسول أو ما أهدت إليه وقرئ ( فلما جاؤوا ) { قال أتمدونن بمال } خطاب للرسول ومن معه أو للرسول والمرسل على تغليب المخاطب وقرأ حمزة و يعقوب بالإدغام وقرئ بنون واحدة وبنونين وحذف الياء { فما آتاني الله } من النبوة والملك الذي لا مزيد عليه وقرأ نافع و أبو عمرو و حفص بفتح الياء والباقون بإسكانها وبإمالتها الكسائي وحده { خير مما آتاكم } فلا حاجة لي إلى هديتكم ولا وقع لها عندي { بل أنتم بهديتكم تفرحون } لأنكم لا تعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا فتفرحون بما يهدى إليكم حبا لزيادة أموالكم أو بما تعدونه افتخارا على أمثالكم والإضراب عن إنكار الإمداد بالمال عليه وتقليله إلى بيان السبب الذي حملهم عليه وهو قياس حاله على حالهم في قصور الهمة بالدنيا والزيادة فيها

37 - { ارجع } أيها الرسول { إليهم } إلى بلقيس وقومها { فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها } لا طاقة لهم بمقاومتها ولا قدرة لهم على مقابلتها وقرئ ( بهم ) { ولنخرجنهم منها } من سبأ { أذلة } بذهاب ما كانوا فيه من العز { وهم صاغرون } أسراء مهانون

38 - { قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها } أراد بذلك أن يريها بعض ما خصه الله تعالى به من العجائب الدالة على عظم القدرة وصدقه في دعوى النبوة ويختبر عقلها بأن ينكر عرشها فينظر أتعرفه أم تنكره ؟ { قبل أن يأتوني مسلمين } فإنها إذا أتت مسلمة لم يحل أخذه إلا برضاها

39 - { قال عفريت } خبيث مارد { من الجن } بيان له لأنه يقال للرجل الخبيث المنكر المعفر أقرانه وكان اسمه ذكوان أو صخرا { أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك } من مجلسك للحكومة وكان يجلس إلى نصف النهار { وإني عليه } على حمله { لقوي أمين } لا أختزل منه شيئا ولا أبدله

40 - { قال الذي عنده علم من الكتاب } آصف بن برخيا وزيره أو الخضر أو جبريل عليهما السلام أو ملك أيده الله به أو سليمان عليه السلام نفسه فيكون التعبير عنه بذلك للدلالة على شرف العلم وأن هذه الكرامة كانت بسببه والخطاب في : { أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك } للعفريت كأنه استبطأه فقال له ذلك أو أراد إظهار معجزة في نقله فتحداهم أولا ثم أراهم أنه يتأتى له ما لا يتأتى لعفاريت الجن فضلا عن غيرهم والمراد بـ { الكتاب } جنس الكتب المنزلة أو اللوح و { آتيك } في الموضعين صالح للفعلية والاسمية ( والطرف ) تحرك الأجفان للنظر فوضع موضعه ولما كان الناظر يوصف بإرسال الطرف كما في قوله :
( وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا ... لقلبك يوما أتعبتك المناظر )
وصف برد الطرف والطرف بالارتداد والمعنى أنك ترسل طرفك نحو شيء فقبل أن ترده أحضر عرشها بين يديك وهذا غاية في الإسراع ومثل فيه { فلما رآه } أي العرش { مستقرا عنده } حاصلا بين يديه { قال } تلقيا للنعمة بالشكر على شاكلة المخلصين من عباد الله تعالى { هذا من فضل ربي } تفضل به علي من غير استحقاق والإشارة إلى التمكن من إحضار العرش في مدة ارتداد الطرف من مسيرة شهرين بنفسه أو غيره والكلام في إمكان مثله قد مر في آية ( الإسراء ) { ليبلوني أأشكر } بأن أراه فضلا من الله تعالى بلا حول مني ولا قوة وأقوم بحقه { أم أكفر } بأن أجد نفسي في البين أو أقصر في أداء مواجبه ومحلها النصب على البدل من الياء { ومن شكر فإنما يشكر لنفسه } لأنه به يستجلب لها دوام النعمة ومزيدها ويحط عنها عبء الواجب ويحفظها عن وصمة الكفران { ومن كفر فإن ربي غني } عن شكره { كريم } بالإنعام عليه ثانيا

41 - { قال نكروا لها عرشها } بتغيير هيئته وشكله { ننظر } جواب الأمر وقرئ بالرفع على الاستئناف { أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون } إلى معرفته أو الجواب الصواب وقيل إلى الإيمان بالله ورسوله إذا رأت تقدم عرشها وقد خلفته مغلقة عليه الأبواب موكلة عليها الحراس

42 - { فلما جاءت قيل أهكذا عرشك } تشبيها عليها زيادة في امتحان عقلها إذ ذكرت عنده بسخافة العقل { قالت كأنه هو } ولم تقل هو هو لاحتمال أن يكون مثله وذلك من كمال عقلها { وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين } من تتمة كلامها كأنها ظنت أنه أراد بذلك اختبار عقلها وإظهار معجزة لها فقالت : وأوتينا العلم بكمال قدرة الله وصحة نبوتك قبل هذه الحالة أو المعجزة مما تقدم من الآيات وقيل إنه من كلام سليمان عليه السلام وقومه وعطفوه على جوابها لما فيه من الدلالة على إيمانها بالله ورسوله حيث جوزت أن يكون ذلك عرشها تجويزا غالبا وإحضار ثمة من المعجزات التي لا يقدر عليه غير الله تعالى ولا تظهر إلا على يد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أي أوتينا العلم بالله وقدرته وصحة ما جاء به عنده قبلها وكنا منقادين لحكمه ولم نزل على دينه ويكون غرضهم فيه التحدث بما أنعم الله عليهم من التقدم في ذلك شكر الله تعالى

43 - { وصدها ما كانت تعبد من دون الله } أي وصدها عبادتها الشمس عن التقدم إلى الإسلام أو وصدها الله عن عبادتها بالتوفيق للإيمان { إنها كانت من قوم كافرين } وقرئ بالفتح على الإبدال من فاعل صدها على الأول أي صدها نشؤها بين أظهر الكفار أو التعليل له

44 - { قيل لها ادخلي الصرح } القصر وقيل عرصة الدار { فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها } روي أنه أمر قبل قدومها ببناء قصر صحنه من زجاج أبيض وأجرى من تحته الماء وألقى فيه حيوانات البحر ووضع سريره في صدره فجلس عليه فلما أبصرته ظنته ماء راكدا فكشفت عن ساقيها وقرأ ابن كثير برواية قنبل ( سأقيها ) بالهمز حملا على جمعه سؤوق وأسؤق { قال إنه } إن ما تظنينه ماء { صرح ممرد } مملس { من قوارير } من الزجاج { قالت رب إني ظلمت نفسي } بعبادتي الشمس وقيل بظني بسليمان فإنها حسبت أنه يغرقها في اللجة { وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين } فيما أمر به عباده وقد اختلف في أنه تزوجها أو زوجها من ذي تبع ملك همدان

45 - { ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله } بأن اعبدوا الله وقرئ بضم النون على اتباعها الباء { فإذا هم فريقان يختصمون } ففاجئوا التفرق والاختصام فآمن فريق وكفر فريق والواو لمجموع الفريقين

46 - { قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة } بالعقوبة فتقولون ائتنا بما تعدنا { قبل الحسنة } قبل التوبة فتؤخرونها إلى نزول العقاب فإنهم كانوا يقولون إن صدق إيعاده تبنا حينئذ { لولا تستغفرون الله } قبل نزوله { لعلكم ترحمون } بقبولها فإنها لا تقبل حينئذ

47 - { قالوا اطيرنا } تشاءمنا { بك وبمن معك } إذ تتابعت علينا الشدائد أو نقع بيننا الافتراق منذ اخترعتم دينكم { قال طائركم } سببكم الذي جاء منه شركم { عند الله } وهو قدره أو عملكم المكتوب عنده { بل أنتم قوم تفتنون } تختبرون بتعاقب السراء والضراء والإضراب من بيان طائرهم الذي هو مبدأ ما يحيق بهم إلى ذكر ما هو الداعي إليه

48 - { وكان في المدينة تسعة رهط } تسعة أنفس وإنما وقع تمييزا للتسعة باعتبار المعنى والفرق بينه وبين النفر أنه من الثلاثة أو السبعة إلى العشرة والنفر من الثلاثة إلى التسعة { يفسدون في الأرض ولا يصلحون } أي شأنهم الإفساد الخالص عن شوب الصلاح

49 - { قالوا } أي قال بعضهم لبعض { تقاسموا بالله } أمر مقول أو خبر وقع بدلا أو حالا بإضمار قد { لنبيتنه وأهله } لنباغتن صالحا وأهله ليلا وقرأ حمزة و الكسائي بالتاء على خطاب بعضهم لبعض وقرئ بالياء على أن تقاسموا خبر { ثم لنقولن } فيه القراءات الثلاث { لوليه } لولي دمه { ما شهدنا مهلك أهله } فضلا أن تولينا إهلاكهم وهو يحتمل المصدر والزمان والمكان وكذا ( مهلك ) في قراءة حفص فإن مفعلا قد جاء مصدرا كمرجع وقرأ أبو بكر بالفتح فيكون مصدرا { وإنا لصادقون } فيما ذكرنا لأن الشاهد للشيء غير المباشر له عرفا أو لأنا ما شهدنا مهلكهم وحده بل مهلكه ومهلكهم كقولك ما رأيت ثمة رجلا بل رجلين

50 - { ومكروا مكرا } بهذه المواضعة { ومكرنا مكرا } بأن جعلناها سببا لإهلاكهم { وهم لا يشعرون } بذلك روي أنه كان لصالح في الحجر مسجد في شعب يصلي فيه فقالوا : زعم أنه يفرغ منا إلى ثلاث فنفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث فذهبوا إلى الشعب ليقتلوه وفرقع عليهم صخرة حيالهم فطبقت عليه فم الشعب فهلكوا ثمة وهلك الباقون في أماكنهم بالصيحة كما أشار إليه قوله :

51 - { فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين } و { كان } إن جعلت ناقصة فخبرها { كيف } و { أنا دمرناهم } استئناف أو خبر محذوف لا خبر { كان } لعدم العائد وإن جعلتها تامة فـ { كيف } حال وقرأ الكوفيون و يعقوب { أنا دمرناهم } بالفتح على أنه خبر محذوف أو بدل من اسم { كان } أو خبر له و { كيف } حال

52 - { فتلك بيوتهم خاوية } خالية من خوى البطن إذا خلا أو ساقطة مهدمة من خوى النجم إذا سقط وهي حال عمل فيها معنى الإشارة وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف { بما ظلموا } بسبب ظلمهم { إن في ذلك لآية لقوم يعلمون } فيتعظون

53 - { وأنجينا الذين آمنوا } صالحا ومن معه { وكانوا يتقون } الكفر والمعاصي فلذلك خصوا بالنجاة

54 - { ولوطا } واذكر لوطا أو وأرسلنا لوطا لدلالة ولقد أرسلنا عليه { إذ قال لقومه } بدل على الأول وظرف على الثاني { أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون } تعلمون فحشها من بصر القلب واقتراف القبائح من العالم بقبحها أقبح أو يبصرها بعضكم من بعض لأنهم كانوا يعلنون بها فتكون أفحش

55 - { أإنكم لتأتون الرجال شهوة } بيان لإتيانهم الفاحشة وتعليله بالشهوة للدلالة على قبحه والتنبيه على أن الحكمة في المواقعة طلب النسل لا قضاء الوطر { من دون النساء } اللاتي خلقن لذلك { بل أنتم قوم تجهلون } تفعلون فعل من يجهل قبحها أو يكون سفيها لا يميز بين الحسن والقبيح أو تجهلون العاقبة والتاء فيه لكون الموصوف به في معنى المخاطب

56 - { فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون } أي يتنزهون عن أفعالنا أو عن الأقذار ويعدون فعلنا قذرا

57 - { فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين } قدرنا كونها من الباقين في العذاب

58 - { وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين } مر مثله

59 - { قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى } أمر رسوله صلى الله عليه و سلم - بعدما قص عليه القصص الدالة على كمال قدرته وعظم شأنه وما خص به رسله من الآيات الكبرى والانتصار من العدا - بتحميده والسلام على المصطفين من عباده شكرا على ما أنعم عليهم أو علمه ما جهل من أحوالهم وعرفانا لفضلهم وحق تقدمهم واجتهادهم في الدين أو لوطا بأن يحمده على هلاك كفرة قومه ويسلم على من اصطفاه بالعصمة من الفواحش والنجاة من الهلاك { آلله خير أما يشركون } إلزام لهم وتهكم بهم وتسفيه لرأيهم إذ من المعلوم أن لا خير فيما أشركوه رأسا حتى يوازن بينه وبين من هو مبدأ كل خير وقرأ أبو عمرو و عاصم و يعقوب بالتاء

60 - { أمن } بل أمن { خلق السموات والأرض } التي هي أصول الكائنات ومبادئ المنافع وقرأ أمن بالتخفيف على أنه بدل من الله { وأنزل لكم } لأجلكم { من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة } عدل به من الغيبة إلى التكلم لتأكيد اختصاص الفعل بذاته والتنبيه على أ إنبات الحدائق البهية المختلفة الأنواع المتباعدة الطباع من المواد المتشابهة لا يقدر عليه غيره كما أشار إليه بقوله : { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } شجر الحدائق وهي البساتين من الإحداق وهو الإحاطة { أإله مع الله } أغيره يقرن به ويجعل له شريكا وهو المنفرد بالخلق والتكوين وقرئ ( أإلها ) بإضمار فعل مثل أتدعون أو أتشركون وبتوسيط مدة بين الهمزتين وإخراج الثانية بين بين { بل هم قوم يعدلون } عن الحق الذي هو التوحيد

61 - { أمن جعل الأرض قرارا } بدل من { أمن خلق السموات } وجعلها قرارا بإبداء بعضها من الماء وتسويتها بحيث يتأتى استقرار الإنسان والدواب عليها { وجعل خلالها } وسطها { أنهارا } جارية { وجعل لها رواسي } جبالا تتكون فيها المعادن وتنبع من حضيضها المنابع { وجعل بين البحرين } العذب والمالح أو خليجي فارس والروم { حاجزا } برزخا وقد مر بيانه في سورة ( الفرقان ) { أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون } الحق فيشركون به

62 - { أمن يجيب المضطر إذا دعاه } المضطر الذي أحوجه شدة ما به إلى اللجوء إلى الله تعالى من الاضطرار وهو افتعال من الضرورة واللام فيه للجنس لا للاستغراق فلا يلزم منه إجابة كل مضطر { ويكشف السوء } ويدفع عن الإنسان ما يسوءه { ويجعلكم خلفاء الأرض } خلفاء فيها بأن ورثكم سكناها والتصرف فيها ممن قبلكم { أإله مع الله } الذي خصكم بهذه النعم العامة والخاصة { قليلا ما تذكرون } أي تذكرون آلاءه تذكرا قليلا وما مزيدة والمراد بالقلة العدم أو الحقارة المزيحة للفائدة وقرأ أبو عمرو و هشام و روح بالياء و حمزة و الكسائي و حفص بالتاء وتخفيف الذال

63 - { أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر } بالنجوم وعلامات الأرض والـ { ظلمات } ظلمات الليالي وإضافتها إلى { البر والبحر } للملابسة أو مشتبهات الطرق يقال طريقة ظلماء وعمياء للتي لا منار بها { ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته } يعني المطر ولو صح أن السبب الأكثر في تكون الرياح معاودة الأدخنة الصاعدة من الطبقة الباردة لانكسار حرها وتمويجها الهواء فلا شك أن الأسباب الفاعلية والقابلية لذلك من خلق الله تعالى والفاعل للسبب فعل للمسبب { أإله مع الله } يقدر على مثل ذلك { فتعالى الله عما يشركون } تعالى الله القادر الخالق عن مشاركة العاجز المخلوق

64 - { أمن يبدأ الخلق ثم يعيده } والكفرة وإن أنكروا الإعادة فهم محجوبون بالحجج الدالة عليها { ومن يرزقكم من السماء والأرض } أي بأسباب سماوية وأرضية { أإله مع الله } يفعل ذلك { قل هاتوا برهانكم } على أن غيره يقدر على شيء من ذلك { إن كنتم صادقين } في إشراككم فإن كمال القدرة من لوازم الألوهية

65 - { قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله } لما بين اختصاصه تعالى بالقدرة التامة الفائقة العامة أتبعه ما هو كاللازم له وهو التفرد بعلم الغيب والاستثناء منقطع ورفع المستثنى على اللغة التميمية للدلالة على أنه تعالى إن كان ممن في السموات والأرض ففيها من يعلم الغيب مبالغة في نفيه عنهم أو متصل على أن المراد ممن في السموات والأرض من تعلق علمه بها وأطلع عليها اطلاع الحاضر فيها فإنه يعم الله تعالى وأولي العلم من خلقه وهو موصول أو موصوف { وما يشعرون أيان يبعثون } متى ينشرون مركبة من ( أي ) ( وآن ) وقرئت بكسر الهمزة والضمير لمن وقيل للكفرة

66 - { بل ادارك علمهم في الآخرة } لما نفى عنهم علم الغيب وأكد ذلك بنفي شعورهم بما هو مآلهم لا محالة بالغة فيه بأن أضرب عنه وبين أن ما انتهى وتكامل فيه أسباب علمهم من الحجج والآيات وهو أن القيامة كائنة لا محالة لا يعلمونه كما ينبغي { بل هم في شك منها } كمن تحير في الأمر لا يجد عليه دليلا { بل هم منها عمون } لا يدركون دلائلها لاختلال بصيرتهم وهذا وإن اختص بالمشركين ممن في السموات والأرض نسب إلى جميعهم كما يسند فعل البعض إلى الكل والإضرابات الثلاث تنزيل لأحوالهم وقيل الأول إضراب عن نفي الشعور بوقت القيامة عنهم إلى وصفهم باستحكام علمهم في أمر الآخرة تهكما بهم وقيل أدرك بمعنى انتهى واضمحل من قولهم أدركت الثمرة لأن تلك غايتها التي عندها تعدم وقرأ نافع و ابن عامر و حمزة و الكسائي و حفص ( بل ادراك ) بمعنى تتابع حتى استحكم أو تتابع حتى انقطع من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك و أبو بكر ( أدرك ) وأصلهما تفاعل وافتعل وقرئ ( أأدرك ) بهمزتين ( وآأدرك ) بألف بينهما ( بل أدرك ) و ( بل تدارك ) و ( بلى أأدرك ) و ( أم أدرك ) أو ( تدارك ) وما فيه استفهام صريح
أو مضمن من ذلك فإنكار وما فيه بلى فإثبات لشعورهم وتفسير له الإدراك على التهكم وما بعده إضراب عن التفسير مبالغة في نفيه ودلالة على أن شعورهم بها أنهم شاكون فيها { بل } إنهم { منها عمون } أو رد وإنكار لشعورهم

67 - { وقال الذين كفروا أإذا كنا ترابا وآباؤنا أإنا لمخرجون } كالبيان لعمههم والعامل في إذا ما دل عليه { أإنا لمخرجون } وهو نخرج لا مخرجون لأن كلا من الهمزة وإن واللام مانعة من عمله فيما قبلها وتكرير الهمزة للمبالغة في الإنكار والمراد بالإخراج الإخراج من الأجداث أو من حال الفناء إلى حال الحياة وقرأ نافع ( إذا كنا ) بهمزة واحدة مكسورة وقرأ ابن عامر و الكسائي ( إننا لمخرجون ) بنونين على الخبر

68 - { لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل } من قبل وعد محمد صلى الله عليه و سلم وتقديم هذا على نحن لأن المقصود بالذكر هو البعث وحيث أخر المقصود به المبعوث { إن هذا إلا أساطير الأولين } التي هي كالأسمار

69 - { قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين } تهديد لهم على التكذيب وتخويف بأن ينزل بهم مثل ما نزل بالمكذبين قبلهم والتعبير عنهم بـ { المجرمين } ليكون لطفا بالمؤمنين في ترك الجرائم

70 - { ولا تحزن عليهم } على تكذيبهم وإعراضهم { ولا تكن في ضيق } في حرج صدر وقرأ ابن كثير بكسر الضاد وهما لغتان وقرئ ضيق أي أمر ضيق { مما يمكرون } من مكرهم فإن الله يعصمك من الناس

71 - { ويقولون متى هذا الوعد } العذاب الموعود { إن كنتم صادقين }

72 - { قل عسى أن يكون ردف لكم } تبعكم ولحقكم واللام مزيدة للتأكيد أو الفعل مضمن معنى فعل يتعدى باللام مثل دنا وقرئ بالفتح وهو لغة فيه { بعض الذي تستعجلون } حلوله وهو عذاب يوم بدر وعسى ولعل وسوف في مواعيد الملوك كالجزم بها وإنما يطلقونها إظهارا لوقارهم وإشعارا بأن الرمز منهم كالتصريح من غيرهم وعليه جرى وعد الله تعالى ووعيده

73 - { وإن ربك لذو فضل على الناس } لتأخير عقوبتهم على المعاصي والفضل والفاضلة الأفضال وجميعها فضول وفواضل { ولكن أكثرهم لا يشكرون } لا يعرفون حتى النعمة فيه فلا يشكرونه بل يستعجلون بجهلهم وقوعه

74 - { وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم } ما تخفيه وقرئ بفتح التاء من كننت أي سترت { وما يعلنون } من عداوتك فيجازيهم عليه

75 - { وما من غائبة في السماء والأرض } خافية فيهما وهما من الصفات الغالبة والتاء فيهما للمبالغة كما في الرواية أو اسمان لما يغيب ويخفى كالتاء في عافية وعاقبة { إلا في كتاب مبين } بين أو { مبين } ما فيه لما يطالعه والمراد اللوح أو القضاء على الاستعارة

76 - { إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون } كالتشبيه والتنزيه وأحوال الجنة والنار وعزير والمسيح

77 - { وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين } فإنهم المنتفعون به

78 - { إن ربك يقضي بينهم } بين بني إسرائيل { بحكمه } بما يحكم به وهو الحق أو بحكمته ويدل عليه أن قرئ بحكمه { وهو العزيز } فلا يرد قضاؤه { العليم } بحقيقة ما يقضى فيه وحكمه

79 - { فتوكل على الله } ولا تبال بمعاداتهم { إنك على الحق المبين } وصاحب الحق حقيق بالوثوق بحفظ الله ونصره

80 - { إنك لا تسمع الموتى } تعليل آخر للأمر بالتوكل من حيث إنه يقطع طعمه عن مشايعتهم ومعاضدتهم رأسا وإنما شبهوا بالموتى لعدم انتفاعهم باستماع ما يتلى عليهم كما شبهوا بالصم في قوله : { ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين } فإن إسماعهم في هذه الحالة أبعد وقرأ ابن كثير { ولا يسمع الصم }

81 - { وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم } حيث الهداية لا تحصل إلا بالبصر وقرأ حمزة وحده ( وما أنت تهدي العمي ) { إن تسمع } أي ما يجدي إسماعك { إلا من يؤمن بآياتنا } من هو في علم الله كذلك { فهم مسلمون } مخلصون من أسلم وجهه لله

82 - { وإذا وقع القول عليهم } إذا دنا وقوع معناه وهو ما وعدوا به من البعث والعذاب { أخرجنا لهم دابة من الأرض } وهي الجساسة روي أن طولها ستون ذراعا ولها أربع قوائم وزغب وريش وجناحان لا يفوتها هارب ولا يدركها طالب وروي أنه عليه الصلاة و السلام [ سئل من أين مخرجها فقال : من أعظم المساجد حرمة على الله ] يعني المسجد الحرام { تكلمهم } من الكلام وقيل من الكلم إذ قرئ ( تكلمهم ) وروي أنها تخرج ومعها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما الصلاة والسلام فتنكت بالعصا في مسجد المؤمن نكتة بيضاء فيبيض وجهه وبالخاتم في أنف الكافر نكتة سوداء فيسود وجهه { أن الناس كانوا بآياتنا } خروجها وسائر أحوالها فإنها من آيات الله تعالى وقيل القرآن وقرأ الكوفيون أن الناس بالفتح { لا يوقنون } لا يتيقنون وهو حكاية معنى قولها أو حكايتها لقول الله عز و جل أو علة خروجها أو تكلمها على حذف الجار

83 - { ويوم نحشر من كل أمة فوجا } يعني يوم القيامة { ممن يكذب بآياتنا } بيان للفوج أي فوجا مكذبين و { من } الأولى للتبعيض لأن أمة كل نبي وأهل كل قرن شامل للمصدقين والمكذبين { فهم يوزعون } يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا وهو عبارة عن كثرة عددهم وتباعد أطرافهم

84 - { حتى إذا جاؤوا } إلى المحشر { قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما } الواو للحال أي أكذبتم بها بادئ الرأي غير ناظرين فيها نظرا يحيط علمكم بكنهها وأنها حقيقة بالتصديق أو التكذيب أو للعطف أي أجمعتم بين التكذيب بها وعدم إلقاء الأذهان لتحققها { أماذا كنتم تعملون } أم أي شيء كنتم تعملونه بعد ذلك وهو للتبكيت إذ لم يفعلوا غير التكذيب من الجهل فلا يقدرون أن يقولوا فعلنا غير ذلك

85 - { ووقع القول عليهم } حل بهم العذاب الموعود وهو كبهم في النار بعد ذلك { بما ظلموا } بسبب ظلمهم وهو التكذيب بآيات الله { فهم لا ينطقون } باعتذار لشغلهم بالعذاب

86 - { ألم يروا } ليتحقق لهم التوحيد ويرشدهم إلى تجويز الحشر وبعثة الرسل لأن تعاقب النور والظلمة على وجه مخصوص غير متعين بذاته لا يكون إلا بقدرة قاهر وأن من قدر على إبدال الظلمة بالنور في مادة واحدة قدر على إبدال الموت بالحياة في مواد الأبدان وأن من جعل النهار ليبصروا فيه سببا من أسباب معاشهم لعله لا يخل بما هو مناط جميع مصالحهم في معاشهم ومعادهم { أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه } بالنوم والقرار { والنهار مبصرا } فإن أصله ليبصروا فيه فبولغ فيه بجعل الإبصار حالا من أحواله المجعول عليها بحيث لا ينفك عنها { إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون } لدلالتها على الأمور الثلاثة

87 - { ويوم ينفخ في الصور } في الصور أو القرن وقيل إنه تمثيل لانبعاث الموتى بانبعاث الجيش إذا نفخ في البوق { ففزع من في السموات ومن في الأرض } من الهول وعبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه { إلا من شاء الله } أن لا يفزع بأن يثبت قلبه قيل هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وقيل الحور و الخزنة وحملة العرش وقيل الشهداء وقيل موسى عليه الصلاة و السلام لأنه صعق مرة ولعل المراد ما يعم ذلك { وكل أتوه } حاضرون الموقف بعد النفخة الثانية أو راجعون إلى أمره وقرأ حمزة و حفص { أتوه } على الفعل وقرئ ( أتاه ) على التوحيد للفظ الكل { داخرين } صاغرين وقرئ ( دخرين )

88 - { وترى الجبال تحسبها جامدة } ثابتة في مكانها { وهي تمر مر السحاب } في السرعة وذلك لأن الأجرام الكبار إذا تحركت في سمت واحد لا تكاد تبين حركتها { صنع الله } مصدر مؤكد لنفسه وهو لمضمون الجملة المتقدمة كقوله { وعد الله } { الذي أتقن كل شيء } أحكم خلقه وسواه على ما ينبغي { إنه خبير بما تفعلون } عالم بظواهر الأفعال وبواطنها فيجازيكم عليها كما قال :

89 - { من جاء بالحسنة فله خير منها } إذ ثبت له الشريف بالخسيس والباقي بالفاني وسبعمائة بواحدة وقيل { خير منها } أي خير حاصل من جهتها وهو الجنة وقرأ ابن كثير و أبو عمرو و هشام ( خبير بما يفعلون ) بالياء والباقون بالتاء { وهم من فزع يومئذ آمنون } يعني به خوف عذاب يوم القيامة وبالأول ما يلحق الإنسان من التهيب لما يرى من الأهوال والعظائم لذلك يعم الكافر والمؤمن وقرأ الكوفيون بالتنوين لأن المراد فزع واحد من أفزاع ذلك اليوم وآمن يتعدى بالجار وبنفسه كقوله { أفأمنوا مكر الله } وقرأ الكوفيون و نافع ( يومئذ ) بفتح الميم والباقون بكسرها

90 - { ومن جاء بالسيئة } قيل بالشرك { فكبت وجوههم في النار } فكبوا فيها على وجوههم ويجوز أن يراد بالوجوه أنفسهم كما أريدت بالأيدي في قوله تعالى : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } { هل تجزون إلا ما كنتم تعملون } على الالتفات أو بإضمار القول أي قيل لهم ذلك

سورة القصص
91 - المبدأ والمعاد وشرح أحوال القيامة إشعارا بأنه قد أتم الدعوة وقد كملت وما عليه بعد إلا الاشتغال بشأنه والاستغراق في عبادة ربه وتخصيص مكة بهذه الإضافة تشريف لها وتعظيم لشأنها وقرئ ( التي حرمها ) { وله كل شيء } خلقا وملكا { وأمرت أن أكون من المسلمين } المنقادين أو الثابتين على ملة الإسلام

92 - { وأن أتلو القرآن } وأن أواظب على تلاوته لتنكشف لي حقائقه في تلاوته شيئا فشيئا أو اتباعه وقرئ ( واتل عليهم ) ( وأن أتل ) { فمن اهتدى } باتباعه إياي في ذلك { فإنما يهتدي لنفسه } فإن منافعه عائدة إليه { ومن ضل } بمخالفتي { فقل إنما أنا من المنذرين } فلا علي من وبال ضلاله شيء إذ ما على الرسول إلا البلاغ وقد بلغت

93 - { وقل الحمد لله } على نعمة النبوة أو على ما علمني ووفقني للعمل به { سيريكم آياته } القاهرة في الدنيا كوقعة بدر وخروج دابة الأرض أو في الآخرة { فتعرفونها } أنها آيات الله ولكن حين لا تنفعكم المعرفة { وما ربك بغافل عما تعملون } فلا تحسبوا أن تأخير عذابكم لغفلة عن أعمالكم وقرأ ابن كثير و أبو عمرو و حمزة و الكسائي بالياء
عن النبي صلى الله عليه و سلم [ من قرأ سورة طس كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق سليمان وكذب به وهودا وصالحا وإبراهيم وشعيبا ويخرج من قبره وهو ينادي لا إله إلا الله ]

1 - { طسم }

2 - { تلك آيات الكتاب المبين }

3 - { نتلوه عليك } نقرؤه بقراءة جبريل ويجوز أن يكون بمعنى ننزله مجازا { من نبإ موسى وفرعون } بعض نبئهما مفعول { نتلو } { بالحق } محقين { لقوم يؤمنون } لأنهم المنتفعون به

4 - { إن فرعون علا في الأرض } استئناف ( مبين ) لذلك البعض والأرض أرض مصر { وجعل أهلها شيعا } فرقا يشيعونه فيما يريد أو يشيع بعضهم بعضا في طاعته أو أصنافا في استخدامه استعمل كل صنف في عمل أو أحزابا بأن أغرى بينهم العداوة كي لا يتفقوا عليه { يستضعف طائفة منهم } وهم بنو إسرائيل والجملة حال من فاعل { جعل } أو صفة لـ { شيعا } أو استئناف وقوله : { يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم } بدل منها وكان ذلك لأن كاهنا قال له يولد مولود في بني إسرائيل يذهب ملكك على يده وذلك كان من غاية حمقه فإنه لو صدق لم يندفع بالقتل وإن كذب فما وجهه { إنه كان من المفسدين } فلذلك اجترأ على قتل خلق كثير من أولاد الأنبياء لتخيل فاسد

5 - { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض } أن نتفضل عليهم بإنقاذهم من بأسه { ونريد } حكاية حال ماضية معطوفة على { إن فرعون علا في الأرض } من حيث إنهما واقعان تفسير للـ { نبأ } أو حال من { يستضعف } ولا يلزم من مقارنة الإرادة للاستضعاف مقارنة المراد له لجواز أن يكون تعلق الإرادة به حينئذ تعلقا استقباليا مع أن منة الله بخلاصهم لما كانت قريبة الوقوع منه جاز أن تجري مجرى المقارن { ونجعلهم أئمة } مقدمين في أمر الدين { ونجعلهم الوارثين } لما كان في ملك فرعون وقومه

6 - { ونمكن لهم في الأرض } أرض مصر والشام وأصل التمكين أن تجعل للشيء مكانا يتمكن فيه ثم استعير للتسليط وإطلاق الأمر { ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم } من بني إسرائيل { ما كانوا يحذرون } من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود منهم وقرأ حمزة و الكسائي { ويري } بالياء و { فرعون وهامان وجنودهما } بالرفع

7 - { وأوحينا إلى أم موسى } بإلهام أو رؤيا { أن أرضعيه } ما أمكنك إخفاؤه { فإذا خفت عليه } بأن يحس به { فألقيه في اليم } في البحر يريد النيل { ولا تخافي } عليه ضيعه ولا شدة { ولا تحزني } لفراقه { إنا رادوه إليك } عن قريب بحيث تأمنين عليه { وجاعلوه من المرسلين } روي أنها لما ضر بها الطلق دعت قابلة من الموكلات بحبالى بني إسرائيل فعالجتها فلما وقع موسى على الأرض هالها نور بين عينيه وارتعشت مفاصلها ودخل حبه في قلبها بحيث منها من السعاية فأرضعته ثلاثة أشهر ثم ألح فرعون في طلب المواليد واجتهد العيون في تفحصها فأخذت له تابوتا فقذفته في النيل

8 - { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا } تعليل لالتقاطهم إياه بما هو عاقبته ومؤداه تشبيها له بالغرض الحامل عليه وقرأ حمزة و الكسائي { وحزنا } { إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين } في كل شيء فليس يبدع منهم أن قتلوا ألوفا لأجله ثم أخذوه يربونه ليكبر ويفعل بهم ما كانوا يحذرون أو مذنبين فعاقبهم الله تعالى بأن ربى عدوهم على أيديهم فالجملة اعتراض لتأكيد خطئهم أو لبيان الموجب لما ابتلوا به وقرئ ( خاطين ) تخفيف { خاطئين } أو ( خاطين ) الصواب إلى الخطأ

9 - { وقالت امرأة فرعون } أي لفرعون حين أخرجته من التابوت { قرة عين لي ولك } هو قرة عين لنا لأنهما لما رأياه أخرج من التابوت أحباه أو لأنه كانت له ابنة برصاء وعالجها الأطباء بريق حيوان بحري يشبه الإنسان فلطخت برصها بريقه فبرئت وفي الحديث أنه قال : [ لك لا لي ] ولو قال هو لي كما هو لك لهداه الله كما هداها { لا تقتلوه } خطاب بلفظ الجمع للتعظيم { عسى أن ينفعنا } فإن فيه مخايل اليمن ودلائل النفع وذلك لما رأت من نور بين عينيه وارتضاعه إيهامه لبنا وبرء البرصاء بريقه { أو نتخذه ولدا } أو نتبناه فإنه أهل له { وهم لا يشعرون } حال من الملتقطين أو من القائلة والمقول له أي وهم لا يشعرون أنهم على الخطأ في التقاطه أو في طمع النفع منه والتبني له أو من أحد ضميري نتخذه على أن الضمير للناس أي { وهم لا يشعرون } أنه لغيرنا وقد تبنيناه

10 - { وأصبح فؤاد أم موسى فارغا } صفرا من العقل لما دهمها من الخوف والحيرة حين سمعت بوقوعه في يد فرعون كقوله تعالى : { وأفئدتهم هواء } أي خلاء لا عقول فيها ويؤيده أنه قرئ ( فراغا ) من قولهم دماؤهم بينهم فرغ أي هدر أو من الهم لفرط وثوقها بوعد الله تعالى أو سماعها أن فرعون عطف عليه وتبناه { إن كادت لتبدي به } أنها كادت لتظهر بموسى أي بأمره وقصته من فرط الضجر أو الفرح لتبنيه { لولا أن ربطنا على قلبها } بالصبر والثبات { لتكون من المؤمنين } من المصدقين بوعد الله أو من الواثقين بحفظه لا بتبني فرعون وعطفه وقرئ موسى إجراء للضمة في جوار الواو مجرى ضمتها في استدعاء همزها همز واو وجوه وهو علة الربط وجواب { لا } محذوف دل عليه ما قبله

11 - { وقالت لأخته } مريم { قصيه } اتبعي أثره وتتبعي خبره { فبصرت به عن جنب } عن بعد وقرئ ( عن جانب ) و ( عن جنب ) وهو بمعناه { وهم لا يشعرون } أنها تقص أو أنها أخته

12 - { وحرمنا عليه المراضع } ومنعناه أن يرتضع من المرضعات جمع مرضع أو مرضع وهو الرضاع أو موضعه يعني الثدي { من قبل } من قبل قصها أثره { فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم } لأجلكم { وهم له ناصحون } لا يقصرون في إرضاعه وتربيته روي أن هامان لما سمعه قال : إنها لتعرفه وأهله فخذوها حتى تخبر بحاله فقالت : إنما أردت وهم للملك ناصحون فأمرها فرعون أن تأتي بمن يكفله فأتت بأمها وموسى على يد فرعون يبكي وهو يعلله فلما وجد ريحها استأنس والتقم ثديها فقال لها : من أنت منه فقد أبى كل ثدي إلا ثديك ؟ فقالت : إني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن لا أوتى بصبي إلا قبلني فدفعه إليها وأجرى عليها فرجعت به إلى بيتها من يومها وهو قوله تعالى :

13 - { فرددناه إلى أمه كي تقر عينها } بولدها { ولا تحزن } بفراقه { ولتعلم أن وعد الله حق } علم مشاهدة { ولكن أكثرهم لا يعلمون } أن وعده حق فيرتابون فيه أو أن الغرض الأصلي من الرد علمها بذلك وما سواه تبع وفيه تعريض بما فرط منها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون

14 - { ولما بلغ أشده } مبلغه الذي لا يزيد عليه نشؤه وذلك من ثلاثين إلى أربعين سنة فإن العقل يكمل حينئذ وروي أنه لم يبعث نبي إلا على رأس الأربعين سنة { واستوى } قده أو عقله { آتيناه حكما } أي نبوة { وعلما } بالدين أو علم الحكماء والعلماء وسمتهم قبل استنباته فلا يقول ولا يفعل ما يستجهل فيه وهو أوفق لنظم القصة لأن الاستنباء بعد الهجرة في المراجعة { وكذلك } ومثل ذلك الذي فعلنا بموسى وأمه { نجزي المحسنين } على إحسانهم

15 - { ودخل المدينة } ودخل مصر آتيا من قصر فرعون وقيل منف أو حائين أو عين شمس من نواحيها { على حين غفلة من أهلها } في وقت لا يعتاد دخولها ولا يتوقعونه فيه قيل كان وقت القيلولة وقيل بين العشاءين { فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه } أحدهما ممن شايعه على دينه وهم بنو إسرائيل والآخر من مخالفيه وهم القبط والإشارة على الحكاية { فاستغاثه الذي من شيعته على الذي } هو { من عدوه } فسأله أن يغيثه بالإعانة ولذلك عدى بـ { على } وقرئ ( استعانه ) { فوكزه موسى } فضرب القبطي بجمع كفه وقرئ فلكزه أي فضرب به صدره { فقضى عليه } فقتله وأصله فأنهى حياته من قوله { وقضينا إليه ذلك الأمر } { قال هذا من عمل الشيطان } لأنه لم يؤمر بقتل الكفار أو لأنه كان مأمونا فيهم فلم يكن له اغتيالهم ولا يقدح ذلك في عصمته لكونه خطأ وإنما عده من عمل الشيطان وسماه ظلما واستغفر منه على عادتهم في استعظام محقرات فرطت منهم { إنه عدو مضل مبين } ظاهر العداوة

16 - { قال رب إني ظلمت نفسي } بقتله { فاغفر لي } ذنبي { فغفر له } لاستغفاره { إنه هو الغفور } لذنوب عباده { الرحيم } بهم

17 - { قال رب بما أنعمت علي } قسم محذوف الجواب أي أقسم بإنعامك علي بالمغفرة وغيرها لأتوبن { فلن أكون ظهيرا للمجرمين } أو استعطاف أي بحق إنعامك علي اعصمني فلن أكون معينا لمن أدت معاونته إلى جرم وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أنه لم يستثن فابتلي به مرة أخرى وقيل معناه بما أنعمت علي من القوة أعين أولياءك فلن أستعملها في مظاهرة أعدائك

18 - { فأصبح في المدينة خائفا يترقب } يترقب الاستقادة { فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه } يستغيثه مشتق من الصراخ { قال له موسى إنك لغوي مبين } بين الغواية لأنك تسببت لقتلك رجل وتقاتل آخر

19 - { فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما } لموسى والإسرائيلي لأنه لم يكن على دينهما ولأن القبط كانوا أعداء لبني إسرائيل { قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس } قاله الإسرائيلي لأنه لما سماه غويا ظن أنه يبطش عليه أو القبطي وكأنه توهم من قوله أن الذي قتل القبطي بالأمس لهذا الإسرائيلي { إن تريد } ما تريد { إلا أن تكون جبارا في الأرض } تطاول على الناس ولا تنظر في العواقب { وما تريد أن تكون من المصلحين } بين الناس فتدفع التخاصم بالتي هي أحسن ولما قال هذا انتشر الحديث وارتقى إلى فرعون وملئه وهموا بقتله فخرج مؤمن آل فرعون وهو ابن عمه ليخبره كما قال تعالى :

20 - { وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى } يسرع صفة رجل أو حال منه إذا جعل من أقصى المدينة صفة له لا صلة لجاء لأن تخصيصه لها يلحقه بالمعارف { قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك } يتشاورون بسببك وإنما سمي التشاور ائتمارا لأن كلا من المتشاورين يأمر الآخر ويأتمر { فاخرج إني لك من الناصحين } اللام للبيان وليس صلة لـ { الناصحين } لأن معمول الصلة لا يتقدم الموصول

21 - { فخرج منها } من المدينة { خائفا يترقب } لحوق طالب { قال رب نجني من القوم الظالمين } خلصني منهم واحفظني من لحوقهم

22 - { ولما توجه تلقاء مدين } قبالة مدين قرية شعيب سميت باسم مدين بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام ولم تكن في سلطان فرعون وكان بينها وبين مصر مسيرة ثمان { قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل } توكلا على الله وحسن ظن به وكان لا يعرف الطريق فعن له ثلاث طرق فأخذ في أوسطها وجاء الطلاب عقبيه فأخذوا الآخرين

23 - { ولما ورد ماء مدين } وصل إليه وهو بئر كانوا يسقون منها { وجد عليه } وجد فوق شفيرها { أمة من الناس } جماعة كثيرة مختلفين { يسقون } مواشيهم { ووجد من دونهم } في مكان أسفل من مكانهم { امرأتين تذودان } تمنعان أغنامهما ن الماء لئلا تختلط بأغنامهم { قال ما خطبكما } ما شأنكما تذودان { قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء } تصرف الرعاة مواشيهم عن الماء حذرا عن مزاحمة الرجال وحذف المفعول لأن الغرض هو بيان ما يدل على عفتهما ويدعوه إلى السقي لهما ثم دونه وقرأ أبو عمرو و ابن عامر ( يصدر ) أي ينصرف وقرئ ( الرعاء ) بالضم وهو اسم جمع كالرخال { وأبونا شيخ كبير } كبير السن لا يستطيع أن يخرج للسقي فيرسلنا اضطرارا

24 - { فسقى لهما } مواشيهما رحمة عليهما قيل كانت الرعاة يضعون على رأس البئر حجرا لا يقله إلا سبعة رجال أو أكثر فأقله وحده مع ما كان به من الوصب والجوع وجراحة القدم وقيل كانت بئرا أخرى عليه صخرة فرفعها واستقى منها { ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي } لأي شيء أنزلت إلي { من خير } قليل أو كثير وحمله الأكثرون على الطعام { فقير } محتاج سائل ولذلك عدي باللام وقيل معناه إني لما أنزلت إلى من خير الدين صرت فقيرا في الدنيا لأنه كان في سعة فرعون والغرض منه إظهار التبجح والشكر على ذلك

25 - { فجاءته إحداهما تمشي على استحياء } أي مستحيية متخفرة قيل كانت الصغرى منهما وقيل الكبرى واسمها صفوراء أو صفراء وهي التي تزوجها موسى عليه السلام { قالت إن أبي يدعوك ليجزيك } ليكافئك { أجر ما سقيت لنا } جزاء سقيك لنا ولعل موسى عليه الصلاة و السلام إنما أجابهما ليتبرك برؤية الشيخ ويستظهر بمعرفته لا طمعا في الأجر بل روي أنه لما جاءه قدم إليه طعاما فامتنع عنه وقال : إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بالدنيا حتى قال له شعيب عليه الصلاة و السلام : هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا هذا وأن كل من فعل معروفا فأهدي بشيء لم يحرم أخذه { فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين } يريد فرعون وقومه

26 - { قالت إحداهما } يعني التي استدعته { يا أبت استأجره } لرعي الغنم { إن خير من استأجرت القوي الأمين } تعليل شائع يجري مجرى الدليل على أنه حقيق بالاستئجار وللمبالغة فيه جعل { خير } اسما وذكر الفعل بلفظ الماضي للدلالة على أنه امرؤ مجرب معروف روي أن شعيبا قال لها وما أعلمك بقوته فذكرت إقلال الحجر وأنه صوب رأسه حتى بلغته رسالته وأمرها بالمشي خلفه

27 - { قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني } أي تأجر نفسك مني أو تكون لي أجيرا أو تثيبني من أجرك الله { ثماني حجج } ظرف على الأولين ومفعول به على الثالث بإضمار مضاف أي رعيه ثماني حجج { فإن أتممت عشرا } عملت عشر حجج { فمن عندك } فإتمامه من عندك تفضلا لا من عندي إلزاما عليك وهذا استدعاء العقد لا نفسه فلعله جرى على أجرة معينة وبمهر آخر أو برعيه الأجل الأول ووعد له أن يوفي الأخير إن تيسر له قبل العقد وكانت الأغنام للمزوجة مع أنه يمكن اختلاف الشرائع في ذلك { وما أريد أن أشق عليك } بإلزام إتمام العشر أو المناقشة في مراعاة الأوقات واستيفاء الأعمال واشتقاق المشقة من الشق فإن ما يصعب عليك يشق عليك اعتقادك في إطاقته ورأيك في مزاولته { ستجدني إن شاء الله من الصالحين } في حسن المعاملة ولين الجانب والوفاء بالمعاهدة

28 - { قال ذلك بيني وبينك } أي ذلك الذي عاهدتني فيه قائم بيننا لا نخرج عنه { أيما الأجلين } أطولهما أو أقصرهما { قضيت } وفيتك إياه { فلا عدوان علي } لا تعتدي علي بطلب الزيادة فكما لا أطالب بالزيادة على العشر لا أطالب بالزيادة على الثمان أو فلا أكون متعديا بترك الزيادة عليه كقولك لا إثم علي وهو أبلغ في إثبات الخيرة وتساوي الأجلين في القضاء من أن يقال إن قضيت الأقصر فلا عدوان علي وقرئ { أيما } كقوله :
( تنظرت نضرا والسماكين أيما ... علي من الغيث استهلت مواطره )
وأي الأجلين ما قضيت فتكون ما مزيدة لتأكيد الفعل أي : أي الأجلين جردت عزمي لقضائه وعدوان بالكسر { والله على ما نقول } من المشارطة { وكيل } شاهد حفيظ

29 - { فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله } بامرأته روي أنه قضى أقصى الأجلين ومكث بعد ذلك عنده عشرا أخرى ثم عزم على الرجوع { آنس من جانب الطور نارا } أبصر من الجهة التي تلي الطور { قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر } بخبر الطريق { أو جذوة } عود غليظ سواء كان في رأسه نار أو لم يكن قال :
( باتت حواطب ليلى يلتمسن لها ... جزل الجذى غير خوار ولا دعر )
وقال آخر :
( وألقى على قبس من النار جذوة ... شديدا عليه حرها والتهابها )
ولذلك بينه بقوله : { من النار } وقرأ عاصم بالفتح و حمزة بالضم وكلها لغات { لعلكم تصطلون } تستدفئون بها

30 - { فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن } أتاه النداء من الشاطئ الأيمن لموسى { في البقعة المباركة } متصل بالشاطئ أو صلة لـ { نودي } { من الشجرة } بدل من شاطئ بدل الاشتمال لأنها كانت ثابتة على الشاطئ { أن يا موسى } أي يا موسى { إني أنا الله رب العالمين } هذا وإن خالف ما في ( طه ) و ( النمل ) لفظا فهو طبقه في المقصود

31 - { وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز } أي فألقاها فصارت ثعبانا واهتزت { فلما رآها تهتز } { كأنها جان } في الهيئة والجثة أو في السرعة { ولى مدبرا } منهزما من الخوف { ولم يعقب } ولم يرجع { يا موسى } نودي يا موسى { أقبل ولا تخف إنك من الآمنين } من المخاوف فإنه لا { يخاف لدي المرسلون }

32 - { اسلك يدك في جيبك } أدخلها { تخرج بيضاء من غير سوء } عيب { واضمم إليك جناحك } يديك المبسوطتين تنقي بهما الحية كالخائف الفزع بإدخال اليمنى تحت عضد اليسرى وبالعكس أو بإدخالهما في الجيب فيكون تكريرا لغرض آخر وهو أن يكون ذلك في وجه العدو إظهار جراءة ومبدأ لظهور المعجزة ويجوز أ يراد بالضم التجلد والثبات عند انقلاب العصا حية استعارة من حال الطائر فإنه إذا خاف نشر جناحيه وذا أمن واطمأن ضمهما إليه { من الرهب } من أجل الرهب أي إذا عراك الخوف فافعل ذلك تجلدا وضبطا لنفسك وقرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي و أبو بكر بضم الراء وسكون الهاء وقرئ بعضهما وقرأ حفص بالفتح والسكون والكل لغات { فذانك } إشارة إلى العصا واليد وشدده ابن كثير و أبو عمرو و رويس { برهانان } حجتان وبرهان فعلان لقولهم أبره الرجل إذا جاء بالبرهان من قولهم بره الرجل إذا ابيض ويقال برهاء وبرهرهة للمرأة البيضاء وقيل فعلال لقولهم برهن { من ربك } مرسلا بهما { إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين } فكانوا أحقاء بأن يرسل إليهم

33 - { قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون } بها

34 - { وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا } معينا وهو في الأصل اسم ما يعان به كالدفء وقرأ نافع ( ردا ) بالتخفيف { يصدقني } بتخليص الحق وتقرير الحجة وتزييف الشبهة { إني أخاف أن يكذبون } ولساني لا يطاوعني عند المحاجة وقيل المراد تصديق القوم لتقريره وتوضيحه لكنه أسند إليه إسناد الفعل إلى السبب وقرأ عاصم و حمزة { يصدقني } بالرفع على أنه صفة والجواب محذوف

35 - { قال سنشد عضدك بأخيك } سنقويك به فإن قوة الشخص بشدة اليد على مزاولة الأمور ولذلك يعبر عنه باليد وشدتها بشدة العضد { ونجعل لكما سلطانا } غلبة أو حجة { فلا يصلون إليكما } باستيلاء أو حجاج { بآياتنا } متعلق بمحذوف أي اذهبا بآياتنا أو بـ { نجعل } أي نسلطكما بها أو بمعنى ( لا يصلون ) أي تمتنعون منهم أو قسم جوابه ( لا يصلون ) أو بيان لـ { الغالبون } في قوله : { أنتما ومن اتبعكما الغالبون } بمعنى أنه صلة لما بينه أو صلة له على أن اللام فيه للتعريف لا بمعنى الذي

36 - { فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى } سحر تختلقه لم يفعل قبل مثله أو سحر تعمله ثم تفتريه على الله أو سحر موصوف بالافتراء كسائر أنواع السحر { وما سمعنا بهذا } يعنون السحر أو ادعاء النبوة { في آبائنا الأولين } كائنا في أيامهم

37 - { وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده } فيعلم أني محق وأنتم مبطلون وقرأ ابن كثير ( قال ) بغير واو لأنه قال ما قاله جوابا لمقالهم ووجه العطف أن المراد حكاية القولين ليوازن الناظر بينهما فيميز صحيحهما من الفاسد { ومن تكون له عاقبة الدار } العاقبة المحمودة فإن المراد بالدار الدنيا وعاقبتها الأصلية هي الجنة لأنها خلقت مجازا إلى الآخرة والمقصود منها بالذات هو الثواب والعقاب إنما قصد بالعرض وقرأ حمزة و الكسائي { يكون } بالياء { إنه لا يفلح الظالمون } لا يفوزون بالهدى في الدنيا وحسن العاقبة في العقبى

38 - { وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري } نفى علمه بإله غيره دون وجوده إذ لم يكن عنده ما يقتضي الجزم بعدمه ولذلك أمر ببناء الصرح ليصعد إليه ويتطلع على الحال بقوله : { فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى } كأنه توهم أنه لو كان لكان جسما في السماء يمكن الترقي إليه ثم قال : { وإني لأظنه من الكاذبين } أو أراد أن يبني له رصدا يترصد منه أوضاع الكواكب فيرى هل فيها ما يدل على لعثة رسول وتبدل دولة وقيل المراد بنفي العلم نفي المعلوم كقوله تعالى : { أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض } فإن معناه بما ليس فيهن وهذا من خواص العلوم الفعلية فإنها لازمة لتحقق معلوماتها فيلزم من انتفائها لك انتفاؤها ولا كذلك العلوم الانفعالية قيل أول من اتخذ الآجر فرعون ولذلك أمر باتخاذه على وجه يتضمن تعليم الصنعة مع ما فيه من تعظم ولذلك نادى هامان باسمه بـ { يا } في وسط الكلام

39 - { واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق } بغير استحقاق { وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون } بالنشور وقرأ نافع و حمزة و الكسائي بفتح الياء وكسر الجيم

40 - { فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم } كما مر بيانه وفيه فخامة وتعظيم لشأن الآخذ واستحقار للمأخوذين كأنه أخذهم مع كثرتهم في كف وطرحهم في اليم ونظيره قوله تعالى : { وما قدروا الله حق قدره } { والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه } { فانظر } يا محمد { كيف كان عاقبة الظالمين } وحذر قومك عن مثلها

41 - { وجعلناهم أئمة } قدوة للضلال بالحمل على الإضلال وقيل بالتسمية كقوله تعالى : { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا } أو بمنع الألطاف الصارفة عنه { يدعون إلى النار } إلى موجباتها من الكفر والمعاصي { ويوم القيامة لا ينصرون } بدفع العذاب عنهم

42 - { وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة } طردا عن الرحمة أو لعن اللاعنين يلعنهم الملائكة والمؤمنون { ويوم القيامة هم من المقبوحين } من المطرودين أو ممن قبح وجوههم

43 - { ولقد آتينا موسى الكتاب } التوراة { من بعد ما أهلكنا القرون الأولى } أقوام نوح وهود وصالح ولوط { بصائر للناس } أنوارا لقلوبهم تتبصر بها الحقائق وتميز بين الحق والباطل { وهدى } إلى الشرائع التي هي سبل الله تعالى { ورحمة } لأنهم لو عملوا بها نالوا رحمة الله سبحانه وتعالى { لعلهم يتذكرون } ليكونوا على حال يرجى منهم التذكر وقد فسر بالإرادة وفيه ما عرفت

44 - { وما كنت بجانب الغربي } يريد الوادي أو الطور فإنه كان في شق الغرب من مقام موسى أو الجانب الغربي منه والخطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم أي ما كنت حاضرا { إذ قضينا إلى موسى الأمر } إذ أوحينا إليه الأمر الذي أردنا تعريفه { وما كنت من الشاهدين } للوحي إليه أو على الوحي إليه وهم السبعون المختارون الميقات والمراد الدلالة على أن إخباره عن ذلك من قبيل الإخبار عن المغيبات التي لا تعرف إلا بالوحي ولذلك استدرك عنه بقوله :

45 - { ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر } أي ولكنا أوحينا إليك لأنا أنشأنا قرونا مختلفة بعد موسى فتطاولت عليهم المدد فحرفت الأخبار وتغيرت الشرائع واندرست العلوم فحذفت المستدرك وأقام سببه مقامه { وما كنت ثاويا } مقيما { في أهل مدين } شعيب والمؤمنين به { تتلو عليهم } تقرأ عليهم تعلما منهم { آياتنا } التي فيها قصتهم { ولكنا كنا مرسلين } إياك ومخبرين لك بها

46 - { وما كنت بجانب الطور إذ نادينا } لعل المراد به وقت ما أعطاه الله التوراة وبالأول حين ما استنبأه لأنهما المذكوران في القصد { ولكن } علمناك { رحمة من ربك } وقرئت بالرفع على هذه { رحمة من ربك } { لتنذر قوما } متعلق بالفعل المحذوف { ما أتاهم من نذير من قبلك } لوقوعهم في فترة بينك وبين عيسى وهي خمسمائة وخمسون سنة أو بينك وبين إسماعيل على أن دعوة موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام كانت مختصة ببني إسرائيل وما حواليهم { لعلهم يتذكرون } يتعظون

47 - { ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا } { لولا } الأولى امتناعية والثانية تحضيضية واقعة في سياقها لأنها إنما أجيبت بالفاء تشبيها لها بالأمر مفعول يقولوا المعطوف على تصيبهم بالفاء المعطية معنى السببية المنبهة على أن القول هو المقصود بأن يكون سببا لانتفاء ما يجاب به وأنه لا يصدر عنهم حتى تلجئهم العقوبة والجواب محذوف والمعنى : لولا قولهم إذا أصابتهم عقوبة بسبب كفرهم ومعاصيهم ربنا هلا أرسلت إلينا رسولا يبلغنا آياتك فنتبعها ونكون من المصدقين ما أرسلناك أي إنما أرسلناك قطعا لعذرهم وإلزاما للحجة عليهم { فنتبع آياتك } يعني الرسول المصدق بنوع من المعجزات { ونكون من المؤمنين }

48 - { فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى } من الكتاب جملة واليد والعصا وغيرها اقتراحا وتعنتا { أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل } يعني أبناء جنسهم في الرأي والمذهب وهم كفرة زمان موسى أو كان فرعون عربيا من أولاد عاد { قالوا سحران } يعني موسى وهارون أو موسى ومحمد عليهما السلام { تظاهرا } تعاونا بإظهار تلك الخوارق أو بتوافق الكتابين وقرأ الكوفيون ( سحران ) بتقدير مضاف أو جعلهما سحرين مبالغة أو إسناد تظاهرهما إلى فعلهما دلالة على سبب الإعجاز وقرئ ظاهرا على الإدغام { وقالوا إنا بكل كافرون } أي بكل منهما أو بكل الأنبياء

49 - { قل فاتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما } مما أنزل على موسى وعلى محمد صلى الله عليه و سلم وإضمارهما لدلالة المعنى وهو يؤيد أن المراد0 بالساحرين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام { أتبعه إن كنتم صادقين } إنا ساحران مختلفان وهذا من الشروط التي يراد بها الإلزام والتبكيت ولعل مجيء حرف الشك للتهكم بهم

50 - { فإن لم يستجيبوا لك } دعاءك إلى الإتيان بالكتاب الأهدى فحذف المفعول للعلم به ولأن فعل الاستجابة يعدى بنفسه إلى الدعاء وباللام إلى الداعي فإذا عدي إليه حذف الدعاء غالبا كقوله :
( وداع دعا يا من يجيب إلى الندا ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب )
{ فاعلم أنما يتبعون أهواءهم } إذ لو اتبعوا حجة لأتوا بها { ومن أضل ممن اتبع هواه } استفهام بمعنى النفي { بغير هدى من الله } في موضع الحال للتأكيد أو التقييد فإن هوى النفس قد يوافق الحق { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } الذين ظلموا أنفسهم بالانهماك في اتباع الهوى

51 - { ولقد وصلنا لهم القول } أتبعنا بعضه بعضا في الإنزال ليتصل التذكير أو في النظم لتقرر الدعوة بالحجة والمواعظ بالمواعيد والنصائح بالعبر { لعلهم يتذكرون } فيؤمنون ويطيعون

52 - { الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون } نزلت في مؤمني أهل الكتاب وقيل في أربعين من أهل الإنجيل اثنان وثلاثون جاءوا مع جعفر من الحبشة وثمانية من الشام والضمير في { من قبله } للقرآن كالمستكن في :

53 - { وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به } أي بأنه كلام الله تعالى { إنه الحق من ربنا } استئناف لبيان ما أ 'جب إيمانهم به { إنا كنا من قبله مسلمين } استئناف آخر للدلالة على أن إيمانهم به ليس مما أحدثوه حينئذ وإنما هو أمر تقادم عهده لما رأوا ذكره في الكتب المتقدمة وكونهم على دين الإسلام قبل نزول القرآن أو تلاوته عليهم باعتقادهم صحته في الجملة

54 - { أولئك يؤتون أجرهم مرتين } مرة على إيمانهم بكتابهم ومرة على إيمانهم بالقرآن { بما صبروا } بصبرهم وثباتهم على الإيمانين أو على الإيمان بالقرآن قبل النزول وبعده أو على أذى المشركين ومن هاجرهم من أهل دينهم { ويدرؤون بالحسنة السيئة } ويدفعون بالطاعة المعصية لقوله صلى الله عليه و سلم [ أتبع السيئة الحسنة تمحها ] { ومما رزقناهم ينفقون } في سبيل الخير

55 - { وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه } تكرما { وقالوا } للاغين { لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم } متاركة لهم وتوديعا أو دعاء لهم بالسلامة عما هم فيه { لا نبتغي الجاهلين } لا نطلب صحبتهم ولا نريدها

56 - { إنك لا تهدي من أحببت } لا تقدر على أن تدخلهم في الإسلام { ولكن الله يهدي من يشاء } فيدخله في الإسلام { وهو أعلم بالمهتدين } بالمستعدين لذلك والجمهور على أنها [ نزلت في أبي طالب فإنه لما احتضر جاءه رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال : يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله قال : يا ابن أخي قد علمت إنك لصادق ولكن أكره أن يقال خدع عند الموت ]

57 - { وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا } نخرج منها نزلت في الحرث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف [ أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : نحن نعلم أنك على الحق ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب وإنما نحن أكلة رأس أن يتخطفونا من أرضنا فرد الله عليهم بقوله : { أولم نمكن لهم حرما آمنا } ] أو لم نجعل مكانهم حرما ذا أمن بحرمة البيت الذي فيه يتناحر العرب حوله وهم آمنون فيه { يجبى إليه } يحمل إليه ويجمع فيه وقرأ نافع و يعقوب في رواية بالتاء { ثمرات كل شيء } من كل أوب { رزقا من لدنا } فإذا كان هذا حالهم وهم عبدة الأصنام فكيف نعرضهم للتخوف والتخطف إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة التوحيد { ولكن أكثرهم لا يعلمون } جهلة لا يتفطنون له ولا يتفكرون ليعموه وقيل إنه متعلق بقوله { من لدنا } أي قليل منهم يتدبرون فيعلمون أن ذلك رزق من عند الله وأكثرهم لا يعلمون إذ لو علموا لما خافوا غيره وانتصاب { رزقا } على المصدر من معنى { يجبى } أو حال من الـ { ثمرات } لتخصصها بالإضافة ثم بين أن الأمر بالعكس فإنهم أحقاء بأن يخافوا من بأس الله على ما هم عليه بقوله :

58 - { وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها } أي وكم من أهل قرية كانت حالهم كحالهم في الأمن وخفض العيش حتى أشروا فدمر الله عليهم وخرب ديارهم { فتلك مساكنهم } خاوية { لم تسكن من بعدهم إلا قليلا } من السكنى إذ لا يسكنها إلا المارة يوما أو بعض يوم أو لا يبقى من يسكنها من شؤم معاصيهم { وكنا نحن الوارثين } منهم إذ لم يخلفهم أحد يتصرف تصرفهم في ديارهم وسائر متصرفاتهم وانتصاب { معيشتها } بنزع الخافض أو بجعلها ظرفا بنفسها كقولك : زيد ظني مقيم أو بإضمار زمان مضاف إليها أو مفعولا على تضمين بطرت معنى كفرت

59 - { وما كان ربك } وما كانت عادته { مهلك القرى حتى يبعث في أمها } في أصلها التي هي أعمالها لأن أهلها تكون وأفطن وأنبل { رسولا يتلو عليهم آياتنا } لإلزام الحجة وقطع المعذرة { وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون } بتكذيب الرسل والعتو في الكفر

60 - { وما أوتيتم من شيء } من أسباب الدنيا { فمتاع الحياة الدنيا وزينتها } تتمتعون وتتزينون به مدة حياتكم المنقضية { وما عند الله } وهو ثوابه { خير } في نفسه من ذلك لأنه لذة خاصة وبهجة كاملة { وأبقى } لأنه أبدى { أفلا تعقلون } فتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير وقرأ أبو عمرو بالياء وهو أبلغ في الموعظة

61 - { أفمن وعدناه وعدا حسنا } وعدا بالجنة فإن حسن الوعد يحسن الموعود { فهو لاقيه } مدركه لا محالة لامتناع الخلف في وعده ولذلك عطفه بالفاء المعطية معنى السببية { كمن متعناه متاع الحياة الدنيا } الذي هو مشوب بالآلام مكدر بالمتاعب مستعقب بالتحسر على الانقطاع { ثم هو يوم القيامة من المحضرين } للحساب أو العذاب و { ثم } للتراخي في الزمان أو الرتبة وقرأ نافع و ابن عامر في رواية و الكسائي { ثم هو } بسكون الهاء تشبيها للمنفصل بالمتصل وهذه الآية كالنتيجة للتي قبلها ولذلك رتبت عليها بالفاء

62 - { ويوم يناديهم } عطف على يوم القيامة أو منصوب باذكر { فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون } أي الذين تزعمونهم شركائي فحذف المفعولان لدلالة الكلام عليهما

63 - { قال الذين حق عليهم القول } بثبوت مقتضاه وحصول مؤاده وهو قوله تعالى : { لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } وغيره من آيات الوعيد { ربنا هؤلاء الذين أغوينا } أي هؤلاء الذين أغويناهم فحذف الراجع إلى الموصول { أغويناهم كما غوينا } أي أغويناهم فغووا غيا مثل ما غوينا وهو استئناف للدلالة على أنهم غووا باختيارهم وأنهم لم يفعلوا بهم ل وسوسة وتسويلا ويجوز أن يكون { الذين } صفة و { أغويناهم } الخبر لأجل ما اتصل به فإفادة زيادة على الصفة وهو إن كان فضلة لكنه صار من اللوازم { تبرأنا إليك } منهم ومما اختاره من الكفر هوى منهم وهو تقرير للجملة المتقدمة ولذلك خلت عن العاطف وكذا { ما كانوا إيانا يعبدون } أي ما كانوا يعبدوننا وإنما كانوا يعبدون أهواءهم وقيل { ما } مصدرية متصلة بـ { تبرأنا } أي تبرأنا من عبادتهم إيانا

64 - { وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم } من فرط الحيرة { فلم يستجيبوا لهم } لعجزهم عن الإجابة والنصرة { ورأوا العذاب } لازما بهم { لو أنهم كانوا يهتدون } لوجه من الحيل يدفعون به العذاب أو إلى الحق لما رأوا العذاب { لو } للتمني أي تمنوا أنهم كانوا مهتدين

65 - { ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين } عطف على الأول فإنه تعالى يسأل أولا عن إشراكهم به ثم عن تكذيبهم الأنبياء

66 - { فعميت عليهم الأنباء يومئذ } فصارت الأنباء كالعمي عليهم لا تهتدي إليهم وأصله فعموا عن الأنباء لكنه عكس مبالغة ودلالة على أن ما يحضر الذهن إنما يقبض ويرد عليه من خارج فإذا أخطأه لم يكن له حيلة إلى استحضاره والمراد بالأنباء ما أجابوا به الرسل أو ما يعمها وغيرها فإذا كانت الرسل يتعتعون في الجواب عن مثل ذلك من الهول ويفوضون إلى علم الله تعالى فما ظنك بالضلال من أممهم وتعدية الفعل بعلى لتضمنه معنى الخفاء { فهم لا يتساءلون } لا يسأل بعضهم بعضا عن الجواب لفرط الدهشة والعلم بأنه مثله في العجز

67 - { فأما من تاب } من الشرك { وآمن وعمل صالحا } وجمع بين الإيمان والعمل الصالح { فعسى أن يكون من المفلحين } عند الله وعسى تحقيق على عادة الكرام أو ترج من التائب بمعنى فليتوقع أن يفلح

68 - { وربك يخلق ما يشاء ويختار } لا موجب عليه ولا مانع له { ما كان لهم الخيرة } أي التخير كالطيرة بمعنى التطير وظاهره نفي الاختيار عنهم رأسا والأمر كذلك عند التحقيق فإن اختيار العباد مخلوق باختيار الله منوط بدواع لا اختيار لهم فيها وقيل المراد أنه ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه ولذلك خلا عن العاطف ويؤيده ما روي أنه نزل في قولهم { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } وقيل { ما } موصولة مفعول لـ { يختار } والراجع إليه محذوف والمعنى : ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة أي الخير والصلاح { سبحان الله } تنزيه له أن ينازعه أحد أو يزاحم اختياره اختيار { وتعالى عما يشركون } عن إشراكهم أو مشاركة ما يشركونه

69 - { وربك يعلم ما تكن صدورهم } كعداوة الرسول وحقده { وما يعلنون } كالطعن فيه

70 - { وهو الله } المستحق للعبادة { لا إله إلا هو } لا أحد يستحقها إلا هو { له الحمد في الأولى والآخرة } لأنه المولى للنعم كلها عاجلها وآجلها يحمده المؤمنون في الآخرة كما حمدوه في الدنيا بقولهم { الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن } { الحمد لله الذي صدقنا وعده } ابتهاجا بفضله والتذاذا بحمده { وله الحكم } القضاء النافذ في كل شيء { وإليه ترجعون } بالنشور

71 - { قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا } دائما من السرد وهو المتابعة والميم مزيدة كميم دلامص { إلى يوم القيامة } بإسكان الشمس تحت الأرض أو تحريكها حول الأفق الغائر { من إله غير الله يأتيكم بضياء } كان حقه هل إله فذكر بـ { من } على زعمهم أن غيره آلهة وعن ابن كثير ( بضئاء ) بهمزتين { أفلا تسمعون } سماع تدبر واستبصار

72 - { قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة } بإسكانها في وسط السماء أو تحريكها على مدار فوق الأفق { من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه } استراحة عن متاعب الأشغال ولعله لم يصف الضياء بما يقابله لأن الضوء نعمة في ذاته مقصود بنفسه ولا كذلك الليل ولأن منافع الضوء أكثر مما يقابله ولذلك قرن { أفلا تسمعون } و { بالليل } { أفلا تبصرون } لأن استفادة العقل من السمع أكثر من استفادته من البصر

73 - { ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه } في الليل { ولتبتغوا من فضله } في النهار بأنواع المكاسب { ولعلكم تشكرون } ولكي تعرفوا نعمة الله في ذلك فتشكروه عليها

74 - { ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون } تقريع بعد تقريع للإشعار بأنه لا شيء أجلب لغضب الله من الإشراك به أو الأول لتقرير فساد رأيهم والثاني لبيان أنه لم يكن عن سند وإنما كان محض تشه وهوى

75 - { ونزعنا } وأخرجنا { من كل أمة شهيدا } وهو نبيهم يشهد عليهم بما كانوا عليه { فقلنا } للأمم { هاتوا برهانكم } على صحة ما كنتم تدينون به { فعلموا } حينئذ { أن الحق لله } في الألوهية لا يشاركه فيها أحد { وضل عنهم } وغاب عنهم غيبة الضائع { ما كانوا يفترون } من الباطل

76 - { إن قارون كان من قوم موسى } كان ابن عمه يصهر بن قاهث بن لاوي وكان ممن آمن به { فبغى عليهم } فطلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت أمره أو تكبر عليهم أو ظلمهم قيل وذلك حين ملكه فرعون على بني إسرائيل أو حسدهم لما روي أنه قال لموسى عليه السلام : لك الرسالة ولهارون الحبورة وأنا في غير شيء إلى متى أصبر قال موسى هذا صنع الله { وآتيناه من الكنوز } من الأموال المدخرة { ما إن مفاتحه } مفاتيح صناديقه جمع مفتح بالكسر وهو ما يفتح به وقيل خزائنه وقياس واحدها المفتح { لتنوء بالعصبة أولي القوة } خبر إن والجملة صلة وهو ثاني مفعولي آتى ونائبه الحمل إذا أثقله حتى أماله والعصبة والعصابة الجماعة الكثيرة واعصوصبوا اجتمعوا وقرئ ( لينوء ) بالياء على إعطاء المضاف حكم المضاف إليه { إذ قال له قومه } منصوب بـ ( تنوء ) { لا تفرح } لا تبطر والفرح بالدنيا مذموم مطلقا لأنه نتيجة حبها والرضا بها والذهول عن ذهابها فإن العلم بأن ما فيها من اللذة مفارقة لا محالة يوجب الترح كما قيل :
( أشد الغم عندي في سرور ... تيقن عنه صاحبه انتقالا )
ولذلك قال تعالى : { ولا تفرحوا بما آتاكم } وعلل النهي ها هنا بكونه مانعا من محبة الله تعالى فقال : { إن الله لا يحب الفرحين } أي بزخارف الدنيا

77 - { وابتغ فيما آتاك الله } من الغنى { الدار الآخرة } يصرفه فيما يوجبها لك فإن المقصود منه أن يكون وصلة إليها { ولا تنس } ولا تترك ترك المنسي { نصيبك من الدنيا } وهو أن تحصل بها آخرتك وتأخذ منها ما يكفيك { وأحسن } إلى عباد الله { كما أحسن الله إليك } فيما أنعم الله عليك وقيل { أحسن } بالشكر والطاعة { كما أحسن } إليك بالإنعام { ولا تبغ الفساد في الأرض } بأمر يكون علة للظلم والبغي نهي له عما كان عليه من الظلم والبغي { إن الله لا يحب المفسدين } لسوء أفعالهم

78 - { قال إنما أوتيته على علم عندي } فضلت به على الناس واستوجبت به التفوق عليهم بالجاه والمال و { على علم } في موضع الحال وهو علم التوراة وكان أعلمهم بها وقيل هو الكيمياء وقيل علم التجارة والدهقنة وسائر المكاسب وقيل العلم بكنوز يوسف و { عندي } صفة لهه أو متعلق بـ { أوتيته } كقولك : جاز هذا عندي أي في ظني واعتقادي { أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا } تعجب وتوبيخ على اغتراره بقوته وكثرة ماله مع علمه بذلك لأنه قرأه في التوراة وسمعه من حفاظ التواريخ أو رد لادعائه للعلم وتعظمه به بنفي هذا العلم عنه أي أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعى ولم يعلم هذا حتى يقي به نفسه مصارع الهالكين { ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون } سؤال استعلام فإنه تعالى مطلع عليها أو معاتبة فإنهم يعذبون بها بغتة كأنه لما هدد قارون بذكر إهلاك من قبله ممن كانوا أقوى منه وأغنى أكد ذلك بأن بين أنه لم يكن مطلعا على ما يخصهم بل الله مطلع على ذنوب المجرمين كلهم معاقبتهم عليها لا محالة

79 - { فخرج على قومه في زينته } كما قيل إنه خرج على بغلة شهباء عليه الأرجوان وعليها سرج من ذهب ومعه أربعة آلاف على زيه { قال الذين يريدون الحياة الدنيا } على ما هو عادة الناس من الرغبة { يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون } تمنوا مثله لا عينه حذرا عن الحسد { إنه لذو حظ عظيم } من الدنيا

80 - { وقال الذين أوتوا العلم } بأحوال الآخرة للمتمنين { ويلكم } دعاء بالهلاك استعمل للزجر عما لا يرتضى { ثواب الله } في الآخرة { خير لمن آمن وعمل صالحا } مما أوتي قارون بل من الدنيا وما فيها { ولا يلقاها } الضمير فيه للكلمة التي تكلم لها العلماء أو للـ { ثواب } فإنه بمعنى المثوبة أو الجنة أو الإيمان والعمل الصالح فإنهما في معنى السيرة والطريقة { إلا الصابرون } على الطاعات وعن المعاصي

81 - { فخسفنا به وبداره الأرض } روي أنه كان يؤذي موسى عليه السلام كل وقت وهو يداريه لقرابته حتى نزلت الزكاة فصالحه عن ألف على واحد فحسبه فاستكثره فعمد إلى أن يفضح موسى بين بني إسرائيل ليرفضوه فبرطل لغية لترميه بنفسها فلما كان يوم العيد قام موسى خطيبا فقال : من سرق قطعناه ومن زنى غير محصن جلدناه ومن زنى محصنا رجمناه فقال قارون ولو كنت قال : ولو كنت قال إن بني إسرائيل يزعمون أنك فحجرت بفلانة فأحضرت فناشدها موسى عليه السلام بالله أن تصدق فقالت : جعل لي قارون جعلا على أن أرميك بنفسي فخر موسى شاكيا منه إلى ربه فأوحى إليه أن مر الأرض بما شئت فقال : يا أرض خذيه فأخذته إلى ركبتيه ثم قال خذيه إلى وسطه ثم قال خذيه فأخذته إلى عنقه ثم قال خذيه فخسفت به وكان قارون يتضرع إليه في هذه الأحوال فلم يرحمه فأوحى الله إليه ما أفظك استرحمك مرارا فلم ترحمه وعزتي وجلالي لو دعاني مرة لأجبته ثم قال بنو إسرائيل : إنما فعله ليرثه فدعا الله تعالى حتى خسف بداره وأمواله { فما كان له من فئة } أعوان مشتقة من فأوت رأسه إذا ميلته { ينصرونه من دون الله } فيدفعون عنه عذابه { وما كان من المنتصرين } الممتنعين منه من قولهم نصره من عدوه فانتصر إذا منعه منه فامتنع

82 - { وأصبح الذين تمنوا مكانه } منزلته { بالأمس } منذ زمان قريب { يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر } { يبسط } { ويقدر } بمقتضى مشيئته لا لكرامة تقتضي البسط ولا لهوان يوجب القبض و ويكأن عند البصريين مركب من ( وي ) للتعجب ( وكأن ) للتشبه والمعنى : ما أشبه الأمر أن يبسط الرزق وقيل من ( ويك ) بمعنى ويلك ( وأن ) تقديره ويك اعلم أن الله { لولا أن من الله علينا } فلم يعطنا ما تمنيناه { لخسف بنا } لتوليده فينا ما ولده فيه فخسف بنا لأجله وقرأ حفص بفتح الخاء والسين { ويكأنه لا يفلح الكافرون } لنعمة الله أو المكذبون برسله وبما وعدوا لهم ثواب الآخرة

83 - { تلك الدار الآخرة } إشارة تعظيم كأنه قال : تلك التي سمعت خبرها وبلغك وصفها و { الدار } صفة والخبر : { نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض } غلبة وقهرا { ولا فسادا } ظلما على الناس كما أراد فرعون وقارون { والعاقبة } المحمودة { للمتقين } ما لا يرضاه الله

84 - { من جاء بالحسنة فله خير منها } ذاتا وقدرا ووصفا { ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات } وضع فيه الظاهر موضع الضمير تهجينا لحالهم بتكرير إسناد السيئة إليهم { إلا ما كانوا يعملون } أي إلا مثل ما كانوا يعملون فحذف المثل وأقيم { ما كانوا يعملون } مقامه مبالغة في المماثلة

85 - { إن الذي فرض عليك القرآن } أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه { لرادك إلى معاد } أي معاد وهو المقام المحمود الذي وعدك أن يبعثك فيه أو مكة التي اعتدت بها أنه من العادة رده إليها يوم الفتح كأنه لما حكم بأن { العاقبة للمتقين } وأكد ذلك بوعد المحسنين ووعيد المسيئين وعده بالعاقبة الحسنى في الدارين روي أنه لما بلغ جحفة في مهاجرة اشتاق إلى مولده ومولد آبائه فنزلت { قل ربي أعلم من جاء بالهدى } وما يستحقه من الثواب والنصر ومن منتصب بفعل يفسره أعلم { ومن هو في ضلال مبين } وما استحقه من العذاب والإذلال يعني به نفسه والمشركين وهو تقرير للوعد السابق وكذا قوله :

سورة العنكبوت
86 - كنت ترجوه { إلا رحمة من ربك } ولكن ألقاه رحمة منه ويجوز أن يكون استثناء محمولا على المعنى كأنه قال : وما ألقى إليك الكتاب إلا رحمة { فلا تكونن ظهيرا للكافرين } بمداراتهم والتحمل عنهم والإجابة إلى طلبتهم

87 - { ولا يصدنك عن آيات الله } عن قراءتها والعمل بها { بعد إذ أنزلت إليك } وقرئ { يصدنك } من أصد { وادع إلى ربك } إلى عبادته وتوحيده { ولا تكونن من المشركين } بمساعدتهم

88 - { ولا تدع مع الله إلها آخر } هذا وما قبله للتهييج وقطع أطماع المشركين عن مساعدته لهم { لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه } إلا ذاته فإن ما عداه ممكن هالك في حد ذاته معدوم { له الحكم } القضاء النافذ في الخلق { وإليه ترجعون } للجزاء بالحق عن النبي صلى الله عليه و سلم [ من قرأ طسم القصص كان له من الأجر بعدد من صدق موسى وكذب ولم يبق ملك في السموات والأرض إلا شهد له يوم القيامة أنه صادقا ]

1 - { ألم } سبق القول فيه ووقوع الاستفهام بعده دليل استقلاله بنفسه أو بما يضمر معه

2 - { أحسب الناس } الحسبان مما يتعلق بمضامين الجمل للدلالة على جهة ثبوتها ولذلك اقتضى مفعولين متلازمين أو ما يسد مسدهما كقوله : { أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } فإن معناه أحسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم { آمنا } فالترك أول مفعوليه وغير مفتونين من تمامه ولقولهم { آمنا } هو الثاني كقولك : حسبت ضربه للتأديب أو أنفسهم متروكين غير مفتونين لقولهم { آمنا } بل يمتحنهم الله بمشاق التكاليف كالمهاجرة والمجاهدة ورفض الشهوات ووظائف الطاعات وأنواع المصائب في الأنفس والأموال ليتميز المخلص من المنافق والثابت في الدين من المضطرب فيه ولينالوا بالصبر عليها عوالي الدرجات فإن مجرد الإيمان وإن كان عن خلوص لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في العذاب روي أنها نزلت في ناس من الصحابة جزعوا من أذى المشركين وقيل في عمار وقد عذب في الله تعالى وقيل في مهجع مولى عمر بن الخطاب رماه عامر بن الحضرمي بسهم يوم بدر فقتله فجزع عليه أبواه وامرأته

3 - { ولقد فتنا الذين من قبلهم } متصل بـ { أحسب } أو بـ { لا يفتنون } والمعنى أن ذلك سنة قديمة جارية في الأمم كلها فلا ينبغي أن يتوقع خلافه { فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } فليتعلقن علمه بالامتحان تعلقا حاليا يتميز به الذين صدقوا في الإيمان والذين كذبوا فيه وينوط به ثوابهم وعقابهم ولذلك قيل المعنى وليميزن أو ليجازين وقرئ ( وليعلمن ) من الإعلام أي وليعرفنهم الله الناس أو ليسمنهم بسمة يعرفون بها يوم القيامة كبياض الوجوه وسوادها

4 - { أم حسب الذين يعملون السيئات } الكفر والمعاصي فإن العمل يعم أفعال القلوب والجوارح { أن يسبقونا } أن يفوتونا فلا نقدر أن نجازيهم على مساويهم وهو ساد مسد مفعولي { حسب } لاشتماله على مسند ومسند إليه ويجوز أن يضمن { حسب } معنى قدر أو أم منقطعة والإضراب فيها لأن هذا الحسبان أبطل من الأول ولهذا عقبه به : { ساء ما يحكمون } أي بئس الذي يحكمونه أو حكما يحكمونه حكمهم هذا فحذف المخصوص بالذم

5 - { من كان يرجو لقاء الله } في الجنة وقيل المراد بلقاء الله الوصول إلى ثوابه أو إلى العاقبة من الموت والبعث والحساب والجزاء على تمثيل حاله بحال عبد قدم على سيده بعد زمان مديد وقد اطلع السيد على أحواله فأما أن يلقاه ببشر لما رضي من أفعاله أو بسخط لما سخط منها { فإن أجل الله } فإن الوقت المضروب للقائه { لآت } لجاء وإذا كان وقت اللقاء آتيا كان اللقاء كائنا لا محالة فليبادر ما يحقق أمله ويصدق رجاءه أو ما يستوجب به القربة والرضا { وهو السميع } لأقول العباد { العليم } بعقائدهم وأفعالهم

6 - { ومن جاهد } نفسه بالصبر على مضض الطاعة والكف عن الشهوات { فإنما يجاهد لنفسه } لأن منفعته لها { إن الله لغني عن العالمين } فلا حاجة
به إلى طاعتهم وإنما كلف عباده رحمة عليهم ومراعاة لصلاحهم

7 - { والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم } الكفر بالإيمان والمعاصي بما يتبعها من الطاعات { ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون } أي أحسن جزاء أعمالهم

8 - { ووصينا الإنسان بوالديه حسنا } بإيتائهما فعلا ذا حسن أو كأنه في ذاته حسن لفرط حسنه ووصى يجري مجرى أمر معنى وتصرفا وقيل هو بمعنى قال أي وقلنا له أحسن بوالديك { حسنا } وقيل { حسنا } منتصب بفعل مضمر على تقدير قول مفسر للتوصية أي قلنا أولهما أو افعل بهما { حسنا } وهو أوفق لما بعده وعليه يحسن الوقف على { بوالديه } وقرئ { حسنا } و ( إحسانا ) { وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم } بإلهيته عبر عن نفيها بنفي العلم بها إشعارا بأن ما لا يعلم صحته لا يجوز اتباعه وإن لم يعلم بطلانه فضلا عما علم بطلانه { فلا تطعهما } في ذلك فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ولا بد من إضمار القول إن لم يضمر قبل { إلي مرجعكم } مرجع من آمن منكم ومن أشرك ومن بر بوالديه ومن عق { فأنبئكم بما كنتم تعملون } بالجزاء عليه والآية نزلت في سعد بن أبي وقاص وأمه حمنة فإنها لما سمعت بإسلامه حلفت أنها لا تنتقل من الضح ولا تطعم ولا تشرب حتى يرتد ولبثت ثلاثة أيام كذلك وكذا التي في ( لقمان ) و ( الأحقاف )

9 - { والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين } في جملتهم والكمال في الصلاح منتهى درجات المؤمنين ومتمنى أنبياء الله المرسلين أو في مدخلهم وهو الجنة

10 - { ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله } بأن عذبهم الكفرة على الإيمان { جعل فتنة الناس } ما يصيبه من أذيتهم في الصرف عن الإيمان { كعذاب الله } في الصرف عن الكفر { ولئن جاء نصر من ربك } فتح وغنيمة { ليقولن إنا كنا معكم } في الدين فأشركونا فيه والمراد المنافقون أو قوم ضعف إيمانهم فارتدوا من أذى المشركين ويؤيد الأول { أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين } من الإخلاص والنفاق

11 - { وليعلمن الله الذين آمنوا } بقلوبهم { وليعلمن المنافقين } فيجازي الفريقين

12 - { وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا } الذي نسلكه في ديننا { ولنحمل خطاياكم } إن كان ذلك خطيئة أو إن كان بعث ومؤاخذة وإنما أمروا أنفسهم بالحمل عاطفين على أمرهم بالاتباع مبالغة في تعليق الحمل بالاتباع والوعد بتخفيف الأوزار عنه إن كانت تشجيعا لهم عليه وبهذا الاعتبار رد عليهم وكذبهم بقوله : { وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون } من الأولى للتبيين والثانية مزيدة والتقدير : وما هم بحاملين شيئا من خطاياهم

13 - { وليحملن أثقالهم } أثقال ما اقترفته أنفسهم { وأثقالا مع أثقالهم } وأثقالا أخر معها لما تسببوا له بالإضلال والحمل على المعاصي من غير أن ينقص من أثقال من تبعهم شيء { وليسألن يوم القيامة } سؤال تقريع وتبكيت { عما كانوا يفترون } من الأباطيل التي أضلوا بها

14 - { ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما } بعد المبعث إذ روي أنه بعث على رأس الأربعين ودعا قوما تسعمائة وخمسين وعاش بعد الطوفان ستين ولعل اختيار هذه العبارة للدلالة على كمال العدد فإن تسعمائة وخمسين قد يطلق على ما يقرب منه ولما ذكر الألف من تخييل طول المدة إلى السامع فإن المقصود من القصة تسلية رسول الله صلى الله عليه و سلم وتثبيته على ما يكابده من الكفرة واختلاف المميزين لما في التكرير من البشاعة { فأخذهم الطوفان } طوفان الماء وهو لما طاف بكثرة من سيل أو ظلام أو نحوهما { وهم ظالمون } بالكفر

15 - { فأنجيناه } أي نوحا عليه الصلاة و السلام { وأصحاب السفينة } ومن أركب معه من أولاده وأتباعه وكانوا ثمانين وقيل ثمانية وسبعين وقيل عشرة نصفهم ذكور ونصفهم إناث { وجعلناها } أي السفينة أو الحادثة { آية للعالمين } يتعظون ويستدلون بها

16 - { وإبراهيم } عطف على { نوحا } أو نصب بإضمار اذكر وقرئ بالرفع على تقدير ومن المرسلين إبراهيم { إذ قال لقومه اعبدوا الله } ظرف لأرسلنا أي أرسلناه حين كمل عقله وتم نظره بحيث عرف بالحق وأمر الناس به أو بدل منه بدل اشتمال إن قدر باذكر { واتقوه ذلكم خير لكم } مما أنتم عليه { إن كنتم تعلمون } الخير والشر وتميزون ما هو خير مما هو شر أو كنتم تنظرون في الأمور بنظر العلم دون نظر الجهل

17 - { إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا } وتكذبون كذبا في تسميتها آلهة وادعاء شفاعتها عند الله تعالى أو تعملونها وتنحتونها للإفك وهو استدلال على شرارة ما هم عليه من حيث إنه زور وباطل وقرئ ( تخلقون ) من خلق للتكثير ( وتخلقون ) من تخلق للتكلف و { إفكا } على أنه مصدر كالكذب أو نعت بمعنى خلقا ذا إفك { إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا } دليل ثان على شرارة ذلك من حيث إنه لا يجدر بطائل و { رزقا } يحتمل المصدر بمعنى لا يستطيعون أن يرزقوكم وأن يراد المرزوق وتنكيره للتعميم { فابتغوا عند الله الرزق } كله فإنه المالك له { واعبدوه واشكروا له } متوسلين إلى مطالبكم بعبادته مقيدين لما حفكم من النعم بشكره أو مستعدين للقائه بهما فإنه : { إليه ترجعون } وقرئ بفتح التاء

18 - { وإن تكذبوا } وإن تكذبوني { فقد كذب أمم من قبلكم } من قبلي من الرسل فلم يضرهم تكذيبهم وإنما ضر أنفسهم حيث تسبب لما حل بهم من العذاب فكذا تكذيبكم { وما على الرسول إلا البلاغ المبين } الذي يزال معه الشك وما عليه أن يصدق ولا يكذب فلآية وما بعدها من جملة قصة { إبراهيم } إلى قوله { فما كان جواب قومه } ويحتمل أن تكون اعتراضا بذكر شأن النبي صلى الله عليه و سلم وقريش وهدم مذهبهم والوعيد على سوء صنيعهم توسط بين طرفي قصته من حيث إن مساقها لتسلية رسول الله صلى الله عليه و سلم والتنفيس عنه بأن أباه خليل الله صلوات الله عليهما كان ممنوا بنحو ما مني به من شرك القوم وتكذيبهم وتشبيه حاله فيهم بحال إبراهيم في قومه

19 - { أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق } من مادة ومن غيرها وقرأ
حمزة و الكسائي و أبو بكر بالتاء على تقدير القول وقرئ
( يبدأ ) { ثم يعيده } إخبار بالإعادة بعد الموت معطوف على { أولم يروا } لا على { يبدئ } فإن الرؤية غير واقعة عليه ويجوز أن تؤول الإعادة بأن ينشئ في كل سنة مثل ما كان في السنة السابقة من النبات والثمار ونحوهما وتعطف على { يبدئ } { إن ذلك } الإشارة إلى الإعادة أو إلى ما ذكر من الأمرين { على الله يسير } إذ لا يفتقر في فعله إلى شيء

20 - { قل سيروا في الأرض } حكاية كلام الله لإبراهيم أو محمد عليها الصلاة والسلام { فانظروا كيف بدأ الخلق } على اختلاف الأجناس والأحوال { ثم الله ينشئ النشأة الآخرة } بعد النشأة الأولى التي هي الإداء فإنه والإعادة نشأتان من حيث أن كلا اختراع وإخراج من العدم والإفصاح باسم الله مع إيقاعه مبتدأ بعد إضماره في بدأ والقياس الاقتصار عليه للدلالة على أن المقصود بيان الإعادة وأن من عرف بالقدرة على الإبداء ينبغي أن يحكم له بالقدرة على الإعادة لأنها أهون والكلام في العطف ما مر وقرئ ( النشاءة ) كالرآفة { إن الله على كل شيء قدير } لأن قدرته لذاته ونسبة ذاته إلى كل الممكنات على سواء فيقدر على النشأة الأخرى كما قدر على النشأة الأولى

21 - { يعذب من يشاء } تعذيبه { ويرحم من يشاء } رحمته { وإليه تقلبون } تردون

22 - { وما أنتم بمعجزين } ربكم عن إدراككم { في الأرض ولا في السماء } إن فررتم من قضائه بالتواري في الأرض أو الهبوط في مهاويها و التحصن { في السماء } أو القلاع الذاهبة فيها وقيل ولا من في السماء كقول حسان :
( أمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء )
{ وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير } يحرسكم عن بلاء يظهر من الأرض أو ينزل من السماء ويدفعه عنكم

23 - { والذين كفروا بآيات الله } بدلائل وحدانيته أو بكتبه { ولقائه } بالبعث { أولئك يئسوا من رحمتي } أي ييأسون منها يوم القيام فعبر عنه بالماضي للتحقق والمبالغة أو أيسوا في الدنيا لإنكار البعث والجزاء { وأولئك لهم عذاب أليم } بكفرهم

24 - { فما كان جواب قومه } قوم إبراهيم له وقرئ بالرفع على أنه الاسم والخبر { إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه } وكان ذلك قول بعضهم لكن لما قيل فيهم ورضي به الباقون أسند إلى كلهم { فأنجاه الله من النار } أي فقذفوه في النار فأنجاه الله منها بأن جعلها عليه بردا وسلاما { إن في ذلك } في إنجائه منها { لآيات } هي حفظه من أذى النار وإخمادها مع عظمها في زمان يسر وإنشاء روض مكانها { لقوم يؤمنون } لأنههم المنتفعون بالتفحص عنها والتأمل فيها

25 - { وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا } أي لتتوادوا بينكم وتتواصلوا لاجتماعكم على عبادتها وثاني مفعولي { اتخذتم } محذوف ويجوز أن تكون مودة المفعول الثاني بتقدير مضاف أي اتخذتم أوثان سبب المودة بينكم أو بتأويلها بالمودودة وقرأها نافع و أبو بكر منونة ناصبة بينكم والوجه ما سبق و ابن كثير و أبو عمرو و الكسائي و رويس مرفوعة مضافة على أنها خبر مبتدأ محذوف أي هي مودودة أو سبب مودة بينكم والجملة صفة { أوثانا } أو خبر إن على { إنما } مصدرية أو موصولة والعائد محذوف وهو المفعول الأول وقرئت مرفوعة منونة ومضافة بفتح { بينكم } كما قرئ { لقد تقطع بينكم } وقرئ ( إنما مودة بينكم { ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا } أي يقوم التناكر والتلاعن بينكم أو بينكم وبين الأوثان على تغليب المخاطبين كقوله تعالى : { ويكونون عليهم ضدا } { ومأواكم النار وما لكم من ناصرين } يخلصونكم منها

26 - { فآمن له لوط } هو ابن أخيه وأول من آمن به وقيل إنه آمن به حين رأى النار لم تحرقه { وقال إني مهاجر } من قومي { إلى ربي } إلى حيث أمرني { إنه هو العزيز } الذي يمنعني من أعدائي { الحكيم } الذي لا يأمرني إلا بما فيه صلاحي روي أنه هاجر من كوثى من سواد الكوفة مع لوط وامرأته سارة ابنة عمه إلى حران ثم منها إلى الشام فنزل فلسطين ونزل لوط سدوم

27 - { ووهبنا له إسحاق ويعقوب } ولدا ونافلة حين أيس من الولادة من عجوز عاقر ولذلك لم يذكر إسماعيل { وجعلنا في ذريته النبوة } فكثر منهم الأنبياء { والكتاب } يريد به الجنس ليتناول الكتب الأربعة { وآتيناه أجره } على هجرته إلينا { في الدنيا } بإعطاء الولد في غير أوانه والذرية الطيبة واستمرار النبوة فيهم وإنماء أهل الملل إليه والثناء والصلاة عليه إلى آخر الدهر { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } لفي عداد الكاملين في الصلاح

28 - { ولوطا } عطف على إبراهيم أو على ما عطف عليه { إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة } الفعلة البالغة في القبح وقرأ الحرميان و ابن عامر و حفص بهمزة مكسورة على الخبر والباقون على الاستفهام وأجمعوا على الاستفهام في الثاني { ما سبقكم بها من أحد من العالمين } استئناف مقرر لفاحشتها من حيث إنها مما اشمأزت منه الطباع وتحاشت عنه النفوس حتى أقدموا عليها لخبث طينتهم

29 - { أإنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل } وتتعرضون للسابلة بالقتل وأخذ المال أو بالفاحشة حتى انقطعت الطرق أو تقطعون سبيل النسل بالإعراض عن الحرث وإتيان ما ليس بحرث { وتأتون في ناديكم } في مجالسكم الغاصة بأهلها ولا يقال النادي إلا لما فيه أهله { المنكر } كالجماع والضراط وحل الإزار وغيرها من القبائح عدم مبالاة بها وقيل الخذف ورمي البنادق { فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين } في استقباح ذلك أو في دعوى النبوة المفهومة من التوبيخ

30 - { قال رب انصرني } بإنزال العذاب { على القوم المفسدين } باتباع الفاحشة وسنها فيمن بعدهم وصفهم بذلك مبالغة في استنزال العذاب وإشعار بأنهم أحقاء بأن يعجل لهم العذاب

31 - { ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى } بالبشارة بالولد والنافلة { قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية } قرية سدوم والإضافة لفظية لأن المعنى على الاستقبال { إن أهلها كانوا ظالمين } تعليل لإهلاكهم لهم بإصرارهم وتماديهم في ظلمهم الذي هو الكفر وأنواع المعاصي

32 - { قال إن فيها لوطا } اعتراض عليهم بأنه فيها من لم يظلم أو معارضة للموجب بالمانع وهو كون النبي بين أظهرهم { قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله } تسليم لقوله مع ادعاء مزيد العلم به وأنهم ما كانوا غافلين عنه وجواب عنه بتخصيص الأهل بمن عداه وأهله أو تأقيت الإهلاك بإخراجهم منها وفيه تأخير للبيان عن الخطاب { إلا امرأته كانت من الغابرين } الباقين في العذاب أو القرية

33 - { ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم } جاءته المساءة والغم بسببه مخافة أن يقصدهم قومه بسوء و { أن } صلة لتأكيد الفعلين واتصالهما { وضاق بهم ذرعا } وضاق بشأنهم وتدبير أمرهم ذرعه أي طاقته كقولهم ضاقت يده وبإزائه رحب ذرعه بكذا إذا كان مطيقا له وذلك لأن طويل الذراع ينال ما لا يناله قصير الذراع { وقالوا } لما رأوا فيه أثر الضجرة { لا تخف ولا تحزن } على تمكنهم منا { إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين } وقرأ حمزة و الكسائي و يعقوب ( لننجينه ) ( ومنجوك ) بالتخفيف ووافهم أبو بكر و ابن كثير في الثاني وموضع الكاف الجر على المختار ونصب { أهلك } بإضمار فعل أو بالعطف على محلها باعتبار الأصل

34 - { إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء } عذابا منها سمي بذلك لأنه يقلق المعذب من قولهم ارتجز إذا ارتجس أي اضطرب وقرا ابن عامر ( منزلون ) بالتشديد { بما كانوا يفسقون } بسبب فسقهم

35 - { ولقد تركنا منها آية بينة } هي حكايتها الشائعة أو آثار الديار الخربة وقيل الحجارة الممطرة فإنها كانت باقية بعد وقيل بقية أنهارها المسودة { لقوم يعقلون } يستعملون عقولهم في الاستبصار والاعتبار وهو متعلق بـ { تركنا } أو { آية }

36 - { وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر } وافعلوا ما ترجون به ثوابه فأقيم المسبب مقام السبب وقيل إنه من الرجاء بمعنى الخوف { ولا تعثوا في الأرض مفسدين }

37 - { فكذبوه فأخذتهم الرجفة } الزلزلة الشديدة وقيل صيحة جبريل عليه السلام لأن القلوب ترجف لها { فأصبحوا في دارهم } في بلدهم أو دورهم ولم يجمع لأمن اللبس { جاثمين } باركين على الركب ميتين

38 - { وعادا وثمود } منصوبان بإضمار اذكر أو فعل دل عليه ما قبله مثل أهلكنا وقرأ حمزة و حفص و يعقوب { وثمود } غير منصوب على تأويل القبيلة { وقد تبين لكم من مساكنهم } أي تبين لهم بعض مساكنهم أو إهلاكهم من جهة مساكنهم إذا نظرتم إليها عند مروركم بها { وزين لهم الشيطان أعمالهم } من الكفر والمعاصي { فصدهم عن السبيل } السوي الذي بينه الرسل لهم { وكانوا مستبصرين } متمكنين من النظر والاستبصار ولكنهم لم يفعلوا أو متبينين أن العذاب لا حق بهم بإخبار الرسل لهم ولكنهم لجوا حتى هلكوا

39 - { وقارون وفرعون وهامان } معطوف على عادا وتقديم { قارون } لشرف نسبه { ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين } فائتين بل أدركم أمر الله من سبق طالبه إذا فاته

40 - { فكلا } من المذكرين { أخذنا بذنبه } عاقبناه بذنبه { فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا } ريحا عاصفا فيها حصباء أو ملكا رماهم بها كقوم لوط { ومنهم من أخذته الصيحة } كمدين وثمود { ومنهم من خسفنا به الأرض } كقارون { ومنهم من أغرقنا } كقوم نوح وفرعون وقومه { وما كان الله ليظلمهم } ليعاملهم معاملة الظالم فيعاقبهم بغير جرم إذ ليس ذلك من عادته عز و جل { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } بالتعرض للعذاب

41 - { مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء } فما اتخذوه معتمدا ومتكلا
{ كمثل العنكبوت اتخذت بيتا } فيما نسجته في الوهن والخور بل ذاك أوهن فإن لهذا حقيقة وانتفاعا ما أو مثلهم بالإضافة إلى رجل بنى بيتا من حجر وجص والعنكبوت يقع عل الواحد والجمع والمذكر والمؤنث والتاء فه كتاء طاغوت ويجمع على عناكيب وعناكب وعكاب وعكبة وأعكب { وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت } لا بيت أوهن وأقل وقاية للحر والبرد منه { لو كانوا يعلمون } يرجعون إلى علم لعلموا أن هذا مثلهم وأن دينهم أوهمن من ذلك ويجوز أن يكون المراد ببيت العنكبوت دينهم سماه به تحقيقا للتمثيل فيكون المعنى : وإن أوهن ما يعتمد به في الدين دينهم

42 - { إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء } على إضمار القول أي قل للكفرة إن الله يعلم وقرأ البصريان بالياء حملا على ما قبله و { ما } استفهامية منصوبة بـ { تدعون } و { يعلم } معلقة عنها و { من } للتبيين أو نافية و { من } مزيدة و { شيء } مفعول { تدعون } أو مصدرية و { شيء } مصدر أو موصولة مفعول ليعلم ومفعول { تدعون } عائدها المحذوف والكلام على الأولين تجهيل لهم وتوكيد للمثل وعلى الأخيرين وعيد لهم { وهو العزيز الحكيم } تعليل على المعنيين فإن من فرط الغباوة إشراك ما لا يعد شيئا بمن هذا شأنه وأن الجماد بالإضافة إلى القادر القاهر على كل شيء البالغ في العلم وإتقان الفعل الغاية كالمعدوم وأن من هذا وصفه قادر على مجازاتهم

43 - { وتلك الأمثال } يعني هذا المثل ونظائره { نضربها للناس } تقريبا لما بعد من أفهامهم { وما يعقلها } ولا يعقل حسنها وفائدتها { إلا العالمون } الذين يتدبرون الأشياء على ما ينبغي [ وعنه صلى الله عليه و سلم أنه تلا هذه الآية فقال : العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه ]

44 - { خلق الله السماوات والأرض بالحق } محقا غير قاصد به باطلا فإن المقصود بالذات من خلقها إفادة الخير والدلالة على ذاته وصفاته كما أشار إليه بقوله : { إن في ذلك لآية للمؤمنين } لأنهم المنتفعون به

45 - { اتل ما أوحي إليك من الكتاب } تقربا إلى الله تعالى بقراءته وتحفظا لألفاظه واستكشافا لمعانيه فإن القارئ المتأمل قد ينكشف به بالتكرار ما لم ينكشف له أول ما قرع سمعه { وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } بأن تكون سببا للانتهاء عن المعاصي حال الاشتغال بها وغيرها من حيث إنها تذكر الله وتورث النفس خشية منه روي [ أن فتى من الأنصار كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه و سلم الصلوات ولا يدع شيئا من الفواحش إلا ارتكبه فوصف له عليه السلام فقال : إن صلاته ستنهاه فلم يلبث أن تاب ] { ولذكر الله أكبر } وللصلاة أكبر من سائر الطاعات وإنما عبر عنها به للتعليل بأن اشتمالها على ذكره هو العمدة في كونها مفضلة على الحسنات ناهية عن السيئات أو لذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته { والله يعلم ما تصنعون } منه ومن سائر الطاعات فيجازيكم به أحسن المجازاة

46 - { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن } إلا بالخصلة التي هي أحسن كمعارضة الخشونة باللين والغضب بالكظم والمشاغبة بالنصح وقيل هو منسوخ بآية السيف إذ لا مجادلة أشد منه وجوابه أنه آخر الدواء وقيل المراد به ذو العهد منهم { إلا الذين ظلموا منهم } بالإفراط في الاعتداء والعناد أو بإثبات الولد وقولهم { يد الله مغلولة } أو بنبذ العهد ومنع الجزية { وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم } هو من المجادلة بالتي هي أحسن وعن النبي صلى الله عليه و سلم [ لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وبكتبه ورسله فإن قالوا باطلا لم تصدقوهم وإن قالوا حقا لم تكذبوهم ] { وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون } مطيعون له خاصة وفيه تعريض باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله

47 - { وكذلك } ومثل ذلك الإنزال { أنزلنا إليك الكتاب } وحيا مصدقا لسائر الكتب الإلهية وهو تحقيق لقوله : { فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به } هم عبد الله بن سلام وأضرابه أو من تقدم عهد الرسول صلى الله عليه و سلم من أهل الكتاب { ومن هؤلاء } ومن العرب أو أهل مكة أو ممن في عهد الرسول من أهل الكتابين { من يؤمن به } بالقرآن { وما يجحد بآياتنا } مع ظهورها وقيام الحجة عليها { إلا الكافرون } إلا المتوغلون في الكفر فإن جزمهم به يمنعهم عن التأمل فيما يقيد لهم صدقها لكونها معجزة بالإضافة إلى الرسول صلى الله عليه و سلم كما أشار إليه بقوله :

48 - { وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك } فإن ظهور هذا الكتاب الجامع لأنواع العلوم الشريفة أمي لم يعرف بالقراءة والتعلم خارق للعادة وذكر اليمين زيادة تصوير للمنفي ونفي للتجوز في الإسناد { إذا لارتاب المبطلون } أي لو كنت ممن يخط ويقرأ لقالوا لعله تعلمه أو التقطه من كتب الأولين الأقدمين وإنما سماهم مبطلين لكفرهم أو لارتيابهم بانتفاء وجه واحد من وجوه الإعجاز المكاثرة وقيل لارتاب أهل الكتاب لوجدناهم نعتك على خلاف ما في كتبهم فيكون إبطالهم باعتبار الواقع دون المقدر { بل هو } بل القرآن

49 - { آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم } يحفظونه لا يقدر أحد على تحريفه { وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون } المتوغلون في الظلم بالمكابرة بعد وضوح دلائل إعجازها حتى لم يعتدوا بها

50 - { وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه } مثل ناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى وقرأ نافع و ابن عامر و و البصريان و حفص ( آيات ) { قل إنما الآيات عند الله } ينزلها كما يشاء لست أملكها فآتيكم بما تقترحونه { إنما أنا نذير مبين } ليس من شأني إلا الإنذار وإبانته بما أعطيت من الآيات

51 - { أولم يكفهم } آية مغنية عما اقترحوه { أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم } تدوم تلاوته عليهم متحدين به فلا يزال معهم آية ثابتة لا تضمحل بخلاف سائر الآيات أو يتلى عليهم يعني اليهود بتحقيق ما في أيديهم من نعتك ونعت دينك { إن في ذلك } الكتاب الذي هو آية مستمرة وحجة مبينة { لرحمة } لنعمة عظيمة { وذكرى لقوم يؤمنون } وتذكرة لمن همه الإيمان دون التعنت [ وقيل إن أناسا من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم بكتب كتب فيها بعض ما يقول اليهود فقال كفى بها ضلالة قوم أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم ] فنزلت

52 - { قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا } بصدقي وقد صدقني بالمعجزات أو بتبليغي ما أرسلت به إليكم ونصحي ومقابلتكم إياي بالتكذيب والتعنت
{ يعلم ما في السموات والأرض } فلا يخفى عليه حالي وحالكم { والذين آمنوا بالباطل } وهو ما يعبد من دون الله { وكفروا بالله } منكم
{ أولئك هم الخاسرون } في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان

53 - { ويستعجلونك بالعذاب } بقولهم { فأمطر علينا حجارة من السماء } { ولولا أجل مسمى } لكل عذاب أو قوم { لجاءهم العذاب } عاجلا { وليأتينهم بغتة } فجأة في الدنيا كوقعة بدر أو الآخرة عند نزول الموت بهم { وهم لا يشعرون } بإتيانه

54 - { يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } ستحيط بهم يوم يأتيهم العذاب أو هي كالمحيطة بهم الآن لإحاطة و الكفر والمعاصي التي توجيها بهم واللام للعهد على وضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على موجب الإحاطة أو للجنس فيكون استدلالا بحكم الجنس على حكمهم

55 - { يوم يغشاهم العذاب } ظرف { لمحيطة } أو مقدرة مثل كان كيت وكيت { من فوقهم ومن تحت أرجلهم } من جميع جوانبهم { ويقول } الله أو بعض ملائكته بأمره لقراءة ابن كثير و ابن عامر و البصريان بالنون { ذوقوا ما كنتم تعملون } أي جزاءه

56 - { يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون } أي إذا لم يتسهل لكم العبادة في بلدة ولم يتيسر لكم إظهار دينكم فهاجروا إلى حيث يتمشى لكم ذلك [ وعنه عليه الصلاة و السلام من فر بدينه من أرض إلى أرض ولو كان شرا استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد عليهما السلام ] والفاء دواب شرط محذوف إذ المعنى إن أرضي واسعة إن لم تخلصوا العبادة لي في أرض فأخلصوها في غيرها

57 - { كل نفس ذائقة الموت } تناله لا محالة { ثم إلينا ترجعون } للجزاء ومن هذا عاقبته ينبغي أن يجتهد في الاستعداد له وقرأ أبو بكر بالياء

58 - { والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم } لننزلنهم { من الجنة غرفا } علالي وقرأ حمزة و الكسائي ( لنثوينهم ) أي لنقيمنهم من الثواء فيكون انتصاب غرفا لإجرائه مجرى لننزلنهم أو بنزع الخافض أو بتشبيه الظرف المؤقت بالمبهم { تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين } وقرئ ( فنعم ) والمخصوص بالمدح محذوف دل عليه ما قبله

59 - { الذين صبروا } على أذية المشركين والهجرة للدين إلى غير ذلك من المحن والمشاق { وعلى ربهم يتوكلون } ولا يتوكلون إلا على الله

60 - { وكأين من دابة لا تحمل رزقها } لا تطيق حمله لضعفها أو لا تدخره وإنما تصبح ولا معيشة عندها { الله يرزقها وإياكم } ثم إنها مع ضعفها وتوكلها وإياكم مع قوتكم واجتهادكم سواء في أنه لا يرزقها وإياكم إلا الله لأن رزق الكل بأسباب هو المسبب لها وحده فلا تخافوا على معاشكم بالهجرة فإنهم لما أمروا بالهجرة قال بعضهم كيف نقدم بلدة ليس لنا فيها معيشة فنزلت { وهو السميع } لقولكم هذا { العليم } بضميركم

61 - { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر } المسؤول عنهم أهل مكة { ليقولن الله } لما تقرر في العقول من وجوب انتهاء الممكنات إلى واحد واجب الوجود { فأنى يؤفكون } يصرفون عن توحيده بعد إقرارهم بذلك

62 - { الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له } يحتمل أن يكون الموسع له والمضيق عليه واحدا على أن البسط والقبض على التعاقب وألا يكون على وضع الضمير موضع من يشاء وإبهامه لأن من يشاء مبهم { إن الله بكل شيء عليم } يعلم مصالحهم ومفاسدهم

63 - { ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله } معترفين بأنه الموجد للمكنات بأسرها أصولها وفروعها ثم إنهم يشركون به بعض مخلوقاته الذي لا يقدر على شيء من ذلك { قل الحمد لله } على ما عصمك من مثل هذه الضلالة أو على تصديقك وإظهار حجتك { بل أكثرهم لا يعقلون } فيتناقضون حيث يقرون بأنه المبدئ لكل ما عداه ثم إنهم يشركون به الصنم وقيل لا يعقلون ما تريد بتحميدك عند مقالهم

64 - { وما هذه الحياة الدنيا } إشارة تحقير وكيف لا وهي لا تزن عند الله جناح بعوضة { إلا لهو ولعب } إلا كما يلهى ويلعب به الصبيان يجتمعون عليه ويبتهجون به ساعة ثم يتفرقون متعبين { وإن الدار الآخرة لهي الحيوان } لهي دار الحياة الحقيقة لامتناع طريان الموت عليها أو هي في ذاتها حياة للمبالغة و { الحيوان } مصدر حي سمي به ذو الحياة وأصله حييان فقلبت الياء الثانية واوا وهو أبلغ من الحياة لما في بناء فعلان من الحركة والاضطراب اللازم للحياة ولذلك اختير عليها ها هنا { لو كانوا يعلمون } لم يؤثروا عليها الدنيا التي أصلها عدم الحياة والحياة فيها عارضة سريعة الزوال

65 - { فإذا ركبوا في الفلك } متصل بما دل عليه شرح حالهم أي هم على ما وصفوا به من الشرك فإذا ركبوا البحر { دعوا الله مخلصين له الدين } كائنين في صورة من أخلص دينه من المؤمنين حيث لا يذكرون إلا الله ولا يدعون سواه لعلمهم بأنه لا يكشف الشدائد إلا هو { فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون } فاجؤوا المعاودة إلى الشرك

66 - { ليكفروا بما آتيناهم } اللام فيه لام كي أي يشركون ليكونوا كافرين بشركهم نعمة النجاة { وليتمتعوا } باجتماعهم على عبادة الأصنام وتوادهم عليها أو لام الأمر على التهديد ويؤيده قراءة ابن كثير و حمزة و الكسائي و قالون عن نافع
( وليتمتعوا ) بالسكون { فسوف يعلمون } عاقبة ذلك حين يعاقبون

سورة الروم
67 - بلدهم مصونا عن النهب والتعدي آمنا أهله عن القتل والسبي { ويتخطف الناس من حولهم } يختلسون قتلا وسبيا إذ كانت العرب حوله في تغاور وتناهب { أفبالباطل يؤمنون } أبعد هذه النعمة المكشوفة وغيرها مما لا يقدر عليه إلا الله يؤمنون بالصنم أو الشيطان { وبنعمة الله يكفرون } حيث أشركوا به غيره وتقديم الصلتين للاهتمام أو الاختصاص على طريق المبالغة

68 - { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا } بأن زعم أن له شريكا { أو كذب بالحق لما جاءه } يعني الرسول أو الكتاب وفي { لما } تسفيه لهم بأن لم يتوافقوا ولم يتأملوا قط حين جاءهم بل سارعوا إلى التكذيب أول ما سمعوه { أليس في جهنم مثوى للكافرين } تقرير لثوائهم كقوله :
( ألستم خير من ركب المطايا )
أي ألا يستوجبون الثواء فيها وقد افتروا مثل هذا الكذب على الله وكذبوا بالحق مثل هذا التكذيب أو لاجترائهم أي ألم يعلموا أن { في جهنم مثوى للكافرين } حتى اجترؤوا مثل هذه الجراءة

69 - { والذين جاهدوا فينا } في حقنا وإطلاق المجاهدة ليعم جهاد الأعادي الظاهرة والباطنة بأنواعه { لنهدينهم سبلنا } سبل السير إلينا والوصول إلى جنابنا أو لنزيدنهم هداية إلى سبيل الخير وتوفيقا لسلوكها كقوله تعالى : { والذين اهتدوا زادهم هدى } وفي الحديث [ من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم ] { وإن الله لمع المحسنين } بالنصر والإعانة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل المؤمنين والمنافقين ]

1 - { الم }

2 - { غلبت الروم }

3 - { في أدنى الأرض } أرض العرب منهم لأنها الأرض المعهودة عندهم أ في أدنى أرضهم من العرب واللام بدل من الإضافة { وهم من بعد غلبهم } من إضافة المصدر إلى المفعول وقرئ { غلبهم } وهو لغة كالجلب والجلب { سيغلبون }

4 - { في بضع سنين } روي أن فارس غزوا الروم فوافوهم بأذرعات وبصرى وقيل بالجزيرة وهي أدنى أرض الروم من الفرس فغلبوا عليهم وبلغ الخبر مكة ففرح المشركون وشمتوا بالمسلمين وقالوا : أنتم والنصارى أهل كتاب ونحن وفارس أميون وقد ظهر إخواننا على إخوانكم ولنظهرن عليكم فنزلت فقال لهم أبو بكر : لا يقرن الله أعينكم فوالله لتظهرن الروم على فارس بعد بضع سنين فقال له أبي بن خلف : كذبت اجعل بيننا أجلا أناحبك عليه فناجبه على عشر قلائص من كل واحد منهما وجعلا الأجل ثلاث سنين [ فأخبر أبو بكر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر وماده في الأجل فجعلاه مائة قلوص إلى تسع سنين ومات أبي من جرح رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد قفوله من أحد وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية فأخذ أبو بكر الخطر من ورثة أبي وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال تصدق به ] واستدلت به الحنفية على جواز العقود الفاسدة في دار الحرب وأجيب بأنه كان قبل تحريم القمار والآية من دلائل النبوة لأنها إخبار عن الغيب وقرئ ( غلبت ) بالفتح و ( سيغلبون ) بالضم ومعناه أن الروم غلبوا على ريف الشام والمسلمون سيغلبونهم وفي السنة التاسعة من نزوله غزاهم المسلمون وفتحوا بعض بلادهم وعلى هذا تكون إضافة الغلب إلى الفاعل { لله الأمر من قبل ومن بعد } من قبل كونهم غالبين وهو وقت كونهم مغلوبين ومن بعد كونهم مغلوبين وهو وقت غالبين أي له الأمر حين غلبوا ليس شيء منهما إلا بقضائه وقرئ { من قبل ومن بعد } من غير تقدير مضاف إليه كأنه قيل قبلا وبعدا أي أولا وآخرا { ويومئذ } ويوم تغلب الروم { يفرح المؤمنون }

5 - { بنصر الله } من له كتاب على من لا كتاب له لما فيه من انقلاب التفاؤل وظهور صدقهم فيما أخبرا به المشركين وغلبتهم في رهانهم وازدياد يقينهم وثباتهم في دينهم وقيل بنصر الله المؤمنين بإظهار صدقهم أو بأن ولي بعض أعدائهم بعضا حتى تفانوا { ينصر من يشاء } فينصر هؤلاء تارة وهؤلاء أخرى { وهو العزيز الرحيم } ينتقم من عباده بالنصر عليهم تارة ويتفضل عليهم بنصرهم أخرى

6 - { وعد الله } مصدر مؤكد لنفسه لأن ما قبله في معنى الوعد { لا يخلف الله وعده } لامتناع الكذب عليه تعالى { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } وعده ولا صحة وعده لجهلهم وعدم تفكرهم

7 - { يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا } ما يشاهدونه منها والتمتع بزخارفها { وهم عن الآخرة } التي هي غايتها والمقصود منها { هم غافلون } لا تخطر ببالهم و { هم } الثانية تكرير للأولى أو مبتدأ و { غافلون } خبره والجملة خبر الأولى وهو على الوجهين مناد على تمكن غفلتهم من الآخرة المحققة لمقتضى الجملة المتقدمة المبدلة من قوله : { لا يعلمون } تقريرا لجهالتهم وتشبيها لهم بالحيوانات المقصور إدراكها من الدنيا ببعض ظاهرها فإن من العلم بظاهرها معرفة حقائقها وصفاتها وخصائصها وأفعالها وأسبابها وكيفية صدورها منها وكيفية التصرف فيها ولذلك نكر ظاهرا وأما باطنها فإنها مجاز إلى الآخرة ووصلة إلى نيلها و أنموذج لأحوالها وإشعارا بأنه لا فرق بين عدم العلم والعلم الذي يختص بظاهر الدنيا

8 - { أولم يتفكروا في أنفسهم } أو لم يحدثوا التفكر فيها أو أولم يتفكروا في أمر أنفسهم فإنها أقرب إليهم من غيرها ومرآة يجتلى فيها للمستبصر ما يجتلى له في الممكنات بأسرها ليتحقق لهم قدرة مبدعها على إعادتها مثل قدرته على إبدائها { ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق } متعلق بقول أو علم محذوف يدل عليه الكلام { وأجل مسمى } تنتهي عنده ولا تبقى بعده { وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم } بلقاء جزائه عند انقضاء الأجل المسمى أو قيام الساعة { لكافرون } جاحدون يحسبون أن الدنيا أبدية وأن الآخرة لا تكون

9 - { أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } تقرير لسيرهم في أقطار الأرض ونظرهم في آثار المدمرين قبلهم { كانوا أشد منهم قوة } كعاد وثمود { وأثاروا الأرض } وقلبوا وجهها لاستنباط المياه واستخراج المعادن وزرع البذور وغيرها { وعمروها } وعمروا الأرض { أكثر مما عمروها } من عمارة أهل مكة إياها فإنهم أهل واد غير ذي زرع لا تبسط لهم في غيرها وفيه تهكم بهم من حيث إنهم مغترون بالدنيا مفتخرون بها وهم أضعف حالا فيها إذ مدار أمرها على التبسط في البلاد والتسلط على العباد والتصرف في أقطار الأرض بأنواع العمارة وهم ضعفاء ملجئون إلى دار لا نفع لها { وجاءتهم رسلهم بالبينات } بالمعجزات أو الآيات الواضحات { فما كان الله ليظلمهم } ليفعل بهم ما تفعل الظلمة فيدمرهم من غير جرم ولا تذكير { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } حيث عملوا ما أدى إلى تدميرهم

10 - { ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوأى } أي ثم كان عاقبتهم العاقبة { السوأى } أو الخصلة { السوأى } فوضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على ما اقتضى أن تكون تلك عاقبتهم وأنهم جاءوا بمثل أفعالهم و { السوأى } تأنيث الأسوأ كالحسنى أو مصدر كالبشرى نعت به { أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون } علة أو بدل أو عطف بيان لـ { السوأى } أو خبر كان و { السوأى } مصدر أساؤوا أو مفعوله بمعنى { ثم كان عاقبة } الذين اقترفوا الخطيئة أن طبع الله على قلوبهم حتى كذبوا بآيات الله واستهزؤوا بها ويجوز أن تكون { السوأى } صلة الفعل و { أن كذبوا } تابعها والخبر محذوف للإبهام والتهويل وأن تكون { أن } مفسرة لأن الإساءة إذا كانت مفسرة بالتكذيب والاستهزاء كانت متضمنة معنى القول وقرأ ابن عامر والكوفيون { عاقبة } بالنصب على أن الاسم { السوأى } و { أن كذبوا } على الوجوه المذكورة

11 - { الله يبدأ الخلق } ينشئهم { ثم يعيده } يبعثهم { ثم إليه ترجعون } للجزاء والعدول إلى الخطاب للمبالغة في المقصود وقرأ أبو بكر و أبو عمرو و روح بالياء على الأصل

12 - { ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون } يسكتون متحرين آيسين يقال ناظرته فأبلس إذا سكت وآيس من أن يحتج ومنه الناقة المبلس التي لا ترغو وقرئ بفتح اللام من أبلسه إذا أسكته

13 - { ولم يكن لهم من شركائهم } ممن أشركوهم بالله { شفعاء } يجيرونهم من عذاب الله ومجيئه بلفظ الماضي لتحققه { وكانوا بشركائهم كافرين } يكفرون بآلهتهم حين يئسوا منهم وقيل كانوا في الدنيا كافرين بسببهم وكتب في المصحف ( شفعواء ) و ( علموا بني إسرائيل ) بالواو وكذا { السوأى } بالألف إثباتا للهمزة على صورة الحرف الذي منه حركتها

14 - { ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون } أي المؤمنون والكافرون لقوله تعالى :

15 - { فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة } أرض ذات أزهار وأنهار { يحبرون } يسرون سرورا تهلك له وجوههم

16 - { وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون } مدخلون لا يغيبون عنه

17 - { فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون } إخبار في معنى الأمر بتنزيه الله تعالى والثناء عليه في هذه الأوقات التي تظهر فيها قدرته وتتجدد فيها نعمته أو دلالة على أن ما يحدث فيها من الشواهد الناطقة بتنزيه واستحقاقه الحمد ممن له تمييز من أهل السموات والأرض وتخصيص التسبيح بالمساء والصباح لأن آثار القدرة والعظمة فيهما أظهر

18 - { وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون } وتخصيص الحمد بالعشي الذي هو آخر النهار من عشى العين إذا نقص نورها والظهيرة التي هي وسطه لأن تجدد النعم فيهما أكثر ويجوز أن يكون { عشيا } معطوفا على { حين تمسون } وقوله { وله الحمد في السموات والأرض } اعتراضا وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن الآية جامعة للصلوات الخمس { تمسون } صلاتا المغرب والعشاء و { تصبحون } صلاة الفجر و { عشيا } صلاة العصر و { تظهرون } صلاة الظهر ولذلك زعم الحسن أنها مدنية لأنه كان يقول كان الواجب بمكة ركعتين في أي وقت اتفقتا وإنما فرضه الخمس بالمدينة والأكثر على أنها فرضت بمكة وعنه عليه الصلاة و السلام [ من سره أن يكال له بالقفيز الأوفى فليقل فسبحان الله حين تمسون الآية ] وعنه عليه الصلاة و السلام [ من قال حين يصبح فسبحان الله حين تمسون إلى قوله وكذلك تخرجون أدرك ما فاته في ليلته ومن قاله حين يمسي أدرك ما فاته في يومه ] وقرئ ( حينا تمسون ) و ( حينا تصبحون ) أي تمسون فيه وتصبحون فيه

19 - { يخرج الحي من الميت } كالإنسان من النطفة والطائر من البيضة { ويخرج الميت من الحي } كالنطفة والبيضة أو يعقب الحياة الموت وبالعكس { ويحيي الأرض } بالنبات { بعد موتها } يبسها { وكذلك } ومثل ذلك الإخراج { تخرجون } من قبوركم فإنه أيضا تعقيب الحياة الموت وقرأ حمزة و الكسائي بفتح التاء

20 - { ومن آياته أن خلقكم من تراب } أي في أصل الإنشاء لأنه خلق أصلهم منه { ثم إذا أنتم بشر تنتشرون } ثم فاجأتم وقت كونكم بشرا منتشرين في الأرض

21 - { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا } لأن حواء خلقت من ضلع آدم وسائر النساء خلقن من نطف الرجال أو لأنهن من جنسهم لا من جنس آخر { لتسكنوا إليها } لتميلوا إليها وتألفوا بها فإن الجنسية علة للضم والاختلاف سبب للتنافر { وجعل بينكم } أي بين الرجال والنساء أو بين أفراد الجنس { مودة ورحمة } بواسطة الزواج حال الشبق وغيرها بخلاف سائر الحيوانات نظما لأمر المعاش أو بأن تعيش الإنسان متوقف على التعارف والتعاون المحوج إلى التواد والتراحم وقيل المودة كناية عن الجماع والرحمة عن الولد كقوله تعالى : { ورحمة منا } { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } فيعلمون ما في ذلك من الحكم

22 - { ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم } لغاتكم بأن علم كل صنف لغته أو ألهمه وضعها وأقدره عليه أو أجناس نطفكم وأشكاله فإنك لا تكاد تسمع منطقين متساويين في الكيفية { وألوانكم } بياض الجلد وسواده أو تخطيطات الأعضاء وهيئاتها وألوانها وحلاها بحيث وقع التمايز والتعارف حتى أن التوأمين مع توافق موادهما وأسبابهما والأمور الملاقية لهما في التخليق يختلفان في شيء من ذلك لا محالة { إن في ذلك لآيات للعالمين } لا تكاد تخفى على عاقل من ملك أو إنس أو جن وقرأ حفص بكسر اللام ويؤيد قوله : { وما يعقلها إلا العالمون }

23 - { ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله } منامكم في الزمانين لاستراحة القوى النفسانية وتقوي القوى الطبيعية وطلب معاشكم فيهما أو منامكم بالليل وابتغاؤكم بالنهار فلق وضم بين الزمانين والفعلين بعاطفين إشعارا بأن كلا من الزمانين إن اختص بأحدهما فهو صالح للآخر عند الحاجة ويؤيده سائر الآيات الواردة فيه { إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون } سماع تفهم واستبصار فإن الحكمة فيه ظاهرة

24 - { ومن آياته يريكم البرق } مقدر بأن المصدرية كقوله :
( ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ... وأن اشهد اللذات هل أنت مخلدي )
أو الفعل فيه منزلة المصدر كقولهم : تسمع بالمعيدي خير من أن تراه أو صفة لمحذوف تقديره آية يريكم بها البرق كقوله :
( فما الدهر إلا تارتان فمنهما ... أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح )
{ خوفا } من الصاعقة للمسافر { وطمعا } في الغيث للمقيم ونصبهما على العلة لفعل يلزم المذكور فإن إراءتهم تستلزم رؤيتهم أو له على تقدير مضاف نحو إرادة خوف وطمع أو تأويل الخوف والطمع بالإخافة والإطماع كقولك فعلته رغما للشيطان أو على الحال مثل كلمته شفاها { وينزل من السماء ماء } وقرئ بالتشديد { فيحيي به الأرض } بالنبات { بعد موتها } يبسها { إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } يستعملون عقولهم في استنباط أسبابها وكيفية تكونها لتظهر لهم كمال قدرة الصانع وحكمته

25 - { ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره } قيامهما بإقامته لهما وإرادته لقيامهما في حيزيها المعينين من غير مقيم محسوس والتعبير بالأمر للمبالغة في كمال القدرة والغنى عن الآلة { ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون } عطف على { أن تقوم } على تأويل مفرد كأنه قيل : ومن آياته قيام السموات والأرض بأمره ثم خروجكم من القبور { إذا دعاكم دعوة } واحد فيقول أيها الموتى اخرجوا والمراد تشبيه سرعة ترتب حصول ذلك على تعلق إرادته بلا توقف واحتياج إلى تجشم عمل بسرعة ترتب إجابة الداعي المطاع على دعائه وثم إما لتراخي زمانه أو لعظم ما فيه ومن الأرض متعلق بدعا كقولك : دعوته من أسفل الوادي فطلع إلي لا بتخرجون لأن ما بعد إذا لا يعمل فيما قبلها و { إذا } الثانية للمفاجأة ولذلك نابت مناب الفاء في جواب الأولى

26 - { وله من في السماوات والأرض كل له قانتون } منقادون لفعله فيهم لا يمتنعون عنه

27 - { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده } بعد هلاكهم { وهو أهون عليه } والإعادة أسهل عليه من الأصل بالإضافة إلى قدركم والقياس على أصولكم وإلا فهما عليه سواء ولذلك قيل الهاء لـ { الخلق } وقيل { أهون } بمعنى هين وتذكير هو لأهو أو لأن الإعادة بمعنى أن يعيد { وله المثل } الوصف العجيب الشأن كالقدرة العامة والحكمة التامة ومن فسره بقول لا إله إلا الله أراد به الوصف بالوحدانية { الأعلى } الذي ليس لغيره ما يساويه أو يدانيه { في السموات والأرض } يصفه به ما فيها دلالة ونطقا { وهو العزيز } القادر الذي لا يعجز عن إبداء ممكن وإعادته { الحكيم } الذي يجري الأفعال على مقتضى حمته

28 - { ضرب لكم مثلا من أنفسكم } منتزعا من أحوالها التي هي أقرب الأمور إليكم { هل لكم من ما ملكت أيمانكم } من مماليككم { من شركاء في ما رزقناكم } من الأموال وغيرها { فأنتم فيه سواء } فتكونون أنتم وهم فيه شرعا يتصرفون فيه كتصرفكم مع أنهم بشر مثلكم وأنها معارة لكم و { من } الأولى للابتداء والثانية للتبعيض والثالثة مزيدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي { تخافونهم } أن يستبدوا بتصرف فيه { كخيفتكم أنفسكم } كما يخاف الأحرار بعضهم من بعض { كذلك } مثل ذلك التفصيل { نفصل الآيات } نبينها فإن التفصيل مما يكشف المعاني ويوضحها { لقوم يعقلون } يستعملون عقولهم في تدبر الأمثال

29 - { بل اتبع الذين ظلموا } بالإشراك { أهواءهم بغير علم } جاهلين لا يكفهم شيء فإن العالم إذا اتبع هواه ربما ردعه علمه { فمن يهدي من أضل الله } فمن يقدر على هدايته { وما لهم من ناصرين } يخلصونهم من الضلالة ويحفظونهم عن آفاتها

30 - { فأقم وجهك للدين حنيفا } فقومه له غير ملتفت أو ملتفت عنه وهو تمثيل للإقبال والاستقامة عليه والاهتمام به { فطرة الله } خلقته نصب على الإغراء أو المصدر لما دل عليه ما بعدها { التي فطر الناس عليها } خلقهم عليها وهي قبولهم للحق وتمكنهم من آدم وذريته { لا تبديل لخلق الله } لا يقدر أحد أن يغيره أو ما ينبغي أن يغير { ذلك } إشارة إلى الدين المأمور بإقامة الوجه له أو الفطرة إن فسرت بالملة { الدين القيم } المستقيم الذي لا عوج فيه { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } استقامة لعدم تدبرهم

31 - { منيبين إليه } راجعين إليه من أناب إذا رجع مرة بعد أخرى وقيل منقطعين إليه من الناب وهو حال من الضمير في الناصب المقدر لفطرة الله أو في أم لأن الآية خطاب للرسول صلى الله عليه و سلم والأمة لقوله : { واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين } غير أنها صدرت بخطاب الرسول صلى الله عليه و سلم تعظيما له

32 - { من الذين فرقوا دينهم } بدل من المشركين وتفريقهم اختلافهم فيما يعبدونه على اختلاف أهوائهم وقرأ حمزة و الكسائي ( فارقوا ) بمعنى تركوا دينهم الذي أمروا به { وكانوا شيعا } فرقا تشايع كل إمامها الذي أضل دينها { كل حزب بما لديهم فرحون } مسرورون ظنا بأنه الحق ويجوز أن يجعل فرحون صفة كل على أن الخبر { من الذين فرقوا }

33 - { وإذا مس الناس ضر } شدة { دعوا ربهم منيبين إليه } راجعين من دعاء غيره { ثم إذا أذاقهم منه رحمة } خلاصا من تلك الشدة { إذا فريق منهم بربهم يشركون } فاجأ فريق منهم بالإشراك بربهم الذي عافاهم

34 - { ليكفروا بما آتيناهم } اللام فيه للعاقبة وقيل للأمر بمعنى التهديد لقوله : { فتمتعوا } غير أنه التفت فيه مبالغة وقرئ و ( ليتمتعوا ) { فسوف تعلمون } عاقبة تمتعكم وقرئ بالياء التحتية على أن تمتعوا ماض

35 - { أم أنزلنا عليهم سلطانا } حجة وقيل ذا سلطان أي ملكا معه برهان { فهو يتكلم } تكلم دلالة كقوله { كتابنا ينطق عليكم بالحق } أو نطق { بما كانوا به يشركون } بإشراكهم وصحته أو بالأمر الذي بسببه يشركون به في ألوهيته

36 - { وإذا أذقنا الناس رحمة } نعمة من صحة وسعة { فرحوا بها } بطروا بسببها { وإن تصبهم سيئة } شدة { بما قدمت أيديهم } بشؤم معاصيهم { إذا هم يقنطون } فاجؤوا القنوط من رحمته وقرأ الكسائي و أبو عمرو بكسر النون

37 - { أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } فما لهم يشكروا ولم يحتسبوا في السراء والضراء كالمؤمنين { إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون } فيستدلون بها على كمال القدرة والحكمة

38 - { فآت ذا القربى حقه } كصلة الرحم واحتج به الحنفية على وجوب النفقة للمحارم وهو غير مشعر به { والمسكين وابن السبيل } ما وظف لهما من الزكاة والخطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم أو لمن بسط له ولذلك رتب على ما قبله بالفاء { ذلك خير للذين يريدون وجه الله } ذاته أو جهته أي يقصدون بمعروفهم إياه خالصا أو جهة التقرب إليه لا جهة أخرى { وأولئك هم المفلحون } حيث حصلوا بما بسط لهم النعيم المقيم

39 - { وما آتيتم من ربا } زيادة محرمة في المعاملة أو عطية يتوقع بها مزيد مكافأة وقرأ ابن كثير بالقصر بمعنى ما جئتم به من إعطاء ربا { ليربو في أموال الناس } ليزيد ويزكو في أموالهم { فلا يربو عند الله } فلا يزكو عنده ولا يبارك فيه وقرأ نافع و يعقوب ( لتربوا ) أي لتزيدوا أو لتصيروا ذوي ربا { وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله } تبتغون به وجهه خالصا { فأولئك هم المضعفون } ذوو الأضعاف من الثواب ونظير المضعف المقوي والموسر لذوي القوة واليسار أو الذين ضعفوا ثوابهم وأموالهم ببركة الزكاة وقرئ بفتح العين وتغييره عن سنن المقابلة عبارة ونظما للمبالغة والالتفات فيه للتعظيم كأنه خاطب به الملائكة وخواص الخلق تعريفا لحالهم أو للتعميم كأنه قال : فمن فعل ذلك { فأولئك هم المضعفون } والراجع منه محذوف إن جعلت ما موصولة تقديره المضعفون به أو فمؤتوه أولئك هم المضعفون

40 - { الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء } أثبت له لوازم الألوهية ونفاها رأسا عما اتخذوه شركاء له من الأصنام وغيرها مؤكدا بالإنكار على ما دل عليه البرهان والعيان ووقع عليه الوفاق ثم استنتج من ذلك تقدسه عن أن يكون له شركاء فقال : { سبحانه وتعالى عما يشركون } ويجوز أن تكون الكلمة الموصولة صفة والخبر { هل من شركائكم } والرابط { من ذلكم } لأنه بمعنى من أفعاله و { من } الأولى والثانية تفيد أن شيوع الحكم في جنس الشركاء والأفعال والثالثة مزيدة لتعميم المنفي وكل منها مستقلة بتأكيد لتعجيز الشركاء وقرأ حمزة و الكسائي بالتاء

41 - { ظهر الفساد في البر والبحر } كالجدب والموتان وكثرة الحرق والغرق وإخفاق الغاصة ومحق البركات وكثرة المضار أو الضلالة والظلم وقيل المراد بالبحر قرى السواحل وقرئ و ( البحور ) { بما كسبت أيدي الناس } بشؤم معاصيهم أو بكسبهم إياه وقيل ظهر الفساد في البر بقتل قابيل أخاه وفي البحر بأن جلندا ملك عمان كان يأخذ كل سفينة غصبا { ليذيقهم بعض الذي عملوا } بعض جزائه فإن تمامه في الآخرة واللام للعلة أو العاقبة وعن ابن كثير و يعقوب ( لنذيقهم ) بالنون { لعلهم يرجعون } عما هم عليه

42 - { قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل } لتشاهدوا مصداق ذلك وتحققوا صدقه { كان أكثرهم مشركين } استئناف للدلالة على أن سوء عاقبتهم كان لفشو الشرك وغلبته فيهم أو كان الشرك في أكثرهم وما دونه من المعاصي في قليل منهم

43 - { فأقم وجهك للدين القيم } البليغ الاستقامة { من قبل أن يأتي يوم لا مرد له } لا يقدر أن يرده أحد وقوله : { من الله } متعلق بـ { يأتي } ويجوز أن يتعلق بـ { مرد } لأنه مصدر على معنى لا يرده الله لتعلق إرادته القديمة بمجيئه { يومئذ يصدعون } يتصدعون أي يتفرقون { فريق في الجنة وفريق في السعير } كما قال

44 - { من كفر فعليه كفره } أي وباله وهو النار المؤبدة { ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون } يسوون منزلا في الجنة وتقديم الظرف في الموضعين للدلالة على الاختصاص

45 - { ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله } علة لـ { يمهدون } أو لـ { يصدعون } والاقتصار على جزاء المؤمنين للإشعار بأنه المقصود بالذات والاكتفاء على فحوى قوله : { إنه لا يحب الكافرين } فإن فيه إثبات البغض لهم والمحبة للمؤمنين وتأكيد اختصاص الصلاح المفهوم من ترك ضميرهم إلى التصريح بهم تعليل له ومن فضله دال على أن الإثابة تفضل محض وتأويله بالعطاء أو الزيادة على الثواب عدول عن الظاهر

46 - { ومن آياته أن يرسل الرياح } الشمال والصبا والجنوب فإنها رياح الرحمة وأما الدبور فريح العذاب ومنه قوله عليه الصلاة و السلام [ اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا ] وقرأ ابن كثير و حمزة و الكسائي ( الريح ) على إرادة الجنس { مبشرات } بالمطر { وليذيقكم من رحمته } يعني المنافع التابعة لها وقيل الخصب التابع لنزول المطر المسبب عنها أو الروح الذي هو مع هبوبها والعطف على علة محذوفة دل عليها { مبشرات } أو عليها باعتبار المعنى أو على { يرسل } بإضمار فعل معلل دل عليه { ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله } يعني تجارة البحر { ولعلكم تشكرون } ولتشكروا نعمة الله تعالى فيها

47 - { ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا } بالتدمير { وكان حقا علينا نصر المؤمنين } إشعار بأن الانتقام لهم وإظهار لكرامتهم حيث جعلهم مستحقي على الله أن ينصرهم وعنه عليه الصلاة و السلام [ ما من امرئ مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم ثم تلا ذلك ] وقد يوقف على { حقا } على أنه متعلق بالانتقام

48 - { الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه } متصلا تارة { في السماء } في سمتها { كيف يشاء } سائرا أو واقفا مطبقا وغير مطبق من جانب دون جانب إلى غير ذلك { ويجعله كسفا } قطعا تارة أخرى وقرأ ابن عامر بالسكون على أنه مخفف أو جمع كسفة أو مصدر وصف به { فترى الودق } المطر { يخرج من خلاله } في التارتين { فإذا أصاب به من يشاء من عباده } يعني بلادهم وأراضيهم { إذا هم يستبشرون } لمجيء الخصب

49 - { وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم } المطر { من قبله } تكرير للتأكيد والدلالة على تطاول عهدهم بالمطر واستحكام يأسهم وقيل الضمير للمطر أو السحاب أو الإرسال { لمبلسين } لآيسين

50 - { فانظر إلى آثار رحمة الله } أثر الغيث من النبات والأشجار وأنواع الثمار ولذلك جمعه ابن عامر و حمزة و الكسائي و حفص { كيف يحيي الأرض بعد موتها } وقرئ بالتاء على إسناده إلى ضمير الرحمة { إن ذلك } يعين إن الذي قدر على إحياء الأرض بعد موتها { لمحيي الموتى } لقادر على إحيائهم فإنه إحداث لمثل ما كان في مواد أبدانهم من القوى الحيوانية كما أن إحياء الأرض إحداث لمثل ما كان فيها من القوى النباتية هذا ومن المحتمل أن يكون من الكائنات الراهنة ما يكون من مواد تفتت وتبددت من جنسها في بعض الأعوام السالفة { وهو على كل شيء قدير } لأن نسبة قدرته إلى جميع الممكنات على سواء

51 - { ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا } فرأوا الأثر أو الزرع فإنه مدلول عليه بما تقدم وقيل السحاب لأنه إذا كان { مصفرا } لم يمطر واللام موطئة للقسم دخلت على حرف الشرط وقوله : { لظلوا من بعده يكفرون } جواب سد مسد الجزاء ولذلك فسر بالاستقبال وهذه الآية ناعية على الكفار بقلة تثبتهم وعدم تدبرهم وسرعة تزلزلهم لعدم تفكرهم وسوء رأيهم فإن النظر السوي يقتضي أن يتوكلوا على الله ويلتجئوا إليه بالاستغفار إذا احتسب القطر عنهم ولا ييأسوا من رحمته وأن يبادروا إلى الشكر والاستدامة بالطاعة إذا أصابهم برحمته ولم يفرطوا في الاستبشار وأن يصبروا على بلائه إذا ضرب زرعهم بالاصفرار ولا يكفروا نعمه

52 - { فإنك لا تسمع الموتى } وهم مثلهم لما سدوا عن الحق مشاعرهم { ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين } قيد الحكم به ليكون أشد استحالة فإن الأصم المقبل وإن لم يسمع الكلام يفطن منه بواسطة الحركات شيئا وقرأ ابن كثير بالياء مفتوحة ورفع ( الصم )

53 - { وما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم } سماهم عميا لفقدهم المقصود الحقيقي من الأبصار أو لعمى قلوبهم وقرأ حمزة وحده ( تهدي العمي ) { إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا } فإن إيمانهم يدعوهم إلى تلقي اللفظ وتدبر المعنى ويجوز أن يراد بالمؤمن المشارف للإيمان { فهم مسلمون } لما تأمرهم به

54 - { الله الذي خلقكم من ضعف } أي ابتدأكم ضعفاء وجعل الضعف أساس أمركم كقوله { خلق الإنسان ضعيفا } أو خلقكم من أصل ضعيف وهو النطفة { ثم جعل من بعد ضعف قوة } وذلك إذا بلغتم الحلم أو تعلق بأبدانكم الروح { ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة } إذا أخذ منكم السن وفتح عاصم و حمزة الضاد في جميعها والضم أقوى لقول ابن عمر رضي الله عنهما : قرأتها على رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من ضعف فأقرأني من ضعف ] وهما لغتان كالفقر والفقر والتنكير ما التكرير لأن المتأخر ليس عين المتقدم { يخلق ما يشاء } من ضعف وقوة وشبيبة وشيبة { وهو العليم القدير } فإن الترديد في الأحوال المختلفة مع إمكان غيره دليل العلم والقدرة

55 - { ويوم تقوم الساعة } القيامة سميت بها لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا أو لأنها تقع بغتة وصارت علما بها بالغلبة كالكوكب للزهرة { يقسم المجرمون ما لبثوا } في الدنيا أو في القبور أو فيما بين فناء الدنيا والبعث وانقطاع عذابهم وفي الحديث [ ما بين فناء الدنيا والبعث أربعون ] وهو محتمل الساعات والأيام والأعوام { غير ساعة } استقلوا مدة لبثهم إضافة إلى مدة عذابهم في الآخرة أو نسيانا { كذلك } مثل ذلك الصرف عن الصدق والتحقيق { كانوا يؤفكون } يصرفون في الدنيا

56 - { وقال الذين أوتوا العلم والإيمان } من الملائكة والإنس { لقد لبثتم في كتاب الله } في علمه أو قضائه أو ما كتبه لكم أي أوجبه أو اللوح أو القرآن وهو قوله : { ومن ورائهم برزخ } { إلى يوم البعث } ردوا بذلك ما قالوه وحلفوا عليه { فهذا يوم البعث } الذي أنكرتموه { ولكنكم كنتم لا تعلمون } أنه حق لتفريطكم في النظر والفاء لجواب شرط محذوف تقديره : إن كنتم منكرين البعث فهذا يومه أي فقد تبين بطلان إنكاركم

57 - { فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم } وقرأ الكوفيون بالياء لأن المعذرة بمعنى العذر أو لأن تأنيثها غير حقيقي وقد فصل بينهما { ولا هم يستعتبون } لا يدعون إلى ما يقتضي إعتابهم أي إزالة عتبهم من التوبة والطاعة كما دعوا إليه في الدنيا من قولهم استعتبني فلان فأعتبته أي استرضاني فأرضيته

سورة لقمان
58 - ناهم فيه بأنواع الصفات التي هي في الغرابة كالأمثال مثل صفة المبعوثين يوم القيامة فيما يقولون وما يقال لهم وما لا يكون من الانتفاع بالمعذرة والاستعتاب أو بينا لهم من كل مثل ينبههم على التوحيد والبعث وصدق الرسول { ولئن جئتهم بآية } من آيات القرآن { ليقولن الذين كفروا } من فرط عنادهم وقساوة قلوبهم { إن أنتم } يعنون الرسول والمؤمنين { إلا مبطلون } مزورون

59 - { كذلك } مثل ذلك الطبع { يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون } لا يبطلون العلم ويصرون على خرافات اعتقدوها فإن الجهل المركب يمنع إدراك الحق ويوجب تكذيب المحق

60 - { فاصبر } على أذاهم { إن وعد الله } بنصرتك وإظهار دينك على الدين كله { حق } لا بد من إنجازه { ولا يستخفنك } ولا يحملنك على الخفة والقلق { الذين لا يوقنون } بتكذيبهم وإيذائهم فإنهم شاكون ضالون لا يستبدع منهم ذلك وعن يعقوب بتخفيف النون وقرئ ( ولا يستحقنك ) أي لا يزيغنك فيكونوا أحق بك مع المؤمنين عن رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من قرأ سورة الروم كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل ملك سبح الله بين السماء والأرض وأدرك ما ضيع في يومه وليلته ]

1 - { ألم }

2 - { تلك آيات الكتاب الحكيم } سبق بيانه في ( يونس )

3 - { هدى ورحمة للمحسنين } حالان من الآيات والعامل فيهما معنى الإشارة ورفعهما حمزة على الخبر بعد الخبر أو الخبر لمحذوف

4 - { الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون } بيان لإحسانهم أو تخصيص لهذه الثلاثة من شعبه لفضل اعتداد بها وتكرير الضمير للتوكيد ولما حيل بينه وبين خبره

5 - { أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } لاستجماعهم العقيدة الحقة والعمل الصالح

6 - { ومن الناس من يشتري لهو الحديث } ما يلهي عما يعني كالأحاديث التي لا أصل لها والأساطير التي لا اعتبار بها والمضاحك وفضول الكلام والإضافة بمعنى من وهي تبيينية إن أراد بالحديث المنكر وتبعيضية إن أراد به الأعم منه وقيل نزلت في النضر بن الحارث اشترى كتب الأعاجم وكان يحدث بها قريشا ويقول : إن كان محمد يحدثكم بحديث عاد وثمود فأنا أحدثكم بحديث رستم واسفنديار والأكاسرة وقيل كان يشتري القيان ويحملهن على معاشرة من أراد الإسلام ومنعه عنه { ليضل عن سبيل الله } دينه أو قراءة كتابه وقرأ ابن كثير و أبو عمرو بفتح الياء بمعنى ليثبت على ضلاله ويزيد فيه { بغير علم } بحال ما يشتريه أو بالتجارة حيث استبدل اللهو بقراءة القرآن { ويتخذها هزوا } ويتخذ السبيل سخرية وقد نصبه حمزة و الكسائي و يعقوب و حفص عطفا على { ليضل } { أولئك لهم عذاب مهين } لإهانتهم الحق باستئثار الباطل عليه

7 - { وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا } متكبرا لا يعبأ بها { كأن لم يسمعها } مشابها حاله حال من لم يسمعها { كأن في أذنيه وقرا } مشابها من في أذنيه ثقل لا يقدر أن يسمع والأولى حال من المستكن في { ولى } أو في { مستكبرا } والثانية بدل منها أو حال من المستكن في { لم يسمعها } ويجوز أن يكونا استئنافين وقرأ نافع { في أذنيه } { فبشره بعذاب أليم } أعلمه بأن العذاب يحيق به لا محالة وذكر البشارة على التهكم

8 - { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم } أي لهم نعيم الجنات فعكس للمبالغة

9 - { خالدين فيها } حال من الضمير في { لهم } أو من { جنات النعيم } والعامل ما تعلق به اللام { وعد الله حقا } مصدران مؤكدان الأول لنفسه والثاني لغيره لأن قوله { لهم جنات } وعد وليس كل وعد حقا { وهو العزيز } الذي لا يغلبه شيء فيمنعه عن إنجاز وعده ووعيده { الحكيم } الذي لا يفعل إلا ما تستدعيه حكمته

10 - { خلق السموات بغير عمد ترونها } قد سبق في ( الرعد ) { وألقى في الأرض رواسي } جبالا شوامخ { أن تميد بكم } كراهة أن تميد بكم فإن تشابه أجزائها يقتضي تبدل أحيازها وأوضاعها لامتناع اختصاص كل منها لذاته أو لشيء من لوازمه بحيز ووضع معينين { وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم } من كل صنف كثير المنفعة وكأنه استدل بذلك على عزته التي هي كمال القدرة وحكمته التي هي كمال العلم ومهد به قاعدة التوحيد وقررها بقوله :

11 - { هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه } هذا الذي ذكر مخلوقه فماذا خلق آلهتكم حتى استحقوا مشاركته و { ماذا } نصب بـ { خلق } أو ما مرتفع بالابتداء وخبره ذا بصلته { فأروني } معلق عنه { بل الظالمون في ضلال مبين } إضراب عن تبكيتهم إلى التسجيل عليهم بالضلال الذي لا يخفى على ناظر ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أنهم ظالمون بإشراكهم

12 - { ولقد آتينا لقمان الحكمة } يعني لقمان بن باعوراء ن أولاد آزر ابن أخت أيوب أو خالته وعاش حتى أدرك داود عليه الصلاة و السلام وأخذ منه العلم وكان يفتي قبل مبعثه والجمهور على أنه كان حكيما ولم يكن نبيا والحكمة في عرف العلماء : استكمال النفس الإنسانية باقتباس العلوم النظرية واكتساب الملكة التامة على الأفعال الفاضلة على قدر طاقتها ومن حكمته أن صحب داود شهورا وكان يسرد الدرع فلم يسأله عنها فلما أتمها لبسها وقال : نعم لبوس الحرب أنت فقال : الصمت حكم وقليل فاعله وأن داود عليه السلام قال له يوما كيف أصبحت فقال أصبحت في يدي غيري فتفكر داود فيه فصعق صعقة وأنه أمره بأن يذبح شاة ويأتي بأطيب مضغتين منها فأتى باللسان والقلب ثم بعد أيام أمره بأن يأتي بأخبث مضغتين فأتى بهما أيضا فسأله عن ذلك فقال : هما أطيب شيء إذا طابا وأخبث شيء إذا خبثا { أن اشكر لله } لأن أشكر أو أي أشكر فإن إيتاء الحكمة في معنى القول { ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه } لأن نفعه عائد إليها وهو دوام النعمة واستحقاق مزيدها { ومن كفر فإن الله غني } لا يحتاج إلى الشكر { حميد } حقيق بالحمد وإن لم يحمد أو محمود ينطق بحمده جميع مخلوقاته بلسان الحال

13 - { وإذ قال لقمان لابنه } أنعم أو أشكم أو ماثان { وهو يعظه يا بني } تصغير إشفاق وقرأ ابن كثير هنا وفي { يا بني أقم الصلاة } بإسكان الياء و حفص فيهما وفي { يا بني إنها إن تك } بفتح الياء ومثله البزي في الأخير وقرأ الباقون في الثلاثة بكسر الياء { لا تشرك بالله } قيل كان كافرا فلم يزل به حتى أسلم ومن وقف على { لا تشرك } جعل بالله قسما { إن الشرك لظلم عظيم } لأنه تسوية بين من لا نعمة إلا منه ومن لا نعمة منه

14 - { ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا } ذات وهن أو تهن وهنا { على وهن } أي تضعف ضعفا فوق ضعف فإنها لا تزال يتضاعف ضعفها والجملة في موضع الحال وقرئ بالتحريك يقال وهن يهن وهنا ووهن يوهن وهنا { وفصاله في عامين } وفطامه في انقضاء عامين وكانت ترضعه في تلك المدة وقرئ ( وفصله في عامين ) وفيه دليل على أن أقصى مدة الرضاعة حولان { أن اشكر لي ولوالديك } تفسير لـ { وصينا } أو علة له أو بدل من والديه بدل الاشتمال وذكر الحمل والفصال في البين اعتراض مؤكد للتوصية في حقها خصوصا ومن ثم قال عليه الصلاة و السلام لمن قال من أبر [ أمك ثم أمك ثم أمك ثم قال بعد ذلك أباك ] { إلي المصير } فأحاسبك على شكرك وكفرك

15 - { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم } باستحقاقه الإشراك تقليدا لهما وقيل أراد بنفي العلم به نفيه { فلا تطعهما } في ذلك { وصاحبهما في الدنيا معروفا } صحابا معروفا يرتضيه الشرع ويقتضيه الكرم { واتبع } في الدين { سبيل من أناب إلي } بالتوحيد والإخلاص في الطاعة { ثم إلي مرجعكم } مرجعك ومرجعهما { فأنبئكم بما كنتم تعملون } بأن أجازيك على إيمانك وأجازيهما على كفرهما والآيتان معترضتان في تضاعيف وصية لقمان تأكيدا لما فيا من النهي عن الشرك كأنه قال : وقد وصينا بمثل ما وصى به وذكر الوالدين للمبالغة في ذلك فإنهما منع أنهما تلو الباري في استحقاق التعظيم والطاعة لا يجوز أن يستحقاه في الإشراك فما ظنك بغيرهما نزولهما في سعد بن أبي وقاص وأمه مكثت لإسلامه ثلاثا لم تطعم فيها شيئا ولذلك قيل من أناب إليه أبو بكر رضي الله عنه فإنه أسلم بدعوته

16 - { يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل } أي أن الخصلة من الإحسان أو الإساءة إن تك مثلا في الصغر كحبة الخردل ورفع نافع { مثقال } على أن الهاء ضمير القصة وكان تامة وتأنيثها لإضافة المثقال إلى الحبة كقول الشاعر :
( كما شرقت صدر القناة من الدم )
أو لأن المراد به الحسنة أو السيئة { فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض } في أخفى مكان وأحرزه كجوف صخرة أ أعلاه كمحدب السموات أو أسفله كمقعر الأرض وقرئ بكسر الكاف من وكن الطائر إذا استقر في وكنته { يأت بها الله } يحضرها فيحاسب عليها { إن الله لطيف } يصل علمه إلى كل خفي { خبير } عالم بكنهه

17 - { يا بني أقم الصلاة } تكميلا لنفسك { وأمر بالمعروف وانه عن المنكر } تكميلا لغيرك { واصبر على ما أصابك } من الشدائد سيما في ذلك { إن ذلك } إشارة إلى الصبر أو إلى كل ما أمر به { من عزم الأمور } مما عزمه الله من الأمور أي قطعه قطع إيجاب مصدر أطلق للمفعول ويجوز أن يكون بمعنى الفاعل من قوله { فإذا عزم الأمر } أي جد

18 - { ولا تصعر خدك للناس } لا تمله عنهم ولا تولهم صفحة وجهك كما يفعله المتكبرون من الصعر وهو داء البعير فيلوي عنقه وقرأ نافع و أبو عمرو و حمزة و الكسائي ( ولا تصاعر ) وقرئ ( ولا تصعر ) والكل واحد مثل علاه وأعلاه وعالاه { ولا تمش في الأرض مرحا } أي فرحا مصدر وقع موقع الحال أي تمرح مرحا أو لأجل المرح وهو البطر { إن الله لا يحب كل مختال فخور } علة للنهي وتأخير الـ { فخور } وهو مقابل للمصعر خده والمختال للماشي مرحا لتوافق رؤوس الآي

19 - { واقصد في مشيك } توسط فيه بين الدبيب والإسراع وعنه عليه الصلاة و السلام : [ سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن ] وقول عائشة في عمر رضي الله عنهما كان إذا مشى أسرع فالمراد ما فوق دبيب المتماوت وقرئ بقطع الهمزة من أقصد الرامي إذا سدد سهمه نحو الرمية { واغضض من صوتك } وانقص منه واقصر { إن أنكر الأصوات } أوحشها { لصوت الحمير } والحمار مثل في الذم سيما نهاقه ولذلك يكنى عنه فيقال طويل الأذنين وفي تمثيل الصوت المرتفع بصوته ثم إخراجه مخرج الاستعارة مبالغة شديدة وتوحيد الصوت لأن المراد تفضيل الجنس في النكير دون الآحاد أو لأنه مصدر في الأصل

20 - { ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات } بأن جعله أسبابا محصلة لمنافعكم { وما في الأرض } بأن مكنكم من الانتفاع به بوسط أو غير وسط { وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة } محسوسة ومعقولة ما تعرفونه وما لا تعرفونه وقد مر شرح النعمة وتفصيلها في الفاتحة وقرئ ( وأصبغ ) بالإبدال وهو جار في كل سين اجتمع من الغين أو الخاء أو القاف كصلخ وصقر وقرأ نافع و أبو عمرو و حفص ( نعمه ) بالجمع والإضافة { ومن الناس من يجادل في الله } في توحيده وصفاته { بغير علم } مستفاد من دليل { ولا هدى } راجع إلى رسول { ولا كتاب منير } أنزله الله بل بالتقليد كما قال :

21 - { وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا } وهو منع صريح من التقليد في الأصول { أو لو كان الشيطان يدعوهم } يحتمل أن يكون الضمير { لهم } ولآبائهم { إلى عذاب السعير } إلى ما يؤول إليه من التقليد أو الإشراك وجواب محذوف مثل لاتبعوه والاستفهام للإنكار والتعجب

22 - { ومن يسلم وجهه إلى الله } بأن فوض أمره إليه وأقبل بشراشره عليه من أسلمت المتاع إلى الزبون ويؤيده القراءة بالتشديد وحيث عدي باللام فلتضمن معنى الإخلاص { وهو محسن } في عمله { فقد استمسك بالعروة الوثقى } تعلق بأوثق ما يتعلق به وهو تمثيل للمتوكل المشتغل بالطاعة بمن أراد أن يترقى إلى شاهق جبل فتمسك بأوثق عرى الحبل المتدلي منه { وإلى الله عاقبة الأمور } إذ الكل صائر إليه

23 - { ومن كفر فلا يحزنك كفره } فإنه لا يضرك في الدنيا والآخرة وقرئ { فلا يحزنك } من أحزن وليس بمستفيض { إلينا مرجعهم } في الدارين { فننبئهم بما عملوا } بالإهلاك والتعذيب { إن الله عليم بذات الصدور } فمجاز عليه فضلا عما في الظاهر

24 - { نمتعهم قليلا } تمتيعا أو زمانا قليلا فإن ما يزول بالنسبة إلى ما يدوم قليل { ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ } يثقل عليهم ثقل الأجرام الغلاظ أو يضم إلى الإحراق الضغط

25 - { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله } لوضوح الدليل المانع من إسناد الخلق إلى غيره بحيث اضطروا إلى إذاعته { قل الحمد لله } على إلزامهم وإلجائهم إلى الاعتراف بما يوجب بطلان معتقدهم { بل أكثرهم لا يعلمون } أن ذلك يلزمهم

26 - { لله ما في السموات والأرض } لا يستحق العبادة فيهما غيره { إن الله هو الغني } عن حمد الحامدين { الحميد } المستحق للحمد وإن لم يحمد

27 - { ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام } ولو ثبت تكون الأشجار أقلاما وتوحيد { شجرة } لأن المراد تفصيل الآحاد { والبحر يمده من بعده سبعة أبحر } والبحر المحيط بسعته مدادا ممدودا بسبعة أبحر فأغنى عن ذكر المداد بمده لأنه من مد الدواة وأمدها ورفعه للعطف على محل أن ومعموليها وبمده حال أو للابتداء على أنه مستأنف أو الواو للحال ونصبه البصريان بالعطف على اسم { أن } أو إضمار فعل يفسره { يمده } وقرئ ( تمده ) بالياء والتاء { ما نفدت كلمات الله } بكتبها بتلك الأقلام بذلك المداد وإيثار جمع القلة للإشعار بأن ذلك لا يفي بالقليل فكيف بالكثير { إن الله عزيز } لا يعجزه شيء { حكيم } لا يخرج عن علمه وحمته أمر والآية جواب لليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم أو أمروا وفد قريش أن يسألوه عن قوله تعالى : { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } وقد أنزل التوراة وفيها علم كل شيء

28 - { ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة } إلا كخلقها وبعثها إذ لا يشغله شأن عن شأن لأنه يكفي لوجود الكل تعلق إرادته الواجبة مع قدرته الذاتية كما قال { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } { إن الله سميع } يسمع كل مسموع { بصير } يبصر كل مبصر لا يشغله إدراك بعضها عن بعض فكذلك الحق

29 - { ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري } كل من النيرين يجري في فلكه { إلى أجل مسمى } إلى منتهى معلوم الشمس إلى آخر السنة والقمر إلى آخر الشهر وقيل إلى يوم القيامة والفرق بينه وبين قوله { لأجل مسمى } أن الـ { أجل } ها هنا منتهى الجري وثمة غرضه حقيقة أو مجازا وكلا المعنيين حاصل في الغايات { وأن الله بما تعملون خبير } عالم بكنهه

30 - { ذلك } إشارة إلى الذي ذكر من سعة العلم وشمول القدرة وعجائب الصنع واختصاص الباري بها { بأن الله هو الحق } بسبب أنه الثابت في ذاته الواجب من جميع جهاته أو الثابت إلهيته { وأن ما يدعون من دونه هو الباطل } المعدوم في حد ذاته لأنه لا يوجد ولا يتصف إلا بجعله أو الباطل إلهيته وقرأ البصريان والكوفيون غير أبي بكر بالياء { وأن الله هو العلي الكبير } مترفع على كل شيء ومتسلط عليه

31 - { ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله } بإحسانه في تهيئة أسبابه وهو استشهاد آخر على باهر قدرته وكمال حكمه وشمول إنعامه والباء للصلة أو الحال وقرئ { الفلك } بالتثقيل و ( بنعمات الله ) بسكون العين وقد جوز في مثله الكسر والفتح والسكون { ليريكم من آياته } دلائله { إن في ذلك لآيات لكل صبار } على المشاق فيتعب نفسه بالتفكر في الآفاق والأنفس { شكور } يعرف النعم ويتعرف مانحها أو للمؤمنين فإن الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر

سورة السجدة
32 - { موج كالظلل } كما يظل من جبل أو سحاب أو غيرهما وقرئ كالظلال جمع ظلة كقلة وقلال { دعوا الله مخلصين له الدين } لزوال ما ينازع الفطرة من الهوى والتقليد بما دهاهم من الخوف الشديد { فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد } مقيم على الطريق القصد الذي هو التوحيد أو متوسط في الكفر لانزجاره بعض الانزجار { وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار } غدار فإنه نقض للعهد الفطري أو لما كان في البحر والختر أشد الغدر { كفور } للنعم

33 - { يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده } لا يقضي عنه وقرئ ( لا يجزئ ) من أجزأ إذا أغنى والراجع إلى الموصوف محذوف أي لا يجزي فيه { ولا مولود } عطف على { والد } أو مبتدأ خبره { هو جاز عن والده شيئا } وتغيير النظم للدلالة على أن المولود أولى بأن لا يجزي وقطع طمع من توقع من المؤمنين أن ينفع أباه الكافر في الآخرة { إن وعد الله } بالثواب والعقاب { حق } لا يمكن خلفه { فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور } الشيطان بأن يرجيكم التوبة والمغفرة فيجسركم على المعاصي

34 - { إن الله عنده علم الساعة } علم وقت قيامها لما روي [ أن الحرث بن عمرو أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : متى قيام الساعة ؟ وإني قد ألقيت حباتي في الأرض فتى السماء تمطر ؟ وحمل امرأتي أذكر أم أنثى ؟ وما أ'مل غدا وأين أموت ؟ فنزلت ] وعنه عليه الصلاة و السلام [ مفاتح الغيب خمس وتلا هذه الآية ] { وينزل الغيث } في إبانة المقدر له والمحل المعين له في علمه وقرأ نافع و ابن عامر و عاصم بالتشديد { ويعلم ما في الأرحام } أذكر أم أنثى أتام أم ناقص { وما تدري نفس ماذا تكسب غدا } من خير أو شر وربما تعزم على شيء وتفعل خلافه { وما تدري نفس بأي أرض تموت } كما لا تدري في أي وقت تموت روي أن ملك الموت مر على سليمان فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظم إليه فقال الرجل من هذا ؟ قال : ملك الموت فقال كأنه يريدني فمر الريح أن تحملني وتلقيني بالهند ففعل فقال الملك : كان دوام نظري إليه تعجبا منه إذ أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك ) وإنما جعل العلم لله تعالى والدراية للعبد لأن فيها معنى الحيلة فيشعر بالفرق بين العلمين ويدل على أنه إن أعمل حيلة وأنفذ فيها وسعه لم يعرف ما هو الحق به من كسبه وعاقبته فكيف بغيره مما لم ينصب له دليل عليه وقرئ ( بأية أرض ) وشبه سيبويه تأنيثها بتأنيث كل في { كلهن } { إن الله عليم } يعلم الأشياء كلها { خبير } يعلم بواطنها كما نعلم ظواهرها
وعنه عليه الصلاة و السلام [ من قرأ سورة لقمان كان له لقمان رفيقا يوم القيامة وأعطي من الحسنات عشرا عشرا بعدد من عمل بالمعروف ونهى عن المنكر ]

1 - { ألم } إن جعل اسما للسورة أو القرآن فمبتدأ خبره :

2 - { تنزيل الكتاب } على أن التنزيل بمعنى المنزل وإن جعل تعديدا للحروف كان { تنزيل } خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره : { لا ريب فيه } فيكون { من رب العالمين } حالا من الضمير في الضمير في { فيه } لأن المصدر لا يعمل فيما بعد الخبر ويجوز أن يكون خبرا ثانيا ولا { ريب فيه } حال من { الكتاب } أو اعتراض والضمير فيه لمضمون الجملة ويؤيده قوله :

3 - { أم يقولون افتراه } فإنه إنكار لكونه من رب العالمين وقوله : { بل هو الحق من ربك } فإنه تقرير له ونظم الكلام على هذا أنه أشار أولا إلى إعجازه ثم رتب عليه أن تنزيله من رب العالمين وقرر ذلك بنفي الريب عنه ثم أضرب عن ذلك إلى ما يقولون فيه على خلاف ذلك إنكارا له وتعجيبا منه فإن
{ أم } منقطعة ثم أضرب عنه إلى إثبات أنه الحق المنزل من الله وبين المقصود من تنزيله فقال : { لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك } إذا كانوا أهل الفترة { لعلهم يهتدون } بإنذارك إياهم

4 - { الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش } مر بيانه في ( الأعراف ) { ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع } { ما لكم } إذا جاوزتم رضا الله أحد ينصركم ويشفع لكم أو { ما لكم } سواه ولي ولا شفيع بل هو الذي يتولى مصالحكم وينصركم في مواطن نصركم على أن الشفيع متجوز به للناصر فإذا خذلكم لي يبق لكم ولي ولا ناصر { أفلا تتذكرون } بمواعظ الله تعالى

5 - { يدبر الأمر من السماء إلى الأرض } يدبر أمر الدنيا بأسباب سماوية كالملائكة وغيرها نازلة آثارها إلى الأرض { ثم يعرج إليه } ثم يصعد إليه ويثبت في علمه موجودا { في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون } في برهة من الزمان متطاولة يعني بذلك استطالة ما بن التدبير والوقوع وقيل يدبر الأمر بإظهار في اللوح فينزل به الملك ثم يعرج إليه في زمان هم كألف سنة لأن مسافة نزوله وعروجه مسيرة ألف سنة فإن ما بين السماء ولأرض مسيرة خمسمائة سنة وقيل يقضي قضاء ألف سنة فينزل به الملك ثم يعرج بعد الألف لألف آخر وقيل يدبر الأمر إلى قيام الساعة ثم يعرج إليه الأمر كله يوم القيامة وقيل يدبر المأمور به من الطاعات منزلا من السماء إلى الأرض بالوحي ثم لا يعرج إليه خالصا كما يرتضيه إلا في مدة متطاولة لقلة المخلصين والأعمال الخلص وقرئ
( يعرج ) و ( يعدون )

6 - { ذلك عالم الغيب والشهادة } فيدبر أمرها على وفق الحكمة { العزيز } الغالب على أمره { الرحيم } على العبادة في تدبيره وفيه إيماء بأنه سبحانه يراعي المصالح تفضلا وإحسانا

7 - { الذي أحسن كل شيء خلقه } خلقة موفرا عليه ما يستعد له ويليق به على وفق الحكمة والمصلحة وخلقه بدل من كل بدل الاشتمال وقل علم كيف يخلقه من قولهم قيمة المرء ما يحسنه أي يحسن معرفته و { خلقه } مفعول ثان وقرأ نافع والكوفيون بفتح اللام على الوصف فالشيء على الأول مخصوص بمنفصل وعلى الثاني بمتصل { وبدأ خلق الإنسان } يعني آدم
{ من طين }

8 - { ثم جعل نسله } ذريته سميت بذلك لأنها تنسل منه أي تنفصل { من سلالة من ماء مهين } ممتهن

9 - { ثم سواه } قومه بتصوير أعضائه على ما ينبغي { ونفخ فيه من روحه } إضافة إلى نفسه تشريفا له وإشعارا بأنه خلق عجيب وأن له شأنا له مناسبة ما إلى الحضرة الربوبية ولأجله قيل من عرف نفيه فقد عرف ربه { وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة } خصوصا لتسمعوا وتبصروا وتعقلوا { قليلا ما تشكرون } تشكرون شكرا قليلا

10 - { وقالوا أإذا ضللنا في الأرض } أي صرنا ترابا مخلوط بتراب الأرض لا نتميز منه أو غبنا فيها وقرأ ( ضللنا ) بالكسر من ضل يضل ( وضللنا ) من صل اللحم إذا أنتن وقرأ ابن عامر
( إذا ) على الخبر والعامل فيه دل عليه { أإنا لفي خلق جديد } وهو : نبعث أو يجدد خلقنا وقرأ نافع و الكسائي و
يعقوب ( أنا ) على الخبر والقائل أبي بن خلف وإسناده إلى جميعهم لرضاهم به { بل هم بلقاء ربهم } بالبعث أو بتلقي ملك الموت وما بعده { كافرون } جاحدون

11 - { قل يتوفاكم } يستوفي نفوسكم لا يترك منها شيئا ولا يبقى منكم أحدا والتفعل والاستفعال يلتقيان كثيرا كتقصيته واستقصيته وتعجلته واستعجلته { ملك الموت الذي وكل بكم } بقبض أرواحكم وإحصاء آجالكم { ثم إلى ربكم ترجعون } للحساب والجزاء

12 - { ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم } من الحياء والخزي { ربنا } قائلين ربنا { أبصرنا } ما وعدتنا { وسمعنا } منك تصديق رسلك { فارجعنا } إلى الدنيا { نعمل صالحا إنا موقنون } إذ لم يبق لنا شك بما شاهدنا وجواب { لو } محذوف تقديره لرأيت أمرا فظيعا ويجوز أن تكون للتمني والمضي فيها وفي { إذ } لأن الثابت في علم الله منزلة الواقع ولا يقدر لـ { ترى } مفعول لأن المعنى لو يكون منك رؤية في هذا الوقت أو يقدر ما دل عليه صلة إذا والخطاب للرسول صلى الله عليه و سلم أو لكل أحد

13 - { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها } ما تهتدي به إلى الإيمان والعمل الصالح بالتوفيق له { ولكن حق القول مني } ثبت قضائي وسبق وعيدي وهو { لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } وذلك تصريح بعدم إيمانهم لعدم المشيئة المسبب عن سبق الحكم بأنهم من أهل النار ولا يدفعه جعل ذوق العذاب مسببا عن نسيانهم العاقبة وعدم تفكرهم فيها بقوله :

14 - { فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا } فإنه من الوسائط والأسباب المقتضية له { إنا نسيناكم } تركناكم من الرحمة أو في العذاب ترك المنسي وفي استئنافه وبناء افعل على أن واسمها تشديد في الانتقام منهم { وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون } كرر الأمر للتأكيد ولما نيط به من التصريح بمفعوله وتعليله بأفعالهم السيئة من التكذيب والمعاصي كما علله بتركهم وتدبر أمر العاقبة والتفكير فيها دلالة على أن كلا منهما يقتضي ذلك

15 - { إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها } وعظوا بها { خروا سجدا } خوفا من الله { وسبحوا } نزهوه عما لا يليق به كالعجز عن البعث { بحمد ربهم } حامدين له شكرا على ما وفقهم للإسلام وآتاهم الهدى { وهم لا يستكبرون } عن الإيمان والطاعة كم يفعل من يصر مستكبرا

16 - { تتجافى جنوبهم } ترتفع وتتنحى { عن المضاجع } الفرش ومواضع النوم { يدعون ربهم } داعين إياه { خوفا } من سخطه { وطمعا } في رحمته [ وعن النبي صلى الله عليه و سلم في تفسيرها قيام العبد من الليل ] [ وعنه عليه الصلاة و السلام إذا جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد جاء مناد ينادي بصوت يسمع الخلائق كلهم : سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم ثم يرجع فينادي : ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل ثم يرجع فينادي : ليقم الذين كانوا يحمدون الله في السراء والضراء فيقومون وهم قليل فيسرحون جميعا إلى الجنة ثم يحاسب سائر الناس ] وقيل كان أناس من الصحابة يصلون المغرب إلى العشاء فنزلت فيهم { ومما رزقناهم ينفقون } في وجوه الخير

17 - { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم } لا ملك مقرب ولا نبي مرسل { من قرة أعين } مما تقر به عيونهم [ وعنه عليه الصلاة و السلام يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بله ما أطلعتهم عليه اقرؤوا فلا تعلم نفس ما أخفي لهم ] وقرأ حمزة و يعقوب { أخفي لهم } على أنه مضارع أخفيت وقروء نخفي وأخفي الفاعل للكل هو الله وقرأت { أعين } لاختلاف أنواعها والعلم بمعنى المعرفة و { ما } موصوله أو استفهامية معلق عنها الفعل { جزاء بما كانوا يعملون } أي جزوا جزاء أو أخفي للجزاء فإن إخفاءه لعلو شأنه وقيل هذا القوم أخفوا أعمالهم فأخفى الله ثوابهم

18 - { أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا } خارجا عن الإيمان { لا يستوون } في الشرف والمثوبة تأكيد وتصريح والجمع للحمل على المعنى

19 - { أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى } فإنها المأوى الحقيقي والدنيا منزل مرتحل عنها لا محالة وقيل المأوى جنة من الجنان { نزلا } سبق تفسيره في سورة ( آل عمران ) { بما كانوا يعملون } بسبب أعمالهم أو على أعمالهم

20 - { وأما الذين فسقوا فمأواهم النار } مكان جنة المأوى للمؤمنين { كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها } عبارة عن خلودهم فيها { وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون } إهانة لهم وزيادة في غيظهم

21 - { ولنذيقنهم من العذاب الأدنى } عذاب الدنيا يريد ما محنوا به من السنة سبع سنين
والقتل والأسر { دون العذاب الأكبر } عذاب الآخرة { لعلهم } لعل من بقي منهم
{ يرجعون } يتوبون عن الكفر روي أن الوليد بن عقبة فاخر عليا رضي الله عنه يوم بدر فنزلت هذه الآيات

22 - { ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها } فلم يتفكر فيها و { ثم } لاستبعاد الإعراض عنها مع فرض وضوحها وإرشادها إلى أسباب السعادة بعد التذكير بها عقلا كما في بيت الحماسة
( ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة ... يرى غمرات الموت ثم يزورها )
{ إنا من المجرمين منتقمون } فكيف ممن كان أظلم من كل ظالم

23 - { ولقد آتينا موسى الكتاب } كما آتيناك { فلا تكن في مرية } في شك { من لقائه } من لقائك الكتاب كقوله : { إنك لتلقى القرآن } فإنا آتيناك من الكتاب مثل ما آتيناه منه فليس ذلك ببدع لم يكن قط حتى ترتاب فيه أو من لقاء موسى للكتاب أو من لقائك موسى [ وعنه عليه الصلاة و السلام رأيت ليلة أسري بي موسى صلى الله عليه و سلم رجلا آدم طوالا جعدا كأنه من رجال شنوءة ]
{ وجعلناه } أي المنزل على موسى { هدى لبني إسرائيل }

24 - { وجعلنا منهم أئمة يهدون } الناس إلى ما فيه من الحكم والأحكام { بأمرنا } إياهم به أو بتوفيقنا له { لما صبروا } وقرأ حمزة و الكسائي و رويس ( لما صبروا ) أي لصبرهم على الطاعة أو عن الدنيا { وكانوا بآياتنا يوقنون } لإمعانهم فيها النظر

25 - { إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة } يقضي فيميز الحق من الباطل بتمييز المحق من المبطل { فيما كانوا فيه يختلفون } من أمر الدين

26 - { أولم يهد لهم } الواو للعطف على منوي من جنس المعطوف والفاعل ضمير ما دل عليه { كم أهلكنا من قبلهم من القرون } أي كثرة من أهلكناهم من القرون الماضية أو ضمير الله بدليل القراءة بالنون { يمشون في مساكنهم } يعني أهل مكة يمرون في متاجرهم على ديارهم وقرئ
( يمشون ) بالتشديد { إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون } سماع تدبر واتعاظ

27 - { أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز } التي جرز نباتها أي قطع وأزيل لا التي لا تنبت لقوله : { فنخرج به زرعا } وقيل اسم موضع باليمن { تأكل منه } من الزرع { أنعامهم } كالتين والورق { وأنفسهم } كالحب والثمر { أفلا يبصرون } فيستدلون به على كمال قدرته وفضله

سورة الأحزاب
28 - } النصر أو الفصل بالحكومة من قوله { ربنا افتح بيننا } { إن كنتم صادقين } في الوعد به

29 - { قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون } وهو يوم القيامة فإنه يوم نصر المؤمنين على الكفرة والفصل بينهم وقيل يوم بدر أو يوم فتح مكة والمراد بالذين كفروا المقتولون منهم فيه فإنهم لا ينفعهم إيمانهم حال القتل ولا يمهلون وانطباقه جوابا على سؤالهم من حيث المعنى باعتبار ما عرف من غرضهم فإنهم لما أرادوا به الاستعجال تكذيبا واستهزاء أجيبوا بما يمنع الاستعجال

30 - { فأعرض عنهم } ولا تبال بتكذيبهم وقيل هو منسوخ بأية السيف { وانتظر } النصرة عليهم { إنهم منتظرون } الغلبة عليك وقرئ بالفتح على معنى أنهم أحقاء بأن ينتظر هلاكهم أو أن الملائكة ينتظرونه [ عن النبي صلى الله عليه و سلم من قرأ ألم تنزيل تبارك الذي بيده الملك أعطي من الأجر كأنما أحيا ليلة القدر ] [ وعنه من قرأ ألم تنزيل في بيته لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام ]

1 - { يا أيها النبي اتق الله } ناداه بالنبي وأمره بالتقوى تعظيما له وتفخيما لشأن التقوى والمراد به الأمر بالثبات عليه ليكون مانعا له عما نهى عنه بقوله : { ولا تطع الكافرين والمنافقين } فيما يعود بوهن في الدين روي أن أبا سفيان وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السلمي قدموا عليه في الموادعة التي كانت بينه وبينهم وقام معهم ابن أبي ومعتب بن قشير والجد بن قيس فقالوا له : ارفض ذكر آلهتنا وقل إن لها شفاعة وندعك وربك فنزلت { إن الله كان عليما } بالمصالح والمفاسد { حكيما } لا يحكم إلا بما تقتضيه الحكمة

2 - { واتبع ما يوحى إليك من ربك } كالنهي عن طاعتهم { إن الله كان بما تعملون خبيرا } فموح إليك ما تصلح به أعمالك ويغني عن الاستماع إلى الكفرة وقرأ أبو عمرو بالياء على أن الواو ضمير الكفرة والمنافقين أي أن الله خبير بمكايدهم فيدفعها عنك

3 - { وتوكل على الله } وكل أمرك إلى تدبيره { وكفى بالله وكيلا } موكلا إليه الأمور كلها

4 - { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } أي ما جمع قلبين في جوف لأن القلب معدن الروح الحيواني المتعلق بالنفس الإنساني أولا ومنع القوى بأسرها وذلك يمنع التعدد { وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم } وما جمع الزوجية والأمومة في امرأة ولا الدعوة والبنوة في رجل والمراد بذلك رد ما كانت العرب تزعم من أ اللبيب الأريب له قلبان ولذلك قيل لأبي معمر أو جميل بن أسد الفهري ذو القلبين والزوجة المظاهر عنها كالأم ودعي الرجل ابنه ولذلك كانوا يقولون لزيد بن حارثة الكلبي عتيق رسول الله صلى الله عليه و سلم ابن محمد أو المراد نفي الأمومة البنوة عن المظاهر عنها والمتبني ونفي القلبين لتمهيد أصل يحملان عليه والمعنى كما لم يجعل الله قلبين في جوف لأدائه إلى التناقض وهو أ يكون كل منهما أصلا لكل القوى وغير أصل لم يجعل الزوجة والدعي اللذين لا ولادة بينهما وبينه أمه وابنه اللذين بينهما وبينه ولادة وقرأ أبو عمرو ( اللاي ) بالياء وحده على أن أصله اللاء بهمزة فخففت وعن الحجازيين مثله وعنهما وعن يعقوب بالهمز وحده وأصل { تظاهرون } تتظاهرون فأدغمت التاء الثانية في الظاء وقرأ ابن عامر { تظاهرون } بالإدغام و حمزة و الكسائي بالحذف و عاصم { تظاهرون } من ظاهر وقرئ ( تظهرون ) من ظهر بمعنى ظاهر كعقد بمعنى عاقد وتظهرون من الظهور ومعنى الظهار : أن يقول للزوجة أنت علي كظهر أمي مأخوذ من الظهر باعتبار اللفظ كالتلبية من لبيك وتعديته بمن لتضمنه معنى التجنب لأنه كان طلاقا في الجاهلية وهو في الإسلام يقتضي الطلاق أو الحرمة إلى أداء الكفارة كما عدي آلى بها وهو بمعنى حلف وذكر الظهر للكناية عن البطن الذي هو عموده فإن ذكره يقارب ذكر الفرج أو للتغليظ في التحريم فإنهم كانوا يجرمون إتيان المرأة وظهرها إلى السماء وأدعياء جمع دعي على الشذوذ وكأنه شبه بفعيل بمعنى فاعل فجمع جمعه { ذلكم } إشارة إلى ما ذكر أو إلى الأخير { قولكم بأفواهكم } لا حقيقة له في الأعيان كقوله الهاذي { والله يقول الحق } ما له حقيقة عينية مطابقة له { وهو يهدي السبيل } سبيل الحق

5 - { ادعوهم لآبائهم } انسبوهم إليهم وهو إفراد للمقصود من أقواله الحقة وقوله : { هو أقسط عند الله } تعليل له والضمير لمصدر { ادعوهم } و { أقسط } افعل تفضيل قصد به الزيادة مطلقا من القسط بمعنى العدل ومعناه البالغ في الصدق { فإن لم تعلموا آباءهم } فتنسبوهم إليهم { فإخوانكم في الدين } أي فهم إخوانكم في الدين { ومواليكم } وأولياؤكم فيه فقولوا هذا أخي ومولاي بهذا التأويل { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به } ولا إثم عليكم فيما فعلتموه من ذلك مخطئين قبل النهي أو بعده على النسيان أو سبق اللسان { ولكن ما تعمدت قلوبكم } ولكن الجناح فيما تعمدت قلوبكم أو ولكن ما تعمدت قلوبكم فيه الجناح { وكان الله غفورا رحيما } لعفوه عن المخطئ واعلم أن التبني لا عبرة به عندنا وعند أبي حنيفة يوجب عتق مملوكه ويثبت النسب لمجهول له الذي يمكن إلحاقه به

6 - { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } في الأمور كلها فإنه لا يأمرهم ولا يرضى منهم إلا بما فيه صلاحهم ونجاحهم بخلاف النفس فلذلك أطلق فيجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم وأمره أنفذ عليهم من أمرها وشفقتهم عليه أتم من شفقتهم عليها روي : أنه عليه الصلاة و السلام أراد غزوة تبوك فأمر الناس بالخروج فقال ناس نستأذن آباءنا وأمهاتنا فنزلت وقرئ ( وهو أب لهم ) أي في الدين فن كل نبي أب لأمته من حيث أنه أصل فيما به الحياة الأبدية ولذلك صار المؤمنون أخوة { وأزواجه أمهاتهم } منزلات منزلتهن في التحريم واستحقاق التعظيم وفيما عدا ذلك فكما الأجنبيات ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها : لسنا أمهات النساء { وأولو الأرحام } وذوو القرابات { بعضهم أولى ببعض } في التوارث وهو نسخ لما كان في صدر الإسلام من التوارث بالهجرة والموالاة في الدين { في كتاب الله } في اللوح أو فيما أنزل وهو هذه الآية أو آية المواريث أو فيم فرض الله { من المؤمنين والمهاجرين } بيان لأولي الأرحام أو صلة لأولي أي أولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الدين ومن المهاجرين بحق الهجرة { إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا } استثناء من أعم ما يقدر الأولوية فيه من النفع والمراد بفعل المعروف التوصية أو منقطع { كان ذلك في الكتاب مسطورا } كان ما ذكر في الآيتين ثابتا في اللوح أو القرآن وقيل في التوراة

7 - { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم } مقدر باذكر وميثاقهم عهودهم بتبليغ
الرسالة والدعاء إلى الدين القيم { ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم } خصهم بالذكر لأنهم مشاهير أرباب الشرائع وقدم نبينا عليه الصلاة
والسلام تعظيما له وتكريما لشأنه { وأخذنا منهم ميثاقا غليظا } عظيم الشأن
أو مؤكدا باليمين والتكرير لبيان هذا الوصف تعظيما له

8 - { ليسأل الصادقين عن صدقهم } أي فعلنا ذلك ليسأل الله يوم القيامة الأنبياء الذين صدقوا عهدهم عما قالوه لقومهم أو تصديقهم إياهم تبكيتا لهم أو المصدقين لهم عن تصديقهم فإن مصدق الصادق صادق أو المؤمنين الذين صدقوا عهدهم حين أشهدهم على أنفسهم عن صدقهم عهدهم { وأعد للكافرين عذابا أليما } عطف على { أخذنا } من جهة أن بعثة الرسل وأخذ الميثاق منهم لإثابة المؤمنين أو على ما دل عليه ليسأل كأنه قال فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين

9 - { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود } يعني الأحزاب وهم قريش وغطفان ويهود قريظة والنضير وكانوا زهاء اثني عشر ألفا { فأرسلنا عليهم ريحا } ريح الصبا { وجنودا لم تروها } الملائكة روي أنه عليه الصلاة و السلام لما سمع بإقبالهم ضرب الخندق على المدينة ثم خرج إليهم في ثلاثة آلاف والخندق بينه وبينهم ومضى على الفريقين قريب من شهر لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة حتى بعث الله عليهم ريحا باردة في ليلة شاتية فأخصرتهم وسفت التراب في وجوههم وأطفأت نيرانهم وقلعت خيامهم وماجت الخيل بعضها في بعض وكبرت الملائكة في جوانب العسكر فقال طليحة بن خويلد الأسدي أما محمد فقد بدأكم بالسحر فالنجاء النجاء فانهزموا من غير قتال { وكان الله بما تعملون } من حفر الخندق وقرأ البصريان بالياء أي بما يعمل المشركون من التحزب والمحاربة { بصيرا } رائيا

10 - { إذا جاؤوكم } بدل من إذ جاءتكم { من فوقكم } من أعلى الوادي من قبل المشرق بنو غطفان { ومن أسفل منكم } من أسفل الوادي من قبل المغرب قريش { وإذ زاغت الأبصار } مالت عن مستوى نظرها حيرة وشخوصا { وبلغت القلوب الحناجر } رعبا فإن الرئة تنتفخ من شدة الروع فيرتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة وهي منتهى الحلقوم مدخل الطعام والشراب { وتظنون بالله الظنونا } الأنواع من الظن فظن المخلصون الثبت القلوب أن الله منجز وعده في إعلاء دينه أو ممتحنهم فخافوا الزلل وضعف الاحتمال والضعاف القلوب والمنافقون ما حكي عنهم والألف مزيدة في أمثاله تشبيها للفواصل بالقوافي وقد أجرى نافع و ابن عامر و أبو بكر فيها الوصل مجرى الوقف ولم يزدها أبو عمرو و حمزة و يعقوب مطلقا وهو القياس

11 - { هنالك ابتلي المؤمنون } اختبروا فظهر المخلص من المنافق والثابت من المتزلزل { وزلزلوا زلزالا شديدا } من شدة الفزع وقرئ ( زلزالا ) بالفتح

12 - { وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض } ضعف اعتقاد { ما وعدنا الله ورسوله } من الظفر وإعلاء الدين { إلا غرورا } وعدا باطلا قيل قائله معتب بن قشير قال يعدنا محمد بفتح فارس والروم وأحدنا لا يقدر أن يتبرز فرقا ما هذا إلا وعد غرور

13 - { وإذ قالت طائفة منهم } يعني أوس بن قيظي وأتباعه { يا أهل يثرب } أهل المدينة وقيل هو اسم أرض وقعت المدينة في ناحية منها { لا مقام } لا موضع قيام { لكم } ها هنا وقرأ حفص بالضم على أنه مكان أو مصدر من أقام { فارجعوا } إلى منازلكم هاربين وقيل المعنى لا مقام لكم على دين محمد فارجعوا إلى الشرك وأسلموه لتسلموا أو لا مقام لكم بيثرب فارجعوا كفارا ليمكنكم المقام بها { ويستأذن فريق منهم النبي } للرجوع { يقولون إن بيوتنا عورة } غير حصينة وأصلها الخلل ويجوز أن يكون تخفيف العورة من عورت الدار إذا اختلت وقد قرئ بها { وما هي بعورة } بل هي حصينة { إن يريدون إلا فرارا } أي وما يريدون بذلك إلا الفرار من القتال

14 - { ولو دخلت عليهم } دخلت المدينة أو بيوتهم { من أقطارها } من جوانبها وحذف الفاعل للإيماء بأن دخول هؤلاء المتحزبين عليه ودخول غيرهم من العساكر سيان في اقتضاء الحكم المرتب عليه { ثم سئلوا الفتنة } الردة ومقاتلة المسلمين { لأتوها } لأعطوها وقرأ الحجازيان بالقصر بمعنى لجاءوها وفعلوها { وما تلبثوا بها } بالفتنة أو بإعطائها { إلا يسيرا } ريثما يكون السؤال والجواب وقيل ما لبثوا بالمدينة بعد تمام الارتداد إلا يسيرا

15 - { ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار } يعني بني حارثة عاهدوا رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم أحد حين فشلوا ثم تابوا أن لا يعودوا لمثله { وكان عهد الله مسؤولا } عن الوفاء به مجازى عليه

16 - { قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل } فإنه لا بد لكل شخص من حتف أنف أو قتل في وقت معين سبق به القضاء وجبى عليه القلم { وإذا لا تمتعون إلا قليلا } أي وإن نفعكم الفرار مثلا فمنعتم بالتأخير لم يكن ذلك التمتيع إلا تمتيعا أو زمانا قليلا

17 - { قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة } أي أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة فاختصر الكلام كما في قوله :
( متقلدا سيفا ورمحا )
أو حمل الثاني على الأول لما في العصمة من معنى المنع { ولا يجدون لهم من دون الله وليا } ينفعهم { ولا نصيرا } يدفع الضر عنهم

18 - { قد يعلم الله المعوقين منكم } المثبطين عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وهم المنافقون { والقائلين لإخوانهم } من ساكني المدينة { هلم إلينا } قربوا أنفسكم إلينا وقد ذكر أصله في ( الأنعام ) { ولا يأتون البأس إلا قليلا } إلا إتيانا أو زمانا أو بأسا قليلا فإنهم يعتذرون ويتثبطون ما أمكن لهم أو يخرجون مع المؤمنين ولكن لا يقاتلون إلا قليلا كقوله { ما قاتلوا إلا قليلا } وقيل إنه من تتمة كلامهم ومعناه لا يأتي أصحاب محمد حرب الأحزاب ولا يقاومونهم إلا قليلا

19 - { أشحة عليكم } بخلاء عليكم بالمعاونة أو النفقة في سبيل الله أو الظفر أو الغنيمة جمع شحيح ونصبها على الحال من فاعل { يأتون } أو { المعوقين } أو على الذم { فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم } في أحداقهم { كالذي يغشى عليه } كنظر المغشي عليه أو كدوران عينيه أو مشبهين به أو مشبهة بعينه { من الموت } من معالجة سكرات الموت خوفا ولواذا بك { فإذا ذهب الخوف } وحيزت الغنائم { سلقوكم } ضربوكم { بألسنة حداد } ذربة يطلبون الغنيمة والسلق البسط بقهر باليد أو اللسان { أشحة على الخير } نصب على الحال أو الذم ويؤيده قراءة الرفع وليس بتكرير لأن كلا منهما مقيد من وجه { أولئك لم يؤمنوا } إخلاصا { فأحبط الله أعمالهم } فأظهر بطلاتها إذ لم تثبت لهم أعمال فتبطل أو أبطل تصنعهم ونفاقهم { وكان ذلك } الإحباط { على الله يسيرا } هينا لتعلق الإرادة به وعدم ما يمنعه عنه

20 - { يحسبون الأحزاب لم يذهبوا } أي هؤلاء لجبنهم يظنون أن الأحزاب لم ينهزموا وقد انهزموا ففروا إلى داخل المدينة { وإن يأت الأحزاب } كرة ثانية { يودوا لو أنهم بادون في الأعراب } تمنوا أنهم خارجون إلى البدو حاصلون بين الأعراب { يسألون } كل قادم من جانب المدينة { عن أنبائكم } عما جرى عليكم { ولو كانوا فيكم } هذه الكرة ولم يرجعوا إلى المدينة وكان قتال { ما قاتلوا إلا قليلا } رياء وخوفا من التعيير

21 - { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } خصلة حسنة من حقها أن يؤتسى بها كالثبات في الحرب ومقاساة الشدائد أو هو في نفسه قدوة يحسن التأسي به كقولك في البيضة عشرون منا حديدا أي هي في نفسها هذا القدر من الحديد وقرأ عاصم بضم الهمزة وهو لغة فيه { لمن كان يرجو الله واليوم الآخر } أي ثواب الله أو لقاءه ونعيم الآخرة أو أيام الله واليوم الآخر خصوصا وقيل هو كقولك أرجو زيدا وفضله فإن { اليوم الآخر } داخل فيها بحسب الحكم والرجاء يحتمل الأمل والخوف و { لمن } كان صلة لحسنة أو صفة لها وقيل بدل من { لكم } والأكثر على أن ضمير المخاطب لا يبدل منه { وذكر الله كثيرا } وقرن بالرجاء كثرة الذكر المؤدية إلى ملازمة الطاعة فإن المؤتسي بالرسول من كان كذلك

22 - { ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله } بقوله تعالى : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم } الآية وقوله عليه الصلاة و السلام [ سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم والعاقبة لكم عليهم ] وقوله عليه الصلاة و السلام [ إنهم سائرون إليكم بعد تسع أو عشر ] وقرأ حمزة و أبو بكر بكسر الراء وفتح الهمزة { وصدق الله ورسوله } ظهر صدق خبر الله ورسوله أو صدقا في النصرة والثواب كما صدقا في البلاء وإظهار الاسم للتعظيم { وما زادهم } فيه ضمير { لما رأوا } أو الخطب أو البلاء { إلا إيمانا } بالله ومواعيده { وتسليما } لأوامره ومقاديره

23 - { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } من الثبات مع الرسول صلى الله عليه و سلم والمقاتلة لإعلاء الدين من صدقني إذا قال لك الصدق فإن المعاهد إذا وفى بعهده فقد صدق فيه { فمنهم من قضى نحبه } نذره بأن قاتل حتى استشهد كحمزة ومصعب بن عمير وأنس بن النضر والنحب النذر واستعير للموت لأنه كنذر لازم في رقبة كل حيوان { ومنهم من ينتظر } الشهادة كعثمان وطلحة رضي الله عنهما { وما بدلوا } العهد ولا غيروه { تبديلا } شيئا من التبديل روي [ أن طلحة ثبت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم أحد حتى أصيبت يده فقال عليه الصلاة و السلام : أوجب طلحة ] وفيه تعريض لأهل النفاق ومرض القلب بالتبديل وقوله :

24 - { ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم } تعليل للمنطوق والمعرض به فكأن المنافقين قصدوا بالتبديل عاقبة السوء كما قصد المخلصون بالثبات والوفاء العاقبة الحسنى والتوبة عليهم مشروطة بتوبتهم أو المراد بها التوفيق للتوبة { إن الله كان غفورا رحيما } لمن تاب

25 - { ورد الله الذين كفروا } يعني الأحزاب { بغيظهم } متغيظين { لم ينالوا خيرا } غير ظافرين وهما حالان بتداخل أو تعاقب { وكفى الله المؤمنين القتال } بالريح والملائكة { وكان الله قويا } على إحداث ما يريده { عزيزا } غالبا على كل شيء

26 - { وأنزل الذين ظاهروهم } ظاهروا الأحزاب { من أهل الكتاب } يعني قريظة { من صياصيهم } من حصونهم جمع صيصية وهي ما يتحصن به ولذلك يقال لقرن الثور والظبي وشوكة الديك { وقذف في قلوبهم الرعب } الخوف وقرئ بالضم { فريقا تقتلون وتأسرون فريقا } وقرئ بضم السين روي : [ أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب فقال : أتنزع لأمتك والملائكة لم يضعوا السلاح إن الله يأمرك بالسير إلى بني قريظة وأنا عامد إليهم فأذن في الناس أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة فحاصرهم إحدى وعشرون أو خمسا وعشرون حتى جهدهم الحصار فقال لهم : تنزلون على حكمي فأبوا فقال : على حكم سعد بن معاذ فرفضوا به فحكم سعد بقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم ونسائهم فكبر النبي عليه الصلاة و السلام فقال : لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ] فقتل منهم ستمائة أو أكثر وأسر منهم سبعمائة

27 - { وأورثكم أرضهم } مزارعهم { وديارهم } حصونهم { وأموالهم } نقودهم ومواشيهم وأثاثهم روي [ أنه عليه الصلاة و السلام جعل عقارهم للمهاجرين فتكلم فيه الأنصار فقال : إنكم في منازلكم ] و [ قال عمر رضي الله عنه : أما تخمس كما خمست يوم بدر فقال : لا إنما جعلت هذه لي طمعة ] { وأرضا لم تطئوها } كفارس والروم وقيل خيبر وقيل أرض تفتح إلى يوم القيامة { وكان الله على كل شيء قديرا } فيقدر على ذلك

28 - { يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا } السعة التنعم فيها { وزينتها } زخارفها { فتعالين أمتعكن } أعطكن المتعة { وأسرحكن سراحا جميلا } طلاقا من غير ضرار وبدعة روي أنهم سألنه ثياب الزينة وزيادة النفقة فنزلت فبدأ بعائشة رضي الله عنها فخيرها فاختارت الله ورسوله ثم اختارت الباقيات اختيارها فشكر الله لهن ذلك فأنزل { لا يحل لك النساء من بعد } وتعليق التسريح بإرادتهن الدنيا وجعلها قسيما لإرادتهن الرسول يدل على أن المخيرة إذا اختارت زوجها لم تطلق خلافا لزيد والحسن ومالك وإحدى الروايتين عن علي ويؤيده قول عائشة رضي الله عنها ( خيرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فاخترناه ) ولم يعده طلاقا وتقديم للتمتع على التسريح المسبب عنه من الكرم وحسن الخلق قيل لأن الفرقة كانت بإرادتهن كاختيار المخيرة نفسها فإنه طلقة رجعية عندنا وبائنة عند الحنفية واختلف في وجوبه للمدخول بها وليس فيه ما يدل عليه وقرئ ( أمتعكن وأسرحكن ) بالرفع على الاستئناف

29 - { وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما } يستحقر دونه الدنيا وزينتها ومن للتبيين لأنهن كلهن كن محسنات

30 - { يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة } بكبيرة { مبينة } ظاهره قبحها على قراءة ابن كثير و أبي بكر والباقون بكسر الياء { يضاعف لها العذاب ضعفين } ضعفي عذاب غيرهن أي مثليه لأن الذنب منهن أقبح فإن زيادة قبحه تتبع زيادة فضل المذنب والنعمة عليه ولذلك جعل حد الحر ضعفي حد العبد وعوتب الأنبياء بما لا يعاتب به غيرهم وقرأ البصريان ( يضعف ) على البناء للمفعول ورفع ( العذاب ) و ابن كثير و ابن عامر ( نضعف ) بالنون وبناء الفاعل ونصب ( العذاب ) { وكان ذلك على الله يسيرا } لا يمنعه عن التضعيف كونهن نساء النبي وكيف وهو سببه

31 - { ومن يقنت منكن } ومن يدم على الطاعة { لله ورسوله } ولعل ذكر الله للتعظيم أو لقوله : { وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين } مرة على الطاعة ومرة على طلبهن رضا النبي عليه الصلاة و السلام بالقناعة وحسن المعاشرة وقرأ حمزة و الكسائي ( ويعمل ) بالياء حملا على لفظ ( من ويؤتها ) على أنه فيه ضمير اسم الله { وأعتدنا لها رزقا كريما } في الجنة زيادة على أجرها

32 - { يا نساء النبي لستن كأحد من النساء } أصل أحد وحد بمعنى الواحد ثم وضع في النفي العام مستويا فيه المذكر والمؤنث والواحد والكثير والمعنى لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء في الفضل { إن اتقيتن } مخالفة حكم الله ورضا رسوله { فلا تخضعن بالقول } فلا تجئن بقولكن خاضعا لينا مثل قول المربيات { فيطمع الذي في قلبه مرض } فجور وقرئ بالجزم عطفا على محل فعل النهي على أنه مريض القلب عن الطمع عقيب نهيهن عن الخضوع بالقول { وقلن قولا معروفا } حسنا بعيدا عن الريبة

33 - { وقرن في بيوتكن } من وقر يقر وقارا أو من قر يقر حذفت الأولى من راءي اقررن ونقلت كسرتها إلى القاف فاستغني عن همزة الوصل ويؤيده قراءة نافع و عاصم بالفتح من قررت أقر وهو لغة فيه ويحتمل أن يكون من قار يقار إذا اجتمع { ولا تبرجن } ولا تتبخترن في مشيتكن { تبرج الجاهلية الأولى } تبرجا مثل تبرج النساء في أيام الجاهلية القديمة وقيل هي ما بين آدم ونوح وقيل الزمان الذي ولد فيه إبراهيم عليه والصلاة والسلام كانت المرأة تلبس درعا من اللؤلؤ فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال والجاهلية الأخرى ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام وقيل الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق في الإسلام ويعضده [ قوله عليه الصلاة و السلام لأبي الدرداء رضي الله عنه إن فيك جاهلية قال جاهلية كفر أو إسلام قال بل جاهلية كفر ] { وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله } في سائر ما أمركن به ونهاكن عنه { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس } الذنب المدنس لعرضكم وهو تعليل لأمرهن ونهيهن على الاستئناف ولذلك عمم الحكم { أهل البيت } نصب على النداء أو المدح { ويطهركم } عن المعاصي { تطهيرا } واستعارة الرجس للمعصية والترشيح بالتطهير للتنفير عنها وتخصيص الشيعة أهل البيت بفاطمة وعلي وابنيهما رضي الله عنهما لما روي [ أنه عليه الصلاة و السلام خرج ذات غدوة وعليه مرط مرجل من شعر أسود فجلس فأتت فاطمة رضي الله عنها فأدخلها فيه ثم جاء علي فأدخله فيه ثم جاء الحسن والحسين رضي الله عنهما فأدخلهما فيه ثم قال : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت } ] والاحتجاج بذلك على عصمتهم وكون إجماعهم حجة ضعيف لأن التخصيص بهم لا يناسب ما قبل الآية وما بعدها والحديث يقتضي أنهم من أهل البيت لا أنه ليس غيرهم

34 - { واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة } من الكتاب الجامع بين الأمرين وهو تذكير بما أنعم الله عليهم من حيث جعلهن أهل بيت النبوة ومهبط الوحي وما شاهدن من برحاء الوحي مما يوجب قوة الإيمان والحرص على الطاعة حثا على الانتهاء والائتمار فيما كلفن به { إن الله كان لطيفا خبيرا } يعلم ويدبر ما يصلح في الدين ولذلك خيركن ووعظكن أو يعلم من يصلح لنبوته ومن يصلح أن يكون أهل بيته

35 - { إن المسلمين والمسلمات } الداخلين في السلم المنقادين لحكم الله { والمؤمنين والمؤمنات } المصدقين بما يجب أن يصدق به { والقانتين والقانتات } المداومين على الطاعة { والصادقين والصادقات } في القول والعمل { والصابرين والصابرات } على الطاعات وعن المعاصي { والخاشعين والخاشعات } المتواضعين لله بقلوبهم وجوارحهم { والمتصدقين والمتصدقات } بما وجب في مالهم { والصائمين والصائمات } الصوم المفروض { والحافظين فروجهم والحافظات } عن الحرام { والذاكرين الله كثيرا والذاكرات } بقلوبهم وألسنتهم { أعد الله لهم مغفرة } لما اقترفوا من الصغائر لأنهم مكفرات { وأجرا عظيما } على طاعتهم والآية وعد لهن ولأمثالهم على الطاعة والتدرع بهذه الخصال روي : [ أن أزواج النبي صلى الله عليه و سلم قلن : يا رسول الله ذكر الله الرجال في القرآن بخير فما فينا خير نذكر به فنزلت ] وقيل : لما نزل فيهن ما نزل قال نساء المسلمين فما نزل فينا شيء فنزلت : وعطف الإناث على الذكور لاختلاف الجنسين وهو ضروري وعطف الزوجين على الزوجين لتغاير الوصفين فليس بضروري ولذلك ترك في قوله { مسلمات مؤمنات } وفائدته الدلالة على أن إعداد المعد لهم للجمع بين هذه الصفات

36 - { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة } ما صح له { إذا قضى الله ورسوله أمرا } أي قضى رسول الله وذكر الله لتعظيم أمره والإشعار بأن قضاءه قضاء الله لأنه نزل في زينب بنت جحش بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب خطبها رسول الله صلى الله عليه و سلم لزيد بن حارثة فأبت هي وأخوها عبد الله وقيل في أم كلثوم بنت عقبة وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه و سلم فزوجها من زيد { أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } أن يختاروا من أمرهم شيئا بل يجب عليهم أن يجعلوا اختبارهم تبعا لاختيار الله ورسوله والخيرة ما يتخير وجمع الضمير الأول لعموم مؤمن ومؤمنة من حيث إنهما في سياق النفي وجمع الثاني للتعظيم وقرأ الكوفيون و هشام ( يكون ) بالياء { ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا } بين الانحراف عن الصواب

37 - { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه } بتوفيقه للإسلام وتوفيقك لعتقه واختصاصه { وأنعمت عليه } بما وفقك الله فيه وهو زيد بن حارثة { أمسك عليك زوجك } زينب وذلك : أنه عليه الصلاة و السلام أبصرها بعد ما أنكحها إياه فوقعت في نفسه فقال سبحان الله مقلب القلوب وسمعت زينب بالتسبيحة فذكرت لزيد ففطن لذلك ووقع في نفسه كراهة صحبتها فأتى النبي عليه الصلاة و السلام وقال : أريد أن أفارق صاحبتي فقال : ما لك أرابك منها شيء فقال : لا والله ما رأيت منها إلا خيرا ولكنها لشرفها تتعظم علي فقال له : أمسك عليك زوجك { واتق الله } في أمرها فلا تطلقها ضرارا وتعللا بتكبرها { وتخفي في نفسك ما الله مبديه } وهو ناكحها إن طلقها أو إرادة طلاقها { وتخشى الناس } تعييرهم إياك به { والله أحق أن تخشاه } إن كان فيه ما يخشى والواو للحال وليست المعاتبة على الإخفاء وحده فإنه حسن بل على الإخفاء مخافة قالة الناس وإظهار ما ينافي إضماره فإن الأولى في أمثال ذلك أن يصمت أو يفوض الأمر إلى ربه { فلما قضى زيد منها وطرا } حاجة بحيث ملها ولم يبق له فيها حاجة وطلقها وانقضت عدتها { زوجناكها } وقيل قضاء الوطر كناية عن الطلاق مثل لا حاجة لي فيك وقرئ ( زوجتكها ) والمعنى أنه أمر بتزويجها منه أو جعلها زوجته بلا واسطة عقد ويؤيده أنها كانت تقول لسائر نساء النبي صلى الله عليه و سلم : إن الله تعالى تولى إنكاحي وأنتن زوجكن أولياؤكن وقيل كان زيد السفير في خطبتها وذلك ابتلاء عظيم وشاهد بين على قوة إيمانه { لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا } علة للتزويج وهو دليل على أن حكمه وحكم الأمة واحدة إلا ما خصه الدليل { وكان أمر الله } أمره الذي يريده { مفعولا } مكونا لا محالة كما كان تزويج مريم

38 - { ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له } قسم له وقدر من قولهم فرض له في الديوان ومنه فروض العسكر لأرزاقهم { سنة الله } سن ذلك سنة { في الذين خلوا من قبل } من الأنبياء وهو نفي الحرج عنهم فيما أباح لهم { وكان أمر الله قدرا مقدورا } قضاء مقضيا وحكما مبتوتا

39 - { الذين يبلغون رسالات الله } صفة للذين خلوا أو مدح لهم نصوب أو مرفوع وقرئ ( رسالة الله ) { ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله } تعريض بعد تصريح { وكفى بالله حسيبا } كافيا للمخاوف أو محاسبا فينبغي أن لا يخشى إلا منه

40 - { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم } على الحقيقة فيثبت بينه وبينه ما بين الوالد وولده من حرمة المصاهرة وغيرها ولا ينتقض عمومه بكونه أبا للطاهر والقاسم وإبراهيم لأنهم لم يبلغوا مبلغ الرجال ولو بلغوا كانوا رجاله لا رجالهم { ولكن رسول الله } وكل رسول أبو أمته لا مطلقا بل من حيث إنه شفيق ناصح لهم واجب التوقير والطاعة عليهم وزيد منهم ليس بينه وبينه ولادة وقرئ { رسول الله } بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ولكن بالتشديد على حذف الخبر أي { ولكن رسول الله } من عرفتم أنه لم يعش له ولد ذكر { وخاتم النبيين } و آخرهم الذي ختمهم أو ختموا به على قراءة عاصم بالفتح ولو كان له ابن بالغ لاق بمنصبه أن يكون نبيا كما [ قال عليه الصلاة و السلام في إبراهيم حين توفى : لو عاش لكان نبيا ] ولا يقدح في نزول عيسى بعده لأنه إذا نزل كان على دينه مع أن المراد منه أنه آخر من نبئ { وكان الله بكل شيء عليما } فيعلم من يليق بأن يختم به النبوة وكيف ينبغي شأنه

41 - { يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا } يغلب الأوقات ويعم الأنواع بما هو أهله من التقديس والتحميد والتهليل والتمجيد

42 - { وسبحوه بكرة وأصيلا } أو النهار وآخره خصوصا وتخصيصهما بالذكر للدلالة على فضلهما على سائر الأوقات لكونهما مشهودين كأفراد التسبيح من جملة الأذكار لأنه العمدة فيها وقيل الفعلان موجهان إليهما وقيل المراد بالتسبيح الصلاة

43 - { هو الذي يصلي عليكم } بالرحمة { وملائكته } بالاستغفار لكم والاهتمام بما يصلحكم والمراد بالصلاة المشترك وهو العناية بصلاح أمركم وظهور شرفكم مستعار من الصلو وقيل الترحم والانعطاف المعنوي مأخوذ من الصلاة المشتملة على الانعطاف الصوري الذي هو الركوع والسجود واستغفار الملائكة ودعاؤهم للمؤمنين ترحم عليه سيما وهو السبب للرحمة من حيث إنهم مجابو الدعوة { ليخرجكم من الظلمات إلى النور } من ظلمات الكفر والمعصية إلى نوري الإيمان والطاعة { وكان بالمؤمنين رحيما } حيث اعتنى بصلاح أمرهم وإناقة قدرهم واستعمل في ذلك ملائكته المقربين

44 - { تحيتهم } من إضافة المصدر إلى المفعول أو يحيون { يوم يلقونه } يوم لقائه عند الموت أو الخروج من القبور أو دخول الجنة { سلام } إخبار بالسلامة عن كل مكروه وآفة { وأعد لهم أجرا كريما } هي الجنة ولعل اختلاف النظم لمحافظة الفواصل والمبالغة فيما هو أهم

45 - { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا } على من بعثت إليهم بتصديقهم وتكذيبهم ونجاتهم وضلالتهم وهو حال مقدرة { ومبشرا ونذيرا }

46 - { وداعيا إلى الله } إلى الإقرار به وبتوحيده وما يجب الإيمان به من صفاته { بإذنه } بتيسيره وأطلق له من حيث أنه من أسبابه وقيد به الدعوة إيذانا بأنه أمر صعب لا يتأتى إلا بمعونة من جناب قدسه { وسراجا منيرا } يستضاء به عن ظلمات الجهالات ويقتبس من نوره أنوار البصائر

47 - { وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا } على سائر الأمم أو على جزاء أعمالهم ولعله معطوف على محذوف مثل فراقب أحوال أمتك

48 - { ولا تطع الكافرين والمنافقين } تهييج له على ما هو عليه من مخالفتهم { ودع أذاهم } إيذاءهم إياك ولا تحتفل به أو إيذاءك إياهم مجازاة أو مؤاخذة على كفرهم ولذلك قيل إنه منسوخ { وتوكل على الله } فإنه يكفيكهم { وكفى بالله وكيلا } موكولا إليه الأمر في الأحوال كلها ولعله سبحانه وتعالى لما وصفه بخمس صفات قابل كلا منها بخطاب يناسبه فحذف مقابل الشاهد وهو الأمر بالمراقبة لأن ما بعده كالتفصيل له وقابل المبشر بالأمر والسراج المنير بالاكتفاء به فإن من أناره الله برهانا على جميع خلقه كان حقيقا بأن يكتفى به عن غيره

49 - { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } تجامعوهن وقرأ حمزة و الكسائي بألف وضم التاء { فما لكم عليهن من عدة } أيام يتربصن فيها بأنفسهن { تعتدونها } تستوفون عددها من عددت الدراهم فاعتدها كقولك : كلته فكالته أو تعدونها والإسناد إلى الرجال للدلالة على أن العدة حق الأزواج كما أشعر به فما لكم وعن ابن كثير ( تعتدونها ) مخففا على إبدال إحدى الدالين بالياء أو على أنه من الاعتداء بمعنى تعتدون فيها وظاهره يقتضي عدم وجوب العدة بمجرد الخلوة وتخصيص المؤمنات والحكم عام للتنبيه على أ من شأن المؤمن أن لا ينكح إلا مؤمنة تخييرا لنطفته وفائدة ثم إزاحة ما عسى أن يتوهم تراخي الطلاق ريثما تمكن الإصابة كما يؤثر في النسب يؤثر في العدة { فمتعوهن } أي إن لم يكن مفروضا لها فإن الواجب للمفروض لها نصف المفروض دون المتعة ويجوز أن يؤول التمتيع بما يعمهما أو الأمر بالمشترك بين الوجوب والندب فإن المتعة سنة للمفروض لها { وسرحوهن } أخرجوهن من منازلكم إذ ليس لكم عليهن عدة { سراحا جميلا } من غير ضرار ولا منع حق ولا يجوز تفسيره بالطلاق السني لأنه مرتب على الطلاق والضمير لغير المدخول بهن

50 - { يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن } مهورهن لأن المهر أجر على البضع وتقييد الأحلال له بإعطائها معجلة لا لتوقف الحل عليه بل لإيثار الأفضل له كتقييد إحلال المملوكة بكونها مسببة بقوله : { وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك } فإن المشتراة لا يتحقق بدء أمرها وما جرى عليها وتقييد القرائب بكونها مهاجرات معه في قوله : { وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك } ويحتمل تقييد الحل بذلك في حقه خاصة ويعضده [ قول أم هانئ بنت أبي طالب : خطبني رسول الله صلى الله عليه و سلم فاعتذرت إليه فعذرني ثم أنزل الله هذه الآية فلم أحل له لأني لم أهاجر معه كنت من الطلقاء ] { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي } نصب بفعل يفسره ما قبله أو عطف على ما سبق ولا يدفعه التقييد بأن التي للاستقبال فإن المعنى بالإحلال والإعلام بالحل أي : أعلمناك حل امرأة مؤمنة تهب لك نفسها ولا تطلب مهرا إن اتفق ولذلك نكرها واختلف في اتفاق ذلك والقائل به ذكر أربعا : ميمونة بنت الحارث وزينب بنت خزيمة الأنصارية وأم شربك بنت جابر وخولة بنت حكيم وقرئ ( أن ) بالفتح أي لأن وهبت أو مدة أن وهبت كقولك : اجلس ما دام زيد جالسا { إن أراد النبي أن يستنكحها } شرط للشرط الأول في استيجاب الحل فإن هبتها نفسها منه لا توجب له حلها إلا بإرادته نكاحها فإنها جارية مجرى القبول والعدول عن الخطاب إلى الغيبة بلفظ النبي صلى الله عليه و سلم مكررا ثم الرجوع إليه في قوله : { خالصة لك من دون المؤمنين } إيذان بأنه مما خص به لشرف نبوته وتقرير لاستحقاق الكرامة لأجله واحتج به أصحابنا على أن النكاح لا ينعقد بلفظ الهبة لأن اللفظ تابع للمعنى وقد خص عليه الصلاة و السلام بالمعنى فيختص باللفظ والاستنكاح طلب النكاح والرغبة فيه و { خالصة } مصدر مؤكد أي خلص إحلالها أو إحلال ما أحللنا لك على القيود المذكورة خلصوا لك أو حال من الضمير في { وهبت } أو صفة لمصدر محذوف أي هبة خالصة { قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم } من شرائط العقد ووجوب القسم والمهر بالوطء حيث لم يسم { وما ملكت أيمانهم } من توسيع الأمر فيها أنه كيف ينبغي أن يفرض عليهم والجملة اعتراض بين قوله : { لكيلا يكون عليك حرج } ومتعلقه وهو { خالصة } للدلالة على أن الفرق بينه وبين { المؤمنين } في نحو ذلك لا لمجرد قصد التوسيع عليه بل لمعان تقتضي التوسيع عليه والتضييق عليهم تارة وبالعكس أخرى { وكان الله غفورا } لما يعسر التحرز عنه { رحيما } بالتوسعة في مظان الحرج

51 - { ترجي من تشاء منهن } تؤخرها وتترك مضاجعتها { وتؤوي إليك من تشاء } وتضم إليك من تشاء وتضاجعها أو تطلق من تشاء وتمسك من تشاء وقرأ نافع و حمزة و الكسائي و حفص ( ترجي ) بالياء والمعنى واحد { ومن ابتغيت } طلبت { ممن عزلت } طلقت بالرجعة { فلا جناح عليك } في شيء من ذلك { ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن } ذلك التفويض إلى مشيئتك أقرب إلى قرة عيونهن وقلة حزنهن ورضاهن جميعا لأن حكم كلهن فيه سواء ثم إن سويت بينهن وجدن ذلك تفضلا منك وإن رجحت بعضهن علمن أنه حكم الله تعالى فتطمئن به نفوسهم وقرئ ( تقر ) بضم التاء و ( أعينهن ) بالنصب و ( تقر ) بالبناء للمفعول و ( كلهن ) تأكيد نون { يرضين } وقرئ بالنصب تأكيدا لهن { والله يعلم ما في قلوبكم } فاجتهدوا في إحسانه { وكان الله عليما } بذات الصدور { حليما } لا يعاجل بالعقوبة فهو حقيق بأن يتقى

52 - { لا يحل لك النساء } بالياء لأن تأنيث الجمع غير حقيقي وقرأ البصريان بالتاء { من بعد } من بعد التسع وهو في حقه كالأربع في حقنا أو من بعد اليوم حتى لو ماتت واحدة لم يحل له نكاح أخرى { ولا أن تبدل بهن من أزواج } فتطلق واحدة وتنكح مكانها أخرى و { من } مزيدة لتأكيد الاستغراق { ولو أعجبك حسنهن } حسن الأزواج المستبدلة وهو حال من فاعل { تبدل } دون مفعوله وهو { من أزواج } لتوغله في التنكير وتقديره مفروضا إعجابك بهن واختلف في أن الآية محكمة أو منسوخة بقوله : { ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء } على المعنى الثاني فإنه وإن تقدمها قراءة فهو مسبوق بها نزولا وقيل المعنى لا يحل لك النساء من بعد الأجناس الأربعة اللاتي نص على إحلالهن لك ولا أن تبدل بهن أزواجا من أجناس أخر { إلا ما ملكت يمينك } استثناء من النساء لأنه يتناول الأزواج والإماء وقيل منقطع { وكان الله على كل شيء رقيبا } فتحفظوا أمركم ولا تتخطوا ما حد لكم

53 - { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم } إلا وقت أن يؤذن لكم أو إلا مأذونا لكم { إلى طعام } متعلق بـ { يؤذن } لأنه متضمن معنى يدعى للإشعار بأنه لا يحسن الدخول على الطعام من غير دعوة وإن أذن كما أشعر به قوله : { غير ناظرين إناه } غير منتظرين وقته أو إدراكه حال من فاعل { لا تدخلوا } أو المجرور في { لكم } وقرئ بالجر صفة لطعام فيكون جاريا على غير من هو له بلا إبراز الضمير وهو غير جائز عند البصريين وقد أمال حمزة و الكسائي إناه لأنه مصدر أنى الطعام إذا أدرك { ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا } تفرقوا ولا تمكثوا ولأنه خطاب لقوم كانوا يتحينون طعام رسول الله صلى الله عليه و سلم فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه مخصوصة بهم وبأمثالهم وإلا لما جاز لأحد أن يدخل بيوته بالإذن لغير الطعام ولا اللبث بعد الطعام لهم { ولا مستأنسين لحديث } لحديث بعضكم بعضا أو لحديث أهل البيت بالتسمع له عطف على { ناظرين } أو مقدر بفعل أي : ولا تدخلوا أو ولا تمكثوا مستأنسين { إن ذلكم } اللبث { كان يؤذي النبي } لتضييق المنزل عليه وعلى أهله وإشغاله بما لا يعنيه { فيستحيي منكم } من إخراجكم بقوله : { والله لا يستحيي من الحق } يعني أن إخراجكم حق فينبغي أن لا يترك حياء كما لم يتركه الله ترك الحيي فأمركم بالخروج وقرئ ( لا يستحي ) بحذف الياء الأولى وإلقاء حركتها على الحاء { وإذا سألتموهن متاعا } شيئا ينتفع به { فاسألوهن } المتاع { من وراء حجاب } ستر روي [ أن عمر رضي الله عنه قال : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فنزلت ] وقيل [ أنه عليه الصلاة و السلام كان يطعم ومعه بعض أصحابه فأصابت يد رجل عائشة رضي الله عنها فكره النبي صلى الله عليه و سلم ذلك فنزلت ] { ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن } من الخواطر النفسانية الشيطانية { وما كان لكم } وما صح لكم { أن تؤذوا رسول الله } أن تفعلوا ما يكرهه { ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا } من بعد وفاته أو فراقه وخص التي لم يدخل بها ولم روي أن أشعث بن قيس تزوج المستعيذة في أيام عمر رضي الله عنه فهم برجمها فأخبر بأنه عليه الصلاة و السلام فارقها قبل أن يمسها فتركها من غير نكير { إن ذلكم } يعني إيذاءه ونكاح نسائه { كان عند الله عظيما } ذنبا عظيما وفيه تعظيم من الله لرسوله وإيجاب لحرمته حيا وميتا ولذلك بالغ في الوعيد عليه فقال :

54 - { إن تبدوا شيئا } كنكاحهن على ألسنتكم { أو تخفوه } في صدوركم { فإن الله كان بكل شيء عليما } فيعلم ذلك فيجازيكم به وفي هذا التعميم مع البرهان على المقصود مزيد تهويل ومبالغة في الوعيد

55 - { لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن } استثناء لمن لا يجب الاحتجاب عنهم روي : أنه لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب : يا رسول الله أو نكلمهن أيضا من وراء حجاب فنزلت وإنما لم يذكر العم والخال لأنهما بمنزلة الوالدين ولذلك سمى العم أبا في قوله { وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } أو لأنه كره ترك الاحتجاب عنهما مخافة أن يصفا لأبنائهما { ولا نسائهن } يعني نساء المؤمنات { ولا ما ملكت أيمانهن } من العبيد والإماء وقيل من الإماء خاصة وقد مر في سورة ( النور ) { واتقين الله } فيما أمرتن به { إن الله كان على كل شيء شهيدا } لا يخفى عليه خافية

56 - { إن الله وملائكته يصلون على النبي } يعتنون بإظهار شرفه وتعظيم شأنه { يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه } اعتنوا أنتم أيضا فإنكم أولى بذلك وقولوا اللهم صل على محمد { وسلموا تسليما } وقولوا السلام عليك أيها النبي وقيل وانقادوا لأوامره والآية تدل على وجوب الصلاة والسلام عليه في الجملة وقيل تجب الصلاة كلما جرى ذكره [ لقوله عليه الصلاة و السلام رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي ] وقوله [ من ذكرت عنده فلم يصل علي فدخل النار فأبعده الله ] وتجوز الصالة على غيره تبعا وتكره استقلالا لأنه في العرف شعارا لذكر الرسول صلى الله عليه و سلم ولذلك كره أن يقال محمد عز و جل وإن كان عزيزا وجليلا

57 - { إن الذين يؤذون الله ورسوله } يرتكبون ما يكرهانه من الكفر والمعاصي أو يؤذون رسول الله بكسر رباعيته وقولهم شاعر مجنون ونحو ذلك وذكر الله للتعظيم له ومن جوز إطلاق اللفظ على معنيين فسره بالمعنيين باعتبار المعمولين { لعنهم الله } أبعدهم من رحمته { في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا } يهينهم مع الإيلام

58 - { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا } بغير جناية استحقوا بها الإيذاء { فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا } ظاهرا قيل إنها نزلت في منافقين كانوا يؤذون عليا رضي الله عنه وقيل في أهل الإفك وقيل في زناة كانوا يتبعون النساء وهن كارهات

59 - { يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن } يغطين وجوههن وأبدانهن بملاحفهن إذا برزن لحاجة و { من } للتبعيض فإن المرأة ترخي بعض جلبابها وتتلفع ببعض و { ذلك أدنى أن يعرفن } يميزن من الإماء والقينات { فلا يؤذين } فلا يؤذيهن أهل الريبة بالتعرض لهن { وكان الله غفورا } لما سلف { رحيما } بعباده حيث يراعي مصالحهم حتى الجزئيات منها

60 - { لئن لم ينته المنافقون } عن نفاقهم { والذين في قلوبهم مرض } ضعف إيمان وقلة ثبات عليه أو فجور عن تزلزلهم في الدين أو فجورهم { والمرجفون في المدينة } يرجفون أخبار السوء عن سرايا المسلمين ونحوها من إرجافهم وأصله التحريك من الرجفة وهي الزلزلة سمي به الإخبار الكاذب لكونه متزلزلا غير ثابت { لنغرينك بهم } لنأمرنك بقتالهم وإجلائهم أو ما يضطرهم إلى طلب الجلاء { ثم لا يجاورونك } عطف على { لنغرينك } و { ثم } للدلالة على أن الجلاء ومفارقة جوار الرسول أعظم ما يصيبهم { فيها } في المدينة { إلا قليلا } زمانا أو جوارا قليلا

61 - { ملعونين } نصب على الشتم أو الحال والاستثناء شامل له أيضا أ ] : { لا يجاورونك } إلا ملعونين ولا يجوز أن ينصب عن قوله : { أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا } لأن ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها

62 - { سنة الله في الذين خلوا من قبل } مصدر مؤكد أي سن الله ذلك في الأمم الماضية وهو أن يقتل الذين نافقوا الأنبياء وسعوا في وهنهم بالإرجاف ونحوه { أينما ثقفوا } { ولن تجد لسنة الله تبديلا } لأنه لا يبدلها ولا يقدر أحد أن يبدلها

63 - { يسألك الناس عن الساعة } عن وقت قيامها استهزاء وتعنتا أو امتحانا { قل إنما علمها عند الله } لم يطلع عليه ملكا ولا نبيا { وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا } شيئا قريبا أو تكون الساعة عن قريب وانتصابه على الظرف ويجوز أن يكون التذكير لأن { الساعة } في معنى اليوم وفيه تهديد للمستعجلين وإسكات للمتعنتين

64 - { إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا } نارا شديدة الاتقاد

65 - { خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا } يحفظهم { ولا نصيرا } يدفع العذاب عنهم

66 - { يوم تقلب وجوههم في النار } تصرف من جهة إلى جهة كاللحم يشوى بالنار أو من حال إلى حال وقرئ { تقلب } بمعنى تتقلب و { تقلب } ومتعلق الظرف { يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا } فلن نبتلي بهذا العذاب

67 - { وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا } يعنون قادتهم الذين لقنوهم الكفر وقرأ ابن عامر و يعقوب ( ساداتنا ) على جمع الجمع للدلالة على الكثرة { فأضلونا السبيلا } بما زينوا لنا

68 - { ربنا آتهم ضعفين من العذاب } مثلي ما آتيتنا منه لأنهم ضلوا وأضلوا { والعنهم لعنا كبيرا } كثير العدد وقرأ عاصم بالباء أي لعنا هو أشد اللعن وأعظمه

69 - { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا } فأظهر براءته من مقولهن يعني مؤاده ومضمونه وذلك أن قارون حرض امرأة على قذفه بنفسها فعصمه الله كما مر في ( القصص ) أو اتهمه ناس بقتل هرون لما خرج معه إلى الطور فمات هناك فحملته الملائكة ومروا به حتى رؤوه غير مقتول وقيل أحياه الله فأخبرهم ببراءته أو قذفوه بعيب في بدنه من برص أو أدرة لفرط تستره حياء فأطلعهم الله على أنه بريء منه { وكان عند الله وجيها } ذا قربة ووجاهة وقرئ وكان ( عبد الله وجيها )

70 - { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } في ارتكاب ما يكرهه فضلا عما يؤذي رسوله { وقولوا قولا سديدا } قاصدا إلى الحق من سد يسد سدادا والمراد النهي عن ضده كحديث زينب من غير قصد

سورة سبأ
71 - ثابة عليها { ويغفر لكم ذنوبكم } ويجعلها مكفرة باستقامتكم في القول العمل { ومن يطع الله ورسوله } في الأوامر والنواهي { فقد فاز فوزا عظيما } يعيش في الدنيا حميدا وفي الآخرة سعيدا

72 - { إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان } تقرير للوعد السابق بتعظيم الطاعة وسماها أمانة من حيث إنها واجبة الأداء والمعنى أنها لعظمة شأنها بحيث لو عرضت على هذه الأجرام العظام وكانت ذات شعور وإدراك لأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان مع ضعف بنبته ورخاوة قوته لا جرم فاز الراعي لها والقائم بحقوقها بخير الدارين { إنه كان ظلوما } حيث لم يف بها ولم يراع حقها { جهولا } بكنه عاقبتها وهذا وصف للجنس باعتبار الأغلب وقيل المراد بـ { الأمانة } الطاعة التي تعم الطبيعية والاختيارية وبعرضها استدعاؤها الذي يعم طلب الفعل من المختار وإرادة صدوره من غيره وبحملها الخيانة فهيا والامتناع عن أدائها ومنه قولهم حالم الأمانة ومحتملها لمن لا يؤديها فتبرأ ذمته فيكون الإباء عنه إتيانا بما يمكن أن يتأتى منه والظلم والجهالة الخيانة والتقصير وقيل إنه تعالى لما خلق هذه الأجرام خلق فيها فهما وقال لها : إني فرضت فريضة وخلقت جنة لمن أطاعني فيها ونارا لمن عصاني فقلن نحن مصرات على ما خلقتنا لا نحتمل فريضة ولا نبتغي ثوبا ولا عقابا ولما خلق آدم عرض عليه مثل ذلك فحمله وكان ظلوما لنفسه بتحمله ما يشق عليها جهولا بوخامة عاقبته ولعل المراد بـ { الأمانة } العقل أو التكليف وبعرضها عليهن اعتبارها بالإضافة إلى استعدادهن وبإبائهن الإباء الطبيعي الذي هو عدم اللياقة والاستعداد وبحمل الإنسان قابليته واستعداده لها وكونه ظلوما جهولا لما غلب عليه من القوة الغضبية والشهوية وعلى هذا يحسن أن يكون علة للحمل عليه فإن من فوائد العقل أن يكون مهيمنا على القوتين حافظا لهما عن التعدي ومجاوزة الحد ومعظم مقصود التكليف تعديلهما وكسر سورتهما

73 - { ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات } تعليل للحمل من حيث إنه نتيجته كالتأديب للضرب في ضربته تأديبا وذكر التوبة في الوعد إشعار بأنهم كونهم ظلوما جهولا في جبلتهم لا يخليهم عن فرطات { وكان الله غفورا رحيما } حيث تاب عن فراطتهم وأثاب الفوز على طاعاتهم [ قال عليه الصلاة و السلام من قرأ سورة الأحزاب وعلمها أهله أو ما ملكت يمينه أعطي الأمان من عذاب القبر ]

1 - { الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض } خلقا ونعمة فله الحمد في الدنيا لكمال قدرته وعلى تمام نعمته { وله الحمد في الآخرة } لأن ما في الآخرة أيضا كذلك وليس هذا من عطف المقيد على المطلق فإن الوصف بما يدل على أنه المنعم بالنعم الدنيوية قيد الحمد بها وتقديم الصلة للاختصاص فإن النعم الدنيوية قد تكون بواسطة من يستحق الحمد لأجلها ولا كذلك نعم الآخرة { وهو الحكيم } الذي أحكم أمور الدارين { الخبير } ببواطن الأشياء

2 - { يعلم ما يلج في الأرض } كالغيث ينفذ في موضع وينبع في آخر وكالكنوز والدفائن والأموات { وما يخرج منها } كالحيوان والنبات والفلزات وماء العيون { وما ينزل من السماء } كالملائكة والكتب والمقادير والأرزاق والأنداء والصواعق { وما يعرج فيها } كالملائكة وأعمال العباد والأبخرة والأدخنة { وهو الرحيم الغفور } للمفرطين في شكر نعمته مع كثرتها أو في الآخرة مع ماله من سوابق هذه النعم الفائتة للحصر

3 - { وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة } إنكار لمجيئها أو استبطاء استهزاء بالوعد به { قل بلى } رد لكلامهم وإثبات لما نفوه { وربي لتأتينكم عالم الغيب } تكرير لإيجابه مؤكدا بالقسم مقررا لوصف المقسم به بصفات تقرر إمكانه وتنفي استبعاده على ما مر غير مرة وقرأ حمزة و الكسائي ( علام الغيب ) للمبالغة و نافع و ابن عمر و رويس ( عالم الغيب ) بالرفع على أنه خبر محذوف أو مبتدأ خبره : { لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض } وقرأ الكسائي
( لا يعزب ) بالكسر { ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين } جملة مؤكدة لنفي العزوب ورفعهما بالابتداء ويؤيده القراءة بالفتح على نفي الجنس ولا يجوز عطف المرفوع على { مثقال } والمفتوح على { ذرة } بأنه فتح في موضع الجر لامتناع الصرف لأن الاستثناء يمنعه اللهم إلا إذا جعل الضمير في { عنه } للغيب وجعل المثبت في اللوح خارجا عنه لظهوره على المطالعين له فيكون المعنى لا ينفصل عن الغيب شيء إلا مسطورا في اللوح

4 - { ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات } علة لقوله { لتأتينكم } وبيان لما يقتضي إتيانهها { أولئك لهم مغفرة ورزق كريم } لا تعب فيه ولا من عليه

5 - { والذين سعوا في آياتنا } بإبطال وتزهيد الناس فيها { معاجزين } مسابقين كي يفوتونا وقرأ ابن كثير و أبو عمرو { معجزين } أي مثبطين عن الإيمان من أراده { أولئك لهم عذاب من رجز } من سيء العذاب { أليم } مؤلم ورفعه ابن كثير و يعقوب و حفص

6 - { ويرى الذين أوتوا العلم } ويعلم أولوا العلم من الصحابة ومن شايعهم من الأمة أو من مسلمي أهل الكتاب { الذي أنزل إليك من ربك } القرآن { هو الحق } ومن رفع { الحق } جعل هو مبتدأ و { الحق } خبره والجملة ثاني مفعولي { يرى } وهو مرفوع مستأنف الاستشهاد بأولي العلم على الجهلة الساعين في الآيات وقيل منصوب معطوف على { ليجزي } أي وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق عيانا كما علموه الآن برهانا
{ ويهدي إلى صراط العزيز الحميد } الذي هو التوحيد والتدرع بلباس التقوى

7 - { وقال الذين كفروا } قال بعضهم لبعض { هل ندلكم على رجل } يعنون محمدا عليه الصلاة و السلام { ينبئكم } يحدثكم بأعجب الأعاجيب { إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد } إنكم تنشؤون خلقا جديدا بعد أن تمزق أجسادكم كل تمزيق وتفريق بحيث تصير ترابا وتقديم الظرف للدلالة على البعد والمبالغة فيه وعامله محذوف دل عليه ما بعده فإن ما قبله لم يقارنه وما بعده مضاف إليه أو محجوب بينه وبينه بأن و { ممزق } يحتمل أن يكون مكانا بمعنى إذا مزقتم وذهبت بكم السيول كل مذهب وطرحتم كل مطرح وجديد بمعنى فاعل من جد كحديد من حد وقيل بمعنى مفعول من جد النساج الثوب إذا قطعه

8 - { أفترى على الله كذبا أم به جنة } جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه واستدل بجعلهم إياه قسيم الافتراء غير معتقدين صدقه على أن بين الصدق والكذب واسطة وهو كل خبر لا يكون عن بصيرة بالمخبر عنه وضعفه بين لأن الافتراء أخص من الكذب
{ بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد } رد من الله تعالى عليهم ترديدهم وإثبات لهم ما هو أفظع من القسمين وهو الضلال البعيد عن الصواب بحيث لا يرجى الخلاص منه وما هو مؤداه من لعذاب وجعله رسيلا له في الوقوع ومقدما عليه في اللفظ للمبالغة في استحقاقهم له والبعد في الأصل صفة الضال ووصف الضلال به على الإسناد المجازي

9 - { أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء } تذكير بما يعاينونه مما يدل على كمال قدرة الله وما يحتمل فيه إزاحة لاستحالتهم الإحياء حتى جعلوه افتراء وهزؤا وتهديدا عليها والمعنى أعموا فيم ينظروا إلى ما أحاط بجوانبهم من السماء والأرض ولم يتفكروا أهم أشد خلقا أم السماء وإنا { إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا } لتكذيبهم بالآيات بعد ظهور البينات وقرأ حمزة و الكسائي ( يشأ ) و
( يخسف ) و ( يسقط ) بالياء لقوله : { افترى على الله } و الكسائي
وحده بإدغام الفاء في الباء و حفص ( كسفا ) بالتحريك { إن في ذلك } النظر والتفكر فيهما وما يدلان عليه { لآية } لدلالة { لكل عبد منيب } راجع إلى ربه فإنه يكون كثير التأمل في أمره

10 - { ولقد آتينا داود منا فضلا } أي على سائر الأنبياء وهو ما ذكر بعد أو على سائر الناس فيندرج فيه النبوة والكتاب والملك والصوت الحسن { يا جبال أوبي معه } رجعي معه التسبيح أو النوحة على الذنب وذلك إما بخلق صوت مثل صوته فيها أو بحملها إياه على التسبيح إذا تأمل ما فيها أو سيري معه حيث سار وقرئ ( أوبي ) من الأوب أي ارجعى في التسبيح كلما رجع فيه وهو بدل من { فضلا } أو من { آتينا } بإضمار قولنا أو قلنا
{ والطير } عطف على محل الجبال ويؤيده القراءة بالرفع عطفا على لفظها
تشبيها للحركة البنائية العارضة بالحركة الإعرابية أو على { فضلا } أو مفعول معه لـ { أوبي } وعلى هذا يجوز أن يكون الرفع بالعطف على ضميره وكان الأصل : ولقد آتينا داود منا فضلا تأويب الجبال والطير فبدل بهذا النظم لما فقيه من الفخامة والدلالة على عظم شأنه وكبرياء سلطانه حيث جعل الجبال والطيور كالعقلاء المنقادين لأمره في نفاذ مشيئته فيها { وألنا له الحديد } جعلناه في يده كالشمع يصرفه كيف يشاء من غير إحماء وطرق بإلانته أو بقوته

11 - { من عمل } أمرناه أن اعمل فـ { أن } مفسرة أو مصدرية
{ سابغات } دروعا واسعات وقرئ ( صابغات ) وهو أول من اتخذها { وقدر في السرد } وقدر في نسجها بحيث يتناسب حلقها أو قدر مساميرها فلا تجعلها دقاقا فتقلق ولا غلاظا فتنخرق ورد بأن دروعه لم تكن مسمرة ويؤيده قوله : { وألنا له الحديد } { واعملوا صالحا } الضمير فيه لداود وأهله { إني بما تعملون بصير } فأجازيكم عليه

12 - { ولسليمان الريح } أي وسخرنا له الريح وقرئ { الريح } بالرفع أي ولسليمان الريح مسخرة وقرئ ( الرياح ) { غدوها شهر ورواحها شهر } جريها بالغداة مسيرة شهر وبالعشي كذلك وقرئ ( غدوتها )
( وروحتها ) { وأسلنا له عين القطر } النحاس المذاب أساله له من معدنه فنبع منه نبوع الماء من الينبوع ولذلك سماه عينا وكان ذلك باليمن { ومن الجن من يعمل بين يديه } عطف على { الريح } { ومن الجن } حال مقدمة أو جملة { من } مبتدأ وخبر { بإذن ربه } بأمره { ومن يزغ منهم } ومن يعدل منهم { عن أمرنا } عما أمرناه من طاعة سليمان وقرئ { يزغ } من أزاغه { نذقه من عذاب السعير } عذاب الآخرة

13 - { يعملون له ما يشاء من محاريب } قصور حصينة ومساكن شريفة سميت بها لأنها يذب عنها ويحارب عليها { وتماثيل } وصورا هي تماثيل للملائكة والأنبياء على ما اعتادوا من العبادات ليراها الناس فيعبدوا نحو عبادتهم وحرمة التصاوير شرع مجدد روي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما { وجفان } وصحاف { كالجواب } كالحياض الكبار جمع جابية من الجباية وهي من الصفات الغالبة كالدابة { وقدور راسيات } ثابتات على الأثافي لا تنزل عنها لعظمها { اعملوا آل داود شكرا } حكاية عما قيل لهم { واشكروا } نصب على العلة أي : اعملوا له واعبدوه شكرا أو المصدر لأن العمل له شكرا أو الوصف له أو الحال أو المفعول به
{ وقليل من عبادي الشكور } المتوفر على أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه أكثر أوقاته ومع ذلك لا يوفي حقه لأن توفيقه الشكر نعمة تستدعي شكرا آخر لا إلى نهايته ولذلك قيل الشكور من يرعى عجزه عن الشكر

14 - { فلما قضينا عليه الموت } أي على سليمان { ما دلهم على موته } ما دل الجن وقيل آله { إلا دابة الأرض } أي الأرضة أضيفت إلى فعلها وقرئ بفتح الراء وهو تأثر الخشبة من فعلها يقال : أرضت الأرضة الخشبة أرضا فأرضت أرضا مثل أكلت القوادح الأسنان أكلا فأكلت أكلا { تأكل منسأته } عصاه من نسأت البعير إذا طردته لأنها يطرد بها وقرئ بفتح الميم وتخفيف الهمزة قلبا وحذفا على غير قياس إذ القياس إخراجها بين بين و { منسأته } على مفعالة كميضاءة في ميضاة و { منسأته } أي طرف عصاه مستعار من سأة القوس وفيه لغتان كما في قحة وقحة وقرأ نافع و أبو عمرو ( منساته ) بألف بدلا منه الهمزة و ابن ذكوان بهمزة ساكنة و وحمزة إذا وقف جعلها بين بين { فلما خر تبينت الجن } علمت الجن بعد التباس الأمر عليهم { أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين } أنهم لو كانوا يعلمون الغيب كما يزعمون لعلموا موته حينما وقع فلم يلبثوا حولا في تسخيره إلى أن خر أو ظهرت الجن وأن بما في حيزه بدل منه أي ظهر أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب وذلك أن داود أسس بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليهما الصلاة والسلام فمات قبل تمامه فوصى به إلى سليمان عليه السلام فاستعمل الجن فيه فلم يتم بعد إذ دنا أجله وأعلم به فأراد أن يعمي عليهم موته ليتمون فدعاهم فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب فقام يصلي متكئا على عصاه فقبض روحه وهو متكئ عليها فبقي كذلك حتى أكلتها الأرضة فخر ثم فتحوا عنه وأرادوا أن يعرفوا وقت موته فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت يوما وليلة مقدارا فحسبوا على ذلك فوجدوه قد مات منذ سنة وكان عمره ثلاثا وخمسين سنة وملك وهو ابن ثلاثة عشرة سنة وابتدأ عمارة بيت المقدس لأربع مضين من ملكه

15 - { لقد كان لسبإ } لأولاد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ومنع الصرف عنه ابن كثير و أبو عمرو لأنه صار اسم القبيلة وعن ابن كثير قلب همزته ألفا ولعله أخرجه بين بين فلم يؤده الراوي كما وجب { في مساكنهم } في مواضع سكناهم وهي باليمن يقال لها مأرب بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام وقرأ حمزة و حفص بالإفراد والفتح و الكسائي بالكسر حملا على ما شذ من القياس كالمسجد والمطلع { آية } علامة دالة على وجود الصانع المختار وأنه قادر على ما يشاء من الأمور العجيبة مجاز للمحسن والمسيء معاضدة للبرهان السابق كما قي قصتي داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام { جنتان } بدل من { آية } أو خبر محذوف تقديره الآية جنتان وقرئ بالنصب على المدح والمراد جماعتان من البساتين { عن يمين وشمال } جماعة يمين بلدهم وجماعة عن شماله كل واحدة منهما في تقاربها وتضامنها كأنها جنة واحدة أو بستانا كل رجل منهم عن يمين مسكنه وعن شماله { كلوا من رزق ربكم واشكروا له } حكاية لما قال لهم نبيهم أو لسان الحال أو دلالة بأنهم كانوا أحقاء بأن يقال لهم ذلك { بلدة طيبة ورب غفور } اسئناف للدلالة على موجب الشكر أي هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم رب غفور فرطات من يشكره وقرئ الكل بالنصب على المدح قيل كانتا أخصب البلاد وأطيبها لم يكن فيها عاهة ولا هامة

16 - { فأعرضوا } عن الشكر { فأرسلنا عليهم سيل العرم } سيل الأمر العرم أي الصعب من عرم الرجل فهو عارم وعرم إذا شرس خلقه وصعب أو المطر الشديد أو الجرذ أضاف إليه الـ { سيل } لأنه نقي عليهم سكرا ضربته لهم بلقيس فحقنت به ماء الشجر وتركت فيه ثقبا على مقدار ما يحتاجون إليه أو المسناة التي عقدت سكرا على أنه جمع عرمة وهي الحجارة المركومة وقيل اسم واد جاء السيل من قبله وكان ذلك بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام { وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط } ثمر بشع فإن الخمط كل نبت أخذ طعما من مرارة وقيل الأراك أو كل شجر لا شوك له والتقدير كل أكل خمط فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامة في كونه بدلا أو عطف بيان { وأثل وشيء من سدر قليل } معطوفان على { أكل } لا على { خمط } فإن الأثل هو الطرفاء ولا ثمر له وقرئا بالنصب عطفا على
{ جنتين } ووصف السدر بالقلة فإن جناه وهو النبق مما يطيب أكله ولذلك يغرس في البساتين وتسمية البدل { جنتين } للمشاكلة والتهكم وقرأ أبو عمرو ( ذاتي ) أكل بغير تنوين اللام وقرأ الحرماين بتخفيف { أكل }

17 - { ذلك جزيناهم بما كفروا } بكفرانهم النعمة أو بكفرهم بالرسل إذ روي أنه بعث إليهم ثلاثة عشر نبيا فكذبوهم وتقديم المفعول للتعظم لا للتخصيص { وهل نجازي إلا الكفور } وهل يجازى بمثل ما فعلنا بهم إلا البليغ في الكفران أو الكفر وقرأ حمزة و الكسائي و يعقوب و حفص { نجازي } بالنون و { الكفور } بالنصب

18 - { وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها } بالتوسعة على أهلها هي قرى الشأم { قرى ظاهرة } متواصلة يظهر بعضها لبعض أو راكبة متن
الطريق ظاهرة لأبناء السبيل { وقدرنا فيها السير } بحيث يقيل الغادي في قرية ويبيت الرائح في قرية إلى أن يبلغ الشام { سيروا فيها } على إرادة القول بلسان الحال أو المقال { ليالي وأياما } متى شئتم من ليل أو نهار
{ آمنين } لا يختلف الأمن فيها باختلاف الأوقات أو سيروا آمنين وإن طالت مدة سفركم فيها أن سيروا فيها ليالي أعماركم وأيامها لا تلقون فيها إلا الأمن

19 - { فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا } أشروا النعمة وملوا العافية كبني إسرائيل فسألوا الله أن يجعل بينهم وبين الشام مفاوز ليتطاولوا فيها على الفقراء بركوب الرواحل وتزوج الأزواد فأجابهم الله بتخريب القرى المتوسطة وقرأ ابن كثير و أبو عمرو
و هشام ( بعد ) و يعقوب { ربنا باعد } بلفظ الخبر على أنه شكوى منهم لبعد سفرهم إفراطا في الترفه وعدم الاعتداد بما أنعم الله عليهم فيه ومثله قراءة من قرأ ( ربنا بعد ) أو ( بعد ) على النداء وإسناد الفعل إلى { بين } { وظلموا أنفسهم } حيث بطروا النعمة ولم يعتدوا بها { فجعلناهم أحاديث } يتحدث الناس بهم تعجبا وضرب مثل فيقولون : تفرقوا أيدي سبأ { ومزقناهم كل ممزق } ففرقناهم غاية التفريق حتى لحق غسان منهم بالشام وأنمار بيثرب وجذام بتهامة والأزد بعمان { إن في ذلك } فيما ذكر { لآيات لكل صبار } عن المعاصي { شكور } على النعم

20 - { ولقد صدق عليهم إبليس ظنه } أي صدق في ظنه أو صدق بظن ظنه مثل فعلته جهدك ويجوز أن يعدى الفعل إليه بنفسه كما في : { صدقنا وعده } لأنه نوع من القول وشدده الكوفيون بمعنى حقق ظنه أو وجده صادقا وقرئ بنصب { إبليس } ورفع الظن من التشديد بمعنى وجد ظنه صادقا والتخفيف بمعنى قال له ظنه الصدق حين خيله إغواءهم وبرفعهما والتخفيف على الأبدان وذلك إما ظنه بسبأ حين رأى انهماكهم في الشهوات أو ببني آدم حين رأى أباهم النبي ضعيف العزم أو ما ركب فيهم من الشهوة والغضب أو سمع من الملائكة قولهم { أتجعل فيها من يفسد فيها } فقال : { لأضلنهم } و { لأغوينهم } { فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين } إلا فريقا هم المؤمنون لم يتبعوه وتقليلهم بالإضافة إلى الكفار أو إلا فريقا من فرق المؤمنين لم يتبعوه في العصيان وهم المخلصون

21 - { وما كان له عليهم من سلطان } تسلط واستيلاء بالوسوسة والاستغواء { إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك } إلا ليتعلق علمنا بذلك تعلقا يترتب عليه الجزاء أو ليتميز المؤمن من الشاك أو ليؤمن من قدر إيمانه وسيشك من قدر ضلاله والمراد من حصول العلم حصول متعلقة مبالغة في نظم الصلتين نكتة لا تخفى { وربك على كل شيء حفيظ } محافظ والزنتان متآخيتان

22 - { قل } للمشركين { ادعوا الذين زعمتم } أي زعمتموهم آلهة وهما مفعولا زعم حذف الأول لطول الموصول بصلته والثاني لقيام صفته مقامه ولا يجوز أن يكون هو مفعوله الثاني لأنه لا يلتئم مع الضمير كلاما ولا { لا يملكون } لأنهم لا يزعمونه { من دون الله } والمعنى ادعوهم فيما يهمكم من جلب نفع أو دفع ضر لعلهم يستجيبون لكم إن صح دعواكم ثم أجاب عنهم إشعارا بتعين الجواب وأنه لا يقبل المكابرة فقال : { لا يملكون مثقال ذرة } من خير أو شر { في السموات ولا في الأرض } في أمر ما وذكرهما للعموم العرفي أو لأن آلهتهم بعضها سماوية كالملائكة والكواكب وبعضها أرضية كالأصنام أو لأن الأسباب القريبة للشر والخير سماوية وأرضية والجملة استئناف لبيان حالهم { وما لهم فيهما من شرك } من شركة لا خلقا ولا ملكا
{ وما له منهم من ظهير } يعينه على تدبير أمرهما

23 - { ولا تنفع الشفاعة عنده } فلا ينفعهم شفاعة أيضا كما يزعمون إذ لا تنفع الشفاعة عند الله { إلا من أذن له } أذن له أن يشفع أو أذن أن يشفع له لعلو شأنه ولم يثبت ذلك واللام على الأول كاللام في قولك : الكرم لزيد وعلى الثاني كاللام في قولك : جئتك لزيد وقرأ أبو عمرو و حمزة و الكسائي بضم الهمزة { حتى إذا فزع عن قلوبهم } غاية لمفهوم الكلام من أن ثم توقفا وانتظارا للإذن أي : يتربصون فزعين حتى إذا كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بالإذن وقيل الضمير للملائكة وقد تقدم ذكرهم ضمنا وقرأ ابن عامر و يعقوب { فزع } على البناء للفاعل وقرئ ( فرغ ) أي نفي الوجل من فرغ الزاد إذا فني { قالوا } قال بعضهم لبعض { ماذا قال ربكم } في الشفاعة { قالوا الحق } قالوا قال القول الحق وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى وهم المؤمنون وقرئ بالرفع أي مقوله الحق { وهو العلي الكبير } ذو العلو والكبرياء ليس لملك ولا نبي من الأنبياء أن يتكلم ذلك اليوم إلا بإذنه

24 - { قل من يرزقكم من السماوات والأرض } يريد به تقرير قوله { لا يملكون } { قل الله } إذ لا جواب سواه وفيه إشعار بأنهم إن سكتوا أو تلعثموا في الجواب مخافة الإلزام فهم مقرون به بقلوبهم { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } أي وإن أحد الفريقن من الموحدين المتوحد بالرزق والقدرة الذاتية بالعبادة والمشركين به الجماد النازل في أدنى المراتب الإمكانية لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال المبينين وهو بعد ما تقدم من التقرير اليليغ الدال على من هو على الهدى ومن هو في الضلال أبلغ من التصريح لأنه في صورة الإنصاف المسكت للخصم المشاغب ونظيره قوله حسان :
( أتهجوه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء )
وقيل إنه على اللف والنشر وفيه نظر واختلاف الحرفين لأن الهادي كمن صعد
منارا ينظر الأشياء ويتطلع عليها أو ركب جوادا يركضه حيث يشاء والضال كأنه منغمس في ظلام مرتبك لا يرى شيئا أو محبوس في مطمورة لا يستطيع أن يتفصى منها

25 - { قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون } هذا أدخل في الإنصاف وأبلغ في الإخباث حيث أسند الإجرام إلى أنفسهم والعمل إلى المخاطبين

26 - { قل يجمع بيننا ربنا } يوم القيامة { ثم يفتح بيننا بالحق } يحكم ويفصل بأن يدخل المحقين الجنة والمبطلين النار { وهو الفتاح } الحاكم الفاصل في القضايا المتعلقة { العليم } بما ينبغي أن يقضى به

27 - { قل أروني الذين ألحقتم به شركاء } لأرى بأي صفة ألحقتموهم بالله في استحقاق العبادة وهو استفسار عن شبهتهم بعد إلزام الحجة عليهم زيادة في تبكيتهم { كلا } ردع لهم عن المشاركة بعد إبطال المقايسة { بل هو الله العزيز الحكيم } الموصوف بالغلبة وكمال القدرة والحكمة وهؤلاء الملحقون به متسمون بالذلة متأبية عن قبول العلم والقدرة رأسا والضمير لله أو للشأن

28 - { وما أرسلناك إلا كافة للناس } إلا إرسالة عامة لهم من الكف إنها إذا عمتهم قد كفتهم أن يخرج منها أحد مهم أو إلا جامعا لهم في الإبلاغ فهي حال من الكاف والتاء للمبالغة ولا يجوز جعلها حالا من الناس على المختار { بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون } فيحملهم جهلهم على مخالفتك

29 - { ويقولون } من فرط جهلهم { متى هذا الوعد } يعنون المبشر به والمنذر
عنه أو الموعود بقوله تعالى : { يجمع بيننا ربنا } { إن كنتم صادقين } يخاطبون به رسول الله صلى الله عليه و سلم والمؤمنين

30 - { قل لكم ميعاد يوم } وعد يوم أو زمان وعد وإضافته إلى اليوم للتبيين ويؤيده أنه قرئ { يوم } على البدل وقرئ { يوم } بإضمار أعني { لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون } إذا فاجأكم وهو جواب تهديد جاء مطابقا فلما قصدوه بسؤالهم من التعنت والإنكار

31 - { وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه } ولا بما تقدمه من الكتب الدالة على النعت قيل إن كفار مكة سألوا أهل الكتاب عن الرسول صلى الله عليه و سلم فأخبروهم أنهم يجدون نعته في كتبهم فغضبوا وقالوا ذلك وقيل الذي بين يديه يوم القيامة { ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم } أي في موضع المحاسبة { يرجع بعضهم إلى بعض القول } يتحاورون ويتراجعون القول { يقول الذين استضعفوا } يقول الأتباع { للذين استكبروا } للرؤساء { لولا أنتم } لولا إضلالك وصدكم إيانا عن الإيمان { لكنا مؤمنين } باتباع الرسول صلى الله عليه و سلم

32 - { قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين } أنكروا أنهم كانوا صادين لهم عن الإيمان وأثبتوا أنهم هم الذين صدوا أنفسهم حيث أعرضوا عن الهدى وآثروا التقليد عليه ولذلك بنوا الإنكار على الاسم

33 - { وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار } إضراب عن إضرابهم أي : لم يكن إجرامنا الصاد بل مكركم لنا دائبا ليلا ونهارا حتى أعورتم علينا رأينا { إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا } والعاطف يعطفه على كلامهم الأول وإضافة الـ { مكر } إلى الظرف على الاتساع وقرئ { مكر الليل } بالنصب على المصدر و { مكر الليل } بالتنوين ونصب الظرف و { مكر الليل } من الكرور { وأسروا الندامة لما رأوا العذاب } وأضمر الفريقان الندامة على الضلال والإضلال وأخفاها كل عين صاحبه مخافة التعبير أو أظهروها فإنه من الأضداد إذ الهمزة تصلح للإثبات والسلب كما في أشكيته { وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا } أي في أعناقهم فجاء بالظاهر تنويها بذمهم وإشعارا بموجب أغلالهم { هل يجزون إلا ما كانوا يعملون } أي لا يفعل بهم ما يفعل إلا جزاء على أعمالهم وتعدية يجزي إما لتضمين معنى يقضي أو بنزع الخافض

34 - { وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها } تسلية لرسول الله صلى الله عليه و سلم مما مني به من قومه وتخصيص المتنعمين بالتكذيب لأن الداعي المعظم إليه التكبر والمفاخرة بزخارف الدنيا والانهماك في الشهوات والاستهانة بمن لم يحظ منها ولذلك ضموا التهكم والمفاخرة إلى التكذيب فقالوا : { إنا بما أرسلتم به كافرون } على مقابلة الجمع بالجمع

35 - { وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا } فنحن أولى بما تدعونه إن أمكن { وما نحن بمعذبين } إما لأن العذاب لا يكون أو لأنه أكرمنا بذلك فلا يهيننا بالعذاب

36 - { قل } لحسبانهم { إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } ولذلك يختلف فيه الأشخاص المتماثلة في الخصائص والصفات ولو كان ذلك لكرامة وهوان يوجبانه لم يكن بمشيئته { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } فيظنون أن كثرة الأموال والأولاد للشرف والكرامة وكثيرا ما يكون للاستدراج كما قال :

37 - { وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى } قربة والتي إما لأن المراد وما جماعة أموالكم وأولادكم أو لأنها صفة محذوف كالتقوى والخصلة وقرئ
( بالذي ) أي بالشيء الذي يقربكم { إلا من آمن وعمل صالحا } استثناء من مفعول { تقربكم } أي الأموال والأولاد لا تقرب أحدا إلا المؤمن الصالح الذي ينفق ماله في سبيل الله ويعلم ولده الخير ويربيه على الصلاح أو من { أموالكم }
و { أولادكم } على حذف المضاف { فأولئك لهم جزاء الضعف } أن يجازوا الضعف إلى عشر فما فوقه والإضافة إضافة المصدر إلى المفعول وقرئ بالأعمال على الأصل وعن يعقوب رفعهما على إبدال الضعف ونصب الجزاء على التمييز أو المصدر لفعله الذي دل عليه لهم { بما عملوا وهم في الغرفات آمنون } من المكاره وقرىء بفتح الراء وسكونه وقرأ حمزة ( في الغرفة ) على إرادة الجنس

38 - { والذين يسعون في آياتنا } بالرد والطعن فيها { معاجزين } مسابقين لأنبيائنا أو ظانين أنهم يفوتوننا { أولئك في العذاب محضرون }

39 - { قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له } يوسع عليه تارة ويضيق عليه أخرى فهذا في شخص واحد باعتبار وقتين وما سبق في شخصين فلا تكرير { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه } عوضا إما عاجلا أو آجلا { وهو خير الرازقين } فإن غيره وسط في إيصال رزقه لا حقيقة لرازقيته

40 - { ويوم نحشرهم جميعا } المستكبرين والمستضعفين { ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون } تقريعا للمشركين وتبكيتا لهم وإقناطا لهم عما يتوقعون من شفاعتهم وتخصيص الملائكة لأنهم أشرف شركائهم والصالحون للخطاب منهم ولأن عبادتهم مبدأ الشرك وأصله وقرأ حفص و يعقوب بالياء فيهما

41 - { قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم } أنت الذي نواليه من دونهم لا موالاة بيننا وبينهم كأنهم بينوا بذلك براءتهم من الرضا بعبادتهم ثم أضربوا عن ذلك ونفوا أنهم عبدوهم على الحقيقة بقولهم : { بل كانوا يعبدون الجن } أي الشياطين حيث أطاعوهم في عبادة غير الله وقيل كانوا يتمثلون لهم ويخيلون إليهم أنهم الملائكة فيعبدوهم
{ أكثرهم بهم مؤمنون } الضمير الأول للإنس أو المشركين والأكثر بمعنى الكل والثاني لـ { الجن }

42 - { فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا } إذ الأمر فيه كله له لأن الدار دار جزاء وهو المجازي وحده { ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون } عطف على { لا يملك } مبين للمقصود من تمهيده

43 - { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا } يعنون محمدا عليه الصلاة و السلام { إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم } فيستتبعكم بما يستبدعه
{ وقالوا ما هذا } يعنون القرآن { إلا إفك } لعدم مطابقة ما فيه الواقع
{ مفترى } بإضافته إلى الله سبحانه وتعالى { وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم } لأمر النبوة أو للإسلام أو للقرآن والأول باعتبار معناه وهذا باعتبار لفظه وإعجازه
{ إن هذا إلا سحر مبين } ظاهر سحريته وفي تكرير الفعل والتصريح بذكر الكفرة وما في اللامين من الإشارة إلى القائين والقول فيه وما في { لما } من المبادهة إلى البت بهذا القول إنكار عظيم له وتعجيب بليغ منه

44 - { وما آتيناهم من كتب يدرسونها } فيها دليل على صحة الإشراك
{ وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير } يدعوهم إليه وينذرهم على تركه وقد بان من قبل أن لا وجه له فمن أين وقع لهم هذه الشبهة وهذا في غاية التجهيل لهم والتسفيه لرأيهم ثم هددهم فقال :

45 - { وكذب الذين من قبلهم } كما كذبوا { وما بلغوا معشار ما آتيناهم } وما بلغ هؤلاء عشر ما آتينا أولئك من القوة وطول العمر وكثرة المال أو ما بلغ أولئك عشر ما آتينا هؤلاء من البينات والهدى { فكذبوا رسلي فكيف كان نكير } فحين كذبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير فكيف كان نكيري لهم فليحذر هؤلاء من مثله ولا تكرير في كذب لأن الأول للتكثير والثاني للتكذيب أو الأول مطلق والثاني مقيد ولذلك عطف عليه بالفاء

46 - { قل إنما أعظكم بواحدة } أرشدكم وأنصح لكم بخصلة واحدة هي ما دل عليه : { أن تقوموا لله } وهو القيام من مجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم أو الانتصاب في الأمر خالصا لوجه الله معرضا عن المراء والتقليد
{ مثنى وفرادى } متفرقين اثنين اثنين وواحدا واحدا فإن الازدحام يشوش الخاطر وبخلط القول { ثم تتفكروا } في أمر محمد صلى الله عليه و سلم وما جاء به لتعلموا حقيقته ومحله الجر على البدل أو البيان أو الرفع أو النصب بإضمار هو أعني { ما بصاحبكم من جنة } فتعلموا ما به من جنون يحمله على ذلك أو استئناف منبه لهم على أن ما عرفوا من رجاحة عقله كاف في ترجيح صدقه فإنه لا يدعه أن يتصدى لادعاء أمر خطير وخطب عظيم من غير تحقق ووثوق ببرهان فيفتضح على رؤوس الأشهاد ويلقي نفسه إلى الهلاك فكيف وقد انضم إليه معجزات كثيرة وقيل { ما } استفهامية والمعنى : ثم تتفكروا أي شيء به من آثار الجنون : { إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد } قدامه لأنه مبعوث في نسيم الساعة

47 - { قل ما سألتكم من أجر } أي شيء سألتكم من أجر على الرسالة { فهو لكم } والمراد نفي السؤال عنه كأن جعل التنبي مستلزما لأحد الأمرين إما الجنون وإما توقع نفع دنيوي عليه لأنه إما أن يكون لغرض أو لغيره وأيا ما كان يلزم أحدهما ثم نفى كلا منهما وقبل { ما } موصولة مراد بها ما سألهم بقوله : { ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا } وقوله : { لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى } واتخاذ السبيل ينفعهم وقرباه قرباهم { إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد } مطلع يعلم صدقي وخلوص نيتي وقرأ ابن كثير و أبو بكر و وحمزة و الكسائي بإسكان الياء

48 - { قل إن ربي يقذف بالحق } يلقيه وينزله على من يجتبيه من عباده أو يرمي به الباطل فيدمغه أو يرمي به إلى أقطار الآفاق فيكون وعدا بإظهار الإسلام وإفشائه وقرأ نافع و أبو عمرو بفتح الياء { علام الغيوب } صفة محمولة على محل { إن } واسمها أو بدل من المستكن في { يقذف } أو خبر ثان أو خبر محذوف وقرئ بالنصب صفة لـ { ربي } أو مقدرا بأعني وقرأ حمزة و أبو بكر ( الغيوب ) بالكسر كالبيوت وبالضم كالعشور وقرئ بالفتح كالصبور على أنه مبالغة غائب

49 - { قل جاء الحق } أي الإسلام { وما يبدئ الباطل وما يعيد } وزهق الباطل أي الشرك بحيث لم يبق له أثر مأخوذ من هلاك الحي فإنه إذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة قال :
( أقفز من أهله عبيد ... فاليوم لا يبدي ولا يعيد )
وقيل الباطل إبليس أو الصنم والمعنى لا ينشئ خلقا و لا يعيده أو لا يبدئ خيرا لأهله ولا يعيده وقيل { ما } استفهامية منتصبة بما بعدها

50 - { قل إن ضللت } عن الحق { فإنما أضل على نفسي } فإن وبال ضلالي عليها لأنه بسببها إذ هي الجاهلة بالذات والأمارة بالسوء وبهذا الاعتبار قابل الشرطية بقوله : { وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي } فإن الاهتداء بهدايته وتوفيقه { إنه سميع قريب } يدرك قول كل ضال ومهتد وفعله وإن أخفاه

51 - { ولو ترى إذ فزعوا } عند الموت أو البعث أو يوم بدر وجواب
{ لو } محذوف تقديره لرأيت أمرا فظيعا { فلا فوت } فلا يفوتون الله بهرب أو تحصن { وأخذوا من مكان قريب } من ظهر الأرض إلى باطنها أو من الموقف إلى النار أو من صحراء بدر إلى القليب والعطف على
{ فزعوا } أو لا فوت ويؤيده أنه قرئ ( وأخذ ) عطفا على محله أي : فلا فوت هناك وهناك أخذ

سورة فاطر
52 - { ما بصاحبكم } { وأنى لهم التناوش } ومن أين لهم أن يتناولوا الإيمان تناولا سهلا { من مكان بعيد } فإنه في حيز التكليف وقد بعد عنهم وهو تمثيل لحالهم في الاستخلاص بالإيمان بعدما فات عنهم أوانه وبعد عنهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة تناوله من ذراع في الاستحالة وقرأ أبو عمرو والكوفيون غير حفص بالهمز على قلب الواو لضمتها أو أنه من نأشت الشيء إذا طلبته قال رؤبة :
( أقحمني جار أبي الجاموش ... إليك نأش القدر التؤوش )
أم من نأشت إذا تأخرت ومنه قوله :
( تمنى نشيشا أن يكون أطاعني ... وقد حدثت بعد الأمور أمور )
فيكون بمعنى التناول من بعد

53 - { وقد كفروا به } بمحمد عليه الصلاة و السلام أو بالعذاب { من قبل } من قبل ذلك أوان التكليف { ويقذفون بالغيب } ويرجمون بالظن ويتكلون بما لم يظهر لهم الرسول عليه الصلاة و السلام من المطاعن أو في العذاب من البث على نفيه { من مكان بعيد } من جانب بعيد من أمره وهو الشبه التي تمحلوها في أمر الرسول صلى الله عليه و سلم أو حال الآخرة كما حكاه من قبل ولعله تمثيل لحالهم في ذلك بحال من يرمي شيئا لا يراه من مكان بعيد لا مجال للظن في لحوقه وقرئ ( ويقذفون ) على أن الشيطان يلقي إليهن ويلقنهم ذلك والعطف على { وقد كفروا } على حكاية الحال الماضية أو على قالوا فيكون تمثيلا لحالهم بحال القاذف في تحصيل ما ضيعوه من الإيمان في الدنيا

54 - { وحيل بينهم وبين ما يشتهون } من نفع الإيمان والنجاة به من النار وقرأ ابن عمر و الكسائي بإشمام الضم للحاء { كما فعل بأشياعهم من قبل } بأشباههم من كفرة الأمم الدارجة { إنهم كانوا في شك مريب } موقع في الريبة أو ذي ريبة منقول من المشكك أو الشك نعت به الشك للمبالغة
عن النبي صلى الله عليه و سلم [ من قرأ سورة سبأ لم يبق رسول ولا نبي إلا كان له يوم القيامة رفيقا ومصافحا ]

1 - { الحمد لله فاطر السموات والأرض } مبدعهما من الفطر بمعنى الشق كأنه شق العدم بإخراجهما منه والإضافة محضة لأنه بمعنى الماضي { جاعل الملائكة رسلا } وسائط بين الله وبين أنبيائه والصالحين من عباده يبلغون إليهم رسالاته بالوحي والإلهام والرؤيا الصادقة أو بينه وبين خلقه يوصلون إليهم آثار صنعه { أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع } ذوي أجنحة متعددة متفاوتة بتفاوت ما لهم من المراتب ينزلون بها ويعرجون أو يسرعون بها نحو ما وكلهم الله عليه فيتصرفون فيه على أمرهم به ولعله لم يرد به خصوصية الإعداد ونفي ما زال عليها لما روي [ أنه عليه الصلاة و السلام رأى جبريل ليلة المعراج وله ستمائة جناح ] { يزيد في الخلق ما يشاء } استئناف للدلالة على أن تفاوتهم في ذلك بمقتضى مشيئته ومؤدى حكمته لا أمر تستدعيه ذواتهم لأن اختلاف الأصناف والأنواع بالخواص والفصول إن كان لذواتهم المشتركة لزم تنافي لوازم الأمور المتفقة وهو محال والآية متناولة زيادات الصور والمعاني كملاحة الوجه وحسن الصوت وحصافة العقل وسماحة النفس { إن الله على كل شيء قدير } وتخصيص بعض الأشياء بالتحصيل دون بعض إنما هو من جهة الإرادة

2 - { ما يفتح الله للناس } ما يطلق لهم ويرسل وهو من تجوز السبب للمسبب { من رحمة } كنعمة وأمن وصحة وعلم ونبوة { فلا ممسك لها } يحسبها { وما يمسك فلا مرسل له } يطلقه واختلاف الضميرين لأن الموصول الأول مفسر بالرحمة والثاني مطلق بتناولها والغضب وفي ذلك إشعار بأن رحمته سبقت غضبه { من بعده } من بعد إمساكه { وهو العزيز } الغالب على ما يشاء ليس لأحد أن ينازعه فيه { الحكيم } لا يفعل إلا بعلم وإتقان ثم لما بين أنه الموجد للملك والملكوت والمتصرف فيهما على الإطلاق أمر الناس بشكر إنعامه فقال :

3 - { يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم } احفظوا بمعرفة حقها والاعتراف بها وطاعة موليها ثم أنكر أن يكون لغيره في ذلك مدخل فيستحق أن يشرك به بقوله : { هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون } فمن أي وجه تصرفون عن التوحيد إلى إشراك غيره به ورفع { غير } للحمل على محل { من خالق } بأنه وصف أو بدل فإن الاستفهام بمعنى النفي أو لأنه فاعل { خالق } وجره حمزة و الكسائي حملا على لفظه وقد نصب على الاستثناء و { يرزقكم } صفة لـ { خالق } أو استئناف مفسر له أو كلام مبتدأ وعلى الأخير يكون إطلاق { هل من خالق } مانعا من إطلاقه على غير الله

4 - { وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك } أي فتأس بهم في الصبر على تكذيبهم فوضع { فقد كذبت } موضعه استغناء بالسبب عن المسبب وتنكير رسل للتعظيم المقتضي زيادة التسلية والحث على المصابرة { وإلى الله ترجع الأمور } فيجازيك وإياهم على الصبر والتكذيب

5 - { يا أيها الناس إن وعد الله } بالحشر والجزاء { حق } لا خلف فيه { فلا تغرنكم الحياة الدنيا } فيذهلكم التمتع بها عن طلب الآخرة والسعي لها { ولا يغرنكم بالله الغرور } الشيطان بأن يمنيكم المغفرة مع الإصرار على المعصية فإنها وإن أمكنت لكن الذنب بهذا التوقع كتناول السم اعتمادا على دفع الطبيعة وقرئ بالضم وهو مصدر أو جمع كقعود

6 - { إن الشيطان لكم عدو } عداوة عامة قديمة { فاتخذوه عدوا } في عقائدكم وأفعالكم وكونوا على حذر منه في مجامع أحوالكم { إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير } تقرير لعداوته وبيان لغرضه في دعوة شيعته إلى اتباع الهوى والركون إلى الدنيا

7 - { الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير } وعيد لمن أجاب دعاءه ووعد لمن خالفه وقطع للأماني الفارغة وبناء للأمر كله على الإيمان والعمل الصالح وقوله :

8 - { أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا } تقرير له أي أفمن زين له سوء عمله بأن غلب وهمه وهواه على عقله حتى انتكس رأيه فرأى الباطل حقا والقبيح حسنا كمن لم يزين له بل وفق حتى عرف الحق واستحسن الأعمال واستقبحها على ما هي عليه فحذف الجواب لدلالة : { فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء } وقيل تقديره أفمن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليه محسرة فحذف الجواب لدلالة : { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } عليه ومعناه فلا تهلك نفسك عليهم للحسرات على غيهم وإصرارهم على التكذيب والفاءات الثلاث للسببية غير أن الأوليين دخلتا على السبب والثالثة دخلت على المسبب وجمع الحسرات للدلالة على تضاعف اغتمامه على أحوالهم أو كثرة مساوي أفعالهم المقتضية للتأسف وعليهم ليس صلة لها لأن صلة المصدر لا تتقدمه بل صلة تذهب أو بيان للمتحسر عليه { إن الله عليم بما يصنعون } فيجازيهم عليه

9 - { والله الذي أرسل الرياح } وقرأ ابن كثير و حمزة و الكسائي الريح { فتثير سحابا } على حكاية الحال الماضية استحضارا لتلك الصورة البديعة الدالة على كمال الحكمة ولأن المراد بيان أحداثها بهذه الخاصية ولذلك أسنده إليها ويجوز أن يكون اختلاف الأفعال للدلالة على استمرار الأمر { فسقناه إلى بلد ميت } وقرأ نافع و حمزة و الكسائي و حفص بالتشديد { فأحيينا به الأرض } بالمطر النازل منه وذكر السحاب كذكره أو بالسحاب فإنه سبب السبب أو الصائر مطرا { بعد موتها } بعد يبسها والعدول فيهما من الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص لما فيهما من مزيد الصنع { كذلك النشور } أي مثل إحياء الموات نشور الأموات في صحة المقدورية إذ ليس بينهما إلا احتمال اختلاف المادة في المقيس عليه وذلك لا مدخل له فينها وقيل في كيفية الإحياء فإنه تعالى يرسل ماء من تحت العرش تنبت منه أجساد الخلق

10 - { من كان يريد العزة } الشرف والمنعة { فلله العزة جميعا } أي فليطلبها من عنده فإن له كلها فاستغنى بالدليل عن المدلول { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } بيان لما يطلب به العزة وهو التوحيد والعمل الصالح وصعودهما إليه مجاز عن قبوله إياهما أو صعود الكتبة بصحيفتهما والمستكن في { يرفعه } لـ { الكلم } فإن العمل لا يقبل إلا بالتوحيد ويؤيده أنه نصب { العمل } أو لـ { العمل } فإنه يحقق الإيمان ويقويه أو لله وتخصيص العمل بهذا الشرف لما فيه من الكلفة وقرئ { يصعد } على البناءين والمصعد هو الله تعالى أو المتكلم به أو الملك وقيل { الكلم الطيب } يتناول الذكر والدعاء وقراءة القرآن [ وعنه عليه الصلاة و السلام : هو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فإذا قالها العبد عرج بها الملك إلى السماء فحيا بها وجه الرحمن فإذا لم يكن عمل صالح لم تقبل ] { والذين يمكرون السيئات } المكرات السيئات يعني مكرات قريش للنبي عليه الصلاة و السلام في دار الندوة وتداورهم الرأي في إحدى ثلاث حبسه وقتله وإجلائه { لهم عذاب شديد } لا يؤبه دونه بما يمكرون به { ومكر أولئك هو يبور } يفسد ولا ينفذ لأن الأمور مقدرة لا تتغير به كما دل عليه بقوله :

11 - { والله خلقكم من تراب } بخلق آدم عليه السلام منه { ثم من نطفة } بخلق ذريته منها { ثم جعلكم أزواجا } ذكرانا وإناثا { وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه } إلا معلومة له { وما يعمر من معمر } وما يمد في عمر من مصيره إلى الكبر { ولا ينقص من عمره } من عمر المعمر لغيره بأن يعطى له عمر ناقص من عمره أو لا ينقص من عمر المنقوص عمره بجعله ناقصا والضمير له وإن لم يذكر للدلالة مقابله عليه أو للعمر على التسامح فيه ثقة بفهم السامع كقولهم : لا يثيب الله عبدا ولا يعاقبه إلا بحق وقيل الزيادة والنقصان في عمر واحد باعتبار أسباب مختلفة أثبتت في اللوح مثل : أن يكون فيه إن حج عمرو فعمره ستون سنة وإلا فأربعون وقيل المراد بالنقصان ما يمر من عمره وينقضي فإنه يكتب في صحيفة عمره يوما فيوما وعن يعقوب ( ولا ينقص ) على البناء للفاعل { إلا في كتاب } هو علم الله تعالى أو اللوح المحفوظ أو الصحيفة { إن ذلك على الله يسير } إشارة إلى الحفظ أو الزيادة أو النقص

12 - { وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج } ضرب مثل للمؤمن والكافر والفرات الذي يكسر العطش والسائغ الذي يسهل انحداره والأجاج الذي يحرق بملوحته وقرئ ( سيغ ) بالتشديد و ( سيغ ) بالتخفيف و { ملح } على فعل { ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها } استطراد في صفة البحرين وما فيهما من النعم أو تمام التمثيل والمعنى : كما أنهما وإن اشتركا في بعض الفوائد لا يتساويان من حيث إنهما لا يتساويان فيما هو المقصود بالذات من الماء فإنه خالط أحدهما ما أفسده وغيره عن كمال فطرته لا يتساوى المؤمن والكافر وإن اتفق اشتراكهما في بعض الصفات كالشجاعة والسخاوة لاختلافهما فيما هو الخاصية العظمى وهي بقاء أحدهما على الفطرة الأصلية دون الآخر أو تفضيل للأجاج على الكافر بما يشارك فيه العذب من المنافع والمراد بـ { الحلية } اللآلئ واليواقيت { وترى الفلك فيه } في كل { مواخر } تشق الماء يجريها { لتبتغوا من فضله } من فضل الله بالنقلة فيها واللام متعلقة بـ { مواخر } ويجوز أن تتعلق بما دل عليه الأفعال المذكورة { ولعلكم تشكرون } على ذلك وحرف الترجي باعتبار ما يقتضيه ظاهر الحال

13 - { يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى } هي مدة دوره أو منتهاه أو يوم القيامة { ذلكم الله ربكم له الملك } الإشارة إلى الفاعل لهذه الأشياء وفيها إشعار بأن فاعليته لها موجبة لثبوت الأخبار المترادفة ويحتمل أن يكون { له الملك } كلاما مبتدأ في قرآن { والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير } للدلالة على تفرده بالألوهية والربوبية والقطمير لفاقة النواة

14 - { إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم } لأنهم جامد { ولو سمعوا } على سبيل الفرض { ما استجابوا لكم } لعدم قدرتهم على الإنفاع أو لتبرئهم منكم مما تدعون لهم { ويوم القيامة يكفرون بشرككم } بإشراككم لهم يقرون ببطلانه أو يقولون { ما كنتم إيانا تعبدون } { ولا ينبئك مثل خبير } ولا يخبرك بالأمر مخبر { مثل خبير } به أخبرك وهو الله سبحانه وتعالى فإنه الخبير به على الحقيقة دون سائر المخبرين والمارد تحقيق ما أخبر به من حال آلهتهم ونفي ما يدعون لهم

15 - { يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله } في أنفسكم وما يعن لكم وتعريف الفقراء للمبالغة في فقرهم كأنهم لشدة افتقارهم وكثرة احتياجهم هم الفقراء وأن افتقار سائر الخلائق بالإضافة إلى فقرهم غير معتد به ولذلك قال : { وخلق الإنسان ضعيفا } { والله هو الغني الحميد } المستغني على الإطلاق المنعم على سائر الموجودات حتى استحق عليهم الحمد

16 - { إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد } بقوم آخرين أطوع منكم أو بعالم آخر غير ما تعرفونه

17 - { وما ذلك على الله بعزيز } بمتعذر أو متعسر

18 - { ولا تزر وازرة وزر أخرى } ولا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى وأما قوله : { وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم } ففي الضالين المضلين فإنهم يحملون أثقال إضلالهم مع أثقال ضلالهم وكل ذلك أوزارهم ليس فيها شيء من أوزار غيرهم { وإن تدع مثقلة } نفس أثقلها الأوزار { إلى حملها } تحمل بعض أوزارها { لا يحمل منه شيء } لم تجب لحمل شيء منه نفى أن يحمل عنها ذنبها كما نفى أن يحمل عليها ذنب غيرها { ولو كان ذا قربى } ولو كان المدعو ذا قرابتها فأضمر المدعو لدلالة إن تدع عليه وقرئ ( ذو قربى ) على حذف الخبر وهو أولى من جعل كان التامة فإنها لا تلائم نظم الكلام { إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب } غائبين عن عذابه أو عن الناس في خلواتهم أو غائبا عنهم عذابه { وأقاموا الصلاة } فإنهم المنتفعون بالإنذار لا غير واختلاف الفعلين لما مر من الاستمرار { ومن تزكى } ومن تطهر من دنس المعاصي { فإنما يتزكى لنفسه } إذ نفعه لها وقرئ ( ومن أزكى فإنما يزكي ) وهو اعتراض مؤكد لخشيتهم وإقامتهم الصلاة لأنهما من جملة التزكي { وإلى الله المصير } فيجازيهم على تزكيهم

19 - { وما يستوي الأعمى والبصير } الكافر والمؤمن وقيل هما مثلان للصنم ولله عز و جل

20 - { ولا الظلمات ولا النور } ولا الباطل ولا الحق

21 - { ولا الظل ولا الحرور } ولا الثواب ولا العقاب ولا لتأكيد نفي الاستواء وتكريرها على الشقين لمزيد التأكيد و { الحرور } فعول من الحر غلب على السموم وقيل السموم ما يهب نهارا والحرور ما تهب ليلا

22 - { وما يستوي الأحياء ولا الأموات } تمثيل آخر للمؤمنين والكافرين أبلغ من الأول ولذلك كرر الفعل وقيل للعلماء والجهلاء { إن الله يسمع من يشاء } هدايته فيوفقه لفهم آياته والاتعاظ بعظاته { وما أنت بمسمع من في القبور } ترشيح لتمثيل المصرين على الكفر بالأموات ومبالغة في إقناطه عنهم

23 - { إن أنت إلا نذير } فما عليك إلا الإنذار وأما الإسماع فلا إليك ولا حيلة لك إليه في المطبوع على قلوبهم

24 - { إنا أرسلناك بالحق } محقين أو محقا أو إرسالا مصحوبا بالحق ويجوز أن يكون صلة لقوله : { بشيرا ونذيرا } أي بشيرا بالوعد الحق ونذيرا بالوعيد الحق { وإن من أمة } أهل عصر { إلا خلا } مضى { فيها نذير } من نبي أو عالم ينذر عنه والاكتفاء بذكره للعلم بأن النذارة قرينة البشارة سيما وقد قرن به من قبل أو لأن الإنذار هو الأهم المقصود من البعثة

25 - { وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات } بالمعجزات الشاهدة على نبوتهم { وبالزبر } كصحف إبراهيم عليه والسلام { وبالكتاب المنير } كالتوراة والإنجيل على إرادة التفصيل دون الجمع ويجوز أن يراد بهما واحد والعطف لتغاير الوصفين

26 - { ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير } أي إنكار بالعقوبة

27 - { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها } أجناسها وأصنافها على أن كلا منها ذو أصناف مختلفة أو هيئاتها من الصفرة والخضرة ونحوهما { ومن الجبال جدد } أي ذو جدد أي خطط وطرائق يقال جدة الحمار للخطة السوداء على ظهره وقرئ ( جدد ) بالضم جمع جديدة بمعنى الجدة و ( جدد ) بفتحتين وهو الطريق الواضح { بيض وحمر مختلف ألوانها } بالشدة والضعف { وغرابيب سود } عطف على { بيض } أو على { جدد } كأنه قيل : ومن الجبال ذو جدد مختلفة اللون ومنها { غرابيب } متحدة اللون وهو تأكيد مضمر يفسره ما بعده فإن الغربيب تأكيد للأسود ومن حق التأكيد أن يتبع المؤكد ونظير ذلك في الصفة قول النابغة :
( والمؤمن العائذات الطير يمسحها )
وفي مثله مزيد تأكيد لما فيه من التكرير باعتبار الإضمار والإظهار

28 - { ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك } كاختلاف الثمار والجبال { إنما يخشى الله من عباده العلماء } إذ شرط الخشية معرفة المخشي والعلم بصفاته وأفعاله فمن كان أعلم به كان أخشى منه ولذلك [ قال عليه الصلاة و السلام : إني أخشاكم لله وأتقاكم له ] ولذلك أتبعه بذكر أفعاله الدالة على كمال قدرته وتقديم المفعول لأن المقصود حصر الفاعلية ولو أخر انعكس الأمر وقرئ برفع اسم الله ونصب العلماء على أن الخشية مستعارة للتعظيم فإن المعظم يكون مهيبا { إن الله عزيز غفور } تعليل لوجوب الخشية لدلالته على أنه معاقب للمصر على طغيانه غفور للتائب عن عصيانه

29 - { إن الذين يتلون كتاب الله } يداومون على قرائته أو متابعة ما فيه حتى صارت سمة لهم وعنوانا والمراد بكتاب الله القرآن أو جنس كتب الله فيكون ثناء على المصدقين من الأمم بعد اقتصاص حال المكذبين { وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية } كيف اتفق من غير قصد إليهما وقيل السر في المسنونة والعلانية في المفروضة { يرجون تجارة } تحصيل ثواب الطاعة وهو خبر إن { لن تبور } لن تكسد ولن تهلك بالخسران صفة للتجارة وقوله :

30 - { ليوفيهم أجورهم } علة لمدلوله أي ينتفي عنها الكساد وتنفق عند الله ليوفيهم بنفاقها أجور أعمالهم أو لمدلول ما عد من امتثالهم نحو فعلوا ذلك { ليوفيهم } أو عاقبة لـ { يرجون } { ويزيدهم من فضله } على ما يقابل أعمالهم { إنه غفور } لفرطاتهم { شكور } لطاعاتهم أي مجازيهم عليها وهو علة للتوفية والزيادة أو خبر إن ويرجون حال من واو وأنفقوا

31 - { والذي أوحينا إليك من الكتاب } يعني القرآن و { من } للتبيين أو الجنس و { من } للتبعيض { هو الحق مصدقا لما بين يديه } أحقه مصدقا من الكتب السماوية حال مؤكدة لأن حقيته تستلزم موافقته إياه في العقائد وأصول الأحكام { إن الله بعباده لخبير بصير } عالم بالبواطن والظواهر فلو كان في أحوالك ما ينافي النبوة لم يوح إليك مثل هذا الكتاب المعجز الذي هو عيار على سائر الكتب وتقديم الخبير للدلالة على أن العمدة في ذلك الأمور الروحانية

32 - { ثم أورثنا الكتاب } حكمنا بتوريثه منك أو نورثه فعبر عنه بالماضي لتحققه أو أورثناه من الأمم السالفة والعطف على { إن الذين يتلون } { والذي أوحينا إليك } اعتراض لبيان كيفية التوريث { الذين اصطفينا من عبادنا } يعني علماء الأمة من الصحابة ومن بعدهم أو الأمة بأسرهم فإن الله اصطفاهم على سائر الأمم { فمنهم ظالم لنفسه } بالتقصير في العمل به { ومنهم مقتصد } يعمل له في غالب الأوقات { ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله } بضم التعليم والإرشاد إلى العمل وقيل الظالم الجاهل والمقتصد المتعلم والسابق العالم وقيل الظالم المجرم والمقتصد الذي خلط الصالح بالسيئ والسابق الذي ترجحت حسناته بحيث صارت سيئاته مكفرة وهو معنى [ قوله عليه الصلاة و السلام : أما الذين سبقوا فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب وأما الذين اقتصدوا فأولئك يحاسبون حسابا يسيرا وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك يحبسون في طول المحشر ثم يتلقاهم الله برحمته ] وقيل الظالم الكافر على أن الضمير للعباد وتقديمه لكثرة الظالمين ولأن الظلم بمعنى الجهل والركون إلى الهوى مقتضى الجبلة والاقتصاد والسبق عارضان { ذلك هو الفضل الكبير } إشارة إلى التوريث أو الاصطفاء أو السبق

33 - { جنات عدن يدخلونها } مبتدأ وخبر الضمير للثلاثة أو لـ { الذين } أو للـ { مقتصد } والـ { سابق } فإن المارد بهما الجنس وقرئ ( جنة عدن ) و { جنات عدن } منصوب بفعل يفسره الظاهر وقرأ أبو عمرو ( يدخلونها ) على البناء للمفعول { يحلون فيها } خبر ثان أو حال مقدرة وقرئ ( يحلون ) من حليت المرأة فهي حالية { من أساور من ذهب } { من } الأولى للتبعيض والثانية للتبيين { ولؤلؤا } عطف على { ذهب } أي { من ذهب } مرصع باللؤلؤ أو { من ذهب } في صفاء اللؤلؤ ونصبه نافع و عاصم رحمهما الله تعالى عطفا على محل { من أساور } { ولباسهم فيها حرير }

34 - { وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن } همهم من خوف العاقبة أو همهم من أجل المعاش وآفاته أو من وسوسة إبليس وغيرها وقرئ { الحزن } { إن ربنا لغفور } للمذنبين { شكور } للمطيعين

35 - { الذي أحلنا دار المقامة } دار الإقامة { من فضله } من إنعامه وتفضله إذ لا واجب عليه { لا يمسنا فيها نصب } تعب { ولا يمسنا فيها لغوب } كلا إذ لا تكليف فيا ولا كد أتبع نفي النصب نفي ما يتبعه مبالغة

36 - { والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم } لا يحكم عليهم بموت ثان { فيموتوا } فيستريحوا ونصبه بإضمار أن وقرئ ( فيموتون ) عطفا على { يقضى } فقوله تعالى : { ولا يؤذن لهم فيعتذرون } { ولا يخفف عنهم من عذابها } بل كلما خبت زيد إسعارها { كذلك } مثل ذلك الجزاء { نجزي كل كفور } مبالغ في الكفر أو الكفران وقرأ أبو عمرو ( يجزى ) على بناء المفعول وإسناده إلى { كل } وقرئ ( يجازي )

37 - { وهم يصطرخون فيها } يستغيثون يفتعلون من الصراخ وهو الصياح استعمل في الاستغاثة لجهر المستغيث صوته { ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل } بإضمار القول وتقييد العمل الصالح بالوصف المذكور للتحسر على ما عملوه من غير الصالح والاعتراف به والإشعار بأن استخراجهم لتلافيه وأنهم كانوا يحسبون أنه صالح والآن تحقق لهم خلافه { أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير } جواب من الله وتوبيخ لهم و { ما يتذكر } فيه متناول كل عمر يمكن المكلف فيه من التفكر والتذكر وقيل ما بين العشرين إلى الستين [ وعنه عليه الصلاة و السلام ( العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة ) ] والعطف على معنى { أولم نعمركم } فإنه للتقرير كأنه قال : عمرناكم وجاءكم النذير وهو النبي صلى الله عليه و سلم أو الكتاب وقيل العقل أو الشيب أو موت الأقارب { فذوقوا فما للظالمين من نصير } يدفع العذاب عنهم

38 - { إن الله عالم غيب السموات والأرض } لا يخفى عليه خافية فلا يخفى عليه أحوالهم { إنه عليم بذات الصدور } تعليل له لأنه إذا علم مضمرات الصدور وهي أخفى ما يكون كان أعلم لغيرها

39 - { هو الذي جعلكم خلائف في الأرض } ملقى إليكم مقاليد التصرف فيها وقيل خلفا بعد خلف جمع خليفة والخلفاء جمع خليف { فمن كفر فعليه كفره } جزاء كفره { ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا } بيان له والتكرير للدلالة على عن اقتضاء الكفر لكل واحد من الأمرين مستقل باقتضاء قبحه ووجوب التجنب عنه والمراد بالمقت وهو أشد البغض مقت الله وبالخسار خسار الآخرة

40 - { قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله } يعني آلهتهم والإضافة إليهم لأنهم جعلوهم شركاء الله أو لأنفسهم فيما يملكونه { أروني ماذا خلقوا من الأرض } بدل من { أرأيتم } بدل الاشتمال لأنه بمعنى أخبروني كأنه قال : أخبروني عن هؤلاء الشركاء أروني أي جزء من الأرض استبدوا بخلقه { أم لهم شرك في السموات } أم لهم شركة مع الله في خلق السموات فاستحقوا بذلك شركة في الألوهية ذاتية { أم آتيناهم كتابا } ينطق على أنا اتخذناهم شركاء { فهم على بينة منه } على حجة من ذلك الكتاب بأن لهم شركة جعلية ويجوز أن يكون هم للمشركين كقوله تعالى : { أم أنزلنا عليهم سلطانا } وقرأ نافع و ابن عامر و يعقوب و أبو بكر و الكسائي ( على بينات ) فيكون إيماء إلى أن الشرك خطير لا بد فيه من تعاضد الدلائل { بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا } لما نفى أنواع الحجج في ذلك أضرب عنه بذكر ما حملهم عليه وهو تغريز الأسلاف الأخلاف أو الرؤساء الأتباع بأنهم شفعاء عند الله يشفعون لهم بالتقرب إليه

41 - { إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا } كراهة أن تزولا فإن الممكن حال بقائه لا بد له من حافظ أنو يمنعهما أن تزولا لأن الإمساك منع { ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد } ما أمسكهما { من بعده } من بعد الله أو من بعد الزوال والجملة سادة مسد الجوابين ومن الأولى زائدة والثانية للابتداء { إنه كان حليما غفورا } حيث أمسكهما وكانتا جديرتين بأن تهدا هدا كما قال تعالى : { تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض }

42 - { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم } وذلك أن قريشا لما بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا : لعن الله اليهود والنصارى لو أتانا رسول لنكونن { أهدى من إحدى الأمم } أي من واحدة من الأمم اليهود والنصارى وغيرهم أو من الأمة التي يقال فيها هي { إحدى الأمم } تفضيلا لها على غيرها في الهدى والاستقامة { فلما جاءهم نذير } يعني محمدا عليه الصلاة و السلام { ما زادهم } أي النذير أو مجيئه على التسبب { إلا نفورا } تباعدا عن الحق

سورة يس
43 - و مفعول له { ومكر السيئ } أصله وإن مكروا المكر السيئ فحذف الموصوف استغناء بوصفه ثم بدل أن مع الفعل بالمصدر ثم أضيف وقرأ حمزة وحده بسكون الهمزة في الوصل { ولا يحيق } ولا يحيط { المكر السيئ إلا بأهله } وهو الماكر وقد حاق بهم يوم بدر وقرئ { ولا يحيق المكر } أي ولا يحيق الله { فهل ينظرون } ينتظرون { إلا سنة الأولين } سنة الله فيهم بتعذيب مكذبيهم { فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا } إذ لا يبدلها بجعله غير التعذيب تعذيبا ولا يحولها بأن ينقله من المكذبين إلى غيرهم وقوله :

44 - { أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } استشهاد علم بما يشاهدونه في مسايرهم إلى الشام واليمن والعراق من آثار الماضين { وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شيء } ليسبقه ويفوته { في السموات ولا في الأرض إنه كان عليما } بالأشياء كلها { قديرا } عليها

45 - { ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا } من المعاصي { ما ترك على ظهرها } ظهر الأرض { من دابة } من نسمة تدب عليها بشؤم معاصيهم وقيل المراد بالدابة الإنس وحده لقوله : { ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى } هو يوم القيامة { فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا } فيجازيهم على أعمالهم
[ عن النبي صلى الله عليه و سلم من قرأ سورة الملائكة دعته ثمانية أبواب الجنة : أن أدخل من أي باب شئت ) ]

1 - { يس } في المعنى والإعراب وقيل معناه يا إنسان بلغة طيئ عل أن أصله يا أنيسين فاقتصر على شطره لكثرة النداء به كما قيل ( من الله ) في أيمن وقرئ بالكسر كجير وبالفتح على البناء كأين أو الإعراب على اتل يس أو بإضمار حرف القسم والفتحة لمنع الصرف وبالضم بناء كحيث أو إعرابا على هذه { يس } وأمال الياء حمزة و الكسائي و روح و أبو بكر وأدغم النون في واو

2 - { والقرآن الحكيم } ابن عامر و الكسائي و أبو بكر و ورش و يعقوب وهي واو القسم أو العطف إن جعل { يس } مقسما به

3 - { إنك لمن المرسلين } لمن الذين أرسلوا

4 - { على صراط مستقيم } وهو التوحيد والاستقامة في الأمور ويجوز أن يكون { على صراط } خبرا ثانيا وحالا من المستكن في الجار والمجرور وفائدته ووصف الشرع صريحا بالاستقامة وإن دل عليه { لمن المرسلين } التزاما

5 - { تنزيل العزيز الرحيم } خبر محذوف والمصدر بمعنى المفعول وقرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي و حفص بالنصب بإضمار أعني أو فعله على أنه على أصله وقرئ بالجر على البدل من القرآن

6 - { لتنذر قوما } متعلق بـ { تنزيل } أو بمعنى { لمن المرسلين } { ما أنذر آباؤهم } قوما غير منذر آباؤهم يعني آباءهم الأقربين لتطاول مدة الفترة فيكون صفة مبينة لشدة حاجتهم إلى إرساله أو الذي أنذر به أو شيئا أنذر به آباؤهم الأبعدون فيكون مفعولا ثانيا { لتنذر } أو إنذار آبائهم على المصدر { فهم غافلون } متعلق بالنفي على الأول أي لم ينذروا فبقوا غافلين أو بقوله { إنك لمن المرسلين } على الوجوه الأخرى أي أرسلناك إليهم لتنذرهم فإنهم غافلون

7 - { لقد حق القول على أكثرهم } يعني قوله تعالى : { لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } { فهم لا يؤمنون } لأنهم ممن علم الله أنهم لا يؤمنون

8 - { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا } تقرير لتصميمهم على الكفر والطبع على قلوبهم بحيث لا تغني عنهم الآيات والنذر بتمثيلهم بالذين غلت أعناقهم { فهي إلى الأذقان } فالأغلال واصلة إلى أذقانهم فلا تخليهم يطأطئون رؤوسهم له { فهم مقمحون } رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم في أنهم لا يلتفتون لفت الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه ولا يطأطئون رؤوسهم له

9 - { وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون } وبمن أحاط بهم سدان فغطى أبصارهم بحيث لا يبصرون قدامهم ووراءهم في أنهم محبوسون في مطمورة الجهالة ممنوعون عن النظر في الآيات والدلائل وقرأ حمزة و الكسائي و حفص ( سدا ) بالفتح وهو لغة فيه وقيل ما كان بفعل الناس فبالفتح وما كان بخلق الله فبالضم وقرئ ( فأعشيناهم ) من العشاء وقيل الآيتان في بني مخزوم حلف أبو جهل أن يرضخ رأس النبي صلى الله عليه و سلم فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه فلما رفع يده انثنت إلى عنقه ولزق الحجر بيده حتى فكوه عنها بجهد فرجع إلى قومه فأخبرهم فقال مخزومي آخر : أنا أقتله بهذا الحجر فذهب فأعمى الله بصره

10 - { وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } سبق في سورة ( البقرة ) تفسيره

11 - { إنما تنذر } إنذارا يترتب عليه الغية المرومة { من اتبع الذكر } أي القرآن بالتأمل فيه والعمل به { وخشي الرحمن بالغيب } وخاف عقابه قبل حلوله ومعاينة أهواله أو في سريرته ولا يغتر برحمته فإنه كما هو رحمن منتقم قهار { فبشره بمغفرة وأجر كريم }

12 - { إنا نحن نحيي الموتى } الأموات بالبعث أو الجهال بالهداية { ونكتب ما قدموا } ما أسلفوا من الأعمال الصالحة والطالحة { وآثارهم } الحسنة كعلم علموه وحبيس وقفوه والسيئة كإشاعة باطل وتأسيس ظلم { وكل شيء أحصيناه في إمام مبين } يعني اللوح المحفوظ

13 - { واضرب لهم } ومثل لهم من قولهم هذه الأشياء على ضرب واحد أي مثال واحد وهو يتعدى إل مفعولين لتضمنه معنى الجعل وهما : { مثلا أصحاب القرية } على حذف مضاف أي اجعل لهم مثل أصحاب القرية مثلا ويجوز أن يقتصر على واحد ويجعل المقدر بدلا من الملفوظ أو بيانا له والقرية انطاكية { إذ جاءها المرسلون } بدل من أصحاب القرية و { المرسلون } رسل عيسى عليه الصلاة و السلام إلى أهلها وإضافته إلى نفسه في قوله :

14 - { إذ أرسلنا إليهم اثنين } لأنه فعل رسوله وخليفته وهما يحيى ويونس عليهم الصلاة والسلام وقيل غيرهما { فكذبوهما فعززنا } فقوينا وقرأ أبو بكر مخففا من عزه إذا غلبه وحذف المفعول لدلالة ما قبله عليه ولأن المقصود ذكر المعزز به { بثالث } وهو شمعون { فقالوا إنا إليكم مرسلون } وذلك أنهم كانوا عبدة أصنام فأرسل إليهم عيسى عليه السلام اثنين فلما قربا من المدينة رأيا حبيبا النجار يرعى غنما فسألهما فأخبراه فقال : أمعكما آية فقالا : نشفي المريض ونبرئ الأكمه والأبرص وكان له ولد مريض فمسحاه فبرأ فآمن حبيب وفشا الخبر فشفي على أيديهما خلق كثير وبلغ حديثهما إلى الملك وقال لهما : ألنا إله سوى آلهتنا ؟
قالا : نعم من أوجدك وآلهتك قال حتى أنظر في أمركما فحبسهما ثم بعث عيسى شمعون فدخل متنكرا وعاشر أصحاب الملك حتى استأنسوا به وأوصلوه إلى الملك فأنس به فقال له يوما : سمعت أنك حبست رجلين فهل سمعت ما يقولانه قلا فدعاهما فقال شمعون من أرسلكما قالا : الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك فقال صفاه وأوجزا قالا : يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد قال وما آيتكما قالا : ما يتمنى الملك فدعا بغلام مطموس العينين فدعوا الله حتى انشق له بصره وأخذا بندقتين فوضعاهما في حدقتيه فصارتا مقلتين ينظره بهما فقال شمعون أرأيت لو سألت آلهتك حتى تصنع مثل هذا حتى يكون لك ولها الشرف قال ليس لي عنك سر آلهتنا لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع ثم قال إن قدر إلهكما على إحياء ميت آمنا به فأتوا بغلام مات منذ سبعة أيام فدعوا الله فقام وقال : إني أدخلت في سبعة أودية من النار وأنا أحذركم ما أنتم فيه فآمنوا وقلا فتحت أبواب السماء فرأيت شابا حسنا يشغف لهؤلاء الثلاثة فقال الملك من هم قال شمعون وهذان فلما رأى شمعون أن قوله قد أثر فيه نصحه فآمن في جمع ومن لم يؤمن صاح عليهم جبريل عليه الصلاة و السلام فهلكوا

15 - { قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا } لا مزية لكم علينا تقتضي اختصاصكم بما تدعون ورفع بشر لانتقاض النفي المقتضي إعمال ما بإلا { وما أنزل الرحمن من شيء } وحي ورسالة { إن أنتم إلا تكذبون } في دعوى الرسالة

16 - { قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون } استشهدوا بعلم الله وهو يجري مجرى القسم وزادوا اللام المؤكدة لأنه جواب عن إنكارهم

17 - { وما علينا إلا البلاغ المبين } الظاهر البين بالآيات الشاهدة لصحته وهو المحسن للاستشهاد فإنه لا يحسن إلا ببينة

18 - { قالوا إنا تطيرنا بكم } تشاءمنا بكم وذلك لاستغرابهم ما ادعوه واستقباحهم له وتنفرهم عنه { لئن لم تنتهوا } عن مقالتكم هذه { لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم }

19 - { قالوا طائركم معكم } سبب شؤمكم معكم وهو سوء عقيدتكم وأعمالكم وقرئ ( طيركم معكم ) { أإن ذكرتم } وعظتم وجواب الشرط محذوف مثل تطيرتم أو توعدتم بالرجم والتعذيب وقد قرئ بألف بين الهمزتين وبفتح أن بمعنى أتطيرتم لأن ذكرتم وأن بغير الاستفهام و ( أين ذكرتم ) بمعنى طائركم معكم حيث جرى ذكركم وهو أبلغ { بل أنتم قوم مسرفون } قوم عادتكم الإسراف في العصيان فمن ثم جاءكم الشؤم أو في الضلال ولذلك توعدتم وتشاءمتم بمن يجب أن يكرم ويتبرك به

20 - { وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى } هو حبيب النجار وكان ينحت أصنامهم وهو ممن آمن بمحمد عليه الصلاة و السلام وبينهما ستمائة سنة وقيل كان في غار يعبد الله فلما بلغه خبر الرسل أتاهم وأظهر دينه { قال يا قوم اتبعوا المرسلين }

21 - { اتبعوا من لا يسألكم أجرا } على النصح وتبليغ الرسالة { وهم مهتدون } إلى خير الدارين

22 - { وما لي لا أعبد الذي فطرني } على قراءة غير حمزة فإنه يسكن الياء في الوصل تلطف في الإرشاد بإيراده في معرض المناصحة لنفسه وإمحاض النصح حيث أراد لهم ما أراد لها والمراد تقريعهم على تركهم عبادة خالقهم إلى عبادة غيره ولذلك قال : { وإليه ترجعون } مبالغة في التهديد ثم عاد إلى المساق الأول فقال :

23 - { أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا } لا تنفعني شفاعتهم { ولا ينقذون } بالنصرة والمظاهرة

24 - { إني إذا لفي ضلال مبين } فإن إيثار ما لا ينفع ولا يدفع ضرا بوجه ما على الخالق المقتدر على النفع والضر وإشراكه به ضلال بين لا يخفى على عاقل وقرأ نافع و يعقوب و أبو عمرو بفتح الياء

25 - { إني آمنت بربكم } الذي خلقكم وقرأ نافع و ابن كثير و أبو عمرو بفتح الياء { فاسمعون } فاسمعوا إيماني وقيل الخطاب للرسل فإنه لما نصح قومه أخذوا يرجمونه فأسرع نحوهم قبل أن يقتلوه

26 - { قيل ادخل الجنة } قيل له ذلك لما قتلوه بشرى له بأنه من أهل الجنة أو إكراما وإذنا في دخولها كسائر الشهداء أو لما هموا بقتله رفعه الله إلى الجنة على ما قاله الحسن وإنما لم يقل له لأن الغرض بيان المقول دون المقول له فإنه معلوم والكلام استئناف في حيز الجواب عن السؤال عن حاله عند لقاء ربه بعد تصلية في نصر دينه وكذلك : { قال يا ليت قومي يعلمون }

27 - { بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين } فإنه جواب عن السؤال عن قوله عند ذلك القول وإنما تمنى علم قومه بحاله ليحملهم على اكتساب مثلها بالتوبة عن الكفر والدخول في الإيمان والطاعة على دأب الأولياء في كظم الغيظ والترحم على الأعداء أو ليعلموا أنهم كانوا على خطأ عظيم في أمره وأنه كان على حق وقرئ { المكرمين } و ( ما ) خبرية أو مصدرية والباء صلة { يعملون } أو استفهامية جاء على الأصل والباء صلة غفر أي بأي شيء { غفر } لي يريد به المهاجرة عن دينهم والمصابرة على أذيتهم

28 - { وما أنزلنا على قومه من بعده } من بعد هلاكه أو رفعه { من جند من السماء } لإهلاكهم كما أرسلنا يوم بدر والخندق بل كفينا أمرهم بصيحة ملك وفيه استحقار لإهلكهم وإيماء بتعظيم الرسول عليه السلام { وما كنا منزلين } وما صح في حكمتنا أن ننزل جندا لإهلاكم قومه إذ قدرنا لكل شيء سببا لانتصارك من قومك وقيل { ما } موصولة معطوفة على { جند } أي ومما كنا منزلين على من قبلهم من حجارة وريح وأمطار شديدة

29 - { إن كانت } ما كانت الأخذة أو العقوبة { إلا صيحة واحدة } صاح بها جبريل عليه السلام وقرئت بالرفع على كان التامة { فإذا هم خامدون } ميتون شبهوا بالنار رمزا إلى أن الحي كالنار الساطعة و الميت كرمادها كما قال لبيد :
( وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع )

30 - { يا حسرة على العباد } تعالي فهذه من الأحوال التي من حقها أن تحضري فيها وهي ما دل عليها { ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون } فإن المستهزئين بالناصحين المخلصين المنوط بنصحهم خير الدارين أحقاء بأن يتحسروا عليهم وقد تلهف على حالهم الملائكة والمؤمنون من الثقلين ويجوز أن يكون تحسرا من الله عليهم على سبيل الاستعارة لتعظيم ما جنوه على أنفسهم ويؤيده قراءة ( يا حسرتا ) ونصبها لطولها بالجار المتعلق بها وقيل بإضمار فعلها والمنادى محذوف وقرئ ( يا حسرة العباد ) بالإضافة إلى الفاعل أو المفعول و ( يا حسرة ) بالهاء على العباد بإجراء الوصل مجرى الوقف

31 - { ألم يروا } ألم يعلموا وهو معلق عن قوله : { كم أهلكنا قبلهم من القرون } لأن { كم } لا يعمل فيها ما قبلها وإن كانت خبرية لأن أصلها الاستفهام { أنهم إليهم لا يرجعون } بدل من { كم } على المعنى أي ألم يروا كثرة إهلاكنا من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم وقرئ بالكسر على الاستئناف

32 - { وإن كل لما جميع لدينا محضرون } يوم القيامة للجزاء و { إن } مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة و ( ما ) مزيدة للتأكيد وقرأ ابن عامر و عاصم و حمزة { لما } بالتشديد بمعنى إلا فتكون إن نافية وجميع فعيل بمعنى مفعول و { لدينا } ظرف له أو لـ { محضرون }

33 - { وآية لهم الأرض الميتة } وقرأ نافع بالتشديد { أحييناها } خبر لـ { الأرض } والجملة خبر { آية } أو صفة لها إذ لم يرد بها معينة وهي الخبر أو المبتدأ والآية خبرها أو استئناف لبيان كونها { آية } { وأخرجنا منها حبا } جنس الحب { فمنه يأكلون } قدم الصلة للدلالة على أن الحب معظم ما يؤكل ويعاش به

34 - { وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب } من أنواع النخل والعنب ولذلك جمعهما دون الحب فإن الدال على الجنس مشعر بالاختلاف ولا كذلك الدال على الأنواع وذكر النخيل دون التمور ليطابق الحب والأعناب لاختصاص شجرها بمزيد النفع وآثار الصنع { وفجرنا فيها } وقرئ بالتخفيف والفجر والتفجير كالفتح والتفتيح لفظا ومعنى { من العيون } أي شيئا من العيون فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه أو { العيون } و { من } مزيدة عند الأخفش

35 - { ليأكلوا من ثمره } ثمر ما ذكر وهو الجنات وقيل الضمير لله تعالى على طريقة الالتفات والإضافة إليه لأن الثمر بخلقه وقرأ حمزة و الكسائي بضمتين وهو لغة فيه أو جمع ثمار وقرئ بضمة وسكون { وما عملته أيديهم } عطف على الثمر والمراد ما يتخذ منه كالعصير والدبس ونحوهما وقيل { ما } نافية والمراد أن الثمر بخلق الله لا بفعلهم ويؤيد الأول قراءة الكوفيين غير حفص بلا هاء فإن حذفه من الصلة أحسن من غيرها { أفلا يشكرون } أمر بالشكر من حيث أنه إنكار لتركه

36 - { سبحان الذي خلق الأزواج كلها } الأنواع والأصناف { مما تنبت الأرض } من النبات والشجر { ومن أنفسهم } الذكر والأنثى { مما يعملون } وأزواجا مما لم يطلعهم الله تعالى عيه ولم يجعل لهم طريقا إلى معرفته

37 - { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار } نزيله ونكشفه عن مكانه مستعار من سلخ الجلد والكلام في إعرابه ما سبق { فإذا هم مظلمون } داخلون في الظلام

38 - { والشمس تجري لمستقر لها } لحد معين ينتهي غليه دورها فشبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره أو لكبد السماء فإن حركتها فيه يوجد فيها بطء بحيث يظن أن لها هناك وقفة قال :
( والشمس حيرى لها بالجو تدويم )
أو لاستقرار لها على نهج مخصوص أو لمنتهى مقدر لكل يوم من المشارق والمغارب فإن لها في دورها ثلثمائة وستين مشرقا ومغربا تطلع كل يوم من مطلع وتغرب من مغرب ثم لا تعود إليهما إلى العام القابل أو لمنقطع جريها عند خراب العالم وقرئ ( لا مستقر لها ) أي لا سكون فإنها متحركة دائما و ( لا مستقر ) على أن ( لا ) بمعنى ليس { ذلك } الجري على هذا التقدير المتضمن للحكم التي تكل الفطن عن أحصائها { تقدير العزيز } الغالب بقدرته على كل مقدور { العليم } المحيط علمه بكل معلوم

39 - { والقمر قدرناه } قدرنا مسيره { منازل } أو سيره في منازل وهي ثمانية وعشرون : السرطان البطين الثريا الدبران الهقعة الهنعة الذراع النثرة الطرف الجبهة الزبرة الصرفة العواء السماك الغفر الزبانا الإكليل القلب الشولة النعائم البلدة سعد الذابح سعد بلع سعد السعود سعد الأخبية فرغ الدلو المقدم فرغ الدلو المؤخر الرشا وهو بطن الحوت ينزل كل ليلة في واحد منها لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه فإذا كان في آخر منازله وهو الذي يكون فيه قبيل الاجتماع دق واستقوس وقرأ الكوفيون و ابن عامر { والقمر } بنصب الراء { حتى عاد كالعرجون } كالشمراخ المعوج فعلون من الانعراج وهو الاعوجاج وقرئ { كالعرجون } وهما لغتان كالبزيون والبزيون { القديم } العتيق وقيل ما مر عليه حول فصاعدا

40 - { لا الشمس ينبغي لها } يصح لها ويتسهل { أن تدرك القمر } في سرعة سيره فإن ذلك يخل بتكون النبات وتعيش الحيوان أو في آثاره ومنافعه أو مكانه بالنزول إلى محله أو سلطانه فتطمس نوره وإيلاء حرف النفي { الشمس } للدلالة على أنها مسخرة لا يتيسر لها إلا ما أريد بها { ولا الليل سابق النهار } يسبقه فيفوته ولكن يعاقبه وقيل المراد بهما آيتاهما وهما النيران وبالسبق سبق القمر إلى سلطان الشمس فيكون عكسا للأول وتبديل الإدراك بالسبق لأنه الملائم لسرعة سيره { وكل } وكلهم والتنوين عوض عن المضاف إليه والضمير للشموس والأقمار فإن اختلاف الأحوال يوجب تعددا ما في الذات أو للكواكب فإن ذكرهما مشعر بهما { في فلك يسبحون } يسيرون فيه بانبساط

41 - { وآية لهم أنا حملنا ذريتهم } أولادهم الذين يبعثونهم إلى تجارتهم أو صبيانهم ونساءهم الذين يستصحبونهم فإن الذرية تقع عليهن لأنهن مزارعها وتخصيصهم لأن استقرارهم في السفن أشق وتماسكهم فيها أعجب وقرأ نافع و ابن عامر { ذرياتهم } { في الفلك المشحون } المملوء وقيل المراد فلك نوح عليه الصلاة و السلام وحمل الله ذرياتهم فيها أنه حمل فيها آباءهم الأقدمين وفي أصلابهم هم وذرياتهم و تخصيص الذرية لأنه أبلغ في الامتنان وأدخل في التعجب مع الإيجاز

42 - { وخلقنا لهم من مثله } من مثل الفلك { ما يركبون } من الإبل فإنها سفائن البر أو من السفن والزوارق

43 - { وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم } فلا مغيث لهم يحرسهم عن الغرق أو فلا إغاثة كقولهم أتاهم الصريخ { ولا هم ينقذون } ينجون من الموت به

44 - { إلا رحمة منا ومتاعا } إلا لرحمة ولتمتيع بالحياة { إلى حين } زمان قدر لآجالهم

45 - { وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم } الوقائع التي خلت أو العذاب المعد في الآخرة أو نوازل السماء ونوائب الأرض كقوله : { أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض } أو عذاب الدنيا وعذاب الآخرة أو عكسه أو ما تقدم من الذنوب وما تأخر { لعلكم ترحمون } لتكونوا راجين رحمة الله وجواب إذا محذوف دل عليه قوله :

46 - { وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين } كأنه قال وإذ قيل لهم اتقوا العذاب أعرضوا لأنهم اعتادوه وتمرنوا عليه

47 - { وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله } على محاويجكم { قال الذين كفروا } بالصانع يعني معطلة كانوا بمكة { للذين آمنوا } تهكما بهم من إقرارهم به وتعليقهم الأمور بمشيئته { أنطعم من لو يشاء الله أطعمه } على زعمكم وقيل قاله مشركو قريش حين استطعمهم فقراء المؤمنين إيهاما بأن الله تعالى بما كان قادرا أن يطعمهم ولم يطعمهم فنحن أحق بذلك وهذا من فرط جهالتهم فإن الله يطعم بأسباب منها حث الأغنياء على إطعام الفقراء وتوفيقهم له { إن أنتم إلا في ضلال مبين } حيث أمرتمونا ما يخالف مشيئة الله ويجوز أن يكون جوابا من الله لهم أو حكاية لجواب المؤمنين لهم

48 - { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } يعنون وعد البعث

49 - { ما ينظرون } ما ينتظرون { إلا صيحة واحدة } هي النفخة الأولى { تأخذهم وهم يخصمون } يتخاصمون في متاجرهم ومعاملاتهم لا يخطر ببالهم أمرها كقوله : { أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون } وأصله يختصمون فسكنت التاء أدغمت ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين وقرأ أبو بكر بكسر الياء للاتباع وقرأ ابن كثير و ورش و هشام بفتح الخاء على إلقاء حركة التاء إليه و أبو عمرو و قالون به مع الاختلاس وعن نافع الفتح فيه والإسكان والتشديد وكأنه جوز الجمع بين الساكنين إذا كان الثاني مدغما وقرأ حمزة { يخصمون } من خصمه إذا جادله

50 - { فلا يستطيعون توصية } في شيء من أمورهم { ولا إلى أهلهم يرجعون } فيروا حالهم بل يموتون حيث تبغتهم

51 - { ونفخ في الصور } أي مرة ثانية وقد سبق تفسيره في سورة ( المؤمنين ) { فإذا هم من الأجداث } من القبور جمع جدث وقرئ بالفاء { إلى ربهم ينسلون } يسرعون وقرئ بالضم

52 - { قالوا يا ويلنا } وقرئ ( يا ويلتنا ) { من بعثنا من مرقدنا } وقرئ ( من أهبنا ) من هب من نومه إذا انتبه ومن هبنا وفيه ترشيح ورمز وإشعار بأنهم لاختلاط عقولهم يظنون أنهم كانوا نياما و { من بعثنا } و ( من هبنا ) على الجارة والمصدر وسكت حفص وحده عليها سكتة لطيفة والوقف عليها في سائر القراءات حسن { هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون } مبتدأ وخبر و { ما } مصدرية أو موصولة محذوفة الراجع أو { هذا } صفة لـ { مرقدنا } و { ما وعد } خبر محذوف أو مبتدأ خبره محذوف أي { هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون } أو { ما وعد الرحمن وصدق المرسلون } حق وهو من كلامهم وقيل جواب للملائكة أو المؤمنين عن سؤالهم معدول عن سننه تذكيرا لكفرهم وتقريعا لهم عليه وتنبيها بأن الذي يهمهم هو السؤال عن البعث دون الباعث كأنهم قالوا : بعثكم الرحمن الذي وعدكم البعث ورسل إليكم الرسل فصدقوكم وليس الأمر كما تظنون فإنه ليس يبعث النائم فيهمكم السؤال عن الباعث وإنما هو البعث الأكبر ذو الأهوال

53 - { إن كانت } ما كانت الفعلة { إلا صيحة واحدة } هي النفخة الأخيرة وقرئت بالرفع على كان التامة { فإذا هم جميع لدينا محضرون } بمجرد تلك الصيحة وفي كل ذلك تهوين أمر البعث والحشر واستغناؤهما عن الأسباب التي ينوطان بها فيما يشاهدونه

54 - { فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون } حكاية لما يقال هلم حينئذ تصويرا للموعود وتمكينا له في النفوس وكذا قوله :

55 - { إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون } متلذذون في النعمة من الفكاهة وفي تنكير { شغل } وإيهامه تعظيم لما هم فيه من البهجة والتلذذ وتنبيه على أنه أعلى ما يحيط به الأفهام ويعرب عن كنهه الكلام وقرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو ( في شغل ) بالسكون و يعقوب في رواية ( فكهون ) للمبالغة هما خبران لـ { إن } ويجوز أن يكون { في شغل } صلة { فاكهون } وقرئ ( فكهون ) بالضم وهو لغة كنطس ونطس ( وفاكهين ) ( وفكهين ) على الحال من المستكهن في الظرف و { شغل } بفتحتين وفتحة وسكون والكل لغات

56 - { هم وأزواجهم في ظلال } جمع ظل كشعاب أو ظلة كقباب ويؤيده قراءة حمزة و الكسائي في ( ظلل ) { على الأرائك } على السرر المزينة { متكئون } و { هم } مبتدأ خبره { في ظلال } و { على الأرائك } جملة مستأنفة أو خبر ثان أو { متكئون } والجاران صلتان له أو تأكيد للضمير في شغل أو في فاكهون وعلى الأرائك متكئون خبر آخر لأن أزواجهم عطف على { هم } للمشاركة في الأحكام الثلاثة و { في ظلال } حال من المعطوف والمعطوف عليه

57 - { لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون } ما يدعون به لأنفسهم يفتعلون من الدعاء كاشتوى واجتمل إذا شوى وجمل لنفسه أو ما يتداعونه كقولك ارتموه بمعنى تراموه أو يتمنون من قولهم ادع علي ما شئت بمعنى تمنه علي أو ما يدعونه في الدنيا من الجنة ودرجاتها و { ما } موصولة أو موصوفة مرتفعة بالابتداء و { لهم } خبرها وقوله :

58 - { سلام } بدل منها أو صفة أخرى ويجوز أن يكون خبرها أو خبر محذوف أو مبتدأ محذوف الخبر أي ولهم سلام وقرئ بالنصب على المصدر أو الحال أي لهم مرادهم خالصا { قولا من رب رحيم } أي يقول الله أو يقال لهم قولا كائنا من جهته والمعنى أن الله يسلم عليهم بواسطة الملائكة أو بغير واسطة تعظيما لهم وذلك مطلوبهم ومتمناهم ويحتمل نصبه على الاختصاص

59 - { وامتازوا اليوم أيها المجرمون } وانفردوا عن المؤمنين وذلك حين يسار بهم إلى الجنة كقوله : { ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون } وقيل اعتزلوا من كل خير أو تفرقوا في النار فإن لكل كافر بيتا به لا يرى ولا يرى

60 - { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان } من جملة ما يقال لهم تقريعا وإلزاما للحجة وعهده إليهم ما نصب لهم ن الحجج العقلية والسمعية الآمرة بعبادته الزاجرة عن عبادة غيره وجعلها عبادة الشيطان لأنه الآمر بها والمزين لها وقرئ { أعهد } بكسر حرف المضارعة و ( أحهد ) و ( أحد ) على لغة بني تميم { إنه لكم عدو مبين } تعليل للمنع عن عبادته بالطاعة فيها يحملهم عليه

61 - { وأن اعبدوني } عطف على { أن لا تعبدوا } { هذا صراط مستقيم } إشارة إلى ما عهد إليهم أو إلى عبادته فالجملة استئناف لبين المقتضي للعهد بشقيه أو بالشق الآخر والتنكير للمبالغة والتعظيم أو للتبعيض فإن التوحيد سلوك بعض الطريق المستقيم

62 - { ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون } رجوع إلى بيان معاداة الشيطان مع ظهور عداوته ووضوح إضلاله لمن له أدنى عقل ورأي والجبل الخلق وقرأ يعقوب بضمتين و ابن كثير و حمزة و الكسائي بهما مع تخفيف اللام و ابن عمار و أبو عمرو بضمة وسكون مع التخفيف والكل لغات وقرئ { جبلا } جمع جبلة كخلقة وخلق و ( جيلا ) واحد الأجيال

63 - { هذه جهنم التي كنتم توعدون }

64 - { اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون } ذوقوا حرها اليوم بكفركم في الدنيا

65 - { اليوم نختم على أفواههم } نمنعها عن الكلام { وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون } بظهور آثار المعاصي عليها ودلالتها على أفعالها أو إنطاق الله إياها وفي الحديث [ إنهم يجحدون ويخاصمون فيختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وأرجلهم ]

66 - { ولو نشاء لطمسنا على أعينهم } لمسحنا أعينهم حتى تصير ممسوحة { فاستبقوا الصراط } فاستبقوا إلى الطريق الذي اعتادوا سلوكه وانتصابه بنزع الخافض أو بتضمين الاستباق معنى الابتدار أو جعل المسبوق إليه مسبوقا على الاتساع أو بالظرف { فأنى يبصرون } الطريق وجهة السلوك فضلا عن غيره

67 - { ولو نشاء لمسخناهم } بتغيير صورهم وإبطال قواهم { على مكانتهم } مكانهم بحيث يجمدون فيه وقرأ أبو بكر ( مكاناتهم ) { فما استطاعوا مضيا } ذهابا { ولا يرجعون } ولا رجوعا فوضع الفعل موضعه للفواصل وقيل { لا يرجعون } عن تكذيبهم وقرئ ( 0 مضيا ) باتباع الميم الضاد المكسورة لقلب الواو ياء كالمعتى والمعتي ومضيا كصبي والمعنى أنهم بكفرهم ونقضهم ما عهد إليهم أحقاء بأن يفعل بهم ذلك لكنا لم نفعل لشمول الرحمة لهم واقتضاء الحكمة إمهالهم

68 - { ومن نعمره } ومن نطل عمره { ننكسه في الخلق } نقلبه فيه فلا يزار يتزايد ضعفه وانتقاض بنيته وقواه عكس ما كان عليه بدء أمره و ابن كثير على هذه يشبع ضمة الهاء على أصله وقرأ عاصم و حمزة ( ننكسه ) من التنكيس وهو أبلغ والنكس أشهر { أفلا يعقلون } أن من قدر على ذلك قدر على الطمس والمسح فإنه مشتمل عليهما ويزاد غير أنه علىتدرج وقرأ نافع برواية ابن عامر و ابن ذكوان و يعقوب بالتاء لجري الخطاب قبله

69 - { وما علمناه الشعر } رد لقولهم إن محمدا شاعر أي ما علمناه الشعر بتعليم القرآن فإنه لا يماثله لفظا ولا معنى لأنه غير مقفى ولا موزون وليس معناه ما يتوخاه الشعراء من التخيلات المرغبة والمنفرة ونحوها { وما ينبغي له } وما يصح له الشعر ولا يتأتى له إن أراد قرضه على ما خبرتم طبعه نحوا من أربعين سنة و [ قوله عليه الصلاة و السلام ( أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ) ]
وقوله : ( هل أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت )
اتفاقي من غير تكلف وقصد منه إلى ذلك وقد يقع مثله كثيرا في تضاعيف المنثورات على أن الخليل ما عد المشكور من الرجز شعرا هذا وقد روي أنه حرك الباءين وكسر التاء الأولى بلا إشباع وسكن الثانية وقيل الضمير الـ { قرآن } أي وما صح للقرآن أن يكون شعرا { إن هو إلا ذكر } عظة وإرشاد من الله تعالى { وقرآن مبين } وكتاب سماوي يتلى في المعابد ظاهر أنه ليس من كلام البشر لما فيه من الإعجاز

70 - { لينذر } القرآن أو الرسول صلى الله عليه و سلم ويؤيده قراءة نافع و ابن عامر و يعقوب بالتاء { من كان حيا } عاقلا فهما فإن الغافل كالميت أو مؤمنا في علم الله تعالى فإن الحياة الأبدية بالإيمان وتخصيص الإنذار به لأنه المنتفع به { ويحق القول } وتجب كلمة العذاب { على الكافرين } المصرين على الكفر وجعلهم في مقابلة من كان حيا إشعارا بأنهم لكفرهم وسقوط حجتهم وعدم تأملهم أموات في الحقيقة

71 - { أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا } مما تولينا إحداثه ولم يقدر على أحداثه غيرنا وذكر الأيدي وإسناد العمل إليها استعارة تفيد مبالغة في الاختصاص والتفرد بالإحداث { أنعاما } خصها بالذكر لما فيها من بدائع الفطرة وكثرة المنافع { فهم لها مالكون } متملكون لها بتمليكنا إياها أو متمكنون من ضبطها والتصرف فيها بتسخيرنا إياها لهم قال :
( أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأي البعير إن نفرا )

72 - { وذللناها لهم } وصيرناها منقادة لهم { فمنها ركوبهم } مركوبهم وقرئ ( ركوبتهم ) وهي بمعناه كالحلوب والحلوبة وقيل جمعه وركوبهم أي ذو ركوبهم أو فمن منافعها { ركوبهم } { ومنها يأكلون } أي ما يأكلون لحمه

73 - { ولهم فيها منافع } من الجلود والأصواف والأوبار { ومشارب } من اللبن جمع مشرب بمعنى الموضع أو المصدر وأمال الشين ابن عامر وحده برواية هشام { أفلا يشكرون } نعم الله في ذلك إذ لولا خلقه لها وتذليله إياها كيف أمكن التوسل إلى تحصيل هذه المنافع المهمة

74 - { واتخذوا من دون الله آلهة } أشركوها به في العبادة بعد ما رأوا منه تلك القدرة الباهرة والنعم المتظاهرة وعلموا أنه المتفرد بها { لعلهم ينصرون } رجاء أن ينصروهم فيما حزبهم من الأمور والأمر بالعكس لأنهم

75 - { لا يستطيعون نصرهم وهم لهم } لآلهتهم { جند محضرون } معدون لحفظهم والذب عنهم أو { محضرون } أثرهم في النار

76 - { فلا يحزنك } فلا يهمنك وقرئ بضم الياء من أحزن { قولهم } في الله بالإلحاد والشرك أو فيك بالتكذيب والتهجين { إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون } فنجازيهم عليه وكفى ذلك أن تتسلى به وهو تعليل للنهي على الاستئناف ولذلك لو قرئ { أنا } بالفتح على حذف لام التعليل جاز

77 - { أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين } تسلية ثانية بتهوين ما يقولونه بالنسبة إلى إنكارهم الحشر وفيه تقبيح بليبغ لإنكاره حيث عجب منه وجعله فراطا في الخصومة بينا ومنافاة لجحود القدر على ما هو أهون مما عمله في بدء خلقه ومقابلة النعمة التي لا مزيد عليه وهي خلقه من أخس شيء وأمهنه شريفا مكرما بالعقوق والتكذيب روي [ ( أن أبي بن خلف أتى النبي صلى الله عليه و سلم بعظم بال يفتته بيده وقال : أترى الله يحيي هذا بعد ما رام فقال عليه الصلاة و السلام : نعم ويبعثك ويدخلك النار فنزلت ] وقيل معنى { فإذا هو خصيم مبين } فإذا هو بعد ما كن ماء مهينا مميز منطبق قادر على الخصام معرب عما في نفسه

78 - { وضرب لنا مثلا } أمرا عجيبا وهو نفي القدرة على إحياء الموتى أو تشبيهه بخلقه بوصفه بالعجز عما عجزوا عنه { ونسي خلقه } خلقنا إياه { قال من يحيي العظام وهي رميم } منكرا إياه مستبعدا له والرميم ما بلي من العظام ولعله فعيل بمعنى فاعل من رم الشيء صار اسما بالغلبة ولذلك لم يؤنث أو بمعنى مفعول من رممته وفيه دليل على أن العظم ذو حياة فيؤثر فيه الموت كسائر الأعضاء

79 - { قل يحييها الذي أنشأها أول مرة } فإن قدرته كما كانت لامتناع التغير فيه والمادة على حالها في القابلية اللازمة لذاتها { وهو بكل خلق عليم } يعلم تفاصيل المخلوقات بعلمه وكيفية خلقها فيعلم أجزاء الأشخاص المتفتتة المتبددة أصولها وفصولها ومواقعها وطريق تمييزها وضم بعضها إلى بعض على النمط السابق وإعادة الأعراض والقوى التي كانت فيها أو إحداث مثلها

80 - { الذي جعل لكم من الشجر الأخضر } كالمرخ والعفار { نارا } بأن يسحق المرخ على العفار وهما خضراوان يقطر منهما الماء فتنقدح النار { فإذا أنتم منه توقدون } لا تشكون فإنها نار تخرج منه ومن قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر مع ما فيه من المائية المضادة لها بكيفيتها كان أقدر على إعادة الغضاضة فيما كان غضا فيبس وبلي وقرئ من ( الشجر الخضراء ) على المعنى كقوله { فمالئون منها البطون }

81 - { أوليس الذي خلق السماوات والأرض } مع كبر جرمهما وعظم شأنهما { بقادر على أن يخلق مثلهم } في الصغر والحقارة بالإضافة إليهما أو مثلهم في أصول الذات وصفاتها وهو المعاد وعن يعقوب ( يقدر ) { بلى } جواب من الله تعالى لتقرير ما بعد النفي مشعر بأنه لا جواب سواه { وهو الخلاق العليم } كثير المخلوقات والمعلومات

82 - { إنما أمره } إنما شأنه { إذا أراد شيئا أن يقول له كن } أي تكون { فيكون } فهو يكون أي يحدث وهو تمثيل لتأثير قدرته في مراده بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور من غير امتناع وتوقف وافتقار إلى مزاولة عمل واستعمال آلة قطعا لمادة الشبهة وهو قياس قدرة الله تعلى على قدرة الخلق ونصبه ابن عامر و الكسائي عطفا على { يقول }

83 - { فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء } تنزيه عما ضربوا له وتعجيب عما قالوا فيه معللا بكونه مالكا للأمر كله قادرا على كل شيء { وإليه ترجعون } وعد ووعيد للمقرين والمنكرين وقرأ يعقوب بفتح التاء وعن ابن عباس رضي الله عنه : كنت لا أعلم ما روي في فضل يس كيف خصت به فإذا أنه بهذه الآية و [ عنه عليه الصلاة و السلام ( إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس وأيما مسلم قرأها يريد بها وجه الله غفر الله له وأعطي من الأجر كأنما قرأ القرآن اثنتين وعشرين مرة وأيما مسلم قرئ عنده إذا نزل به ملك الموت سورة يس نزل بكل حرف منها عشرة أملاك يقومون بين يديه صفوفا يصلون عليه ويستغفرون له ويشهدون غسله ويشيعون جنازته ويصلون عليه ويشهدون دفنه وأيما مسلم قرأ يس وهو في سكرات الموت لم يقبض ملك الموت روحه حتى يجيئه رضوان بشربة من الجنة فيشربها وهو على فراشه فيقبض روحه وهو ريان ويمكث في قبره وهو ريان ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء حتى يدخل الجنة وهو ريان ) ]

1 - { والصافات صفا }

2 - { فالزاجرات زجرا }

3 - { فالتاليات ذكرا } أقسم بالملائكة الصافين في مقام العبودية على مراتب باعتبارها تفيض عليهم الأنوار الإلهية منتظرين لأمر الله الزاجرين الأجرام العلوية والسفلية بالتدبير المأمور به فيها أو الناس عن المعاصي بإلهام الخير أو الشياطين عن التعرض لهم التالين آيات الله و جلايا قدسه على أنبيائه وأوليائه أو بطوائف الأجرام المرتبة كالصفوف المرصوصة والأرواح المدبرة لها والجواهر القدسية المستغرقة في بحار القدس { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } أو بنفوس العلماء وشرائعه أو بنفوس الغزاة الصافين في الجهاد الزاجرين الخيل أو العدو التالين ذكر الله لا يشغلهم عنه مباراة العدو والعطف لاختلاف الذوات أو الصفات والفاء لترتيب الوجود كقوله :
( يا لهف زيابة للحارث الصـ ... ابح فالغانم فالآيب )
فإن الصف كمال الزجر تكميل بالمنع عن الشر أو الإشاقة إلى قبول الخير والتلاوة إفاضته أو الرتبة كقوله عليه الصلاة و السلام [ رحم الله المحلقين فالمقصرين ] غير أنه لفضل المتقدم على المتأخر وهذا للعكس وأدغم أبو عمرو و حمزة التاءات فيما يليها لتقاربها فإنها من طرف اللسان وأصول الثنايا

4 - { إن إلهكم لواحد } جواب للقسم والفائدة فيه تعظيم المقسم به وتأكيد المقسم عليه على ما هو المألوف في كلامهم وأما تحقيقه فبقوله تعالى :

5 - { رب السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق } فإن وجودها وانتظامها على الوجه الأكمل مع إمكان غيره دليل على وجود الصانع الحكيم ووحدته على ما مر غير مرة { ورب } بدل من واحد أو خبر ثان أو خبر محذوف وما بينهما يتناول أفعال العباد فيدل على أنها من خلقه و { المشارق } مشارق الكواكب أو مشارق الشمس في السنة وهي ثلاثمائة وستون مشرقا تشرق كل يوم في واحد وبحسبها تختلف المغارب ولذلك اكتفى بذكرها مع أن الشروق أدل على القدرة وأبلغ في النعمة وما قيل إنها مائة وثمانون إنما يصح لو ما تختلف أوقات الانتقال

6 - { إنا زينا السماء الدنيا } القربى منكم { بزينة الكواكب } بزينة هي { الكواكب } والإضافة للبيان ويعضده قراءة حمزة و يعقوب و حفص بتنوين زينة وجر { الكواكب } على إبدالها منه أو بزينة هي لها كأضوائها وأوضاعها أو بأن زينا { الكواكب } فيها على إضافة المصدر إلى المفعول فإنها كما جاءت اسما كالليقة جاءت مصدرا كالنسبة ويؤيده قراءة أبي بكر بالتنوين والنصب على الأصل أو بأن زينتها { الكواكب } على إضافته إلى الفاعل و ركوز الثوابت في الكرة الثامنة وما عدا القمر من السيارات في الست المتوسطة بينها وبين السماء الدنيا إن تحقق لم يقدح في ذلك فإن أهل الأرض يرونها بأسرها كجواهر مشرقة متلألئة على سطحها الأزرق بأشكال مختلفة

7 - { وحفظا } منصوب بإضمار فعله أو العطف على زينة باعتبار المعنى كأنه قال إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء الدنيا وحفظا { من كل شيطان مارد } خارج من الطاعة برمي الشهب

8 - { لا يسمعون إلى الملإ الأعلى } كلام مبتدأ لبيان حالهم بعدما حفظ السماء عنهم ولا يجوز جعله صفة لكل شيطان فإنه يقتضي أن يكون الحفظ من شياطين لا يسمعون ولا علة للحفظ على حذف اللام كما في جئتك أن تكرمني ثم حذف أن و اهدارها كقوله :
( ألا أيهذا الزاجري احضر الوغى ) فإن اجتماع ذلك منكر والضمير لـ { كل } باعتبار المعنى وتعدية السماع بإلى لتضمنه معنى الإصغاء مبالغة لنفيه وتهويلا لما يمنعهم عنه ويدل عليه قراءة حمزة و الكسائي و حفص بالتشديد من التسمع وهو طلب السماع و { الملإ الأعلى } الملائكة وأشرافهم ز { ويقذفون } ويرمون { من كل جانب } من جوانب السماء إذا قصدوا صعوده

9 - { دحورا } علة أي للدحور وهو الطرد أو مصدر لأنه والقذف متقاربان أو حال بمعنى مدحورين أو منزوع عنه الباء جمع دحر وهو ما يطرد به ويقويه القراءة بالفتح وهو يحتمل أيضا أن يكون مصدرا كالقبول أو صفة له أي قذفا دحورا { ولهم عذاب } أي عذاب آخر { واصب } دائم أو شديد وهو عذاب الآخرة

10 - { إلا من خطف الخطفة } استثناء من واو { يسمعون } ومن بدل منه والخطف الاختلاس والمراد اختلاس كلام الملائكة مسارقة ولذلك عرف الخطفة وقرئ خطف بالتشديد مفتوح الخاء ومكسورها وأصلهما اختطف { فأتبعه شهاب } أتبع بمعنى تبع والشهاب ما يرى كأن كوكبا انقض وما قيل إنه بخار يصعد إلى الأثير فيشتغل فتخمين إن صح لم يناف ذلك إذ ليس فيه ما يدل على أنه ينقض من الفلك ولا في قوله { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين } فإن كل نير يحصل في الجو العالي فهو مصباح لأهل الأرض وزينة للسماء من حيث إنه يرى كأنه على سطحه ولا يبعد أن يصير الحادث كما ذكر في بعض الأوقات رجما لشياطين تتصعد إلى قرب الفلك للتسمع وما روي أن ذلك حدث بميلاد النبي عليه الصلاة و السلام إن صح فلعل المراد كثرة وقوعه أو مصيره { دحورا } واختلف في أن المرجوم يتأذى به فيرجع أو يحترق به لكن قد يصيب الصاعد مرة وقد لا يصيب كالموج لراكب السفينة ولذلك لا يرتدعون عنه رأسا ولا يقال إن الشيطان من النار فلا يحترق لأنه ليس من النار الصرف كما أن الإنسان ليس من التراب الخالص من أن النار القوية إذ استولت على الضعيفة استهلكتها { ثاقب } مضيء كأنه يثقب الجو بضوئه

11 - { فاستفتهم } فاستخبرهم والضمير لمشركي مكة أو لبنيي آدم { أهم أشد خلقا أم من خلقنا } يعني ما ذكر من الملائكة والسماء والأرض وما بينهما والمشارق والكواكب والشهب الثواقب و { من } لتغليب العقلاء ويدل عليه إطلاقه ومجيئه بعد ذلك وقراءة من قرأ أم من عددنا وقوله ك { إنا خلقناهم من طين لازب } فإنه الفارق بينهم وبينها لا بينهم وبين من قبلهم كعاد وثمود وإن المراد إثبات المعاد ورد استحالته والأمر فيه بالإضافة إليهم وإلى من قبلهم سواء وتقريره أن استحالة ذلك إما لعدم قابلية المادة ومادتهم الأصلية هي الطين اللازب الحاصل من ضم الجزء المائي إلى الجزء الأرضي وهما باقيان قابلان للانضمام بعد وقد علموا أن الإنسان الأول إنما تولد منه إما لاعترافهم بحدوث العالم أو بقصة آدم وشاهدوا تولد كثير من الحيوانات منه بلا توسط مواقعة فلزمهم أن يجوزوا إعادتهم كذلك وإما لعدم قدرة الفاعل ومن قدر على خلق هذه الأشياء قدر على ما لا يعتد به بالإضافة إليها سيما ومن ذلك بدؤهم أولا وقدرته ذاتية لا تتغير

12 - { بل عجبت } من قدرة الله تعالى وإنكارهم للبعث { ويسخرون } من تعجبك وتقريرك للبعث وقرأ حمزة و الكسائي بضم التاء أي بلغ كمال قدرتي وكثرة خلائقي أن تعجبت منها وهؤلاء لجهلهم يسخرون منها أو عجبت من أن ينكر البعث ممن هذه أفعاله وهم يسخرون ممن يجوزه والعجب من الله تعالى إما على الفرض والتخييل أو على معنى الاستعظام اللازم فإنه تعتري الإنسان عند استعظامه الشيء وقيل إنه مقدر بالقول أي : قال يا محمد بل عجبت

13 - { وإذا ذكروا لا يذكرون } وإذا وعظوا بشيء لا يتعظمون به أو إذا ذكر لهم ما يدل على صحة الحشر لا ينتفعون به لبلادتهم وقلة فكرهم

14 - { وإذا رأوا آية } معجزة تدل على صدق القائل به { يستسخرون } يبالغون في السخرية ويقولون إنه سحر أو يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها

15 - { وقالوا إن هذا } يعنون ما يرونه { إلا سحر مبين } ظاهر سحريته

16 - { أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون } أصله أنبعث إذا متنا فبدلوا الفعلية بالاسمية وقدموا الظرف وكرروا الهمزة مبالغة في الإنكار وإشعارا بأن البعث مستنكر في نفسه وفي هذه الحالة أشد استنكارا فهو أبلغ من قراءة ابن عامر بطرح الهمزة الأولى وقراءة نافع و الكسائي و يعقوب بطرح الثانية

17 - { أو آباؤنا الأولون } عطف على محل { إن } واسمها أو على الضمير في مبعوثون فإنه مفصول منه بهمزة الاستفهام لزيادة الاستبعاد لبعد زمانهم وسكن نافع برواية قالون بن عامر والواو على معنى الترديد

18 - { قل نعم وأنتم داخرون } صاغرون وإنما اكتفى به في الجواب لسبق ما يدل على جوازه وقيام المعجزة على صدق المخبر عن وقوعه وقرئ قال أي الله أو الرسول وقرأ الكسائي وحده نعم بالكسر وهو لغة فيه

19 - { فإنما هي زجرة واحدة } جواب شرط مقدر أي إذا كان ذلك فإنما البعثة { زجرة } أي صيحة واحدة وهي النفخة الثانية من زجر الراعي غنمه إذا صاح عليها وأمرها في الإعادة كأمر { كن } في الإبداء ولذلك رتب عليها { فإذا هم ينظرون } فإذا هم قيام من مراقدهم أحياء يبصرون أو ينظرون ما يفعل بهم

20 - { وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين } اليوم الذي نجازى بأعمالنا وقد تم به كلامهم وقوله :

21 - { هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون } جواب الملائكة وقيل هو أيضا من كلام بعضهم لبعض والفصل القضاء أو الفرق بين المحسن والمسيء

22 - { احشروا الذين ظلموا } أمر الله للملائكة أو أمر لبعض بحشر الظلمة من مقامهم إلى الموقف وقيل منه إلى الجحيم { وأزواجهم } وأشباههم عابد الصنم مع عبدة الصنم وعابد الكوكب مع عبدته كقوله تعالى : { وكنتم أزواجا ثلاثة } أو نساءهم اللاتي على دينهم أو قرناءهم من الشياطين { وما كانوا يعبدون }

23 - { من دون الله } من الأصنام وغيرهم زيادة في تحسيرهم وتخجيلهم وهو عام مخصوص بقوله تعالى : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } وفيه دليل على أن { الذين ظلموا } هم المشركون { فاهدوهم إلى صراط الجحيم } فعرفوهم طريقا ليسلكوها

24 - { وقفوهم } احبسوهم في الموقف { إنهم مسؤولون } عن عقائدهم وأعمالهم والواو لا توجب الترتيب مع جواز أن يكون موقفهم متعددا

25 - { ما لكم لا تناصرون } لا ينصر بعضكم بعضا بالتخليص وهو توبيخ وتقريع

26 - { بل هم اليوم مستسلمون } منقادون لعجزهم وانسداد الحيل عليهم وأصل الاستسلام طلب السلامة أو متسالمون كأنه يسلم بعضهم بعضا ويخذله

27 - { وأقبل بعضهم على بعض } يعني الرؤوساء والأتباع أو الكفرة والقرناء { يتساءلون } يسأل بعضهم بعضا للتوبيخ ولذلك فسربـ { يختصمون }

28 - { قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين } عن أقوى الوجوه وأيمنها أو عن الدين أو عن الخير كأنكم تنفعوننا نفع السانح فتبعناكم وهلكنا مستعار من يمين الإنسان الذي هو أقوى الجانبين وأشرفهما وأنفعهما ولذلك سمي يمينا وتيمن بالسانح أو عن القوة والقهر فتقسروننا على الضلال أو على الحلف فإنهم كانوا يحلفون لهم إنهم على الحق

29 - { قالوا بل لم تكونوا مؤمنين }

30 - { وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين } أجابهم الرؤساء أولا بمنع إضلالهم بأنهم كانوا ضالين في أنفسهم وثانيا بأنهم ما أجبروهم على الكفر إذ لم يكن لهم عليهم تسلط وإنما جنحوا إليه لأنهم كانوا قوما مختارين الطغيان

31 - { فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون }

32 - { فأغويناكم إنا كنا غاوين } ثم بينوا أن ضلال الفريقين ووقوعهم في العذاب كان أمرا مقضيا لا محيص لهم عنه وإن غاية ما فعلوا بهم أهم دعوهم إلى الغي لأنهم كانوا على الغي فأحبوا أن تكون مثلهم وفيه إيماء بأن غوايتهم في الحقيقة ليست من قبلهم إذ لو كان كل غواية لإغواء غاو فمن أغواهم

33 - { فإنهم } فإن الأتباع والمتبوعين { يومئذ في العذاب مشتركون } كما كانوا مشتركون في الغواية

34 - { إنا كذلك } مثل ذلك الفعل { نفعل بالمجرمين } بالمشركين لقوله تعالى :

35 - { إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون } أي عن كلمة التوحيد أو على من يدعوهم إليه

36 - { ويقولون أإنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون } يعنون محمدا عليه الصلاة و السلام

37 - { بل جاء بالحق وصدق المرسلين } رد عليهم بأن ما جاء به من التوحيد حق قام به البرهان وتطابق عليه المرسلون

38 - { إنكم لذائقوا العذاب الأليم } بالإشراك وتكذيب الرسل وقرئ بنصب العذاب على تقرير النون كقوله :
( ولا ذاكر الله إلا قليلا )
وهو ضعيف في غير المحلى باللام وعلى الأصل

39 - { وما تجزون إلا ما كنتم تعملون } إلا مثل ما علمتم

40 - { إلا عباد الله المخلصين } استثناء منقطع إلا أن يكون الضمير في { تجزون } لجميع المكلفين فيكون استثناؤهم عنه باعتبار المماثلة فإن ثوابهم مضاعف والمنقطع أيضا بهذا الاعتبار

41 - { أولئك لهم رزق معلوم } خصائصه من الدوام أو تمحض اللذة ولذلك فسره بقوله :

42 - { فواكه } فإن الفاكهة ما يقصد للتلذذ دون التغذي والقوت بالعكس وأهل الجنة لما أعيدوا على خلقة محكمة محفوظة عن التحلل كانت أرزاقهم فواكه خالصة { وهم مكرمون } في نيله يصل إليهم من غير تعب وسؤال كما عليه رزق الدنيا

43 - { في جنات النعيم } في جنات ليس فيها إلا النعيم وهو ظرف أو حال من المستكن في { مكرمون } أو خبر ثان { أولئك } وكذلك :

44 - { على سرر } يحتمل الحال أو الخبر فيكون : { متقابلين } حالا من المستكن فيه أو في { مكرمون } وأن يتعلق بـ { متقابلين } فيكون حالا من ضمير { مكرمون }

45 - { يطاف عليهم بكأس } بإناء فيه خمر أو خمر كقوله :
( وكأس شربت على لذة )
{ من معين } من شراب معين أو نهو معين أي ظاهر للعيون أو خارج من العيون وهو صفة للماء من عان الماء إذا نبع وصف به خمر الجنة لأنها تجري كالماء أو للإشعار بأن ما يكون لهم بمنزلة الشراب جامع لما يطلب من أنواع الأشربة لكمال اللذة وكذلك قوله :

46 - { بيضاء لذة للشاربين } وهما أيضا صفتان لكأس ووصفها بـ { لذة } إما للمبالغة أو لأنها تأنيث لذ بمعنى لذيذ كطب ووزنه فعل قال :
( ولذ كطعم الصرخدي تركته ... بأرض العدا من خشية الحدثان )

47 - { لا فيها غول } غائلة كما في خمر الدنيا كالخمار من غاله يغوله إذا أفسده ومنه الغول { ولا هم عنها ينزفون } يسكرون من نزف الشارب فهو نزيف ومنزوف إذا ذهب عقله أفرده بالنفي وعطفه على ما يعمه لأنه من عظم فساده كأنه جنس برأسه وقرأ حمزة و الكسائي بكسر الزاي وتابعهما عاصم في الواقعة من أنزف الشارب إذا نفد عقله أو شرابه وأصله للنفاد يقال نزف المطعون إذا خرج دمه ونزحت الركية حتى نزفتها

48 - { وعندهم قاصرات الطرف } قصرن أبصارهن على أزواجهن { عين } نجل العيون جمع عيناء

49 - { كأنهن بيض مكنون } شبههن ببيض النعام المصون على الغبار ونحوه في الصفاء والبياض المخلوط بأدنى صفوة فإنه ألوان الأبدان

50 - { فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } معطوف على { يطاف عليهم } أي يشربون فيتحادثون على الشراب قال :
( وما بقيت من اللذات إلا ... أحاديث الكرام على المدام )
والتعبير عنه بالماضي للتأكيد فيه فإنه ألذ تلك اللذات إلى العقل وتساؤلهم عن المعارف والفضائل وما جرى لهم وعليهم في الدنيا

51 - { قال قائل منهم } في مكالمتهم { إني كان لي قرين } جليس في الدنيا

52 - { يقول أإنك لمن المصدقين } يوبخني على التصديق بالبعث وقرئ بتشديد الصاد من التصدق

53 - { أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمدينون } لمجزيون من الدين بمعنى الجزاء

54 - { قال } أي ذلك القائل { هل أنتم مطلعون } إلى أهل النار لأريكم ذلك القرين وقيل القائل هو الله سبحانه وتعالى أو بعض الملائكة يقول لهم : هل تحبون أن تطلعوا على أهل النار لأريكم ذلك القرين فتعلموا أين منزلتكم من منزلتهم ؟ وعن أبي عمرو مطلعون فاطلع بالتخفيف وكسر النون وضم الألف على أنه جعل اطلاعهم سبب اطلاعه من حيث إن أدب المجالسة يمنع الاستبداد به أو خاطب الملائكة على وضع المتصل موضع المنفصل كقوله :
( هم الآمرون الخير والفاعلونه )
أو شبه اسم الفاعل بالمضارع

55 - { فاطلع } عليهم { فرآه } أي قرينه { في سواء الجحيم } في وسطه

56 - { قال تالله إن كدت لتردين } لتهلكني بالإغواء وقرئ لتغوين و { إن } هي المخففة واللام هي الفارقة

57 - { ولولا نعمة ربي } بالهداية والعصمة { لكنت من المحضرين } معك فيها

58 - { أفما نحن بميتين } عطف على محذوف أي أنحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين أي بمن شأنه الموت وقرئ بمائتين

59 - { إلا موتتنا الأولى } التي كانت في الدنيا وهي متناولة لما في القبر بعد الإحياء للسؤال ونصبها على المصدر من اسم الفاعل وقيل على الاستثناء المنقطع { وما نحن بمعذبين } كالكفار وذلك تمام كلامه لقرينه تقريعا له أو معاودة إلى مكالمة جلسائه تحدثا بنعمة الله أو تبجحا بها وتعجبا منها وتعريضا للقرين بالتوبيخ

60 - { إن هذا لهو الفوز العظيم } يحتمل أن يكون من كلامهم وأن يكون كلام الله سبحانه وتعالى لتقرير قوله والإشارة إلى ما هم عليه من النعمة والخلود والأمن من العذاب

61 - { لمثل هذا فليعمل العاملون } أي لنيل مثل هذا يجب أن يعمل العاملون لا للحظوظ الدنيوية المشوبة بالآلام السريعة الانصرام وهو أيضا يحتمل الأمرين

62 - { أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم } شجرة ثمرها نزل أهل النار وانتصاب { نزلا } على التمييز أو الحال وفي ذكره دلالة على أن ما ذكر من النعيم لأهل الجنة بمنزلة ما يقال للنازل ولهم وراء ذلك ما تقصر عنه الأفهام وكذلك الزقوم لأهل النار وهو : اسم شجرة صغيرة الورق ذفر مرة تكون بتهامة سميت به الشجرة الموصوفة

63 - { إنا جعلناها فتنة للظالمين } محنة وعذابا لهم في الآخرة أو ابتلاء في الدنيا فإنهم لما سمعوا أنها في النار قالوا كيف ذلك والنار تحرق الشجر ولم يعلموا أن من قدر على خلق حيوان يعيش في النار ويلتذ بها فهو على خلق الشجرة في النار حفظه من الإحراق

64 - { إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم } منبتها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها

65 - { طلعها } حملها مستعار من طلع التمر لمشاركته إياه في الشكل أو الطلوع من الشجر { كأنه رؤوس الشياطين } في تناهي القبح والهول وهو تشبيه بالمتخيل كتشبيه الفائق الحسن بالملك وقيل { الشياطين } حيات هائلة قبيحة المنظر لها أعراف ولعلها سميت بها لذلك

66 - { فإنهم لآكلون منها } من الشجرة أو من طلعها { فمالئون منها البطون } لغلبة الجوع أو الجبر على أكلها

67 - { ثم إن لهم عليها } أي بعد ما شبعوا منها وغلبهم العطش وطال استسقاؤهم ويجوز أن يكون ثم لما في شربهم من مزيد الكراهة والبشاعة { لشوبا من حميم } لشرابا من غساق أو صديد مشويا بماء حميم يقطع أمعاءهم وقرئ بالضم وهو اسم ما يشاب به والأول مصدر سمي به

68 - { ثم إن مرجعهم } مصيرهم { لإلى الجحيم } إلى دركاتها أو إلى نفسها فإن الزقوم والحميم نزل يقدم إليهم قبل دخولهم وقيل الحميم خارج عنها لقوله تعالى : { هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون * يطوفون بينها وبين حميم آن } يوردون إليه كما تورد الإبل إلى الماء ثم يردون إلى الجحيم ويؤيده أنه قرئ ثم إن منقلبهم

69 - { إنهم ألفوا آباءهم ضالين }

70 - { فهم على آثارهم يهرعون } تعليل لاستحقاقهم تلك الشدائد بتقليد الآباء في الضلال والإهراع : الإسراع الشديد كأنهم يزعجون على الإسراع على { آثارهم } وفيه إشعار بأنهم بادروا إلى ذلك من غير توقف على نظر وبحث

71 - { ولقد ضل قبلهم } قبل قومك { أكثر الأولين }

72 - { ولقد أرسلنا فيهم منذرين } أنبياء أنذرهم من العواقب

73 - { فانظر كيف كان عاقبة المنذرين } من الشدة والفظاعة

74 - { إلا عباد الله المخلصين } إلا الذين تنبهوا بإنذارهم فأخلصوا دينهم لله وقرئ بالفتح أي الذين أخلصهم الله لدينه والخطاب مع الرسول صلى الله عليه و سلم والمقصود خطاب قومه فإنهم أيضا سمعوا أخبارهم ورأوا آثارهم

75 - { ولقد نادانا نوح } شروع في تفصيل القصص بعد إجمالها أي ولقد دعانا حين أيس من قومه { فلنعم المجيبون } أي فأجبناه أحسن الإجابة فوالله لنعم المجيبون نحن فحذف منها ما حذف لقيام ما يدل عليه

76 - { ونجيناه وأهله من الكرب العظيم } من الغرق أو أذى قومه

77 - { وجعلنا ذريته هم الباقين } إذ هلك من عداهم وبقوا متناسلين إلى يوم القيامة إذ روي أنه مات كل من كان معه في السفينة غير بنيه وأزواجهم

78 - { وتركنا عليه في الآخرين } من الأمم

79 - { سلام على نوح } هذا الكلام جيء به على الحكاية والمعنى يسلمون عليه تسليما وقيل هو سلام من الله عليه ومفعول { تركنا } محذوف مثل الثناء { في العالمين } متعلق بالجار والمجرور ومعناه الدعاء بثبوت هذه التحية في الملائكة والثقلين جميعا

80 - { إنا كذلك نجزي المحسنين } تعليل لما فعل بنوح من التكرمة بأنه مجازاة له على إحسانه

81 - { إنه من عبادنا المؤمنين } تعليل لإحسانه بالإيمان إظهارا لجلاله قدره وأصالة أمره

82 - { ثم أغرقنا الآخرين } يعني كفار قومه

83 - { وإن من شيعته } ممن شايعه في الإيمان وأصول الشريعة { لإبراهيم } ولا يبعد اتفاق شرعهما في الفروع أو غالبا وكان بينهما ألفان وستمائة وأربعون سنة وكان بينهما نبيان هود وصالح عليهما الصلاة والسلام

84 - { إذ جاء ربه } متعلق بما في الشريعة من معنى المشايعة أو بمحذوف هو اذكر { بقلب سليم } من آفات القلوب أو من العلائق خالص لله أو مخلص له قيل حزين من السليم بمعنى اللديغ ومعنى المجيء به ربه : إخلاصه له كأنه جاء به متحفا إياه

85 - { إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون } بدل من الأولى أو ظرف لـ { جاء } أو { سليم }

86 - { أئفكا آلهة دون الله تريدون } أي تريدون آلهة دون الله إفكا مقدم المفعول للعناية ثم المفعول له لأن الأهم أن يقرر أنهم على الباطل ومبنى أمرهم على الافك ويجوز أن يكون { إفكا } مفعولا به و { آلهة } بدل منه على أنها إفك في نفسها للمبالغة أو المراد بها عبادتها بحذف المضاف أو حالا بمعنى إفكين

87 - { فما ظنكم برب العالمين } بمن هو حقيق بالعبادة لكونه ربا للعالمين حتى تركتم عبادته أو أشركتم به غيره أو أمنتم عن عذابه والمعنى إنكار ما يوجب ظنا فضلا عن قطع يصد عن عبادته أو يجوز الإشراك به أو يقتضي الأمن من عقابه على طريقة الإلزام وهو كالحجة على ما قبله

88 - { فنظر نظرة في النجوم } فرأى مواقعها واتصالاتها أو في علمها أو في كتابها ولا منع منه مع أن قصده إيهامهم وذلك حين سألوا أن يعبد معهم

89 - { فقال إني سقيم } أراهم أنه استدل بها لأنهم كانوا منجمين على أنه مشارف للسقم لئلا يخرجوه إلى معبدهم فإنه كان أغلب أسقامهم الطاعون وكانوا يخافون العدوى أو أراد إني سقيم القلب لكفركم أو خارج المزاج عن الاعتدال خروجا قل من يخلو منه أو يصدد الموت ومنه المثل : كفى بالسلامة داء وقول لبيد :
( فدعوت ربي بالسلامة جاهدا ... ليصحبني فإذا السلامة داء )

90 - { فتولوا عنه مدبرين } هاربين مخافة العدوى

91 - { فراغ إلى آلهتهم } فذهب إليها في خفية من روغة الثعلب وأصله الميل بحيلة { فقال } أي للأصنام استهزاء { ألا تأكلون } يعني الطعام الذي كان عندهم

92 - { ما لكم لا تنطقون } بجوابي

93 - { فراغ عليهم } فمال عليهم مستخفيا والتعدية بعلى للاستعلاء وإن الميل لمكروه { ضربا باليمين } مصدر لراغ عليهم لأنه في معنى ضربهم أو لمضمر تقديره فراغ عليهم بضربهم وتقييده باليمين للدلالة على قوته فإن الآلة تستدعي قوة الفعل وقيل { باليمين } بسبب الحلف وهو قوله : { تالله لأكيدن أصنامكم }

94 - { فأقبلوا إليه } إلى إبراهيم عليه الصلاة و السلام بعدما رجعوا فرأوا أصنامهم مكسرة وبحثوا عن كاسرها فظنوا أنه هو كما شرحه في قوله : { من فعل هذا بآلهتنا } { يزفون }
يسرعون من زفيف النعام وقرأ حمزة على بناء المفعول من أزفه أي يحملون على الزفيف وقرئ { يزفون } أي يزف بعضهم بعضا و يزفون من وزف يزف إذا أسرع و يزفون من زفاه إذا حداه كأن بعضهم يزفو بعضا لتسارعهم إليه

95 - { قال أتعبدون ما تنحتون } ما تنحتونه من الأصنام

96 - { والله خلقكم وما تعملون } أي وما تعملونه فإن جوهرها بخلقه وشكلها وإن كان بفعلهم ولذلك جعل من أعمالهم فبإقداره إياهم عليه وخلقه ما يتوقف عليه فعلهم من الدواعي والعدد أو عملكم بمعنى معمولكم ليطابق ما تنحتون أو إنه بمعنى الحدث فإن فعلهم إذا كان بخلق الله تعالى فيهم كان مفعولهم المتوقف على فعلهم أولى بذلك وبهذا المعنى تمسك أصحابنا على خلق الأعمال ولهم أن يرجحوه على الأولين لما فيها من حذف أو مجاز

97 - { قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم } في النار الشديدة من الجحمة وهي شدة التأرجح واللام بدل الإضافة أي جحيم ذلك البنيان

98 - { فأرادوا به كيدا } فإنه لما قهرهم بالحجة قصدوا تعذيبه بذلك لئلا يظهر للعامة عجزهم { فجعلناهم الأسفلين } الأذلين بإبطال كيدهم وجعله برهانا نيرا على علو شأنه حيث جعل النار عليه بردا وسلاما

99 - { وقال إني ذاهب إلى ربي } إلى حيث أمرني ربي وهو الشام أو حيث أتجرد فيه لعبادته { سيهدين } إلى ما فيه صلاح ديني أو إلى مقصدي وإنما بت القول لسبق وعده أو لفرط توكله أو البناء على عادته معه ولم يكن كذلك حال موسى عليه الصلاة و السلام حين { قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل } فلذلك ذكر بصيغة التوقع

100 - { رب هب لي من الصالحين } بعض الصالحين يعينني على الدعوة والطاعة ويؤنسني في الغربة يعني الولد لأن لفظ الهبة غالبة فيه ولقوله :

101 - { فبشرناه بغلام حليم } بشره بالولد وبأنه ذكر يبلغ أوان الحلم فإن الصبي لا يوصف بالحلم ويكون حليما وأي حلم مثل حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح وهو مراهق فقال { ستجدني إن شاء الله من الصابرين } وقيل ما نعت الله نبيا بالحلم لعزة وجوده غير إبراهيم وابنه عليهما الصلاة والسلام وحالهما المذكورة بعد تشهد عليه

102 - { فلما بلغ معه السعي } أي جد وبلغ أن يسعى معه في أعماله و { معه } متعلق بمحذوف دل عليه { السعي } لا به لأن صلة المصدر لا تتقدمه ولا يبلغ فإن بلوغهما لم يكن معا كأنه لما قال { فلما بلغ معه السعي } فقيل مع من فقيل { معه } وتخصيصه لأن الأب أكمل في الرفق والاستصلاح له فلا يستسعيه قبل أوانه أو لأنه استوهبه لذلك وكان له يومئذ ثلاث عشرة سنة { قال يا بني } وقرأ حفص بفتح الياء { إني أرى في المنام أني أذبحك } يحتمل أنه رأى ذلك وأنه رأى ما هو تعبيره وقيل إنه رأى ليلة التروية أن قائلا يقول له : إن الله يأمرك بذبح ابنك فلما أصبح روي أنه من الله أو من الشيطان فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من الله ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره وقال له ذلك ولهذا سميت الأيام الثلاثة الأولى بالتروية وعرفة والنحر والأظهر أن المخاطب إسماعيل عليه السلام لأنه الذي وهب له أثره الهجرة ولأن البشارة بإسحاق بعد معطوفة على البشارة بهذا الغلام ولقوله عليه الصلاة و السلام أنا ابن الذبيحين فأحدهما جده إسماعيل والآخر أبوه عبدالله فإن جده عبد المطلب نذر أن يذبح ولدا إن سهل الله له حفر زمزم أو بلغ بنوه عشرة فلما سهل أقرع فخرج السهم على عبد الله ففداه بمائة من الإبل ولذلك سنت الدية مائة ولأن ذلك كان بمكة وكان قرنا الكبش معلقين بالكعبة حتى احترقا معها في أيام ابن الزبير ولم يكن إسحاق ثمة ولأن البشارة كانت مقرونة بولادة يعقوب منه فلا يناسبها الأمر بذبحه مراهقا وما روي أنه عليه الصلاة و السلام سئل أي النسب أشرف فقال : يوسف صديق الله بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن خليل الله فالصحيح أنه قال : فقال : يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم والزوائد من الراوي وما روي أن يعقوب كتب إلى يوسف مثل ذلك لم يثبت وقرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو بفتح الياء فيهما { فانظر ماذا ترى } من الرأي وإنما شاوره فيه وهو حتم ليعلم ما عنده فيما نزل من بلاء الله فيثبت قدمه إن جزع ويأمن عليه إن سلم وليوطن نفسه عليه فيهون ويكتسب المثوبة بالانقياد له قبل نزوله وقرأ حمزة و الكسائي ماذا ترى بضم التاء وكسر الراء خالصة والباقون بفتحها و أبو عمرو يميل فتحة الراء وورش بين بين والباقون بإخلاص فتحها { قال يا أبت } وقرأ ابن عامر بفتح التاء { افعل ما تؤمر } أي ما تؤمر به فحذفا دفعة أو على الترتيب كما عرفت أو أمرك على إرادة المأمور به والإضافة إلى المأمور أو لعله فهم من كلامه أنه رأى أنه يذبحه مأمورا به أو علم أن رؤيا الأنبياء حق وأن مثل ذلك لا يقدمون عليه إلا بأمر ولعل الأمر في المنام دون اليقظة لتكون مبادرتها إلى الامتثال أدل على كمال الانقياد والإخلاص وإنما ذكر بلفظ المضارع لتكرر الرؤيا { ستجدني إن شاء الله من الصابرين } على الذبح أو على قضاء الله وقرأ نافع بفتح الياء

=

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ماذا يأمرنا به الله تعالي في سورة الانسان؟

لأوامر العملية في القرآن من سورة الإنسان إلى سورة الغاشية   الأوامر العملية في سورة الإنسان ﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْ...