روابط مصاحف م الكاب الاسلامي

روابط مصاحف م الكاب الاسلامي
 

Translate

الأربعاء، 1 يونيو 2022

مجلد 1.و 2. تفسير البيضاوي البيضاوي

 

مجلد 1. تفسير البيضاوي
المؤلف : البيضاوي

خطبة الكتاب
الحمد لله الذي نزل على عبده ليكون للعالمين نذيرا فتحدى بأقصر سورة من سورة مصاقع الخطباء من العرب العرباء فلم يجد به قديرا وأفحم من تصدى لمعارضته من فصحاء عدنان وبلغاء قحطان حتى حسبوا أنهم سحروا تسحيرا ثم بين للناس ما نزل إليهم حسبما عن لهم من مصالحهم ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب تذكيرا فكشف لهم قناع الانغلاق عن آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات هي رموز الخطاب تأويلا وتفسيرا وأبرز غوامض الحقائق و لطائف الدقائق ليتجلى لهم خفايا الملك والملكوت وخبايا قدس الجبروت ليتفكروا فيها تفكيرا ومهد لهم قواعد الأحكام وأوضاعها من نصوص الآيات وألماعها ليذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرا فمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيدا فهو في الدارين حميد وسعيد ومن لم يرفع إليه رأسه وأطفأ نبراسه يعش ذميما ويصلى سعيرا فيا واجب الوجود ويا فائض الجود ويا غاية كل مقصود صلى عليه صلاة توازي غناءه وتجازي عناءه وعلى من أعانه وقرر تبيانه تقريرا وأفض علينا من بركاتهم واصلك كراماتهم وسلم عليهم وعلينا تسليما كثيرا ( وبعد ) فإن أعظم العلوم مقدارا وأرفعها شرفا و منارا علم التفسير الذي هو رئيس العلوم الدينية ورأسها ومبنى قواعد الشرع وأساسها لا يليق لتعاطيه و التصدي للتكلم فيه إلا من برع في العلوم الدينية كلها وأصولها وفروعها وفاق في الصناعات العربية والفنون الأدبية بأنواعها ولطالما أحدث نفسي بأن أصنف في هذا الفن كتابا يحتوي على صفوة ما بلغني من عظماء الصحابة وعلماء التابعين ومن دونهم من السلف الصالحين وينطوي على نكت بارعة ولطائف رائعة استنبطتها أنا ومن قبلي من أفاضل المتأخرين وأماثل المحققين ويعرب عن و جوه القراءات المشهورة المعزوة إلى الأئمة الثمانية المشهورين والشواذ المروية عن القراء المعتبرين إلا أن قصور بضاعتي يثبطني عن الإقدام ويمنعني عن الانتصاب في هذا المقام حتى سنح لي بعد الاستخارة ما صمم به عزمي على الشروع فيما أردته والإتيان بما قصدته ناويا أن أسميه بعد أن أتممه بأنوار التنزيل وأسرار التأويل فها أنا الآن أشرع وبحسن توفيقه أقول وهو الموفق لكل خير ومعطي كل مسؤول

وتسمى أم القرآن لأنها مفتتحه و مبدؤه فكأنها أصله ومنشؤه ولذلك تسمى أساسا أو لأنها تشتمل على ما فيه من الثناء على الله سبحانه وتعالى التعبد بأمره ونهيه وبيان وعده ووعيده أو على جملة معانيه من الحكم النظرية والأحكام العملية التي هي سلوك الطريق المستقيم والاطلاع على مراتب السعداء ومنازل الأشقياء وسورة الكنز و الوافية والكافية لذلك وسورة الحمد والشكر والدعاء وتعليم المسألة لاشتمالها عليها والصلاة لوجوب قراءتها أو استحبابها فيها والشافية الشفاء لقوله عليه الصلاة السلام : [ هي شفاء من كل داء ] [ والسبع المثاني ] أنها سبع آيات بالاتفاق إلا أن منهم من عد التسمية دون { أنعمت عليهم } ومنهم من عكس و تثنى في الصلاة أو الإنزال إن صح أنها نزلت بمكة حين فرضت الصلاة وبالمدينة حين حولت القبلة وقد صح أنها مكية لقوله تعالى : { ولقد آتيناك سبعا من المثاني } وهو مكي بالنص
1 - { بسم الله الرحمن الرحيم } من الفاتحة و من كل سورة وعليه قراء مكة والكوفة وفقهاؤهما وابن المبارك رحمه الله تعالى و الشافعي وخالفهم قراء المدينة والبصرة الشام وفقهاؤها و مالك و الأوزاعي ولم ينص أبو حنيفة رحمه الله فيه بشيء فظن أنها ليست من السورة عنده وسئل محمد بن الحسن عنها فقال : ما بين الدفتين كلام الله تعالى ولنا أحاديث كثيرة : منها ما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة و السلام قال : [ فاتحة الكتاب سبع آيات أولاهن { بسم الله الرحمن الرحيم } ] وقول أم سلمة رضي الله عنها [ قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم الفاتحة وعد { بسم الله الرحمن الرحيم } { الحمد لله رب العالمين } ] ومن أجلهما اختلف في أنها آية برأسها أم بما بعدها والإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله سبحانه وتعالى والوفاق على إثباتها في المصاحف مع البالغة في تجريد القرآن حتى لم تكتب آمين والباء متعلقة بمحذوف تقديرا : بسم الله أقرأ لأن الذي يتلوه مقروء وكذلك يضمر كل فاعل ما يجعل التسمية مبدأ له وذلك أولى من أن يضمر أبدأ لعدم ما يطابقه ويدل عليه أو ابتدائي لزيادة إضمار فيه وتقديم المعمول ههنا أوقع كما في قوله : { بسم الله مجريها } وقوله { إياك نعبد } لأنه أهم وأدل على الاختصاص وأدخل في التعظيم وأوفق للوجود فإن اسمه سبحانه وتعالى مقدم على القراءة كيف لا وقد جعل آلة لها من حيث إن الفعل لا يتم ولا يعتد به شرعا ما لم يصدر باسمه تعالى لقوله عليه الصلاة السلام [ كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر ] وقيل الباء للمصاحبة
والمعنى متبركا باسم الله تعالى اقرأ وهذه وما بعده إلى آخر السورة مقول على ألسنة العباد ليعلموا كيف يتبرك باسمه ويحمد على نعمه ويسأل من فضله وإنما كسرت ومن حق الحروف المفردة أن تفتح لاختصاصها باللزوم الحرفية الجر كما كسرت لام الأمر ولام الإضافة داخله على المظهر للفصل بينهما وبين لام الابتداء والاسم عند أصحابنا البصريين من الأسماء التي حذفت أعجازها لكثرة الاستعمال وبينت أوائلها على السكون ن وأدخل عليها مبتدأ بها همزة الوصل لأن من دأبهم أن يبتدئوا بالمتحرك ويقفوا على الساكن ويشهد له تصريفه على أسماء وأسامي وسمى وسميت ومجيء سمى كهدى لغة فيه قال :
( والله أسماك سمى مباركا ... آثرك الله به إيثاركا )
والقلب بعيد غير مطرود واشتقاقه من السمو لأنه رفعة للمسمى وشعار له ومن السمة عند الكوفيين وأصله وسم حذفت الواو وعوضت عنها همزة الوصل ليقل إعلاله ورد بأن الهمزة لم تعهد داخله على ما حذف صدره في كلامهم ومن لغاته سمم وسم قال :
( بسم الذي في كل سورة سمه )
و الاسم إن أريد به اللفظ فغير المسمى لأنه يتألف من أصوات متقطعة غير قارة ويختلف باختلاف الأمم و الأعصار ويتعدد تارة ويتحد أخرى والمسمى لا يكون كذلك وإن أريد به ذات الشئ فهو المسمى لكنه لم يشتهر بهذا المعنى وقوله تعالى : { تبارك اسم ربك } و { سبح اسم ربك } المراد به اللفظ لأنه كما يجب تنزيه ذاته سبحانه وتعالى وصفاته عن النقائص يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن الرفث وسوء الأدب أو الاسم فيه مقحم كما في قول الشاعر :
( إلى الحول ثم اسم السلام عليكما )
وأن أريد به الصفة كما هو رأي الشيخ أبي الحسن الأشعري انقسم الصفة عنده : إلى ما هو نفس المسمى وإلى ما هو غيره وإلى ما ليس هو ولا غيره وإنما قال بسم الله ولم يقل بالله لأن التبرك والاستعانة بذكر اسمه أو للفرق بين اليمين و التيمين ولم تكتب الألف على ما هو وضع الخط لكثرة الاستعمال وطولت الباء عوضا عنها والله أصله إله فحذفت الهمزة وعوض عنها الألف واللام ولذلك قيل : يا الله بالقطع إلا أنه مختص بالمعبود بالحق والإله في الأصل لكل معبود ثم غلب على المعبود بالحق واشتقاقه من أله ألهة وألوهة بمعنى عبد ومنه تأله واستاله وقيل من أله إذا تحير لأن العقول تتتحير في معرفته أو من ألهت إلى فلان أي سكنت إليه لأن القلوب تطمئن بذكره والأرواح تسكن إلى معرفته أو من أله إذا فزع من أمر نزل عليه وآلهة غيره أجازه إذ العائذ يفزع إليه وهو يجبره حقيقة أو بزعمه أو من أله الفصيل إذا ولع بأمه إذ العباد يولعون بالتضرع إليه في الشدائد أو من وله إذا تحير وتخبط عقله وكان أصله ولاه فقلبت الواو همزة لاستثقال الكسرة عليها استثقال الضمة في وجوه فقيل إله كإعاء وإشاح ويرده الجمع على آلهة دون ألولهة وقيل أصله لاه مصدر لاه يليه ليها ولاها إذا احتجب وارتفع لأنه سبحانه وتعالى محبوب عن إدراك الأبصار ومرتفع على كل شئ وعما لا يليق به ويشهد له قول الشاعر :
( كحلفة من أبي رباح ... يشهدها لاهه الكبار )
وقيل علم لذاته المخصوصة لأنه يوصف ولا يوصف به ولأنه لا بد له من اسم تجري عليه صفاته ولا يصلح له مما يطلق عليه سواه ولأنه لو كان وصفا لم يكن قول : لا إله إلا الله توحيدا مثل : لا إله إلا الرحمن فإنه لا يمنع الشركة والأظهر أنه وصف في أصله لكنه لما غلب عليه بحيث لا يستعمل في غيره وصار له كالعلم مثل : الثريا والصعق أجرى مجراه في إجراء الأوصاف عليه وامتناع الوصف به وعدم تطرق احتمال الشركة إليه لأن ذاته من حيث هو بلا اعتبار أمر حقيقي أو غيره غير معقول للبشر فلا يمكن أن يدل عليه بلفظ ولأنه لو دل على مجرد ذاته المخصوصة لما أفاد ظاهر قوله سبحانه و تعالى : { وهو الله في السماوات } معنى صحيحا ولأن معنى الاشتقاق هو كون أحد اللفظين مشاركا للآخر في المعنى والتركيب وهو حاصل بينه وبين الأصل المذكورة وقيل أصله لاها بالسريانية فعرب بحذف الألف الأخيرة وإدخال اللام عليه وتفخيم لاهه إذا انفتح ما قبله أو انضم سنة وقيل مطلقا و حذف ألفه لحن تفسد به الصلاة ولا ينعقد به صريح اليمن وقد جاء لضرورة الشعر :
( ألا لا بارك الله في سهيل ... إذا ما الله بارك في الرجال )
و { الرحمن الرحيم } اسمان بنيا للمبالغة من رحم كالغضبان من غضب والعليم من علم والرحمة في اللغة : رقة القلب وانعطاف يقتضي التفضل والإحسان ومنه الرحم لانعطافها على ما فيها وأسماء الله تعالى إنما تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادي التي تكون انفعالات و { الرحمن } أبلغ من { الرحيم } لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى كما في قطع و قطع و كبار وكبار وذلك إنما يؤخذ تارة باعتبار الكمية وأخرى باعتبار الكيفية فعلى الأول قيل : يا رحمن الدنيا لأنه يعم المؤمن والكافر ورحيم الآخرة لأنه يخص المؤمن وعلى الثاني قيل : يا رحمن الدنيا و الآخرة ورحيم الدنيا لأن النعم الأخروية كلها جسام وأما النعم الدنيوية فجليلة وحقيرة وإنما قدم والقياس يقتضي الترقي من الأدنى إلى الأعلى لتقدم رحمة الدنيا ولأنه صار كالعلم من حيث إنه لا يوصف به غيره لأن معناه المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها وذلك لا يصدق على غيره لأن من عداه فهو مستعيض بلطفه وإنعامه يريد به جزيل ثواب أو جميل ثناء أو مزيج رقة الجنسية أو حب المال عن القلب ثم إنه كالوساطة في ذلك لأن ذات النعم ووجودها والقدرة على إيصالها والداعية الباعثة عليه والتمكن من الانتفاع بها والقرى التي بها يحصل الانتفاع إلى غير ذلك من خلقه لا يقدر عليها أحد غيره أو لأن الرحمن لما دل على جلائل النعم وأوصلها ذكر الرحيم ليتناول ما خرج منها فيكون كالتتتمة والرديف له أو للمحافظة على رؤوس الآي
والأظهر أنه غير مصروف وان حظر اختصاصه بالله تعالى أن يكون له مؤنث على فعلى أو فعلانة إلحاقا له هو الغالب في بابه وإنما خص التسمية بهذه الأسماء ليعلم العارف أن المستحق لأن يستعان به في مجامع الأمور هو المعبود الحقيقي الذي هو مولى النعم كلها عاجلها و آجلها جليلها وحقيرها فيتوجه بشراشره إلى جناب القدس ويتمسك بحبل التوفيق و يشغل سره بذكره و الاستعداد به عن غيره

2 - { الحمد لله } الحمد : هو الثناء على الجميل الاختياري من نعمة أو غيرها و المدح : هو الثناء على الجميل مطلقا تقول حمدت زيدا على علمه وكرمه ولا تقول حمدته على حسنه بل مدحته وقيل هما أخوان و الشكر : مقابلة النعمة قولا وعملا واعتقادا قال :
( أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا )
فهو أعم منهما من وجه وأخص من آخر ولما كان الحمد من شعب الشكر أشيع للنعمة وأدل على مكانتها لخفاء الاعتقاد وما آداب الجوارح من الاحتمال جعل رأس الشكر والعمدة فيه فقال عليه الصلاة و السلام : [ الحمد رأس الشكر وما شكر الله من لم يحمده ]
والذم نقيض الحمد و الكفران نقيض الشكر ورفعه بالابتداء وخبره لله وأصله النصب وقد قرئ به وإنما عدل إلى الرفع ليدل على عموم الحمد وثباته له دون تجدده وحدوثه وهو من المصادر التي تنصب بأفعال مضمرة لا تكاد تستعمل معها والتعريف فيه للجنس ومعناه : الإشارة إلى ما يعرف كل أحد أن الحمد ما هو ؟ أو للاستغراق إذ الحمد في الحقيقة كله له إذ ما من خير إلا وهو موليه بوسط أو بغير وسط كما قال تعالى : { وما بكم من نعمة فمن الله } وفيه إشعار بأنه تعالى حي قادر مريذ عالم إذ الحمد لا يستحقه إلا من كان هذا شأنه وقرئ الحمد لله بإتباع الدال و اللام و بالعكس تنزيلا لهما من حيث إنهما يستعملان معا منزلة كلمة واحدة
{ رب العالمين } الرب في الأصل مصدر بمعنى التربية : وهي تبليغ الشئ إلى كماله شيئا فشيئا ثم وصف به للمبالغة كالصوم و العدل وقيل : هو نعت من ربه يربه فهو رب كقولك نم ينم فهو نم ثم سمى به المالك لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه ولا يطلق على غيره تعالى إلا مقيدا كقوله : { ارجع إلى ربك } و العالم اسم لما يعلم به كالخاتم والقالب غلب فيما به الصانع تعالى وهو كل ما سواه من الجواهر والأعراض فإنها لإمكانها وافتقارها إلى مؤثر واجب لذاته تدل على وجوده وإنما جمعه ليشمل ما تحته من الأجناس المختلفة وغلب العقلاء منهم فجمعه بالياء و النون كسائر أوصافهم وقيل : اسم وضع لذوي العلم من الملائكة والثقلين وتناوله لغيرهم على سبيل الاستتباع وقيل : عني به الناس ههنا فإن كل واحد منهم عالم من حيث إنه يشتمل على نظائر ما في العالم الكبير من الجواهر والأعراض يعلم بها الصانع كما يعلم بما أبدعه في العالم الكبير ولذلك سوى بين النظر فيهما وقال تعالى : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } وقرئ { رب العالمين } بالنصب على المدح أو النداء أو الفعل الذي دل عليه الحمد وفيه دليل على أن الممكنات كما هي مفتقرة إلى المحدث حال حدوثها فهي مفتقرة إلى المبقي حال بقائها

3 - { الرحمن الرحيم } كرره للتعليل على ما سنذكره

4 - { مالك يوم الدين } قراءة عاصم و الكسائي و يعقوب ويعضده قوله تعالى : { يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله } وقرأ الباقون { ملك } وهو المختار لأنه قراءة أهل الحرمين ولقوله تعالى : { لمن الملك اليوم } ولما من التعظيم والمالك هو المتصرف في الأعيان المملوكة كيف يشاء من الملك والملك هو المتصرف بالأمر والنهي في المأمورين من الملك وقرئ ملك بالتخفيف وملك بلفظ العمل ومالكا بالنصب على المدح أو الحال ومالك بالرفع منونا ومضافا على أنه خبر مبتدأ محذوف وملك مضافا بالرفع والنصب ويوم الجزاء ومنه [ كما تدين تدان ] وبيت الحماسة :
( ولم يبق سوى العدوان ... دناهم كما دانوا )
أضاف اسم الفاعل إلى الظرف إجراء له مجرى المفعول به على الاتساع كقولهم : يا سارق الليلة أهل الدار ومعناه ملك الأمور يوم الدين على طريقة { ونادوا أصحاب الجنة } أوله في هذا اليوم على وجه الاستمرار لتكون الإضافة حقيقية معدة لوقوعه صفة للمعرفة وقيل : { الدين } الشريعة وقيل : الطاعة والمعنى يوم جزاء الدين وتخصيص اليوم بالإضافة : إما لتعظيمه أو لتفرده تعالى بنفوذ الأمر فيه وإجراء هذه الأوصاف على الله تعالى من كونه موجدا للعالمين ربا لهم منعما عليهم بالنعم كلها ظاهرها وباطنها عاجلها وآجلها مالكا لأمورهم يوم الثواب والعقاب للدلالة على أنه الحقيق بالحمد لا أحد أحق به منه بل لا يستحقه على الحقيقة سواه فإن ترتب الحكم على الوصف يشعر بعليته له وللإشعار من طريق المفهوم على أن من لم يتصف بتلك الصفات لا يستأهل لأن يحمد فضلا عن أن يعبد فيكون دليلا على ما بعده فالوصف الأول لبيان ما هو الموجب للحمد وهو الإيجاد والتربية والثاني والثالث للدلالة علىأنه متفضل بذلك مختار فيه ليس يصدر منه لإيجاب بالذات أو وجوب عليه قضية لسوابق الأعمال حتى يستحق به الحمد والرابع لتحقيق الاختصاص فإنه مما لا يقبل الشركة فيه بوجه ما وتضمين الوعد للحامدين والوعيد للمعرضين

5 - { إياك نعبد وإياك نستعين } ثم إنه لما ذكر الحقيق بالحمد ووصف بصفات عظام تميز بها عن سائر الذوات وتعلق العلم بمعلوم معين خوطب بذلك أي : يا من هذا شأنه نخصك بالعبادة والاستعانة ليكون أدل على الاختصاص وللترقي من البرهان إلى العيان والانتقال من الغيبة إلى الشهود فكأن المعلوم صار عيانا والمعقول مشاهدا والغيبة حضورا بنى أول الكلام على ما هو مبادي حال العارف من الذكر والتأمل في أسمائه والنظر في آلائه والاستدلال بصنائعه على عظيم شأنه وباهر سلطانه ثم قفى بما هو منتهى أمره وهو أن يخوض لجة الوصول ويصير من أهل المشاهدة فيراه عيانا ويناجيه شفاها
اللهم اجعلنا من الواصلين للعين دون السامعين للأثر ومن عادة العرب التفنن في الكلام والعدول من أسلوب إلى آخر تطرية له وتنشيطا للسامع فيعدل من الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى التكلم وبالعكس كقوله تعالى : { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم } وقوله : { والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه } وقول امرئ القيس :
( تطاول ليلك بالإثمد ... ونام الخلي ولم ترقد )
( وبات وباتت له ليلة ... كليلة ذي العائر الأرمد )
( وذلك من نبأ جاءني ... وخبرته عن أبي الأسود )
وإيا ضمير منصوب منفصل وما يلحقه من الياء والكاف والهاء حروف زيدت لبيان التكلم والخطاب والغيبة لا محل لها من الإعراب كالتاء في أنت والكاف في أرأيتك وقال الخليل : إيا مضاف إليها واحتج بما حكاه عن بعض العرب إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب وهو شاذ لا يعتمد عليه وقيل : هي الضمائر وإيا عمدة فإنها لما فصلت عن العوامل تعذر النطق بها مفردة فضم إليها إيا لتستقل به وقيل : الضمير هو المجموع وقرئ { إياك } بفتح الهزة و { إياك } بقلبها هاء
والعبادة : أقصى غاية الخضوع والتذلل ومنه طريق معبد أي مذلل وثوب ذو عبدة إذا كان في غاية الصفاقة ولذلك لا تستعمل إلا في الخضوع لله تعالى
والاستعانة : طلب المعونة وهي : إما ضرورية أو غير ضرورية والضرورية ما لا يتأنى الفعل دونه كاقتدار الفاعل وتصوره وحصول آلة ومادة يفعل بها فيها وعند استجماعها يوصف الرجل بالاستطاعة ويصح أن يكلف بالفعل وغير الضرورية تحصيل ما يتيسر به الفعل ويسهل كالراحلة في السفر للقادر على المشي أو يقرب الفاعل إلى الفعل ويحثه عليه وهذا القسم لا بتوقف عليه صحة التكليف والمراد طلب المعونة في المهمات كلها أو في أداء العبادات والضمير المستكن في الفعلين للقارئ ومن معه من الحفظة وحاضري صلاة الجماعة أو له ولسائر الموحدين أدرج عبادته في تضاعيف عباداتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعلها تقبل ببركتها ويجاب إليها ولهذا شرعت الجماعة وقدم المفعول للتعظيم والاهتمام به والدلالة على الحصر ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما ) معناه نعبدك ولا نعبد غيرك ( وتقديم ما هو مقدم في الوجود والتنبيه على أن العابد ينبغي أن يكون نظره إلى المعبود أولا وبالذات ومنه إلى العبادة لا من حيث إنها عبادة صدرت عنه بل من حيث إنها نسبة شريفة إليه ووصله سنية بينه وبين الحق فإن العارف إنما يحق وصوله إذا استغرق في ملاحظة جناب القدس وغاب عما عداه حتى إنه لا يلاحظ نفسه ولا حالا من أحوالها إلا من حيث إنها ملاحظة له ومنتسبة إليه ولذلك فضل ما حكى الله عن حبيبه حين قال : { لا تحزن إن الله معنا } على ما حكاه عن كليمه حين قال : { إن معي ربي سيهدين } وكرر الضمير للتنصيص على أنه المستعان به لا غير وقدمت العبادة على الاستعانة ليتوافق رؤوس الآي ويعلم أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى وأقول : لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أوهم ذلك تبجحا و اعتدادا منه بما يصدر عنه فعقبه بقوله : { وإياك نستعين } ليدل على أن العبادة أيضا مما لا يتم ولا يستتب له إلا بمعونة منه وتوفيق وقيل : الواو للحال والمعنى نعبدك مستعين بك وقرئ بكسر النون فيهما وهي لغة بني تميم فإنهم يكسرون حروف المضارعة سوى الياء إذا لم ينضم ما بعدها

6 - { اهدنا الصراط المستقيم } بيان للمعونة المطلوبة فكأنه قال : كيف أعينكم فقالوا { اهدنا } أو إفراد لما هو المقصود الأعظم والهداية دلالة بلطف ولذلك تستعمل في الخير وقوله تعالى : { فاهدوهم إلى صراط الجحيم } وارد على التهكم ومنه الهداية وهوادي الوحش لمقدماتها والفعل منه هدى وأصله أن يعدى باللام أو إلى فعومل معاملة اختيار في قوله تعالى : { واختار موسى قومه } وهداية الله تعالى تنوع أنواعا لا يحصيها عد كما قال تعالى : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } ولكنها تنحصر في أجناس مترتبة :
الأول : إفاضة القوى التي بها يتمكن المرء من الاهتداء إلى مصالحه كالقوة العقلية والحواس الباطنة والمشاعر الظاهرة
الثاني : نصب الدلائل الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد وإليه أشار حيث قال : { وهديناه النجدين } وقال : { وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى }
الثالث : الهداية بإرسال الرسل وإنزال الكتب وإياها عنى بقوله : { وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا } وقوله : { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم }
الرابع : أن يكشف على قلوبهم السرائر ويريهم الأشياء كما هي بالوحي أو الإلهام والمنامات الصادقة وهذا قسم يختص بنيله الأنبياء والأولياء وإياه عنى بقوله : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } وقوله : { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } فالمطوب إما زيادة ما منحوه من الهدى أو الثبات عليه أو حصول المراتب المرتبة عليه فإذا قاله العارف بالله الواصل عنى به أرشدنا طريق السير فيك لتمحو عنا ظلمات أحوالنا وتميط غواشي أبدننا لنستضئ بنور قدسك فنراك بنورك والأمر والدعاء يتشاركان لفظا ومعنى ويتفاوتان بالاستعلاء والتسفل وقيل : بالرتبة
والسراط : من سرط الطعام إذا ابتلعه فكأنه يسرط السابلة ولذلك سمي لقما لأنه يلتقمها و { الصراط } من قلب السين صادا ليطابق الطاء في الإطباق وقد يشم الصاد صوت الزاي ليكون أقرب إلى المبدل منه وقرأ ابن كثير برواية قنبل عنه و رويس عن يعقوب بالأصل و حمزة بالإشمام والباقون بالصاد وهو لغة قريش و الثابت في الإمام وجمعه سرط ككتب وهو كالطريق في التذكير والتأنيث
و { المستقيم } المستوي والمراد به طريق الحق وقيل : هو ملة الإسلام

7 - { صراط الذين أنعمت عليهم } بدل من الأول بدل الكل وهو في حكم تكرير العامل من حيث إنه المقصود بالنسبة وفائدته التوكيد والتنصيص على أن طريق المسلمين هو المشهود عليه بالاستقامة علىآكد وجه وأبلغه لأنه جعل كالتفسير والبيان له فكأنه من البين الذي لا خفاء فيه أن الطريق المستقيم ما يكون طريق المؤمنين وقيل : { الذين أنعمت عليهم } الأنبياء و قيل : النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه وقيل : أصحاب موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام قبل التحريف والنسخ وقرئ : { صراط الذين أنعمت عليهم } والإنعام : إيصال النعمة وهي في الأصل الحالة التي يستلذها الإنسان فأطلقت لما يستلذه من النعمة وهي اللين ونعم الله وأن كانت لا تحصى كما قال : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } تنحصر في جنسين : دنيوي وأخروي
والأول : قسمان : وهبي وكسبي والوهبي قسمان : روحاني كنفخ الروح فيه وأشراقه بالعقل وما يتبعه من القوى كالفهم والفكر والنطق وجسماني كتخليق البدن والقوى الحالة فيه والهيئات العارضة له من الصحة وكمال الأعضاء والكسبي تزكية النفس عن الرذائل وتحليتها بالأخلاق السنية والملكات الفاضلة وتزيين البدن بالهيئات المطبوعة والحلى المستحسنة وحصول الجاه والمال
والثاني : أن يغفر له ما فرط ويرضى منه ويرضى عنه ويبوئه في أعلى عليين مع الملائكة المقربين أبد الآبدين والمراد هو القسم الأخير وما يكون وصلة إلى نيله من الآخرة فإن ما عدا ذلك يشترك فيه المؤمن والكافر
{ غير المغضوب عليهم ولا الضالين } بدل من { الذين } على معنى أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من الغضب والضلال أو صفة له مبينة أو مقيدة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة وهي نعمة الإيمان وبين السلامة من الغضب والضلال وذلك إنما يصح بأحد تأويلين إجراء الموصول مجرى النكرة إذ لم يقصد به معهود كالمحلى في قوله :
( ولقد أمر على اللئيم يسبني )
وقوله : إني لأمر على الرجل مثلك فيكرمني أو جعل غير معرفة بالإضافة لأنه أضيف إلى ما له ضد واحد وهو المنعم عليهم فيتعين تعين الحركة من غير السكون
وعن ابن كثير نصبه على الحال من الضمير المجرور والعامل أنعمت أو بإضمار أعني أو بالاستثناء أن فسر النعم بما يعم القبيلين والغضب : ثوران النفس إرادة الانتقام فإذا أسند إلى الله تعالى أريد به المنتهى والغاية على ما مر وعليهم في محل الرفع لأنه نائب مناب الفاعل بخلاف الأول ولا مزيدة لتأكيد ما في غير من معنى النفي فكأنه قال : لا المغضوب عليهم ولا الضالين ولذلك جاز أنا زيدا غير ضارب كما جاز أنا زيدا لا ضارب وإن امتنع أنا زيدا مثل ضارب وقرئ { ولا الضالين } والضلال : العدول عن الطريق السوي عمدا أو خطأ وله عرض عريض والتفاوت ما بين أدناه وأقصاه كثير قيل : { المغضوب عليهم } اليهود لقوله تعالى فيهم : { من لعنه الله وغضب عليه } و { الضالين } النصارى لقوله تعالى : { قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا } وقد روي مرفوعا ويتجه أن يقال : المغضوب عليهم العصاة والضالين الجاهلون بالله لأن النعم عليه من وفق للجمع بين معرفة الحق لذاته والخير للعمل به وكان المقابل له من اختل إحدى قوتيه العاقلة والعاملة والمخل بالعمل فاسق مغضوب عليه لقوله تعالى في القاتل عمدا { وغضب الله عليه } والمخل بالعقل جاهل ضال لقوله : { فماذا بعد الحق إلا الضلال } وقرئ : و لا الضألين بالهمزة على لغة من جد في الهرب من التقاء - آمين - اسم الفعل الذي هو استجب وعن ابن عباس قال سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن معناه فقال : افعل بني على الفتح كأين لالتقاء الساكنين وجاء مد ألفه وقصرها قال :
( ويرحم الله عبدا قال آمينا )
وقال ( : أمين فزاد الله ما بيننا بعدا )
وليس من القرآن وفاقا لكن يسن ختم السورة به لقوله عليه الصلاة و السلام [ علمني جبريل آمين عند فراغي من قراءة الفاتحة وقال إنه كالختم على الكتاب ] وفي معناه قول علي رضي الله عنه : آمين خاتم رب العالمين ختم به دعاء عبده يقوله الإمام ويجهر به في الجهرية لما روي عن وائل بن حجر أنه عليه الصلاة و السلام كان إذا قرأ ولا الضالين قال آمين ورفع بها صوته
وعن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه لا يقوله والمشهور عنه أنه يخفيه كما رواه عبدالله بن مغفل و أنس و المأموم يؤمن معه لقوله عليه الصلاة و السلام : [ إذا قال الإمام { ولا الضالين } فقولوا آمين فإن الملائكة تقول آمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ] وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لأبي [ ألا أخبرك بسورة لم ينزل في التوراة والإنجيل والقرآن مثلها قال : قلت بلى يا رسول الله قال : فاتحة الكتاب إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ]
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : [ بينما رسول الله صلى الله عليه و سلم جالس إذ أتاه ملك فقال : أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك : فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ حرفا منهما إلا أعطيته ]
وعن حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتما مقضيا فيقرأ صبي من صبيانهم في الكتاب : { الحمد لله رب العالمين } فيسمعه الله تعالى فيرفع عنهم بذلك العذاب أربعين سنة ]

1 - { الم } وسائر الألفاظ التي يتهجى بها أسماء مسمياتها الحروف التي ركبت منها الكلم لدخولها في حد الاسم واعتوار ما يخص به من التعريف والتنكير والجمع والتصغير ونحو ذلك عليهما وبه صرح الخليل و أبو علي وما روى ابن مسعود رضي الله عنه أنه عليه الصلاة و السلام قال : [ من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول آلم حرف بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف ] فالمراد به غير المعنى الذي اصطلح عليه فإن تخصيصه به عرف مجددا بل المعنى اللغوي ولعله سماه باسم مدلوله ولما كانت مسمياتها حروفا وحدانا وهي مركبة صدرت بها لتكون تأديتها بالمسمى أول ما يقرع السمع واستعيرت الهمزة مكان الإلف لتعذر الابتداء بها وهي ما لم تلها العوامل موقوفة خالية عن الإعراب لفقد موجبه ومقتضيه ولكنها قابلة إياه ومعرضة له إذ ا لم تناسب مبنى الأصل ولذلك قيل : { ص } و { ق } مجموعا فيهما بين الساكنين ولم تعامل معاملة أين وهؤلاء ثم إن مسمياتها لما كانت عنصر الكلام وبسائطه التي يتركب منها كلام مظوم مما ينظمون منه كلامهم فلو كان من غير الله لما عجزوا عن آخرهم مع تظاهرهم وقوة فصاحتهم عن الإتيان بما يدانيه وليكون أول ما يقرع الأسماع مستقلا بنوع من الإعجاز فإن النطق بأسماء الحروف مختص بمن خط ودوس فأما من الأمي الذي لم يخالط الكتاب فمستعد مستغرب خارق للعادة كالكتابة والتلاوة سيما وقد راعى في ذلك ما يعجز عنه الأدب الأريب الفائق في فنه وهو أنه أورد الفواتح أربعة عشر اسما هي نصف أسامي حروف المعجم إن لم يعد فيها الألف حرفا برأسها في تسع وعشرين سورة بعددها إذا عد فيها الألف الأصلية مشتملة على أنصاف أنواعها فذكر من المهموسة وهي ما يضعف الاعتماد على مخرجه ويجمعها ( ستشحثك خصفه ) نصفها الحاء والكاف والهاء والصاد والسين والكاف ومن البواقي المجهورة نصفها يجمعه لن يقطع أمر ومن الشدايدة الثمانية المجموعة في ( أجدت طبقك ) أربعة يجمعها ( أقطعك ) ومن البواقي الرخوة عشرة يجمعها خمس على نصره ومن المطبقة التي هي الصاد والضاد والطاء والظاء نصفها ومن البواقي المنفتحة نصفها ومن القلقلة وهي : حروف تضطرب عند خروجها ويجمعها ( قد طبج ) نصفها الأقل لقلتها ومن اللينتين الياء لأنها أقل ثقلا ومن المستعلية وهي : التي يتصعد الصوت بها في الحنك الأعلى وهي سبعة القاف والصاد والطاء والخاء والغين والضاد والظاء نصفها الأقل ومن البواقي المنخفضة نصفها ومن حروف البدل وهي أحد عشر على ما ذكره سيبويه واختاره ابن جني ويجمعها ( أحد طويت ) منها الستة الشائعة المشهورة التي يجمعها أهطمين وقد زاد بعضهم سبعة أخرى وهي اللام في ( أصيلال ) والصاد والزاي في ( صراط وزراط ) والفاء في ( أجدف ) والعين في ( أعن ) والثاء في ( ثروغ الدلو ) والباء في باسمك حتى صارت ثمانية عشر وقد ذكر منها تسعة الستة المذكورة واللام والصاد والعين ومما يدغم في مثله ولا يدغم في المقارب وهي خمسة عشر : الهمزة والهاء والعين والصاد والطاء والميم والياء والخاء والغين والضاد و الفاء والظاء والشين والزاي والواو نصفها الأقل ومما يدغم فيهما وهي الثلاثة عشر الباقية نصفها الأكثر : الحاء والقاف والراء والسين واللام والنون لما في الإدغام من الخفة و الفصاحة ومن الأربعة التي لا تدغم فيما يقاربها ويدعم فيها مقاربها وهي : الميم والزاي والسين والفاء نصفها
ولما كانت الحروف الذلقية التي يعتمد عليها بذلف اللسان وهي يجمعها ( رب منفل ) والحلقية التي هي الحاء والخاء والعين و الغين و الهاء والهمزة كثيرة الوقوع في الكلام ذكر ثلثيهما ولما كانت أبنية المزيد لا تتجاوز عن السباعية ذكر من الزوائد العشرة التي يجمعها ( اليوم تنساه ) سبعة أحرف منها تنبيها على ذلك ولو اسقريت الكلم وتراكيبها وجدت الحروف المتروكة من كل جنس مكثورة بالمذكورة ثم إنه ذكرها مفردة وثنائية وثلاثية ورباعية وخماسية إيذانا بأن المتحدى به مركب من كلماتهم التي أصولها كلمات مفردة ومركبة من حرفين فصاعدا إلى الخمسة وذكر ثلاث مفردات في ثلاث سور لأنها توجد في الأقسام الثلاثة : الاسم والفعل والحرف وأربع ثنائيات لأنها تكون في الحرف بلا حذف ( كبل ) وفي الفعل بحذف ثقل كقل وفي الاسم بغير حذف كمن وبه كدم في تسع سور لوقوعها في كل واحد من الأقسام الثلاثة على ثلاثة أوجه : ففي الأسماء من وإذ وذو وفي الأفعال قل وبع وخف وفي الحروف من وإن ومذ على لغة من جربها وثلاث ثلاثيات لمجيئها في الأقسام الثلاثة في ثلاث عشرة سورة تنبيها على أن أصول الأبنية المستعملة ثلاثة عشر عشرة منها للأسماء وثلاثة للأفعال ورباعيتين وخماسيتين تنبيها على أن لكل منهما أصلا : كجعفر وسفرجل وملحقا كقردد و جحنفل ولعلها فرقت على السور ولم تعد بأجمعها في أول القرآن لهذه الفائدة مع ما فيه من إعادة التحدي وتكرير التنبيه والمبالغة فيه
والمعنى أن هذا المتحدى به مؤلف من جنس هذه الحروف أو المؤلف منها كذا وقيل : هي أسماء للسور وعليه إطباق الأكثر سميت بها إشعارا بأنها كلمات معروفة التركيب فلو لم تكن وحيا من الله تعالى لم تتساقط مقدرتهم دون معارضتها واستدل عليه بأنها لو لم تكن مفهمة كان الخطاب بها كالخطاب بالمهمل والتكلم بالزنجي مع العربي ولم يكن القرآن بأسره بيانا وهدى ولما أمكن التحدي به وإن كانت مفهمة فإما أن يراد بها السور التي هي مستهلها على أنها ألقابها أو غير ذلك والثاني باطل لأنه إما أن يكون المراد ما وضعت له في لغة العرب فظاهر أنه ليس كذلك أو غيره وهو باطل لأن القرآن نزل على لغتهم لقوله تعالى : { بلسان عربي مبين } فلا يحمل على ما ليس في لغتهم لا يقال : لم يجوز أن تكون مزيدة للتنبيه ؟ والدلالة على انقطاع كلام واستئناف آخره ؟ كما قاله قطرب أو إشارة إلى كلمات هي منها اقتصرت عليها اقتصار الشاعر في قوله :
( قلت لها قفي فقالت قاف )
كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : الألف آلاء الله و اللام لفظه والميم ملكه وعنه أن الروحم ون مجموعها الرحمن وعنه أن آلم معناه : أنا الله أعلم ونحو ذلك في سائر الفواتح وعنه أن الألف من الله واللام من جبريل والميم من محمد أي : القرآن منزل من الله بلسان جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام أو إلى مدد أقوام وآجال بحساب الجمل كما قال أبو العالية متمسكا بما روي :
[ أنه عليه الصلاة و السلام لما أتاه اليهود تلا عليهم { الم } البقرة فحسبوه وقالوا : كيف ندخل في دين مدته إحدى وسبعون سنة فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : فهل غيره فقال : { المص } و { الر } و { المر } فقالوا : خلطت علينا فلا ندري بأيها نأخذ ] فإن تلاوته إياها بهذا الترتيب عليهم وتقريرهم على استنباطهم دليل على ذلك وهذه الدلالة وإن لم تكن عربية لكنها لاشتهارها فيما بين الناس حتى العرب تلحقها بالمعربات كالمشكاة والسجيل والقسطاس أو دلالة على الحروف المبسوطة مقسما بها لشرفها من حيث إنها بسائط أسماء الله تعالى ومادة خطابه
هذا وإن القول بأنها أسماء السور يخرجها ما ليس في لغة العرب لأن التسمية بثلاثة أسماء فصاعدا مستكره عندهم ويؤدي إلى اتحاد والمسمى ويستدعى تأخر الجزء عن الكل من حيث إن الاسم متأخر عن المسمى بالرتبة لأنا نقول : إن هذه الألفاظ لم تعهد مزيدة للتنبيه والدلالة على الانقطاع والاستئناف يلزمها وغيرها من حيث إنها فواتح السور ولا يقتضي ذلك أن لا يكون معنى في حيزها ولم تستعمل للاختصار من كلمات معينة في لغتهم أما الشعر فشاذ وأما قول ابن عباس فتنبيه على أن هذه الحروف منبع الأسماء ومبادئ الخطاب وتمثيل بأمثلة حسنة ألا ترى أنه عد كل حرف من كلمات متباينة لا تفسير وتخصيص بهذه المعاني دون غيرها إذ لا مخصص لفظا ومعنى ولا بحساب الجمل فتلحق بالمعربات والحديث لا دليل فيه لجواز أنه عليه الصلاة السلام تبسم تعجبا من جهلهم وجعلها مقسما بها وإن كان غير ممتنع لكنه يحوج إلى إضمار أشياء لا دليل عليها والتسمية بثلاثة أسماء إنما تمتنع إذا ركبت وجعلت اسما واحدا على طريقة بعلبك فأما إذا نثرت أسماء العدد فلا و ناهيك بتسوية سيبويه بين التسمية بالجملة والبيت من الشعر وطائفة من أسماء حروف المعجم والمسمى هو مجموع السورة والاسم جزؤها فلا اتحاد وهو مقدم من حيث ذاته مؤخر باعتبار كونه اسما فلا دور لاختلاف الجهتين والوجه الأول أقرب إلى التحقيق وأوفق للطائف التنزيل وأسلم من لزوم النقل ووقوع الاشتراك في الأعلام من واضع واحد فإنه يعود بالنقض علىما هو مقصود بالعلمية وقيل : إنها أسماء القرآن ولذلك أخبر عنها بالكتاب والقرآن
وقيل : إنها أسماء لله تعالى وبدل عليه أن عليا كرم الله وجهه كان يقول : يا كهيعص ويا حمعسق ولعله أراد يا منزلهما
وقيل : الألف : من أقصى الحلق وهو مبدأ المخارج واللام : من طرف اللسان وهو أوسطها والميم : من الشفة وهو آخرها جمع بينها إيماء إلى أن العبد ينبغي أن يكون أول كلامه وأوسطه وآخره ذكر الله تعالى
وقيل : إنه سر استأثره الله بعلمه وقد روي عن الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة ما يقرب منه ولعلهم أرادوا أنها أسرار بين الله تعالى ورسوله ورموز لم يقصد بها إفهام غيره إذ يبعد الخطاب بما لا يفيد فإن جعلتها أسماء الله تعالى أو القرآن أو السور كان لها حظ من الإعراب إما الرفع على الابتداء أو الخبر أو النصب بتقدير فعل القسم على طريقة الله لأفعلن بالنصب أو غيره كما ذكر أو الجر على إضمار حرف القسم ويتأتى الإعراب لفظا والحكاية فيما كانت مفردة أو موازنة لمفرد كحم فإنها كهابيل والحكاية ليست إلا فيما عدا ذلك وسيعود إليك ذكره مفصلا إن شاء الله تعالى وإن أبقيتها على معانيها فإن قدرت بالمؤلف من هذه الحروف كان في حيز الرفع بالابتداء أو الخبر علىما مر وإن جعلتها مقسما بها يكون كل كلمة منها منصوبا أو مجرورا على اللغتين في الله لأفعلن وتكون جملة قسمية بالفعل المقدر له وإن جعلتها أبعاض كلمات أو أصواتا منزلة منزلة حروف التنبيه لم يكن لها محل من الإعراب كالجمل المبتدأة والمفردات المعدودة ويوقف عليها وقف التمام إذا قدرت بحيث لا تحتاج إلى ما بعدها وليس شيء منها آية عند غير الكوفيين وأما عندهم فـ { الم } في مواضعها و { المص } و { كهيعص } و { طه } و { طسم } و { طس } و { يس } و { حم } و { عسق } آيتان و البواقي ليست بآيات وهذا توقيف لا مجال للقياس فيه

2 - { ذلك الكتاب } ذلك إشارة إلى { الم } إن أول بالمؤلف من هذه الحروف أو فسر بالسورة أو القرآن فإنه لما تكلم به وتقضى أو وصل من المرسل إلى المرسل إليه صار متباعدا أشير إليه به إلى البعيد وتذكيره متى أريد بـ { الم } االسورة لتذكير الكتاب فإنه خبره أو صفته الذي هو هو أو إلى الكتاب فيكون صفته والمراد به الكتاب الموعود إنزاله بنحو قوله تعالى : { إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا } أو في الكتب المتقدمة وهو مصدر سمي به المفعول للمبالغة
وقيل فعال بمعنى المفعول كاللباس ثم أطلق على المنظوم عبارة قبل أن يكتب لأنه مما يكتب وأصل الكتب الجمع ومنه الكتيبة
{ لا ريب فيه } معناه أنه لوضوحه وسطوع برهانه بحيث لا يرتاب العاقل بعد النظر الصحيح في كونه وحيا بالغا حد الإعجاز لا أن أحدا لا يرتاب فيه ألا ترى إلى قوله تعالى : { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا } فإنه ما أبعد عنهم الريب بل عرفهم الطريق المريح له وهو أن يجتهدوا في معارضة نجم من نجومه ويبذلوا فيها غاية جهدهم حتى إذا عجزوا عنها تحقق لهم أن ليس فيه مجال للشبهة ولا مدخل للريبة
وقيل : معناه لا ريب فيه للمتقين وهدى حال من الضمير المجرور والعامل فيه الظرف الواقع صفة للنفي والريب في الأصل رابني إذا حصل فيك الريبة وهي قلق النفس واضطرابها سمي به الشك لأنه يقلق النفس ويزيل الطمأنينة وفي الحديث [ دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ] فإن الشك ريبة والصدق طمأنينة ومنه ريب الزمان لنوائبه
{ هدى للمتقين } يهديهم إلى الحق والهدى في الأصل مصدر كالسرى والتقى ومعناه الدلالة
وقيل : الدلالة الموصلة إلى البغية لأنه جعل مقابل الضلالة في قوله تعالى : { لعلى هدى أو في ضلال مبين } ولأنه يقال مهدي إلا لمن اهتدى إلى المطلوب واختصاصه بالمتقين لأنهم المهتدون به والمنتفعون بنصه وإن كانت دلالته عامة لكل ناظر من مسلم أو كافر وبهذا الاعتبار قال تعالى : { هدى للناس } أو لأنه لا ينتفع بالتأمل فيه إلا من صقل العقل واستعمله في تدبير الآيات والنظر في المعجزات وتعرف النبوات لأنه كالغذاء الصالح لحفظ الصحة فإنه لا يجلب نفعا ما لم تكن الصحة حاصلة وإليه أشار بقوله تعالى : { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا } ولا يقدح ما فيه من المجمل والمتشابه في كونه هدى لما ينفك عن بيان يعين المراد منه والمتقي اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقى والوقاية : فرط الصيانة وهو في عرف الشرع اسم لمن يقي نفسه مما يضره في الآخرة وله ثلاث مراتب :
الأول : التوقي من العذاب المخلد بالتبري من الشرك وعليه قوله تعالى : { وألزمهم كلمة التقوى }
الثاني : التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم وهو المتعارف باسم التقوى في الشرع وهو المعنى بقوله تعالى : { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا }
الثالثة : أن يتنزه عما يشغل سره عن الحق ويتبتل إليه بشراشره وهو التقوى الحقيقي المطلوب بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته } وقد فسر قوله : { هدى للمتقين } ههنا على الأوجه الثلاثة
واعلم أن الآية تحتمل أوجها من الإعراب : أن يكون { الم } مبتدأ على أنه اسم للقرآن أو السورة أو مقدر بالمؤلف منها وذلك خبره وإن كان أخص من المؤلف مطلقا والأصل أن الأخص لا يحمل على الأعلم لأن المراد به المؤلف الكامل في تأليفه البالغ أقصى درجات الفصاحة ومراتب البلاغة والكتاب صفة ذلك
وأن يكون { الم } خبره مبتدأ محذوف وذلك خبرا ثانيا أو بدلا والكتاب صفته و { لا ريب } في المشهورة مبني لتضمنه معنى من منصوب المحل على أنه اسم لا النافية للجنس العاملة عمل إن لأنها تقتضيها ولازمة للأسماء لزومها وفي قراءة أبي الشعثاء مرفوع بلا التي بمعنى ليس وفيه خبره ولم يقدم كما قدم قوله تعالى : { لا فيها غول } لأنه لم يقصد تخصيص نفي الريب به من بين سائر الكتب كما قصد ثمة أو صفته وللمتقين خبره وهدى نصب على الحال أو الخبر محذوف كما في { لا } ضمير فلذلك وقف على { لا ريب } على أن فيه خبر هدى قدم عليه لتنكيره والتقدير : لا ريب فيه فيه هدى وأن يكون ذلك مبتدأ و { الكتاب } خبره على معنى : أنه الكتاب الكامل الذي يستأهل أن يسمى كتابا أو صفته وما بعده خبره والجملة خبر { الم }
والأول أن يقال إنها جمل متناسقة تقرر اللاحقة منها السابقة ولذلك لم يدخل العاطف بينهما ف { الم } جملة دلت على أن المتحدى به هو المؤلف من جنس ما يركبون منه كلامهم وذلك الكتاب جملة ثانية مقررة لجهة التحدي و { لا ريب فيه } جملة ثالثة تشهد على كماله بأن الكتاب المنعوت بغاية الكمال إذ لا كمال أعلى مما للحق واليقين و { هدى للمتقين } بما يقدر له مبتدأ جملة رابعة تؤكد كونه حقا لا يحوم الشك حوله بأنه { هدى للمتقين } أو تستتبع السابقة منها اللاحقة استتباع الدليل للمدلول وبيانه أنه لما نبه أولا على إعجاز المتحدى به من حيث إنه من جنس كلامهم وقد عجزوا عن معارضته استنتج منه أنه الكتاب البالغ حد الكمال واستلزم ذلك أن لا يتشبث الريب بأطرافه إذ لا أنقص مما يعتريه الشك والشبهة وما كان كذلك كان لا محالة { هدى للمتقين } وفي كل واحدة منها نكتة ذات جزالة ففي الأولى الحذف والرمز إلى المقصود مع التعليل وفي الثانية فخامة التعريب وفي الثالثة تأخير الظرف حذرا عن إبهام الباطل وفي الرابعة الحذف والتوصيف بالمصدر للمبالغة وإيراده منكرا للتعظيم وتخصيص الهدى بالمتقين باعتبار الغاية تسمية المشارف للتقوى متقيا إيجازا وتفخيما لشأنه

3 - { الذين يؤمنون بالغيب } إما موصول بالمتقين على أنه صفة مجرورة مقيدة له إن فسر التقوى بترك مترتبة عليه ترتيب التحلية على التخلية والتصوير على التصقيل أو موضحة إن فسر بما يعم فعل الحسنات وترك السيئات لاشتماله على ما هو أصل الأعمال وأساس الحسنات من الإيمان والصلاة والصدقة فإنها أمهات الأعمال النفسانية والعبادات البدنية والمالية المستتبعة لسائر الطاعات والتجنب عن المعاصي غالبا ألا ترى إلى قوله تعالى : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } وقوله عليه الصلاة و السلام : [ الصلاة عماد الدين والزكاة قنطرة الإسلام ] أو مسوقة للمدح بما تضمنه المتقين وتخصيص الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بالذكر إظهار لفضلها على سائر ما يدخل تحت اسم التقوى أو على أنه مدح منصوب أو مرفوع بتقدير أعني أو هم الذين وإما مفصول عنه مرفوع بالابتداء وخبره أولئك على هدى فيكون الوقف على المتقين تاما
والإيمان في اللغة عبارة عن التصديق مأخوذ من الأمن كأن المصدق أمن من المصدق التكذيب والمخالفة وتعديته بالياء لتضمنه معنى الاعتراف وقد يطلق بمعنى الوثوق من حيث إن الواثق بالشئ صار ذا أمن منه ومنه ما أمنت أن أجد صحابة وكلا الوجهين حسن في يؤمنون بالغيب
وأما في الشرع : فالتصديق بما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه و سلم كالتوحيد والنبوة والبعث والجزاء ومجموع ثلاثة أمور : اعتقاد الحق والإقرار به والعمل بمقتضاه عند جمهور المحدثين والمعتزلة والخوارج فمن أخل بالاعتقاد وحده فهو منافق ومن أخل بالإقرار فكافر ومن أخل بالعمل ففاسق وفاقا وكافر عند الخوارج وخارج عن الإيمان غير داخل في الكفر عند المعتزلة والذي يدل على أنه التصديق وحده أنه سبحانه وتعالى أضاف الإيمان إلى القلب فقال : { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } { وقلبه مطمئن بالإيمان } { ولم تؤمن قلوبهم } { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } وعطف عليه العمل الصالح في مواضع لا تحصى وقرنه بالمعاصي فقال تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى } { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } مع ما فيه من قلة التغيير فإنه أقرب إلى الأصل وهو متعين الإرادة في الآية إذ المعدى بالياء هو التصديق وفاقا ثم اختلف في أن مجرد التصديق بالقلب هل هو كاف لأنه المقصود أم لا بد من انضمام الإقرار به للمتمكن منه ولعل الحق هو الثاني لأنه تعالى ذم المعاند أكثر من ذم الجاهل المقصر وللمانع أن يجعل الذم للإنكار لا لعدم الإقرار للمتمكن منه
والغيب مصدر وصف به للمبالغة كالشهادة في قوله تعالى : { عالم الغيب والشهادة } والعرب تسمي المطمئن من الأرض والخمصة التي تلي الكلية غيبا أو فيعل خفيف كقيل والمراد به الخفي الذي لا يدركه الحس ولا تقتضيه بديهة العقل وهو قسمان : قسم لا دليل عليه وهو المعني بقوله تعالى : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو } وقسم نصب موقع عليه دليل : كالصانع وصفاته واليوم الآخر وأحواله وهو المراد به في هذه الآية هذا إذا جعلته صلة للإيمان وأوقعته موقع المفعول به وإن جعلته حالا على تقدير ملتبسين بالغيب كان بمعنى الغيبة والخفاء والمعنى أنهم يؤمنون غائبين عنكم لا كالمنافقين الذين إذا { لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون } أو عن المؤمن به لما روي أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : والذي لا إله غيره ما آمن أحد أفضل من إيمان بغيب ثم قرأ هذه الآية وقيل المراد بالغيب : القلب لأنه مستور والمعنى يؤمنون بقلوبهم لا كمن يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم فالباء على الأول للتعدية وعلى الثاني للمصاحبة وعلى الثالث للآلة
{ ويقيمون الصلاة } أي يعدلون أركانها ويحفظونها من أن يقع زيغ في أفعالها من أقام العود إذا قومه أو يواظبون عليها من قامت السوق إذا نفقت وأقمتها إذا جعتها نافقة قال :
( أقامت غزالة سوق الضراب ... لأهل العراقين حولا قميطا )
فإنه إذا حوفظ عليها كانت كالنافق الذي يرغب فيه وإذا ضيعت كانت كالكاسد المرغوب عنه أو يتشمرون لأدائها من غير فتور ولا توان من قولهم قام بالأمر وأقامه إذا جد فيه وتجلد وضده قعد عن الأمر وتقاعد أو يؤدونها
عبر عن الأداء بالإقامة لاشتمالها على القيام كما عبر عنها بالقنوت والركوع والسجود والتسبيح والأول أظهر لأنه أشهر وإلى الحقيقة أقرب وأفيد لتضمنه التنبيه على أن الحقيق بالمدح من راعي حدودها الظاهرة من الفرائض والسنن وحقوقها الباطنة من الخشوع والإقبال بقلبه على الله تعالى لا { للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون } لذلك ذكر في سياق المدح والمقيمين الصلاة وفي معرض الذم فويل للمصلين والصلاة فعلة من صلى إذا دعا كالزكاة من زكى كتبتا بالواو على لفظ المفخم وإنما سمي الفعل المخصوص بها لاشتماله على الدعاء
وقيل : أصل صلى حرك الصلوين لأن المصلي يفعله في ركوعه وسجوده واشتهار هذا اللفظ في المعنى الثاني مع عدم اشتهاره في الأول لا يقدح في نقله عنه وإنما سمي الداعي مصليا تشبيها له في تخشعه بالراكع الساجد
{ ومما رزقناهم ينفقون } الرزق في اللغة : الحظ قال تعالى : { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } والعرف خصصه بتخصص الشئ بالحيوان للانتفاع به وتمكينه منه وأما المعتزلة لما استحالوا على الله تعالى أن يمكن من الحرام لأنه منع من الانتفاع به وأمر بالزجر عنه قالوا : الحرام ليس برزق ألا ترى أنه تعالى أسند الرزق ههنا إلى نفسه إيذانا بأنهم ينفقون الحلال المطلق فإن إنفاق الحرام لا يوجب المدح وذم المشركين على تحريم بعض ما رزقهم الله تعالى بقوله : { قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا } وأصحابنا جعلوا الإسناد للتعظيم والتحريض على الإنفاق والذم لتحريم ما لم يحرم واختصاص ما رزقناهم بالحلال للقرينة وتمسكوا لشمول الرزق له بقوله صلى الله عليه و سلم في حديث عمرو بن قرة : [ لقد رزقك الله طيبا فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله ] وبأنه لو لم يكن رزقا لم يكن المتغذي به طول عمره مرزوقا وليس كذلك لقوله تعالى : { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } وأنفق الشئ وأنفذه أخوان ولو استقريت الألفاظ وجدت كل ما فاؤه نون وعينه فاء دالا على معنى الذهاب والخروج والظاهر من هذا الإنفاق صرف المال في سبيل الخير من الفرض والنفل ومن فسره بالزكاة ذكر أفضل أنواعه والأصل فيه أو خصصه بها لاقترانه بما هو شقيقها وتقديم المفعول للاهتمام به وللمحافظة على رؤوس الآي وإدخال من التبعيضية عليه لمنع المكلف عن الإسراف المنهي عنه ويحتمل أن يراد به الإنفاق من جميع المعاون التي أتاهم الله من النعم الظاهرة والباطنة ويؤيده قوله عليه الصلاة و السلام : [ إن علما لا يقال به ككنز لا ينفق منه ] وإليه ذهب من قال : ومما خصصناهم به من أنوار المعرفة يفيضون

4 - { والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } هم مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه وأضرابه معطوفون على { الذين يؤمنون بالغيب } داخلون معهم في جملة المتقين دخول أخصين تحت أعم إذ المراد بأولئك الذين آمنوا عن شرك وإنكار وبهؤلاء مقابلوهم فكانت الآيتان تفصيلا { للمتقين } وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما أو على المتقين وكأنه قال { هدى للمتقين } عن الشرك والذين آمنوا من أهل الملل ويحتمل أن يراد الأولون بأعيانهم ووسط العاطف كما وسط في قوله :
( إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم )
وقوله :
( يا لهف ذؤابة للحارث الصـ ... ائح فالغانم فالآيب )
على معنى أنهم الجامعون بين الإيمان بما يدركه العقل جملة والإيمان بما يصدقه من العبادات البدنية والمالية وبين الإيمان بما لا طريق إليه عبر السمع وكرر الموصول تنبيها على تغاير القبيلين وتباين السبيلين أو طائفة منهم وهم مؤمنو أهل الكتاب ذكرهم مخصصين عن الجملة كذكر جبريل ومكائيل بعد الملائكة تعظيما لشأنهم وترغيبا لأمثالهم
والإنزال نقل الشئ من الأعلى إلى الأسفل وهو إنما يلحق المعاني بتوسط لحوقه الذوات الحاملة لها ولعل نزول الكتب الإلهية على الرسل بأن يلتقفه الملك من الله تعالى تلقفا روحانيا أو يحفظه من اللوح المحفوظ فينزل به فيبلغه إلى الرسول والمراد { بما أنزل إليك } القرآن بأسره والشريعة عن آخرها وإنما عبر عنه بلفظ الماضي وإن كان بعضه مترقبا تغليبا للموجود على ما لم يوجد أو تنزيلا للمنتظر منزلة الواقع ونظيره قوله تعالى : { إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى } فإن الجن لم يسمعوا جميعه ولم يكن الكتاب كله منزلا حينئذ وبما { أنزل من قبلك } التوراة والإنجيل وسائر الكتب السابقة والإيمان بها جملة فرض عين وبالأول دون الثاني تفصيلا من حيث إنا متعبدون بتفاصيله فرض ولكن على الكفاية لأن وجوبه على كل أحد يوجب الحرج وفساد المعاش
{ وبالآخرة هم يوقنون } أي يوقنون إيقافا زال معه ما كانوا من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى وأن النار لم تمسهم إلا أياما معدودة واختلافهم في نعيم الجنة : أهو من جنس نعيم الدنيا أو غيره ؟ وفي دوامة وانقطاعه وفي تقديم الصلة وبناء يوقنون على هم تريض لمن عداهم من أهل الكتاب وبأن اعتقادهم في أمر الآخرة غير مطابق ولا صادر عن إيقان واليقين : إتقان العلم بنفي الشك والشبهة عنه نظرا واستدلالا ولذلك لا يوصف به علم البارئ ولا العلوم الضرورية والآخرة تأنيث الآخر وصفة الدار بدليل قوله تعالى : { تلك الدار الآخرة } فغلبت كالدنيا وعن نافع أنه خففها بحذف الهمزة ألقاء حركتها على اللام وقرئ يوقنون بقلب الواو همزة لضم ما قبلها إجراء لها مجرى المضمومة في وجوه و وقتت و نظيره :
( لحب المؤقدان إلى موسى ... وجعدة إذ أضاءهما الوقود )
ا

5 - { أولئك على هدى من ربهم } الجملة في محل الرفع إن جعل أحد الموصولين مفصولا عن المتقين خبر له فكأنه لما قيل { هدى للمتقين } قيل ما بالهم خصوا بذلك ؟ فأجب بقوله : { الذين يؤمنون بالغيب } إلى آخر الآيات وإلا فاستئناف لا محل لها فكأنه نتيجة الأحكام والصفات أو جواب سائل قال : ما للموصوفين بهذه الصفات اختصوا بالهدى ؟ ونظيره أحسنت إلى زيد صديقك القديم بالإحسان فإن اسم الإشارة ههنا كإعادة الموصوف بصفاته المذكورة وهو أبلغ من أن يستأنف بإعادة الاسم وحده لما فيه من بيان المقتضى وتلخيصه فإن الحكم علىالوصف إيذان بأنه الموجب له ومعنى الاستعلاء في { على هدى } تمثيل تمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه بحال من اعتلى الشئ وركبه وقد صرحوا به في قولهم : امتطى الجهل وغوى واقتعد غارب الهوى وذلك إنما يحصل باستفراغ الفكر وإدامة النظر فيما نصب من الحجج والمواظبة على محاسبة النفس في العمل ونكر هدى للعظيم فكأنه أريد به ضرب لا يبالغ كنهه ولا يقادر قدرة ونظيره قول الهذلي :
( فلا وأبي الطير المربة بالضحى ... على خالد لقد وقعت على لحم )
وأكد تعظيمه بأن الله تعالى مانحه والموفق له وقد أدغمت النون في الراء بغنة وبغير غنة
{ وأولئك هم المفلحون } كرر فيه أسم الإشارة على أن اتصافهم بتلك الصفات يقتضي كل واحدة من الأثرتين وإن كاف في تمييزهم بها عن غيرهم ووسط العاطف لاختلاف مفهوم الجملتين ههنا بخلاف قوله { أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون } فأن التسجيل بالغفلة والتشبيه بالبهائم شئ واحد فكانت الجملة الثانية مقررة للأولى فلا تناسب العطف وهم : فصل الخبر عن الصفة ويؤكد النسبة ويفيد اختصاص المسند إليه أو مبتدأ والمفلحون خبره والجملة خبر أولئك والمفلح بالحاء والجيم : الفائز بالمطلوب كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر وهذا التركيب وما يشاركه في الفاء والعين نحو فلق وفلذ وفلي يدل على الشق والفتح وتعريب المفلحين للدلالة على أن المتقين هم الناس الذين بلغك أنهم المفلحون في الآخرة أو الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من حقيقة المفلحين وخصوصياتهم
تنبيه : تأمل كيف نبه سبحانه وتعالى على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله كل أحد من وجوه شتى وبناء الكلام على اسم الإشارة للتعليل مع الأيجاز وتكريره وتعريف الخبر وتوسيط الفصل لإظهار قدرهم والترغيب في اقتفاء أثرهم وقد تشبث به الوعيدية في خلود الفساق من أهل القبلة في العذاب ورد بأن المراد بالمفلحين الكاملون في الفلاح ويلزمه عدم كمال الفلاح لمن ليس على صفتهم لا عدم الفلاح له رأسا

6 - { إن الذين كفروا } لما ذكر خاصة عبادة وخلاصة أولياء بصفاتهم التي أهلتهم للهدى والفلاح عقبهم بأضدادهم العتاة المردة الذين لا ينفع فيهم الهدى ولا تغني عنهم الآيات والنذر ولم يعطف قصتهم على قصة المؤمنين كما عطف في قوله تعالى { إن الأبرار لفي نعيم * وإن الفجار لفي جحيم } لتباينهم في الغرض فإن الأولى سيقت لذكر الكتاب وبيان شأنه والأخرى مسوقة لشرح تمردهم وانهماكهم في الضلال و ( إن ) من الحروف التي تشابه الفعل في عدد الحروف والبناء على الفتح ولزوم الأسماء وإعطاء معانيه والمتعدي خاصة في دخولها على اسمين ولذلك أعلمت عمله الفرعي وهو نصب الجزء الأول ورفع الثاني إيذانا بأنه فرع في العمل دخيل فيه
وقال الكوفيين : الخبر قبل دخولها كان مرفوعا بالخبرية وهي بعد باقية مقتضية للرفع قضية للاستصحاب فلا يرفعه الحرف وأجيب بأن اقتضاء الخبرية الرفع مشروط بالتجرد لتخلفه عنها في خير كان وقد زال بدخولها فتعين أعمال الحرف وفأئدتها تأكيد النسبة وتحقيقها ولذلك يتلقى بها القسم ويصدر بها الأجوبة وتذكر في معرض الشك مثل قوله تعالى : { ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا * إنا مكنا له في الأرض } { وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين } قال المبرد ( قولك : عبدالله قائم إخبار عن قيامه وإن عبدالله قائم جواب سائل عن قيامه وإن عبدالله لقائم جواب منكر لقيامه ) وتعريف الموصول : إما للعهد والمراد به ناس بأعيانهم كأبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وأحبار اليهود أو للجنس متناولا من صمم على الكفر وغيرهم فخص منهم غير المصرين بما أسند إليه والكفر لغة : ستر النعمة وأصله الكفر بالفتح وهو الستر ومنه قيل للزارع ولليل كافر ولكمام الثمرة كافور وفي الشرع : إنكار ما علم بالضرورة مجيئ الرسول صلى الله عليه و سلم به وإنما عد لبس الغيار وشد الزنار ونحوهما كفرا لأنها تدل على التكذيب فإن من صدق الرسول صلى الله عليه و سلم لا يجترئ عليها ظاهرا لا أنها كفر في أنفسها
واحتجت المعتزلة بما جاء في القرآن بلفظ الماضي على حدوثه لاستدعائه سابقة المخبر عنه وأجيب بأنه مقتضى التعليق وحدوثه لا يستلزم حدوث الكلام كما في العلم
{ سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم } خبر إن وسواء اسم بمعنى الاستواء نعت به كما نعت بالمصادر قال الله تعالى : { تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } رفع بأنه خبر إن وما بعده مرتفع به على الفاعلية كأنه قيل : إن الذين كفروا مستوا عليهم إنذارك وعدمه أو بأنه خبر لما بعده بمعنى : إنذارك وعدمه سيان عليهم وبالفعل إنما يمتنع الإخبار عنه إذا أريد به تمام ما وضع له أما لو أطلق وأريد به اللفظ أو مطلق الحدث المدلول عليه ضمنا على الاتساع فهو كالاسم في الإضافة والإسناد إليه كقوله تعالى : { وإذا قيل لهم آمنوا } وقوله : { يوم ينفع الصادقين صدقهم } وقولهم : تسمع بالمعيدي خير من أن تراه
وإنما عدل ههنا عن المصدر إلى الفعل لما فيه من إيهام التجدد وحسن دخول الهمزة وأم عليه لتقرير معنى الاستواء وتأكيده فإنهما جردتا عن معنى الاستفهام لمجرد الاستواء كما جردت حروف النداء عن الطلب لمجرد التخصيص في قولهم : اللهم اغفر لنا أيتها العصابة
والإنذار : التخويف أريد به التخويف من عذاب الله وإنما اقتصر عليه دون البشارة لأنه أوقع في القلب وأشد تأثيرا في النفس من حيث دفع الضر أهم من جلب النفع فإذا لم ينفع فيهم كانت البشارة بعدم النفع أولى وقرئ { أأنذرتهم } بتحقيق الهمزتين وتخفيف الثانية بين بين وقلبها ألفا وهو لحن لأن المتحركة لا تقلب ولأنه يؤدي إلى جمع الساكنين على غير حده وبتوسط ألف بينهما محققتين وبتوسيطها والثانية بين بين وبحذف الاستفهامية وبحذفها وإلقاء حركتها على الساكن قبلها
{ لا يؤمنون } جملة مفسرة لإجمال ما قبلها فيما فيه الاستواء فلا محل لها أو حال مؤكدة أو بدل عنه أو خبر إن والجملة قبلها اعتراض بما هو علة الحكم
و الآية مما احتج به من جوز تكليف ما لا يطاق فإنه سبحانه وتعالى أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون وأمرهم بالإيمان فلو آمنوا انقلب خبره كذبا وشمل إيمانهم الإيمان بأنهم لا يؤمنون فيجتمع الضدان والحق أن التكليف بالمممتع لذاته وإن جاز عقلا من حيث إن الأحكام لا تستدعي غرضا سيما الامتثال لكنه غير واقع للاستقراء والإخبار بوقوع الشئ أة عدمه لا ينفي القدرة عليه كإخباره تعالى عما يفعله هو أو العبد باختياره وفائدة الإنذار بعد العلم بأنه لا ينجح إلزام الحجة وحيازة الرسول فضل الإبلاغ ولذلك قال { سواء عليهم } ولم يقل سواء عليك كما قال لعبدة الأصنام { سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون } وفي الآية إخبار بالغيب على ما هو به أن أريد بالموصول أشخاص بأعيانهم فهي من المعجزات

7 - { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة } تعليل للحكم السابق وبيان لما يقتضيه والختم الكتم سمي به الاستيثاق من الشئ يضرب الخاتم عليه لأنه كتم له والبلوغ آخره نظرا إلى أنه آخر فعل يفعل في إحرازه والغشاوة : فعالة من غشاء إذا غطاه بنيت لما يشتمل على الشئ كالعصابة والعمامة ولا تغشية على الحقيقة وإنما المراد بهما أن يحدث في نفوسهم هيئة تمرنهم على استحباب الكفر والمعاصي واستقباح الإيمان والطاعات بسبب غيهم وانهماكهم في التقليد وأعراضهم عن النظر الصحيح فتجعل قلوبهم بحيث لا ينفذ فيها وأسماعهم تعاف استماعه فتصير كأنها مستوثق منها بالختم وأبصارهم لا تجتلي الآيات المنصوبة لهم في الأنفس والآفاق كما تجتليها أعين المستبصرين فتصير كأنها غطي عليها وحيل بينها وبين الإبصار وسماه على الاستعارة ختما وتغشية أو مثل قلوبهم ومشاعرهم المؤوفة بها بأشياء ضرب حجاب بينها وبين الاستنفاع بها ختما وتغطية وقد عبر عن إحداث هذه الهيئة بالطبع في قوله تعالى : { أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم } وبالاغفال في قوله تعالى : { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا } وبالاقساء في قوله تعالى : { وجعلنا قلوبهم قاسية } وهي من حيث إن الممكنات بأسرها مستندا إلى الله تعالى واقعة بقدرته أسندت إليه ومن حيث إنها مسببة مما اقترفوه بدليل قوله تعالى : { بل طبع الله عليها بكفرهم } وقوله تعالى : { ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم } وردت الآية ناعية عليهم شناعة صفتهم ووخامة عاقبتهم واضطربت المعتزلة فيه فذكروا وجوها من التأويل :
الأول : أن القوم لما أعرضوا عن الحق وتمكن ذلك في قلوبهم حتى صار كالطبيعة لهم شبه بالوصف الخلقي المجبول عليه
الثاني : أن المراد به تمثيل حال قلوبهم بقلوب البهائم التي خلقها الله تعالى خالية عن الفطن أو قلوب مقدر ختم الله عليها ونظيره : سال به الوادي إذا هلك وطارت به العنقاء
الثالث : أن ذلك في الحقيقة فعل الشيطان أو الكافر لكن لما كان صدوره عنه بإقداره تعالى إياه أسند إليه إسناد الفعل إلى المسبب
الرابع : أن أعراقهم لما رسخت في الكفر واستحكمت بحيث لم يبق طريق إلى تحصيل إيمانهم سوى الإلجاء والقسر ثم لم يقسرهم إبقاء على غرض التكليف عبر عن تركه بالختم فإنه سد لإيمانهم وفيه إشعار على تمادي أمرهم في الغي وتناهي انهماكهم في الضلال والبغي
الخامس : أن يكون حكاية لما كان الكفرة يقولون مثل : { قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب } تهكما واستهزاء بهم [ و ] كقوله تعالى : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين }
السادس : أن ذلك في الآخرة وإنما أخبر عنه بالماضي لتحققه وتيقن وقوعه ويشهد له قوله تعالى : { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما }
السابع : أن المراد بالختم وسم قلوبهم بسمة تعرفها الملائكة فيبغضونهم وينفرون عنهم وعلى هذا المنهاج كلامنا وكلامهم فيما يضاف إلى الله تعالى من طبع وإضلال ونحوهما
و { على سمعهم } معطوف على قلوبهم لقوله تعالى : { وختم على سمعه وقلبه } وللوفاق على الوقف عليه ولأنهما لما اشتركا في الإدراك من جميع الجوانب جعل ما يمنعهما من خاص فعلهما الختم الذي يمنع من جميع الجهات وإدراك الأبصار لما اختص بجهة المقابلة جعل المانع لها عن فعلها الغشاوة المختصة بتلك الجهة وكرر الجار ليكون أدل على شدة الختم في الموضعين و استقلال كل منهما بالحكم ووحد السمع للأمن من اللبس واعتبار الأصل فإنه مصدر في أصله والمصادر لا تجمع أو على تقدير مضاف مثل وعلى حواس سمعهم
والأبصار جمع بصر وهو : إدراك العين وقد يطلق مجازا على القوة الباصرة وعلى العضو وكذا السمع ولعل المراد بهما في الآ ية العضو لأنه أشد مناسبة للختم والتغطية وبالقلب ما هو محل العلم وقد يطلق ويراد به العقل والمعرفة كما قال تعالى : { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب } وإنما جاز إمالتها مع الصاد لأن الراء المكسورة تغلب المستعلية لما فيها من التكرير وغشاوة رفع بالابتداء عند سيبويه وبالجار والمجرور عند الأخفش ويؤيد العطف على الجملة الفعلية وقرئ بالنصب على تقدير وجعل على أبصارهم غشاوة أو على حذف الجار وإيصال الختم بنفسه إليه والمعنى وختم على أبصارهم بغشاوة وقرئ بالضم والرفع وبالفتح والنصب وهما لغتان فيها وغشوة بالكسر مرفوعة وبالفتح مرفوعة ومنصوبة وعشاوة بالعين الغير المعجمة
{ ولهم عذاب عظيم } وعيد وبيان لما يستحقونه والعذاب كالنكال بناء ومعنى تقول : عذب عن الشئ ونكل عنه إذا أمسك ومنه الماء لأنه يقمع العطش ويردعه ولذلك سمي نقاخا وفراتا ثم اتسع فأطلق على كل قادح وإن لم يكن نكالا أي : عقابا يردع الجاني عن المعاودة فهو أعم منهما وقيل أشتقاقه من التعذيب الذي هو إزالة العذب كالتقذية والتمريض والعظيم نقيض الحقير والكبير نقيض الصغير فكما أن الحقير دون الصغير فالعظيم فوق الكبير ومعنى التوصيف به إنه إذا قيس بسائر ما يجانسه قصر عنه جميعه وحقر بالإضافة إليه ومعنى التنكير في الآية أن على أبصارهم نوع غشاوة ليس مما يتعارفه الناس وهو التعامي عن الآيات ولهم من الآلام العظام لا يعلم كنهه إلا الله

8 - { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر } لما افتتح سبحانه وتعالى بشرح حال الكتاب وساق لبيانه ذكر المؤمنين الذين أخلصوا دينهم لله تعالى وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم وثنى بأضدادهم الذين محضوا ظاهرا وباطنا ولم يلتفتوا لفتة رأسا ثلث بالقسم الثالث المذبذب بين القسمين وهم الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم تكميلا للقسم وهم أخبث وأبغضهم إلى الله لأنهم الكفر وخلصوا به خداعا واستهزاء ولذلك طول في بيان خبثهم وجعلهم واستهزأ بهم وتهكم بأفعالهم وسجل على عمههم وطغيانهم وضرب لهم الأمثال وأنزل فيهم { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } وقصتهم عن آخرها معطوفة على قصة المصريين
والناس أصله أناس لقولهم : إنسان وأنس وأناسي فحذفت الهمزة حذفها في لوقة وعوض عنها حرف التعريف ولذلك لا يكاد يجمع بينهما وقوله :
( إن المنايا يطلعن على الإناس الآمنينا )
شاذ وهو اسم جمع كرجال إذ لم يثبت في أبنية الجمع مأخوذ من أنس لأنهم يستأنسون بأمثالهم أو آنس لأنهم ظاهرون مبصرون ولذلك سموا بشرا كنا سمي الجن جنا لاجتنابهم واللام فيه للجنس ومن موصولة إذ لا عهد فكأنه قال : ومن الناس ناس يقولون أو للعهد والمعهود : هم الذين كفروا ومن موصولة مراد بها ابن أبي وأصحابه ونظراؤه فإنهم من حيث إنهم صمموا على النفاق دخلوا في عداد الكفار المختوم على قلوبهم واختصاصهم بزيادات زادوها على الكفر لا يأبى دخولهم تحت هذا الجنس فإن الأجناس إنما تتنوع بزيادات يختلف فيها أبعاضها فعلى هذا تكون الآية تقسيما للقسم الثاني
واختصاص الإيمان بالله وباليوم الآخر بالذكر تخصيص لما هو المقصود الأعظم من الإيمان وادعاء بأنهم اجتازوا الإيمان من جانبيه وأحاطوا بقطريه وإيذان بأنهم منافقون فيما يظنون أنهم مخلصون فيه فكيف بما يقصدون به النفاق لأن القوم كانوا يهودا وكانوا يؤمنون بالله وباليوم الآخر إيمانا كلا إيمان لاعتقادهم التشبيه واتخاذ الولد وإن الجنة لا يدخلها غيرهم وأن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة وغيرها ويرون المؤمنين أنهم آمنوا مثل إيمانهم وبيان لتضاعف خبثهم وإفراطهم في كفرهم لأن ما قالوه لو صدر عنهم لا على وجه الخداع والنفاق وعقيدتهم لم يكن إيمانا فكيف وقد قالوه تمويها على المسلمين وتهكما بهم وفي تكرار الباء ادعاء الإيمان بكل واحد على الأصالة والاستحكام
والقول هو التلفظ بما يفيد ويقال بمعنى المقول وللمعنى المتصور في النفس المعبر عنه باللفظ وللرأي والمذهب مجازا والمراد باليوم الآخر من وقت الحشر إلى ما لا ينتهي أو إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار لأنه آخر الأوقات المحدودة
{ وما هم بمؤمنين } إنكار ما ادعوه ونفي ما انتحلوا إثباته وكان أصله وما آمنوا ليطابق قولهم في التصريح بشأن الفعل دون الفاعل لكنه عكس تأكيدا أو مبالغة في التكذيب لأن إخراج ذواتهم من عداد المؤمنين أبلغ من نفي الإيمان عنهم في ماضي الزمان ولذلك أكد النفي بالباء وأطلق الإيمان على معنى أنهم ليسوا من الإيمان في شئ ويحتمل أن يقيد بما قيدوا به لأنه جوابه
والآية تدل على أن من ادعى الإيمان وخالف قلبه لسانه بالاعتقاد لم يكن مؤمنا لأن من تفوه بالشهادتين فارغ القلب عما يوافقه أو ينافيه لم يكن مؤمنا والخلاف مع الكراهية في الثاني فلا ينهض حجة عليهم

9 - { يخادعون الله والذين آمنوا } الخدع أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه من المكروه لتنزله عما هو فيه وعما هو بصدده من قولهم : خدع الضب إذ توارى في جحره وضب خادع وخدع إذا أوهم الحارس إقباله عليه ثم خرج من باب آخر وأصله الإخفاء ومنه المخدع للخزانة والأخدعان لعرقين خفيين في العنق والمخادعة تكون بين اثنين وخداعهم مع الله ليس على ظاهره لأنه لا تخفى عليه خافية ولأنهم لم يقصدوا خديعة بل المراد إما مخادعة رسوله على حذف المضاف أو على أن معاملة الرسول معاملة الله من حيث إنه خليفته كما قال تعالى : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } وإما أن صورة صنيعهم مع الله تعالى من إظهار الإيمان واستبطان الكفر وصنع الله معهم بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده أخبث الكفار وأهل الدرك الأسفل من النار استدراجا وامتثال الرسول صلى الله عليه و سلم والمؤمنين أمر الله في إخفاء حالهم وإجراء حكم الإسلام عليهم مجازاة لهم بمثل صنيعهم صورة المتخادعين ويحتمل أن يراد ب { يخادعون } يخدعون لأنه بيان ليقول أو مجازاة لهم بمثل صنيعهم صورة صنيع المخادعين ويحتمل أن يراد ب { يخادعون } يخدعون لأنه بيان ليقول أو استئناف بذكر ما هو الغرض منه إلا أنه أخرج في زنة فاعل للمبالغة فإن الزنة لما كانت للمبالغة والفعل متى غولب فيه كان أبلغ منه إذا جاء بلا مقابلة معارض ومبار استصحبت ذلك ويعضده قراءة من قرأ { يخدعون } وكان غرضهم في ذلك أن يدفعوا عن أنفسهم ما يطرق به من سواهم من الكفرة وأن يفعل بهم ما يفعل بالمؤمنين من الإكرام والإعطاء وأن يختلطوا بالمسلمين فيطلعوا على أسرارهم ويذيعوها إلى منابذيهم إلى غير ذلك من الأغراض والمقاصد
{ وما يخدعون إلا أنفسهم } قراءة نافع و ابن كثير و وأبي عمرو والمعنى : أن دائرة الخداع راجعة إليهم وضررها يحيق بهم أو أنهم في ذلك خدعوا أنفسهم لما غروها بذلك وخدعتهم أنفسهم حيث حدثتهم بالأماني الفارغة وحملتهم على مخادعة من لا تخفى عليه خافية
وقرأ الباقون { وما يخدعون } لأن المخادعة لا تتصور إلا بين اثنين وقرئ و { يخدعون } من خدع و { يخدعون } بمعنى يختدعون و { يخدعون } و { يخادعون } على البناء للمفعول ونصب أنفسهم بنزع الخافض والنفس ذات الشئ وحقيقته ثم قيل للروح لأن نفس الحي به وللقلب لأنه محل الروح أو متعلقه وللدم لأن قوامها به وللماء لفرط حاجتها إليه وللرأي في قولهم فلان يؤامر نفسه لأنه ينبعث عنها أو يشبه ذاتا تأمر وتشير عليه والمراد ههنا ذواتهم ويحتمل حملها على أرواحهم وآرائهم
{ وما يشعرون } لا يسون لذلك لتمادي غفلتهم جعل لحوق وبال الخداع ورجوع ضرره إليهم في الظهور كالمحسوس الذي لا يخفى إلا على مؤوف الحواس والشعور : الإحساس ومشاعر الإنسان حواسه وأصله الشعر ومنه الشعار

10 - { في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا } المرض حقيقة فيما يعرض للبدن فيخرجه عن الاعتدال الخاص به ويوجب الخلل في أفعاله ومجاز في الأعراض النفسانية التي تخل بكمالها كالجهل وسوء العقيدة والحسد والضغينة وحب المعاصي لأنها مانعة من نيل الفضائل أو مؤدية إلى زوال الحياة الحقيقية الأبدية والآية الكريمة تحتلهما فإن قلوبهم كانت متألمة تحرفا على ما فات عنهم من الرياسة وحسدا على ما يرون من ثبات أمر الرسول صلى الله عليه و سلم واستعلاء شأنه يوما فيوما وزاد الله غمهم بما زاد في إعلاء أمر وإشادة ذكره ونفوسهم كانت موصوفة بالكفر وسوء الاعتقاد ومعاداة النبي صلى الله عليه و سلم ونحوها فزاد الله سبحانه وتعالى ذلك بالطبع أو بازدياد التكاليف وتكرير الوحي وتضاعف النصر وكان إسناد الزيادة إلى الله تعالى من حيث إنه مسبب من فعله وإسنادها إلى السورة في قوله تعالى { فزادتهم رجسا } لكونها سببا
ويحتمل أن يراد بالمرض ما تداخل قلوبهم من الجبن والخور حين شاهدوا شوكه المسلمين وإمداد الله تعالى لهم بالملائكة وقذف الرعب في قلوبهم وبزيادته تضعيفه بما زاد لرسول الله صلى الله عليه و سلم نصرة على الأعداء وتبسيطا في البلاد
{ ولهم عذاب أليم } أي : ألم فهو أليم كوجع فهو وجيع وصف به العذاب للمبالغة كقوله :
( تحية بينهم ضرب وجيع )
على طريقة قولهم : جد جده
{ بما كانوا يكذبون } قرأها عاصم و حمزة و الكسائي والمعنى بسبب كذبهم أو ببدله جزاء لهم وهو قولهم آمنا وقرأ الباقون { يكذبون } من كذبه لأنهم كانوا يكذبون الرسول عليه الصلاة و السلام بقلوبهم وإذا خلوا إلى شياطينهم أو من كذب الذي هو للمبالغة أو للتكثير مثل بين الشئ وموتت البهائم أو من كذب الوحشي إذا جرى شوطا وقف لينظر ما وراءه فإن المنافق متحير متردد والكذب : هو الخبر عن الشئ على خلاف ما هو به وهو حرام كله لأنه علل به استحقاق العذاب حيث رتب عليه وما روي أن إبراهيم عليه الصلاة و السلام كذب ثلاثة كذبات فالمراد التعريض ولكن لما شابه الكذب في صورته سمي به

11 - { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض } عطف على { يكذبون } أو { يقول } وما روي عن سلمان رضي الله عنه أن أهل هذه الآية لم يأتوا بعد فلعله أراد به أن أهلها ليس الذين كانوا فقط بل وسيكون من بعد من حاله حالهم لأن الآية متصلة بما قبلها بالضمير الذي فيها والفساد : خروج الشئ عن الاعتدال والصلاح ضده وكلاهما يعمان كل ضار ونافع
وكان من فسادهم في الأرض هيج الحروب والفتن بمخادعة المسلمين وممالأة الكفار عليهم بإفشاء الأسرار إليهم فإن ذلك يؤدي إلى فساد ما في الأرض من الناس والدواب والحرث
ومنه إظهار المعاصي والإهانة بالدين فإن الإخلال بالشرائع والإعراض عنها مما يوجب الهرج والمرج ويخل بنظام العالم والقائل هو الله تعالى أو الرسول صلى الله عليه و سلم أو بعض المؤمنين وقرأ الكسائي و هشام ( قيل ) بإشمام الضم الأول
{ قالوا إنما نحن مصلحون } جواب ل { إذا } رد للناصح على سبيل المبالغة والمعنى أنه لا يصح مخاطبتنا بذلك فإن شأننا ليس إلا الإصلاح وإن حالنا متمحضة عن شوائب الفساد لأن إنما تفيد قصر ما دخلت عليه على ما بعده مثل : إنما زيد منطلق وإنما ينطلق زيد وإنما قالوا ذلك : لأنهم تصوروا الفساد بصورة الصلاح لما في قلوبهم من المرض كما قال الله تعالى : { أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا }

12 - { ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون } رد لما ادعوه أبلغ رد للاستئناف به وتصديره بحرفي التأكيد : ( ألا ) المنبهة على تحقيق ما بعدها فأن همزة الاستفهام التي للإنكار إذا دخلت على النفي أفادت تحقيقا ونظيره { أليس ذلك بقادر } ولذلك لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بما يلتقي به القسم وأختها إما التي هي من طلائع القسم : وإن المقررة للنسبة وتعريف الخبر وتوسيط الفصل لرد ما في قولهم { إنما نحن مصلحون } من التعريض للمؤمنين والاستدراك ب { لا يشعرون }

13 - { وإذا قيل لهم آمنوا } من تمام النصح والإرشاد فإن كمال الإيمان بمجموع الأمرين : الإعراض عما لا ينبغي وهو المقصود بقوله : { لا تفسدوا } والإتيان بما ينبغي وهو المطلوب بقوله : { آمنوا }
{ كما آمن الناس } في النصب على المصدر وما مصدرية أو كافة مثلها في ربما واللام في الناس للجنس والمراد به الكاملون في الإنسانية العاملون بقضية العقل فإن اسم الجنس كما يستعمل لمسماه مطلقا يستعمل لما يستجمع المعاني المخصوصة به والمقصودة منه ولذلك يسلب عن غيره فيقال : زيد ليس بإنسان ومن هذا الباب قوله تعالى : { صم بكم عمي } ونحوه وقد جمعهما الشاعر في قوله :
( إذ الناس ناس والزمان زمان )
أو للعهد والمراد به الرسول صلى الله عليه و سلم ومن معه أو من آمن من أهل جلدتهم كابن سلام وأصحابه والمعنى آمنوا إيمانا مقرونا بالإخلاص متمحضا عن شوائب النفاق مماثلا لإيمانهم واستدل به على قبول توبة الزنديق وأن الإقرار باللسان إيمان وإن لم يفد التقييد
{ قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء } الهمزة فيه للإنكار واللام مشار بها إلى الناس أو الجنس بأسره وهم مندرجون فيه على زعمهم وإنما سفهوهم لاعتقادهم فساد رأيهم أو لتحقير شأنهم فإن أكثر المؤمنين كانوا فقراء ومنهم موالي : كصهيب وبلال أو للتجلد وعدم المبالاة بمن آمن منهم إن فسر الناس بعبد الله بن سلام وأشياعه والسفه : خفة وسخافة رأي يقتضيهما نقصان العقل والحلم يقابله
{ ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون } رد ومبالغة في تجهيلهم فإن الجاهل بجهله الجازم على خلاف ما هو الواقع أعظم ضلاله وأتم جهالة من المتوقف المعترف بجهله فإنه ربما يعذر وتنفعه الآيات والنذر وإنما فصلت الآية ب { لا يعلمون } والتي قبلها ب { لا يشعرون } لأنه أكثر طباقا لذكر السفه ولأن الوقوف على أمر الدين والتمييز بين الحق والباطل مما يفتقر إلى نظر وفكر وإما النفاق وما فيه من الفتن والفساد فإنما يدرك بأدنى تفطن وتأمل فيما يشاهد من أقوالهم وأفعالهم

14 - { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا } بيان لمعاملتهم المؤمنين والكفار وما صدرت به القصة فمساقه لبيان مذهبهم وتمهيد نفاقهم فليس بتكرير روي أن ابن أبي وأصحابه استقبلهم نفر من الصحابة فقال لقومه : انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم فأخذ بيد أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال : مرحبا بالصديق سيد بني تيم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله صلى الله عليه و سلم في الغار الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه و سلم ثم أخذ بيد عمر رضي الله عنه فقال : مرحبا بسيد الله عدي الفاروق القوي في دينه الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه و سلم ثم أخذ بيد علي رضي الله عنه فقال : مرحبا بابن عم رسول الله صلى الله عليه و سلم وختنه سيد بني هاشم ما خلا رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت واللقاء المصادفة يقال لقيته إذا صادفته واستقبلته ومنه ألقيته إذا طرحته فإنك بطرحه جعلته بحيث يلقى
{ وإذا خلوا إلى شياطينهم } من خلوت بفلان وإليه انفردت معه أو من خلال ذم أي عداك ومضى عنك ومنه القرون الخالية أو من خلوت به إذا سخرت منه وعدي بإلى لتضمن معنى الإنهاء والمراد بشياطينهم الذين ماثلوا الشيطان في تمردهم وهم المظهرون كفرهم وإضافتهم إليهم للمشاركة في الكفر أو كبار المنافقين والقائلون صغارهم وجعل سيبويه نونا تارة أصلية على أنه من شطن إذا بعد عن الصلاح ويشهد له قولهم : تشيطن وأخرى زائدة على أنه من شاط إذا بطل ومن أسمائه الباطل
{ قالوا إنا معكم } أي في الدين والاعتقاد خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية والشياطين بالجملة الإسمية المؤكدة بإن لأنهم قصدوا بالأولى دعوى إحداث الإيمان وبالثانية تحقيق ثباتهم على ما كانوا عليه ولأنه لم يكن لهم باعث من عقيدة وصدق رغبة فيما خاطبوا به المؤمنين ولا توقع رواج ادعاء الكمال في الأيمان على المؤمنين من المهاجرين والأنصار بخلاف ما قالوه مع الكفار
{ إنما نحن مستهزئون } تأكيد لما قبله لأن المستهزئ بالشئ المستخف به مصر على خلافه أو بدل منه لأن من حقر الإسلام فقد عظم الكفر أو استئناف فكأن الشياطين قالوا لهم لما ( قالوا إنا معكم ) إن صح ذلك فما بالكم توافقون المؤمنين وتدعون الإيمان فأجابوا بذلك والاستهزاء السخرية والاستخفاف يقال : هزئت واستهزأت بمعنى كأجبت واستجبت وأصله الخفة من الهزء وهو القتل السريع يقال : هزأ فلان إذا مات على مكانه وناقته تهزأ به أي تسرع وتخف

15 - { الله يستهزئ بهم } يجازهم على استهزائهم سمي جزاء الاستهزاء باسمه كما سمي جزاء السيئة سيئة إما لمقابلة اللفظ باللفظ أو لكونه مماثلا له في القدر أو يرجع وبال الاستهزاء عليهم فيكون كالمستهزئ بهم أو ينزل بهم الحقارة والهوان الذي هو لازم الاستهزاء أو الغرض منه أو يعاملهم معاملة المستهزئ : أما في الدنيا فبإجراء أحكام المسلمين عليهم واستدراجهم بالإمهال والزيادة في النعمة على التمادي في الطغيان وأما في الآخرة : فبأن يفتح لهم وهم في النار بابا إلى الجنة فيسرعون نحوه فإذا صاروا إليه سد عليهم الباب وذلك قوله تعالى : { فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون } وإنما استؤنف به ولم يعطف ليدل على أن الله تعالى تولى مجازاتهم ولم يحوج المؤمنين إلى أن يعارضوهم وأن استهزاءهم لا يؤبه به في مقابلة ما يفعل الله تعالى بهم ولعله لم يقل : الله مستهزئ بهم ليطابق قولهم إيماء بأن الاستهزاء يحدث حالا فحالا ويتجدد حينا بعد حين وهكذا كانت نكايات الله فيهم كما قال تعالى { أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين }
{ ويمدهم في طغيانهم يعمهون } من مد الجيش وأمده إذا زاد وقواه ومنه مددت السراج والأرض إذا استصلحتهما بالزيت والسماد لا من المد في العمر فإنه يعدى باللام كأملى له ويدل عليه قراءة ابن كثير ( ويمدهم ) والمعتزلة لما تعذر عليهم إجراء الكلام على ظاهره قالوا : لما منعهم الله تعالى ألطافة التي يمنحها المؤمنين وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم وسدهم طرق التوفيق على أنفسهم فتزايدت بسببه قلوبهم رينا وظلمة تزايد قلوب المؤمنين انشراحا ونورا وأمكن الشيطان من إغوائهم فزادهم طغيانا أسند ذلك إلى الله تعالى إسناد الفعل إلى المسبب مجازا وأضاف الطغيان إليهم لئلا يتوهم أن إسناد الفعل إليه على الحقيقة ومصدق ذلك أنه لما أسند المد إلى الشياطين أطلق الغي وقال { وإخوانهم يمدونهم في الغي } أو أصله يمد لهم بمعنى يملي لهم ويمد في أعمارهم كي يتنبهوا ويطيعوا فما زادوا إلا طغيانا وعمها فحذفت اللام وعدى الفعل بنفسه كما في قوله تعالى : { واختار موسى قومه } أو التقدير يمدهم استصلاحا وهم مع ذلك يعمهون في الكفر والطغيان بالضم والكسر كلقيان والطغيان : تجاوز الحد في العتو والغلو في الكفر وأصله تجاوز الشئ عن مكانه قال تعالى : { إنا لما طغى الماء حملناكم } والعمه في البصيرة كالعمى في البصر وهو : التحير في الأمر يقال رجل عامه وعمه ' وأرض عمهاء لا منار بها قال :
( أعمى الهدى بالجاهلين العمه )

16 - { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } اختاروها عليه واستبدلوها به وأصله بذل الثمن لتحصيل ما يطلب من الأعيان فإن كان أحد العوضين ناضا تعين من حيث إنه لا يطلب لعينه أن يكون ثمنا وبذله اشتراء وإلا فأي العوضين تصورته بصورة الثمن فباذله مشتر وآخذ بائع ولذلك عدت الكلمتان من الأضداد ثم استعير للإعراض عما في يده محصلا به غيره سواء كان من المعاني أو الأعيان ومنه قول الشاعر :
( أخذت بالجملة رأسا أزعرا ... وبالثنايا الواضحات الدردرا )
( وبالطويل العمر عمرأ جيذرا ... كما اشترى المسلم إذ تنصرا )
ثم اتسع فيه فاستعمل للرغبة عن الشئ طمعا في غيره والمعنى أنهم أخلوا بالهدى الذي جعله الله لهم بالفطرة التي فطر الناس عليها محصلين الضلالة التي ذهبوا إليها أو اختاروا الضلالة واستحبوها على الهدى
{ فما ربحت تجارتهم } ترشيح للمجاز لما استعمل الاشتراه في معاملتهم أتبعه ما يشاكله تمثيلا لخسارتهم ونحوه :
( ولما رأيت النسر عز بن دأبة ... وعشش في وكريه جاش له صدري )
والتجارة : طلب الربح بالبيع والشراء والربح : الفضل على رأس المال ولذلك سمي شفا وإسناده إلى التجارة وهو لأربابها على الاتساع لتلبسها بالفاعل أو لمشابهتها إياه من حيث إنها سبب الربح والخسران
{ وما كانوا مهتدين } لطرق التجارة فإن المقصود منها سلامة رأس المال والربح وهولاء قد أضاعوا الطلبتين لأن رأس مالهم كان الفطرة السليمة والعقل الصرف فلما اعتقدوا هذه الضلالات بطل استعدادهم واختل عقلهم ولم يبق لهم رأس مال يتوسلون به إلى درك الحق ونيل الكمال فبقوا خاسرين آيسين من الربح فاقدين للأصل

17 - { مثلهم كمثل الذي استوقد نارا } لما جاء بحقيقة حالهم عقبها يضرب المثل زيادة في التوضيح والتقرير فإنه أوقع في القلب وأقمع للخصم الألد ولأنه يريك المتخيل محققا والمعقول محسوسا والأمر ما أكثر الله في كتبه الأمثال وفشت في كلام الأنبياء والحكماء والمثل في الأصل بمعنى النظير يقال : مثل ومثل ومثيل كشبه وشبه وشبيه ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده ولا يضرب إلا ما فيه غرابة ولذلك حوفظ عليه من التغيير ثم استعير لكل حال أو قصة أو صفة لها شأن وفيها غرابة مثل قوله تعالى : { مثل الجنة التي وعد المتقون } وقوله تعالى : { ولله المثل الأعلى }
والمعنى حالهم العجيبة الشأن كحال من استوقد نارا والذي : بمعنى الذين كما في قوله تعالى : { وخضتم كالذي خاضوا } إن جعل مرجع الضمير في بنورهم وإنما جاز ذلك ولم يجز وضع القائم موضع القائمين لأنه غير مقصود بالوصف بل الجملة التي هي صلته وهو وصلة إلى وصف المعرفة بها لأنه ليس باسم تام بل هو كالجزء منه فحقه أنه لا يجمع كما لا نجمع أخواتها ويستوي فيه الواحد والجمع وليس الذين جمعه المصحح بل ذو زيادة زيدت لزيادة المعنى ولذلك جاء بالياء أبدا على اللغة الفصيحة التي عليها التنزيل ولكونه مستطالا بصلته استحق التخفيف ولذلك بولغ فيه فحذف ياؤه ثم كسرته ثم اقتصر على اللام في أسماء الفاعلين والمفعولين أو قصد به جنس المستوقدين أو الفوج الذي استوقد والاستيقاد : طلب الوقود والسعي في تحصيله وهو سطوع النار وارتفاع لهبها واشتقاق النار من : نار ينور نورا إذا نفر لأن فيها حركة واضطرابا
{ فلما أضاءت ما حوله } أي : النار ما حول المستوقد إن جعلتها متعدية وإلا أمكن أن تكون مسندة إلى ما والتأنيث لأن ما حوله أشياء وأماكن أو إلى ضمير النار وما : موصولة في معنى الأمكنة نصب على الظرف أو مزيدة وحوله ظرف وتأليف الحول للدوران وقيل للعام لأنه يدور
{ ذهب الله بنورهم } جواب لما والضمير للذي وجمعه للحمل على المعنى وعلى هذا نما قال : { بنورهم } ولم يقل : بنارهم لأنه المراد من أيقادها أو استئناف أجيب به اعتراض سابق يقول : ما بالهم شبهت حالهم بحال مستوقد انطفأت ناره ؟ أو بدل من جملة التمثيل على سبيل البيان والضمير على الوجهين للمنافقين والجواب محذوف كما في قوله تعالى : { فلما ذهبوا به } للإيجاز وأمن الالتباس واسند الذهاب إلى الله تعالى أما لأن الكل بفعله أو لأن الإطغاء حصل بسبب خفي أو أمر سماوي كريح أو مطر أو للمبالغة ولذلك عدي الفعل بالباء دون الهمزة لما فيها من معنى الاستصحاب والاستمساك يقال : ذهب السلطان بماله إذا أخذه وما أخذه الله وأمسكه فلا مرسل له ولذلك عدل عن الضوء الذي هو مقتضى اللفظ إلى النور فإنه لو قيل : ذهب الله بضوئهم احتمل ذهابا بما في الضوء من الزيادة وبقاء ما يسمى نورا والغرض إزالة النور عنهم رأسا ألا ترى كيف قرر ذلك وأكده بقوله { وتركهم في ظلمات لا يبصرون } فذكر الظلمة التي هي عدم النور وانطماسه بالكلية وجمعها ونكرها ووصفها بأنها ظلمة خالصة لا يتراءى فيها شبحان وترك الأصل بمعنى طرح وخلى وله مفعول واحد فضمن معنى صير فجرى مجرى أفعال القلوب كقوله تعالى : { وتركهم في ظلمات }
وقول الشاعر :
( فتركته جزر السباع ينشنه ... يقضمن حسن بنانه والمعصم )
والظلمة مأخوذة من قولهم : ما ظلمك أن تفعل كذا أي ما منعك لأنها تسد البصر وتمنع الرؤية وظلماتهم : ظلمة الكفر وظلمة النفاق وظلمة يوم القيامة { يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم } أو ظلمة الضلال وظلمة سخط الله وظلمة العقاب السرمدي أو ظلمة شديدة كأنها ظلمة متراكمة ومفعول { لا يبصرون } من قبيل المطروح المتروك فكأن الفعل غير متعد
والآية مثل ضربه الله لمن آتاه ضربا من الهدى فأضاعه ولم يتوصل به إلى نعيم الأبد فبقي متحيرا متحسرا تقريرا وتوضيحا لما تضمنته الآية الأولى ويدخل تحت عمومه هؤلاء المنافقون فأنهم أضاعوا ما نطقت به ألسنتهم هم من الحق باستبطان الكفر وإظهاره حين خلوا إلى شياطينهم ومن آثر الضلالة على الهدى المجهول له بالفطرة أو ارتد عن دينه بعدما آمن ومن صح له أحوال الإرادة فادعى أحوال المحبة فأذهب الله عنه ما أشرق عليه من أنوار الإرادة أو مثل لإيمانهم من حيث إنه يعود عليهم يحقن الدماء وسلامة الأموال والأولاد ومشاركة المسلمين في المغانم والأحكام بالنار الموقدة للاستضاءة ولذهاب أثره وانطماس نوره بإهلاكهم وإفشاء حالهم بإطفاء الله تعالى إياها وإذهاب نورها

18 - { صم بكم عمي } لما سدوا مسامعهم عن الإصاخة إلى الحق وأبوا أن ينطقوا به ألسنتهم ويتبصروا الآيات بأبصارهم جعلوا كأنما أيفت مشاعرهم وانتفت قواهم كقوله :
( صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا )
وكقوله :
( أصم عن الشئ الذي لا أريده ... وأسمع خلق الله حين أريد )
وإطلاقها عليهم على طريقة التمثيل لا الاستعارة إذ من شرطها أن يطوي ذكر المستعار له بحيث يمكن حمل الكلام على المستعار منه لولا القرينة كقول زهير :
( لدى أسد شاكي السلاح مقذف ... له لبد أظفاره لم تقلم )
ومن ثم ترى المفلقين السحرة يضربون عن توهم التشبيه صفحا كما قال أبو تمام الطائي :
( ويصعد حتى يظن الجهول ... بأن له حاجة في السماء )
وههنا وإن طوى ذكره بحذف المبتدأ لكنه في حكم المنطوي به ونظيره :
( أسد علي وفي الحروب نعامة ... فتخاء تنفر من صفير الصافر )
هذا إذا جعلت للمنافقين على أن الآية فذلكة التمثيل ونتيجته وإن جعلته للمستوقدين فهي على حقيقتها والمعنى : أنهم لما أوقدوا نارا فذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات هائلة أدهشتهم بحيث اختلت حواسهم وانتقصت قواهم وثلاثتها قرئت بالنصب على الحال من المفعول تركهم والصمم : أصله صلابة من اكتناز الأجزاء ومنه قيل حجر أصم وقناة صماء وصمام القارورة وسمي به فقدان حاسة السمع لأن سببه أن يكون باطن الصماخ مكتنزا لا تجويف فيه فيشتمل على هواء يسمع الصوت بتموجه والبكم الخرس والعمى : عدم البصر عما من شأنه أن يبصر وقد يقال لعدم البصيرة
{ فهم لا يرجعون } لا يعودون إلى الهدى الذي باعوه وضيعوه : أو عن الضلالة التي اشتروها أو فهم متحيرون لا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون وإلى حيث ابتدؤوا منه كيف يرجعون الفاء للدلالة على أن اتصافهم بالأحكام السابقة سبب لتحيرهم واحتباسهم

19 - { أو كصيب من السماء } عطف على الذي استوقد أي : كمثل ذوي صيب لقوله : { يجعلون أصابعهم في آذانهم } و { أو } في الأصل للتساوي في الشك ثم اتسع فيها فأطلقت للتساوي من غير شك مثل : جالس الحسن أو ابن سيرين وقوله تعالى : { ولا تطع منهم آثما أو كفورا } فإنها تفيد التساوي في حسن المجالسة ووجوب العصيان ومن ذلك قوله : { أو كصيب } ومعناه أن قصة المنافقين مشبهة بهاتين القصتين وأنهما سواء في صحة التشبيه بهما وأنت مخير في التمثيل بهما أو بأيهما شئت والصيب : فيعل من الصوب وهو النزول يقال للمطر وللسحاب قال الشماخ :
( وأسحم دان صادق الرعد صيب )
وفي الآية يحتملهما وتنكيره لأنه أريد به نوع من المطر شديد وتعريف السماء للدلالة على أن الغمام مطبق آخذ بآفاق السماء كلها فإن كل منها يسمى سماء كما أن كل طبقة منها سماء وقال :
( ومن بعد أرض بيننا وسماء )
أمد به في الصيب من المبالغة من جهة الأصل والبناء والتنكير وقيل المراد بالسماء السحاب فاللام لتعريف الماهية
{ فيه ظلمات ورعد وبرق } إن أريد بالصيب المطر فظلماته ظلمة تكاثفه بتتابع القطر وظلمة غمامة مع ظلمة الليل وجعله مكانا للرعد والبرق لأنهما في أعلاه ومنحدره ملتبسين به وأن أريد به السحاب فظلماته سحمته وتطبيقه مع ظلمة الليل وارتفاعها بالظرف وفاقا لأنه معتمد على موصوف والرعد : صوت يسمع من السحاب والمشهور أن سببه اضطراب أجرام السحاب واصطكاكها إذا حدتها الريح من الارتعاد والبرق ما يلمع من السحاب من برق الشئ بريقا وكلاهما مصدر في الأصل ولذلك لم يجمعا
{ يجعلون أصابعهم في آذانهم } الضمير لأصحاب الصيب وهو وإن حذف لفظه وأقيم الصيب مقامه لكن معناه باق فيجوز أن يعول عليه كما عول حسان في قوله :
( يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفق بالرحيق السلسل )
حيث ذكر الضمير لأن المعنى ماء بردى والجملة استئناف فكأنه لما ذكر ما يؤذن بالشدة والهول قيل : فكيف حالهم مع مثل ذلك ؟ فأجيب بها وإنما أطلق الأصابع موضع الأنامل للمبالغة
{ من الصواعق } متعلق بيجعلون أي من أجلها يجعلون كقولهم سقاه من العيمة والصاعقة قصفة رعد هائل معها نار لا تمر بشئ إلا أتت عليه من الصعق وهو شدة الصوت وقد تطلق على كل هائل مسموع أو مشاهد يقال صعقته الصاعقة إذا أهلكته بالإحراق أو شدة الصوت وقرئ من الصواقع وهو ليس بقلب من الصواعق لاستواء كلا البناءين في التصريف يقال صقع الديك وخطيب مصقع وصقعته الصاقعة وهي في الأصل إما صفة لقصفة الرعد أو للرعد والتاء للمبالغة كما في الرواية أو مصدر كالعافية والكاذبة { حذر الموت } نصب على العلة كقوله :
( وأغفر عوراء الكريم ادخاره ... وأصفح عن شتم اللئيم تكرما )
والموت : زوال الحياة وقيل عرض يضادها لقوله : { خلق الموت والحياة } ورد بأن الخلق بمعنى التقدير والاعدام مقدرة
{ والله محيط بالكافرين } لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط لا يخلصهم الخداع والحيل والجملة اعتراضية لا محل لها

20 - { يكاد البرق يخطف أبصارهم } استئناف ثان كأنه جواب لمن يقول : ما حالهم مع تلك الصواعق ؟ وكاد من أفعال المقاربة وضعت لمقاربة الخبر من الوجود لعروض سببه لكنه لم يوجد إما لفقد شرط أو لوجود مانع وعسى موضوعة لرجائه فهي خير محض ولذلك جاءت متصرفة بخلاف عسى وخبرها مشروط فيه أن يكون فعلا مضارعا تنبيها على أنه المقصود بالقرب من غير أن لتوكيد القرب بالدلالة على الحال وقد تدخل عليه حملا لها على عسى كما تحمل عليها بالحذف من خبرها لمشاركتهما في أصل معنى المقاربة والخطف الأخذ بسرعة وقرئ ( يخطف ) بكسر الطاء ويخطف على أنه يختطف فنقلب فتحة التاء إلى الخاء ثم أدغمت في الطاء ويخطف بكسر الخاء لالتقاء الساكنين وإتباع الياء لها ويخطف ويتخطف
{ كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا } استئناف ثالث كأنه قيل : ما يفعلون في تارتي خفوق البرق وخفيته ؟ فأجيب بذلك وأضاء إما متعد والمفعول محذوف بمعنى كلما نور لهم ممشى أخذوه أو لازم بمعنى كلما لمع مشوا في مطرح نوره وكذلك أظلم فإنه جاء متعديا منقولا من ظلم الليل ويشهد له قراءة أظلم على البناء للمفعول و قول أبي تمام :
( هما أظلما حالي ثمة أجليا ... ظلاميهما عن وجه أمرد أشيب )
فإنه وإن كان من المحدثين لكنه من علماء العربية فلا يبعد أن يجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه وإنما قال مع الإضاءة { كلما } ومع الإظلام { إذا } لأنهم حراص على المشي فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها ولا كذلك التوقف ومعنى ( قاموا ) وقفوا ومنه قامت السوق إذا ركدت وقام الماء إذا جمد { ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم } أي ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم بقصيف الرعد وأبصارهم بوميض البرق لذهب بهما فحذف المفعول لدلالة الجواب عليه ولقد تكاثر حذفه في شاء وأراد حتى لا يكاد يذكر إلا في الشئ المستغرب كقوله :
( فلو شئت أن أبكي دما لبكيته )
( ولو ) من حروف الشرط وظاهرها الدلالة على انتفاء الأول لانتفاء الثاني ضرورة انتفاء الملزوم عند لازمه وقرئ : لأذهب بأسماعهم بزيادة الباء كقوله تعالى : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة }
وفائدة هذه الشرطية إبداء المانع لذهاب سمعهم وأبصارهم مع قيام ما يقتضيه والتنبيه على أن تأثير الأسباب في مسبباتها مشروط بمشيئة الله تعالى وأن وجودها مرتبط بأسبابها واقع بقدرته وقوله
{ إن الله على كل شيء قدير } كالتصريح به والتقرير له والشئ يختص بالموجود لأنه في الأصل مصدر شاء أطلق بمعنى شاء تارة وحينئذ يتناول البارئ تعالى كما قال { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد } وبمعنى مشيء أخرى أي مشيء وجوده وما شاء الله وجوده فهو موجود في الجملة وعليه قوله تعالى : { إن الله على كل شيء قدير } { الله خالق كل شيء } فهما على عمومهما بلا مثنوية والمعتزلة لما قالوا الشئ ما يصح أن يوجد وهو يعم الواجب والممكن أو ما يصح أن يعلم ويخبر عنه فيعم الممتنع أيضا لزمهم التخصيص بالممكن في الموضعين بدليل العقل
والقدرة : هو التمكن من إيجاد الشئ وقيل صفة تقتضي التمكن وقيل قدرة الإنسان هيئة بها يتمكن من الفعل وقدرة الله تعالى : عبارة عن نفي العجز عنه والقادر هو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل والقدير الفعال لما يشاء على ما يشاء ولذلك قلما يوصف به غير الباري تعالى واشتقاق القدرة من القدر لأن القادر يوقع الفعل على مقدار قوته أو على مقدار ما تقتضيه مشيئته وفيه دليل على أن الحادث حال حدوثه والممكن حال بقائه مقدوران وأن مقدور العبد مقدور لله تعالى لأنه شئ وكل شئ مقدور لله تعالى والظاهر أن التمثيلين من جملة التمثيلات المؤلفة وهو أن يشبه كيفية منتزعة من مجموعة تضامت أجزاؤه وتلاصقت حتى صارت شيئا واحدا بأخرى مثلها كقوله تعالى : { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها } فإنه تشبيه حال اليهود في جهلهم بما معهم من التوراة بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة والغرض منهما تمثيل حال المنافقين من الحيرة والشدة بما يكابد من انطفأت ناره بعد إيقادها في ظلمة أو بحال من أخذته السماء في ليلة مظلمة مع رعد قاصف وبرق خاطف وخوف من الصواعق كقوله تعالى : { وما يستوي الأعمى والبصير * ولا الظلمات ولا النور * ولا الظل ولا الحرور } وقول امرئ القيس :
( كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي )
بأن يشبه في الأول : ذوات المنافقين بالمستوقدين وإظهارهم الإيمان باستيقاد النار وما انتفعوا به من حقن الدماء وسلامة الأموال والأولاد وغير ذلك بإضاءة النار ما حول المستوقدين وزوال ذلك عنهم على القرب بإهلاكهم وبإفشاء حالهم وإبقائهم في الخسار الدائم والعذاب السرمد بإطفاء نارهم والذهاب بنورها وفي الثاني : أنفسهم بأصحاب الصيب وإيمانهم المخالط بالكفر والخداع بصيب فيه ظلمات ورعد وبرق من حيث إنه وإن كان نافعا في نفسه لكنه لما وجد في هذه الصورة عاد نفعه ضرا ونفاقهم حذرا عن نكايات المؤمنين وما يطرقون به من سواهم من الكفرة بجعل الأصابع في الآذان من الصواعق حذر الموت من حيث إنه لا يرد من قدر الله تعالى شيئا ولا يخلص مما يريد بهم من المضار وتحيرهم لشدة الأمر وجهلهم بما يأتون ويذرون بأنهم كلما صادفوا من البرق خفقة انتهزوها فرصة مع خوف أن تخطف أبصارهم فخطوا خطا يسيرة ثم إذا خفي وفتر لمعانه بقوا متقيدين لا حراك بهم وقيل : شبه الإيمان والقرآن وسائر ما أوتي الإنسان من المعارف التي هي سبب الحياة الأبدية بالصيب الذي به حياة الأرض وما ارتكبت بها من الشبه المبطلة واعترضت دونها من الاعتراضات المشككة بالظلمات وشبه ما فيها من الوعد والوعيد بالرعد وما فيها من الآيات الباهرة بالبرق وتصامهم عما يسمعون من الوعيد بحال من يهوله الرعد فيخاف صواعقه فيسد أذنيه عنها مع أنه لا خلاص لهم منها وهو معنى قوله تعالى : { والله محيط بالكافرين } واهتزازهم لما يلمع لهم من رشد يدركونه أو رفد تطمح إليه أبصارهم بمشيهم في مطرح ضوء البرق كلما أضاء لهم وتحيرهم وتوقفهم في الأمر حين تعرض لهم شبهة أو تعن لهم مصيبة بتوقفهم إذا أظلم عليهم
ونبه سبحانه بقوله : { ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم } على أنه تعالى جعل لهم السمع والأبصار ليتوسلوا بها إلى الهدى والفلاح ثم إنهم صرفوها إلى الحظوظ العاجلة وسدوها عن الفوائد الآجلة ولو شاء الله لجعلهم بالحالة التي يجعلونها لأنفسهم فإنه على ما يشاء قدير

21 - { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } لما عدد فرق المكلفين وذكر خواصهم ومصارف أمورهم أقبل عليهم بالخطاب على سبيل الالتفات هزأ للسامع وتنشيطا له واهتماما بأمر العبادة وتفخيما لشأنها وجبرا لكلفة العبادة بلذة المخاطبة و ( يا ) حرف وضع لنداء البعيد وقد ينادي به القريب تنزيلا له منزلة البعيد إما لعظمته كقول الداعي : يا رب ويا الله هو أقرب إليه من حبل الوريد أو لغفلته وسوء فهمه أو للاعتناء بالمدعو له وزيادة الحث عليه وهو مع المنادى جملة مفيدة لأنه مناب فعل وأي : جعل وصلة إلى نداء المعرف باللام فإن إدخال يا عليه متعذر لتعذر الجمع بين حرفي التعريف فإنهما كمثلين وأعطي حكم المنادى وأجري عليه المقصود بالنداء وصفا موضحا له والتزام رفعه إشعارا بأنه المقصود وأقحمت بينهما هاء التنبيه تأكيدا وتعويضا عما يستحقه أي من المضاف إليه وإنما كثر النداء على هذه الطريقة في القرآن لاستقلاله بأوجه من التأكيد وكل ما نادى الله له عباده من حيث إنها أمور عظام من حقها أن يتفطنوا إليها ويقبلوا بقلوبهم عليها وأكثرهم عنها غافلون حقيق بأن ينادي له بالآكد الأبلغ والجموع وأسماؤها المحلاة باللام للعموم حيث لا عهد ويدل صحة الاستثناء منها أو التأكيد بما يفيد العموم كقوله تعالى :
{ فسجد الملائكة كلهم أجمعون } واستدلال الصحابة بعمومها شائعا وذائعا فالناس يعم الموجودين وقت النزول لفظا ومن سيوجد لما تواتر من دينه عليه الصلاة و السلام أن مقتضى خطابه وأحكامه شامل للقبيلين ثابت إلى قيام الساعة إلا ما خصه الدليل وما روي عن علقمة و الحسن أن كل شئ نزل فيه { يا أيها الناس } فمكي { يا أيها الذين آمنوا } فمدني إن صح رفعه فلا يوجب تخصيصه بالكفار ولا أمرهم بالعبادة فإن المأمور به هو القدر المشترك بين بدء العبادة والزيادة فيها والمواظبة عليها فالمطلوب من الكفار هو الشروع فيها بعد الإتيان بما يجب تقديمه من المعرفة والإقرار بالصانع فإن من لوازم وجوب الشئ وجوب ما لا يتم إلا به وكما أن الحدث لا يمنع وجوب الصلاة فالكفر ويمنع وجوب العبادة بل يجب رفعه والاشتغال بها عقيبه ومن المؤمنين ازديادهم وثباتهم عليها وإنما قال : { ربكم } تنبيها على أن الموجب للعبادة هي الربوبية
{ الذي خلقكم } صفة جرت عليه تعالى للتعظيم والتعليل ويحتمل التقييد والتوضيح إن خص الخطاب بالمشركين وأريد بالرب أعم من الرب الحقيقي والآلهة التي يسمونها أربابا والخلق إيجاد الشئ على تقدير واستواء وأصله يقال : خلق النعل إذا قدرها وسواها بالمقياس
{ والذين من قبلكم } متناول كل ما يتقدم الإنسان بالذات أو الزمان منصوب معطوف على الضمير المنصوب في { خلقكم } والجملة أخرجت مخرج المقرر عندهم إما لاعترافهم به كما قال الله تعالى : { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } أو لتمكنهم من العلم به بأدنى نظر ! وقرئ { من قبلكم } على إقحام الموصول الثاني بين الأول وصلته تأكيدا كما أقحم جرير في قوله :
( يا تيم عدي لا أبا لكمو )
تيما الثاني بين الأول وما أضيف إليه
{ لعلكم تتقون } حال من الضمير في { اعبدوا } كأنه قال : اعبدوا ربكم راجين أن تنخرطوا في سلك المتقين الفائزين بالهدى والفلاح المستوجبين جوار الله تعالى نبه به على أن التقوى منتهى درجات السالكين وهو التبري من كل شئ سوى الله تعالى إلى الله وأن العابد ينبغي أن لا يغتر بعبادته ويكون ذا خوف ورجاء قال تعالى : { يدعون ربهم خوفا وطمعا } { يرجون رحمته ويخافون عذابه } أو من مفعول { خلقكم } والمعطوف عليه على معنى أنه خلقكم ومن قبلكم في صورة من يرجى منه التقوى لترجح أمره باجتماع أسبابه وكثرة الدواعي إليه وغلب المخاطبين على الغائبين في اللفظ والمعنى على إرادتهم جميعا وقيل تعليل للخلق أي خلقكم لكي تتقوا كما قال : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } وهو ضعيف إذ لم يثبت في اللغة مثله
والآية تدل على أن الطريق إلى معرفة الله تعالى والعلم بوحدانيته واستحقاقه للعبادة النظر في صنعه والاستدلال بأفعاله وأن العبد لا يستحق بعبادته عليه ثوابا فإنها لما وجبت عليه شكرا لما عدده عليه من النعم السابقة فهو كأجير أخذ الأجر قبل العمل

22 - { الذي جعل لكم الأرض فراشا } صفة ثانية أو مدح منصوب أو مرفوع أو مبتدأ خبره فلا تجعلوا وجعل من الأفعال العامة يجيء على ثلاثة أوجه : بمعنى صار وطفق فلا يتعدى كقوله :
( فقد جعلت قلوص بني سهيل ... من الأكوار مرتعها قريب )
وبمعنى أوجد فيتعدى إلى مفعول واحد كقوله تعالى : { وجعل الظلمات والنور } وبمعنى صير ويتعدى إلى مفعولين كقوله تعالى : { جعل لكم الأرض فراشا } والتصيير يكون بالفعل تارة وبالقول أو العقد أخرى ومعنى جعلها فراشا أن جعل بعض جوانبها بارزا ظاهرا عن الماء مع ما في طبعه من الإحاطة بها وصيرها متوسطة بين الصلابة واللطافة حتى صارت مهيأة لأن يقعدوا ويناموا عليها كالفراش المبسوط وذلك لا يستدعي كونها مسطحة لأن كرية شكلها مع عظم حجمها واتساع جرمها لا تأبى الافتراش عليها
{ والسماء بناء } قبة مضروبة عليكم والسماء اسم جنس يقع على الواحد والمتعدد كالدينار والدرهم وقيل : جمع سماءة والبناء مصدر سمي به المبني بيتا كان أو قبة أو خباء ومنه بني على امرأته لأنهم كانوا إذا تزوجوا ضربوا عليها خباء جديدا
{ وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم } عطف على ( جعل ) وخروج الثمار بقدرة الله تعالى ومشيئته ولكن جعل الماء الممزوج بالتراب سببا في إخراجها ومادة لها كالنطفة للحيوان بأن أجرى عادته بإفاضة صورها وكيفياتها على المادة الممتزجة منهما أو أودع في الماء قوة فاعلة وفي الأرض قوة قابلة يتولد من اجتماعهما أنواع الثمار وهو قادر على أن يوجد الأشياء كلها بلا أسباب ومواد كما أبدع نفوس الأسباب والمواد ولكن له في إنشائها مدرجا من حال إلى حال صنائع وحكم يجدد فيها لأولي الأبصار عبرا وسكونا إلى عظيم قدرته ليس في إيجادها دفعة و { من } الأولى للابتداء سواء أريد بالسماء السحاب فإن ما علاك سماء أو الفلك فإن المطر يبتدئ من السماء إلى السحاب ومنه إلى الأرض على ما دلت عليه الظواهر أو من أسباب سماوية تثير الأجزاء الرطبة من أعماق الأرض إلى جو الهواء فتنعقد سحابا ماطرا و { من } الثانية للتبعيض بدليل قوله تعالى : { فأخرجنا به ثمرات } واكتناف المنكرين له أعني ماء ورزقا كأنه قال : وأنزلنا من السماء بعض الماء فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم وهكذا الواقع إذ لم ينزل من السماء الماء كله ولا أخرج بالمطر كل الثمرات ولا جعل كل المرزوق ثمارا أو للتبيين و رزقا مفعول بمعنى المرزوق كقولك أنفقت من الدراهم ألفا وإنما ساغ الثمرات والموضع موضع الكثرة لأنه أراد بالثمرات جماعة الثمرة التي في قولك أدركت ثمرة بستانه ويؤيد قراءة من قرأ : من الثمرة على التوحيد أو لأن الجموع يتعاور بعضها موقع بعض كقوله تعالى : { كم تركوا من جنات وعيون } وقوله : { ثلاثة قروء } أو لأنها لما كانت محلاة باللام خرجت عن حد القلة و { لكم } صفة رزقا إن أريد به المرزوق ومفعوله إن أريد به المصدر كأنه قال : رزقا إياكم
{ فلا تجعلوا لله أندادا } متعلق باعبدوا على أنه نهي معطوف عليه أو نفي منصوب بإضمار أن جواب له أو بلعل على أن نصب تجعلوا فاطلع في قوله تعالى : { لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السماوات فأطلع } إلحاقا لها بالأشياء الستة لاشتراكها في أنها غير موجبة والمعنى : إن تتقوا لا تجعلوا لله أندادا أو بالذي جعل إن استأنفت به على أنه نهي وقع خبرا على تأويل مقول فيه : لا تجعلوا والفاء للسببية أدخلت عليه لتضمن المبتدأ معنى الشرط والمعنى : أن من خصكم بهذه النعم الجسام والآيات العظام ينبغي أن لا يشرك به والند : المثل المناوىء قال جرير :
( أتيما تجعلون إلي ندا ... وما تيم لذي حسب نديد )
من ند يند ندودا : إذا نفر وناددت الرجل خالفته خص بالمخالف المماثل في الذات كما خص المساوي بالمماثل في القدر وتسمية ما يعبده المشركين من دون الله ( أندادا ) وما زعموا أنها تساويه في ذاته وصفاته ولا أنها تخالفه في أفعاله لأنهم لما تركوا عبادته إلى عبادتها وسموها آلهة شابهت حالهم حال من يعتقد أنها ذوات واجبة بالذات قادرة على أن تدفع عنهم بأس الله وتمنحهم ما لم يرد الله بهم من خير فتهكم بهم وشنع عليهم بأن جعلوا أندادا لمن يمتنع أن يكون له ند ولهذا قال موحد الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل :
( أربا واحدا أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور )
( تركت اللات والعزى جميعا ... كذلك يفعل الرجل البصير )
{ وأنتم تعلمون } حال من ضمير فلا تجعلوا ومفعول تعلمون مطروح أي : وحالكم أنكم من أهل العلم والنظر وإصابة الرأي فلو تأملتم أدنى تأمل اضطر عقلكم إلى إثبات موجد للمكنات منفرد بوجوب الذات متعال عن متشابهة المخلوقات أو منوي وهو أنها لا تماثله ولا تقدر على مثل ما يفعله كقوله سبحانه وتعالى : { هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء } وعلى هذا فالمقصود منه التوبيخ والتثريب لا تقييد الحكم وقصره عليه فإن العالم والجاهل المتمكن من العلم سواء في التكليف
واعلم إن مضمون الآيتين هو الأمر بعبادة الله سبحانه وتعالى والنهي عن الإشراك به تعالى والإشارة إلى ما هو العلة والمقتضى وبيانه أنه رتب الأمر بالعبادة على صفة الربوبية إشعارا بأنها العلة لوجوبها ثم بين ربوبيته بأنه تعالى خالقهم وخالق أصولهم وما يحتاجون إليه في معاشهم من المقلة والمظلة والمطاعم والملابس فإن الثمرة أعم من المطعوم والرزق أعم من المأكل والمشروب ثم لما كانت هذه الأمور التي لا يقدر عليها غيره شاهدة على وحدانيته تعالى رتب تعالى عليها النهي عن الإشراك به ولعله سبحانه أراد من الآية الأخيرة مع ما دل عليه الظاهر وسيق فيه الكلام الإشارة إلى تفصيل خلق الإنسان وما أفاض عليه من المعاني والصفات على طريقة التمثيل فمثل البدن بالأرض والنفس بالسماء والعقل بالماء وما أفاض عليه من الفضائل العملية والنظرية المحصلة بواسطة استعمال العقل للحواس وازدواج القوى النفسانية والبدنية بالثمرات المتولدة من ازدواج القوى السماوية الفاعلة والأرضية المنفعلة بقدرة الفاعل المختار فإن لكل آية ظهرا وبطنا ولكل حد مطلعا

23 - { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة } لما قرر وحدانيته تعالى وبين الطريق الموصل إلى العلم بها ذكر عقيبه ما هو الحجة على نبوة محمد صلى الله عليه و سلم وهو القرآن المعجز بفصاحته التي بذت فصاحة كل منطق وإفحامه من طولب بمعارضته من مصاقع الخطباء من العرب العرباء مع كثرتهم وإفراطهم في المضادة والمضارة و تهالكهم على المعازة والمعارة وعرف ما يتعرف به إعجازه ويتيقن أنه من عند الله كما يدعيه وإنما قال { مما نزلنا } لأن نزوله نجما منجما بحسب الوقائع على ما ترى أهل الشعر والخطابة مما يريبهم كما حكى الله عنهم فقال { وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } فكان الواجب تحديهم على هذا الوجه إزاحة للشبهة وإلزاما للحجة وأضاف العبد إلى نفسه تعالى تنويها بذكره وتنبيها على أنه مختص به منقاد لحمه تعالى وقرئ عبادنا يريد محمد صلى الله عليه و سلم وأمته والسورة الطائفة من القرآن المترجمة التي أقلها ثلاث آيات وهي إن جعلت واوها أصلية منقولة من سور المدينة لأنها محيطة بطائفة من القرآن مفرزة محوزة على حيالها أو محتوية على أنواع من العلم احتواء سور المدينة على ما فيها أو من السور التي هي الرتبة قال النابغة :
( ولرهط حراب وقد سورة ... في المجد ليس غرابها بمطار )
لأن السور كالمنازل والمراتب يترقى فيها القارئ أولها مراتب في الطول والقصر والفضل والشرف وثواب القراءة وإن جعلت مبدلة من الهمزة فمن السورة التي هي البقية والقطعة من الشئ والحكمة في تقطيع القرآن سورا : إفراد الأنواع وتلاحق الأشكال وتجاوب النظم وتنشيط القارئ وتسهيل الحفظ والترغيب فيه فإنه إذا ختم سورة نفس ذلك عنه كالمسافر إذا علم أنه قطع ميلا أو طوى بريدا والحافظ متى حذفها اعتقد أنه أخذ من القرآن حظا تاما وفاز بطائفة محدودة مستقلة بنفسها فعظم ذلك عنده و ابتهج به إلى غير ذلك من الفوائد
{ من مثله } صفة سورة أي : بسورة كائنة من مثله والضمير لما نزلنا و ( من ) للتبعيض أو للتبيين وزائدة عند الأخفش أي بسورة مماثلة للقرآن العظيم في البلاغة وحسن النظم أو لعبدنا و ( من ) للابتداء أي : بسورة كائنة ممن هو على حاله عليه الصلاة و السلام من كونه بشرا أميا لم يقرأ الكتب ولم يتعلم العلوم أو صلة { فأتوا } والضمير للعبد صلى الله عليه و سلم والرد إلى المنزل أوجه لأنه المطابق لقوله تعالى { فاتوا بسورة من مثله } ولسائر آيات التحدي ولأن الكلام فيه لا في المنزل عليه فحقه أن لا ينفك عنه ليتسق الترتيب والنظم ولأن مخاطبة الجم الغفير بأن يأتوا بمثل ما أتى به واحد من أبناء جلدتهم أبلغ في التحدي من أن يقال لهم : ليأت بنحو ما أوتي به هذا آخر مثله ولأنه معجز في نفسه لا بالنسبة إليه لقوله تعالى : { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله } ولأن رده إلى عبدنا يوهم إمكان صدوره ممن لم يكن على صفته ولا يلائمه قوله تعالى { وادعوا شهداءكم من دون الله } فإنه أمر يستعينوا بكل من ينصرهم ويعينهم والشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة أو الناصر أو الإمام وكأنه سمي به لأنه يحضر النوادي وتبرم بمحضره الأمور إذ التركيب للحضور إما بالذات أو بالتصور ومنه قيل : للمقتول في سبيل الله شهيد لأنه حضر ما كان يرجوه أو الملائكة حضروه ومعنى { دون } أدنى مكان من الشئ ومنه تدوين الكتب لأنه إدناء البعض من البعض ودونك هذا أي : خذه من أدنى مكان منك ثم استعير للرتب فقيل : زيد دون عمرو أي : في الشرف ومنه الشئ الدون ثم اتسع فيه فاستعمل في كل تجاوز حد إلى حد وتخطي أمر إلى آخر قال تعالى : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } أي لا يتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين قال أمية :
( يا نفس ما لك دون الله من واق )
أي إذا تجاوزت وقاية الله فلا يقيك غيره و { من } متعلقة بـ { ادعوا } والمعنى { وادعوا } للمعارضة من حضركم أو رجوتم معونته من إنسكم وجنكم وآلهتكم غير الله سبحانه وتعالى فإنه لا يقدر على أن يأتي بمثله إلا الله أو : { وادعوا } من دون الله شهداء يشهدون لكم بأن ما أتيتم به مثله ولا تستشهدوا بالله فإنه من ديدن المبهوت العاجز عن إقامة الحجة أو ب { شهداءكم } أي الذين اتخذتموهم من دون الله أولياء وآلهة وزعمتم أنها تشهد لكم يوم القيامة أو الذين يشهدون لكم بين يدي الله تعالى على زعمكم من قول الأعشى :
( تريك القذى من دونها وهي دونه )
ليعينوكم وفي أمرهم أن يستظهروا بالجماد في معارضة القرآن العزيز غاية التبكيت والتهكم بهم وقيل : { من دون الله } أي من دون أوليائه يعني فصحاء العرب ووجوه المشاهد ليشهدوا لكم أن ما أتيتم به مثله فإن العاقل لا يرضى لنفسه أن يشهد بصحة ما اتضح فساده وبان اختلاله
{ إن كنتم صادقين } أنه من كلام البشر وجوابه محذوف دل عليه ما قبله والصدق : الإخبار المطابق وقيل : اعتقاد المخبر أنه كذلك عن دلالة أو أمارة لأنه تعالى كذب المنافقين في قولهم : { إنك لرسول الله } لما لم يعتقدوا مطابقته ورد بصرف التكذيب إلى قولهم { نشهد } لأن الشهادة إخبار عما علمه وهم ما كانوا عالمين به

24 - { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة } لما بين لهم ما يتعرفون به أمر الرسول صلى الله عليه و سلم وما جاء به وميز لهم الحق عن الباطل رتب عليه ما هو كالفذلكة له وهو أنكم إذا اجتهدتم في معارضته جميعا عن الإتيان بما يساويه أو يدانيه ظهر معجز والتصديق به واجب فآمنوا به واتقوا العذاب المعد لمن كذب فعبر عن الإتيان المكيف بالفعل الذي يعم الإتيان وغيره إيجازا ونزل لازم الجزاء منزلته على سبيل الكتابة تقريرا للمكنى عنه وتهويلا لشأن العتاد وتصريحا بالوعيد مع الإيجاز وصدر الشرطية بإن التي للشك والحال يقتضي إذا الذي للوجوب فإن القائل سبحانه وتعالى لم يكن شاكا في عجزهم ولذلك نفى إتيانهم معترضا بين الشرط والجزاء تهكما بهم وخطابا معهم على حسب ظنهم فإن العجز قبل التأمل لم يكن محققا عندهم و { تفعلوا } جزم ب { لم } لأنها واجبة الإعمال مختصة بالمضارع متصلة بالمعمول ولأنها لما صيرته ماضيا صارت كالجزء منه وحرف الشرط كالداخل على المجموع فكأنه قال : فإن تركتم الفعل ولذلك ساغ اجتماعهما { ولن } كلا في نفي المستقبل غير أنه أبلغ وهو حرف مقتضب عند سيبويه و الخليل في إحدى الروايتين عنه وفي الرواية الأخرى أصله لا أن وعند الفراء لا فأبدلت ألفها نونا والوقود بالفتح ما توقد به النار وبالضم المصدر وقد جاء المصدر بالفتح قال سيبويه : وسمعنا من يقول وقدت النار وقودا عاليا واسم بالضم ولعله مصدر سمي به كما قيل : فلان فخر قومه وزين بلده وقد قرئ به والظاهر أن المراد به الاسم وإن أريد به المصدر فعلى حذف مضاف أي : وقودها احتراق الناس والحجارة : وهي جمع حجر كجمالة جمع جمل وهو قليل غير منقاس والمراد بها الأصنام التي نحتوها وقرنوا بها أنفسهم وعبدوها طمعا في شفاعتها والانتفاع بها واستدفاع المضار لمكانتهم وبدل عليه قوله تعالى : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } عذبوا بما هو منشأ جرمهم كما عذب الكافرون بما كنزوه أو بنقيض ما كانوا يتوقعون زيادة في تحسرهم وقيل : الذهب والفضة التي كانوا يكنزونها ويغترون بها وعلى هذا لم يكن لتخصيص إعداد هذا النوع من العذاب بالكفار وجه وقيل : حجارة الكبريت وهو تخصيص بغير دليل وإبطال للمقصود إذ الغرض تهويل شأنها وتفاقم لهبها بحيث تتقد بما لا يتقد به غيرها والكبريت تتقد به كل نار وإن ضعفت فإن صح هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فلعله عني به أن الأحجار كلها لتلك النار كحجارة الكبريت لسائر النيران ولما كانت الآية مدنية نزلت بعد ما نزل بمكة قوله تعالى في سورة التحريم { نارا وقودها الناس والحجارة } وسمعوه صح تعريف النار ووقوع الجملة صلة بإزائها فإنها يجب أن تكون قصة معلومة
{ أعدت للكافرين } هيئت لهم وجعلت عدة لعذابهم وقرئ : أعتدت من العتاد بمعنى العدة والجملة استئناف أو حال بإضمار قد من النار لا الضمير الذي في وقودها وإن جعلته مصدرا للفصل بينهما بالخبر وفي الآيتين ما يدل على النبوة من وجوه :
الأول : ما فيهما من التحدي والتحريض على الجد وبذل الوسع في المعارضة بالتقريع والتهديد وتعليق الوعيد على عدم الإتيان بما يعارض أقصر سورة من سور القرآن ثم : إنهم مع كثرتهم واشتهارهم بالفصاحة وتهالكهم على المضادة لم يتصدوا لمعارضته التجؤوا إلى جلاء الوطن وبذل المهج
الثاني : أنهما يتضمنان الإخبار عن الغيب على ما هو به فإنهم لو عارضوه بشئ لامتنع خفاؤه عادة سيما والطاعنون فيه أكثر من الذابين عنه في كل عصر
الثالث : أنه صلى الله عليه و سلم لو شك في أمره لما دعاهم إلى المعارضة بهذه المبالغة مخافة أن يعارض فتدحض حجته وقوله تعالى : { أعدت للكافرين } دل على أن النار مخلوقة معدة الآن لهم

25 - { وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات } عطف على الجملة السابقة والمقصود عطف حال من آمن بالقرآن العظيم ووصف ثوابه على حال من كفر به وكيفية عقابه على ما جرت به العادة الإلهية من أن يشفع الترغيب بالترهيب تنشيطا لاكتساب ما ينجي وتثبيطا عن اقتراف ما يردي لا عطف الفعل نفسه حتى يجب أن يطلب له ما يشاكله من أمر أو نهي فيعطف عليه أو على فاتقوا لأنهم إذا لم يأتوا بما يعارضه بعد التحدي ظهر إعجازه وإذا ظهر ذلك فمن كفر به استوجب العقاب ومن آمن به استحق الثواب وذلك يستدعي أن يخوف هؤلاء ويبشر هؤلاء وإنما الرسول صلى الله عليه و سلم أو عالم كل عصر أو كل أحد يقدر على البشارة بأن يبشرهم ولم يخاطبهم بالبشارة كما خاطب الكفرة تفخيما لشأنهم وإيذانا بأنهم أحقاء بأن يبشروا ويهنأوا بما أعد لهم
وقرئ { وبشر } على البناء للمفعول عطفا على أعدت فيكون استئنافا والبشارة : الخبر السار فإنه يظهر أثر السرور في البشرة ولذلك قال الفقهاء البشارة : هي الخبر الأول حتى لو قال الرجل لعبيده : من بشرني بقدوم ولدي فهو حر فأخبروه فرادى عتق أولهم ولو قال : من أخبرني عتقوا جميعا وأما قوله تعالى : { فبشرهم بعذاب أليم } فعلى التهكم أو على طريقة قوله : تحية بينهم ضرب وجيع
و { الصالحات } جمع صالحة وهي من الصفات الغالبة التي تجري مجرى الأسماء كالحسنة قال الحطيئة :
( كيف الهجاء وما تنفك صالحة ... من آل لأم بظهر الغيب تأتيني )
وهي من الأعمال ما سوغه الشرع وحسنه وتأنيثها على تأويل الخصلة أو الخلة واللام فيها للجنس وعطف العمل على الإيمان مرتبا للحكم عليهما إشعارا بأن السبب في استحقاق هذه البشارة مجموع الأمرين والجمع بين الوصفين فإن الإيمان الذي هو عبارة عن التحقيق والتصديق أس والعمل الصالح كالبناء عليه ولا غناء بأس لا بناء عليه ولذلك قلما ذكر منفردين وفيه دليل على أنها خارجة عن مسمى الإيمان إذ الأصل أن الشئ لا يعطف على نفسه ولا على ما هو داخل فيه
{ أن لهم } منصوب بنزع الخافض وإفضاء الفعل إليه أو مجرور بإضماره مثل : الله لأفعلن والجنة : المرة من الجن وهو مصدر جنة إذا ستره ومدار التركيب على الستر سمي بها الشجر المظلل لالتفاف أغصانه للمبالغة كأنه يستر ما تحته سترة واحدة قال زهير :
( كأن عيني في غربي مقتلة ... من النواضح تسقي جنة سحقا )
أي نخلا طوالا ثم البستان لما فيه من الأشجار المتكاثفة المظللة ثم دار الثواب لما فيها من الجنان وقيل : سميت بذلك لأنه ستر في الدنيا ما أعد فيها للبشر من أفنان النعم كما قال سبحانه وتعالى : { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } وجمعها وتنكيرها لأن الجنان على ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما سبع : جنة الفردوس وجنة عدن وجنة النعيم ودار الخلد وجنة المأوى ودار السلام وعليون وفي كل واحدة منها مراتب ودرجات متفاوتة على حسب تفاوت الأعمال والعمال اللام في { لهم } تدل على استحقاقهم إياها لأجل ما ترتب عليه من الإيمان والعمل الصالح لا لذاته فأنه لا يكافئ النعم السابقة فضلا عن أن يقتضي ثوابا وجزاء فيما يستقبل بل بجعل الشارع ومقتضى وعده تعالى لا على الإطلاق بل بشرط أن يستمر عليه حتى يموت وهو مؤمن لقوله تعالى : { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم } وقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم { لئن أشركت ليحبطن عملك } وأشباه ذلك ولعله سبحانه وتعالى لم يقيد ههنا استغناء بها
{ تجري من تحتها الأنهار } أي من تحت أشجارها كما تراها جارية تحت الأشجار النابتة على شواطئها وعن مسروق أنهار تجري في غير أخدود : واللام في { الأنهار } للجنس كما في قولك لفلان : بستان في الماء الجاري أو للعهد والمعهود : هي الأنهار المذكورة في قوله تعالى : { فيها أنهار من ماء غير آسن } والنهر بالفتح والسكون : المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر كالنيل والفرات والتركيب للسعة والمراد بها ماؤها على الإضمار أو المجاز أو المجاري أنفسهم وإسناد الجري إليها مجاز كما في قوله تعالى : { وأخرجت الأرض أثقالها }
{ كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا } صفة ثانية لجنات أو خبر مبتدأ محذوف أو جملة مستأنفة كأنه لما قيل : إن لهم جنات وقع في خلد السامع أثمارها مثل ثمار الدنيا أو أجناس أخر فأزيح بذلك و { كلما } نصب على الظرف و { رزقا } مفعول به ومن الأولى والثانية للابتداء واقعتان موقع الحال وأصل الكلام ومعناه : كل حين رزقوا مرزقا مبتدأ من الجنات مبتدأ من ثمرة قيد الرزق بكونه مبتدأ من الجنات وابتداؤه منها بابتدائه من ثمرة فصاحب الحال الأولى رزقا وصاحب الحال الثانية ضميره المستكن في الحال ويحتمل أن يكون من ثمره بيانا تقدم كما في قولك : رأيت منك أسدا وهذا إشارة إلى نوع ما رزقوا كقولك مشيرا إلى نهر جار : هذا الماء لا ينقطع فأنك لا تعني بع العين المشاهدة منه بل النوع المعلوم المستمر بتعاقب جريانه وإن كانت الإشارة إلى عينه فالمعنى هذا مثل رزقنا ولكن لما استحكم الشبه بينهما جعل ذاته كقولك : أبو يوسف أبو حنيفة
{ من قبل } أي : من قبل هذا في الدنيا جعل ثمر الجنة من جنس ثمر الدنيا لتميل النفس إليه أول ما يرى فإنه الطباع مائلة إلى المألوف متفرة عن غيره ويتبين لها مزيته وكنه النعمة فيه إذ لو كان جنسا لم يعهد ظن أنه لا يكون إلا كذلك أو في الجنة لأن طعامها متشابه في الصورة كما حكى ابن كثير عن الحسن رضي الله عنهما : ( أن أحدهم يؤتى بالصحفة فيأكل منها ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى فيقول ذلك فيقول الملك : كل فاللون واحد والطعم مختلف ) أو كما روي أنه عليه الصلاة و السلام قال : [ والذي نفس محمد بيده إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي بواصلة إلى فيه حتى يبدل الله تعالى مكانها مثلها ] فلعلهم إذ رأوها على الهيئة الأولى قالوا ذلك والأول أظهر لمحافظته على عموم { كلما } فإنه يدل على ترديدهم هذا القول كل مرة رزقوا والداعي لهم إلى ذلك فرط استغرابهم وتبجحهم بما وجدوا من التفاوت العظيم في اللذة والتشابه بالبليغ في الصورة
{ وأتوا به متشابها } اعتراض يقرر ذلك والضمير على الأول راجع إلى ما رزقوا في الدارين فإنه مدلول عليه بقوله عز من قائل { هذا الذي رزقنا من قبل } ونظيره قوله عز و جل : { إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما } أي بجنسي الغني والفقير وعلى الثاني إلى الرزق فإن قيل : التشابه هو التماثل في الصفة وهو مفقود بين ثمرات الدنيا والآخرة كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ليس في الجنة من أطعمة إلا الأسماء قلت : التشابه بينهما حاصل في الصورة التي هي مناط الاسم دون المقدار والطعم وهو كاف في إطلاق التشابه هذا : وإن للآية الكريمة محملا آخر وهو أن اللذة بحسب تفاوتها فيحتمل أن يكون المراد من { هذا الذي رزقنا } أنه ثوابه ومن تشابههما تماثلهما في الشرف والمزية وعلو الطبقة فيكون هذا في الوعد نظير قوله : { ذوقوا ما كنتم تعملون } في الوعيد
{ ولهم فيها أزواج مطهرة } مما يستقذر من النساء ويذم من أحوالهن كالحيض والدرن ودنس الطبع وسوء الخلق فإن التطهير يستعمل في الأجسام والأخلاق والأفعال وقرئ : مطهرات وهما لغتان فصيحتان يقال النساء فعلت وفعلن وهن فاعلة وفواعل قال :
( وإذا العذارى بالدخان تقنعت ... واستعجلت نصب القدور فملت )
فالجمع على اللفظ والافراد على تأويل الجماعة ومطهرة بتشديد الطاء وكسر الهاء بمعنى متطهرة ومطهرة أبلغ من طاهرة ومطهرة للإشعار بأن مطهرا طهرهن وليس هو إلا الله عز و جل والزوج يقال للذكر والأنثى وهو في الأصل لما له قرين من جنسه كزوج الخف فإن قيل : فائدة المطعوم هو التغذي ودفع ضرر الجوع وفائدة المنكوح التوالد وحفظ النوع وهي مستغنى عنها في الجنة قلت : مطاعم الجنة ومناكحها وسائر بأسمائها على سبيل الاستعارة والتمثيل ولا تشاركها في تمام حقيقتها حتى تستلزم جميع ما يلزمها وتفيد عين فائدتها
{ وهم فيها خالدون } دائمون والخلد والخلود في الأصل الثبات المديد دام أم لم يدم ولذلك قيل للأثافي والأحجار خوالد وللجزء الذي يبقى من الإنسان على حاله ما دام حيا خلد ولو كان وضعه للدوام كان التقييد بالتأبيد في قوله تعالى : { خالدين فيها أبدا } لغوا واستعماله حيث لا دوام كقولهم وقف مخلد يوجب اشتراكا أو مجازا والأصل ينفيهما بخلاف ما لو وضع للأعم منه فاستعمل فيه بذلك الاعتبار كإطلاق الجسم على الإنسان مثل قوله تعالى : { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد } لكن المراد به ههنا الدوام عند الجمهور لما يشهد له من الآيات والسنن
فإن قيل : الأبدان مركبة من أجزاء متضادة الكيفية معرضة للاستحالات المؤدية إلى الانفكاك والانحلال فكيف يعقل خلودها في الجنان قلت : إنه تعالى يعيدها بحيث لا يعتورها الاستحالة بأن يجعل أجزاءها مثلا متقاومة في الكيفية متساوية في القوة لا يقوي شئ منها على إحالة الآخر متعانقة متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض كما يشاهد في بعض المعادن
هذا وإن قياس ذلك العالم وأحواله على ما نجده ونشاهده من نقص العقل وضعف البصيرة واعلم أنه لما كان معظم اللذات الحسية مقصورا على : المساكن والمطاعم والمناكح على ما دل عليه الاستقراء كان ملاك ذلك كله الدوام والثبات فإن كل نعمة جليلة إذا قارنها خوف الزوال كانت منغصة غير صافية من شوائب الألم بشر المؤمنين بها ومثل ما أعد لهم في الآخرة بأبهى ما يستلذ به منها وأزال عنهم الفوات بوعد الخلود ليدل على كمالهم في التنعم والسرور

26 - { إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة } لما كانت الآيات السابقة متضمنة لأنواع من التمثيل عقب ذلك ببيان حسنه وما هو الحق له والشرط فيه وهو أن يكون على وفق الممثل له من الجهة التي تعلق بها التمثيل في العظم والصغر والخسة والشرف دون الممثل فإن التمثيل إنما يصار إليه لكشف المعنى الممثل له ورفع الحجاب عنه وإبرازه في صورة المشاهد المحسوس ليساعد فيه الوهم العقل ويصالحه عليه فإن المعنى الصرف إنما يدركه العقل مع منازعة من الوهم لأن من طبعه الميل إلى الحس وحب المحاكاة ولذلك شاعت الأمثال في الكتب الإلهية وفشت في عبارات البلغاء وإشارات الحكماء فيمثل الحقير كما يمثل العظيم بالعظيم وإن كان المثل أعظم من كل عظيم كما مثل في الإنجيل غل الصدور بالنخالة والقلوب القاسية بالحصاة ومخاطبة السفهاء بإثارة الزنابير وجاء في كلام العرب : أسمع من قراد وأطيش من فراشه وأعز من مخ البعوض لا ما قالت الجهلة من الكفار : لما مثل الله حال المنافقين بحال المستوقدين ؟ وأصحاب الصيب وعبادة الأصنام في الوهن والضعف ببيت العنكبوت ؟ وجعلها أقل من الذباب وأخس قدرا منه ؟ الله سبحانه وتعالى أعلى وأجل من أن يضرب الأمثال ويذكر الذباب والعنكبوت وأيضا لما أرشدهم إلى ما يدل على أن المتحدي به وحي منزل ؟ ورتب عليه وعيد من كفر به ووعد من آمن به بعد ظهور أمره ؟ شرع في جواب ما طعنوا به فيه فقال تعالى : { إن الله لا يستحي } أي لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحي أن يمثل بها لحقارتها والحياء : انقباض النفس عن القبيح مخالفة الذم وهو الوسط بين الوقاحة : التي هي الجراءة على القبائح وعدم المبالاة بها والخجل : الذي هو انحصار النفس عن الفعل مطلقا واشتقاقه من الحياة فإنه انكسار يعتري القوة الحيوانية فيردها عن أفعالها فقيل : حيي الرجل كما يقال نسي وحشي إذا اعتلت نساه وحشاه وإذا وصف به الباري تعالى كما جاء في الحديث [ إن الله يستحي من ذي الشيبة المسلم أن يعذبه ] [ إن الله حيي كريم يستحيي إذا رفع العبد يديه أن يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا ] فالمراد به الترك اللازم للانقباض كما أن المراد من رحمته وغضبه إصابة المعروف والمكروه اللازمين لمعنييهما ونظيره قول من يصف إبلا :
( إذا ما استحين الماء يعرض نفسه ... كرعن بسبت في إناء من الورد )
وإنما عدل به عن الترك لما فيه من التمثيل والمبالغة وتحتمل الآية خاصة أن يكون مجيئه على المقابلة لما وقع في كلام الكفرة وضرب المثل اعتماله من ضرب الخاتم وأصله وقع شئ على آخر وأن بصلتها المحل عند الخليل بإضمار من منصوب بإفضاء الفعل إليه بعد حذفها عند سيبويه وما إبهامية تزيد النكرة إبهاما وشياعا وتسد عنها طرق التقييد كقولك أعطني كتابا ما أي : أي كتاب كان أو مزيدة للتأكيد كالتي في قوله تعالى : { فبما رحمة من الله } ولا نعني بالمزيد اللغو الضائع فإن القرآن كله هدى وبيان بل ما لم يوضع لمعنى يراد منه وإنما وضعت لأن تذكر مع غيرها فتفيد له وثاقة وقوة وهو زيادة في الهدى غير قادح فيه وبعوضة عطف بيان لمثلا أو مفعول ليضرب ومثلا حال تقدمت عليه لأنه نكرة أو هما مفعولاه لتضمنه معنى الجمل وقرئت بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وعلى هذا يحتمل { ما } وجوها أخر : أن تكون موصولة حذف صدر صلتها كما حذف في قوله : { تماما على الذي أحسن } وموصولة بصفة كذلك ومحلها النصب بالبدلية على الوجهين واستفهامية هي المبتدأ كأنه لما رد استبعادهم ضرب الله الأمثال قال بعده : ما البعوضة فما فوقها حتى لا يضرب به المثل بل له أن يمثل بما هو أحقر من ذلك ونظيره فلان لا يبالي مما يهب ما دينار وديناران والبعوض : فعول من البعض وهو القطع كالبضع والعضب غلب على هذا النوع كالخموش
{ فما فوقها } عطف على بعوضة أو ما إن جعل اسما ومعناه ما زاد عليها في الجثة كالذباب والعنكبوت كأنه قصد به رد ما استنكروه والمعنى : أنه لا يستحي ضرب المثل بالبعوض فضلا عما هو أكبر منه أو في المعنى الذي جعلت فيه مثلا وهو الصغر والحقارة كجناحها فإنه عليه الصلاة و السلام ضربه مثلا للدنيا ونظيره في الاحتمالين ما روي أن رجلا بمنى خر على طنب فسطاط فقالت عائشة رضي الله عنها سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة ] فإنه يحتمل ما تجاوز الشوكة في الألم كالخرور وما زاد عليها في القلة كنخبة النملة لقوله عليه الصلاة و السلام [ ما أصاب المؤمن من مكروه فهو كفارة لخطاياه حتى نخبة النملة ]
{ فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم } أما حرف تفصيل يفصل ما أجمل ويؤكد ما به صدر ويتضمن معنى الشرط ولذلك يجاب بالفاء قال سيبويه : أما زيد فذاهب معناه مهما يكن من شئ فزيد ذاهب لا محالة وأنه منه عزيمة وكان الأصل دخول الفاء على الجملة لأنها الجزاء لكن كرهوا إيلاءها حرف الشرط فأدخلوها على الخبر وعوضوا المبتدأ عن الشرط لفظا وفي تصديره الجملتين به إخماد لأمر المؤمنين واعتداد بعلمهم وذم بليغ للكافرين على قولهم والضمير في { أنه } للمثل أو لأن يضرب و
{ الحق } الثابت الذي لا يسوغ إنكاره يعم الأعيان الثابتة والأفعال الصائبة والأقوال الصادقة من قولهم حق الأمر إذا ثبت ومنه : ثوب محقق أي : محكم النسج
{ وأما الذين كفروا فيقولون } كان من حقه وأما الذين كفروا فلا يعلمون ليطابق قرينه ويقابل قسيمه لكن لما كان قولهم هذا دليلا واضحا على كمال جهلهم عدل إليه على سبيل الكناية ليكون كالبرهان عليه
{ ماذا أراد الله بهذا مثلا } يحتمل وجهين : أن تكون ما استفهامية و ذا بمعنى الذي وما بعده صلته والمجموع خبر ما وأن تكون ما مع ذا اسما واحدا بمعنى : أي شئ منصوب المحل على المفعولية مثل ما أراد الله والأحسن في جوابه الرفع على الأول والنصب على الثاني ليطابق الجواب السؤال والإرادة : نزوع النفس وميلها إلى الفعل بحيث يحملها عليه وتقال للقوة التي هي مبدأ النزوع والأول مع الفعل والثاني قبله وكلا المعنيين غير متصور اتصاف الباري تعالى به ولذلك اختلف في معنى إرادته فقيل : إرادته لأفعاله أنه غير ساه ولا مكره ولأفعال غيره أمره بها فعلى هذا لم تكن المعاصي بإرادته وقيل : علمه باشتمال الأمر على النظام الأكمل والوجه الأصلح فإنه يدعر القادر إلى تحصيله والحق : أنه ترجيح أحد مقدوريه على الآخر وتخصيصه بوجه دون وجه أو معنى يوجب هذا الترجيح وهي أعم من الاختيار فإنه ميل مع تفضيل وفي هذا استحقار واسترذال و { مثلا } نصب على التمييز أو الحال كقوله تعالى : { هذه ناقة الله لكم آية }
{ يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا } جواب ماذا أي : إضلال كثير وإهداء كثير وضع الفعل موضع المصدر للإشعار بالحدوث والتجدد أو بيان للجملتين المصدرتين بإما و تسجيل بأن العلم بكونه حقا هدى وبيان وأن الجهل - بوجه إيراده والإنكار لحسن مورده - ضلال وفسوق وكثرة كل واحد من القبيلتين بالنظر إلى أنفسهم لا بالقياس إلى مقابليهم فإن المهديين قليلون بالإضافة إلى أهل الضلال كما قال تعالى : { وقليل ما هم } { وقليل من عبادي الشكور } ويحتمل أن يكون كثرة الضالين من حيث العدد وكثرة المهديين باعتبار الفضل والشرف كما قال :
( قليل إذا عدوا كثير إذا شدوا )
وقال :
( إن الكرام كثير في البلاد وإن ... قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا )
{ وما يضل به إلا الفاسقين } أي الخارجين عن حد الإيمان كقوله تعالى : { إن المنافقين هم الفاسقون } من قولهم : فسقت الرطبة عن قشرها إذا خرجت وأصل الفسق : الخروج عن القصد قال رؤبة :
( فواسقا عن قصدها جوائرا )
والفاسق في الشرع : الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة وله درجات ثلاث :
الأولى : التغابي وهو أن يرتكبها أحيانا مستقبحا إياها
الثانية : الانهماك وهو أن يعتاد ارتكابها غير مبال بها
الثالثة : الجحود وهو أن يرتكبها مستصوبا إياها فإذا شارف هذا المقام وتخطى خططه خلع ربقة الإيمان من عنقه ولابس الكفر وما دام هو في درجة التغابي أو الانهماك فلا يسلب عنه اسم المؤمن لإتصافه بالتصديق الذي هو مسمى الإيمان ولقوله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } والمعتزلة لما قالوا : الإيمان : عبارة عن مجموع التصديق والإقرار والعمل والكفر تكذيب الحق وجحوده جعلوه قسما ثالثا نازلا بين منزلتي المؤمن والكافر لمشاركته كل واحد منهما في بعض الأحكام وتخصيص الإضلال بهم مرتبا على صفة الفسق يدل على أنه الذي أعدهم للإضلال وأدى بهم إلى الضلال وذلك لأن كفرهم وعدولهم عن الحق وإصرارهم بالباطل صرفت وجوه أفكارهم عن حكمة المثل إلى حقارة الممثل به حتى رسخت به جهالتهم وازدادت ضلالتهم فأنكروه واستهزؤوا به وقرئ ( يضل ) بالبناء للمفعول و الفاسقون بالرفع

27 - { الذين ينقضون عهد الله } صفة للفاسقين للذم وتقرير الفسق والنقض : فسخ التركيب وأصله في طاقات الحبل واستعماله في إبطال العهد من حيث إن العهد يستعار له الحبل لما فيه من ربط أحد المتعاهدين بالآخر فإن أطلق مع لفظ الحبل كان ترشيحا للمجاز وإن ذكر مع العهد كان رمزا إلى ما هو من روادفه وهو أن العهد حبل في شجاعته بحر بالنظر إلى إفادته والعهد : الموثق ووضعه لما من شأنه أن يراعي ويتعهد كالوصية واليمين ويقال للدار من حيث إنها تراعي بالرجوع إليها والتاريخ لأنه يحفظ وهذا العهد ك إما العهد المأخوذ بالعقل وهو الحجة القائمة على عبادة الدالة على توحيده ووجوب وجوده وصدق رسوله وعليه أول قوله تعالى : { وأشهدهم على أنفسهم } أو : المأخوذ بالرسل على الأمم بأنهم إذا بعث إليهم رسول مصدق بالمعجزات صدقوه واتبعوه ولم يكتموا أمره ولم يخالفوا حكمه وأليه أشار بقوله : { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب } ونظائره وقيل : عهود الله تعالى ثلاثة : عهد أخذه على جميع ذرية آدم بأن يقروا بربوبيته وعهد أخذه على النبيين بأن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه وعهد أخذه على العلماء بأن يبينوا الحق ولا يكتموه
{ من بعد ميثاقه } الضمير للعهد والميثاق : اسم لما يقع به الوثاقة وهي الاستحكام والمراد به ما وثق الله به عهده من الآيات والكتب أو ما وثقوه به من الالتزام والقبول ويحتمل أن يكون بمعنى المصدر و { من } للابتداء النقض بعد الميثاق
{ ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل } يحتمل كل قطيعة لا يرضاها الله تعالى كقطع الرحم والإعراض عن موالاة المؤمنين والتفرقة بين الأنبياء عليهم السلام والكتب في التصديق وترك الجماعات المفروضة وسائر ما فيه رفض خير أو تعاطي شر فإنه يقطع الوصلة بين الله وبين العبد المقصودة بالذات من كل وصل وفصل والأمر هو للقول الطالب للفعل وقيل : مع العلو وقيل : مع الاستعلاء وبه سمي الأمر الذي هو واحد الأمور تسمية للمفعول به بالمصدر فإنه مما يؤمر به كما قيل : له شأن وهو الطلب والقصد يقال : شأنت شأنه إذا قصدت قصده و { أن يوصل } يحتمل النصب والخفض على أنه بدل من ما أو ضمير والثاني أحسن لفظا ومعنى
{ ويفسدون في الأرض } بالمنع عن الإيمان والاستهزاء بالحق وقطع الوصل التي بها نظام العالم وصلاحه
{ أولئك هم الخاسرون } الذين خسروا بإهمال العقل عن النظر واقتناص ما يفيدهم الحياة الأبدية واستبدال الإنكار والطعن في الآيات بالإيمان بها والنظر في حقائقها والاقتباس من أنوارها واشتراء النقض بالوفاء والفساد بالصلاح والعقاب بالثواب

28 - { كيف تكفرون بالله } استخبار فيه إنكار وتعجيب لكفرهم بإنكار الحال التي يقع عليها على الطريق البرهاني فإن صدوره لا ينفك عن حال وصفة فإذا أنكر أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها استلزم ذلك إنكار وجوده فهو أبلغ وأقوى في إنكار الكفر من ( أتكفرون ) وأوفق لما بعده من الحال والخطاب مع الذين كفروا لما وصفهم بالكفر وسوء المقال وخبث الفعال خاطبهم على طريقة الالتفات ووبخهم على كفرهم مع علمهم بحالهم المقتضية خلاف ذلك والمعنى أخبروني على أي حال تكفرون
{ وكنتم أمواتا } أي أجساما لا حياة لها عناصر وأغذية وأخلاطا ونطفا ومضغا مخلفة وغير مخلفة
{ فأحياكم } بخلق الأرواح ونفخها فيكم وإنما عطفه بالفاء لأنه متصل بما عطف عليه غير متراخ عنه بخلاف البواقي
{ ثم يميتكم } عندما تقضي آجالكم { ثم يحييكم } بالنشور يوم ينفخ في الصور أو للسؤال في القبور { ثم إليه ترجعون } بعد الحشر فيجازيكم بأعمالكم أو تنشرون إليه من قبوركم للحساب فما أعجب كفركم مع علمكم بحالكم هذه فأن قيل : إن علموا أنهم كانوا أمواتا فأحياهم ثم يميتهم لم يعلموا أنه يحييهم ثم إليه يرجعون قلت : تمكنهم من العلم بهما لما نصب لهم من الدلائل منزل منزلة علمهم في إزاحة العذر سيما وفي الآية تنبيه على ما يدل على صحتهما وهو : أنه تعالى لما قدر على إحيائهم أولا قدر على أن يحييهم ثانيا فإن بدء الخلق ليس بأهون عليه من إعادته أو الخطاب مع القبيلين فإنه سبحانه وتعالى لما بين دلائل التوحيد والنبوة ووعدهم على الإيمان و أوعدهم على الكفر أكد ذلك بإن عدد عليهم النعم العامة والخاصة واستقبح صدور الكفر منهم واستبعده عنهم مع تلك النعم الجليلة فإن عظم النعم يوجب عظم معصية النعم فإن قيل : كيف تعد الإماتة من النعم المقتضية للشكر ؟ قلت : لما كانت وصلة إلى الحياة الثانية التي هي الحياة الحقيقية كما قال الله تعالى : { وإن الدار الآخرة لهي الحيوان } كانت من النعم العظيمة مع أن المعدود عليهم نعمة هو المعنى المنتزع من القصة بأسرها كما أن الواقع حالا هو العلم بها لا كل واحدة من الجمل فإن بعضها ماض وبعضها مستقبل وكلاهما لا يصح أن يقع حالا أو مع المؤمنين خاصة لتقرير المنة عليهم و تبعيد الكفر عنهم على معنى كيف يتصور منكم الكفر وكنتم أمواتا جهالا فأحياكم بما أفادكم من العلم والإيمان ثم يميتكم الموت المعروف ثم يحييكم الحياة الحقيقية ثم إليه ترجعون فيثيبكم بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر والحياة حقيقية في القوة الحساسة أو ما يقتضيها وبها سمي الحيوان حيوانا مجازا في القوة النامية لأنها من طلائعها ومقدماتها وفيما يخص الإنسان من الفصائل كالعقل والعلم والإيمان من حيث إنها كمالها وغايتها والموت بإزائها يقال على ما يقابلها في كل مرتبة قال تعالى : { قل الله يحييكم ثم يميتكم } وقال : { اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها } وقال : { أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس } وإذا وصف به الباري تعالى أريد بها صحة اتصافه بالعلم والقدرة اللازمة لهذه القوة فينا أو معنى قائم بذاته يقتضي ذلك على الاستعارة وقرأ يعقوب ترجعون بفتح التاء في جميع القرآن

29 - { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا } بيان نعمة أخرى مرتبة على الأولى فإنها خلقهم أحياء قادرين مرة بعد أخرى وهذه خلق ما يتوقف عليه بقاؤهم وتم به معاشهم ومعنى { لكم } لأجلكم وانتفاعكم في دنياكم باستنفاعكم بها في مصالح أبدانكم بوسط أو بغير وسط ودينكم بالاستدلال والاعتبار والتعرف لما يلائمها من لذات الآخرة وآلامها لا على وجه الغرض فإن الفاعل لغرض مستكمل به بل على أنه كالغرض من حيث إنه عاقبة الفعل ومؤداه وهو يقتضي إباحة الأشياء النافعة ولا يمنع اختصاص بعضها ببعض لأسباب عارضة فإنه يدل على أن الكل للكل لا أن كل واحد لكل واحد وما يعم كل ما في الأرض إلا إذا أريد بها جهة السفل كما يراد بالسماء جهة العلو جميعا : حال من الموصول الثاني
{ ثم استوى إلى السماء } قصد إليها بإرادته من قولهم استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصدا مستويا من غير أن يلوي على شئ وأصل الاستواء طلب السواء وإطلاقه على الاعتدال لما فيه من تسوية وضع الأجزاء ولا يمكن حمله عليه لأنه من خواص الأجسام وقيل استوى أي : استولى وملك قال :
( قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق )
والأول أوفق للأصل والصلة المعدى بها والتسوية المترتبة عليه بالفاء والمراد بالسماء هذه الأجرام العلوية أو جهات العلو و { ثم } لعله لتفاوت ما بين الخلقين وفضل خلق السماء على خلق الأرض كقوله تعالى : { ثم كان من الذين آمنوا } لا للتراخي في الوقت فإنه يخالف ظاهر قوله تعالى : { والأرض بعد ذلك دحاها } فإنه يدل على تأخر دحو الأرض المتقدم على خلق ما فيها عن خلق السماء وتسويتها إلا أن تستأنف بدحاها مقدرا لنصب الأرض فعلا آخر دل عليه { أأنتم أشد خلقا } مثل تعرف الأرض وتدبر أمرها بعد ذلك لكنه خلاف الظاهر
{ فسواهن } عدلهن وخلقهن مصونة من العوج والفطور و { هن } ضمير السماء إن فسرت بالأجرام لأنه جمع أو هو في معنى الجمع وإلا فمبهم يفسره ما بعده كقولهم : ربه رجلا
{ سبع سماوات } بدل أو تفسيره فإن قيل : أليس إن أصحاب الأرصاد أثبتوا تسعة أفلاك ؟ قلت : فيما ذكروه شكوك وإن صح فليس في الآية نفي الزائد مع أنه إن ضم إليها العرش والكرسي لم يتق خلاف
{ وهو بكل شيء عليم } فيه تعليل كأنه قال : ولكونه عالما بكنه الأشياء كلها خلق ما خلق على هذا النمط الأكمل والوجه الأنفع واستدلال بأن من كان فعله على هذا النسق العجيب والترتيب الأنيق كان عليما فإن إتقان الأفعال وإحكامها وتخصيصها بالوجه الأحسن الأنفع لا يتصور إلا من عالم حكيم رحيم وإزاحة لما يختلج في صدورهم من أن الأبدان بعدما تبددت وتفتتت أجزاؤها واتصلت بما يشاكلها كيف تجمع أجزاء كل بدن مرة ثانية بحيث لا يشذ شئ منها ولا ينضم إليها ما لم يكن معها فيعاد منها كما كان ونظيره قوله تعالى : { وهو بكل خلق عليم }
وعلم أن صحة الحشر مبنية على ثلاث مقدمات وقد برهن عليها في هاتين الآيتين : أما الأولى فهي : أن مواد الأبدان قابلة للجمع والحياة وأشار إلى البرهان عليها بقوله : { وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم } فإن تعاقب الافتراق والاجتماع والموت والحياة عليها يدل على أنها قابلة لها بذاتها وما بالذات يأبى أن يزول ويتغير وأما الثانية والثالثة : فإنه عز و جل عالم بها وبمواقعها قادر على جمعها وإحيائها وأشار إلى وجه إثباتهما بأنه تعالى قادر على إبدائها وإبداء ما هو أعظم خلقا وأعجب صنعا فكان أقدر على إعادتهم وإحيائهم وانه تعالى خلق ما خلق خلقا مستويا محكما من غير تفاوت واختلال مراع فيه مصالحهم وسد حاجاتهم وذلك دليل على تناهي علمه وكمال حكمته جلت قدرته ودقت حكمته وقد سكن نافع و أبو عمرو و الكسائي : الهاء من نحو فهو وهو تشبيها له بعضد

30 - { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } تعداد لنعمة ثالثة تعم الناس كلهم فإن خلق آدم وإكرامه وتفضيله على ملائكته بأن أمرهم بالسجود له إنعام يعم ذريته وإذا : ظرف وضع لزمان نسبة ماضية وقع فيه أخرى كما وضع إذ الزمان نسبة مستقبلة يقع فيه أخرى ولذلك يجب إضافتهما إلى الجمل كحيث في المكان وبنيتا تشبيها لهما بالموصولات واستعملنا للتعليل والمجازاة ومحلهما النصب أبدا بالظرفية فإنهما من الظروف الغير المتصرفة لما ذكرناه وأما قوله تعالى : { واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف } ونحوه فعلى تأويل : اذكر الحادث إذا كان كذا فحذف الحادث وأقيم الظرف مقامه وعامله في الآية قالوا أو أذكر على التأويل المذكور لأنه جاء معمولا له صريحا في القرآن كثيرا أو مضمر دل عليه مضمون الآية المتقدمة مثل وبدأ خلقكم إذ قال وعلى هذا فالجملة معطوفة على خلق لكم داخلة في حكم الصلة وعن معمر أنه مزيد والملائكة جمع ملأك على الأصل كالشمائل جمع شمأل والتاء لتأنيث الجمع وهو مقلوب مألك من الألوكة وهي : الرسالة لأنهم وسائط بين الله تعالى وبين الناس فهم رسل الله أو كالرسل إليهم واختلف العقلاء في حقيقتهم بعد اتفاقهم على أنها ذوات موجودة قائمة بأنفسهم فذهب أكثر المسلمين إلى أنها لطيفة قادرة على التشكل بأشكال مختلفة مستدلين بأن الرسل كانوا يرونهم كذلك وقالت طائفة من النصارى : هي النفوس الفاضلة البشرية المفارقة للأبدان وزعم الحكماء أنهم جواهر مجردة مخالفة للنفوس الناطقة في الحقيقة منقسمة إلى قسمين : قسم شأنهم الاستغراق في معرفة الحق جل جلاله والتنزه عن الاشتغال بغيره كما وصفهم في محكم تنزيله فقال تعالى : { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } وهم العليون والملائكة المقربون وقسم يدبر الأمر من السماء إلى الأرض على ما سبق به القضاء وجرى به القلم الإلهي { لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } وهم المدبرات أمرا فمنهم سماوية ومنهم أرضية على تفصيل أثبته في كتاب الطوالع
والمقول لهم : الملائكة كلهم لعموم اللفظ وعدم المخصص وقيل ملائكة الأرض وقيل إبليس ومن كان معه في محاربة الجن فإنه تعالى أسكنهم في الأرض أولا فأفسدوا فيها فبعث إليهم إبليس في جند الملائكة فدمرهم وفرقهم في الجزائر والجبال وجاعل : من جعل الذي له مفعولان وهما في { الأرض خليفة } أعمل فيهما لأنه بمعنى المستقبل ومعتمد على مسند إليه ويجوز أن يكون بمعنى خالق والخليفة من يخلف غيره وينوب منابه والهاء فيه للمبالغة والمراد به آدم عليه الصلاة و السلام لأنه كان خليفة الله في أرضة وكذلك كل نبي استخلفهم الله في عمارة الأرض وسياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم لا لحاجة به تعالى إلى من ينوبه بل لقصور المستخلف عليه عن قبول فيضه وتلقي أمره بغير وسط وذلك لم يستنبئ ملكا كما قال الله تعالى : { ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا } ألا ترى أن الأنبياء لما فاقت قوتهم واشتعلت قريحتهم بحيث يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار أرسل إليهم الملائكة ومن كان منهم أعلى رتبة كلمة بلا واسطة كما كلم موسى عليه السلام في الميقات ومحمدا صلى الله عليه و سلم ليلة المعراج ونظير ذلك في الطبيعة أن العظم لما عجز عن قبول الغذاء من اللحم لما بينهما من التباعد جعل الباري تعالى بحكمته بينهما الغضروف المناسب لهما ليأخذ من هذا ويعطي ذلك أو خليفة من سكن الأرض قبله أو هو وذريته لأنهم يخلفون من قبلهم أو يخلف بعضهم بعضا وإفراد اللفظ : إما للاستغناء بذكره عن ذكر بنيه كما استغني بذكر أبي القبيلة في قولهم : مضر وهاشم أو على تأويل من يخلفكم أو خلفا يخلفكم وفائدة قوله تعالى هذا للملائكة تعليم المشاورة وتعظيم شأن المجعول بأن بشر عز و جل بوجود سكان ملكوته ولقبه بالخليفة قبل خلقه وإظهار فضله الراجح على ما فيه من المفاسد بسؤالهم وجوابه وبيان أن الحكمة تقتضي إيجاد ما يغلب خيره فإن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير إلى غير ذلك
{ قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } تعجب من أن يستخلف لعمارة الأرض وإصلاحها من يفسد فيها أو يستخلف مكان أهل الطاعة أهل المعصية واستكشاف عما خفي عليهم من الحكمة التي بهرت تلك المفاسد وألغتها واستخبار عما يرشدهم ويزيح شبهتهم كسؤال المتعلم معلمه عما يختلج في صدره وليس باعتراض على الله تعالى جلت قدرته ولا طعن في بني آدم على وجه الغيبة فإنهم أعلى من أن يظن بهم ذلك لقوله تعالى : { بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } وإنما عرفوا ذلك بإخبار من الله تعالى أو تلق من اللوح أو استنباط عما ركز في عقولهم أن العصمة من خواصهم أو قياس لأحد الثقلين على الآخر السفك والسبك والسفح والشن أنواع من الصب فالسفك يقال في الدم والدمع والسبك في الجواهر المذابة والسفح في الصب من أعلى والشن في الصب من فم القربة ونحوها وكذلك السن وقرئ { يسفك } على البناء للمفعول فيكون الراجع إلى { من } سواء جعل موصولا أو موصوفا محذوفا أي : يسفك الدماء فيهم
{ ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } حال مقررة لجهة الإشكال كقولك : أتحسن إلى أعدائك وأنا الصديق المحتاج القديم والمعنى : أتستخلف عصاة ونحن معصومون أحقاء بذلك والمقصود منه الاستفسار ومع ما هو متوقع منهم على الملائكة المعصومين في الاستخلاف لا العجب والتفاخر وكأنهم علموا أن المجعول خليفة ذو ثلاث قوى عليها مدار أمره : شهوية وغضبية تؤديان به إلى الفساد وسفك الدماء و عقلية تدعوه إلى المعرفة والطاعة ونظروا إليها مفردة وقالوا : ما الحكمة في استخلافه وهو باعتبار تينك القوتين لا تقتضي إيجاده فضلا عن استخلافه وأما باعتبار القوة العقلية فنحن نقيم ما يتوقع منها سليما عن معارضة تلك المفاسد وغفلوا عن فضيلة كل واحدة من القوتين إذا صارت مهذبة مطواعة للعقل متمرنة على الخير كالعفة والشجاعة ومجاهدة الهوى والإنصاف ولم يعلموا أن التراكيب يفيد ما يقصر عنه الآحاد كالإحاطة بالجزئيات واستنباط الصناعات واستخراج منافع الكائنات من القوة إلى الفعل الذي هو المقصود من الاستخلاف وإليه أشار تعالى إجمالا بقوله :
{ قال إني أعلم ما لا تعلمون } والتسبيح تبعيد الله تعالى عن السوء وكذلك التقديس من سبح في الأرض والماء وقدس في الأرض إذا ذهب فيها وأبعد ويقال قدس إذا طهر لأن مطهر الشئ مبعد له عن الأقذار و { بحمدك } في موضع الحال أي : متلبسين بحمدك على ما ألهمتنا معرفتك ووفقتنا لتسبيحك تداركوا به ما أوهم إسناد التسبيح إلى أنفسهم ونقدس لك نطهر نفوسنا عن الذنوب لأجلك كأنهم قابلوا الفساد المفسر بالشرك عند قوم بالتسبيح وسفك الدماء الذي هو أعظم الأفعال الذميمة بتطهير النفوس عن الآثام وقيل : نقدسك واللام مزيدة

31 - { وعلم آدم الأسماء كلها } إما بخلق علم ضروري بها فيه أو إلقاء في روعه ولا يفتقر إلى سابقة اصطلاح ليتسلسل والتعليم فعل يترتب عليه العلم غالبا ولذلك يقال علمته فلم يتعلم و { آدم } اسم أعجمي كآزر وشالخ واشتقاقه من الأدمة أو الأمة بالفتح بمعنى الأسوة أو من أديم الأرض لما روي عنه عليه الصلاة و السلام [ أنه تعالى قبض قبضة من جميع الأرض سهلها وحزنها فخلق منها آدم ] فلذلك يأتي بنوه أخيافا أو من الأدم أو الأدمة بمعنى الألفة تعسف كاشتقاق إدريس من الدرس ويعقوب من العقب وإبليس من الإبلاس والاسم باعتبار الاشتقاق ما يكون علامة للشئ ودليلا يرفعه إلى الذهن مع الألفاظ والصفات والأفعال واستعماله فرفا في اللفظ الموضوع لمعنى سواء كان مركبا أو مفردا مخبرا أو رابطة بينهما واصطلاحا : في المفرد الدال على معنى يستلزم الأول لأن العلم بألفاظ من حيث الدلالة متوقف على العلم بالمعاني والمعنى أنه تعالى خلقه من أجزاء مختلفة وقوى متباينة مستعدا لإدراك أنواع المدركات من المعقولات والمحسوسات والمتخيلات والموهومات وألهمه معرفة ذوات الأشياء وخواصها وأسمائها وأصول العلوم وقوانين الصناعات وكيفية آلاتها
{ ثم عرضهم على الملائكة } الضمير فيه للمسميات المدلول عليها ضمنا إذ التقدير أسماء المسميات فحذف المضاف إليه لدلالة المضاف عليه وعوض عنه اللام كقوله تعالى : { واشتعل الرأس شيبا } لأن العرض للسؤال عن أسماء المعروضات فلا يكون المعروض نفس الأشياء سيما إن أريد به الألفاظ والمراد به ذوات الأشياء أو مدلولات الألفاظ وتذكيره ليغلب ما اشتمل عليه من العقلاء وقرئ عرضهن على معنى عرض مسمياتهن أو مسمياتها
{ فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء } تبكيت لهم وتنبيه على عجزهم عن أمر الخلافة فإن التصرف والتدبير إقامة المعدلة قبل تحقق المعرفة والوقوف على مراتب الاستعدادات وقدر الحقوق محال وليس بتكليف ليكون من باب التكليف بالمحال والإنباء : إخبار فيه إعلام ولذلك يجري مجرى كل واحد منهما
{ إن كنتم صادقين } في زعمكم أنكم أحقاء بالخلافة لعصمتكم أو أن خلقهم واستخلافهم وهذه صفتهم لا يليق بالحكيم وهو وإن لم يصرحوا به لكنه لازم مقالهم والتصديق كما يتطرق إلى الكلام باعتبار منطوقه قد يتطوق إليه بفرض ما يلزم مدلوله من الأخبار وبهذا الاعتبار يعتري الإنشاءات

32 - { قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا } اعتراف بالعجز والقصور وإشعار بأن سؤالهم كان استفسارا ولم يكن اعتراضا وأنه قد بان لهم ما خفي عليهم من فضل الإنسان والحكمة في خلقة وإظهار لشكر نعمته بما عرفهم وكشف لهم ما اعتقل عليهم ومراعاة للأدب بتفويض العلم كله إليه وسبحان : مصدر كغفران ولا يكاد يستعمل إلا مضافا منصوبا بإضمار فعله كمعاذ الله وقد أجري علما للتسبيح بمعنى التنزيه على الشذوذ في قوله : سبحان من علقمة الفاخر وتصدير الكلام به اعتذار عن الاستفسار والجهل بحقيقة الحال ولذلك جعل مفتاح التوبة فقال موسى عليه السلام : { سبحانك تبت إليك } وقال يونس : { سبحانك إني كنت من الظالمين }
{ إنك أنت العليم } الذي لا يخفى عليه خافية : { الحكيم } المحكم لمبدعاته الذي لا يفعل إلا ما فيه حكمة بالغة وأنت فصل وقيل : تأكيد للكاف كما في قولك : مررت بك أنت وإن لم يجز : مررت بأنت إذ التابع يسوغ فيه ما لا يسوغ في المتبوع ولذلك جاز : يا هذا الرجل ولم يجز : يا الرجل وقيل : مبتدأ خبره ما بعده والجملة خبر إن

33 - { قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم } أي : أعلمهم وقرئ بقلب الهمزة ياء وحذفها بكسر الهاء فيهما
{ فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون } استحضار لقوله تعالى : { إني أعلم ما لا تعلمون } لكنه جاء به على وجه أبسط ليكون كالحجة عليه فإنه تعالى لما علم ما خفي عليهم من أمور السماوات والأرض وما ظهر لهم من أحوالهم الظاهرة والباطنة علم ما لا يعلمون وفيه تعريض بمعاتبتهم على ترك الأولى وهو أن يتوقفوا مترصدين لأن يبين لهم وقيل : { ما تبدون } قولهم : أتجعل فيها من يفسد فيها وما { تكتمون } استبطانهم أنهم أحقاء بالخلافة وأنه تعالى لا يخلق خلقا أفضل منهم وقيل : ما أظهروا من الطاعة وأسر إبليس منهم من المعصية والهمزة للإنكار دخلت حرف الجحد فأفادت الإثبات والتقرير
واعلم أن هذه الآيات تدل على شرف الإنسان ومزية العلم وفضله على العبادة وأنه شرط في الخلافة بل العمدة فيها وأن التعليم يصح إسناده إلى الله تعالى وإن لم يصح إطلاق المعلم عليه لاختصاصه بمن يحترف به وأن اللغات توقيفية فإن الأسماء تدل على الألفاظ بخصوص أو عموم وتعليما ظاهر في إلقائها على المتعلم مبينا له معانيها وذلك يستدعي سابقة وضع والأصل ينفي أن يكون ذلك الوضع ممن كان قبل آدم فيكون من الله سبحانه وتعالى وان مفهوم الحكمة زائد على مفهوم العلم وإلا لتكرر قوله : { إنك أنت العليم الحكيم } وأن علوم الملائكة و كمالاتهم تقبل الزيادة والحكماء منعوا ذلك في الطبقة العليا منهم وحملوا عليه قوله تعالى : { وما منا إلا له مقام معلوم } وأن آدم أفضل من هؤلاء الملائكة لأنه أعلم منهم والأعلم أفضل لقوله تعالى : { هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } وأنه تعالى يعلم الأشياء قبل حدوثها

34 - { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } لما أنبأهم بأسمائهم وعلمهم ما لم يعلموا أمرهم بالسجود له اعترافا بفضله وأداء لحقه واعتذارا عما قالوا فيه وقيل : أمرهم به قبل أن يسوي خلقة لقوله تعالى : { فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين } امتحانا لهم وإظهارا لفضله والعاطف عطف الظرف على الظرف السابق إن نصبته بمضمر وإلا عطفه بما يقدر عاملا فيه على الجملة المتقدمة بل القصة بأسرها على القصة الأخرى وهي نعمة رابعة عدها عليهم والسجود في الأصل تذلل مع تطامن قول الشاعر :
( ترى الأكم فيها سجدا للحوافر )
وقال آخر :
( وقلن له اسجد لليلى فاسجدا )
يعني البعير إذا طأطأ رأسه وفي الشرع : وضع الجبهة على قصد العبادة والمأمور به إما المعنى الشرعي فالمسجود له بالحقيقة هو الله تعالى وجعل آدم قبلة لسجودهم تفخيما لشأنه أو سببا لوجوبه فكأنه تعالى لما خلقه بحيث يكون نموذجا للمبدعات كلها بل الموجودات بأسرها ونسخة لما في العالم الروحاني والجسماني وذريعة للملائكة إلى استيفاء ما قدر لهم من الكمالات ووصلة إلى ظهور ما تباينوا فيه من المراتب والدرجات أمرهم بالسجود تذللا لما رأوا فيه من عظيم قدرته وباهر آياته وشكرا لما أنعم عليهم بواسطته فاللام فيه كاللام في قول حسان رضي الله تعالى عنه :
( أليس أول من صلى لقبلتكم ... وأعرف الناس بالقرآن والسنن )
أو في قوله تعالى : { أقم الصلاة لدلوك الشمس }
وأما المعنى اللغوي وهو التواضع لآدم تحية وتعظيما له كسجود إخوة يوسف له أو التذلل والإنقياد بالسعي في تحصيل ما ينوط به معاشهم ويتم به كمالهم والكلام في أن المأمور بالسجود الملائكة كلهم أو طائفة منهم ما سبق
{ فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر } امتنع عما أمر به استكبارا من أن يتخذه وصلة في عبادة ربه أو يعظمه ويتلقاه بالتحية أو يخدمه ويسعى فيما فيه خيره وصلاحه والإباء : امتناع باختيار والتنكير : أن يرى الرجل نفسه أكبر من غيره والاستكبار طلب ذلك بالتشبع
{ وكان من الكافرين } أي في علم الله تعالى أو صار منهم باستقباحه أمر الله تعالى إياه بالسجود لآدم اعتقادا بأنه أفضل منه والأفضل لا يحسن أن يؤمر بالتخضع للمفضول والتوسع به كما أشعر به قاله : { أنا خير منه } جوابا لقوله : { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين } لا بترك الواجب وحده والآية تدل على أن آدم عليه السلام أفضل من الملائكة المأمورين بالسجود له ولو من وجه وأن إبليس كان من الملائكة وإلا لم يتناوله أمرهم ولا يصح استثناؤه منهم ولا يرد على ذلك قوله سبحانه وتعالى : { إلا إبليس كان من الجن } لجواز أن يقال إنه كان من الجن فعلا ومن الملائكة نوعا ولأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما روي : أن من الملائكة ضربا يتوالدون يقال لهم الجن ومنهم إبليس ولمن زعم أنه لم يكن من الملائكة أن يقول : إنه كان جنيا نشأ بين أظهر الملائكة وكان مغرورا بالألوف منهم فغلبوا عليه أو الجن أيضا كانوا مأمورين مع الملائكة لكنه استغنى بذكر الملائكة عن ذكرهم فإنه إذا علم أن الأكابر مأمورون بالتذلل لأحد والتوسل به علم أن الأصاغر أيضا مأمورون به والضمير في فسجدوا راجع إلى القبيلين كأنه قال فسجد المأمورون بالسجود إلا إبليس وأن من الملائكة من ليس بمعصوم وإن كان الغالب فيهم العصمة كما أن من الإنس معصومين والغالب فيهم عدم العصمة ولعل ضربا من الملائكة لا يخالف الشياطين بالذات وإنما يخالفهم بالعوارض والصفات كالبررة والفسقة من الإنس والجن يشملهما وكان إبليس من هذا الصنف كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فلذلك صح عليه التغير عن حاله والهبوط من محله كما أشار إليه بقوله عز و جل : { إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه } لا يقال : كيف يصح ذلك والملائكة خلقت من نور والجن من نار ؟ لما روت عائشة رضي الله تعالى عنها أنه عليه الصلاة و السلام قال : [ خلقت الملائكة من النور وخلق الجن من مارج من نار ] لأنه كالتمثيل لما ذكرنا فإن المراد بالنور الجوهر المضيء والنار كذلك غير أن ضوءها مكدر مغمور بالدخان محذور عنه بسبب ما يصحبه من فرط الحرارة والإحراق فإذا صارت مهذبة مصفاة كانت محض نور ومتى نكصت عادت الحالة الأولى جذعة ولا تزال تتزايد حتى ينطفئ نورها ويتقى الدخان الصرف وهذا أشبه بالصواب وأوفق للجمع بين النصوص والعلم عند الله سبحانه وتعالى
ومن فوائد الآية استقباح الاستكبار وأنه قد يفضي بصاحبه إلى الكفر والحث على الائتمار لأمره وترك الخوض في سره وأن الأمر للوجوب وأن الذي علم الله تعالى من حاله أنه يتوفى على الكفر هو الكافر على الحقيقة إذ العبرة بالخواتم وإن كان بحكم الحال مؤمنا وهو الموافاة المنسوبة إلى شيخنا أبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى
و

35 - { وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة } السكن من السكون لأنها استقرار ولبث و { أنت } تأكيد أكد به المستكن ليصبح العطف عليه وإنما لم يخاطبهما أولا تنبيها على أنه المقصود بالحكم والمعطوف عليه تبع له والجنة دار الثواب لأن اللام للعهد ولا معهود غيرها ومن زعم أنها لم تخلق بعد قال إنه بستان كان بأرض فلسطين أو بين فارس وكرمان خلقه الله تعالى امتحانا لآدم وحمل الإهباط على الانتقال منه إلى أرض الهند كما في قوله تعالى : { اهبطوا مصرا } { وكلا منها رغدا } واسعا رافها صفة مصدر محذوف
{ حيث شئتما } أي مكان من الجنة شئتما وسع الأمر عليهما إزاحة للعملة والعذر في التناول من الشجرة المنهي عنها من بين أشجارها الفائتة للحصر
{ ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين } فيه مبالغات تعليق النهي بالقرب الذي هو من مقدمات التناول مبالغة في تحريمه ووجوب الاجتناب عنه وتنبيها على أن القرب من الشئ يورث داعية وميلا يأخذ بمجامع القلب ويلهيه عما هو مقتضى العقل والشرع كما روي [ حبك الشئ يعمي ويصم ] فينبغي أن لا يحوما حول ما حرم الله عليهما مخافة أن يقعا فيه وجعله سببا لأن يكون من الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي أو بنقص حظهما بالإتيان بما يخل بالكرامة والنعيم فإن الفاء تفيد السببية سواء جعلت للعطف على النهي أو الجواب له والشجرة هي الحنطة أو الكرمة أو التينة أو شجرة من أكل منها أحدث والأولى أن لا تعين من غير قاطع كما لم تعين في الآية لعدم توقف ما هو المقصود عليه وقرئ بكسر الشين وتقربا بكسر التاء وهذي بالياء

36 - { فأزلهما الشيطان عنها } أصدر زلتهما عن الشجرة وحملهما على الزلة بسببها ونظير عن هذه في قوله تعالى { وما فعلته عن أمري } أو أزلهما عن الجنة بمعنى أذهبهما ويعضده قراءة حمزة فأزلهما وهما متقاربان في المعنى غير أن أزل يقتضي عثرة مع الزوال و إزلاله قوله : { هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى } وقوله : { ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين } ومقاسمته إياها بقوله : { إني لكما لمن الناصحين } واختلف في أنه تمثل لهما فقاولهما بذلك أو ألقاه إليهما على طريق الوسوسة وأنه كيف توصل إلى إزلالهما بعدما قيل له : { اخرج منها فإنك رجيم } فقيل : إنه منع من الدخول على جهة التكرمة كما كان يدخل مع الملائكة ولم يمنع أن يدخل للوسوسة ابتلاء لآدم وحواء وقيل : قام عند الباب فناداهما وقيل : تمثل بصورة دابة فدخل ولم تعرفه الخزنة وقيل : دخل في فم الحية حتى دخلت به وقيل : أرسل بعض أتباعه فأزلهما والعلم عند الله سبحانه وتعالى
{ فأخرجهما مما كانا فيه } أي من الكرامة والنعيم
{ وقلنا اهبطوا } خطاب لآدم عليه الصلاة و السلام وحواء لقوله سبحانه وتعالى : { قال اهبطا منها جميعا } وجمع الضمير لأنهما أصلا الجنس فكأنهما الإنس كلهم أو هما وإبليس أخرج منها ثانيا بعدما كان يدخلها للوسوسة أو دخلها مسارقة أو من السماء
{ بعضكم لبعض عدو } حال استغني فيها عن الواو بالضمير والمعنى متعادين يبغي بعضكم على بعض بتضليله
{ ولكم في الأرض مستقر } موضع استقرار أو استقرار
{ ومتاع } تمتع { إلى حين } يريد به وقت الموت أو القيامة

37 - { فتلقى آدم من ربه كلمات } استقبلها بالأخذ والقبول والعمل بها حين علمها وقرأ ابن كثير بنصب { آدم } ورفع الكلمات على أنها استقبلته وبلغته وهي قوله تعالى : { ربنا ظلمنا أنفسنا } وقيل : سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت وعن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : يا رب ألم تخلقني بيدك قال : بلى قال : يا رب ألم تنفخ في الروح من روحك قال : بلى قال : يا رب ألم تسبق رحمتك غضبك قال : بلى قال : ألم تسكني جنتك قال : بلى قال : يا رب إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة قال : نعم وأصل الكلمة : الكلم وهو التأثير المدرك بإحدى الحاستين السمع والبصر كالكلام والجراحة والحركة
{ فتاب عليه } رجع عليه بالرحمة وقبول التوبة وإنما رتبه بالفاء على تلقي الكلمات لتضمنه معنى التوبة : وهو الإعتراف بالذنب والندم عليه والعزم على أن لا يعود إليه واكتفى بذكر آدم لأن حواء كانت تبعا له في الحكم ولذلك طوي ذكر النساء في أكثر القرآن والسنن
{ إنه هو التواب } الرجاع على عباده بالمغفرة أو الذي إعانتهم على التوبة وأصل التوبة : الرجوع فإذا وصف بها العبد كان رجوعا عن المعصية وإذا وصف بها الباري تعالى أريد بها الرجوع عن العقوبة إلى المغفرة
{ الرحيم } المبالغ في الرحمة وفي الجمع بين الوصفين وعد للتائب بالإحسان مع العفو

38 - { قلنا اهبطوا منها جميعا } كرر للتأكيد أو لاختلاف المقصود فإن الأول دل على أن هبوطهم إلى دار بلية يتعادون فيها ولا يخلدون والثاني أشعر بأنهم أهبطوا للتكليف فمن اهتدى الهدى نجا ومن ضله هلك والتنبيه على أن مخالفة الإهباط المقترن بأحد هذين الأمرين وحدها كافية للحازم أن تعوقه عن مخالفة حكم الله سبحانه وتعالى فكيف بالمقترن بهما ولكنه نسي ولم نجد له عزما وأن كل واحد منهما كفى به نكالا لمن أراد أن يذكر وقيل الأول من الجنة إلى السماء الدنيا والثاني منها إلى الأرض وهو كما ترى و { جميعا } حال في اللفظ تأكيد في المعنى كأنه قيل : اهبطوا أنتم أجمعون ولذلك لا يستدعي اجتماعهم على الهبوط في زمان واحد كقولك : جاؤوا جميعا { فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } الشرط الثاني مع جوابه جواب الشرط الأول وما مزيدة أكدت به إن ولذلك حسن تأكيد الفعل بالنون وإن لم يكن فيه معنى الطلب والمعنى : إن يأتينكم مني هدى بإنزال أو إرسال فمن تبعه منكم نجا وفاز وإنما جيء بحرف الشك وإتيان كائن لا محالة لأنه محتمل في نفسه غير واجب عقلا وكرر لفظ الهدى ولم يضمر لأنه أراد بالثاني أعم من الأول وهو ما أتى به الرسل واقتضاه العقل أي : فمن تبع ما أتاه مراعيا فيه ما يشهد به العقل فلا خوف عليهم فضلا عن أن يحل بهم مكروه ولا هم يفوت عنهم محبوب فيحزنوا عليه فالخوف على المتوقع والحزن على الواقع نفى عنهم العقاب وأثبت لهم الثواب على آكد وجه وأبلغه وقرئ هدى على لغة هذيل ولا خوف بالفتح

39 - { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } عطف على { فمن تبع } إلى آخره قسيم له كأنه قال : ومن يتبع بل كفروا بالله وكذبوا بآياته أو كفروا بالآيات جنانا وكذبوا بها لسانا فيكون الفعلان متوجهين إلى الجار والمجرور والآية في الأصل العلامة الظاهرة ويقال للمصنوعات من حيث إنها تدل على وجود الصانع وعلمه وقدرته ولكل طائفة من كلمات القرآن المتميزة عن غيرها بفصل واشتقاقها من آي لأنها تبين آيا من أي أو من أوى إليه وأصلها أأية أو أوية كثمرة فأبدلت عينها ألفا على غير قياس أو أيية أو أوية كرمكة فأعلت أو آئية كقائلة فحذفت الهمزة تخفيفا والمراد { بآياتنا } الآيات المنزلة أو ما يعمها والمعقوله وقد تمسكت الحشوية بهذه القصة على عدم عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من وجوه :
الأول : أن آدم صلوات الله عليه كان نبيا وارتكب المنهي عنه والمرتكب له عاص
والثاني : أنه جعل بارتكابه من الظالمين والظالم ملعون لقوله تعالى : { ألا لعنة الله على الظالمين }
والثالث : أنه تعالى أسند إليه العصيان فقال { وعصى آدم ربه فغوى }
والرابع : أنه تعالى لقنه التوبة وهي الرجوع عن الذنب والندم عليه
والخامس : اعترافه بأنه خاسر لولا مغفرة الله تعالى إياه بقوله : { وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } والخاسر من يكون ذا كبيرة
والسادس : أنه لو لم يذنب لم يجر عليه ما جرى والجواب من وجوه
الأول : أنه لم نبيا حينئذ والمدعي مطالب بالبيان
الثاني : أن النهي للتنزيه وإنما سمي ظالما وخاسرا لأنه ظلم نفسه وخسر حظه بترك الأولى له وأما إسناد الغي والعصيان إليه فسيأتي الجواب عنه في موضعه إن شاء الله تعالى وإنما أمر بالتوبة تلافيا لما فات عنه وجرى عليه ما جرى معاتبة له على ترك الأولى ووفاء بما قاله للملائكة قبل خلقه
والثالث : أنه فعله ناسيا لقوله سبحانه وتعالى : { فنسي ولم نجد له عزما } ولكنه عوتب بترك التحفظ عن أسباب النسيان ولعله وإن حط عن الأمة لم يحط عن الأنبياء لعظم قدرهم كما قال عليه الصلاة و السلام [ أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل ] أو أدى فعلة إلى ما جرى عليه على طريق السببية المقدرة دون المؤاخذة على تناوله كتناول السم على الجاهل بشأنه لا يقال إنه باطل لقوله تعالى : { ما نهاكما ربكما } و { قاسمهما } لأنه ليس فيهما ما يدل على أن تناوله حين ما قال له إبليس فلعل مقاله أورث فيه ميلا طبيعيا ثم إنه كف نفسه عنه مراعاة لحكم الله تعالى إلى أن نسي ذلك وزال المانع فحمله الطبع عليه
والرابع : أنه عليه السلام أقدم عليه بسبب اجتهاد أخطأ فيه فإنه ظن أن النهي للتنزيه أو الإشارة إلى عين تلك الشجرة فتتناول من غيرها من نوعها وكان المراد بها الإشارة إلى النوع كما روي أنه عليه الصلاة و السلام [ أخذ حريرا وذهبا بيده وقال : هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثها ] وإنما جرى عليه ما جرى تعظيما لشأن الخطيئة ليجتنبها أولاده وفيها دلالة على أن الجنة مخلوقة وأنها في جهة عالية وأن التوبة مقبولة وأن متبع الهدى مأمون العاقبة أن عذاب النار دائم وأن الكافر فيه مخلد وأن غيره لا يخلد فيه بمفهوم قوله تعالى : { هم فيها خالدون }
وأعلم أنه سبحانه وتعالى لما ذكر دلائل التوحيد والنبوة والمعاد وعقبها تعداد النعم العامة تقريرا لها وتأكيدا فإنها من حيث إنها حوادث محكمة تدل على محدث حكيم له الخلق والأمر وحده لا شريك له ومن حيث إن الإخبار بها على ما هو مثبت في الكتب السابقة ممن لم يتعلمها ولم يمارس شيئا منها إخبار بالغيب معجز يدل على نبوة المخبر عنها ومن حيث اشتمالها على خلق الإنسان وأصوله وما هو أعظم من ذلك تدل على أنه قادرة على الإعادة كما كان قادرا على الإبداء خاطب أهل العلم والكتاب منهم وأمرهم أن يذكروا نعم الله تعالى عليهم ويوفوا بعهده في اتباع الحق واقتفاء الحجج ليكونوا أول من آمن بمحمد صلى الله عليه و سلم وما أنزل عليه فقال :

40 - { يا بني إسرائيل } أي أولاد يعقوب والابن من البناء لأنه مبنى أبيه ولذلك ينسب المصنوع إلى صانعه فيقال : أبو الحرب وبنت الفكر وإسرائيل لقب يعقوب عليه السلام ومعناه بالعبرية : صفوة الله وقيل : عبد الله وقرئ { إسرائيل } بحذف الياء وإسرال بحذفهما و { إسرائيل } بقلب الهمزة ياء
{ اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } أي بالتفكر فيها والقيام بشكرها وتقييد النعمة بهم لأن الإنسان غيور حسود بالطبع فإذا نظر إلى ما أنعم الله على غيره حمله الغيرة والحسد على الكفران والسخط وإن نظر إلى ما أنعم الله به عليه حمله حب النعمة على الرضى والشكر وقيل أراد بها ما أنعم الله به على آبائهم من الإنجاء من فرعون والغرق ومن العفو عن اتخاذ العجل وعليهم من إدراك زمن محمد صلى الله عليه و سلم وقرئ { اذكروا } والأصل إذتكروا ونعمتي بإسكان الياء وقفا وإسقاطها درجا هو مذهب من لا يحرك الياء المكسور ما قبلها
{ وأوفوا بعهدي } بالإيمان والطاعة
{ أوف بعهدكم } بحسن الإثابة والعهد يضاف إلى المعاهد والمعاهد ولعل الأول مضاف إلى الفاعل والثاني إلى المفعول فإنه تعالى عهد إليهم بالإيمان والعمل الصالح بنصب الدلائل وإنزال الكتب ووعد لهم بالثواب على حسناتهم وللوفاء بهما عرض عريض فأول مراتب الوفاء منا هو الإتيان بكلمتي الشهادة ومن الله تعالى حقن الدم والمال وآخرها منا الاستغراق في بحر التوحيد يغفل عن نفسه فضلا عن غيره ومن الله تعالى الفوز باللقاء الدائم ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أوفوا بعهدي في اتباع محمد صلى الله عليه و سلم أوف بعهدكم في رفع الآنصار والإغلال وعن غيره أوفوا بأداء الفرائض وترك الكبائر أوف بالمغفرة والثواب أو أوفوا بالاستقامة على الطريق المستقيم أوف بالكرامة والنعيم المقيم فبالنظر إلى الوسائط وقيل كلاهما مضاف إلى المفعول والمعنى : أوفوا بما عاهدتموني من الإيمان والتزام الطاعة أوف بما عاهدتكم من حسن الإثابة وتفصيل العهدين في سورة المائدة في قوله تعالى : { ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل } إلى قوله : { ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار } وقرئ أوف بالتشديد للمبالغة
{ وإياي فارهبون } فيما تأتون وتذرون وخصوصا في نقض العهد وهو آكد في إفادة التخصيص من إياك نعبد لما فيه مع التقديم من تكرير المفعول والفاء الجزائية الدالة على تضمن الكلام معنى الشرط كأنه قيل : إن كنتم راهبين شيئا فارهبون والرهبة : خوف مع تحرز والآية متضمنة للوعد والوعيد دالة على وجوب الشكر والوفاء بالعهد وأن المؤمن ينبغي أن لا يخاف أحدا إلا الله تعالى

41 - { وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم } إفراد للإيمان بالأمر به والحث عليه لأنه المقصود والعمدة للوفاء بالعهود وتقييد المنزل بأنه مصدق لما معهم من الكتب الإلهية من حيث إنه نازل حسبما نعت فيها أو مطابق لها في القصص والمواعيد والدعاء إلى التوحيد والأمر بالعبادة والعدل بين الناس والنهي عن المعاصي والفواحش وفيما يخالفها من جزئيات الأحكام بسبب تفاوت الأعصار في المصالح من حيث إن كل واحدة منها حق بالإضافة إلى زمانها مراعى فيها صلاح من خوطب بها حتى لو نزل المتقدم في أيام المتأخر لنزل على وفقه ولذلك قال عليه الصلاة و السلام [ لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي ] تنبيه على أن اتباعها لا ينافي الإيمان به بل يوجبه ولذلك عرض بقوله :
{ ولا تكونوا أول كافر به } بأن الواجب أن يكونوا أول من آمن به ولأنهم كانوا أهل النظر في معجزاته والعلم بشأنه والمستفتحين به والمبشرين بزمانه و { أول كافر به } وقع خبرا عن ضمير الجمع بتقدير : أول فريق أو فوج أو بتأويل لا يكن كل واحد منكم أول كافر به كقولك كسانا حلة فإن قيل كيف نهرا عن التقدم في الكفر وقد سبقهم مشركو العرب ؟ قلت المراد به التعريض لا الدلالة على ما نطق به الظاهر كقولك أما أنا فلست بجاهل أو لا تكونوا أول كافر به من أهل الكتاب أو ممن كفر بما معه فإن من كفر بالقرآن فقد كفر بما يصدقه أو مثل من كفر من مشركي مكة و { أول } : أفعل لا فعل له وقيل : أصله أو أل من وأل فأبدلت همزته واوا تخفيفا غير قياسي أو أأول من آل فقلبت همزته واوا وأدغمت
{ ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا } ولا تستبدلوا بالإيمان بها والاتباع لها حظوظ الدنيا فإنها وإن جلت قليلة مسترذلة بالإضافة إلى ما يفوت عنكم من حظوظ الآخرة بترك الإيمان قيل : كان لهم رياسة في قومهم ورسوم وهدايا منهم فخافوا عليها لو اتبعوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فاختاروها عليه وقيل : كانوا يأخذون الرشى فيحرفون الحق ويكتمونه
{ وإياي فاتقون } بالإيمان واتباع الحق والأعراض عن الدنيا ولما كانت الآية السابقة مشتملة على ما هو كالمبادي لما في الآية الثانية فصلت بالرهبة التي هي مقدمة التقوى ولأن الخطاب بها عم العالم المقلد أمرهم بالرهبة التي هي مبدأ السلوك والخطاب بالثانية لما خص أهل العلم أمرهم بالتقوى التي هي منتهاه

42 - { ولا تلبسوا الحق بالباطل } عطف على ما قبله واللبس الخلط وقد يلزمه جعل الشئ مشتبها بغيره والمعنى لا تخلطوا الحق المنزل بالباطل الذي تخترعونه وتكتمونه حتى لا يميز بينهما أو ولا تجعلوا الحق ملتبسا بسبب خلط الباطل الذي تكتبونه في خلاله أو تذكرونه في تأويله
{ وتكتموا الحق } جزم داخل تحت حكم النهي كأنهم أمروا بالإيمان وترك الضلال ونهوا عن الإضلال بالتلبيس على من سمع الحق والإخفاء على من لم يسمعه أو نصب بإضمار أن على أن الواو للجمع بمعنى مع أي لا تجمعوا لبس الحق بالباطل وكتمانه ويعضده أنه في مصحف ابن مسعود وتكتمون أي وأنتم تكتمون بمعنى كاتمين وفيه إشعار بأن استقباح اللبس لما يصحبه من كتمان الحق
{ وأنتم تعلمون } عالمين بأنكم لابسون كاتمون فإنه أقبح إذ الجاهل قد يعذر

43 - { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } يعني صلاة المسلمين وزكاتهم فإن فيرهما كلا صلاة وزكاة أمرهم بفروع الإسلام بعد ما أمرهم بأصوله وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بها و { الزكاة } من زكا الزرع إذا نما فإن إخراجها يستجلب بركة في المال ويثمر للنفس فضيلة الكرم أو من الزكاة بمعنى : الطهارة فإنها تطهر المال من الخبث والنفس من البخل
{ واركعوا مع الراكعين } أي في جماعتهم فإن [ صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة ] لما فيها من تظاهر النفوس وعبر عن الصلاة بالركوع احترازا عن صلاة اليهود وقيل الركوع : الخضوع والانقياد لما يلزمهم الشارع قال الأضبط السعدي :
( لا تذل الضعيف علك أن تر ... كع يوما والدهر قد رفعه )

44 - { أتأمرون الناس بالبر } تقرير مع توبيخ وتعجيب والبر : التوسع في الخير من البر وهو الفضاء الواسع يتناول كل خير ولذلك قيل ثلاثة : بر في عبادة الله تعالى وبر في مراعاة الأقارب وبر في معاملة الأجانب
{ وتنسون أنفسكم } وتتركونها من البر كالمنسييات وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في أحبار المدينة كانوا يأمرون سرا من نصحوه باتباع محمد صلى الله عليه و سلم ولا يتبعونه
وقيل : كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدقون { وأنتم تتلون الكتاب } تبكيت كقوله : { وأنتم تعلمون } أي تتلون التوراة وفيها الوعيد على العناد وترك البر ومخالفة القول العمل
{ أفلا تعقلون } قبح صنيعكم فيصدكم عنه أو أفلا عقل لكم يمنعكم عما تعلمون وخامة عاقبته والعقل في الأصل الحبس سمي به الإدراك الإنساني لأنه يحبسه عما يقبح ويعقله على ما يحسن ثم القوة التي بها النفس تدرك هذا الإدراك والآية ناعية على من يعظ غيره ولا يتعظ بنفسه سوء صنيعه وخبث نفسه وأن فعله فعل الجاهل بالشرع أو الأحمق الخالي عن العقل فإن الجامع بينهما تأبى عنه شكيمته والمراد بها حث الواعظ على تزكية النفس والإقبال عليها بالتكميل لتقوم فيقيم غيره لا منع الفاسق عن الوعظ فإن الإخلال بأحد الأمرين المأمور بهما لا يوجب الإخلال بالآخر

45 - { واستعينوا بالصبر والصلاة } متصل بما قبله كأنهم لما أمروا بما يشق عليهم لما فيه من الكلفة وترك الرياسة والإعراض عن المال عولجوا بذلك والمعنى استعينوا على حوائجكم بانتظار النجح والفرج توكلا على الله أو بالصوم الذي هو صبر عن المفطرات لما فيه من كسر الشهوة وتصفية النفس والتوسل بالصلاة والالتجاء إليها فإنها جامعة لأنواع العبادات النفسانية والبدنية من الطهارة وستر العورة وصرف المال فيهما والتوجه إلى الكعبة والعكوف للعبادة وإظهار الخشوع بالجوارح وإخلاص النية بالقلب ومجاهدة الشيطان ومناجاة الحق وقراءة القرآن والتكلم بالشهادتين وكف النفس عن الأطيبين حتى تجابوا إلى تحصيل المأرب وجبر المصائب روي أنه عليه الصلاة و السلام [ كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ] ويجوز أن يراد بها الدعاء
{ وإنها } : أي وإن الاستعانة بهما أو الصلاة وتخصيصها برد الضمير إليها لعظم شأنها واستجماعها ضروبا من الصبر أو جملة ما أمروا بها ونهوا عنها
{ لكبيرة } لثقيلة شاقة كقوله تعالى : { كبر على المشركين ما تدعوهم إليه }
{ إلا على الخاشعين } أي المخبتين والخشوع الإخبات ومنه الخشعة للرملة المتطامنة والخضوع اللين والانقياد ولذلك يقال الخشوع بالجوارح والخضوع بالقلب

46 - { الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون } أي يتوقعون لقاء الله تعالى ونيل ما عنده أو يتيقنون أنهم يحشرون إلى الله فيجازيهم ويؤيده أن في مصحف ابن مسعود يعلمون وكأن الظن لما شابه العلم في الرجحان أطلق عليه لتضمن معنى التوقع قال أوس بن حجر :
( فأرسلته مستيقن الظل أنه ... مخالط ما بين الشراسف جائف )
وإنما لم تثقل عليهم ثقلها على غيرهم فإن نفوسهم مرتاضة بأمثالها متوقعة في مقابلتها ما يستحقر لأجله مشاقها ويستلذ بسببه متاعبها ومن ثمة قال عليه الصلاة و السلام [ وجعلت قرة عيني في الصلاة ]

47 - { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } كرره للتأكيد وتذكير التفضيل الذي هو أجل النعم خصوصا وربطه بالوعيد الشديد تخويفا لمن غفل عنها وأخل بحقوقها
{ وأني فضلتكم } عطف على نعمتي
{ على العالمين } أي عالمي زمانهم ويريد به تفضيل آبائهم الذين كانوا في عصر موسى عليه الصلاة و السلام وبعده قبل أن يضروا بما منحهم الله تعالى من العلم والإيمان والعمل الصالح وجعلهم أنبياء وملوكا مقسطين واستدل به على تفضيل البشر على الملك وهو ضعيف

48 - { واتقوا يوما } أي ما فيه من الحساب والعذاب
{ لا تجزي نفس عن نفس شيئا } لا تقضي عنها شيئا من الحقوق أو شيئا من الجزاء فيكون نصبه على المصدر وقرئ لا { تجزي } من أجزأ عنه إذا أغنى وعلى هذا تعين أن يكون مصدرا وإيراده منكرا مع تنكير النفسين للتعميم و الإقناط الكلي والجملة صفة ليوما والعائد فيها محذوف تقديره لا تجزي فيه ومن لم يجوز حذف العائد المجرور قال اتسع : فيه فحذف عنه الجار وأجري مجرى المفعول به ثم حذف كما حذف من قوله : أم مال أصابوا
{ ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل } أي من النفس العاصية أو من الأولى وكأنه أريد بالآية نفي أن يدفع العذاب أحد عن أحد من كل وجه محتمل فإنه إما أن يكون قهرا أو غيره والأول النصرة والثاني إما أن يكون مجانا أو غيره والأول أن يشفع له والثاني إما بأداء ما كان عليه وهو أن يجزي عنه أو بغيره وهو أن يعطى عنه عدلا والشفاعة من الشفع كأن المشفوع له كان فردا فجعله الشفيع شفعا بضم نفسه إليه العدل الفدية وقيل : البدل وأصله التسوية سمي به الفدية لأنها سميت بالمفدى وقرأ ابن كثير و أبو عمرو ولا تقبل بالتاء
{ ولا هم ينصرون } يمنعون من عذاب الله والضمير لما دلت عليه النفس الثانية المنكرة الواقعة في سياق النفس من النفوس الكثيرة وتذكيره بمعنى العباد أو الأناسي والنصر أخص من المعونة لاختصاصه بدفع الضر وقد تمسكت المعتزلة بهذه الآية على نفي الشفاعة لأهل الكبائر وأجيب بأنها مخصوصة بالكفار للآيات والأحاديث الواردة في الشفاعة ويؤيد أن الخطاب معهم والآية نزلت ردا لما كانت اليهود تزعم أن آباءهم تشفع لهم

49 - { وإذ نجيناكم من آل فرعون } تفصيل لما أجمله في قوله : { اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } وعطف على { نعمتي } عطف { جبريل } و { ميكال } على { الملائكة } وقرئ أنجيتكم وأصل { آل } أهل لأن تصغيره أهيل وخص بالإضافة إلى أولي الخطر كالأنبياء والملوك و { فرعون } لقب لمن ملك العمالقة ككسرى وقيصر لملكي الفرس والروم ولعتوهم اشتق منه تفرعن الرجل إذا عتا وتجبر وكان فرعون موسى مصعب بن ريان وقيل ابنه من بقايا عاد وفرعون يوسف عليه السلام ريان وكان بينهما أكثر من أربعمائة سنة
{ يسومونكم } يبغونكم من سامه خسفا إذا أولاه ظلما وأصل السوم الذهاب في طلب الشئ
{ سوء العذاب } أفظعه فإنه قبيح بالإضافة إلى سائره والسوء مصدر ساء يسوء ونصبه على المفعول ليسومونكم والجملة حال من الضمير في نجيناكم أو من { آل فرعون } أو منهما جميعا لأن فيها ضمير كل واحد منهما
{ يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم } بيان ليسومونكم ولذلك لم يعطف وقرئ { يذبحون } بالتخفيف وإنما فعلوا بهم ذلك لأن فرعون رأى في المنام أو قال له الكهنة : سيولد منهم من يذهب بملكه فلم يرد اجتهادهم من قدر الله شيئا
{ وفي ذلكم بلاء } محنة إن أشير بذلكم إلى صنيعهم ونعمة إن أشير به إلى الإنجاء وأصله الاختيار لكن لما كان اختيار الله تعالى عبادة تارة بالمحنة وتارة بالمحنة أطلق عليهما ويجوز أن يشار بذلكم إلى الجملة ويراد به الامتحان الشائع بينهما
{ من ربكم } بتسليطهم عليكم أو ببعث موسى عليه السلام وتوفيقه لتخليصكم أو بهما { عظيم } صفة بلاء وفي الآية تنبيه على أن ما يصيب العبد من خير أو شر إختبار من الله تعالى فعليه أن يشكر على مساره ويصبر على مضاره ليكون من خير المختبرين

50 - { وإذ فرقنا بكم البحر } فلقناه وفصلنا بين بعضه وبعض حتى حصلت فيه مسالك بسلوككم فيه أو بسبب إنجائكم أو ملتبسا بكم كقوله :
( تدوس بنا الجماجم والتريبا )
وقرئ { فرقنا } على بناء التكثير لأن المسالك كانت اثني عشر بعدد الأسباط
{ فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون } أراد به فرعون وقومه وأقتصر على ذكرهم للعلم بأنه كان أولى به وقيل شخصه كما روي أن الحسن رضي الله تعالى عنه كان يقول : اللهم صل على آل محمد : أي شخصه واستغني بذكره عن ذكر أتباعه
{ وأنتم تنظرون } ذلك أي غرقهم وإطباق البحر عليهم أو انفلاق البحر عن طرق يابسة مذللة أو جثثهم التي قذفها البحر إلى الساحل أو ينظر بعضكم بعضا روي أنه تعالى أمر موسى عليه السلام أن يسري ببني إسرائيل فخرج بهم فصبحهم فرعون وجنوده وصادفهم على شاطئ البحر فأوحى الله تعالى إليه أن أضرب بعصاك البحر فضربه فظهر فيه اثنا عشر طريقا يابسا فسلكوها فقالوا : يا موسى نخاف أن يغرق بعضنا ولا نعلم ففتح الله فيها كوى فتراؤوا وتسامعوا حتى عبروا البحر ثم لما وصل إليه فرعون ورآه منفلقا اقتحم فيه هو وجنوده فالتطم عليهم وأغرقهم أجمعين
واعلم أن هذه الواقعة من أعظم ما أنعم الله به على بني إسرائيل ومن الآيات الملجئة إلى العلم بوجود الصانع الحكيم وتصديق موسى عليه السلام ثم إنهم بعد ذلك اتخذوا العجل وقالوا : { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } ونحو ذلك فهم بمعزل في الفطنة والذكاء وسلامة النفس وحسن الاتباع عن أمة محمد صلى الله عليه و سلم مع أن ما تواتر من معجزاته أمور نظرية مثل : القرآن والتحدي به والفضائل المجتمعة فيه الشاهدة على نبوة محمد صلى الله عليه و سلم دقيقة تدركها الأذكياء وإخباره عليه الصلاة و السلام عنها من جملة معجزاته على ما مر تقريره

51 - { وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة } لما عادوا إلى مصر بعد هلاك فرعون وعد الله موسى أن يعطيه التوراة وضرب له ميقاتا ذا القعدة وعشر ذي الحجة وعبر عنها بالليالي لأنها غرر الشهور وقرأ ابن كثير و نافع و عاصم و ابن عامر و وحمزة و الكسائي { واعدنا } لأنه تعالى وعده الوحي ووعده موسى عليه السلام المجيء للميقات إلى الطور
{ ثم اتخذتم العجل } إلها أو معبودا
{ من بعده } من بعد موسى عليه السلام أو مضيه
{ وأنتم ظالمون } بإشراككم

52 - { ثم عفونا عنكم } حين تبتم والعفو محو الجريمة من عفا إذا درس { من بعد ذلك } أي الاتخاذ { لعلكم تشكرون } أي لكي تشكروا عفوه

53 - { وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان } يعني التوراة الجامع بين كونه كتابا منزلا وحجة تفرق بين الحق والباطل وقيل أراد بالفرقان معجزاته الفارقة بين المحق والمبطل في الدعوى أو بين الكفر والإيمان وقيل الشرع الفارق بين الحلال والحرام أو النصر الذي فرق بينه وبين عدوه كقوله تعالى : { يوم الفرقان } يريد يوم بدر
{ لعلكم تهتدون } لكي تهتدوا بتدبر الكتاب والتفكر في الآيات

54 - { وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم } فاعزموا على التوبة والرجوع إلى من خلقكم براء من التفاوت ومميزا بعضكم عن بعض بصور وهيئات مختلفة وأصل التركيب لخلوص الشئ عن غيره إما على سبيل التقصي كقولهم بريء المريض من مرضه المديون من دينه أو الإنشاء كقولهم برأ الله آدم من الطين أو فتوبوا
{ فاقتلوا أنفسكم } إتماما لتوبتكم بالبخع أو قطع الشهوات كما قيل من لم يعذب نفسه لم ينعمها ومن لم يقتلها لم يحيها وقيل أمروا أن يقتل بعضهم بعضا وقيل أمر من لم يعبد العجل أن يقتل العبدة روي أن الرجل كان يرى بعضه وقريبه فلم يقدر على المضي لأمر الله فأرسل الله ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون فأخذوا يقتلون من الغداة إلى العشي حتى دعا موسى وهارون فكشف السحابة ونزلت التوبة وكانت القتلى سبعين ألفا والفاء الأولى للتسبب والثانية للتعقيب
{ ذلكم خير لكم عند بارئكم } من حيث إنه طهرة من الشرك ووصلة إلى الحياة الأبدية والبهجة السرمدية
{ فتاب عليكم } متعلق بمحذوف إن جعلته من كلام موسى عليه السلام لهم تقديره : إن فعلتم ما أمرتم به فقد تاب عليكم أو عطف على محذوف إن جعلته خطابا من الله تعالى لهم على طريقة الالتفات كأنه قال : ففعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم بارئكم وذكر البارئ وترتيب الأمر عليه إشعارا بأنهم بلغوا غاية الجهالة والغباوة حتى تركوا عبادة خالقهم الحكيم إلى عبادة البقر التي هي مثل الغباوة وأن من لم يعرف حق منعمه حقيق بأن لا يسترد منه ولذلك أمروا بالقتل وفك التركيب
{ إنه هو التواب الرحيم } للذي يكثر توفيق التوبة أو قبولها من المذنبين ويبالغ في الإنعام عليهم

55 - { وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك } أي لأجل قولك أو لن نقر لك
{ حتى نرى الله جهرة } عيانا وهي في الأصل مصدر قولك : جهرت بالقراءة استعيرت للمعاينة ونصبها على المصدر لأنها نوع من الرؤية أو الحال من الفاعل أو المفعول وقرئ جهرة بالفتح على أنها مصدر كالغلبة أو جمع جاهر كالكتبة فيكون حالا من الفاعل قطعا والقائلون هم السبعون الذين اختارهم موسى عليه السلام للميقات وقيل عشرة آلاف من قومه والمؤمن به : إن الله الذي أعطاك التوراة وكلمك أو إنك نبي
{ فأخذتكم الصاعقة } لفرط العناد والنعت وطلب المستحيل فإنهم ظنوا أنه تعالى يشبه الأجسام فطلبوا رؤيته رؤية الأجسام في الجهات والأحياز المقابلة للرائي وهي محال بل الممكن أن يرى رؤية منزهة عن الكيفية وذلك للمؤمنين في الآخرة ولأفراد من الأنبياء في بعض الأحوال في الدنيا قيل جاءت نار من السماء فأحرقتهم وقيل صيحة وقيل جنود سمعوا بحسيسها فخروا صعقين ميتين يوما وليلة
{ وأنتم تنظرون } ما أصابكم بنفسه أو أثره

56 - { ثم بعثناكم من بعد موتكم } بسبب الصاعقة وقيد للبعث لأنه قد يكون عن إغماء أو نوم كقوله تعالى : { ثم بعثناهم }
{ لعلكم تشكرون } نعمة البعث أو ما كفرتموه لما رأيتم بأس الله بالصاعقة

57 - { وظللنا عليكم الغمام } سخر الله لهم السحاب يظلهم من الشمس حين كانوا في التيه
{ وأنزلنا عليكم المن والسلوى } الترنجبين والسماني قيل كان ينزل عليهم المن مثل الثلج من الفجر إلى الطلوع وتبعث الجنوب عليهم السماني وينزل بالليل عمود نار يسيرون في ضوئه وكانت ثيابهم لا تتسخ ولا تبلى
{ كلوا من طيبات ما رزقناكم } على إرادة القول
{ وما ظلمونا } فيه اختصار وأصله فظلموا بأن كفروا هذه النعم وما ظلمونا
{ ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } بالكفران لأنه لا يتخطاهم ضرره

58 - { وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية } يعني بيت المقدس وقيل أريحا أمروا به بعد التيه
{ فكلوا منها حيث شئتم رغدا } واسعا ونصبه على المصدر أو الحال من الواو
{ وادخلوا الباب } أي باب القرية أو القبة التي كانوا يصلون إليها فإنهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى عليه الصلاة و السلام
{ سجدا } متطامنين مخبتين أو ساجدين لله شكرا على إخراجهم من التيه
{ وقولوا حطة } أي مسألتنا أو أمرك حطة وهي فعلة من الحط كالجلسة وقرئ بالنصب على الأصل بمعنى : حط عنا ذنوبنا حطة أو على أنه مفعول { قولوا } أي قولوا هذه الكلمة وقيل معناه أمرنا حطة أي : أن نحط في هذه القرية ونقيم بها
{ نغفر لكم خطاياكم } بسجودكم وقرأ نافع بالياء و ابن عامر بالتاء على البناء للمفعول وخطايا أصله خطايئ كخطايع فعند سيبويه أنه أبدلت الياء الزائدة همزة لوقوعها بعد الألف واجتمعت همزتان فأبدلت الثانية ياء ثم قلبت ألفا وكانت الهمزة بين الألفين فأبدلت ياء وعند الخليل قدمت الهمزة على الياء ثن فعل بهما ما ذكر
{ وسنزيد المحسنين } ثوابا جعل الامتثال توبة للمسيء وسبب زيادة الثواب للمحسن وأخرجه عن صورة الجواب إلى الوعد إيهاما بأن المحسن بصدد ذلك وإن لم يفعله فكيف إذا فعله وأنه تعالى يفعل لا محالة

59 - { فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم } بدلوا بما أمروا به من التوبة والاستغفار بطلب ما يشتهون من أعراض الدنيا
{ فأنزلنا على الذين ظلموا } كرره مبالغة في تقبيح أمرهم وإشعارا بأن الإنزال عليهم لظلمهم بوضع غير المأمور به موضعه أو على أنفسهم بأن تركوا ما يوجب نجاتها إلى ما يوجب هلاكها
{ رجزا من السماء بما كانوا يفسقون } عذابا من السماء بسبب فسقهم والرجز في الأصل : ما يعاف عنه وكذلك الرجس وقرئ بالضم وهو لغة فيه والمراد به الطاعون روي أنه مات في ساعة أربعة وعشرون ألفا

60 - { وإذ استسقى موسى لقومه } لما عطشوا في التيه
{ فقلنا اضرب بعصاك الحجر } اللام فيه للعهد على ما روي أنه كان حجرا طوريا حمله معه وكانت تنبع من كل وجه ثلاث أعين تسيل كل عين في جدول إلى سبط وكانوا ستمائة ألف وسعة المعسكر اثنا عشر ميلا أو حجرا أهبطه آدم من الجنة ووقع إلى شعيب عليه اللام فأعطاه لموسى مع العصا أو الحجر الذي فر بثوبه لما وضعه عليه ليغتسل وبرأه الله به عما رموه به من الأدرة فأشار إليه جبريل عليه السلام بحمله أو للجنس وهذا أظهر في الحجة قيل لم يأمره بأن يضرب حجرا بعينه ولكن لما قالوا : كيف بنا لو أفضينا إلى أرض لا حجارة بها ؟ حمل حجرا في مخلاته وكان يضربه بعصاه إذا نزل فينفجر ويضربه بها إذا ارتحل فيبس فقالوا : إن فقد موسى عصاه متنا عطشا فأوحى الله إليه لا تقرع الحجر وكلمه يطعمك لعلهم يعتبرون وقيل كان الحجر من رخام وكان ذراعا في ذراع والعصا عشرة أذرع على طول موسى عليه السلام من آس الجنة ولها شعبتان تتقدان في الظلمة
{ فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا } متعلق بمحذوف تقديره : فإن ضربت فقد انفجرت أو فضرب فانفجرت كما مر في قوله تعالى : { فتاب عليكم } وقرئ عشرة بكسر الشين وفتحها وهما لغتان فيه
{ قد علم كل أناس } كل سبط { مشربهم } عينهم التي يشربون منها { كلوا واشربوا } على تقدير القول :
{ من رزق الله } يريد به ما رزقهم الله من المن والسلوى وماء العيون وقيل الماء وحده لأنه يشرب ويؤكل مما ينبت به { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } لا تعتدوا حال إفسادكم وإنما قيده لأنه وإن غلب في الفساد قد يكون منه ما ليس بفساد كمقابلة الظالم المعتدي بفعله ومنه ما يتضمن صلاحا راجحا كقتل الخضر عليه السلام الغلام وخرقه السفينة ويقرب منه العيث غير أنه يغلب فيما يدرك حسا ومن أنكر أمثال هذه المعجزات فلغاية جهله بالله وقلة تدبره في عجائب صنعه فإنه لما أمكن أن يكون من الأحجار ما يحلق الشعر وينفر عن الخل ويجذب الحديد لم يمتنع أن يخلق الله حجرا يسخره لجذب الماء من تحت الأرض أو لجذب الهواء من الجوانب ويصيره ماء بقوة التبريد ونحو ذلك

61 - { وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد } يريدون به ما رزقوا في التيه من المن والسلوى وبوحدته أنه لا يختلف ولا يتبدل كقولهم طعام مائدة الأمير واحد يريدون أنه لا يتغير ألوانه وبذلك أجمعوا أو ضرب واحد لأنهما طعام أهل التلذذ وهم كانوا فلاحة فنزعوا إلى عكرهم واشتهوا ما ألفوا { فادع لنا ربك } سله لنا بدعائك إياه { يخرج لنا } يظهر ويوجد وجزمه بأنه جواب فادع فإن دعوته سبب الإجابة { مما تنبت الأرض } من الإسناد المجازي وإقامة القابل مقام الفاعل ومن للتبعيض { من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها } تفسير وبيان وقع موقع الحال وقيل بدل بإعادة الجار والبقل ما أنبته الأرض من الخضر والمراد به أطايبه التي تؤكل والفوم الحنطة ويقال للخبز ومنه فوموا لنا وقيل الثوم وقرئ قثائها بالضم وهو لغة فيه { قال } أي الله أو موسى عليه السلام
{ أتستبدلون الذي هو أدنى } أقرب منزلة وأدون قدرا وأصل الدنو القرب في المكان فاستعير للخسة كما استعير البعد للشرف والرفعة فقيل بعيد المحل بعيد الهمة وقرئ أدنأ من الدناءة { بالذي هو خير } يريد به المن والسلوى فإنه خير في اللذة والنفع وعدم الحاجة إلى السعي { اهبطوا مصر } انحدروا إليه من التيه يقال هبط الوادي إذا نزل به وهبط منه إذا خرج منه وقرئ بالضم والمصر البلد العظيم وأصله الحد بين الشيئين وقيل أراد به العلم وإنما صرفه لسكون وسطه أو على تأويل البلد ويؤيده أنه غير منون في مصحف ابن مسعود وقيل أصله مصراتهم فعرب { فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة } أحيطت بهم إحاطة القبة بمن ضربت عليه أو ألصقت بهم من ضرب الطين على الحائط مجازاة لهم على كفران النعمة واليهود في غالب الأمر أذلاء مساكين إما على الحقيقة أو على التكلف مخافة أن تضاعف جزيتهم { وباءوا بغضب من الله } رجعوا به أو صاروا أحقاء بغضبه من ياء فلان بفلان إذا كان حقيقا بأن يقتل به وأصل البوء المساواة { ذلك } إشارة إلى ما سبق من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب { بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق } بسبب كفرهم بالمعجزات التي من جملتها ما عد عليهم من فلق البحر وإظلال الغمام وإنزال المن والسلوى وانفجار العيون من الحجر أو بالكتب المنزلة : كالإنجيل والفرقان وآية الرجم والتي فيها نعت محمد صلى الله عليه و سلم من التوراة وقتلهم الأنبياء فإنهم قتلوا شعياء وزكريا ويحيى وغيرهم بغير الحق عندهم إذ لم يروا منهم ما يعتقدون به جواز قتلهم وإنما حملهم على ذلك اتباع الهوى وحب الدنيا كما أشار إليه بقوله : { ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } أي : جرهم العصيان والتمادي والاعتداء فيه إلى الكفر بالآيات وقتل النبيين فإن صغار الذنوب سبب يؤدي إلى ارتكاب كبارها كما أن صغار الطاعات أسباب مؤدية إلى تحري كبارها وقيل كرر الإشارة للدلالة على أن ما لحقهم كما هو بسبب الكفر والقتل فهو بسبب ارتكابهم المعاصي واعتدائهم حدود الله تعالى وقيل الإشارة إلى الكفر والقتل والباء بمعنى مع وإنما جوزت الإشارة بالمفرد إلى شيئين فصاعدا على تأويل ما ذكر أو تقدم للإختصار ونظيره في الضمير قول رؤبة يصف بقرة :
( فيها خطوط من سواد وبلق ... كأنه في الجلد توليع البهق )
الذي حسن ذلك أن تثنية المضمرات والمبهمات وجمعها وتأنيثها ليست على الحقيقة ولذلك جاء الذي بمعنى الجمع

62 - { إن الذين آمنوا } بألسنتهم يريد به المتدينين بدين محمد صلى الله عليه و سلم المخلصين منهم والمنافقين وقيل المنافقين لانخراطهم في سلك الكفرة { والذين هادوا } تهودوا يقال هاد وتهود إذا دخل في اليهودية ويهود : إما عربي من هاد إذا تاب سموا بذلك لما تابوا من عبادة العجل وإما معرب يهوذا وكأنهم سموا باسم أكبر أولاد يعقوب عليه السلام { والنصارى } جمع نصران كندامى وندمان والياء في نصراني للمبالغة كما في أحمري سموا بذلك لأنهم نصروا المسيح عليه السلام أو لأنهم كانوا معه في قرية يقال لها نصران أو ناصرة فسموا باسمها أو من اسمها { والصابئين } قوم بين النصارى والمجوس وقيل أصل دينهم دين نوح عليه السلام وقيل هم عبدة الملائكة وقيل عبدة الكواكب وهو إن كان عربيا فمن صبأ إذا مال لأنهم مالوا عن سائر الأديان إلى دينهم أو من الحق إلى الباطل
{ من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا } من كان في دينه قبل أن ينسخ مصدقا بقلبه بالمبدأ والمعاد عاملا بمقتضى شرعه وقيل من آمن من هؤلاء الكفرة إيمانا خالصا ودخل في الإسلام دخولا صادقا : { فلهم أجرهم عند ربهم } الذي وعد لهم على إيمانهم وعملهم { ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } حين يخاف الكفار من العقاب ويحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب و { من } مبتدأ خبره { فلهم أجرهم } والجملة خبر إن أو بدل من اسم إن وخبرها { فلهم أجرهم } والفاء لتضمن المسند إليه معنى الشرط وقد منع سيبويه دخولها في خبر إن من حيث إنها لا تدخل الشرطية ورد بقوله تعالى : { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم }

63 - { وإذ أخذنا ميثاقكم } باتباع موسى والعمل بالتوراة { ورفعنا فوقكم الطور } حتى أعطيتم الميثاق روي أن موسى عليه الصلاة و السلام لما جاءهم بالتوراة فرأوا ما فيها من التكاليف الشاقة كبرت عليهم وأبوا قبولها فأمر جبريل عليه السلام فقلع الطور فظلله فوقهم حتى قبلوا { خذوا } على إرادة القول : { ما آتيناكم } من الكتاب { بقوة } بجد وعزيمة { واذكروا ما فيه } ادرسوه ولا تنسوه أو تفكروا فيه فإنه ذكر بالقلب أو اعلموا به { لعلكم تتقون } لكي تتقوا المعاصي أو رجاء منكم أن تكونوا متقين ويجوز عند المعتزلة أن يتعلق بالقول المحذوف أي : قلنا خذوا واذكروا إرادة أن تتقوا

64 - { ثم توليتم من بعد ذلك } أعرضتم عن الوفاء بالميثاق بعد أخذه { فلولا فضل الله عليكم ورحمته } بتوفيقكم للتوبة أو بمحمد صلى الله عليه و سلم يدعوكم إلى الحق ويهديكم إليه { لكنتم من الخاسرين } المغبونين بالانهماك في المعاصي أو بالخبط والضلال في فترة من الرسل ولو في الأصل لامتناع الشئ لامتناع غيره فإذا دخل على لا أفاد إثباتا وهو امتناع الشئ لثبوت غيره والاسم الواقع بعده عند سيبويه مبتدأ خبره واجب الحذف لدلالة الكلام عليه وسد الجواب مسده وعند الكوفيين فاعل فعل محذوف

65 - { ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت } اللام موطئة لقسم والسبت مصدر قولك سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت وأصله القطع أمروا بأن يجردوه للعبادة فاعتدى فيه ناس منهم في زمن داود عليه السلام واشتغلوا بالصيد وذلك أنهم كانوا يسكنون قرية على ساحل يقال لها أيلة وإذا كان يوم السبت لم يبق حوت في البحر إلا حضر هناك وأخرج خرطومه فإذا مضى تفرقت فحفروا حياضا وشرعوا إليها الجداول وكانت الحيتان تدخلها يوم السبت فيصطادونها يوم الأحد { فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين } جامعين بين صورة القردة والخسوء : وهو الصغار والطرد وقال مجاهد ما مسخت صورهم ولكن قلوبهم فمثلوا بالقردة كما مثلوا بالحمار في قوله تعالى : { كمثل الحمار يحمل أسفارا } وقوله : { كونوا } ليس بأمر إذ لا قدرة لهم عليه وإنما المراد به سرعة التوكين وأنهم صاروا كذلك كما أراد بهم وقرئ قردة بفتح القاف وكسر الراء وخاسين بغير همزة

66 - { فجعلناها } أي المسخة أو العقوبة { نكالا } عبرة تنكل المعتبر بها أي تمنعه ومنه النكل للقيد { لما بين يديها وما خلفها } لما قبلها وما بعدها من الأمم إذ ذكرت حالهم في زبر الأولين واشتهرت قصتهم في الآخرين أو لمعاصريهم ومن بعدهم أو لما بحضرتها من القرى وما تباعد عنها أو لأهل تلك القرية وما حواليها أو لأجل ما تقدم عليها من ذنوبهم وما تأخر منها { وموعظة للمتقين } من قومهم أو لكل متق سمعها

67 - { وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } أول هذه القصة قوله تعالى : { وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها } وإنما فكت عنه وقدمت عليه لاستقلالها بنوع آخر من مساويهم وهو الاستهزاء بالأمر والاستقصاء في السؤال وترك المسارعة إلى الامتثال وقصته : أنه كان فيهم شيخ موسر فقتل ابنه بنو أخيه طمعا في ميراثه وطرحوه على باب المدينة ثم جاءوا يطالبون بدمه فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها ليحيا فيخبر بقاتله { قالوا أتتخذنا هزوا } أي مكان هزؤ أو أهله ومهزوءا بنا أو الهزء نفسه لفرط الاستهزاء استبعادا لما قاله واستخفافا به وقرأ حمزة و إسماعيل عن نافع السكون حفص عن عاصم بالضم وقلب الهمزة واوا { قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } لأن الهزؤ في مثل ذلك جهل وسفه نفى عن نفسه ما رمي به على طريقة البرهان وأخرج ذلك في صورة الاستعادة استفظاعا له

68 - { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } أي حالها وصفتها وكان حقهم أن يقولوا : أي بقرة هي ؟ أو كيف هي ؟ لأن { ما } يسأل به عن الجنس غالبا لكنهم لما رأوا ما أمروا به على حال لم يوجد بها شئ من جنسه أجروه مجرى ما لم يعرفوا حقيقته ولم يروا مثله { قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر } لا مسنة ولا فتية يقال فرضت البقرة فروضا من الفرض وهو القطع كأنها فرضت سنها وتركيب البكر للأولية ومن البكرة والباكورة
{ عوان } نصف قال : نواعم بين أبكار وعون
{ بين ذلك } أي بين ما ذكر من الفارض والبكر ولذلك أضيف إليه بين فإنه لا يضاف إلا إلى متعدد وعود هذه الكنايات وإجراء تلك الصفات على بقرة يدل على أن المراد بها معينة ويلزمه تأخير البيان عن وقت الخطاب ومن أنكر ذلك زعم أن المراد بها بقرة من شق البقر غير مخصوصة ثم انقلبت مخصوصة بسؤلهم ويلزمه النسخ قبل الفعل فإن التخصيص أبطال للتخيير الثابت بالنص والحق جوازهما ويؤيد الرأي الثاني ظاهر اللفظ والمروي عنه عليه الصلاة و السلام [ لو ذبحوا أي بقرة أرادوا لأجزأتهم ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ] وتقريعهم بالتمادي وزجرهم على المراجعة بقوله : { فافعلوا ما تؤمرون } أي ما تؤمرونه بمعنى به من قولهم : أمرتك الخير فافعل ما أمرت به أو بمعنى مأموركم

69 - { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها } الفقوع نصوع الصفرة ولذلك تؤكد به فيقال : أصفر كما يقال أسود حالك وفي إسناده إلى اللون وهو صفة صفراء لملابسته بها فضل تأكيد كأنه قيل صفراء شديدة الصفرة صفرتها وعن الحسن سوداء شديدة السواد وبه فسر قوله تعالى : { جمالة صفر } قال الأعشى :
( تلك خيلي منه وتلك ركابي ... هن صفر أولادها كالزبيب )
ولعله عبر بالصفرة عن السواد لأنها من مقدماته أو لأن سواد الإبل تعلوه صفرة وفيه نظرة لأن الصفرة بهذا المعنى لا تؤكد بالفقوع { تسر الناظرين } أي تعجبهم والسرور أصله لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه من السر

70 - { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } تكرير للسؤال الأول واستكشاف زائد وقوله : { إن البقر تشابه علينا } اعتذار عنه أي إن البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير فاشتبه علينا وقرئ إن الباقر وهو اسم لجماعة البقر والأباقر والبواقر ويتشابه وتتشابه بالياء والتاء وتشابه ويشابه ويتشابه بطرح التاء وإدغامها في الشين على التذكير والتأنيث وتشابهت وتشابهت مخففا ومشددا وتشبه بمعنى تتشبه وتشبه بالتذكير ومتشابه ومتشابهة ومتشبه ومتشبهة { وإنا إن شاء الله لمهتدون } إلى المراد ذبحها أو إلى القاتل وفي الحديث [ لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد ] واحتج به أصحابنا على أن الحوادث بإرادة الله سبحانه وتعالى وأن الأمر قد ينفك عن الإرادة وإلا لم يكن للشرط بعد الأمر معنى والمعتزلة و الكرامية على حدوث الإرادة وأجيب بأن التعليق باعتبار التعلق

71 - { قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث } أي لم تذلل لكراب الأرض وسقي الحرث و { لا ذلول } صفة لبقرة بمعنى غير ذلول ولا الثانية مزيدة لتأكيد الأولى والفعلان صفتا ذلول كأنه قيل : لا ذلول مثيرة وساقية وقرئ لا ذلول بالفتح أي حيث هي كقولك مررت برجل لا بخيل ولا جبان أي حيث هو وتسقي من أسقى { مسلمة } سلمها الله تعالى من العيوب أو أهلها من العمل أو أخلص لونها من سلم له كذا إذا خلص له { لا شية فيها } لا لون فيها يخالف لون جلدها وهي في الأصل مصدر وشاه وشيا وشية إذا خلط بلونه لونا آخر { قالوا الآن جئت بالحق } أي بحقيقة وصف البقرة وحققتها لنا وقرئ { الآن } بالمد على الاستفهام ولان بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على السلام { فذبحوها } فيه اختصار والتقدير : فحصلوا البقرة المنعوتة فذبحوها { وما كادوا يفعلون } لتطويلهم وكثرة مراجعاتهم أو لخوف الفضيحة في ظهور القاتل أو لغلاء ثمنها إذ روي : أن شيخا صالحا منهم كان له عجلة فأتى بها الغيضة وقال : اللهم إني استودعكم لابني حتى يكبر فشبت وكانت وحيدة بتلك الصفات فساوموها من اليتيم وأمه حتى اشتروها بملء مسكها ذهبا وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير وكاد من أفعال المقاربة وضع لدنو الخبر حصولا فإذا دخل عليه النفي قيل معناه الإثبات مطلقا وقيل ماضيا والصحيح أنه كسائر الأفعال ولا ينافي قوله : { وما كادوا يفعلون } قوله { فذبحوها } لاختلاف وقتيهما إذ المعنى أنهم ما قاربوا أن يفعلوا حتى انتهت سؤالاتهم وانقطعت تعللاتهم ففعلوا كالمضطر الملجأ إلى الفعل

72 - { وإذ قتلتم نفسا } خطابا للجميع لوجود القتل فيهم { فادارأتم فيها } اختصمتم في شأنها إذ المتخاصمان يدفع بعضهما بعضا أو تدافعتم بأن طرح كل قتلها عن نفسه إلى صاحبه وأصله تدارأتم فأدغمت التاء في الدال واجتلبت لها همزة الوصل { والله مخرج ما كنتم تكتمون } مظهره لا محالة وأعمل مخرج لأنه حكاية مستقبل كما أعمل { باسط ذراعيه } لأنه حكاية حال ماضية

73 - { فقلنا اضربوه } عطف على ادارأتم وما بينها اعتراض والضمير للنفس والتذكير على تأويل الشخص أو القتيل { ببعضها } أي بعض كان وقيل : بأصغريها وقيل بلسانها وقيل بفخذها اليمنى وقيل بالأذن وقيل بالعجب { كذلك يحيي الله الموتى } يدل على ما حذف وهو فضربوه فحيي والخطاب مع من حضر حياة القتيل أو نزول الآية { ويريكم آياته } دلائله على كمال قدرته { لعلكم تعقلون } لكي يكمل عقلكم وتعلموا أن من قدر على إحياء نفس قدر على إحياء الأنفس كلها أو تعملوا على قضيته ولعله تعالى إنما لم يحيه ابتداء وشرط فيه ما شرط لما فيه من التقرب وأداء الواجب ونفع اليتيم والتنبيه على بركة التوكل والشفقة على الأولاد وأن من حق الطالب أن يقدم قربة والمتقرب أن يتحرى الأحسن ويغالي بثمنه كما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه : أنه ضحى بنجيبة اشتراها بثلاثمائة دينار وأن المؤثر في الحقيقة هو الله تعالى والأسباب أمارات لا إثر لها وأن من أراد أن يعرف أعدى عدوه الساعي في إماتته الموت الحقيقي فطريقة أن يذبح بقرة نفسه التي هي القوة الشهرية حين زال عنها شره الصبا ولم يلحقها ضعف الكبر وكانت معجبة رائقة المنظر غير مذللة في طلب الدنيا مسلمة عن دنسها لا سمة بها من مقابحها بحيث يصل أثره إلى نفسه فتحيا حياة طيبا وتعرب عما به ينكشف الحال ويرتفع ما بين العقل والوهم من التدارؤ والنزاع

74 - { ثم قست قلوبكم } القساوة عبارة عن الغلظ مع الصلابة كما في الحجر وقساوة القلب مثل في نبوه عن الاعتبار وثم الاستبعاد القسوة { من بعد ذلك } يعني إحياء القتيل أو جميع ما عدد من الآيات فإنها مما توجب لين القلب { فهي كالحجارة } في قسوتها { أو أشد قسوة } منها والمعنى أنها في القساوة مثل الحجارة أو أزيد عليها أو أنها مثلها أو مثل ما هو أشد منها قسوة كالحديد فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ويعضده قراءة الحسن بالجر عطفا على الحجارة وأنما لم يقل أقسى لما في أشد من المبالغة والدلالة على اشتداد القسوتين واشتمال المفضل على زيادة و { أو } للتخيير أو للترديد بمعنى : أن من عرف حالها شبهها بالحجارة أو بما هو أقسى منها
{ وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله } تعليل للتفضيل والمعنى : أن الحجارة تتأثر وتنفعل فإن منها ما يتشقق فينبع منه الماء وتنفجر منه الأنهار ومنها ما يتردى من أعلى الجبل انقيادا لما أراد الله تعالى به وقلوب هؤلاء لا تتأثر ولا تنفعل عن أمره تعالى والتفجر التفتح بسعة وكثرة والخشية مجاز عن الانقياد وقرئ { إن } على أنها المخففة من الثقيلة وتلزمها اللام الفارقة بينها وبين إن النافية ويهبط بالضم
{ وما الله بغافل عما تعملون } وعيد على ذلك وقرأ ابن كثير و نافع و يعقوب و خلف و أبو بكر بالياء ضما إلى ما بعده والباقون بالتاء

75 - { أفتطمعون } الخطاب لرسوله صلى الله عليه و سلم والمؤمنين { أن يؤمنوا لكم } أن يصدقوكم أو يؤمنوا لأجل دعوتكم يعني اليهود { وقد كان فريق منهم } طائفة من أسلافهم { يسمعون كلام الله } يعني التوراة { ثم يحرفونه } كنعت محمد صلى الله عليه و سلم وآية الرجم أو تأويله فيفسرونه بما يشتهون وقيل هؤلاء من السبعين المختارون سمعوا كلام الله تعالى حين كلم موسى عليه السلام بالطور ثم قالوا سمعنا الله تعالى يقول في آخره : إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا وإن شئتم فلا تفعلوا { من بعد ما عقلوه } أي فهموه بعقولهم ولم يبق فيه ريبة { وهم يعلمون } أنهم مفترون مبطلون ومعنى الآية : أن أحبار هؤلاء ومقدميهم كانوا على هذه الحالة فما ظنك بسفلتهم وجهالهم وأنهم إن كفروا وحرفوا فلهم سابقة في ذلك

76 - { وإذا لقوا الذين آمنوا } يعني منافقيهم { قالوا آمنا } بأنكم على الحق وإن رسولكم هو المبشر به في التوراة { وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا } أي الذين لم ينافقوا منهم عاتبين على من نافق { أتحدثونهم بما فتح الله عليكم } بما بين لكم في التوراة من نعت محمد صلى الله عليه و سلم أو الذين نافقوا لأعقابهم إظهارا للتصلب في اليهودية ومنعا لهم عن إبداء ما وجدوا في كتابهم فينافقون الفريقين فالاستفهام على الأول تقريع وعلى الثاني إنكار ونهي { ليحاجوكم به عند ربكم } ليحتجوا عليكم بما أنزل ربكم في كتابه جعلوا محاجتهم بكتاب الله وحكمه محاجة عنده كما يقال عند الله كذا ويراد به أنه جاء في كتابه وحكمه وقيل عند ذكر ربكم أو بين يدي رسول ربكم وقيل عند ربكم في القيامة وفيه نظر إذ الإخفاء لا يدفعه { أفلا تعقلون } إما من تمام كلام اللائمين وتقديره : أفلا تعقلون أنهم يحاجونكم به فيحجونكم أو خطاب من الله تعالى للمؤمنين متصل بقوله : { أفتطمعون } والمعنى : أفلا تعقلون حالهم وأن لا مطمع لكم في إيمانهم

77 - { أو لا يعلمون } يعني هؤلاء المنافقين أو اللائمين أو كليهما أو إياهم والمحرفين { أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون } ومن جملتهما إسرارهم الكفر وإعلانهم الإيمان وإخفاء ما فتح الله عليهم وإظهار غيره وتحريف الكلم عن مواضعه ومعانيه

78 - { ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب } جهلة لا يعرفون الكتابة فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها أو التوراة { إلا أماني } استثناء منقطع والأماني : جمع أمنية وهي في الأصل ما يقدره الإنسان في نفسه من منى إذا قدر ولذلك تطلق على الكذب وعلى ما يتمنى وما يقرأ والمعنى لكن يعتقدون أكاذيب أخذوها تقليدا من المحرفين أو مواعيد فارغة سمعوها منهم من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة وقيل إلا ما يقرأون قراءة عارية عن معرفة المعنى وتدبره من قوله :
( تمنى كتاب الله أول ليله ... تمني داود الزبور على رسل )
وهو لا يناسب وصفهم بأنهم أميون { وإن هم إلا يظنون } ما هم إلا قوم يظنون لا علم لهم وقد يطلق الظن بإزاء العلم على كل رأي واعتقاد من غير قاطع وإن جزم به صاحبه : كاعتقاد المقلد والزائغ عن الحق لشبهة

79 - { فويل } أي تحسر وهلك ومن قال إنه واد أو جبل في جهنم فمعناه : أن فيها موضعا يتبوأ فيه من جعل له الويل ولعله سماه بذلك مجازا وهو في الأصل مصدر لا فعل له وإنما ساغ الابتداء به نكرة لأنه دعاء { للذين يكتبون الكتاب } يعني المحرفين ولعله أراد به ما كتبوه من التأويلات الزائغة { بأيديهم } تأكيد كقولك : كتبته بيميني { ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا } كي يحصلوا به عرضا من أعراض الدنيا فإنه وإن جعل قليل بالنسبة إلى ما استوجبوه من العقاب الدائم { فويل لهم مما كتبت أيديهم } يعني المحرف { وويل لهم مما يكسبون } يريد به الرشى

80 - { وقالوا لن تمسنا النار } المس اتصال الشئ بالبشرة بحيث تتأثر الحاسة به واللمس كالطلب له ولذلك يقال ألمسه فلا أجده { إلا أياما معدودة } محصورة قليلة روي أن بعضهم قالوا نعذب بعدد أيام عبادة العجل أربعين يوما وبعضهم قالوا مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وإنما نعذب مكان كل ألف سنة يوما { قل أتخذتم عند الله عهدا } خبرا أو وعد بما تزعمون وقرأ ابن كثير و حفص بإظهار الذال والباقون بإدغامه { فلن يخلف الله عهده } جواب شرط مقدر أي : إن اتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده وفيه دليل على أن الخلف في خبره محال
{ أم تقولون على الله ما لا تعلمون } أم معادلة لهمزة الاستفهام بمعنى أي الأمرين كائن على سبيل التقرير للعلم بوقوع أحدهما أو منقطعة بمعنى : بل أتقولون على التقرير والتقريع

81 - { بلى } إثبات لما نفوه من مساس النار لهم زمانا مديدا ودهرا طويلا على وجه أعم ليكون كالبرهان على بطلان قولهم وتختص بجواب النفي { من كسب سيئة } قبيحة والفرق بينها وبين الخطيئة أنها قد تقال فيما يقصد بالذات والخطيئة تغلب فيما يقصد بالعرض لأنه من الخطأ والكسب : استجلاب النفع وتعليقه بالسيئة على طريق قوله : { فبشرهم بعذاب أليم }
{ وأحاطت به خطيئته } أي استولت عليه وشملت جملة أحواله حتى صار كالمحاط بها لا يخلو عنها شئ من جوانبه ن وهذا إنما يصح في شأن الكافر لأن غيره وإن لم يكن له سوى تصديق قلبه وإقرار لسانه فلم تحط الخطيئة به ولذلك فسرها السلف بالكفر وتحقيق ذلك : أن من أذنب ذنبا ولم يقلع عنه استجره إلى معاودة مثله والانهماك فيه وارتكاب ما هو أكبر منه حتى تستولي عليه الذنوب وتأخذ بمجامع قلبه فيصير بطبعه مائلا إلى المعاصي مستحسنا إياها معتقدا أن لا لذة سواها مبغضا لمن يمنعه عنها مكذبا لمن ينصحه فيها كما قال الله تعالى : { ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوأى أن كذبوا بآيات الله } وقرأ نافع { خطيئاته } وقرئ خطيته على القلب والإدغام فيهما { فأولئك أصحاب النار } ملازموها في الآخرة كما أنهم ملازمون أسبابها في الدنيا { هم فيها خالدون } دائمون أو لابثون لبثا طويلا والآية كما ترى لا حجة فيها على خلود صاحب الكبيرة وكذا التي قبلها

82 - { والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } جرت عادته سبحانه وتعالى على أن يشفع وعده بوعيده لترجى رحمته ويخشى عذابه وعطف العمل على إيمان يدل على خروجه عن مسماه

83 - { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله } إخبار في معنى النهي كقوله تعالى : { ولا يضار كاتب ولا شهيد } وهو أبلغ من صريح النهي لما فيه من إيهام أن المنهي سارع إلى الانتهاء فهو يخبر عنه ويعضده قراءة : لا تعبدوا وعطف { قولوا } عليه فيكون على إرادة القول : وقيل : تقديره أن لا يعبدوا فلما حذف أن رفع كقوله :
( ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي )
ويدل عليه قراءة : ألا تعبدوا فيكون بدلا عن الميثاق أو معمولا له بحذف الجار وقيل إنه جواب قسم دل عليه المعنى كأنه قال : وحلفناهم لا يعبدون وقرأ نافع و ابن عامر و أبو عمرو و عاصم و يعقوب بالتاء حكاية لما خوطبوا به والباقون بالياء لأنهم غيب { وبالوالدين إحسانا } تعلق بمضمر تقديره : وتحسنون أو أحسنوا { وذي القربى واليتامى والمساكين } عطف على الوالدين { واليتامى } جمع يتيم كنديم وندامى وهو قليل ومسكين مفعيل من السكون كأن الفقر أسكته { وقولوا للناس حسنا } أي قولا حسنا وسماه { حسنا } للمبالغة وقرأ حمزة و الكسائي و يعقوب حسنا بفتحتين وقرئ { حسنا } بضمتين وهو لغة أهل الحجاز وحسنى على المصدر كبشرى والمراد به ما فيه تخلق وإرشاد { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } يريد بهما ما فرض عليهم في ملتهم { ثم توليتم } على طريقة الالتفات ولعل الخطاب مع الموجودين منهم في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن قبلهم على التغليب أي أعرضتم عن الميثاق ورفضتموه { إلا قليلا منكم } يريد به من أقام اليهودية على وجهها قبل النسخ ومن أسلم منهم { وأنتم معرضون } قوم عادتكم الإعراض عن الوفاء والطاعة وأصل الإعراض الذهاب عن المواجهة إلى جهة العرض

84 - { وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم } على نحو ما سبق والمراد به أن لا يتعرض بعضهم بعضا بالقتل والإجلاء عن الوطن وإنما جعل قتل الرجل غيره قتل نفسه لاتصاله به نسبا أو دينا أو لأنه يوجبه قصاصا وقيل معناه لا ترتكبوا ما يبيح سفك دماءكم وإخراجكم من دياركم أو لا تفعلوا ما يرديكم ويصرفكم عن الحياة الأبدية فإنه القتل في الحقيقة ولا تقترفوا ما تمنعون به عن الجنة التي هي داركم فإنه الجلاء الحقيقي { ثم أقررتم } بالميثاق واعترفتم بلزومه { وأنتم تشهدون } توكيد كقولك أقر فلان شاهدا على نفسه وقيل وأنتم أيها الموجودون تشهدون على إقرار أسلافكم فيكون إسناد الإقرار إليهم مجازا

85 - { ثم أنتم هؤلاء } استبعاد لما ارتكبوا بعد الميثاق والإقرار به والشهادة عليه وأنتم مبتدأ وهؤلاء خبره على معنى أنتم بعد ذلك هؤلاء الناقصون كقولك أنت ذلك الرجل الذي فعل كذا نزل تغير الصفة منزلة تغير الذات وعددهم باعتبار ما أسند إليهم حضورا وباعتبار ما سيحكي عنهم غيبا وقوله تعالى : { تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم } إما حال والعامل فيها معنى الإشارة أو بيان لهذه الجملة وقيل : هؤلاء تأكيد والخبر هو الجملة وقيل بمعنى الذين والجملة صلته والمجموع هو الخبر وقرئ { تقتلون } على التكثير { تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان } حال من فاعل تخرجون أو من مفعوله أو كليهما والتظاهر التعاون من الظهر وقرأ عاصم و حمزة و الكسائي بحذف إحدى التاءين وقرئ بإظهارها وتظهرون بمعنى تتظهرون { وإن يأتوكم أسارى تفادوهم } روي أن قريظة كانوا حلفاء الأوس والنضير حلفاء الخزرج فإذا اقتتلا عاون كل فريق حلفاءه في القتل وتخريب الديار وإجلاء أهلها وإذا أسر أحد من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه وقيل معناه إن يأتوكم أسارى في أيدي الشياطين تتصدوا لإنقاذهم بالإرشاد والوعظ مع تضييعكم أنفسكم كقوله تعالى : { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم } وقرأ حمزة { أسرى } وهو جمع أسير كجريح وجرحى وأسارى جمعه كسكرى وسكارى وقيل هو أيضا جمع أسير وكأنه شبه بالكسلان وجمع جمعه وقرأ ابن كثير و أبو عمرو و حمزة و ابن عام تفدوهم { وهو محرم عليكم إخراجهم } متعلق بقوله { وتخرجون فريقا منكم من ديارهم } وما بينهما اعتراض والضمير للشأن أو مبهم ويفسره إخراجهم أو راجع إلى ما دل عليه تخرجون من المصدر وإخراجهم بدل أو بيان { أفتؤمنون ببعض الكتاب } يعني الفداء
{ وتكفرون ببعض } يعني حرمة المقاتلة والإجلاء { فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا } كقتل قريظة وسبيهم وإجلاء بني النضير وضرب الجزية على غيرهم وأصل الخزي ذل يستحيا منه ولذلك يستعمل في كل منهما { ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب } لأن عصيانهم أشد { وما الله بغافل عما تعملون } تأكيد للوعيد أي الله سبحانه وتعالى بالمرصاد لا يغفل عن أفعالهم وقرأ عاصم في رواية المفضل تردون على الخطاب لقوله { منكم } و ابن كثير و نافع و عاصم في رواية أبي بكر و خلف و يعقوب يعملون على أن الضمير لمن

86 - { أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة } آثروا الحياة الدنيا على الآخرة { فلا يخفف عنهم العذاب } بنقض الجزية في الدنيا والتعذيب في الآخرة { ولا هم ينصرون } بدفعهما عنهم

87 - { ولقد آتينا موسى الكتاب } أي التوراة { وقفينا من بعده بالرسل } أي أرسلنا على أثره الرسل كقوله سبحانه وتعالى : { ثم أرسلنا رسلنا تترا } يقال قفاه إذا اتبعه وقفاه به إذا أتبعه إياه من القفا نحو ذنبه من الذنب { وآتينا عيسى ابن مريم البينات } المعجزات الواضحات كإحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص والإخبار بالمغيبات أو الإنجيل وعيسى بالعبرية أبشوع ومريم بمعنى الخادم وهو بالعربية من النساء كالزير من الرجال قال رؤية : قلت لزير لم تصله مريمه ووزنه مفعل إذ لم يثبت فعيل { وأيدناه } وقويناه وقرئ آيدناه بالمد { بروح القدس } بالروح المقدسة كقولك : حاتم الجود ورجل صدق وأراد به جبريل وقيل : روح عيسى عليه الصلاة و السلام ووصفها به لطهارته عن مس الشيطان أو لكرامته على الله سبحانه وتعالى ولذلك أضافه إلى نفسه تعالى أو لأنه لم تضمه الأصلاب والأرحام الطوامث أو الإنجيل أو اسم الله الأعظم الذي كان يحيي به الموتى وقرأ ابن كثير { القدس } بالإسكان في جميع القرآن { أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم } بما لا تحبه يقال هوي بالكسر إذا أحب هويا بالفتح هوى بالضم إذا سقط ووسطت الهمزة بين الفاء وما تعلقت به توبيخا لهم على تعقيبهم ذلك بهذا وتعجيبا من شأنهم ويحتمل أن يكون استئنافا والفاء للعطف على مقدر { استكبرتم } عن الإيمان واتباع الرسل { ففريقا كذبتم } كموسى وعيسى عليهما السلام والفاء للسببية أو للتفصيل { وفريقا تقتلون } كزكريا ويحيى عليهما السلام وإنما ذكر بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية استحضارا لها في النفوس فإن الأمر فظيع أو مراعاة للفواصل أو للدلالة على أنكم بعد فيه فإنكم تحومون حول قتل محمد صلى الله عليه و سلم لولا أني أعصمه منكم ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة

88 - { وقالوا قلوبنا غلف } مغشاة بأغطية خلقية لا يصل إليها ما جئت به ولا تفقهه مستعار من الأغلف الذي لم يختن وقيل أصله غلف جمع غلاف فخفف والمعنى أنها أوعية للعلم لا تسمع علما إلا وعته ولا تعي ما تقول أو نحن مستغنون بما فيها عن غيره { بل لعنهم الله بكفرهم } رد لما قالوه والمعنى أنها خلقت على الفطرة والتمكن من قبول الحق ولكن الله خذلهم بكفرهم فأبطل استعدادهم أو أنها لم تأب قبول ما تقوله لخلل فيه بل لأن الله تعالى خذلهم بكفرهم كما قال تعالى : { فأصمهم وأعمى أبصارهم } أو هم كفرة ملعونون فمن أين لهم دعوى العلم والاستغناء عنك ؟ { فقليلا ما يؤمنون } فإيمانا قليلا يؤمنون وما مزيده للمبالغة في التقليل وهو إيمانهم ببعض الكتاب وقيل : أراد بالقلة العدم

89 - { ولما جاءهم كتاب من عند الله } يعني القرآن { مصدق لما معهم } من كتابهم وقرئ بالنصب على الحال من كتاب لتخصصه بالوصف وجواب لما محذوف دل عليه جواب لما الثانية { وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا } أي يستنصرون على المشركين ويقولون : اللهم انصرنا بنبي آخر الزمان المنعوت في التوراة أو يفتحون عليهم ويعرفونهم أن نبيا يبعث منهم وقد قرب زمانه والسين للمبالغة والإشعار أن الفاعل يسأل ذلك عن نفسه { فلما جاءهم ما عرفوا } من الحق { كفروا به } حسدا وخوفا على الرياسة { فلعنة الله على الكافرين } أي عليهم وأتى بالمظهر للدلالة على أنهم لعنوا لكفرهم فتكون اللام للعهد ويجوز أن تكون للجنس ويدخلون فيه دخولا أوليا لان الكلام فيهم

90 - { بئسما اشتروا به أنفسهم } ما نكرة بمعنى شئ مميزة لفاعل بئس المستكن واشتروا صفته ومعناه باعوا أو اشتروا بحسب ظنهم فإنهم ظنوا أنهم خلصوا أنفسهم من العقاب بما فعلوا { أن يكفروا بما أنزل الله } هو المخصوص بالذم { بغيا } طلبا لما ليس لهم وحسدا وهو علة { أن يكفروا } دون { اشتروا } للفصل { أن ينزل الله } لأن ينزل أي حسدوه على أن ينزل الله وقرأ ابن كثير و أبو عمرو و سهل و يعقوب بالتخفيف { من فضله } يعني الوحي { على من يشاء من عباده } على من اختاره للرسالة { فباءوا بغضب على غضب } للكفر والحسد على من هو أفضل الخلق وقيل : لكفرهم بمحمد صلى الله عليه و سلم بعد عيسى عليه السلام أو بعد قولهم عزير ابن الله { وللكافرين عذاب مهين } يراد به إذلالهم بخلاف عذاب العاصي فإنه طهرة لذنوبه

91 - { وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله } يعم الكتب المنزلة بأسرها { قالوا نؤمن بما أنزل علينا } أي التوراة { ويكفرون بما وراءه } حال من الضمير في قالوا ووراء في الأصل جعل ظرفا ويضاف إلى الفاعل فيراد به ما يتوارى به وهو خلقه وإلى المفعول فيراد به ما يواريه وهو قدامه ولذلك عد من الأضداد { وهو الحق } الضمير لما وراءه والمراد به القرآن { مصدقا لما معهم } حال مؤكدة تتضمن رد مقالهم فإنهم لما كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها { قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين } اعتراض عليهم بقتل الأنبياء مع إدعاء الإيمان بالتوراة لا تسوغه وإنما أسنده إليهم لأنه فعل آبائهم وأنهم راضون به عازمون عليه وقرأ نافع وحده أ ن أنباء الله مهموزا في جميع القرآن

92 - { ولقد جاءكم موسى بالبينات } يعني الآيات المذكورة في قوله تعالى : { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات } { ثم اتخذتم العجل } أي إلها { من بعده } من بعد مجيء موسى أو ذهابه إلى الطور { وأنتم ظالمون } حال بمعنى اتخذتم العجل ظالمين بعبادته أو بالإخلال بآيات الله تعالى أو اعتراض بمعنى وأنتم قوم عادتكم الظلم ومساق الآية أيضا لإبطال قولهم { نؤمن بما أنزل علينا } والتنبيه على أن طريقتهم مع الرسول طريقة أسلافهم مع موسى عليهما الصلاة والسلام لا لتكرير القصة وكذا ما بعده

93 - { وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا } أي قلنا لهم : خذوا ما أمرتم به في التوراة بجد واسمعوا سماع طاعة { قالوا سمعنا } قولك { وعصينا } أمرك { وأشربوا في قلوبهم العجل } تداخلهم حبه ورسخ في قلوبهم صورته لفرط شغفهم به كما يتداخل الصبغ الثوب والشراب أعماق البدن وفي قلوبهم : بيان لمكان الإشراب كقوله تعالى : { إنما يأكلون في بطونهم نارا } { بكفرهم } بسبب كفرهم وذلك لأنهم كانوا مجسمة أو حلولية ولم يروا جسما أعجب منه فتمكن في قلوبهم ما سول لهم السامري { قل بئسما يأمركم به إيمانكم } أي التوراة والمخصوص بالذم محذوف نحو هذا الأمر أو ما يعمه وغيره من قبائحهم المعدودة في الآيات الثلاث إلزاما عليهم { إن كنتم مؤمنين } تقرير للقدح في دعواهم الإيمان بالتوراة وتقديره إن كنتم مؤمنين بها لم يأمركم بهذه القبائح ولا يرخص لكم فيها إيمانكم بها أو إن كنتم مؤمنين بها فبئسما يأمركم به إيمانكم بها لأن المؤمن ينبغي أن لا يتعاطى إلا ما يقتضيه إيمانه لكن الإيمان بها لا يأمر به فإذا لستم بمؤمنين

94 - { قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة } خاصة بكم كما قلتم : { لن يدخل الجنة إلا من كان هودا } ونصبها على الحال من الدار { من دون الناس } سائرهم واللام للجنس أو المسلمين واللام للعهد { فتمنوا الموت إن كنتم صادقين } لأن من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاقها وأحب التخلص إليها من الدار ذات الشوائب كما قال علي رضي الله تعالى عنه : ( لا أبالي سقطت على الموت أو سقط الموت علي ) وقال عمار رضي الله تعالى عنه بصفين : ( الآن ألاقي الأحبة محمدا وحزبه ) وقال حذيفة رضي الله عنه حين اختصر : ( جاء حبيب على فاقة لا أفلح من ندم ) أي : على التمني سيما إذا علم أنها سالمة له لا يشاركه فيها غيره

95 - { ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم } من موجبات النار كالكفر بمحمد صلى الله عليه و سلم والقرآن وتحريف التوراة ولما كانت اليد العاملة مختصة بالإنسان آلة لقدرته بها عامة صنائعه ومنها أكثر منافعه عبر بها عن النفس تارة والقدرة أخرى وهذه الجملة إخبار بالغيب وكان كما أخبر لأنهم لو تمنوا لنقل واشتهر فإن التمني ليس من عمل القلب ليخفى بل هو أن يقول : ليت لي كذا ولو كان بالقلب لقالوا : تمنينا وعن النبي صلى الله عليه و سلم [ لو تمنوا الموت لغص كل إنسان بريقه فمات مكانه وما بقي على وجه الأرض يهودي ] { والله عليم بالظالمين } تهديد لهم وتنبيه على أنهم ظالمون في دعوى ما ليس لهم ونفيه عمن هو لهم

96 - { ولتجدنهم أحرص الناس على حياة } من وجد بعقله الجاري مجرى علم ومفعولاه هم وأحرص الناس وتنكير حياة لأنه أريد بها فرد من أفرادها وهي : الحياة المتطاولة : وقرئ باللام { ومن الذين أشركوا } محمول على المعنى وكأنه قال : أحرص من الناس على الحياة ومن الذين أشركوا وإفراده بالذكر للمبالغة فإن حرصتم شديد إذ لم يعرفوا إلا الحياة العاجلة والزيادة في التوبيخ والتقريع فإنهم لما زاد حرصهم ـ وهم مقرون بالجزاء على حرص المنكرين ـ دل ذلك على علمهم بأنهم صائرون إلى النار ويجوز أن يراد وأحرص من الذين أشركوا فحذف أحرص لدلالة الأول عليه وأن يكون خبر مبتدأ محذوف صفته { يود أحدهم } على أنه أريد بالذين أشركوا اليهود لأنهم قالوا : { عزير ابن الله } أي : ومنهم ناس يود أحدهم وهو على الأولين بيان لزيادة حرصهم على طريقة الاستئناف { لو يعمر ألف سنة } حكاية لودادتهم ولو بمعنى ليت وكان أصله : لو أعمر فأجرى على الغيبة لقوله : يود كقولك حلف بالله ليفعلن { وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر } الضمير لأحدهم وأن يعمر فاعل مزحزحه أي وما أحدهم بمن يزحزحه من العذاب تعميره أو لما دل عليه يعمر وأن يعمر بدل منه أو منهم وأن يعمر موضحه وأصل سنة سنوة لقولهم سنوات وقيل سنهة كجبهة لقولهم سانهته وتسنهت النخلة إذا أتت عليها السنون والزحزحة التبعيد { والله بصير بما يعملون } فيجازيهم

97 - { قل من كان عدوا لجبريل } [ نزل في عبد الله بن صوريا سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم عمن ينزل عليه الوحي ؟ فقال : جبريل فقال : ذاك عدونا عادانا مرارا وأشدها أنه أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخربه بختنصر فبعثنا من يقتله فرآه ببابل فدفع عنه جبريل وقال : إن كان ربكم أمره بهلاككم فلا يسلطكم عليه وإلا فيم تقتلونه ؟ ] وقيل : [ دخل عمر رضي الله تعالى عنه مدارس اليهود يوما فسألهم عن جبريل فقالوا : ذاك عدونا يطلع محمدا على أسرارنا وإنه صاحب كل خسف وعذاب وميكائيل صاحب الخصب والسلام فقال : وما منزلتهما من الله ؟ قالوا : جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره وبينهما عداوة فقال لئن كانا كما تقولون فليسا بعدوين ولأنتم أكفر من الحمير ومن كان عدو أحدهما فهو عدو الله ثم رجع عمر فوجد جبريل قد سبقه بالوحي فقال عليه الصلاة و السلام لقد وافقك ربك يا عمر ] وفي جبريل ثمان لغات قرئ بهن أربع في : المشهور جبرئيل كسلسبيل قراءة حمزة و الكسائي / و { جبريل } بكسر الراء وحذف الهمزة قراءة ابن كثير و جبرئيل كجحموش قراءة عاصم برواية أبي بكر و { جبريل } كقنديل قراءة الباقين وأربع في الشواذ : جبرائيل كجبراعيل و جبريل وجبرين ومنع صرفه للعجمة والتعريف ومهناه عبد الله { فإنه نزله } البارز الأول لجبريل والثاني للقرآن وإضماره غير مذكور يدل على فخامة شأنه كأنه لتعينه وفرط شهرته لم يحتج إلى سبق ذكره { على قلبك } فإنه القابل الأول للوحي ومحل الفهم والحفظ وكان حقه على قلبي لكنه جاء على حكاية كلام الله تعالى كأنه قال : قل ما تكلمت به { بإذن الله } بأمره أو تيسيره حال من فاعله نزله { مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين } أحوال من مفعوله والظاهر أن جواب الشرط { فإنه نزله } والمعنى من عادى منهم جبريل فقد خلع ربقه الإنصاف أو كفر بما معه من الكتاب بمعاداته إياه لنزوله عليك بالوحي لأنه نزول كتابا مصدقا للكتب المتقدمة فحذف الجواب وأقيم علته مقامه أو من عاداه فالسبب في عداوته أنه نزله عليك وقيل محذوف مثل : فليمت غيظا أو فهو عدو لي وأنا عدو له كما قال :

98 - { من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين } أراد بعداوة الله مخالفة عنادا أو معاداة المقربين من عبادة وصدر الكلام بذكره تفخيما لشأنهم كقوله تعالى : { والله ورسوله أحق أن يرضوه } وأفرد الملكين بالذكر لفضلهما كأنهما من جنس آخر والتنبيه على أن معاداة الواحد والكل سواء في الكفر واستجلاب العداوة من الله تعالى وأن من عادى أحدهم فكأنه عادى الجميع إذ الواجب لعداوتهم ومحبتهم على الحقيقة واحد ولأن المحاجة كانت فيهما ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أنه تعالى عاداهم لكفرهم وأن عداوة الملائكة والرسل كفر وقرأ نافع ميكائيل كميكاعل و أبو عمرو و يعقوب و عاصم برواية حفص { ميكال } كميعاد والباقون ميكائيل بالهمزة والياء بعدها وقرئ ميكئل كميكعل و ميكئيل كميكعيل وميكايل

99 - { ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون } أي المتمردون من الكفرة والفسق إذا استعمل في نوع من المعاصي دل على عظمه كأنه متجاوز عن حده نزل في ابن صوريا حين قال لرسوله صلى الله عليه و سلم ما جئتنا بشئ نعرفه وما أنزل عليك من آية فنتبعك

100 - { أو كلما عاهدوا عهدا } الهمزة للإنكار والواو للعطف على محذوف تقديره أكفروا بالآيات وكلما عاهدوا وقرئ بسكون الواو على أن التقدير إلا الذين فسقوا { أو كلما عاهدوا } وقرئ عوهدوا و عهدوا { نبذه فريق منهم } نقضه وأصل النبذ الطرح لكنه يغلب فيما ينسى وإنما قال فريق لأن بعضهم لم ينقض { بل أكثرهم لا يؤمنون } رد لما يتوهم من أن الفريق هم الأقلون أو أن من لم ينبذ جهارا فهم مؤمنون به خفاء

101 - { ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم } كعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام { نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله } يعني التوراة لأن كفرهم بالرسول المصدق لها كفر بها فيما يصدقه ونبذ لما فيها من وجوب الإيمان بالرسل المؤيدين بالآيات وقيل ما مع الرسول صلى الله عليه و سلم هو القرآن
{ وراء ظهورهم } مثل لإعراضهم عنه رأسا بالإعراض عما يرمي به وراء الظهر لعدم الالتفات إليه { كأنهم لا يعلمون } أنه كتاب الله يعني أن علمهم به رصين ولكن يتجاهلون عنادا واعلم أنه تعالى دل بالآيتين على أن جيل اليهود أربع فرق : فرقة آمنوا بالتوراة وقاموا بحقوقها كمؤمني أهل الكتاب وهم الأقلون المدلول عليهم بقوله : { بل أكثرهم لا يؤمنون } وفرقة جاهروا بنبذ عهودها وتخطي حدودها تمراد وفسوقا وهم المعنيون بقوله : { نبذه فريق منهم } وفرقة لم يجاهروا بنبذها ولكن نبذوا لجهلهم بها وهم الأكثرون وفرقة تمسكوا بها ظاهرا ونبذوها خفية عالمين بالحال بغيا وعنادا وهم المتجاهلون

102 - { واتبعوا ما تتلوا الشياطين } عطف على نبذه أي نبذوه كتاب الله واتبعوا كتب السحر التي تقرؤها أو تتبعها الشياطين من الجن أو الإنس أو منهما { على ملك سليمان } أي عهده وتتلو حكاية حال ماضية قيل : كانوا يسترقون السمع ويضمون إلى ما سمعوا أكاذيب ويلقونها إلى الكهنة وهم يدونونها ويعلمون الناس وفشا ذلك في عهد سليمان عليه السلام حتى قيل : إن الجن يعلمون الغيب وأن ملك سليمان تم بهذا العلم وأنه تسخر به الجن والإنس والريح له { وما كفر سليمان } تكذيب لمن زعم ذلك وعبر عن السحر بالكفر ليدل على أنه كفر وأن من كان نبيا كان معصوما منه { ولكن الشياطين كفروا } باستعماله وقرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي و { لكن } بالتخفيف ورفع { الشياطين } { يعلمون الناس السحر } إغواء وإضلالا والجملة حال من الضمير والمراد بالسحر ما يستعان في تحصيله بالتقرب إلى الشيطان مما لا يستقل به الإنسان وذلك لا يستتب إلا لمن يناسبه في الشرارة وخبث النفس فإن التناسب شرط في التضام والتعاون وبهذا تميز الساحر عن النبي والولي وأما ما يتعجب منه كما يفعله أصحاب الحيل بمعونة الآلات والأدوية أو يريه صاحب خفة اليد فغير مذموم وتسميته سحرا عمل التجوز أو لما فيه من الدقة لأنه في الأصل لما خفي سببه { وما أنزل على الملكين } عطف على السحر والمراد بهما واحد والعطف لتغاير الاعتبار أو المراد به نوع أقوى منه أو على ما تتلو وهما ملكان أنزلا لتعليم السحر ابتلاء من الله للناس وتمييزا بينه وبين المعجزة وما روي أنهما مثلا بشرين وركب فيهما الشهوة فتعرضا لامرأة يقال لها : زهرة فحملتهما على المعاصي والشرك ثم صعدت إلى السماء بما تعلمت منهما فمحكي عن اليهود ولعله من رموز الأوائل وحله لا يخفى على ذوي البصائر وقيل : رجلان سميا ملكين باعتبار صلاحهما ويؤيده قراءة الملكين بالكسر وقيل : ما أنزل نفي معطوف على ما كفر سليمان تكذيب لليهود في هذه القصة { ببابل } ظرف أو حال من الملكين أو الضمير في أنزل والمشهور أنه بلد من سواد الكوفة { هاروت وماروت } عطف بيان للملكين ومنع صرفهما للعملية والعجمة ولو كانا من الهرت والمرت بمعنى الكسر لانصرفا ومن جعل ما نافية أبدلهما من الشياطين بدل البعض وما بينهما اعتراض وقرئ بالرفع على هما { هاروت وماروت } { وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } فمعناه على الأول ما يعلمان أحدا حتى ينصحاه ويقولا له إنما نحن ابتلاء من الله فمن تعلم منا وعمل به كفر ومن تعلم وتوقى عمله ثبت على الإيمان فلا تكفر باعتقاد جوازه والعمل به وفيه دليل على أن تعلم السحر وما لا يجوز اتباعه غير محظور وإنما المنع من اتباعه والعمل يه وعلى الثاني ما يعلمانه حتى يقولا إنما نحن مفتونان فلا تكن مثلنا { فيتعلمون منهما } الضمير لما دل عليه من أحد { ما يفرقون به بين المرء وزوجه } أي من السحر ما يكون سبب تفريقهما { وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله } لأنه وغيره من الأسباب غير مؤثرة بالذات بل بأمره تعالى وجعله قرئ { بضاري } على الإضافة إلى أحد وجعل الجار جزء منه والفصل بالظرف { ويتعلمون ما يضرهم } لأنهم يقصدون به العمل أو لأن العلم يجر إلى العمل غالبا { ولا ينفعهم } إذ مجرد العلم به غير مقصود ولا نافع في الدارين وفيه أن التحرز عنه أولى { ولقد علموا } أي اليهود { لمن اشتراه } أي استبدل ما تتلوا الشياطين بكتاب الله تعالى والأظهر أن اللام لام الإبتداء علقت علموا عن العمل { ما له في الآخرة من خلاق } نصيب { ولبئس ما شروا به أنفسهم } يحتمل المعنيين على ما مر { لو كانوا يعلمون } يتفكرون فيه أو يعلمون قبحه على التعيين أو حقيه ما يتبعه من العذاب والمثبت لهم أولا على التوكيد القسمي العقل الغريزي أو العلم الإجمالي يقبح الفعل أو ترتب العقاب من غير تحقيق وقيل معناه لو كانوا يعملون بعلمهم فإن من لم يعمل بما علم فهو كمن لم يعلم

103 - { ولو أنهم آمنوا } بالرسول والكتاب { واتقوا } بترك المعاصي كنبذ كتاب الله واتباع السحر { لمثوبة من عند الله خير } جواب لو وأصله لاثيبوا مثوبة من عند الله خيرا مما شروا به أنفسهم فحذف الفعل وركب الباقي جملة اسمية لتدل على ثبات المثوبة والجزم بخيريتها وحذف المفضل عليه إجلالا للمفضل من أن ينسب إليه وتنكير المثوبة لأن المعنى لشيء من الثواب خير وقيل : لو للتمني و { لمثوبة } كلام مبتدأ قرئ { لمثوبة } كمشورة وإنما الجزاء ثوابا ومثوبة لأن المحسن يثوب إليه { لو كانوا يعلمون } أن ثواب الله خير مما هم فيه وقد علموا لكنه جهلهم لترك التدبر أو العمل بالعلم

104 - { يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا } الرعي حفظ الغير لمصلحته وكان المسلمون يقولون للرسول عليه الصلاة و السلام راعنا أي راقبنا وتأن بنا فيما تلقننا حتى نفهمه وسمع اليهود فافترصوه وخاطبوه به مريدين نسبته إلى الرعن أو سبه بالكلمة العبرانية التي كانوا يتسابون بها وهي راعينا فنهي المؤمنون عنها وأمروا بما يفيد تلك الفائدة ولا يقبل التلبيس وهو انظرنا بمعنى انظر إلينا أو انتظرنا من نظره إذا انتظره وقرئ أنظرنا من الإنظار أي أمهلنا لنحفظ وقرئ راعونا على لفظ الجمع للتوقير وراعنا بالتنوين أي قولا ذا رعن نسبة إلى الرعن وهو الهوج لما شابه قولهم راعينا وتسبب للسب { واسمعوا } وأحسنوا الاستماع حتى لا تفتقروا إلى طلب المراعاة أو واسمعوا سماع قبول لا كسماع اليهود أو واسمعوا ما أمرتم به بجد حتى لا تعودوا إلى ما نهيتم عنه
{ وللكافرين عذاب أليم } يعني الذين تهاونوا بالرسول عليه الصلاة و السلام وسبوه

105 - { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين } نزلت تكذيبا لجمع من اليهود يظهرون مودة المؤمنين ويزعمون أنهم يودون لهم الخير والود : محبة الشيء مع تمنيه ولذلك يستعمل في كل منهما ومن للتبيين كما في قوله تعالى : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } { أن ينزل عليكم من خير من ربكم } مفعول يود ومن الأولى مزيدة للاستغراق والثانية للابتداء وفسر الخير بالوحي والمعنى أنهم يحسدونكم به وما يحبون أن ينزل عليكم شيء منه وبالعلم وبالضرة ولعل المراد به ما يعم ذلك { والله يختص برحمته من يشاء } يستنبئه ويعلمه الحكمة وينصره لا يجب عليه شيء وليس لأحد عليه حق { والله ذو الفضل العظيم } إشعار بان النبوة من الفضل وأن حرمان بعض عباده ليس فضله بل لمشيئته وما عرف فيه من حكمته

106 - { ما ننسخ من آية أو ننسها } نزلت لما قال المشركون أو اليهود : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه والنسخ في اللغة : إزالة الصورة عن الشيء وإثباتها في غيره كنسخ الظل للشمس والنقل ومنه التناسخ ثم استعمل لكل واحد منهما كقولك : نسخت الريح الأثر ونسخت الكتاب ونسخ الآية بيان انتهاء التعبد بقراءتها أو الحكم المستفاد منها أو بهما جميعا وإنساؤها إذهابها عن القلوب وما شرطية جازمة لننسخ منتصبة به على المفعولية وقرأ ابن عامر ما ننسخ من أنسخ أي نأمرك أو جبريل بنسخها أو نجدها منسوخة و ابن كثير و أبو عمرو ننسأها أي نؤخرها من النسء وقرئ ننسها أي ننس أحدا إياها و ننسها أي أنت و تنسها على البناء للمفعول و ننسكها بإضمار المفعولين { نأت بخير منها أو مثلها } أي بما هو خير للعباد في النفع والثواب أو مثلها في الثواب وقرأ أبو عمرو بقلب الهمزة ألفا { ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير } فيقدر على النسخ والإتيان بمثل المنسوخ أو بما هو خير منه والآية دلت على جواز النسخ وتأخير الإنزال إذ الأصل اختصاص أن وما يتضمنها بالأمور المحتملة وذلك لأن الأحكام شرعت والآيات نزلت لمصالح العباد وتكميل نفوسهم فضلا من الله ورحمة وذلك يختلف باختلاف الأعصار والأشخاص كأسباب المعاش فإن النافع في عصر قد يضر في عصر غيره واحتج من منع النسخ بلا بدل أو ببدل أثقل ونسخ الكتاب والسنة فإن الناسخ هو المأتي به بدلا والسنة ليست كذلك والكل ضعيف إذ قد يكون عدم الحكم أو الأثقل أصلح والنسخ قد يعرف بغيره والسنة مما أتى به الله تعالى وليس المراد بالخير والمثل ما يكون كذلك في اللفظ والمعتزلة على حدوث القرآن فإن التغير والتفاوت من لوازمه وأجيب : بأنهما من عوارض الأمور المتعلقة بالمعنى القائم بالذات القديم

107 - { ألم تعلم } الخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم والمراد هو وأمته لقوله : { وما لكم } وإنما أفرده لأنه أعلمهم ومبدأ علمهم { أن الله له ملك السموات والأرض } يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وهو كالدليل على قوله : { إن الله على كل شيء قدير } أو على جواز النسخ ولذلك ترك العاطف { وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير } وإنما هو الذي يملك أموركم ويجريها على ما يصلحكم والفرق بين الولي والنصير أن الولي قد يضعف عن النصرة والنصير قد يكون أجنبيا عن المنصور فيكون بينهما عموم من وجه

108 - { أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل } أم معادلة للهمزة في { ألم تعلم } أي : ألم تعلموا أنه مالك الأمور قادر على الأشياء كلها يأمر وينهى كما أراد أم تعلمون وتقترحون بالسؤال كما اقترحت اليهود على موسى عليه السلام أو منقطعة والمراد أن يوصيهم بالثقة به وترك الاقتراح عليه قيل : نزلت في أهل الكتاب حين سألوا أن ينزل الله عليهم كتابا من السماء وقيل : في المشركين لما قالوا { لن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه } { ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل } ومن ترك الثقة بالآيات البينات وشك فيها واقترح غيرها فقد ضل الطريق المستقيم حتى وقع في الكفر بعد الإيمان ومعنى الآية لا تقترحوا فتضلوا وسط السبيل ويؤدي بكم الضلال إلى البعد عن المقصد وتبديل الكفر بالإيمان وقرئ يبدل من أبدل

109 - { ود كثير من أهل الكتاب } يعني أحبارهم { لو يردونكم } أن يردوكم فإن لو تنوب عن إن في المعنى دون اللفظ : { من بعد إيمانكم كفارا } مرتدين وهو حال من ضمير المخاطبين { حسدا } علة ود { من عند أنفسهم } يجوز أن يتعلق بود أي تمنوا ذلك من عند أنفسهم وتشهيهم لا من قبل التدين والميل مع الحق أو بحسدا أي حسدا بالغا منبعثا من أصل نفوسهم { من بعد ما تبين لهم الحق } بالمعجزات والنعوت المذكورة في التوراة { فاعفوا واصفحوا } العفو ترك عقوبة المذنب والصفح ترك تثريبه { حتى يأتي الله بأمره } الذي هو الإذن في قتالهم وضرب الجزية عليهم أو قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه منسوخ بآية السيف وفيه نظر إذ الأمر غير مطلق { إن الله على كل شيء قدير } فيقدر على الانتقام منهم

110 - { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } عطف على فاعفوا كأنه أمرهم بالصبر والمخالفة والملجأ إلى الله تعالى بالعبادة والبر { وما تقدموا لأنفسكم من خير } كصلاة وصدقة وقرئ { تقدموا } من أقدم { تجدوه عند الله } أي ثوابه
{ إن الله بما تعملون بصير } لا يضيع عنده عمل وقرئ بالياء فيكون وعيدا

111 - { وقالوا } عطف على { ود } والضمير لأهل الكتاب من اليهود والنصارى { لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى } لف بين قولي الفريقين كما في قوله تعالى : { وقالوا كونوا هودا أو نصارى } ثقة بفهم السامع وهود جمع هائد كعوذ وعائذ وتوحيد الاسم المضمر في كان وجمع الخبر لاعتبار اللفظ والمعنى { تلك أمانيهم } إشارة إلى الأماني المذكورة وهي أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم وأن أمثال تلك الأمنية أمانيهم والجملة اعتراض والأمنية أفعولة من التمني كالأضحوكة والأعجوبة { قل هاتوا برهانكم } على اختصاصكم بدخول الجنة { إن كنتم صادقين } في دعواكم فإن كل قول لا دليل عليه غير ثابت

112 - { بلى } إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة { من أسلم وجهه لله } أخلص له نفسه أو قصده وأصله العضو { وهو محسن } في عمله { فله أجره } الذي وعد له على عمله { عند ربه } ثابتا عن ربه لا يضيع ولا ينقص والجملة جواب من إن كانت شرطية وخبرها إن كانت موصولة والفاء فيها لتضمنها معنى الشرط فيكون الرد بقوله : بلى وحده ويحسن الوقف عليه ويجوز أن يكون من أسلم فاعل فعل مقدر مثل بلى يدخلها من أسلم { ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } في الآخرة

113 - { وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء } أي على أمر يصح ويعتد به نزلت لما قدم نجران على رسول الله صلى الله عليه و سلم وأتاهم أحبار اليهود فتناظروا وتقاولوا بذلك { وهم يتلون الكتاب } الواو للحال والكتاب للجنس أي : قالوا ذلك وهم من أهل العلم والكتاب { كذلك } مثل ذلك { قال الذين لا يعلمون مثل قولهم } كعبدة الأصنام والمعطلة وبخهم على المكابرة والتشبه بالجهال فإن قيل : لم وبخهم وقد صدقوا فإن كلا الدينين بعد النسخ ليس بشيء ؟ قلت : لم يقصدوا ذلك وإنما قصد به كل فريق إبطال دين الآخر من أصله والكفر بنبيه وكتابه مع أن ما لم ينسخ منهما حق واجب القبول والعمل به { فالله يحكم } يفصل { بينهم } بين الفريقين { يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } بما يقسم لكل فريق ما يليق به من العقاب وقيل حكمه بينهم أن يكذبهم ويدخلهم النار

114 - { ومن أظلم ممن منع مساجد الله } عام لكل من خرب مسجدا أو سعى في تعطيل مكان مرشح للصلاة وإن نزل في الروم لما غزوا بيت المقدس وخربوه وقتلوا أهله أو في المشركين لما منعوا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يدخل المسجد الحرام عام الحديبية { أن يذكر فيها اسمه } ثاني مفعولي منع { وسعى في خرابها } بالهدم أو التعطيل { أولئك } أي المانعون { ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين } ما كان ينبغي لهم أن يدخلوها إلا بخشية وخشوع فضلا عن أن يجترئوا على تخريبها أو ما كان الحق أن يدخلوها إلا خائفين من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلا عن أن يمنعوهم منها أو ما كان لهم في علم الله وقضائه فيكون وعدا للمؤمنين بالنصرة واستخلاص المساجد منهم وقد نجز وعده وقيل : معناه النهي عن تمكينهم من الدخول في المسجد واختلف الأئمة فيه فجوز أبو حنيفة و منع مالك وفرق الشافعي بين المسجد الحرام وغيره { لهم في الدنيا خزي } قتل وسبي أو ذلك بضرب الجزية { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } بكفرهم وظلمهم

115 - { ولله المشرق والمغرب } يريد بهما ناحيتي الأرض أي له الأرض كلها لا يختص به مكان دون مكان فإن منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام أو الأقصى فقد جعلت لكم الأرض مسجدا { فأينما تولوا } ففي أي مكان فعلتم التولية شطر القبلة { فثم وجه الله } أي جهته التي أمر بها فإن إمكان التولية لا يختص بمسجد أو مكان أو { فثم } ذاته : أي هو عالم مطلع بما يفعل فيه { إن الله واسع } بإحاطته بالأشياء أو برحمته يريد التوسعة على عباده { عليم } بمصالحهم وأعمالهم في الأماكن كلها وعن ابن عمر رضي الله عنها وأنها نزلت في صلاة المسافر على الراحلة : وقيل : في قوم عميت عليهم القبلة فصلوا إلى أنحاء مختلفة فلما أصبحوا تبينوا خطأهم وعلى هذا لو أخطأ المجتهد ثم تبين له الخطأ لم يلزمه التدارك وقيل هي توطئة لنسخ القبلة وتنزيه للمعبود أن يكون في حيز وجهة

116 - { وقالوا اتخذ الله ولدا } نزلت لما قال اليهود : { عزير ابن الله } والنصارى : { المسيح ابن الله } ومشركوا العرب : الملائكة بنات الله وعطفه على قالت اليهود أو منع أو مفهوم قوله تعالى ومن أظلم وقرأ ابن عامر بغير واو { سبحانه } تنزيه له عن ذلك فإنه يقتضي التشبيه والحاجة وسرعة الفناء ألا ترى أن الأجرام الفلكية ـ مع إمكانها وفنائها ـ لما كانت باقية ما دام العالم لم تتخذ ما يكون لها كالولد اتخاذ الحيوان والبنات اختيارا أو طبعا { بل له ما في السموات والأرض } رد لما قالوه واستدلال على فساده والمعنى أنه تعالى خالق ما في السموات والأرض الذي من جملته الملائكة و عزير والمسيح { كل له قانتون } منقادون لا يمتنعون عن مشيئته وتكوينه وكل ما كان بهذه الصفة لم يجانس مكونه الواجب لذاته : فلا يكون له ولد لأن من حق الولد أن يجانس والده وإنما جاء بما الذي لغير أولي العلم وقال قانتون على تغليب أولي العلم تحقيرا لشأنهم وتنوين كل عوض عن المضاف إليه أي كل ما فيهما ويجوز أن يراد كل من جعلوه ولدا له مطيعا مقرون بالعبودية فيكون إلزاما بعد إقامة الحجة والآية مشعرة على فساد ما قالوه من ثلاثة أوجه واحتج بها الفقهاء على أن من ملك ولده عتق عليه لأنه تعالى نفى الولد بإثبات الملك وذلك يقتضي تنافيهما

117 - { بديع السموات والأرض } مبدعهما ونظيره السميع في قوله :
( أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني وأصحابي هجوع )
أو بديع سمواته وأرضه من بدع بديع وهو حجة رابعة وتقريرها أن الوالد عنصر الولد المنفعل بانفصال مادته عنه والله سبحانه وتعالى مبدع الأشياء كلها فاعل على الإطلاق منزه على الانفعال فلا يكون والدا والإبداع : اختراع الشيء لا عن الشيء دفعة وهو أليق بهذا الموضوع من الصنع الذي هو : تركيب الصور لا بالعنصر والتكوين الذي يكون بتغير وفي زمان غالبا وقرئ بديع مجرورا على البدل من الضمير في له وبديع منصوبا على المدح
{ وإذا قضى أمرا } أي أراد شيئا وأصل القضاء إتمام الشيء قوة كقوله تعالى : { وقضى ربك } أو فعلا كقوله تعالى : { فقضاهن سبع سماوات } وأطلق على تعلق الإرادة الإلهية بوجود الشيء من حيث إنه يوجبه { فإنما يقول له كن فيكون } من كان التامة بمعنى أحدث فيحدث وليس المراد به حقيقة أمر وامتثال بل تمثيل حصول ما تعلقت به إرادته بلا مهلة بطاعة المأمور بلا توقف وفيه لمعنى الإبداع وإيماء إلى حجة خامسة وهي : أن اتخاذ الولد مما يكون بأطوار ومهلة وفعله تعالى مستغن عن ذلك وقرأ ابن عامر { فيكون } بفتح النون واعلم أن السبب في هذه الضلالة أن أرباب الشرائع المتقدمة كانوا يطلقون الأب على الله تعالى باعتبار أنه السبب الأول حتى قالوا إن الأب هو الرب الأصغر والله سبحانه وتعالى هو الرب الأكبر ثم ظنت الجهلة منهم أن المراد به معنى الولادة فاعتقدوا ذلك تقليدا ولذلك كفر قائله ومنع منه مطلقا حسما لمادة الفساد

118 - { وقال الذين لا يعلمون } أي جهلة المشركين أو المتجاهلون من أهل الكتاب { لولا يكلمنا الله } هلا يكلمنا الله كما يكلم الملائكة أو يوحي إلينا بأنك رسوله { أو تأتينا آية } حجة على صدقك والأول استكبار والثاني جحود لأن ما أتاهم آيات الله استهانة به وعنادا { كذلك قال الذين من قبلهم } من الأمم الماضية { مثل قولهم } فقالوا : { أرنا الله جهرة } { هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء } { تشابهت قلوبهم } قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى والعناد وقرئ بتشديد الشين { قد بينا الآيات لقوم يوقنون } أي يطلبون اليقين أو يوقنون الحقائق لا يعتريهم شبهة ولا عناد وفيه إشارة إلى أنهم ما قالوا ذلك لخفاء في الآيات أو لطلب مزيد اليقين وإنما قالوه عتوا وعنادا

119 - { إنا أرسلناك بالحق } متلبسا مؤيدا به { بشيرا ونذيرا } فلا عليك إن أصروا وكابروا { ولا تسأل عن أصحاب الجحيم } ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلغت وقرأ نافع و يعقوب : لا تسأل على أنه نهي للرسول صلى الله عليه و سلم عن السؤال عن حال أبويه أو تعظيم لعقوبة الكفار كأنها لفظاعتها لا يقدر أن يخبر عنها أو السامع لا يصبر على استماع خبرها فنهاه عن السؤال والجحيم : المتأجج من النار

120 - { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } مبالغة في إقناط الرسول صلى الله عليه و سلم من إسلامهم فإنهم إذا لم يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم فكيف يتبعون ملته ولعلهم قالوا مثل ذلك فحكى الله عنهم ولذلك قال : { قل } تعليما للجواب { إن هدى الله هو الهدى } أي هدى الله الذي هو الإسلام هو الهدى إلى الحق لا ما تدعون إليه { ولئن اتبعت أهواءهم } آراءهم الزائفة والملة ما شرعة الله تعالى لعباده على لسان أنبيائه من أمللت الكتاب إذا أمليته والهوى : رأي يتبع الشهرة { بعد الذي جاءك من العلم } أي الوحي أو الدين المعلوم صحته { ما لك من الله من ولي ولا نصير } يدفع عنك عقابه وهو جواب لئن

121 - { الذين آتيناهم الكتاب } يريد به مؤمني أهل الكتاب { يتلونه حق تلاوته } بمراعاة اللفظ عن التحريف والتدبر في معناه والعمل بمقتضاه وهو حال مقدرة والخبر ما بعده أو خبر على أن المراد بالموصول مؤمنوا أهل الكتاب { أولئك يؤمنون به } بكتابهم دون المحرفين { ومن يكفر به } بالتحريف والكفر بما يصدقه { فأولئك هم الخاسرون } حيث اشتروا الكفر بالإيمان

122 - { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين }

123 - { واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون } لما صدر قصتهم بالأمر بذكر النعم والقيام بحقوقها والحذر من إضاعتها والخوف من الساعة وأهوالها كرر ذلك وختم به الكلام معهم مبالغة في النصح وإيذانا بأنه فذلكة القضية والمقصود من القصة

124 - { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات } كلفة بأوامره ونواه والابتلاء في الأصل التكليف بالأمر الشاق من البلاء لكنه لما استلزم الاختبار بالنسبة إلى من يجهل العواقب ظن ترادفهما والضمير لإبراهيم وحسن لتقدمه لفظا وإن تأخر رتبة لأن الشرط أحد التقدمين والكلمات قد تطلق على المعاني فلذلك فسرت بالخصال الثلاثين المحمودة المذكورة في قوله تعالى : { التائبون العابدون } وقوله تعالى : { إن المسلمين والمسلمات } إلى آخر الآية وقوله : { قد أفلح المؤمنون } إلى قوله { أولئك هم الوارثون } كما فسرت بها في قوله : { فتلقى آدم من ربه كلمات } وبالعشر التي هي من سننه وبمناسك الحج وبالكواكب والقمرين والختان وذبح الولد والنار والهجرة على أنه تعالى عامله بها معاملة المختبر بهن وبما تضمنته الآيات التي بعدها وقرئ إبراهيم ربه على أنه دعا ربه بكلمات مثل { أرني كيف تحيي الموتى } { اجعل هذا بلدا آمنا } ليرى هل يجيبه وقرأ ابن عامر إبراهام بالألف جميع ما في هذه السورة { فأتمهن } فأداهن كملا وقام بهن حق القيام لقوله تعالى : { وإبراهيم الذي وفى } وفي القراءة الأخيرة الضمير لربه أي أعطاه جميع ما دعاه { قال إني جاعلك للناس إماما } استئناف إن أضمرت ناصب إذ كأنه قيل : فماذا قال ربه حين أتمهن فأجيب بذلك أو بيان لقوله ابتلى فتكون الكلمات ما ذكره من الإمامة وتطهير البيت ورفع قواعده والإسلام وإن نصبته يقال فالمجموع جملة معطوفة على ما قبلها أو جاعل من جعل الذي له مفعولان والإمام اسم لمن يؤتم به وإمامته عامة مؤبدة إذ لم يبعث بعده نبي إلا كان من ذريته مأمورا باتباعه { قال ومن ذريتي } عطف على الكاف أي وبعض ذريتي كما تقول : وزيدا في جواب سأكرمك الذرية نسل الرجل فعلية أو فعولة قلبت راؤها الثانية ياء كما في تقضيت من الذر بمعنى التفريق أو فعولة أو فعلية قلبت همزتها من الذرة بمعنى الخلق وقرئ ذريتي بالكسر وهي لغة { قال لا ينال عهدي الظالمين } إجابة إلى ملتمسه وتنبيه على أنه قد يكون من ذريته ظلمة وأنهم لا ينالون الإمامة لأنها أمانة من الله تعالى وعهد والظالم لا يصح لها وإنما ينالها البررة الأتقياء منهم وفيه دليل على عصمة الأنبياء من الكبائر قبل البعثة وأن الفاسق لا يصلح للإمامة وقرئ الظالمون والمعنى واحد إذ كل ما نالك فقد نلته

125 - { وإذ جعلنا البيت } أي الكعبة غلب عليها كالنجم على الثريا { مثابة للناس } مرجعا يثوب إليه أعيان الزوار أو أمثالهم أو موضع ثواب يثابون بحجة واعتماره وقرئ : مثابات أي لأنه مثابة كل أحد { وأمنا } وموضع أمن لا يتعرض لأهله كقوله تعالى : { حرما آمنا } ويتخطف الناس من حولهم أو يأمن حاجة من عذاب الآخرة من حيث إن الحج يجب ما قبله أولا يؤاخذ الجاني الملتجئ إليه حتى يخرج وهو مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } على إرادة القول أو عطف على المقدر عاملا لإذ أو اعتراض معطوف على مضمر تقديره توبوا إليه واتخذوا على أن الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه و سلم وهو أمر استحباب ومقام إبراهيم هو الحجر الذي فيه أثر قدمه أو الموضع الذي كان فيه الحجر حين قام عليه ودعا الناس إلى الحج أو رفع بناء البيت وهو موضعه اليوم روي أنه [ عليه الصلاة و السلام أخذ بيد عمر رضي الله تعالى عنه وقال : هذا مقام إبراهيم فقال عمر : أفلا نتخذه مصلى فقال : لم أومر بذلك فلم تغب الشمس حتى نزلت ] وقيل المراد به الأمر بركعتي الطواف لما روى جابر أنه عليه الصلاة و السلام : [ لما فرغ من طوافه عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين ] وقرأ { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } و للشافعي رحمه الله تعالى في وجوبهما قولان وقيل : مقام إبراهيم الحرم كله وقيل مواقف الحج واتخاذها مصلى أن يدعى فيها ويتقرب إلى الله تعالى وقرأ نافع و ابن عامر { واتخذوا } بلفظ الماضي عطفا على { جعلنا } أي : واتخذوا الناس مقامه الموسوم به يعني الكعبة قبلة يصلون إليها { وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل } أمرناهما { أن طهرا بيتي } ويجوز أن تكون أن مفسرة لتضمن العهد معنى القول يريد طهراه من الأوثان والأنجاس وما لا يليق به أو أخلصاه { للطائفين } حوله { والعاكفين } المقيمين عنده أو المعتكفين فيه { والركع السجود } أي المصلين جمع راكع وساجد

126 - { وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا } يريد يه البلد أو المكان { بلدا آمنا } ذا أمن كقوله تعالى { في عيشة راضية } أو آمنا أهله كقولك : ليل نائم { وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر } أبدل من { من آمن } { أهله } بدل البعض للتخصيص { قال ومن كفر } عطف على { آمن } والمعنى وارزق من كفر قاس إبراهيم عليه الصلاة و السلام الرزق على الإمامة فنبه سبحانه على أن الرزق رحمة دنيوية تعم المؤمن والكافر بخلاف الإمامة والتقدم في الدين أو مبتدأ متضمن معنى الشرط { فأمتعه قليلا } خبره والكفر إن لم يكن سببا للتمتع لكنه سبب لتقليله بأن يجعله مقصورا بحظوظ الدنيا غير متوسل به إلى نيل الثواب ولذلك عطف عليه { ثم أضطره إلى عذاب النار } أي ألزه إليه لز المضطر لكفره وتضيعه ما متعته به من النعم وقليلا نصب على المصدر أو الظرف وقرئ بلفظ الأمر فيهما على أنه من دعاء إبراهيم وفي قال ضميره وقرأ ابن عامر { فأمتعه } من أمتع وقرئ فنمتعه ثم نضطره و إضطره بكسر الهمزة على لغة من يكسر حروف المضارعة و أضطره بإدغام الضاد وهو ضعيف لأن حروف ( ضم شفر ) يدغم فيها ما يجاورها دون العكس
{ وبئس المصير } المخصوص بالذم محذوف وهو العذاب

127 - { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت } حكاية حال ماضية و { القواعد } جمع قاعدة وهي الأساس صفة غالبة من القعود بمعنى الثبات ولعله مجاز من المقابل للقيام ومنه قعدك الله ورفعها البناء عليها فإنه ينقلها عن هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع ويحتمل أن يراد بها سافات البناء فإن كل ساف قاعدة ما يوضع فوقه ويرفعها بناؤها وقيل المراد رفع مكانته وإظهار شرفه بتعظيمه ودعاء الناس إلى حجة وفي إبهام القواعد وتبيينها تفخيم لشأنها { وإسماعيل } كان يتناوله الحجارة ولكنه لما كان له مدخل في البناء عطف عليه وقيل : يبنيان في طرفين أو على التناوب { ربنا تقبل منا } أي يقولان ربنا تقبل منا وقد قرئ به والجملة حال منهما { إنك أنت السميع } لدعائنا { العليم } بنياتنا

128 - { ربنا واجعلنا مسلمين لك } مخلصين لك من أسلم وجهه أو مستسلمين من أسلم إذا استسلم وانقاد والمراد طلب الزيادة في الإخلاص والإذعان أو الثبات عليه وقرئ { مسلمين } على أن المراد أنفسهما وهاجر أو أن التثنية من مراتب الجمع { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } أي واجعل بعض ذريتنا وإنما خصا الذرية بالدعاء لأنهم أحق بالشفقة ولأنهم إذا صلحوا صلح بهم الأتباع وخصا بعضهم لما أعلما أن في ذريتهما ظلمة وعلما أن الحكمة الإلهية لا تقتضي الاتفاق على الإخلاص والإقبال الكلي على الله تعالى فإنه مما يشوش المعاش ولذلك قيل : لولا الحمقى لخربت الدنيا وقيل : أراد بالأمة أمة محمد صلى الله عليه و سلم و يجوز أن تكون من للتبيين كقوله تعالى : { وعد الله الذين آمنوا منكم } قدم على المبين وفصل به بين العاطف والمعطوف كما في قوله تعالى : { خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن } { وأرنا } من رأى بمعنى أبصر أو عرف ولذلك لم يتجاوز مفعولين { مناسكنا } متعبداتنا في الحج أو مذابحنا والنسك في الأصل غاية العبادة وشاع في الحج لما فيه من الكلفة والبعد عن العادة وقرأ ابن كثير و والسوسي عن أبي عمرو و يعقوب { أرنا } قياسا على فخذ في فخذ وفيه إجحاف لأن الكسرة منقولة من الهمزة الساقطة دليل عليها وقرأ الدوري عن أبي عمرو بالاختلاس { وتب علينا } استتابة لذريتهما أو عما فرط منهما سهوا ولعلهما قالا هضما لأنفسهما وإرشاد لذريتهما { إنك أنت التواب الرحيم } لمن تاب

129 - { ربنا وابعث فيهم } في الأمة المسلمة { رسولا منهم } ولم يبعث من ذريتهما غير محمد صلى الله عليه و سلم فهو المجاب به دعوتهما كما قال عليه الصلاة و السلام [ أنا دعوة إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمي ] { يتلو عليهم آياتك } يقرأ عليهم ويبلغهم ما توحي إليه من دلائل التوحيد والنبوة { ويعلمهم الكتاب } القرآن { والحكمة } ما تكمل به نفوسهم من المعارف والأحكام { ويزكيهم } عن الشرك والمعاصي { إنك أنت العزيز } الذي لا يقهر ولا يغلب على ما يريد { الحكيم } المحكم له

130 - { ومن يرغب عن ملة إبراهيم } استبعاد وإنكار لأن يكون أحد يرغب عن ملته الواضحة الغراء أي لا يرغب أحد من ملته { إلا من سفه نفسه } إلا من استمهنها وأذلها واستخف بها قال المبرد و ثعلب سفه بالكسر متعد وبالضم لازم ويشهد له ما جاء في الحديث [ الكبر أن تسفه الحق وتغمص الناس ] وقيل : أصله سفه نفسه على الرفع فنصب على التمييز نحو غبن رأيه وألم رأسه وقول النابغة الذبياني :
( ونأخذ بعده بذناب عيش ... أجب الظهر ليس له سنام )
أو سفه في نفسه فنصب بنزع الخافض والمستثنى في محل الرفع على المختار بدلا من الضمير في يرغب لأنه في معنى النفي { ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين } حجة وبيان لذلك فإن من كان صفوة العباد في الدنيا مشهودا له بالاستقامة والصلاح يوم القيامة كان حقيقا بالاتباع له لا يرغب عنه إلا سفيه أو متسفه أذل نفسه بالجهل والإعراض عن النظر

131 - { إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين } ظرف لـ { اصطفيناه } أو تعليل له أو منصوب بإضمار اذكر كأنه قيل : اذكر ذلك الوقت لتعلم أنه المصطفى الصالح المستحق للإمامة والتقدم وأنه نال ما نال بالمبادرة إلى الإذعان وإخلاص السر حين دعاه ربه وأخطر بباله دلائله المؤدية إلى المعرفة الداعية إلى الإسلام روي أنها نزلت لما دعا عبد الله بن سلام ابني أخيه : سلمة ومهاجرا إلى الإسلام فأسلم سلمة وأبي مهاجر

132 - { ووصى بها إبراهيم بنيه } التوصية هي التقدم إلى الغير بفعل فيه صلاح وقربة وأصلها الوصل يقال : وصاه إذا وصله وفصاه : إذا فصله كأن الموصي يصل فعلة بفعل الموصى والضمير في بها للملة أو لقوله أسلمت على تأويل الكلمة أو الجملة وقرأ نافع و ابن عامر وأوصى والأول أبلغ { ويعقوب } عطف على إبراهيم أي ووصى هو أيضا بها بنيه وقرئ بالنصب على أنه ممن وصاه إبراهيم { يا بني } على إضمار القول عند البصريين متعلق بوصى عند الكوفيين لأنه نوع منه ونظيره :
( رجلان من ضبة أخبرانا ... أنا رأينا رجلا عريانا )
بالكسر وبنو إبراهيم كانوا أربعة : إسماعيل وإسحاق ومدين ومدان وقيل : ثمانية وقيل : أربعة عشر : وبنو يعقوب إثنا عشر : روبيل وشمعون ولاوي ويهوذا ويشسوخور وبولون وتفتوني ودون وكودا وأوشير وبنيامين ويوسف { إن الله اصطفى لكم الدين } دين الإسلام الذي هو صفوة الأديان لقوله تعالى : { فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } ظاهره النهي عن الموت على خلاف حال الإسلام والمقصود هو النهي عن أن يكونوا على خلاف تلك الحال إذا ماتوا والأمر بالثبات على الإسلام كقولك : لا تصل إلا وأنت خاشع تغيير العبارة للدلالة على أن موتهم لا على الإسلام موت لا خير فيه وأن من حقه أن لا يحل بهم ونظيره في الأمر مت وأنت شهيد وروي أن اليهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم : ألست تعلم أن يعقوب أوصى بنيه باليهودية يوم مات فنزلت

133 - { أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت } أم منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار أي ما كنتم حاضرين إذ حضر يعقوب الموت وقال لبنيه ما قال فلم تدعون اليهودية عليه أو متصلة محذوف تقديره أكنتم غائبين أم كنتم شاهدين وقيل : الخطاب للمؤمنين والمعنى ما شاهدتم ذلك وإنما علمتموه بالوحي وقرئ { حضر } بالكسر
{ إذ قال لبنيه } بدل من { إذ حضر } { ما تعبدون من بعدي } أي : شيء تعبدونه أراد به تقريرهم على التوحيد والإسلام وأخذ ميثاقهم على الثبات عليهما وما يسأل به عن كل شيء ما لم يعرف فإذا عرف خص العقلاء بمن إذا سئل عن تعيينه وإن سئل عن وصفه قيل : ما زيد أفقيه أم طبيب { قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } المتفق على وجوده وألوهيته ووجوب عبادته وعد إسماعيل من آبائه تغليبا للأب والجد أو لأنه كالأب لقوله عليه الصلاة و السلام : [ عم الرجل صنو أبيه ] كما [ قال عليه الصلاة و السلام في العباس رضي الله عنه هذا بقية آبائي ] وقرئ إله أبيك على أنه جمع بالواو والنون كما قال :
( ولما تبين أصواتنا ... بكين وفديننا بالأبينا )
أو مفرد وإبراهيم وحده عطف بيان
{ إلها واحدا } بدل من إله آبائك كقوله تعالى : { بالناصية * ناصية كاذبة } وفائدته التصريح بالتوحيد ونفي التوهم الناشئ من تكرير المضاف لتعذر العطف على المجرور والتأكيد أو نصب على الاختصاص { ونحن له مسلمون } حال من فاعل نعبده أو مفعوله أو منهما ويحتمل أن يكون اعتراضا

134 - { تلك أمة قد خلت } يعني إبراهيم ويعقوب وبنيهما والأمة في الأصل المقصود وسمي بها الجماعة لأن الفرق تؤمها { لها ما كسبت ولكم ما كسبتم } لكل أجر عمله والمعنى أن انتسابكم إليهم لا يوجب انتفاعكم بأعمالهم وإنما تنتفعون بموافقتهم واتباعهم كما قال عليه الصلاة و السلام : [ لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم ] { ولا تسألون عما كانوا يعملون } أي لا تؤخذون بسيئاتهم كما لا تثابون بحسناتهم

135 - { وقالوا كونوا هودا أو نصارى } الضمير الغائب لأهل الكتاب وأو للتنويع والمعنى مقالتهم أحد هذين القولين قالت اليهود كونوا هودا وقال النصارى كونوا نصارى { تهتدوا } جواب الأمر { قل بل ملة إبراهيم } أي بل تكون ملة إبراهيم أي أهل ملته أو بل نتبع ملة إبراهيم وقرئ بالرفع أي ملته ملتنا أو عكسه أو نحن ملته بمعنى نحن أهل ملته { حنيفا } مائلا عن الباطل إلى الحق حال من المضاف أو المضاف إليه كقوله تعالى : { ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا } { وما كان من المشركين } تعريض بأهل الكتاب وغيرهم فإنهم يدعون اتباعه وهم مشركون

136 - { قولوا آمنا بالله } الخطاب للمؤمنين لقوله تعالى : { فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به } { وما أنزل إلينا } القرآن قدم ذكره لأنه أول بالإضافة إلينا أو سبب للإيمان بغيره { وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط } الصحف وهي وإن نزلت إلى إبراهيم لكنهم لما كانوا متعبدين بتفاصيلها داخلين تحت أحكامها فهي أيضا منزلة إليهم كما أن القرآن منزل إلينا والأسباط جمع سبط وهو الحافد يريد به حفدة يعقوب أو أبناءه وذراريهم فإنهم حفدة إبراهيم وإسحاق { وما أوتي موسى وعيسى } التوراة والإنجيل أفرادهما بالذكر بحكم أبلغ لأن أمرهما بالإضافة إلى موسى وعيسى مغاير لما سبق والنزاع وقع فيهما { وما أوتي النبيون } جملة المذكورين منهم وغير المذكورين { من ربهم } منزلا عليهم من ربهم { لا نفرق بين أحد منهم } كاليهود فنؤمن ببعض ونكفر ببعض وأحد لوقوعه في سياق النفي عام فساغ أن يضاف إليه بين { ونحن له } أي لله { مسلمون } مذعنون مخلصون

137 - { فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا } من باب التعجيز والتبكيت كقوله تعالى : { فاتوا بسورة من مثله } إذ لا مثل لما آمن به المسلمون ولا دين كدين الإسلام وقيل : الباء للآلة دون التعدية والمعنى إن تحروا الإيمان بطريق يهدي إلى الحق مثل طريقكم فإن وحدة المقصد لا تأبى تعدد الطرق أو مزيدة للتأكيد كقوله تعالى : { جزاء سيئة بمثلها } المعنى فإن آمنوا بالله إيمانا مثل إيمانكم به أو المثل مقحم كما في قوله : { وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله } أي عليه ويشهد له قراءة من قرأ بما آمنتم به أو بالذي آمنتم به { وإن تولوا فإنما هم في شقاق } أي إن أعرضوا عن الإيمان أو عما تقولون لهم فما هم إلا في شقاق الحق وهو المناوأة والمخالفة فإن كل واحد من المتخالفين في شق غير شق الآخر { فسيكفيكهم الله } تسلية وتسكين للمؤمنين ووعد لهم بالحفظ والنصرة على من ناوأهم { وهو السميع العليم } إما من تمام الوعد بمعنى أنه يسمع أقولكم ويعلم إخلاصكم وهو مجازيكم لا محالة أو وعيد للمعرضين بمعنى أنه يسمع ما يبدون ويعلم ما يخفون وهو معاقبهم عليه

138 - { صبغة الله } أي صبغنا الله صبغته وهي فطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها فإنها حلية الإنسان كما أن الصبغة حلية المصبوغ أو هدانا الله هدايته وأرشدنا حجته أو طهر قلوبنا بالإيمان تطهيره وسماه صبغة لأنه ظهور الصبغ على المصبوغ وتداخل في قلوبهم تداخل الصبغ الثوب أو للمشاكلة فإن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية و يقولون : تطهير لهم وبه تتحقق نصرانيتهم ونصبها على أنه مصدر مؤكد لقوله { آمنا } وقيل على الإغراء وقيل على البدل من ملة إبراهيم عليه السلام
{ ومن أحسن من الله صبغة } لا صبغة من صبغته { ونحن له عابدون } تعريض بهم أي لا نشرك به كشرككم وهو عطف على آمنا و ذلك يقتضي دخول قوله { صبغة الله } في مفعول { قولوا } ولمن ينصبها على الإغراء أو البدل أن يضمر قولوا معطوفا على الزموا أو اتبعوا ملة إبراهيم و { قولوا آمنا } بدل اتبعوا حتى لا يلزم فك النظم وسوء الترتيب

139 - { قل أتحاجوننا } أتجادلوننا { في الله } في شأنه واصطفائه نبيا من العرب دونكم روي أن أهل الكتاب قالوا : الأنبياء كلهم منا لو كنت نبيا لكنت منا فنزلت : { وهو ربنا وربكم } لا اختصاص له يقوم دون قوم يصيب برحمته من يشاء من عباده { ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم } فلا يبعد أن يكرمنا بأعمالنا كأنه ألزمهم على كل مذهب ينتحلونه إفحاما وتبكيتا فإن كرامة النبوة إما تفضل من الله على من يشاء والكل فيه سواء و إما إفاضة حق على المستعدين لها بالمواظبة على الطاعة والتحلي بالإخلاص وكما أن لكم أعمالا ربما يعتبرها الله في إعطائها فلنا أيضا أعمال { ونحن له مخلصون } موحدون نخصه بالإيمان والطاعة دونكم

140 - { أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى } أم منقطعة والهمزة للإنكار وعلى ابن عامر و حمزة و الكسائي و وحفص بالتاء يحتمل أن تكون معادلة للهمزة في { أتحاجوننا } بمعنى أي الأمرين تأتون المحاجة أو ادعاء اليهودية أو النصرانية على الأنبياء { قل أأنتم أعلم أم الله } وقد نفي الأمرين عن إبراهيم بقوله : { ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا } واحتج عليه بقوله : { وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده } وهؤلاء المعطوفون عليه أتباعه في الدين وفاقا { ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله } يعني الله لإبراهيم بالحنيفية والبراءة عن اليهودية والنصرانية والمعنى لا أحد أظلم من أهل الكتاب لأنهم كتموا هذه الشهادة أو منا لو كتمنا هذه الشهادة وفيه تعريض بكتمانهم شهادة الله لمحمد عليه الصلاة و السلام بالنبوة في كتبهم وغيرها ومن للابتداء كما في قوله تعالى : { براءة من الله ورسوله } { وما الله بغافل عما تعملون } وعيد لهم وقرئ بالياء

141 - { تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون } تكرير للمبالغة في التحذير والزجر عما استحكم في الطباع من الافتخار بالآباء والاتكال عليهم قيل : الخطاب فيما سبق لهم وفي هذه الآية لنا تحذيرا عن الاقتداء بهم وقيل : المراد بالأمة في الأول الأنبياء وفي الثاني أسلاف اليهود والنصارى

142 - { سيقول السفهاء من الناس } الذين خفت أحلامهم واستمهنوها بالتقليد والإعراض عن النظر يريد به المنكرين لتغيير القبلة من المنافقين واليهود والمشركين وفائدة تقديم الأخبار به توطين النفس وإعداد الجواب وإظهار المعجزة { ما ولاهم } ما صرفهم { عن قبلتهم التي كانوا عليها } يعني بيت المقدس والقبلة في الأصل الحالة التي عليها الإنسان من الاستقبال فصارت عرفا للمكان المتوجه نحوه للصلاة { قل لله المشرق والمغرب } لا يختص به مكان دون مكان بخاصية ذاتية تمنع إقامة غيره مقامه وإنما العبرة بارتسام أمره لا بخصوص المكان { يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } وهو ما ترتضيه الحكمة وتقتضيه المصلحة من التوجه إلى بيت المقدس تارة والكعبة أخرى

143 - { وكذلك } إشارة إلى مفهوم الآية المتقدمة أي كما جعلناكم مهديين إلى الصراط المستقيم أو جعلنا قبلتكم أفضل القبل { جعلناكم أمة وسطا } أي خيارا أو عدولا مزكين بالعلم والعمل وهو في الأصل اسم للمكان الذي تستوي إليه المساحة من الجوانب ثم استعير للخصال المحمودة لوقوعها بين طرفي إفراط وتفريط كالجود بين الإسراف والبخل والشجاعة بين التهور والجبن ثم أطلق على المتصف بها مستويا فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث كسائر الأسماء التي وصف بها واستدل به على أن الإجماع حجة إذ لو كان فيما اتفقوا عليه باطل لانثلمت به عدالتهم { لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا } علة للجعل أي لتعلموا بالتأمل فيما نصب لكم من الحجج وأنزل عليكم من الكتاب أنه تعالى ما بخل على أحد وما ظلم بل أوضح السبل وأرسل الرسل فبلغوا ونصحوا ولكن الذين كفروا حملهم الشقاء على اتباع الشهوات والإعراض عن الآيات فتشهدون بذلك على معاصريكم وعلى الذين من قبلكم أو بعدكم روي [ أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء فيطالبهم الله ببينة التبليغ ـ وهو أعلم بهم ـ إقامة للحجة على المنكرين فيؤتى بأمة محمد صلى الله عليه و سلم فيشهدون فتقول الأمم من أين عرفتم ؟ فيقولون : علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق فيؤتى بمحمد صلى الله عليه و سلم فيسأل عن حال أمته فيشهد بعدالتهم ] وهذه الشهادة وإن كانت لهم لكن لما كان الرسول عليه السلام كالرقيب المهيمن على أمته عدى بعلى وقدمت الصلة للدلالة على اختصاصهم يكون الرسول شهيدا عليهم { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها } أي الجهة التي كنت عليها وهي الكعبة فإنه عليه الصلاة و السلام كان يصلي إليها بمكة ثم لما هاجر أمر بالصلاة إلى الصخرة تألفا لليهود أو الصخرة لقول ابن عباس رضي الله عنهما ( كانت قبلته بمكة بيت المقدس إلا أنه كان يجعل الكعبة بينه وبينها فالمخبر به على الأول الجعل الناسخ وعلى الثاني المنسوخ والمعنى أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة وما جعلنا قبلتك بيت المقدس
{ إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه } ألا لنمتحن به الناس ونعلم من يتبعك في الصلاة إليها ممن يرتد عن دينك إلفا لقبلة آبائه أو لنعلم الآن من يتبع الرسول ممن لا يتبعه وما كان لعارض يزول بزواله وعلى الأول معناه : ما رددناك إلى التي كنت عليها إلا لنعلم الثابت على الإسلام ممن ينكص على عقبيه لقلقه وضعف إيمانه فإن قيل : كيف يكون علمه تعالى غاية الجمل وهو لم يزل عالما قلت : هذا وأشباهه باعتبار التعلق الحالي الذي هو مناط الجزاء والمعنى ليتعلق علمنا به موجودا وقيل : ليعلم رسوله والمؤمنون لكنه أسنده إلى نفسه لأنهم خواصه أو لتميز الثابت من المتزلزل كقوله تعالى : { ليميز الله الخبيث من الطيب } فوضع العلم موضع التمييز المسبب عنه ويشهد له قراءة ليعلم على البناء للمفعول والعلم إما بمعنى المعرفة أو معلق لما في من من معنى الاستفهام أو مفعوله الثاني ممن ينقلب أي لنعلم من يتبع الرسول متميزا ممن ينقلب
{ وإن كانت لكبيرة } إن هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفاصلة وقال الكوفيون هي النافية واللام بمعنى إلا والضمير لما دل عليه قوله تعالى : { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها } من الجعلة أو الردة أو التولية أو التحويلة أو القبلة وقرئ لكبيرة بالرفع فتكون كان زائدة { إلا على الذين هدى الله } إلى حكمة الأحكام الثابتين على الإيمان والاتباع { وما كان الله ليضيع إيمانكم } أي ثباتكم على الإيمان وقيل : إيمانكم بالقبلة المنسوخة أو صلاتكم إليها لما روي : [ أنه عليه السلام لما وجه إلى الكعبة قالوا : كيف بمن مات يا رسول الله قبل التحويل من إخواننا فنزلت ] { إن الله بالناس لرؤوف رحيم } فلا يضيع أجورهم ولا يدع صلاحهم ولعله قدم الرؤوف وهو أبلغ محافظة على الفواصل وقرأ الحرميان و ابن عامر و حفص لرؤوف بالمد والباقون بالقصر

144 - { قد نرى } ربما نرى { تقلب وجهك في السماء } تردد وجهك في جهة السماء تطلعا للوحي وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقع في روعه ويتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة لأنها قبلة أبيه إبراهيم وأقدم القبلتين وأدعى للعرب إلى الإيمان ولمخالفة اليهود وذلك يدل على كمال أدبه حيث انتظر ولم يسأل { فلنولينك قبلة } فلنمكننك من استقبالها من قولك : وليته كذا إذا صيرته واليا له أو فلنجعلنك تلي جهتها { ترضاها } تحبها وتتشوق إليها لمقاصد دينية وافقت مشيئة الله وحكمته { فول وجهك } اصرف وجهك { شطر المسجد الحرام } نحوه وقيل : الشطر في الأصل لما انفصل عن الشيء إذا انفصل ودار شطور : أي منفصلة عن الدور ثم استعمل لجانبه وإن لم ينفصل كالقطر والحرام المحرم أي محرم فيه القتال أو ممنوع من الظلمة أن يتعرضوه وإنما ذكر المسجد دون الكعبة لأن عليه الصلاة و السلام كان في المدينة والبعيد يكفيه مراعاة الجهة فإن استقبال عينها حرج عليه بخلا القريب روي : [ أنه عليه الصلاة و السلام قدم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ثم وجه إلى الكعبة في رجب بعد الزوال قبل قتال بدر بشهرين ] [ وقد صلى بأصحابه في مسجد بني سلمة ركعتين من الظهر فتحول في الصلاة واستقبل الميزاب وتبادل الرجال والنساء صفوفهم فسمي المسجد مسجد القبلتين ] { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } خص الرسول بالخطاب تعظيما له وإيجابا لرغبته ثم عمم تصريحا بعموم الحكم وتأكيدا لأمر القبلة وتضيضا للأمة على المتابعة { وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم } أنه صلى الله عليه و سلم يصلي إلى القبلتين والضمير للتحويل أو التوجه { وما الله بغافل عما تعملون } وعد ووعيد للفريقين وقرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي بالياء

145 - { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية } برهان وحجة على أن الكعبة قبلة واللام موطئة للقسم { ما تبعوا قبلتك } جواب للقسم المضمر والقسم وجوابه ساد مسد جواب الشرط والمعنى ما تركوا قبلتك لشبهة تزيلها بالحجة وإنما خالفوك مكابرة وعنادا { وما أنت بتابع قبلتهم } قطع لأطماعهم فإنهم قالوا : لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن تكون صاحبنا الذي ننتظره تغريرا له وطمعا في رجوعه وقبلتهم وإن تعددت لكنها متحدة بالبطلان ومخالفة الحق { وما بعضهم بتابع قبلة بعض } فإن اليهود تستقبل الصخرة والنصارى مطلع الشمس لا يرجى توافقهم كما لا يرجى موافقتهم لك لتصلب كل حزب فيما هو فيه { ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم } على سبيل الفرض والتقدير أي : ولئن اتبعتهم مثلا بعدما بان لك الحق وجاءك فيه الوحي { إنك إذا لمن الظالمين } وأكد تهديده وبالغ فيه من سبعة أوجه : أحدها : الإتيان باللام الموطئة للقسم : ثانيها : القسم المضمر ثالثها : حرف التحقيق وهو أن رابعها : تركيبه من جملة فعلية وجملة اسمية وخامسها : الإتيان باللام في الخبر وسادسها : جعله من { الظالمين } ولم يقل إنك ظالم لأن في الاندراج معهم إيهاما بحصول أنواع الظلم وسابعها : التقييد بمجيء العلم تعظيما للحق المعلوم وتحريصا على اقتفائه وتحذيرا عن متابعة الهوى واستفظاعا لصدور الذنب عن الأنبياء

146 - { الذين آتيناهم الكتاب } يعني علماءهم { يعرفونه } الضمير لرسول الله صلى الله عليه و سلم وإن لم يسبق ذكره لدلالة الكلام عليه وقيل للعلم أو القرآن أو التحويل { كما يعرفون أبناءهم } يشهد للأول : أي يعرفونه بأوصافه كمعرفتهم أبناءهم لا يلتبسون عليهم بغيرهم عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه سأل عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أنا أعلم به مني بابني قال : ولم قال : لأني لست أشك في محمد أنه نبي فأما ولدي فلعل والدته قد خانت { وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون } تخصيص لمن عاند واستثناء لمن آمن

147 - { الحق من ربك } كلام مستأنف والحق إما مبتدأ خبره من ربك واللام للعهد والإشارة إلى ما عليه الرسول صلى الله عليه و سلم أو الحق الذي يكتمونه أو للجنس والمعنى أن { الحق } ما ثبت أنه من الله تعالى كالذي أنت عليه لا ما لم يثبت كالذي عليه أهل الكتاب وإما خبره مبتدأ محذوف أي هو { الحق } ومن ربك حال أو خبر بعد خبر وقرئ بالنصب على أنه بدل من الأول أو مفعول { يعلمون } { فلا تكونن من الممترين } الشاكين في أنه من ربك أو في كتمانهم الحق عالمين به وليس المراد به نهي الرسول صلى الله عليه و سلم عن الشك فيه لأنه غير متوقع منه وليس بقصد واختيار بل إما تحقيق الأمر وإنه بحيث لا يشك فيه ناظر أو أمر الأمة باكتساب المعارف المزيحة للشك على الوجه الأبلغ

148 - { ولكل وجهة } ولكل أمة قبلة أو لكل قوم من المسلمين جهة وجانب من الكعبة والتنوين بدل الإضافة { هو موليها } أحد المفعولين محذوف أي هو موليها وجهه أو الله تعالى موليها إياه وقرئ : { ولكل وجهة } بالإضافة والمعنى وكل وجهة الله موليها أهلها واللام مزيدة للتأكيد جبرا لضعف العامل وقرأ ابن عامر : مولاها أي هو مولى تلك الجهة أي قد وليها { فاستبقوا الخيرات } من أمر القبلة وغيره مما ينال به سعادة الدارين أو الفاضلات من الجهات وهي المسامتة للكعبة { أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا } أي : في أي موضع تكونوا من موافق ومخالف مجتمع الأجزاء ومفترقها يحشركم الله إلى المحشر للجزاء أو أينما تكونوا من أعماق الأرض وقلل الجبال يقبض أرواحكم أو أينما تكونوا من الجهات المتقابلة يأت بكم الله جميعا ويجعل صلواتكم كأنها إلى جهة واحدة { إن الله على كل شيء قدير } فيقدر على الإماتة والإحياء والجمع

149 - { ومن حيث خرجت } ومن أي مكان خرجت للسفر { فول وجهك شطر المسجد الحرام } إذا صليت { وإنه } وإن هذا الأمر { للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون } وقرأ أبو عمرو بالياء والباقون بالتاء 7

150 - { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } كرر هذا الحكم لتعدد علله فإنه تعالى ذكر للتحويل ثلاث علل تعظيم الرسول صلى الله عليه و سلم بابتغاء مرضاته وجري العادة الإلهية على أن يولي أهل كل ملة وصاحب دعوة وجهة يستقبلها ويتميز بها ودفع حجج المخالفين على ما نبينه وقرن بكل علة معلولها كما يقرن المدلول بكل واحد من دلائله تقريبا مع أن القبلة لها شأن والنسخ من مظان الفتنة والشبهة فبالحري أن يؤكد أمرها ويعاد ذكرها مرة بعد أخرى { لئلا يكون للناس عليكم حجة } علة لقوله { فولوا } والمعنى أن التولية عن الصخرة إلى الكعبة تدفع احتجاج اليهود بأن المنعوت في التوراة قبلته الكعبة وأن محمدا يجحد ديننا ويتبعنا في قبلتنا والمشركين بأنه يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته { إلا الذين ظلموا منهم } استثناء من الناس أي لئلا يكون لأحد من الناس حجة إلا المعاندين منهم بإنهم يقولون ما تحول إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه وحبا لبلده أو بدا له فرجع إلى قبلة آبائه ويوشك أن يرجع إلى دينهم وسمى هذه حجة كقوله تعالى : { حجتهم داحضة عند ربهم } لأنهم يسوقونها مساقها وقيل الحجة بمعنى الاحتجاج وقيل الاستثناء للمبالغة في نفي الحجة رأسا كقوله :
( ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب )
للعلم بأن الظالم لا حجة له وقرئ : { إلا الذين ظلموا منهم } على أنه استئناف بحرف التنبيه { فلا تخشوهم } فلا تخافوهم فإن مطاعنهم لا تضركم { واخشوني } فلا تخالفوا ما أمرتكم به { ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون } علة محذوف أي وأمرتكم لإتمامي النعمة عليكم وإرادتي اهتدائكم أو عطف على علة مقدرة مثل : واخشوني لأحفظكم منهم ولأتم نعمتي عليكم أو لئلا يكون وفي الحديث [ تمام النعمة دخول الجنة ] وعن علي رضي الله تعالى عنه تمام النعمة الموت على الإسلام

151 - { كما أرسلنا فيكم رسولا منكم } متصل بما قبله أي ولأتم نعمتي عليكم في أمر القبلة أو في الآخرة كما أتممتها بإرسال رسول منكم أو بما بعده كما ذكرتكم بالإرسال فاذكروني { يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم } يحملكم على ما تصيرون به أزكياء قدمه باعتبار القصد وأخره في دعوة إبراهيم عليه السلام باعتبار الفعل { ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون } بالفكر والنظر إذ لا طريق إلى معرفته سوى الوحي وكرر الفعل ليدل على أنه جنس آخر

152 - { فاذكروني } بالطاعة { أذكركم } بالثواب { واشكروا لي } ما أنعمت به عليكم { ولا تكفرون } بجحد النعم وعصيان الأمر

153 - { يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر } عن المعاصي وحظوظ النفس { والصلاة } التي هي أم العبادات ومعراج المؤمنين ومناجاة رب العالمين { إن الله مع الصابرين } بالنصر وإجابة الدعوة

154 - { ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات } أي هم أموات { بل أحياء } أي بل هم أحياء { ولكن لا تشعرون } ما حالهم وهو تنبيه على أن حياتهم ليست بالجسد ولا من جنس ما يحس به من الحيوانات وأنما هي أمر لا يدرك بالعقل بل وبالوحي وعن الحسن ( إن الشهداء أحياء عند ربهم تعرض أرزاقهم على أرواحهم فيصل إليهم الروح والفرح كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوا وعشيا فيصل إليهم الألم والوجع ) والآية نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر وفيها دلالة على أن الأرواح جواهر قائمة بأنفسها مغايرة لما يحس به من البدن تبقى بعد الموت داركة وعليه جمهور الصحابة والتابعين وبه نطقت الآيات والسنن وعلى هذا فتخصيص الشهداء لاختصاصهم بالقرب من الله تعالى و مزيدة البهجة والكرامة

155 - { ولنبلونكم } ولنصيبنكم إصابة من يختبر لأحوالكم هلى تصبرون على البلاء وتستسلمون للقضاء ؟ { بشيء من الخوف والجوع } أي بقليل من ذلك وإنما قلله بالإضافة إلى ما وقاهم منه ليخفف عليهم ويريهم أن رحمته لا تفارقهم أو بالنسبة إلى ما يصيب به معانديهم في الآخرة وإنما أخبرهم به قبل وقوعه ليوطنوا عليه نفوسهم { ونقص من الأموال والأنفس والثمرات } عطف شيء أو الخوف وعن الشافعي رضي الله عنه الخوف : خوف الله والجوع : صوم رمضان والنقص : من الأموال الصدقات والزكوات ومن الأنفس : الأمراض ومن الثمرات موت الأولاد وعن النبي صلى الله عليه و سلم [ إذا مات الولد العبد قال الله تعالى للملائكة : أقبضتم روح ولد عبدي ؟ فيقولون نعم فيقول الله : أقبضتم ثمرة فؤاده فيقولون نعم فيقول الله تعالى : ماذا قال عبدي ؟ فيقولون حمدك واسترجع فيقول الله : ابنو لعبدي بيتا في الجنة بيت الحمد ] { وبشر الصابرين }

156 - { الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون } الخطاب للرسول صلى الله عليه و سلم أو لمن تتأتى منه البشارة والمصيبة تعم ما يصيب الإنسان من مكروه لقوله عليه الصلاة و السلام : [ كل شيء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة ] وليس الصبر بالاسترجاع باللسان بل به وبالقلب بأن يتصور ما خلق لأجله وأنه راجع إلى ربه ويتذكر نعم الله عليه ليرى أن ما بقي عليه أضعاف ما استرده منه فيهون على نفسه ويستسلم له والمبشر به محذوف دل عليه

157 - { أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة } الصلاة في الأصل الدعاء ومن الله تعالى التزكية والمغفرة وجمعها للتنبيه على كثرتها وتنوعها والمراد بالرحمة اللطف والإحسان وعن النبي صلى الله عليه و سلم [ من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلفا صالحا يرضاه ] { وأولئك هم المهتدون } للحق والصواب حيث استرجعوا وسلموا لقضاء الله تعالى

158 - { إن الصفا والمروة } هما عما جبلين بمكة { من شعائر الله } من أعلام مناسكه جمع شعيرة وهي العلامة { فمن حج البيت أو اعتمر } الحج لغة القصد والاعتمار الزيارة فغلبا شرعا على قصد البيت وزيارته على الوجهين المخصوصين { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } كان إساف على الصفا ونائلة على المروة وكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام تحرج المسلمون أن يطوفوا بينهما لذلك فنزلت والإجماع على أنه مشروع في الحج والعمرة وإنما الخلاف في وجوبه فعن أحمد أنه سنة وبه أنس وابن عباس رضي الله عنهم لقوله : { فلا جناح عليه } فإنه يفهم منه التخيير وهو ضعيف لأن نفي الجناح يدل على الجواز الداخل في معنى الوجوب فلا يدفعه وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه واجب يجبر بالدم وعن مالك و الشافعي رحمهما الله أنه ركن لقوله عليه الصلاة و السلام [ اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي ] { ومن تطوع خيرا } أي فعل طاعة فرضا كان أو نفلا أو زاد على ما فرض الله عليه من حج أو عمرة أو طواف أو تطوع بالسعي إن قلنا إنه سنة و { خيرا } نصب على أن صفة مصدر محذوف أو بحذف الجار وإيصال الفعل إليه أو بتعدية الفعل لتضمنه معنى أتى أو فعل وقرأ حمزة و الكسائي و يعقوب وأصله يتطوع فأدغم مثل يطوف { فإن الله شاكر عليم } مثيب على الطاعة لا تخفى عليه

159 - { إن الذين يكتمون } كأحبار اليهود { ما أنزلنا من البينات } كالآيات الشاهدة على أمر محمد صلى الله عليه و سلم { والهدى } وما يهدي إلى وجوب اتباعه والإيمان به { من بعد ما بيناه للناس } لخصناه { في الكتاب } في التوراة { أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون } أي الذين يتأتى منهم اللعن عليهم من الملائكة والثقلين

160 - { إلا الذين تابوا } عن الكتمان وسائر ما يجب أن يتاب عنه { وأصلحوا } ما أفسدوا بالتدارك { وبينوا } ما بينه الله في كتابهم لتتم توبتهم وقيل ما أحدثوه من التوبة ليمحوا به سمة الكفر عن أنفسهم ويقتدي بهم أضرابهم { فأولئك أتوب عليهم } بالقبول والمغفرة { وأنا التواب الرحيم } المبالغ في قبول التوبة وإفاضة الرحمة

161 - { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار } أي ومن لم يتب من الكاتمين حتى مات { أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين } استقر عليهم اللعن من الله ومن يعتد بلعنه من خلقه وقيل الأول لعنهم أحياء وهذا لعنهم أمواتا وقرئ و الملائكة والناس أجمعون عطفا على محل اسم الله لأنه فاعل في المعنى كقولك أعجبني ضرب زيد وعمرو أو فاعلا لفعل مقدر نحو وتلعنهم الملائكة

162 - { خالدين فيها } أي في اللعنة أو النار وإضمارها قبل الذكر تفخيما لشأنها وتهويلا أو اكتفاء بدلالة اللعن عليه { لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون } أي لا يمهلون أو لا ينتظرون ليعتذروا أو لا ينظر إليهم نظر رحمة

163 - { وإلهكم إله واحد } خطاب عام أي المستحق منكم العبادة واحد لا شريك له يصح أن يعبد أو يسمى إلها { لا إله إلا هو } تقرير للوحدانية وإزاحة لأن يتوهم أن في الوجود إلها ولكن لا يستحق منهم العبادة { الرحمن الرحيم } كالحجة عليها فإنه لما كان مولى النعم كلها أصولها وفروعها وما سواه إما نعمة أو منعم عليه لم يستحق العبادة أحد غيره وهما خبران آخران لقوله إلهكم أو لمبتدأ محذوف قيل لما سمعه المشركون تعجبوا وقالوا : إن كنت صادقا فائت بآية نعرف بها صدقكك فنزلت

164 - { إن في خلق السموات والأرض } إنما جمع السموات وأفراد الأرض لأنها طبقات متفاصلة بالذات مختلفة بالحقيقة بخلاف الأرضين { واختلاف الليل والنهار } تعاقبهما كقوله تعالى : { جعل الليل والنهار خلفة } { والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس } أي ينفعهم أو بالذي ينفعهم والقصد به إلى الاستدلال بالبحر وأحواله وتخصيص { الفلك } بالذكر لأنه سبب الخوض فيه والاطلاع على عجائبه ولذلك قدمه على ذكر المطر والسحاب لأن منشأهما البحر في غالب الأمر وتأنيث { الفلك } لأنه بمعنى السفينة وقرئ بضمتين على الأصل أو الجمع وضمة الجمع غير ضمة الواحد عند المحققين { وما أنزل الله من السماء من ماء } من الأولى للإبتداء والثانية للبيان والسماء يحتمل الفلك والسحاب وجهة العلو { فأحيا به الأرض بعد موتها } بالنبات { وبث فيها من كل دابة } عطف على أنزل كأنه استدل بنزول المطر وتكوين النبات به وبث الحيوانات في الأرض أو على أحيا فإن الدواب ينمون بالخصب ويعيشون بالحياة والبث النشر والتفريق { وتصريف الرياح } في مهابها وأحوالها وقرأ حمزة و الكسائي على الإفراد { والسحاب المسخر بين السماء والأرض } لا ينزل ولا ينقشع مع أن الطبع يقتضي أحدهما حتى يأتي أمر الله تعالى وقيل : مسخر الرياح تقلبه في الجو بمشيئة الله تعالى واشتقاقه من السحب لأن بعضه يجر بعضا { لآيات لقوم يعقلون } يتفكرون فيها وينظرون إليها بعيون عقولهم وعنه صلى الله عليه و سلم [ ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها ] أي لم يتفكر فيها
واعلم أن دلالة هذه الآيات على وجود الإله و وحدته من وجوه كثيرة يطول شرحها مفصلا والكلام المجمل أنها : أمور ممكنة وجد كل منها بوجه مخصوص من وجوه محتملة وأنحاء مختلفة إذ كان من الجائز مثلا أن لا تتحرك السموات أو بعضها كالأرض وأن تتحرك بعكس حركاتها وبحيث تصير المنطقة دائرة مارة بالقطبين وأن لا يكون لها أوج وحضيض أصلا وعلى هذا الوجه لبساطتها وتساوي أجزائها فلا بد لها من موجه قادر حكيم يوجدها على ما تستدعيه حكمته وتقتضيه مشيئته متعاليا عن معارضة غيره إذ لو كان معه إله يقدر على ما يقدر عليه الآخر فإن توافقت إرادتهما : فالفعل إن كان لهما لزم اجتماع مؤثرين على أثر واحد وإن كان لأحدهما لزم ترجيح الفاعل بلا مرجح وجز الآخر المنافي لآلهيته وإن اختلفت : لزم التمانع والتطارد كما أشار إليه بقوله تعالى : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } وفي الآية تنبيه على شرف علم الكلام وأهله وحث على البحث والنظر فيه

165 - { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا } من الأصنام وقيل الرؤساء الذين كانوا يطيعونهم لقوله تعالى : { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا } ولعل المراد أعم منهما وهو ما يشغله عن الله { يحبونهم } يعظمونهم ويطيعونهم { كحب الله } كتعظيمه والميل إلى طاعته أي يسوون بينه وبينهم في المحبة والطاعة والمحبة : ميل القلب من الحب استعير لحبة القلب ثم اشتق منه الحب لأنه أصابها ورسخ فيها ومحبة العبد لله تعالى إرادة طاعته و الإعتناء بتحصيل مراضيه ومحبة الله للعبد إرادة إكرامه واستعماله في الطاعة وصونه عن المعاصي { والذين آمنوا أشد حبا لله } لأنه لا ينقطع محبتهم لله تعالى بخلاف محبة الإنداد فإنها لأغراض فاسدة موهومة تزول بأدنى سبب ولذلك كانوا يعدلون عن آلهتهم إلى الله تعالى عند الشدائد ويعبدون الصنم زمانا ثم يرفضونه إلى غيره
{ ولو يرى الذين ظلموا } ولو يعلم هؤلاء الذين ظلموا باتخاذ الأنداد { إذ يرون العذاب } إذ عاينوه يوم القيامة وأجرى المستقبل مجرى الماضي لتحققه كقوله تعالى : { ونادى أصحاب الجنة }
{ أن القوة لله جميعا } ساد مسد مفعولي { يرى } وجواب { لو } محذوف أي لو يعلمون أن القوة لله جميعا إذا عاينوا العذاب لندموا أشد الندم وقيل هو متعلق الجواب والمفعولان محذوفان والتقدير : ولو يرى الذين ظلموا أندادهم لا تنفع لعلموا أن القوة لله كلها لا ينفع ولا يضر غيره و قرأ ابن عامر و نافع و يعقوب : و لو ترى على أنه خطاب للنبي صلى الله عليه و سلم أي ولو ترى ذلك لرأيت أمرا عظيما و ابن عامر : { إذ يرون } على البناء للمفعول و يعقوب { إن } بالكسر وكذا { وأن الله شديد العذاب } على الاستئناف أو إضمار القول

166 - { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا } بدل من { إذ يرون } أي إذ تبرأ المتبوعون من الأتباع وقرئ بالعكس أي تبرأ الأتباع من الرؤساء { ورأوا العذاب } أي رائين له والواو للحال وقد مضمرة وقيل عطف على تبرأ { وتقطعت بهم الأسباب } يحتمل العطف على تبرأ أو رأوا والواو للحال والأول أظهر و { الأسباب } : الوصل التي كانت بينهم من الأتباع والاتفاق على الدين والأغراض الداعية إلى ذلك وأصل السبب : الحبل الذي يرتقي به الشجر وقرئ و { تقطعت } على البناء للمفعول

167 - { وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا } { لو } للتمني ولذلك أجيب بالفاء أي ليت لنا كرة إلى الدنيا فنتبرأ منهم { كذلك } مثل ذلك الآراء الفظيع { يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم } ندامات وهي ثالث مفاعيل يرى أن كان من رؤية القلب وإلا فحال { وما هم بخارجين من النار } أصله وما يخرجون فعدل به إلى هذه العبارة للمبالغة في الخلود والأقناط عن الخلاص والرجوع إلى الدنيا

168 - { يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا } نزلت في قوم حرموا على أنفسهم رفيع الأطعمة والملابس وحلالا مفعول كلوا أو صفة مصدر محذوف أو حال مما في الأرض ومن للتبعيض إذ يؤكل كل ما في الأرض { طيبا } يستطيبه الشرع أو الشهوة المستقيمة إذ الحلال دل على الأول { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } لا تقتدوا به في إتباع الهوى فتحرموا الحلال وتحللوا الحرام وقرأ نافع و أبو عمرو و حمزة و البزي و أبو بكر حيث وقع بتسكين الطاء وهما لغتان في جمع خطوة وهي ما بين قدمي الخاطي وقرئ بضمتين وهمزة جعلت ضمة الطاء كأنها عليها و بفتحتين على أنه جمع خطوة وهي المرة من الخطو { إنه لكم عدو مبين } ظاهر العداوة عند ذوي البصيرة وإن كان يظهر الموالاة لمن يغويه ولذلك سماه وليا في قوله تعالى : { أولياؤهم الطاغوت }

169 - { إنما يأمركم بالسوء والفحشاء } بيان لعداوته ووجوب التحرز عن متابعته واستعير الأمر لتزيينه وبعثه لهم على الشر تسفيها لرأيهم وتحقيرا لشأنهم والسوء والفحشاء ما أنكره العقل واستقبحه الشرع والعطف لاختلاف الوصفين فإنه سوء لاغتمام العاقل به وفحشاء باستقباحه إياه وقيل : السوء يعم القبائح والفحشاء ما يتجاوز الحد في القبح من الكبائر وقيل : الأول ما لا حد فيه والثاني ما شرع فيه الحد { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } كاتخاذ الأنداد وتحليل المحرمات وتحريم الطيبات وفيه دليل على المنع من اتباع الظن رأسا وأما اتباع المجتهد لما أدى إليه ظن مستند إلى مدرك شرعي فوجوبه قطعي والظن في طريقة كما بيناه في الكتب الأصولية

170 - { وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله } الضمير للناس وعدل بالخطاب عنهم للنداء على ضلالهم كأنه التفت إلى العقلاء و قال لهم : انظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يجيبون { قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا } ما وجدناهم عليه نزلت في المشركين أمروا باتباع القرآن وسائر ما أنزل الله من الحجج والآيات فجنحوا إلى التقليد وقيل في طائفة من اليهود دعاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الإسلام فقالوا : بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا لأنهم كانوا خير منا وأعلم وعلى هذا فيعم ما أنزل الله التوراة لأنها أيضا تدعو إلى الإسلام { أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون } الواو للحال أو العطف والهمزة للرد والتعجيب وجواب { لو } محذوف أي لو كان آباؤهم جهلة لا يتفكرون في أمر الدين ولا يهتدون إلى الحق لاتبعوهم وهو دليل على المنع من التقليد لمن قدر على النظر والاجتهاد وأما اتباع الغير في الدين إذا علم بدليل ما أنه محق كالأنبياء والمجتهدين في الأحكام فهو في الحقيقة ليس بتقليده بل اتباع لما أنزل الله

171 - { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء } على حذف مضاف تقديره : ومثل داعي الذين كفروا كمثل الذي ينعق أو مثل الذين كفروا كمثل بهائم الذي ينعق والمعنى أن الكفرة لانهماكهم في التقليد لا يلقون أذهانهم إلى ما يتلى عليهم ولا يتأملون فيما يقرر معهم فهم في ذلك كالبهائم التي ينعق عليها فتسمع الصوت ولا تعرف مغزاه وتحس بالنداء ولا تفهم معناه وقيل هو تمثيلهم في اتباع آبائهم على ظاهر حالهم جاهلين بحقيقتها بالبهائم التي تسمع الصوت ولا تفهم ما تحته أو تمثيلهم في دعائهم الأصنام بالناعق في نعقه وهو التصويت على البهائم وهذا يغني الإضمار ولكن لا يساعده قوله إلا دعاء ونداء لأن الأصنام لا تسمع إلا أن يجعل ذلك من باب التمثيل المركب
{ صم بكم عمي } رفع على الذم { فهم لا يعقلون } أي بالفعل للإخلال بالنظر

172 - { يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } لما وسع الأمر على الناس كافة وأباح لهم ما في الأرض سوء ما حرم عليهم أمر المؤمنين منهم أن يتحروا طيبات ما رزقوا ويقوموا بحقوقها فقال : { واشكروا لله } على ما رزقكم و أحل لكم { إن كنتم إياه تعبدون } إن صح أنكم تخصونه بالعبادة وتقرون أنه مولى النعم فإن عبادته تعالى لا تتم إلا بالشكر فالمعلق بفعل هو الأمر بالشكر لإتمامه وهو عدم عند عدمه وعن النبي صلى الله عليه و سلم [ يقول الله تعالى إني والإنس والجن في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري ]

173 - { إنما حرم عليكم الميتة } أكلها أو الانتفاع بها وهي التي ماتت من غير ذكاة والحديث ألحق بها ما أبين من حي والسمك والجراد أخرجهما العرف عنها أو استثناء الشرع والحرمة المضافة إلى العين تفيد عرفا حرمة التصرف فيها مطلقا إلا ما خصه الدليل كالتصرف في المدبوغ { والدم ولحم الخنزير } إنما خص اللحم بالذكر لأنه معظم ما يؤكل من الحيوان وسائر أجزائه كالتابع له { وما أهل به لغير الله } أي رفع يه الصوت عند ذبحه للصنم والإهلال أصله رؤية الهلال يقال : أهل الهلال وأهللته لكن لما جرت العادة أن يرفع الصوت بالتكبير إذا رئي سمي ذلك إهلالا ثم قيل لرفع الصوت وإن كان لغيره { فمن اضطر غير باغ } بالاستيثار على مضطر آخر وقرأ عاصم و أبو عمرو و حمزة بكسر النون ز { ولا عاد } سد الرمق أو الجوعة وقيل غير باغ على الوالي ولا عاد بقطع الطريق فعلى هذا لا يباح للعاصي بالسفر وهو ظاهر مذهب الشافعي وقول أحمد رحمهما الله تعالى { فلا إثم عليه } في تناوله { إن الله غفور } لما فعل { رحيم } بالرخصة فيه فإن قيل : إنما تفيد قصر الحكم على ما ذكر وكم من حرام لم يذكر قلت : المراد قصر الحرمة على ما ذكر مما استحلوه لا مطلقا أو قصر حرمته على حال الاختيار كأنه قيل إنما حرم عليكم هذه الأشياء ما لم تضطروا إليها

174 - { إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا } عوضا حقيرا { أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار } إما في الحال لأنهم أكلوا ما يتلبس بالنار لكونها عقوبة عليه فكأنه أكل النار كقوله :
( أكلت دما إن لم أرعك بضرة ... بعيدة مهوى القرط طيبة النشر )
يعني الدية أو في المآل أي لا يأكلون يوم القيامة إلا النار ومعنى في بطونهم : ملء بطونهم يقال أكل في بطنه وأكل في بعض بطنه كقوله :
( كلوا في بعض بطنكمو تعفوا )
{ ولا يكلمهم الله يوم القيامة } عبارة عن غضبه وتعريض بحرمانهم حال مقابليهم في الكرامة والزلفى من الله { ولا يزكيهم } لا يثني عليهم { ولهم عذاب أليم } مؤلم

175 - { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } في الدنيا { والعذاب بالمغفرة } في الآخرة بكتمان الحق للمطالع والأغراض الدنيوية { فما أصبرهم على النار } تعجب من حالهم في الالتباس بموجبات النار من غيره مبالاة وما تامة مرفوعة بالابتداء وتخصيصها كتخصيص قولهم
( شر اهر ... ذا ناب )
أو استفهامية وما بعدها الخبر أو موصولة وما بعدها صلة والخبر محذوف

176 - { ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق } أي ذلك العذاب بسبب أن الله نزل الكتاب بالحق فرفضوه بالتكذيب أو الكتمان { وإن الذين اختلفوا في الكتاب } اللام فيه إما للجنس واختلافهم إيمانهم ببعض كتب الله تعالى وكفرهم ببعض أو للعهد والإشارة إما إلى التوراة واختلفوا بمعنى تخلفوا عن المنهج المستقيم في تأويلها أو خلفوا خلال ما أنزل الله تعالى مكانه أي حرفوا ما فيها وإما إلى القرآن واختلافهم فيه قولهم سحر وتقول وكلام علمه بشر وأساطير الأولين { لفي شقاق بعيد } لفي خلاف بعيد عن الحق

177 - { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب } { البر } كل فعل مرض والخطاب لأهل الكتاب فإنهم أكثروا الخوض في أمر القبلة حين حولت وادعى كل طائفة أن البر هو التوجه إلى قبلته فرد الله تعالى عليهم وقال ليس البر ما أنتم عليه فإنه منسوخ ولكن البر ما بينه الله واتبعه المؤمنون وقيل عام لهم وللمسلمين أي ليس البر مقصورا بأمر القبلة أو ليس البر العظيم الذي يحسن أن تذهلوا بشأنه عن غيره أمرها وقرأ حمزة و حفص { البر } بالنصب { ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين } أي ولكن البر الذي ينبغي أن يهتم به بر من آمن بالله أو لكن ذا البر من آمن ويؤيده قراءة من قرأ ولكن البار والأول أوفق وأحسن والمراد بالكتاب الجنس أو القرآن وقرأ نافع و ابن عامر { ولكن } بالتخفيف ورفع { البر } { وآتى المال على حبه } أي على حب المال قال عليه الصلاة و السلام لما سئل أي الصدقة أفضل قال [ أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر ] وقيل الضمير لله أو للمصدر والجار والمجرور في موضع الحال { ذوي القربى واليتامى } يريد المحاويج منهم ولم يقيد لعدم الالتباس وقدم ذوي القربى لأن إيتاءهم أفضل كما قال عليه الصلاة و السلام [ صدقتك على المسكين صدقة وعلى ذوي رحمك اثنتان صدقة وصلة ] { والمساكين } جمع المسكين وهو الذي أسكنته الخلة وأصله دائم السكون كالمسكير للدائم السكر { وابن السبيل } المسافر سمي لملازمته السبيل كما سمي القاطع ابن الطريق وقيل الضيف لأن السبيل يرعف به { والسائلين } الذين ألجأتهم الحاجة إلى السؤال وقال عليه السلام [ للسائل حق وإن جاء على فرسه ] { وفي الرقاب } وفي تخليصها بمعاونة المكاتبين أو فك الأساري أو ابتياع الرقاب لعتقها ز { وأقام الصلاة } المفروضة { وآتى الزكاة } يحتمل أن يكون المقصود منه ومن قوله : { وآتى المال } الزكاة المفروضة ولكن الغرض من الأول بيان مصارفها ومن الثاني أداؤها والحث عليها ويحتمل أن يكون المراد بالأول نوافل الصدقات أو حقوقا كانت في المال سوى الزكاة وفي الحديث [ نسخت الزكاة كل صدقة ] { والموفون بعهدهم إذا عاهدوا } عطف على { من آمن } { والصابرين في البأساء والضراء } نصبه على المدح ولم يعطف لفضل الصبر على سائر الأعمال وعن الأزهري : البأساء في الأموال كالفقر والضراء في الأنفس كالمرض { وحين البأس } وقت مجاهدة العدو { أولئك الذين صدقوا } في الدين واتباع الحق وطلب البر { وأولئك هم المتقون } عن الكفر وسائر الرذائل والآية كما ترى جامعة للكلمات الإنسانية بأسرها دالة عليها صريحا أو ضمنا فإنهما بكثرتها وتشعبها منحصرة في ثلاثة أشياء : صحة الاعتقاد وحسن المعاشرة وتهذيب النفس وقد أشير إلى الأول بقوله : { من آمن بالله } إلى { والنبيين } وإلى الثاني بقوله : { وآتى المال } إلى { وفي الرقاب } وإلى الثالث بقوله
{ وأقام الصلاة } إلى آخرها ولذلك وصف المستجمع لها بالصدق نظرا إلى إيمانه واعتقاد بالتقوى اعتبارا بمعاشرته للخلق ومعاملته مع الحق وإليه أشار بقوله عليه السلام [ من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان ]

178 - { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } كان في الجاهلية بين حيين من أحياء العرب دماء وكان لأحدهما طول على الآخر فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد بالأنثى فلما جاء الإسلام تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت وأمرهم أن يتباوؤا ولا تدل على أن لا يقتل الحر بالعبد والذكر بالأنثى كما لا تدل على عكسه فإن المفهوم حيث لم يظهر للتخصيص غرض سوى اختصاص الحكم وقد بينا ما كان الغرض وإنما منع مالك و الشافعي رضي الله تعالى عنهما قتل الحر بالعبد سواء كان عبده أو عبد غيره لما روي عن علي رضي الله تعالى عنه : أن رجلا قتل عبده فجلده الرسول صلى الله عليه و سلم ونفاه سنة ولم يقده به وروي عنه أنه قال : من السنة أن لا يقتل مسلم بذي عهد لا حر بعبد ولأن أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما كانا لا يقتلان الحر بالعبد بين أظهر الصحابة من غير نكير وللقياس على الأطراف ومن سلم دلالته فليس له دعوى نسخة بقوله تعالى : { النفس بالنفس } لأنه حكاية ما في التوراة فلا ينسخ ما في القرآن واحتجت الحنفية به على أن مقتضى العمد القود وحده وهو ضعيف إذ الواجب على التخيير يصدق عليه أنه وجب وكتب ولذلك قيل التخيير بين الواجب وغيره ليس نسخا لوجوبه وقرئ { كتب } على البناء للفاعل والقصاص بالنصب وكذلك كل فعل جاء في القرآن { فمن عفي له من أخيه شيء } أي شيء من العفو لأن عفا لازم وفائدته الإشعار بأن بعض العفو كالعفو التام في إسقاط القصاص وقيل عفا بمعنى ترك وشيء مفعول به وهو ضعيف إذ لم يثبت عفا الشيء بمعنى تركه بل أعفاه وعفا يعدي بعن إلى الجاني وإلى الذنب قال الله تعالى { عفا الله عنك } وقال { عفا الله عما سلف } فإذا عدي يه إلى الذنب عدي إلى الجاني باللام وعيه ما في الآية كأنه قيل : فمن عفي له عن جنايته من جهة أخيه يعني ولي الدم وذكره بلفظ الإخوة الثابتة بينهما من الجنسية والإسلام ليرق له ويعطف عليه { فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } أي فليكن اتباع أو فالأمر اتباع والمراد به وصية العافي بأن يطلب الدية بالمعروف فلا يعنف والمعفو بأن يؤديها بالإحسان : وهو أن لا يمطل ولا يبخس وفيه دليل على أن الدية أحد مقتضى العمد وإلا لما رتب الأمر بأدائها على مطلق العفو و للشافعي رضي الله تعالى عنه في المسألة قولان { ذلك } أي الحكم المذكور في العفو والدية { تخفيف من ربكم ورحمة } لما فيه من التسهيل والنفع قيل كتب على اليهود القصاص وحده وعلى النصارى العفو مطلقا وخيرت هذه الأمة بينهما وبين الدية تيسيرا عليهم وتقديرا للحكم على حسب مراتبهم { فمن اعتدى بعد ذلك } أي قتل بعد العفو وأخذ الدية { فله عذاب أليم } في الآخرة وقيل في الدنيا بأن يقتل لا محالة لقوله عليه السلام [ لا أعافي أحدا قتل بعد أخذه الدية ]

179 - { ولكم في القصاص حياة } كلام في غاية الفصاحة والبلاغة من حيث جعل الشيء محل ضده وعرف القصاص ونكر الحياة ليدل على أن في هذا الجنس من الحكم نوعا من الحياة عظيما وذلك لأن العلم به يردع القاتل عن القتل فيكون سبب حياة نفسين ولأنهم كانوا يقتلون غير القاتل والجماعة بالواحد فتثور الفتنة بينهم فإذا اقتص من القاتل سلم الباقون فيكون ذلك سببا لحياتهم وعلى الأول فيه إضمار وعلى الثاني تخصيص وقيل : المراد بها الحياة الأخروية فإن القاتل إذا اقتص منه في الدنيا لم يؤاخذ به في الآخرة { ولكم في القصاص } يحتمل أن يكون خبرين لحياة وأن يكون أحدهما خبرا والآخر صلة له أو حالا من الضمير المستكن فيه وقرئ في القصص أي فيما قص عليكم من حكم القتل حياة أو في القرآن حياة للقلوب { يا أولي الألباب } ذوي العقول الكاملة ناداهم للتأمل في حكمة القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس { لعلكم تتقون } في المحافظة على القصاص والحكم به والإذعان له أو عن القصاص فتكفوا عن القتل

180 - { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت } أي حضرت أسبابه وظهرت أماراته { إن ترك خيرا } أي مالا وقيل مالا كثيرا لما روي عن علي رضي الله تعالى عنه : أن مولى له أراد أن يوصي وله سبعمائة درهم فمنعه وقال : قال الله تعالى { إن ترك خيرا } والخير هو المال الكثير وعن عائشة رضي الله تعالى عنها : أن رجلا أراد أن يوصي فسألته كم مالك فقال : ثلاثة آلاف فقالت : كم عيالك قال : أربعة قالت : إنما قال الله تعالى { إن ترك خيرا } وأن هذا لشيء يسير فاتركه لعيالك { الوصية للوالدين والأقربين } مرفوع بكتب وتذكير فعلها للفصل أو على تأويل أن يوصي أو الإيصاء ولذلك ذكر الراجع في قوله : { فمن بدله } والعامل في إذا مدلول كتب لا الوصية لتقدمه عليها وقيل مبتدأ خبره { للوالدين } والجملة جواب الشرط بإضمار الفاء كقوله :
( من يفعل الحسنات الله يشكرها ... والشر بالشر عند الله مثلان )
ورد بأنه إن صح فمن ضرورات الشعر وكان هذا الحكم في بدء الإسلام فنسخ بآية المواريث وبقوله عليه الصلاة و السلام [ إن الله أعطى ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث ] و فيه نظر : لأن آية المواريث لا تعارضه بل تؤكده من حيث إنها تدل على تقديم الوصية مطلقا والحديث من الآحاد وتلقي الأمة له بالقبول لا يحلقه بالمتواتر ولعله احترز عنه من فسر الوصية بما أوصى به الله من توريث الوالدين والأقربين بقوله { يوصيكم الله } أو بإيصاء المحتضر لهم بتوفير ما أوصى به الله عليهم { بالمعروف } بالعدل فلا يفضل الغني ولا يتجاوز الثلث { حقا على المتقين } مصدر مؤكد أي حق ذلك حقا

181 - { فمن بدله } غيره من الأوصياء والشهود { بعد ما سمعه } أي وصل إليه وتحقق عنده { فإنما إثمه على الذين يبدلونه } فما إثم الإيصاء المغير أو التبديل إلا على مبدليه لأنهم الذين حافوا وخالفوا الشرع { إن الله سميع عليم } وعيد للمبدل بغير حق

182 - { فمن خاف من موص } أي توقع وعلم من قولهم أخاف أن ترسل السماء وقرأ حمزة و الكسائي و يعقوب و أبو بكر { موص } مشددا { جنفا } ميلا بالخطأ في الوصية { أو إثما } تعمدا للحيف { فأصلح بينهم } بين الموصى لهم بإجرائهم على نهج الشرع { فلا إثم عليه } في هذا التبديل لأنه تبديل باطل إلى الحق بخلاف الأول { إن الله غفور رحيم } وعد للمصلح وذكر المغفرة لمطابقة ذكر الإثم وكون الفعل من جنس ما يؤثم

183 - { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم } يعني الأنبياء والأمم من لدن آدم عليه السلام وفيه توكيد للحكم وترغيب في الفعل وتطيب على النفس والصوم في اللغة : الإمساك عما تنازع إليه النفس وفي الشرع : الإمساك عن المفطرات بياض النهار فإنها معظم ما تشتهيه النفس { لعلكم تتقون } المعاصي فإن الصوم يكسر الشهوة التي هي مبدؤها كما قال عليه الصلاة و السلام [ فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء ] أو الإخلال بأدائه لأصالته وقدمه

184 - { أياما معدودات } مؤقتات بعدد معلوم أو قلائل فإن القليل من المال يعد عدا والكثير يهال هيلا ونصبها ليس بالصيام لوقوع الفصل بينهما بل بإضمار صوموا لدلالة الصيام عليه والمراد به رمضان أو ما وجب صومه قبل وجوبه ونسخ به وهو عاشوراء أو ثلاثة أيام من كل شهر أو بكما كتب على الظرفية أو على أنه مفعول ثان لـ { كتب عليكم } على السعة وقيل معناه صومكم كصومهم في عدد الأيام لما روي : أن رمضان كتب على النصارى فوقع في برد أو حر شديد فحولوه إلى الربيع وزادوا عليه عشرين كفارة لتحويله وقيل زادوا ذلك لموتان أصابهم { فمن كان منكم مريضا } مرضا يضره الصوم أو يعسره معه { أو على سفر } أو راكب سفر وفيه إيماء إلى أن من سافر أثناء اليوم لم يفطر { فعدة من أيام أخر } أي فعليه صوم عدد أيام المرض أو السفر من أيام أخر إن أفطر فحذف الشرط والمضاف و المضاف إليه للعلم بها وقرئ بالنصب أي فليصم عدة وهذا على سبيل الرخصة وقيل على الوجوب وإليه ذهب الظاهرية وبه قال أبو هريرة رضي الله عنه { وعلى الذين يطيقونه } وعلى المطيقين للصيام إن أفطروا { فدية طعام مسكين } نصف صاع من بر أو صاع من غيره عند فقهاء العراق ومد عند فقهاء الحجاز رخص لهم في ذلك أول الأمر لما أمروا بالصوم فاشتد عليهم لأنهم لم يتعودوه ثم نسخ وقرأ نافع و ابن عامر برواية ابن ذكوان بإضافة الفدية إلى الطعام وجمع المساكين وقرأ ابن عامر برواية هشام مساكين بغير إضافة الفدية إلى الطعام والباقون بغير إضافة وتوحيد مسكين وقرئ يطوقونه أي يكلفونه ويقلدونه في الطرق بمعنى الطاقة أو القلادة ويتطوقونه أي بتكلفونه أو يتقلدونه ويطوقونه بالإدغام و يطيقونه و يطيقونه على أن أصلهما يطيقونه من فيعل وتفعيل بمعنى يطوقونه ويتطوقونه وعلى هذه القراءات يحتمل معنى ثانيا وهو الرخصة لمن يتعبه الصوم ويجهده ـ وهم الشيوخ والعجائز ـ في الإفطار والفدية فيكون ثابتا وقد أول به القراءة المشهورة أي يصومونه جهدهم وطاقتهم { فمن تطوع خيرا } فزاد في الفدية { فهو } فالتطوع أو الخير { خير له وأن تصوموا } أيها المطيقون أو المطوقون وجهدتم طاقتكم أو المرخصون في الإفطار ليندرج تحته المريض والمسافر { خير لكم } من الفدية أو تطوع الخير أو منهما ومن التأخير للقضاء { إن كنتم تعلمون } ما في الصوم من الفضيلة وبراءة الذمة وجوابه محذوف دل عليه ما قبله أي اخترتموه وقيل معناه إن كنتم من أهل العلم والتدبر علمتم أن الصوم خير لكم من ذلك

185 - { شهر رمضان } مبتدأ خبره ما بعده أو خبر مبتدأ محذوف تقديره ذلكم شهر رمضان أو بدل من الصيام على حذف المضاف أي كتب عليكم الصيام صيام شهر رمضان وقرئ بالنصب على إضمار صوموا أو على أنه مفعول { وأن تصوموا } وفيه ضعف أو بدل من أيام معدودات والشهر : من الشهرة ورمضان : مصدر رمض إذا احترق فأضيف إليه الشهر وجعل علما ومنع من الصرف للعلمية والألف والنون كما منع دأية في ابن دأية علما للغراب للعلمية والتأنيث وقوله عليه الصلاة و السلام [ من صام رمضان ] فعلى حذف المضاف لأمن الالتباس وإنما سموه بذلك إما لارتماضهم فيه من حر الجوع والعطش أو لارتماض الذنوب فيه أو لوقوعه أيام رمض الحر حين ما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة { الذي أنزل فيه القرآن } أي ابتدئ فيه إنزاله وكان ذلك ليلة القدر أو أنزل فيه جملة إلى سماء الدنيا ثم نزل منجما إلى الأرض أو أنزل في شأنه القرآن وهو قوله : { كتب عليكم الصيام } وعن النبي صلى الله عليه و سلم [ نزلت صحف إبراهيم عليه السلام أول ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين والإنجيل لثلاث عشرة والقرآن لأربع وعشرين ] والموصول بصلته خبر المبتدأ أو صفته والخبر فمن شهد والفاء لوصف المبتدأ بما تضمن معنى الشرط وفيه إشعار بأن الإنزال فيه سبب اختصاصه بوجوب الصوم { هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان } حالان من القرآن أن أنزل وهو هداية للناس إعجاز وآيات واضحات مما يهدي إلى الحق ويفرق بينه وبين الباطل بما فيه من الحكم والأحكام { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } فمن حضر في الشهر ولم يكن مسافرا فليصم فيه والأصل فمن شهد فيه فليصم فيه لكم وضع المظهر موضع المضمر الأول للتعظيم ونصب على الظرف و حذف الجار ونصب الضمير الثاني على الاتساع وقيل : { فمن شهد منكم } هلال الشهر فليصمه على أنه مفعول به كقولك : شهدت الجمعة أي صلاتها فيكون { ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } مخصصا له لأن المسافر والمريض ممن شهد الشهر ولعل تكريره لذلك أو لئلا يتوهم نسخه كما قرينه { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } أي يريد أن ييسر عليكم ولا يعسر فلذلك أباح الفطر في السفر والمرض { ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون } علل لفعل محذوف دل عليه ما سبق أي وشرح جملة ما ذكر من أمر الشاهد يصوم الشهر والمرخص بالقضاء ومراعاة عدة ما أفطر فيه والترخيص { لتكملوا العدة } إلى آخرها على سبيل اللف فإن قوله { ولتكملوا العدة } علة الأمر بمراعاة العدة { ولتكبروا الله } علة الأمر بالقضاء وبيان كيفيته { ولعلكم تشكرون } علة الترخيص والتيسير أو الأفعال كل لفعله أو معطوفة على علة مقدرة مثل ليسهل عليكم أو لتعلموا ما تعلمون ولتكملوا العدة ويجوز أن يعطف على اليسر أي يريد بكم لتكملوا كقوله تعالى : { يريدون ليطفئوا نور الله } والمعنى بالتكبير تعظيم الله بالحمد والثناء عليه ولذلك عدى بعلى وقيل تكبير يوم الفطر وقيل التكبير عند الإهلال وما يحتمل المصدر والخبر أي الذي هداكم إليه وعن عاصم برواية أبي بكر { ولتكملوا } بالتشديد

- { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب } أي فقل لهم إني قريب وهو تمثيل لكمال علمه بأفعال العباد وأقوالهم واطلاعه على أحوالهم بحال من قرب مكانه منهم روي : أن أعرابيا قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فنزلت { أجيب دعوة الداع إذا دعان } تقرير للقرب ووعد للداعي بالإجابة { فليستجيبوا لي } إذا دعوتهم للإيمان والطاعة كما أجيبهم إذا دعوني لمهماتهم { وليؤمنوا بي } أمر بالثبات والمداومة عليه { لعلهم يرشدون } راجين إصابة الرشد وهو إصابة الحق وقرئ بفتح الشين وكسرها واعلم أنه تعالى لما أمرهم بصوم الشهر ومراعاة العدة وحثهم على القيام بوظائف التكبير والشكر عقبه : بهذه الآية على أنه تعالى خبير بأحوالهم سميع لأقوالهم مجيب لدعائهم مجازيهم على أعمالهم تأكيدا له وحثا عليه ثم بين أحكام الصوم فقال

187 - { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } روي أن المسلمين كانوا إذا أمسو احل لهم الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلوا العشاء الآخرة أو يرقدوا ثم : إن عمر رضي الله عنه باشر بعد العشاء فندم وأتى النبي صلى الله عليه و سلم واعتذر إليه فقام رجال واعترفوا بما صنعوا بعد العشاء فنزلت وليلة الصيام : الليلة التي تصبح منها صائما والرفث : كناية عن الجماع لأنه لا يكاد يخلو من رفث وهو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه وعدي بإلى لتضمنه معنى الإفضاء وإيثاره ههنا لتقبيح ما ارتكبوه و لذلك سماه خيانة وقرئ الرفوث { هن لباس لكم وأنتم لباس لهن } استئناف يبين سبب الإحلال وهو قلة الصبر عنهن وصعوبة اجتنابهن لكثرة المخالطة وشدة الملابسة ولما كان الرجل والمرأة يعتنقان ويشتمل كل منهما على صاحبه شبه باللباس قال الجعدي :
( إذا ما الضجيع ثنى عطفها ... تثنت فكانت عليه لباسا )
أو لأن كل واحد منهما يستر حال صاحبه ويمنعه من الفجور { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم } تظلمونها بتعريضها للعقاب وتنقيص حظها من الثواب والاختيان أبلغ من الخيانة كالاكتساب من الكسب { فتاب عليكم } لما تبتم مما اقترفتموه { وعفا عنكم } ومحا عنكم أثره { فالآن باشروهن } لما نسخ عنكم التحريم وفيه دليل على جواز نسخ السنة بالقرآن والمباشرة : إلزاق البشرة كني به عن الجماع { وابتغوا ما كتب الله لكم } واطلبوا ما قدره لكم وأثبته في اللوح المحفوظ من الولد والمعنى أن المباشر ينبغي أن يكون غرضه الولد فإنه الحكمة من خلق الشهوة وشرع النكاح لاقضاء الوطر وقيل النهي عن العزل وقيل عن غير المأتي : والتقدير وابتغوا المحل الذي كتب الله لكم { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } شبه أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق وما يمتد معه من غبش الليل بخيطين أبيض وأسود واكتفى ببيان الخيط الأبيض بقوله { من الفجر } عن بيان { الخيط الأسود } لدلالته عليه وبدلك خرجا عن الاستعارة إلى التمثيل ويجوز أن تكون من للتبعيض فإن ما يبدو بعض الفجر وما روي أنها نزلت ولم ينزل من الفجر فعمد رجال إلى خيطين أسود وأبيض ولا يزالون يأكلون ويشربون حتى يتبينا لهم فنزلت إن صح فلعله كان قبل دخول رمضان وتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائزة أو أكتفى أولا باشتهارهما في ذلك ثم صرح بالبيان لما التبس على بعضهم وفي تجويز المباشرة إلى الصبح الدلالة على جواز تأخير الغسل إليه وصحة صوم المصبح جنبا { ثم أتموا الصيام إلى الليل } بيان لآخر وقته وإخراج الليل عنه فينفي صوم الوصال { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } معتكفون فيها والاعتكاف هو اللبث في المسجد بقصد القربة والمراد بالمباشرة : الوطء وعن قتادة كان الرجل يعتكف فيخرج إلى امرأته فيباشرها ثم يرجع فنهوا عن ذلك فيه دليل على أن الاعتكاف يكون في المسجد ولا يختص بمسجد دون مسجد وأن الوطء يحرم فيه ويفسده لأن النهي في العبادات يوجب الفساد { تلك حدود الله } أي الأحكام التي ذكرت { فلا تقربوها } نهى أن يقرب الحد الحاجز بين الحق والباطل لئلا يداني الباطل فضلا عن أن يتخطى عنه كما قال عليه الصلاة و السلام [ إن لكل ملك حمى و إن حمى الله محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ] وهو أبلغ من قوله { فلا تعتدوها } ويجوز أن يريد بـ { حدود الله } محارمه ومناهيه { كذلك } مثل ذلك التبيين { يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون } مخالفة الأوامر والنواهي

188 - { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } أي ولا يأكل بعضكم مال بعض بالوجه الذي لم يبحه الله تعالى وبين نصب على الظرف أو الحال من الأموال { وتدلوا بها إلى الحكام } عطف على المنهي أو نصب بإضمار أن والإدلاء الإلقاء أي ولا تلقوا حكومتها إلى الحكام { لتأكلوا } بالتحاكم { فريقا } طائفة { من أموال الناس بالإثم } بما يوجب إثما كشهادة الزور واليمين الكاذبة أو ملتبسين بالإثم { وأنتم تعلمون } أنكم مبطلون فإن ارتكاب المعصية مع العلم بها أقبح روي أن عبدان الحضرمي ادعى على امرئ القيس الكندي قطعة من أرض ولم يكن له بينة فحكم رسول الله صلى الله عليه و سلم بأن يحلف امرؤ القيس فهم به فقرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم : { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا } فارتدع عن اليمين وسلم الأرض إلى عبدان فنزلت وفيه دليل على أن حكم القاضي لا ينفذ باطنا ويؤيده قوله عليه الصلاة و السلام [ إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إلي ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقضي له قطعة من نار ]

189 - { يسألونك عن الأهلة } سأله معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم فقالا : ( ما بال الهلال يبدو دقيقا كالخيط ثم يزيد حتى يستوي ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا ) { قل هي مواقيت للناس والحج } فإنهم سألوا عن الحكمة في اختلاف حال القمر وتبدل أمره فأمره الله أن يجيب بأن الحكمة الظاهرة في ذلك أن تكون معالم للناس يؤقتون بها أمورهم ومعالم للعبادات المؤقتة يعرف بها أوقاتها وخصوصا الحج فإن الوقت مراعى فيه أداء وقضاء والمواقيت : جمع ميقات من الوقت والفرق بينه وبين المدة والزمان : أن المدة المطلقة امتداد حركة الفلك من مبدئها إلى منتهاها والزمان : مدة مقسومة والوقت : الزمان المفروض لأمر { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها } وقرأ نافع و أبو عمرو و ورش و حفص بضم الباء والباقون بالكسر { ولكن البر من اتقى } وقرأ نافع و ابن عامر بتخفيف { ولكن } ورفع { البر } كانت الأنصار إذا أحرموا لم يدخلوا دارا ولا فسطاطا من بابه وأنما يدخلون من نقب أو فرجة وراءه ويعدون ذلك برا فبين لهم أنه ليس ببر وإنما البر من اتقى المحارم والشهوات ووجه اتصاله بما قبله أنهم سألوا عن الأمرين أو أنه لما ذكر أنها مواقيت الحج وهذا أيضا من أفعالهم في الحج ذكره للاستطراد أو أنهم لما سألوا عما لا يعنيهم ولا يتعلق بعلم النبوة وتركوا السؤال عما يعنيهم ويختص بعلم النبوة عقب بذكره جواب ما سألوه تنبيها على أن اللائق بهم أن يسألوا أمثال ذلك ويهتموا بالعلم بها أو أن المراد يه التنبيه على تعكيسهم في السؤال بتمثيل حالهم بحال من ترك باب البيت ودخل من ورائه والمعنى : وليس البر بأن تعكسوا مسائلكم ولكن البر بر من اتقى ذلك ولم يجسر على مثله { وأتوا البيوت من أبوابها } إذ ليس في العدول بر فباشروا الأمور من وجوهها { واتقوا الله } في تغيير أحكامه والاعتراض على أفعاله { لعلكم تفلحون } لكي تظفروا بالهدى والبر

190 - { وقاتلوا في سبيل الله } جاهدوا لإعلاء كلمته وإعزاز دينه { الذين يقاتلونكم } قيل : كان ذلك قبل أن أمروا بقتال المشركين كافة المقاتلين منهم والمحاجزين وقيل معناه الذين يناصبونكم القتال ويتوقع منهم ذلك دون غيرهم من المشايخ والصبيان والرهبان والنساء أو الكفرة كلهم فإنهم بصدد قتال المسلمين وعلى قصده ويؤيد الأول ما روي : أن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه و سلم عام الحديبية وصالحوه على أن يرجع من قابل فيخلوا له مكة ـ شرفها الله ـ ثلاثة أيام فرجع لعمرة القضاء وخاف المسلمون أن لا يوفوا لهم ويقاتلوهم في الحرم أو الشهر الحرام وكرهوا ذلك فنزلت { ولا تعتدوا } بابتداء القتال أو بقتال المعاهدة أو المفاجأة به من غير دعوة أو المثلة أو قتل من نهيتم عن قتله { إن الله لا يحب المعتدين } لا يريد بهم الخير

191 - { واقتلوهم حيث ثقفتموهم } حيث وجدتموهم في حل أو حرم و أصل الثقف : الحذق في إدراك الشيء علما كان أو عملا فهو يتضمن معنى الغلبة ولذلك استعمل فيها قال :
( فأما تثقفوني فاقتلوني ... فمن أثقف فليس إلى خلود )
{ وأخرجوهم من حيث أخرجوكم } أي من مكة وقد فعل ذلك بمن لم يسلم يوم الفتح { والفتنة أشد من القتل } أي المحنة التي يفتتن بها الإنسان كالإخراج من الوطن أصعب من القتل لدوام تعبها وتألم النفس بها وقيل : معناه شركهم في الحرم وصدهم إياكم عنه أشد من قتلكم إياهم فيه { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه } أي لا تفاتحوهم بالقتال وهتك حرمة المسجد الحرام { فإن قاتلوكم فاقتلوهم } فلا تبالوا بقتالهم ثم فإنهم الذين هتكوا حرمته وقرأ حمزة و الكسائي { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم } والمعنى حتى يقتلوا بعضكم كقولهم قتلنا بنو أسد { كذلك جزاء الكافرين } مثل ذلك جزاؤهم يفعل بهم مثل ما فعلوا

192 - { فإن انتهوا } عن القتال والكفر { فإن الله غفور رحيم } يغفر لهم ما قد سلف

193 - { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } شرك { ويكون الدين لله } خالصا له ليس للشيطان فيه نصيب { فإن انتهوا } عن الشرك { فلا عدوان إلا على الظالمين } أي فلا تعتدوا على المنتهين إذ لا يحسن أن يظلم إلا من ظلم فوضع العلة موضع الحكم وسمي جزاء الظلم باسمه للمشاكلة كقوله : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } أو أنكم إن تعرضتم للمنتهين صرتم ظالمين وينعكس الأمر عليكم والفاء الأولى للتعقيب والثانية للجزاء

194 - { الشهر الحرام بالشهر الحرام } قاتلهم المشركون عام الحديبية في ذي القعدة واتفق خروجهم لعمرة القضاء فيه وكرهوا أن يقاتلوهم فيه لحرمته فقيل لهم هذا الشهر بذاك وهتكه بهتكه فلا تبالوا به { والحرمات قصاص } احتجاج عليه أي كل حرمة وهو ما يجب أن يحافظ عليها يجري فيها القصاص فلما هتكوا حرمة شهركم بالصد فافعلوا بهم مثله وادخلوا عليهم عنوة واقتلوهم إن قاتلوكم كما قال : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } وهو فذلكة التقرير { واتقوا الله } في الأنصار ولا تعتدوا إلى ما لم يرخص لكم { واعلموا أن الله مع المتقين } فيحرسهم ويصلح شأنهم

195 - { وأنفقوا في سبيل الله } ولا تمسكوا كل الإمساك { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } بالإسراف وتضييع وجه المعاش أو بالكف عن الغزو والإنفاق فيه فإن ذلك يقوي العدو و يسلطهم على إهلاكهم ويؤيده ما روي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال : لما أعز الله الإسلام وكثر أهله رجعنا إلى أهالينا وأموالنا نقيم فيها ونصلحها فنزلت أو بالإمساك وحب المال فإنه يؤدي إى الهلاك المؤيد ولذلك سمي البخل هلاكا وهو في الأصل انتهاء الشيء في الفساد والإلقاء : طرح الشيء وعدى بإلى لتضمن معنى الانتهاء والباء مزيدة والمراد بالأيدي الأنفس والتهلكة والهلاك والهلك واحد فهي مصدر كالتضرة والتسرة أي لا توقعوا أنفسكم في الهلاك وقيل : معناه لا تجعلوها آخذة بأيديكم أو لا تلقوا بأيديكم أنفسكم إليها فحذف المفعول { وأحسنوا } أعمالكم وأخلاقكم أو تفضلوا على المحاويج { إن الله يحب المحسنين }

196 - { وأتموا الحج والعمرة لله } أي ائتوا بهما تامين مستجمعي المناسك لوجه الله تعالى وهو على هذا يدل على وجوبهما ويؤيده قراءة من قرأ { وأتموا الحج والعمرة لله } وما روي جابر رضي الله تعالى عنه [ أنه قيل يا رسول الله العمرة واجبة مثل الحج فقال : لا ولكن إن تعتمر خير لك ] فمعارض بما روي أن رجلا قال لعمر رضي الله تعالى عنه إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي أهللت بهما جميعا فقال : هديت لسنة نبيك ولا يقال أنه فسر أنهما مكتوبين بقوله أهللت بهما فجاز أن يكون الوجوب بسبب إهلاله بهما لأنه رتب الإهلال على الوجدان وذلك يدل على أنه سبب الإهلال دون العكس وقيل إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك أو أن تفرد لكل منهما سفرا أو أن تجرده لهما لا تشوبهما بغرض دنيوي أو أن تكون النفقة حلالا { فإن أحصرتم } منعتم يقال حصره العدو وأحصره إذا حبسه ومنعه عن المضي مثل صده وأصده والمراد حصر العدو عند مالك و الشافعي رحمهما الله تعالى لقوله تعالى : { فإذا أمنتم } ولنزوله في الحديبية ولقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لا حصر إلا حصر العدو وكل منع من عدو أو مرض أو غيرهما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لما روي عنه عليه الصلاة و السلام [ من كسر أو عرج فقد حل فعليه الحج من قابل ] وهو ضعيف مؤول بما إذا شرط الإحلال به لقوله عليه الصلاة و السلام لضباعة بنت الزبير [ حجي واشترطي وقولي : اللهم محلي حيث حبستني ] { فما استيسر من الهدي } فعليكم ما استيسر أو فالواجب ما استيسر أو فاهدوا ما استيسر والمعنى إن أحصر المحرم وأراد أن يتحلل بذبح هدي تيسر عليه من بدنه أو بقرة أو شاة حيث أحصر عند الأكثر لأنه عليه الصلاة و السلام ذبح عام الحديبية بها وهي من الحل وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يبعث به ويجعل للمبعوث على يده يوم أمار فإذا جاء اليوم وظن أنه ذبح تحلل لقوله تعالى : { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } أي لا تحلوا حتى تعلموا أن الهدي المبعوث إلى الحرم بلغ محله أي مكانه الذي ينحر فيه وحمل الأولون بلوغ الهدي محله على ذبحه حيث يحل الذبح فيه حلا كان أو حرما واقتصاره على الهدي دليل على عدم القضاء وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى يجب القضاء والمحل ـ بالكسر ـ يطلق على المكان والزمان والهدي : جمع هدية كجدي وجدية وقرئ { من الهدى } جمع هدية كمطى في مطية { فمن كان منكم مريضا } مرضا يحوجه إلى الحلق { أو به أذى من رأسه } كجراحة وقمل { ففدية } فعليه فدية إن حلق { من صيام أو صدقة أو نسك } بيان لجنس الفدية وأما قدرها فقد روي أنه عليه الصلاة و السلام قال لكعب بن عجرة [ لعلك آذاك هوامك قال : نعم يا رسول الله قال : احلق وصم ثلاثة أيام أو تصدق بفرق على ستة مساكين أو انسك شاة ] والفرق ثلاثة آصع { فإذا أمنتم } الإحصار أو كنتم في حال سعة وأمن { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } فمن استمتع وانتفع بالتقرب إلى الله بالعمرة قبل الانتفاع بتقربه بالحج في أشهره وقيل : فمن استمتع بعد التحلل من عمرته باستباحة محظورات الإحرام إلى أن يحرم بالحج { فما استيسر من الهدي } فعليه دم استيسره بسبب التمتع فهو دم جبر أن يذبحه إذا أحرم بالحج ولا يأكل منه وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى إنه ندم نسك فهو كالأضحية { فمن لم يجد } أي الهدي { فصيام ثلاثة أيام في الحج } في أيام الاشتغال به بعد الإحرام وقبل التحلل قال أبو حنيفة رحمه الله في أشهره بين الإحرامين والأحب أن يصوم سابع ذي الحجة وثامنه وتاسعه ولا يجوز صوم يوم النحر وأيام التشريق عند الأكثرين { وسبعة إذا رجعتم } إلى أهليكم وهو أحد قولي الشافعي رضي الله تعالى عنه أونفرتم وفرغتم من أعماله وهو قوله الثاني ومذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقرئ { سبعة } بالنصب عطفا على محل { ثلاثة أيام } { تلك عشرة } فذلكة الحساب وفائدتها أن لا يتوهم متوهم أن الواو بمعنى أو كقولك جالس الحسن وابن سيرين وأن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلا فإن أكثر العرب لم يحسنوا الحساب وأن المراد بالسبعة هو العدد دون الكثرة فإنه يطلق لهما { كاملة } صفة مؤكدة تفيد المبالغة في محافظة العدد أو مبينة كمال العشرة فإنه أول عدد كامل إذ به تنتهي الآحاد وتتم مراتبها أو مقيدة تقيد كمال بدليتها من الهدي { ذلك } إشارة إلى الحكم المذكور عندنا والتمتع عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنه لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام عنده فمن فعل ذلك أي التمتع منهم فعليه دم جناية { لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } وهو من كان من الحرم على مسافة القصر عندنا فإن من كان على أقل فهو مقيم في الحرم أو في حكمه ومن مسكنه وراء الميقات عنده وأهل الحل عند طاوس وغير المكي عند مالك { واتقوا الله } في المحافظة على أوامره و نواهيه وخصوصا في الحج { واعلموا أن الله شديد العقاب } لمن لم يتقه كي يصدكم للعلم به عن العصيان

197 - { الحج أشهر } أي وقته كقولك البرد شهران { معلومات } معروفات وهي : شوال وذو القعدة وتسعة من ذي الحجة بليلة النحر عندنا والعشر عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وذي الحجة كله عند مالك وبناء على الخلاف على أن المراد بوقته وقت إحرامه أو وقت أعماله ومناسكه أو ما لا يحسن فيه غيره من المناسك مطلقا فإن مالكا كره العمرة في بقية ذي الحجة و أبو حنيفة رحمه الله وإن صحح الإحرام به قبل شوال فقد استكرهه وإنما سمي شهران وبعض شهر أشهرا إقامة للبعض مقام الكل أو إطلاقا للجمع على ما فوق الواحد { فمن فرض فيهن الحج } فمن أوجبه على نفسه بالإحرام فيهن عندنا أو بالتلبية أو سوق الهدي عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وهو دليل على ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله تعالى وأن من أحرم بالحج لزمه الإتمام { فلا رفث } فلا جماع أو فلا فحش من الكلام { ولا فسوق } ولا خروج عن حدود الشرع بالسيئات وارتكاب المحظورات { ولا جدال } ولا مراء مع الخدم والرفقة { في الحج } في أيامه نفي الثلاثة على قصد النهي للمبالغة وللدلالة على أنها حقيقة بأن لا تكون وما كانت منها مستقبحة في أنفسها ففي الحج أقبح كلبسة الحرير في الصلاة والتطريب بقراءة القرآن لأنه خروج عن مقتضى الطبع والعادة إلى محض العبادة وقرأ ابن كثير و أبو عمرو والأولين بالرفع على معنى : لا يكونن رفث ولا فسوق والثالث بالفتح على معنى إلاخبار بانتفاء الخلاف في الحج وذلك أن قريشا كانت تحالف سائر العرب فتقف بالمشعر الحرام فارتفع الخلاف بأن أمروا أن يقعوا أيضا بعرفة { وما تفعلوا من خير يعلمه الله } حث على الخير عقب به النهي عن الشر ليستدل به ويستعمل مكانه { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى } وتزودوا لمعادكم التقوى فإنه خير زاد وقيل : نزلت في أهل اليمن كانوا يحجبون ولا يتزودون ويقولون : نحن متوكلون فيكونون كلا على الناس فأمروا أن يتزودوا ويتقوا الإبرام في السؤال والتثقيل على الناس { واتقون يا أولي الألباب } فإن قضية اللب خشية الله وتقواه حثهم على التقوى ثم أمرهم بأن يكون المقصود بها الله تعالى فيتبرأ من كل شيء سواه وهو مقتضى العقل المعري عن شوائب الهوى فلذلك خص أولي الألباب بهذا الخطاب

198 - { ليس عليكم جناح أن تبتغوا } أي في تبتغوا أي تطلبوا { فضلا من ربكم } عطاء ورزقا منه يريد الربح بالتجارة وقيل : كان عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقهم في الجاهلية يقيمونها مواسم الحج وكانت معايشهم منها فلما جاء الإسلام تأثموا منه فنزلت { فإذا أفضتم من عرفات } دفعتم منها بكثرة من أفضت الماء إذا صببته بكثرة وأصله أفضتم أنفسكم فحذف المفعول كما حذف في دفعت من البصرة و { عرفات } جمع سمي يه كأذراعات وإنما نون وكسر وفيه العلمية والتأنيث لأن تنوين الجمع تنوين المقابلة لا تنوين التمكين ولذلك يجمع مع اللام وذهاب الكسرة تبع ذهاب التنوين من غير عوض لعدم الصرف وهنا ليس كذلك أو لأن التأنيث إما أن يكون بالتاء المذكورة وهي ليست تاء تأنيث وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنث أو بناء مقدرة كما في سعاد ولا يصح تقديرها لأن المذكورة تمنعه من حيث إنها كالبدل لها لاختصاصها بالمؤنث كتاء بنت وإنما سمي الموقف عرفة لأنه نعت لإبراهيم عليه الصلاة و السلام فلما أبصره عرفه أو لأن جبريل عليه السلام كان يدور به في المشاعر فلما أراه إياه قال قد عرفت أو لأن آدم وحواء التقيا فيه فتعارفا أو لأن الناس يتعارفون فيه وعرفات للمبالغة في ذلك وهي من الأسماء المرتجلة إلا أن يجعل جمع عارف وفيه دليل على وجوب الوقوف بها لأن الإفاضة لا تكون إلا بعده وهي مأمور بها بقوله تعالى : { ثم أفيضوا } أو مقدمة للذكر المأمور به وفيه نظر إذ الذكر غير واجب بل مستحب وعلى تقدير أنه واجب فهو واجب مقيد لا واجب مطلق حتى تجب مقدمته والأمر به غير مطلق { فاذكروا الله } بالتلبية والتهليل والدعاء وقيل : بصلاة العشاءين { عند المشعر الحرام } جبل يقف عليه الإمام ويسمى قزح وقيل : ما بين مأزمي عرفة ووادي محسر ويؤيد الأول ما روي جابر : أنه عليه الصلاة و السلام [ لما صلى الفجر ـ يعني بالمزدلفة ـ بغلس ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام فدعا وكبر وهلل ولم يزل واقفا حتى أسفر ] وإنما سمي مشعرا لأنه معلم العبادة ووصف بالحرام لحرمته : ومعنى عند المشعر الحرام : مما يليه ويقرب منه فإنه أفضل وإلا فالمزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر { واذكروه كما هداكم } كما علمكم أو اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة إلى المناسك وغيرها وما مصدرية أو كافة { وإن كنتم من قبله } أي الهدى { لمن الضالين } أي الجاهلين بالإيمان والطاعة وأن هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة وقيل إن نافية واللام بمعنى إلا كقوله تعالى : { وإن نظنك لمن الكاذبين }

199 - { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } أي من عرفه لا من المزدلفة والخطاب مع قريش كانوا يقفون بجمع وسائر الناس بعرفة ويرون ذلك ترفعا عليهم فأمروا بأن يساووهم وثم لتفاوت ما بين الإفاضتين كما في قولك أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم وقيل : من المزدلفة إلى منى بعد الإفاضة من عرفة إليها والخطاب عام وقرئ { الناس } بالكسر أي الناسي يريد آدم من قوله سبحانه وتعالى : { فنسي } والمعنى أن الإفاضة من عرفة شرع قديم فلا تغيروه { واستغفروا الله } من جاهليتكم في تغيير المناسك ونحوه { إن الله غفور رحيم } يغفر ذنب المستغفر وينعم عليه

200 - { فإذا قضيتم مناسككم } فإذا قضيتم العبادات الحجية وفرغتم منها { فاذكروا الله كذكركم آباءكم } فاكثروا ذكره وبالغوا فيه كما تفعلون بذكر آبائكم في المفاخرة وكانت العرب إذا قضوا مناسكهم وقفوا بمنى بين المسجد والجبل فيذكرون مفاخر آبائهم ومحاسن أيامهم { أو أشد ذكرا } إما مجرور معطوف على الذكر يجعل الذكر ذاكرا على المجاز والمعنى : فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو كذكر أشد منه وأبلغ أو على ما أضيف إليه على ضعف بمعنى أو كذكر قوم أشد منكم ذكرا وإما منصوب بالعطف على آباءكم وذكرا من فعل المذكور بمعنى أو كذكركم أشد مذكورية من آباءكم أم بمضمر دل عليه المعنى تقديره : أو كونوا أشد ذكرا لله منكم آبائكم { فمن الناس من يقول } تفصيل للذاكرين إلى مقل لا يطلب بذكر الله تعالى إلا الدنيا ومكثر يطلب به خير الدارين والمراد الحث على الإكثار والإرشاد إليه { ربنا آتنا في الدنيا } اجعل إيتاءنا ومنحتنا في الدنيا { وما له في الآخرة من خلاق } أي نصيب وحظ لأن همه مقصور بالدنيا أو من طلب خلاق

201 - { ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة } يعني الصحة والكفاف وتوفيق الخير { وفي الآخرة حسنة } يعني الثواب والرحمة { وقنا عذاب النار } بالعفو والمغفرة وقول علي رضي الله تعالى عنه ك الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة وفي الآخرة الحوراء وعذاب النار المرأة السوء وقول الحسن : الحسنة في الدنيا العلم والعبادة وفي الآخرة الجنة وقنا عذاب النار معناه احفظنا من الشهوات والذنوب والمؤدية إلى النار أمثلة للمراد بها

202 - { أولئك } إشارة إلى الفريق الثاني وقيل إليهما { لهم نصيب مما كسبوا } أي من جنسه وهو جزاؤه أو من أجله كقوله تعالى : { مما خطيئاتهم أغرقوا } أو مما دعوا به نعطيهم منه ما قدرناه فسمي الدعاء كسبا لأنه من الأعمال { والله سريع الحساب } يحاسب العباد على كثرتهم وكثرة أعمالهم في مقدار لمحة أو يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب الناس فبادروا إلى الطاعات واكتسبوا الحسنات

203 - { واذكروا الله في أيام معدودات } كبروه في أدبار الصلاة وعند ذبح القرابين ورمي الجمار وغيرها في أيام التشريق { فمن تعجل } فمن استعجل النفر { في يومين } يوم القر والذي بعده أي فمن نفر في ثاني أيام التشريق بعد رمي الجمار عندنا وقبل طلوع الفجر عند أبي حنيفة { فلا إثم عليه } باستعجاله { ومن تأخر فلا إثم عليه } ومن تأخر في النفر حتى رمى في اليوم الثالث بعد الزوال وقال أبو حنيفة : يجوز تقديم رميه على الزوال ومعنى نفي الإثم بالتعجيل والتأخير التخيير بينهما والرد على أهل الجاهلية فإن منهم من أثم المتعجل ومنهم من أثم المتأخر { لمن اتقى } أي الذي ذكر من التخيير أو من الأحكام لمن اتقى لأنه الحاج على الحقيقة والمنتفع به أو لأجله حتى لا يتضرر بترك ما يهمه منهما { واتقوا الله } في مجامع أموركم ليعبأ بكم { واعلموا أنكم إليه تحشرون } للجزاء بعد الإحياء وأصل الحشر الجمع وضم المتفرق

204 - { ومن الناس من يعجبك قوله } يروقك ويعظم في نفسك والتعجب : حيرة تعرض للإنسان لجهله بسبب المتعجب منه { في الحياة الدنيا } متعلق بالقول أي ما يقوله في أمور الدنيا وأسباب المعاش أو في معنى الدنيا فإنها مراد من إدعاء المحبة وإظهار الإيمان أو يعجبك أي يعجبك قوله في الدنيا حلاوة وفصاحة ولا يعجبك في الآخرة لما يعتريه من الدهشة والحبسة أو لأنه لا يؤذن له في الكلام { ويشهد الله على ما في قلبه } يحلف ويستشهد الله على أن ما في قلبه موافق لكلامه { وهو ألد الخصام } شديد العداوة والجدال للمسلمين والخصام المخاصمة ويجوز أن يكون جمع خصم كصعب وصعاب بمعنى أشد الخصوم خصومة قيل نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي وكان حسن المنظر حلو المنطق يوالي رسول الله صلى الله عليه و سلم ويدعي الإسلام قيل في المنافقين كلهم

205 - { وإذا تولى } أدبر وانصرف عنك وقيل : إذا غلب وصار واليا { سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل } كما فعله الأخنس بثقيف إذ بيتهم وأحرق زروعهم وأهلك مواشيهم أو كما يفعله ولاة السوء بالقتل والإتلاف أو بالظلم حتى يمنع الله بشؤمه القطر فيهلك الحرث والنسل { والله لا يحب الفساد } لا يرتضيه فاحذروا غضبه عليه

206 - { وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم } حملته الأنفة وحمية الجاهلية على الإثم الذي يؤمر باتقانه لجاجا من قولك أخذته بكذا إذا حملته عليه وألزمته إياه { فحسبه جهنم } كفته جزاء وعذابا و { جهنم } علم لدار العقاب وهو في الأصل مرادف للنار وقيل معرب { ولبئس المهاد } جواب قسم مقدر والمخصوص بالذم محذوف للعلم به والمهاد الفراش وقيل ما يوطأ للجنب

207 - { ومن الناس من يشري نفسه } يبيعها أي يبذلها في الجهاد أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى يقتل { ابتغاء مرضاة الله } طلبا لرضاه قيل : إنها نزلت في صهيب بن سنان الرومي أخذه المشركون وعذبوه ليرتد فقال ك إني شيخ كبير لا ينفعكم إن كنت معكم ولا يضركم إن كنت عليكم فخلوني وما أنا عليه وخذوا مالي فقبلوه منه وأتى المدينة { والله رؤوف بالعباد } حيث أرشدهم إلى مثل هذا الشراء وكلفهم بالجهاد فعرضهم لثواب الغزاة والشهداء

208 - { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة } { السلم } بالكسر والفتح الاستسلام والطاعة ولذلك يطلق في الصلح والإسلام فتحه ابن كثير و نافع و الكسائي وكسره الباقون وكافة اسم للجملة لأنها تكف الأجزاء من التفرق حال من الضمير أو السلم لأنها تؤنث كالحرب قال :
( السلم تأخذ منها ما رضيت به ... والحرب يكفيك من أنفاسها جوع )
والمعنى استسلموا لله وأطيعوه جملة ظاهرا وباطنا والخطاب للمنافقين أو ادخلوا في الإسلام بكليتكم ولا تخلطوا به غيره والخطاب لمؤمني أهل الكتاب فإنهم بعد إسلامهم عظموا السبت وحرموا الإبل وألبانها أو في شرائع الله كلها بالإيمان بالأنبياء والكتب جميعا والخطاب لأهل الكتاب أو في شعب الإسلام وأحكامه كلها فلا تخلوا بشيء والخطاب للمسلمين { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } بالتفرق والتفريق { إنه لكم عدو مبين } ظاهر العداوة

209 - { فإن زللتم } عن الدخول في السلم { من بعد ما جاءتكم البينات } الآيات والحجج الشاهدة على أنه الحق { فاعلموا أن الله عزيز } لا يعجزه الانتقام { حكيم } لا ينتقم إلا بحق

210 - { هل ينظرون } استفهام في معنى النفي ولذلك جاء بعده { إلا أن يأتيهم الله } أي يأتيهم أمره أو بأسه كقوله تعالى : { أو يأتي أمر ربك } { فجاءها بأسنا } أو يأتيهم الله ببأسه فحذف المأتي به للدلالة عليه بقوله تعالى ك { إن الله عزيز حكيم } { في ظلل } جمع ظلة كقلة وقلل وهي ما أظلك وقرئ ظلال كقلال { من الغمام } السحاب الأبيض وإنما يأتيهم العذاب فيه لأنه مظنة الرحمة فإذا جاء منه العذاب كان أفظع لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أصعب فكيف إذا جاء من حيث يحتسب الخير { والملائكة } فإنهم الواسطة في إتيان أمره أو الآتون على الحقيقة ببأسه وقرئ بالجر عطفا على { ظلل } أو { الغمام } { وقضي الأمر } أتم أمر إهلاكهم وفرغ منه وضع الماضي موضع المستقبل لدنوه وتيقن وقوعه وقرئ و قضاء الأمر عطفا على الملائكة { وإلى الله ترجع الأمور } قرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو و عاصم على البناء للمفعول على أنه من الراجع وقرأ الباقون على البناء للفاعل بالتأنيث غير يعقوب على أنه من الرجوع وقرئ أيضا بالتذكير وبناء المفعول

211 - { سل بني إسرائيل } أمر للرسول صلى الله عليه و سلم أو لكل أحد والمراد بهذا السؤال تقريعهم ز { كم آتيناهم من آية بينة } معجزة ظاهرة أو آية في الكتب شاهدة على الحق والصواب على أيدي الأنبياء و { كم } خبرية أو استفهامية مقررة ومحلها النصب على المفعولية أو الرفع بالابتداء على حذف العائد من الخير إلى المبتدأ وآية مميزها ومن للفصل { ومن يبدل نعمة الله } أي آيات الله فإنها سبب الهدى الذي هو أجل النعم يجعلها سبب الضلالة وازدياد الرجس أو بالتحريف والتأمل الزائغ { من بعد ما جاءته } من بعد ما وصلت إليه وتمكن من معرفتها وفيه تعريض بأنهم بدلوها بعد ما عقلوها ولذلك قيل تقديره فبدلوها { ومن يبدل } { فإن الله شديد العقاب } فيعاقبه أشد عقوبة لأنه ارتكب أشد جريمة

212 - { زين للذين كفروا الحياة الدنيا } حسنت في أعينهم وأشربت محبتها في قلوبهم حتى تهالكوا عليها وأعرضوا عن غيرها والمزين في الحقيقة هو الله تعالى إذ ما من شيء إلا وهو فاعلة ويدل عليه قراءة { زين } على البناء للفاعل وكل من الشيطان والقوة الحيوانية وما خلقه الله فيها من الأمور البهية والأشياء الشهية مزين بالعرض
{ ويسخرون من الذين آمنوا } يريد فقراء المؤمنين كبلال وعمار وصهيب أي يسترذلونهم ويستهزئون بهم على رفضهم الدنيا وإقبالهم على العقبى ومن للابتداء كأنهم جعلوا السخرية مبتدأة منهم { والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة } لأنهم في عليين وهم في أسفل السافلين أو لأنهم في كرامة وهم في مذلة أو لأنهم يتطاولون عليهم فيسخرون منهم كما سخروا منهم في الدنيا وإنما قال والذين اتقوا بعد قوله من الذين آمنوا ليدل على أنهم متقون وأن استعلاءهم للتقوى { والله يرزق من يشاء } في الدارين { بغير حساب } بغير تقدير فيوسع في الدنيا استدراجا تارة وابتلاء أخرى

213 - { كان الناس أمة واحدة } متفقين على الحق فيما بين آدم وإدريس أو نوح أو بعد الطوفان أو متفقين على الجهالة والكفر في فترة ادريس أو نوح { فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين } أي فاختلفوا فبعث الله وإنما حذف لدلالة قوله فيما اختلفوا فيه وعن كعب ( الذي علمته من عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفا والمرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر والمذكور في القرآن باسم العلم ثمانية وعشرون ) { وأنزل معهم الكتاب } يريد به الجنس ولا يريد يه أنه أنزل مع كل واحد كتابا يخصه فإن أكثرهم لم يكن لهم كتاب يخصهم وإنما كانوا يأخذون بكتب من قبلهم { بالحق } حال من الكتاب أي ملتبسا بالحق شاهدا به { ليحكم بين الناس } أي الله أو النبي المبعوث أو كتابه { فيما اختلفوا فيه } في الحق الذي اختلفوا فيه أو فيما التبس عليهم { وما اختلف فيه } في الحق أو الكتاب { إلا الذين أوتوه } أي الكتاب المنزل لإزالة الخلاف أي عكسوا الأمر فجعلوا ما أنزل مزيجا للاختلاف سببا لاستحكامه { من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم } حسدا بينهم وظلما لحرصهم على الدنيا { فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه } أي للحق الذي اختلف فيه من اختلف { من الحق } بيان لما اختلفوا فيه { بإذنه } بأمره أو بإرادته ولطفه { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } لا يضل سالكه

214 - { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة } خاطب به النبي صلى الله عليه و سلم والمؤمنين بعد ما ذكر اختلاف الأمم على الأنبياء بعد مجيء الآيات تشجيعا لهم على الثبات مع مخالفتهم و { أم } منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار { ولما يأتكم } ولم يأتكم وأصل { لما } لم زيدت عليهم ما وفيها توقع ولذلك جعلت مقابل قد { مثل الذين خلوا من قبلكم } حالهم التي هي مثل في الشدة { مستهم البأساء والضراء } بيان له على الاستئناف { وزلزلوا } وأزعجوا إزعاجا شديدا بما أصابهم من الشدائد { حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه } لتناهي الشدة واستطالة المدة بحيث تقطعت حبال الصبر وقرأ نافع يقول بالرفع على أنه حكاية حال ماضية كقولك مرض حتى لا يرجونه { متى نصر الله } استبطاء له لتأخره { ألا إن نصر الله قريب } استئناف على إرادة القول أي فقيل لهم ذلك اسعافا لهم إلى طلبتهم من عاجل النصر وفيه إشارة إلى أن الوصول إلى الله تعالى والفوز بالكرامة عنده برفض الهوى واللذات ومكابدة الشدائد والرياضات كما قال عليه الصلاة و السلام [ حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ]

215 - { يسألونك ماذا ينفقون } عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ( أن عمرو بن الجموح الأنصاري كان شيخا ذا مال عظيم فقال يا رسول الله ماذا تنفق من أموالنا وأين نضعها فنزلت ) { قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل } سئل عن المنفق فأجيب ببيان المصرف لأنه أهم فإن اعتداد النفقة باعتبارها ولأنه كان في سؤال عمرو وإن لم يكن مذكورا في الآية واقتصر في بيان المنفق على ما تضمنه قوله ما أنفقتم من خير { وما تفعلوا من خير } في معنى الشرط { فإن الله به عليم } جوابه أي إن تفعلوا خيرا فإن الله يعلم كنهه ويوفي ثوابه وليس في الآية ما ينافيه فرض الزكاة لينسخ به

216 - { كتب عليكم القتال وهو كره لكم } شاق عليكم مكروه طبعا وهو مصدر نعت به للمبالغة أو فعل بمعنى مفعول كالخبز وقرئ بالفتح على أنه لغة فيه كالضعف والضعف أو بمعنى الإكراه على المجاز كأنهم أكرهوا عليه لشدته وعظم مشقته كقوله تعالى : { حملته أمه كرها ووضعته كرها } { وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم } وهو جميع ما كلفوا به فإن الطبع يكرهه وهو مناط صلاحهم وسبب فلاحهم { وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم } وهو جميع ما نهوا عنه فإن النفس تحبه وتهواه وهو يفضي بها إلى الردى وإنما ذكر { عسى } لأن النفس إذا ارتاضت ينعكس الأمر عليها { والله يعلم } ما هو خير لكم { وأنتم لا تعلمون } ذلك وفيه دليل على أن الأحكام تتبع المصالح الراجحة وإن لم يعرف عينها

217 - { يسألونك عن الشهر الحرام } روي أنه عليه الصلاة و السلام [ بعث عبد الله بن جحش ابن عمته على سرية في جمادى الآخرة ـ قبل بدر بشهرين ـ ليترصد عيرا لقريش فيها عمرو بن عبد الله الحضرمي وثلاثة معه فقتلوه وأسروا اثنين واستأنفوا العير وفيها من تجارة الطائف وكان ذلك غرة رجب وهم بظنونه من جمادى الآخرة فقالت قريش استحل محمد الشهر الحرام شهرا يأمن فيه الخائف وينذعر فيه الناس إلى معايشهم وشق ذلك على أصحاب السرية وقالوا ما نبرح حتى تنزل توبتنا ورد رسول الله صلى الله عليه و سلم العير والأسارى ] وعن ابن عباس رضي الله عنهما [ لما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم الغنيمة وهي أول غنيمة في الإسلام ] والسائلون هم المشركون كتبوا إليه في ذلك تشنيعا وتعييرا وقيل أصحاب السرية { قتال فيه } بدل اشتمال من الشهر الحرام وقرئ عن قتال بتكرير العامل { قل قتال فيه كبير } أي ذنب كبير والأكثر أنه منسوخ بقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } خلافا لعطاء وهو نسخ الخاص بالعام وفيه خلاف والأولى منع دلالة الآية على حرمة القتال في الشهر الحرام مطلقا فإن قتال فيه نكرة في حيز مثبت فلا يعم { وصد } صرف ومنع { عن سبيل الله } أي الإسلام أو ما يوصل العبد إلى الله سبحانه وتعالى من الطاعات ز { وكفر به } أي بالله { والمسجد الحرام } على إرادة المضاف أي وصد والمسجد الحرام كقول أبي دؤاد :
( أكل امرئ تحسبين امرأ ... ونار توقد بالليل نارا )
ولا يحسن عطفه على { سبيل الله } لأن عطف قوله : { وكفر به } على { وصد } مانع منه إذ لا يتقدم العطف على الموصول على العطف على الصلة ولا على الهاء في { به } فإن العطف على الضمير المجرور إنما يكون بإعادة الجار { وإخراج أهله منه } أهل المسجد الحرام وهم النبي صلى الله عليه و سلم والمؤمنون { أكبر عند الله } مما فعلته السرية خطأ وبناء على الظن وهو خبر عن الأشياء الأربعة المعدودة من كبائر قريش وأفعل مما يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث { والفتنة أكبر من القتل } أي ما ترتكبونه من الإخراج والشرك أفظع مما ارتكبوه من قتلى الحضرمي { ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم } إخبار عن دوام عداوة الكفار لهم وإنهم لا ينفكون عنها حتى يردوهم عن دينهم وحتى للتعليل كقولك أعبد الله حتى أدخل الجنة { إن استطاعوا } وهو استبعاد لاستطاعتهم كقول الواثق بقوته : على قرنه إن ظفرت بي فلا تبق علي وإيذان بأنهم لا يردونهم { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم } قيد الردة بالموت عليها في إحباط الأعمال كما هو مذهب الشافعي رحمه الله تعالى والمراد بها الأعمال النافعة وقرئ { حبطت } بالفتح وهي لغة فيه { في الدنيا } لبطلان ما تخيلوه وفوات ما للإسلام من الفوائد الدنيوية { والآخرة } بسقوط الثواب { وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } كسائر الكفرة

218 - { إن الذين آمنوا } نزلت أيضا في أصحاب السرية لما ظن بهم أنهم إن سلموا من الإثم فليس لهم أجر { والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله } كرر الموصول لتعظيم الهجرة والجهاد كأنهما مستقلان في تحقيق الرجاء { أولئك يرجون رحمة الله } ثوابه أثبت لهم الرجاء إشعارا بأن العمل غير موجب ولا قاطع في الدلالة سيما والعبرة بالخواتيم { والله غفور } لما فعلوا خطأ وقلة احتياط { رحيم } بإجزال الأجر والثواب

219 - { يسألونك عن الخمر والميسر } روي أنه نزل بمكة قوله تعالى : { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا } فأخذ المسلمون يشربونها ثم إن عمر ومعاذا ونفرا من الصحابة قالوا : أفتنا يا رسول الله في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال فنزلت هذه الآية فشربها قوم وتركها آخرون ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا منهم فشربوا وسكروا فأم أحدهم فقرأ : { قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون } فنزلت { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } فقل من يشربها ثم دعا عتبان بن مالك سعد بن أبي وقاص في نفر فلما سكروا افتخروا وتناشدوا فأنشد فيه هجاء الأنصار فضربه أنصاري بلحى بعير فشجه فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال عمر رضي الله عنه : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت { إنما الخمر والميسر } إلى قوله : { فهل أنتم منتهون } فقال عمر رضي الله عنه : انتهينا يا رب والخمر في الأصل مصدر خمره إذا ستره سمي بها عصير العنب والتمر إذا اشتد وغلا كأنه يخمر العقل كما سمي سكرا لأنه يسكره أي يحجزه وهي حرام مطلقا وكذا كل ما أسكر عند أكثر العلماء وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى : نقيع الزبيب والتمر إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه ثم اشتد حل شربه ما دون السكر { والميسر } أيضا مصدر كالموعد سمي به القمار لأنه أخذ مال الغير بيسر أو سلب يساره والمعنى يسألونك عن تعاطيهما لقوله تعالى : { قل فيهما } أي في تعاطيهما { إثم كبير } من حيث إنه يؤدي إلى الانتكاب عن المأمور وارتكاب المحظور وقرأ حمزة و الكسائي كثير بالثاء { ومنافع للناس } من كسب المال والطرب والالتذاذ ومصادقة الفتيان وفي الخمر خصوصا تشجيع الجبان وتوفير المروءة وتقوية الطبيعة { وإثمهما أكبر من نفعهما } أي المفاسد التي تنشأ منهما أعظم من المنافع المتوقعة منهما ولهذا قيل إنها المحرمة للخمر لأن المفسدة إذا ترجحت على المصلحة اقتضت تحريم الفعل والأظهر أنه ليس كذلك لما مر من إبطال مذهب المعتزلة { ويسألونك ماذا ينفقون } قيل سائلة أيضا عمرو بن الجموح سأل أولا عن المنفق والمصرف ثم سأل عن كيفية الإنفاق { قل العفو } العفو نقيض الجهد ومنه يقال للأرض السهلة وهو أن ينفق ما تيسر له بذله ولا يبلغ منه الجهد قال :
( خذي العفو مني تستديمي مودتي ... ولا تنطقي في سورتي حين اغضب )
وروي أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم بيضة من ذهب أصابها في بعض المغانم فقال : خذها مني صدقة فأعرض عليه الصلاة و السلام عنه حتى كرر مرارا فقال : هاتها مغضبا فأخذها فحذفها حذفا لو أصابه لشجه ثم قال : [ يأتي أحدكم بماله كله يتصدق به ويجلس يتكفف الناس إنما الصدقة عن ظهر عنى ] وقرأ أبو عمرو برفع { العفو } ز { كذلك يبين الله لكم الآيات } أي مثل ما بين أن العفو أصلح من الجهد أو ما ذكر من الأحكام والكاف في موضع النصب صفة لمصدر محذوف أي تبيينا مثل هذا التبيين وإنما وحد العلامة والمخاطب به جمع على تأويل القبيل والجمع { لعلكم تتفكرون } في الدلائل والأحكام

220 - { في الدنيا والآخرة } في أمور الدارين فتأخذون بالأصلح فيهما وتجتنبون عما يضركم ولا ينفعكم أو يضركم أكثر مما ينفعكم { ويسألونك عن اليتامى } لما نزلت { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما } اعتزلوا اليتامى ومخالطتهم والاهتمام بأمرهم فشق ذلك عليهم فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت { قل إصلاح لهم خير } أي مداخلتهم لإصلاحهم أو إصلاح أموالهم خير من مجانبتهم { وإن تخالطوهم فإخوانكم } حث على المخالطة أي أنهم إخوانكم في الدين ومن حق الأخ أن يخالط الأخ وقيل المراد بالمخالطة المصاهرة { والله يعلم المفسد من المصلح } وعيد ووعد لمن خالطهم لإفساد وإصلاح أي يعلم أمره فيجازيه عليه { ولو شاء الله لأعنتكم } أي ولو شاء الله إعناتكم لأعنتكم أي كلفكم ما يشق عليكم من العنت وهي المشقة ولم يجوز لكم مداخلتهم { إن الله عزيز } غالب يقدر على الاعنات { حكيم } يحكم ما تقتضيه الحكمة وتتسع له الطاقة

221 - { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } أي ولا تزوجوهن وقرئ بالضم أي ولا تزوجوهن من المسلمين والمشركات تعم الكتابيات لأن أهل الكتاب مشركون لقوله تعالى : { وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله } إلى قوله : { سبحانه عما يشركون } ولكنها خصت عنها بقوله : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب } روي [ أنه عليه الصلاة و السلام بعث مرثدا الغنوي إلى مكة ليخرج منها أناسا من المسلمين فأتته عناق وكان يهواها في الجاهلية فقالت : ألا تخلو فقال : إن الإسلام حال بيننا فقالت : هل لك أن تتزوج بي فقال نعم ولكن استأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستأمره فنزلت ] { ولأمة مؤمنة خير من مشركة } أي ولامرأة مؤمنة حرة كانت أو مملوكة فإن الناس كلهم عبيد الله وإماؤه { ولو أعجبتكم } بحسنها وشمائلها والواو للحال ولو بمعنى إن وهو كثير { ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا } ولا تزوجوا منهم المؤمنات حتى يؤمنوا وهو على عمومه { ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم } تعليل للنهي عن مواصلتهم وترغيب في مواصلة المؤمنين { أولئك } إشارة إلى المذكورين من المشركين والمشركات { يدعون إلى النار } أي الكفر المؤدي إلى النار فلا يليق موالاتهم ومصاهرتهم { والله } أي وأولياؤه يعني المؤمنين حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه تفخيما لشأنهم { يدعو إلى الجنة والمغفرة } أي إلى الاعتقاد والعمل الموصلين إليهما فهم الأحقاء بالمواصلة { بإذنه } أي بتوفيق الله تعالى وتيسيره أو بقضائه وإرادته { ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون } لكي يتذكروا أو ليكونوا بحيث يرجى منهم التذكر لما ركز في العقول من ميل الخير ومخالفة الهوى

222 - { ويسألونك عن المحيض } روي ( أن أهل الجاهلية كانوا لا يساكنون الحيض ولا يؤاكلونها كفعل اليهود والمجوس واستمر ذلك إلى أن سأل أبو الدحداح في نفر من الصحابة عن ذلك فنزلت والمحيض مصدر كالمجيء والمبيت ولعله سبحانه وتعالى إنما ذكر يسألونك بغير واو ثلاثا لأن السؤالات الأول كانت في أوقات متفرقة والثلاثة الأخيرة كانت في وقت واحد فلذلك ذكرها بحرف الجمع { قل هو أذى } أي الحيض شيء مستقذر مؤذ من يقربه نفرة منه { فاعتزلوا النساء في المحيض } فاجتنبوا مجامعتهم لقوله عليه الصلاة و السلام [ إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حضن ولم يأمركم بإخراجهن من البيوت كفعل الأعاجم ] وهو الاقتصاد بين إفراط اليهود وتفريط النصارى فإنهم كانوا يجامعوهن ولا يبالون بالحيض وإنما وصفه بأنه أذى ورتب الحكم عليه بالفاء إشعارا بأنه العلة { ولا تقربوهن حتى يطهرن } تأكيد للحكم وبيان لغايته وهو أن يغتسلن بعد الانقطاع ويدل عليه صريحا قراءة حمزة و الكسائي و عاصم في رواية ابن عباس { يطهرن } أي يتطهرن بمعنى يغتسلن والتزاما لقوله : { فإذا تطهرن فاتوهن } فإنه يقتضي بأخير جواز الإتيان عن الغسل وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إذا طهرت لأكثر الحيض جاز قربانها قبل الغسل { من حيث أمركم الله } أي المأتي الذي أمركم الله به وحلله لكم { إن الله يحب التوابين } من الذنوب { ويحب المتطهرين } أي المتنزهين عن الفواحش والأقذار كمجامعة الحائض والإتيان في غير المآتي

223 - { نساؤكم حرث لكم } مواضع حرث لكم شبههن بها تشبيها لما يلقى في أرحامهن من النطف بالبذور { فاتوا حرثكم } أي فائتوهن كما تأتون المحارث وهو كالبيان لقوله تعالى : { فاتوهن من حيث أمركم الله } { أنى شئتم } من أي جهة شئتم روي ( أن اليهود كانوا يقولون : من جامع امرأته من دبرها في قبلها كان ولدها أحول فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت ) { وقدموا لأنفسكم } ما يدخر لكم من الثواب وقيل هو طلب الولد وقيل التسمية عند الوطء { واتقوا الله } بالاجتناب عن معاصيه { واعلموا أنكم ملاقوه } فتزودوه ما لا تفتضحون به { وبشر المؤمنين } الكاملين في الإيمان بالكرامة والنعيم الدائم أمر الرسول صلى الله عليه و سلم أن ينصحهم ويبشر من صدقه وامتثل أمره منهم

224 - { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس } نزلت في الصديق رضي الله تعالى عنه لما حلف أن لا ينفق على مسطح لافترائه على عائشة رضي الله تعالى عنهما أو في عبد الله بن رواحة حلف أن لا يكلم ختنه بشير بن النعمان ولا يصلح بينه وبين أخته والعرضة فعلة بمعنى المفعول كالقبضة تطلق لما يعرض دون الشيء وللمعرض للأمر ومعنى الآية على الأول ولا تجعلوا الله حاجزا لما حلفتم عليه من أنواع الخير فيكون المراد بالإيمان الأمور المحلوف عليها كقوله عليه الصلاة و السلام لابن سمرة [ إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك ] وأن مع صلتها عطف بيان لها واللام صلة عرضة لما فيها من معنى الاعتراض ويجوز أن تكون للتعليل ويتعلق أن بالفعل أو بعرضة أي ولا تجعلوا الله عرضة لأن تبروا لأجل أيمانكم به وعلى الثاني ولا تجعلوا معرضا لأيمانكم فتبذلوه بكثرة الحلف به ولذلك ذم الحلاف بقوله : { ولا تطع كل حلاف مهين } و { أن تبروا } علة للنهي أي أنهاكم عنه إرادة بركم وتقواكم وإصلاحكم بين الناس فإن الحلاف مجترئ على الله تعالى والمجترئ عليه لا يكون برا متقيا ولا موثوقا به إصلاح ذات البين { والله سميع } لأيمانكم { عليم } بنياتكم

225 - { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } اللغو الساقط الذي لا يعتد به من كلام غيره ولغو اليمين مالا عقد معه كما سبق به اللسان أو تكلم به جاهلا لمعناه كقول العرب : لا و الله وبلى والله لمجرد التأكيد لقوله : { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } والمعنى لا يؤاخذكم الله بعقوبة ولا كفارة بما لا قصد معه ولكن يؤاخذكم بهما أو بأحدهما بما قصدتم من الإيمان وواطأت فيها قلوبكم ألسنتكم وقال أبو حنيفة : اللغو أن يحلف الرجل بناء على ظنه الكاذب والمعنى لا يعاقبكم بما أخطأتم فيه من الأيمان ولكن يعاقبكم بما تعمدتم الكذب فيه { والله غفور } حيث لم يؤاخذ باللغو { حليم } حيث لم يعجل بالمؤاخذة على يمين الجد تربصا للتوبة

226 - { للذين يؤلون من نسائهم } أي يحلفون على أن لا يجامعوهن و الإيلاء : الحلف وتعديته بعلى ولكن لما ضمن هذا القسم معنى البعد عدي بمن { تربص أربعة أشهر } مبتدأ وما قبله خبره أو فاعل الظرف على خلاف سبق والتربص الانتظار والتوقف أضيف إلى الظرف على الاتساع أي للمولى حق التلبث في هذه المدة فلا يطالب بفيء ولا طلاق ولذلك قال الشافعي : لا إيلاء إلا في أكثر من أربعة أشهر ويؤيده { فإن فاؤوا } رجعوا في اليمين بالحنث { فإن الله غفور رحيم } للمولى إثم حنثه إذا كفر أو ما توخى بالإيلاء من ضرار المرأة ونحوه بالفيئة التي هي كالتوبة

227 - { وإن عزموا الطلاق } وإن صموا قصده { فإن الله سميع } لطلاقهم { عليم } بغرضهم فيه وقال أبو حنيفة : الإيلاء في أربعة أشهر فما فوقها وحكمه أن المولى إن فاء في المدة بالوطء إن قدر و بالوعد إن عجز صح الفيء ولزم الواطئ أن يكفر وإلا بانت بعدها بطلقة وعندنا يطالب بعد المدة بأحد الأمرين فإن أبى عنهما طلق عليه الحاكم

228 - { والمطلقات } يريد بها المدخول بهن من ذوات الإقراء لما دلت عليه الآيات والأخبار أن حكم غيرهن خلاف ما ذكر { يتربصن } خبر بمعنى الأمر وتغيير العبارة للتأكيد والإشعار بأنه مما يجب أن يسار إلى امتثاله وكأن المخاطب قصد أن يمتثل الأمر فيخبر عنه كقولك في الدعاء : رحمك الله وبناؤه على المبتدأ يزيده فضل تأكيد { بأنفسهن } تهييج وبعث لهن على التربص فإن نفوس النساء طوامح إلى الرجال فأمرن بأن يقمعنها ويحملنها على التربص { ثلاثة قروء } نصب على الظرف أو المفعول به أي يتربصن مضيها و { قروء } جمع قرء وهو يطلق للحيض كقوله عليه السلام [ دعي الصلاة أيام أقرائك ] وللطهر بين الحيضتين كقول الأعشى :
( مورثة مالا وفي الحي رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا )
وأصله الانتقال من الطهر إلى الحيض وهو المراد به في الآية لأنه الدال على براءة الرحم لا الحيض كما قاله الحنفية لقوله تعالى { فطلقوهن لعدتهن } أي وقت عدتهن والطلاق المشروع لا يكون في الحيض وأما قوله عليه الصلاة و السلام [ طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان ] فلا يقاوم ما رواه الشيخان في قصة ابن عمر [ مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعدوان شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء ] وكان القياس أن يذكر بصيغة القلة التي هي الأقراء ولكنهم يتسعون في ذلك فيستعملون كل واحد من البناءين مكان الآخر ولعل الحكم لما عم المطلقات ذوات الأقراء تضمن معنى الكثرة فحسن بناؤها { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن } من الولد أو الحيض استعجالا في العدة وإبطالا لحق الرجعة بل التنبيه على أنه ينافي الإيمان وأن المؤمن لا يجترئ عليه ولا ينبغي له أن يفعل { وبعولتهن } أي أزواج المطلقات { أحق بردهن } إلى النكاح والرجعة إليهن ولكن إذا كان الطلاق رجعيا للآية التي تتلوها فالضمير أخص من المرجوع إليه ولا امتناع فيه كما لو كرر الظاهر وخصصه والبعولة جمع بعل والتاء لتأنيث الجمع كالعمومة والخؤلة أو مصدر من قولك بعل حسن البعولة نعت به أو أقيم مقام المضاف المحذوف أي وأهل بعولتهن وأفعل ههنا بمعنى الفاعل { في ذلك } أي في زمان التربص { إن أرادوا إصلاحا } بالرجعة لا لإضرار المرأة وليس المراد منه شرطية قصد الإصلاح للرجعة بل التحريض عليه والمنع من قصد الضرار { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } أي ولهن حقوق على الرجال مثل حقوقهم عليهن في الوجوب واستحقاق المطالبة عليها لا في الجنس { وللرجال عليهن درجة } زيادة في الحق وفضل فيه لأن حقوقهم في أنفسهم وحقوقهن المهر والكفاف وترك الضرار ونحوها أو شرف وفضيلة لأنهم قوام عليهن وحراص لهن يشاركوهن في غرض الزواج ويخصمون بفضيلة الرعاية والإنفاق { والله عزيز } يقدر على الانتقام ممن خالف الأحكام { حكيم } يشرعها لحكم ومصالح

229 - { الطلاق مرتان } أي التطليق الرجعي اثنان لما روي [ أنه صلى الله عليه و سلم سئل أين الثالثة ؟ فقال عليه الصلاة و السلام { أو تسريح بإحسان } ] وقيل معناه التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق ولذلك قالت الحنفية الجمع بين الطلقتين والثلاث بدعة { فإمساك بمعروف } بالمراجعة وحسن المعاشرة وهو يؤيد المعنى الأول { أو تسريح بإحسان } بالطلقة الثالثة أو بأن لا يراجعها حتى تبين وعلى المعنى الأخير حكم مبتدأ وتخيير مطلق عقب به تعليمهم كيفية التطليق { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا } أي من الصدقات روي [ أن جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول كانت تبغض زوجها ثابت بن قيس فأتت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : لا أنا ولا ثابت لا يجمع رأسي ورأسه شيء والله ما أعيبه في دين ولا خلق ولكني أكره الكفر في الإسلام وما أطيقه بغضا إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في جماعة من الرجال فإذا هو أشدهم وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها فنزلت فاختلعت منه بحديقة كان أصدقها إياها ] والخطاب مع الحكام وإسناد الأخذ والإيتاء إليهم لأنهم الآمرون بهما عند الترافع وقيل إنه خطاب للأزواج وما بعده خطاب للحكام وهو يشوش النظم على القراءة المشهورة { إلا أن يخافا } أي الزوجان وقرئ { ظنا } وهو يؤيد تفسير الخوف بالظن { أن لا يقيما حدود الله } يترك إقامة أحكامه من مواجب الزوجية وقرأ حمزة و يعقوب { يخافا } على البناء للمفعول وإبدال أن بصلته من الضمير بدل الاشتمال وقرئ تخافا و تقيما بتاء الخطاب ز { فإن خفتم } أيها الحكام ز { أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به } على الرجل في أخذ ما افتدت به نفسها واختلعت وعلى المرأة في إعطائه { تلك حدود الله } إشارة إلى ما حد من الأحكام { فلا تعتدوها } فلا تتعدوها بالمخالفة { ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون } تعقب للنهي بالوعيد مبالغة في التهديد وأعلم أن ظاهر الآية يدل على أن الخلع لا يجوز من غير كراهة وشقاق ولا بجميع ما ساق الزوج إليها فضلا عن الزائد ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه و سلم [ أيما امرأة سألت زوجها طلاقا من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة ] وما روي [ أنه عليه الصلاة و السلام قال لجميلة : أتردين عليه حديقته ؟ فقالت : أردها وأزيد عليهافقال عليه الصلاة و السلام أما الزائد فلا ] والجمهور استكرهوه ولكن نفذوه فإن المنع عن العقد لا يدل على فساده وأنه يصح بلفظ المفاداة فإنه تعالى سماه افتداء واختلف في أنه إذا جرى بغير لفظ الطلاق هل هو فسخ أو طلاق ومن جعله فسخا احتج بقوله :

230 - { فإن طلقها } فإن تعقيبه للخلع بعد ذكر الطلقتين يقتضي أن يكون طلقة رابعة لو كان الخلع طلاقا والأظهر أنه طلاق لأنه فرقة باختيار الزوج فهو كالطلاق بالعوض وقوله فإن طلقها متعلق بقوله : { الطلاق مرتان } أو تفسير لقوله : { أو تسريح بإحسان } اعترض بينهما ذكر الخلع دلالة على أن الطلاق يقع مجانا تارة وبعوض أخرى والمعنى فإن طلقها بعد الثنتين { فلا تحل له من بعد } من بعد ذلك الطلاق { حتى تنكح زوجا غيره } حتى تتزوج غيره والنكاح يستند إلى كل منهما كالتزوج وتعلق بظاهره من اقتصر على العقد كابن المسيب واتفق الجمهور على أنه لا بد من الإصابة لما روي : [ أن امرأة رفاعة قالت لرسول الله صلى الله عليه و سلم : إن رفاعة طلقني فبت طلاقي وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني وإن ما معه مثل هدبة الثوب فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ قالت : نعم قال لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ] فالآية مطلقة قيدتها السنة ويحتمل أن يفسر النكاح بالإصابة ويكون العقد مستفادا من لفظ الزوج والحكمة في هذا الحكم الردع عن التسرع إلى الطلاق والعود إلى المطلقة ثلاثا والرغبة فيها والنكاح بشرط التحليل فاسد عند الأكثر وجوزه أبو حنيفة مع الكراهة وقد لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم المحلل والمحلل له { فإن طلقها } الزوج الثاني { فلا جناح عليهما أن يتراجعا } أن يرجع كل من المرأة والزوج الأول إلى الآخر بالزواج { إن ظنا أن يقيما حدود الله } إن كان في ظنهما أنهما يقيمان ما حدده الله وشرعه من حقوق الزوجية وتفسير الظن بالعلم ههنا غير سديد لأن عواقب الأمور غيب تظن ولا تعلم ولأنه لا يقال علمت أن يقوم زيد لأن أن الناصبة للتوقع وهو ينافي العلم { وتلك حدود الله } أي الأحكام المذكورة { يبينها لقوم يعلمون } يفهمون ويعلمون بمقتضى العلم

231 - { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن } أي آخر عدتهن والأجل يطلق للمدة ولمنتهاها فيقال لعمر الإنسان وللموت الذي به ينتهي قال :
( كل حي مستكمل مدة العمر وموت ... إذا انتهى أجله )
والبلوغ هو الوصول إلى الشيء وقد يقال للدنو منه على الاتساع وهو المراد في الآية ليصح أو يرتب عليه { فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف } إذ لا إمساك بعد انقضاء الأجل والمعنى فراجعوهن من غير ضرار أو خلوهن حتى تنقضي عدتهن من غير تطويل وهو إعادة للحكم في بعض صورة للاهتمام به { ولا تمسكوهن ضرارا } ولا تراجعوهن إرادة الإضرار بهن كأن المطلق يترك المعتدة حتى تشارف الأجل ثم يراجعها لتطول العدة عليها فنهي عنه بعد الأمر بضده مبالغة ونصب ضرارا على العلة أو الحال بمعنى مضارين { لتعتدوا } لتظلموهن بالتطويل أو الإلجاء إلى الإفتداء واللام متعلقة بضرارا إذ المراد تقييده { ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه } بتعريضها للعقاب { ولا تتخذوا آيات الله هزوا } بالإعراض عنها والتهاون في العمل بما فيها من قولهم لمن لم يجد في الأمر إنما أنت هازئ كأنه نهي عن الهزؤ وأراد به الأمر بضده وقيل ( كان الرجل يتزوج ويطلق ويعتق ويقول : كنت ألعب ) وعنه عليه الصلاة و السلام : [ ثلاث جدهن جد وهزلهن جد الطلاق والنكاح والعتاق ] { واذكروا نعمة الله عليكم } التي من جملتها الهداية وبعثة محمد صلى الله عليه و سلم بالشكر والقيام بحقوقها { وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة } القرآن والسنة أفردهما بالذكر إظهارا لشرفهما { يعظكم به } بما أنزل عليكم { واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم } تأكيد وتهديد

232 - { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن } أي انقضت عدتهن وعن الشافعي رحمه الله تعالى دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين { فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن } المخاطب به الأولياء لما روي ( أنها نزلت في معقل بن يسار حين عضل أخته جميلاء أن ترجع إلى زوجها الأول بالاستئناف ) فيكون دليلا على أن المرأة لا تزوج نفسها إذ لو تمكنت منه لم يكن لعضل الولي معنى ولا يعارض بإسناد النكاح إليهن لأنه بسبب توقفه على إذنهن وقيل الأزواج الذين يعضلون نساءهم بعد مضي العدة ولا يتركونهن يتزوجن عدوانا وقسرا لأنه جواب قوله { وإذا طلقتم النساء } وقيل الأولياء والأزواج وقيل الناس كلهم والمعنى : لا يوجد فيما بينكم هذا الأمر فإنه إذا وجد بينهم وهم راضون به كانوا الفاعلين له والعضل الحبس والتضييق منه عضلت الدجاجة إذا نشب بيضها فلم يخرج { إذا تراضوا بينهم } أي الخطاب والنساء وهو ظرف لأنه ينكحن أو لا تعضلوهن { بالمعروف } بما يعرفه الشرع وتستحسنه المروءة حال من الضمير المرفوع أو صفة لمصدر محذوف أو تراضيا كائنا بالمعروف وفيه دلالة على أن العضل عن التزوج من غير كفؤ غير منهي عنه { ذلك } إشارة إلى ما مضى ذكره والخطاب للجميع على تأويل القبيل أو كل واحد أو أن الكاف لمجرد الخطاب والفرق بين الحاضر والمنقضي دون تعيين المخاطبين أو للرسول صلى الله عليه و سلم على طريقة قوله : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } للدلالة على أن حقيقة المشار إليه أمر لا يكاد يتصوره كل أحد { يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر } لأنه المتعظ به والمنتفع { ذلكم } أي العمل بمقتضى ما ذكر { أزكى لكم } أنفع { وأطهر } من دنس الآثام { والله يعلم } ما فيه النفع والصلاح { وأنتم لا تعلمون } لقصور علمكم

233 - { والوالدات يرضعن أولادهن } أمر عبر عنه بالخبر للمبالغة ومعناه الندب أو الوجوب فيخص بما إذا لم يرتضع الصبي إلا من أمه أو لم يوجد له ظئر أو عجز الوالد عن الاستئجار والوالدات يعم المطلقات وغيرهن وقيل يختص بهن إذ الكلام فيهن { حولين كاملين } أكده بصفة الكمال لأنه مما يتسامح فيه { لمن أراد أن يتم الرضاعة } بيان للمتوجه إليه الحكم أي ذلك لمن أراد إتمام الرضاعة أو متعلق بيرضعن فإن الأب يجب عليه الإرضاع كالنفقة والأم ترضع له وهو دليل على أن أقصى مدة الإرضاع حولان ولا عبرة به بعدهما وأنه يجوز أن ينقص عنه { وعلى المولود له } أي الذي يولد له يعني الوالد فإن الولد يولد له وينسب إليه وتغيير العبارة للإشارة إلى المعنى المقتضى لوجوب الإرضاع ومؤن المرضعة عليه { رزقهن وكسوتهن } أجرة لهن واختلف في استئجار الأم فجوزه الشافعي ومنعه أبو حنيفة رحمه الله تعالى ما دامت زوجة أو معتدة نكاح { بالمعروف } حسب ما يراه الحاكم ويفي به وسعه { لا تكلف نفس إلا وسعها } تعليل لإيجاب المؤن والتقييد بالمعروف ودليل على أنه سبحانه وتعالى لا يكلف العبد بما لا يطيقه وذلك لا يمنع إمكانه { لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده } تفصيل له وتقرير أي لا يكلف كل واحد منهما الآخر ما ليس في وسعه ولا يضاره بسبب الولد وقرأ ابن كثير و أبو عمرو و يعقوب { لا تضار } بالرفع بدلا من قوله { لا تكلف } وأصله على القراءتين تضارر بالكسر على البناء للفاعل أو الفتح على البناء للمفعول وعلى الوجه الأول يجوز أن يكون بمعنى تضر والباء من صلته أي لا يضر الوالدان بالولد فيفرط في تعهده ويقصر فيما ينبغي له وقرئ { لا تضار } بالسكون مع التشديد على نية الوقف و به مع التخفيف على أنه من ضاره يضيره وإضافة الولد إليها تارة وإليه أخرى استعطاف لهما عليه وتنبيه على أنه حقيق بأن يتفقا على استصلاحه والإشفاق فلا ينبغي أن يضرا به أو أن يتضارا بسببه { وعلى الوارث مثل ذلك } عطف على قوله وعلى المراد له رزقهن وكسوتهن وما بينهما تعليل معترض والمراد بالوارث وارث الأب وهو الصبي أي مؤن المرضعة من ماله إذا مات الأب وقيل الباقي من الأبوين من قوله عليه الصلاة و السلام [ واجعله الوارث منا ] وكلا القولين يوافق مذهب الشافعي رحمه الله تعالى إذ لا نفقة عنده فيما عدا الولادة وقيل وارث الطفل وإليه ذهب ابن أبي ليلى وقيل وارثه المحرم منه وهو مذهب أبي حنيفة وقيل عصابته وبه قال أبو زيد وذلك إشارة إلى ما وجب على الأب من الرزق والكسوة { فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور } أي فصالا صادرا عن التراضي منهما والتشاور بينهما قبل الحولين والتشاور والمشاورة والمشورة والمشورة استخراج الرأي من شرت العسل إذا استخرجته { فلا جناح عليهما } في ذلك وإنما اعتبر تراضيهما مراعاة لصلاح الطفل وحذرا أن يقدم أحدهما على ما يضر به لغرض أو غيره { وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم } أي تسترضعوا المراضع لأولادكم يقال أرضعت المرأة الطفل واسترضعتها إياه كقولك أنجح الله حاجتي واستنجحته إياها فحذف المفعول الأول للاستغناء عنه { فلا جناح عليكم } فيه و إطلاقه يدل على أن للزوج أن يسترضع الولد ويمنع الزوجة من الإرضاع { إذا سلمتم } إلى المراضع { ما آتيتم } ما أردتم إيتاءه كقوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة } وقراءة ابن كثير { ما أوتيتم } من أتى إحسانا إذا فعله وقرئ أوتيتم أي ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة { بالمعروف } صلة سلمتم أي بالوجه المتعارف المستحسن شرعا وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله وليس اشتراط التسليم لجواز الاسترضاع بل لسلوك ما هو الأولى و الأصلح للطفل { واتقوا الله } مبالغة في المحافظة على ما شرع في أمر الأطفال والمراضع { واعلموا أن الله بما تعملون بصير } حث وتهديد

234 - { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } أي أزواج الذين أو والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بعدهم كقولهم السمن منوان بدرهم و قرئ { يتوفون } بفتح الياء أي يستوفون آجالهم وتأنيث العشر باعتبار الليالي لأنها غرر الشهور والأيام ولذلك لا يستعملون التذكير في مثله قط ذهابا إلى الأيام حتى إنهم يقولون صمت عشرا ويشهد له قوله تعالى : { إن لبثتم إلا عشرا } ثم { إن لبثتم إلا يوما } ولعل المقتضى لهذا التقدير أن الجنين في غالب الأمر يتحرك لثلاثة أشهر أن كان ذكرا ولأربعة إن كان أنثى فاعتبر أقصى الأجلين وزيد عليه العشر استظهارا إذ ربما تضعف حركته في المبادي فلا يحس بها وعموم اللفظ يقتضي تساوي المسلمة والكتابية فيه كما قاله الشافعي والحرة والأمة كما قاله الأصم والحامل وغيرها لكن القياس اقتضى تنصيف المدة للأمة والإجماع خص الحامل منه لقوله تعالى : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } وعن علي وابن عباس رضي الله تعالى عنهما إنها تعتد بأقصى الأجلين احتياطا { فإذا بلغن أجلهن } أي انقضت عدتهن { فلا جناح عليكم } أيها الأئمة أو المسلمون جميعا { فيما فعلن في أنفسهن } من التعرض للخطاب وسائر ما حرم عليهن للعدة { بالمعروف } بالوجه الذي لا ينكره الشرع ومفهومه أنهن لو فعلن ما ينكره فعليهم أن يكفوهن فإن قصروا فعليهم الجناح { والله بما تعملون خبير } فيجازيكم عليه

235 - { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء } التعريض والتلويح إيهام المقصود بما لم يوضع له حقيقة ولا مجازا كقول السائل لأسلم عليك والكناية هي الدلالة على الشيء بذكر لوازمه و روادفه كقولك الطويل النجاد للطويل وكثير الرماد للمضياف والخطبة بالضم والكسر اسم الحالة غير أن المضمومة خصت بالموعظة والمكسورة بطلب المرأة والمراد بالنساء المعتدات للوفاة وتعريض خطبتها أن يقول لها إنك جميلة أو نافقة ومن غرضي أن أتزوج ونحو ذلك { أو أكننتم في أنفسكم } أو أضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه تصريحا ولا تعريضا { علم الله أنكم ستذكرونهن } ولا تصبرون على السكوت عنهن وعن الرغبة فيهن وفيه نوع توبيخ { ولكن لا تواعدوهن سرا } استدراك على محذوف دل عليه ستذكرونهن أي فاذكروهن ولكن لا تواعدهن نكاحا أو جماعا عبر بالسر عن الوطء لأنه مما يسر ثم عن العقد لأنه سبب فيه وقيل معناه لا تواعدوهن في السر على أن المعنى بالمواعدة في السر المواعدة بما يستهجن { إلا أن تقولوا قولا معروفا } وهو أن تعرضوا ولا تصرحوا والمستثنى منه محذوف أي : لا تواعدوهن مواعدة إلا مواعدة معروفة أو إلا مواعدة بقول معروف وقيل إنه استثناء منقطع من سرا وهو ضعيف لأدائه إلى قولك لا توعدوهن إلا التعريض وهو غير موعود وفيه دليل حرمة تصريح خطبة المعتدة وجواز تعريضها إن كانت معتدة وفاة واختلف في معتدة الفراق البائن والأظهر جوازه { ولا تعزموا عقدة النكاح } ذكر العزم مبالغة في النهي عن العقد أي ولا تعزموا عقد عقدة النكاح وقيل معناه ولا تقطعوا عقدة النكاح فإن أصل العزم القطع { حتى يبلغ الكتاب أجله } حتى ينتهي ما كتب من العدة { واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم } من العزم على ما لا يجوز { فاحذروه } ولا تعزموا { واعلموا أن الله غفور } لمن عزم ولم يفعل خشية من الله سبحانه وتعالى { حليم } لا يعاجلكم بالعقوبة

236 - { لا جناح عليكم } لا تبعة من مهر وقيل من وزر لأنه لا بدعة في الطلاق قبل المسيس وقيل : كان النبي صلى الله عليه و سلم يكثر النهي عن الطرق فظن أن فيه حرجا فنفى { إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن } أي تجامعوهن و قرأ حمزة و الكسائي تماسوهن بضم التاء ومد الميم في جميع القرآن { أو تفرضوا لهن فريضة } إلا أن تفرضوا أو حتى تفرضوا أو وتفرضوا والفرض تسمية المهر وفريضة نصب على المفعول به بمعنى فعيلة بمعنى مفعول والتاء لنقل اللفظ من الوصفية إلى الإسمية ويحتمل المصدر والمعنى أنه لا تبعة على المطلق من مطالبة المهر إذا كانت المطلقة غير ممسوسة ولم يسم لها مهرا إذ لو كانت ممسوسة فعلية المسمى أو مهر المثل ولو كانت غير ممسوسة ولكن سمي لها فلها نصف المسمى فمنطوق الآية ينفي الوجوب في الصورة الأولى ومفهومها يقتضي الوجوب على الجملة في الأخيرتين { ومتعوهن } عطف على مقدر أي فطلقوهن ومتعوهن والحكمة في إيجاب المتعة جبر إيحاش الطلاق وتقديرها مفوض إلى رأي الحاكم ويؤيده قوله : { على الموسع قدره وعلى المقتر قدره } أي على كل من الذي له سعة والمقتر الضيق الحال ما يطيقه ويليق به ويدل عليه قوله عليه السلام لأنصاري طلق امرأته المفوضة قبل أن يمسها متعها بقلنسوتك وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : هي درع وملحفة وخمار على حسب الحال إلا أن يقل مهر مثلها عن ذلك فلها نصف مهر المثل ومفهوم الآية يقتضي تخصيص إيجاب المتعة للمفوضة التي لم يمسها الزوج وألحق بها الشافعي رحمه الله تعالى في أحد قوليه الممسوسة المفوضة وغيرها قياسا وهو مقدم على المفهوم وقرأ حمزة و الكسائي و حفص و ابن ذكوان بفتح الدال { متاعا } تمتيعا { بالمعروف } بالوجه الذي يستحسنه الشرع والمروءة { حقا } صفة لمتاعا أو مصدر مؤكد أي حق ذلك حقا { على المحسنين } الذي يحسنون إلى أنفسهم بالمسارعة إلى الامتثال أو إلى المطلقات بالتمتيع وسماهم محسنين قبل الفعل للمشارفة ترغيبا وتحريضا

237 - { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة } لما ذكر حكم المفوضة أتبعه حكم قسيمها { فنصف ما فرضتم } أي فلهن أو فالواجب نصف ما فرضتم لهن وهو دليل على أن الجناح المنفي ثم تبعه المهر وأن لا متعة مع التشطير لأنه قسيمها { إلا أن يعفون } أي المطلقات فلا يأخذن شيئا والصيغة تحتمل التذكير والتأنيث والفرق في الأول أن الواو ضمير والنون علامة الرفع الثاني لام الفعل والنون ضمير الفعل مبني ولذلك لم يؤثر فيه أن ههنا ونصب المعطوف عليه { أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } أي الزوج المالك لعقدة وحله عما يعود إليه بالتشطير فيسوق المهر إليها كاملا وهو مشعر بأن الطلاق قبل المسيس مخير للزوج غير مشطر بنفسه وإليه ذهب بعض أصحابنا و الحنفية وقيل الولي الذي يلي عقد نكاحهن وذلك إذا كانت المرأة صغيرة وهو قول قديم للشافعي رحمه الله تعالى { وأن تعفوا أقرب للتقوى } يؤيد الوجه الأول وعفو الزوج على وجه التخيير ظاهر وعلى الوجه الآخر عبارة عن الزيادة على الحق وتسميتها عفوا إما على المشالكة وإما لأنهم يسوقون المهر إلى النساء عند التزوج فمن طلق قبل المسيس استحق استرداد النصف فإذا لم يسترده فقد عفا عنه وعن جبير بن مطعم أنه تزوج امرأة وطلقها قبل الدخول فأكمل لها الصداق وقال أنا أحق بالعفو { ولا تنسوا الفضل بينكم } أي ولا تنسوا أن يتفضل بعضكم على بعض { إن الله بما تعملون بصير } لا يضيع تفضلكم وإحسانكم

238 - { حافظوا على الصلوات } بالأداء لوقتها والمداومة عليها ولعل الأمر بها في تضاعيف أحكام الأولاد والأزواج لئلا يلهيهم الاشتغال بشأنهم عنها { والصلاة الوسطى } أي الوسطى بينهما أو الفضلى منها خصوصا وهي صلاة العصر لقوله عليه الصلاة و السلام يوم الأحزاب [ شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم نارا ] فضلها لكثرة اشتغال الناس في وقتها واجتماع الملائكة وقيل صلاة الظهر لأنها في وسط النهار وكانت أشق الصلوات عليهم فكانت أفضل لقوله عليه الصلاة و السلام [ أفضل العبادات أحمزها ] وقيل صلاة الفجر لأنها بين صلاتي النهار والليل والواقعة في الحد المشترك بنيهما ولأنها مشهودة وقيل المغرب لأنها المتوسطة بالعدد ووتر النهار وقيل العشاء لأنها بين حهر يتين واقعتين طرفي الليل وعن عائشة رضي الله تعالى عنهما : أنه عليه الصلاة و السلام [ كان يقرأ و الصلاة الوسطى صلاة العصر ] فتكون صلاة من الأربع خصت بالذكر مع العصر لانفرادهما بالفضل وقرئ بالنصب على الاختصاص والمدح { وقوموا لله } في الصلاة { قانتين } ذاكرين له في القيام والقنوت الذكر فيه وقيل خاشعين وقال ابن المسيب المراد به القنوت في الصبح

239 - { فإن خفتم } من عدو أو غيره { فرجالا أو ركبانا } فصلوا راجلين أو راكبين ورجالا جمع راجل أو رجل بمعناه كقائم وقيام وفيه دليل على وجوب الصلاة حال المسايفة وإليه ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى لا يصلى حال المشي والمسايفة ما لم يمكن الوقوف { فإذا أمنتم } وزال خوفكم { فاذكروا الله } صلوا صلاة الأمن أو اشكروه على الأمن { كما علمكم } ذكرا مثل ما علمكم من الشرائع وكيفية الصلاة حالتي الخوف والأمن أو شكرا يوازيه وما مصدرية أو موصولة { ما لم تكونوا تعلمون } مفعول علمكم

240 - { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم } قرأها بالنصب أبو عمرو و ابن عامر و حمزة و حفص عن عاصم على تقدير والذين يتوفون منكم يوصون وصية أو ليوصوا وصية أو كتب الله عليهم وصية أو ألزم الذين يتوفون وصية ويؤيد ذلك قراءة كتب عليكم الوصية لأزواجكم متاعا إلى الحول مكانه وقرأ الباقون بالرفع على تقدير ووصية الذين يتوفون أو وحكمهم وصية أو والذين يتوفون أهل وصية أو كتب عليهم وصية أو عليهم وصية وقرئ متاع بدلها { متاعا إلى الحول } نصب بيوصون إن أضمرت وإلا فبالوصية وبمتاع على قراءة من قرأ لأنه بمعنى التمتيع { غير إخراج } بدل منه أو مصدر مؤكد كقولك هذا القول غير ما تقول أو حال من أزواجهم أي غير مخرجات والمعنى : أنه يجب على الذين يتوفون أن يوصوا قبل أن يحتضروا لأزواجهم بأن يمتعن بعدهم حولا بالسكنى والنفقة وكان ذلك في أول الإسلام ثم نسخت المدة بقوله : { أربعة أشهر وعشرا } وهو وإن كان متقدما في التلاوة فهو متأخر في النزول وسقطت النفقة بتوريثها الربع أو الثمن والسكنى لها بعد ثابتة عندنا خلافا لأبي حنيفة رحمه الله { فإن خرجن } عن منزل الأزواج { فلا جناح عليكم } أيها الأئمة { فيما فعلن في أنفسهن } كالتطيب وترك الإحداد { من معروف } مما لم ينكره الشرع وهذا يدل على أنه لم يكن يجب عليها ملازمة مسكن الزوج والحداد عليه وإنما كانت مخيرة بين الملازمة وأخذ النفقة وبين الخروج وتركها { والله عزيز } ينتقم ممن خالفه منهم { حكيم } يراعي مصالحهم

241 - { وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين } أثبت المتعة للمطلقات جميعا بعدها أو جبها لواحدة منهن وإفراد بعض العام بالحكم لا يخصصه إلا إذا جوزنا تخصيص المنطوق بالمفهوم ولذلك أوجبها ابن جبير لكل مطلقة وأول غيره بما يعم التمتيع الواجب والمستحب وقال قوم المراد نفقة العدة ويجوز أن تكون اللام للعهد والتكرير للتأكيد أو لتكرر القضية

242 - { كذلك } إشارة إلى ما سبق من أحكام الطلاق والعدة { يبين الله لكم آياته } وعد بأنه سيبين لعباده من الدلائل والأحكام ما يحتاجون إليه معاشا ومعادا { لعلكم تعقلون } لعلكم تفهمونها فتستعملون العقل فيها

243 - { ألم تر } تعجيب وتقرير لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأرباب التواريخ وقد يخاطب به من لم ير ومن لم يسمع فإنه صار مثلا في التعجب { إلى الذين خرجوا من ديارهم } يريد أهل داوردان قرية قبل واسط وقع فيها طاعون فخرجوا هاربين فأماتهم الله ثم أحياهم ليعتبروا ويتيقنوا أن لا مفر من قضاء الله تعالى وقدره أو قوما من بني إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد ففروا حذر الموت فأماتهم الله ثمانية أيام ثم أحياهم { وهم ألوف } أي ألوف كثيرة قيل عشرة وقيل ثلاثون وقيل سبعون وقيل متألفون جمع إلف أو آلف كقاعد وقعود والواو للحال { حذر الموت } مفعول له { فقال لهم الله موتوا } أي قال لهم موتوا فماتوا كقوله : { كن فيكون } والمعنى أنهم ماتوا ميتة رجل واحد من غير علة بأمر الله تعالى ومشيئته وقيل ناداهم به ملك وإنما أسند إلى الله تعالى تخويفا وتهويلا { ثم أحياهم } قيل مر حزقيل عليه السلام على أهل داوردان وقد عريت عظامهم وتفرقت أوصالهم فتعجب من ذلك فأوحى الله تعالى إليه ناد فيهم أن قوموا بإذن الله تعالى فنادى فقاموا يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت وفائدة القصة تشجيع المسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة وحثهم على التوكل والاستسلام للقضاء { إن الله لذو فضل على الناس } حيث أحياهم ليعتبروا ويفوزوا وقص عليهم حالهم ليستبصروا { ولكن أكثر الناس لا يشكرون } أي لا يشكرونه كما ينبغي ويجوز أن يراد بالشكر الاعتبار والاستبصار

244 - { وقاتلوا في سبيل الله } لما بين أن الفرار من الموت غير مخلص منه وأن المقدر لا محالة واقع أمرهم بالقتال إذ لو جاء أجلهم في سبيل الله وإلا فالنصر والثواب { واعلموا أن الله سميع } لما يقوله المتخلف والسابق { عليم } بما يضمرانه وهو من وراء الجزاء

245 - { من ذا الذي يقرض الله } { من } استفهامية مرفوعة الموضع بالابتداء و { ذا } خبره و { الذي } صفة ذا أو بدله وإقراض الله سبحانه وتعالى مثل لتقديم العمل الذي به يطلب ثوابه { قرضا حسنا } إقراضا حسنا مقرونا بالإخلاص وطيب النفس أو مقرضا حلالا طيبا وقيل : القرض الحسن بالمجاهدة والإنفاق في سبيل الله { فيضاعفه له } فيضاعف جزاءه أخرجه على صورة المغالبة للمبالغة وقرأ عاصم بالنصب على جواب الاستفهام حملا على المعنى فإن { من ذا الذي يقرض الله } في معنى أيقرض الله أحد وقرأ ابن كثير فيضعفه بالرفع والتشديد و ابن عامر و يعقوب بالنصب { أضعافا كثيرة } كثرة لا يقدرها إلا الله سبحانه وتعالى وقيل الواحد بسبعمائة و أضعافا جمع ضعف ونصبه على الحال من الضمير المنصوب أو المفعول الثاني لتضمن المضاعفة معنى التصيير أو المصدر على أن الضعف اسم مصدر وجمعه للتنويع { والله يقبض ويبسط } يقتر على بعض ويوسع على بعض حسب ما اقتضت حكمته فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم كيلا يبدل حالكم وقرأ نافع و الكسائي و البزي و أبو بكر بالصاد ومثله في الأعراف في قوله تعالى : { وزادكم في الخلق بسطة } { وإليه ترجعون } فيجازيكم على حسب ما قدمتم

246 - { ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل } { الملأ } جماعة يجتمعون للتشاور ولا واحد له كالقوم ومن للتبعيض { من بعد موسى } أي من بعد وفاته ومن للابتداء { إذ قالوا لنبي لهم } هو يوشع أو شمعون أو شمويل عليهم السلام { ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله } أقم لنا أميرا ننهض معه للقتال يدبر أمره ونصدر فيه عن رأيه وجزم نقاتل على الجواب وقرئ بالرفع على أنه حال أي أبعثه لنا مقدرين القتال ويقاتل بالياء مجزوما ومرفوعا على الجواب والوصف لملكا { قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا } فصل بين عسى وخبره بالشرط والمعنى أتوقع جبنكم عن القتال إن كتب عليكم فأدخل هل على فعل التوقع مستفهما عما هو المتوقع عنده تقريرا وتثبيتا وقرأ نافع { عسيتم } السين { قالوا وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا } أي غرض لنا في ترك القتال وقد عرض لنا ما يوجبه ويحث عليه من الإخراج عن الأوطان والإفراد عن الأولاد وذلك أن جالوت ومن معه من العمالقة كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين فظهروا على بني إسرائيل فأخذوا ديارهم وسبوا أولادهم وأسروا من أبناء الملوك أربعمائة وأربعين { فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم } ثلاثمائة وثلاثة عشر بعدد أهل بدر { والله عليم بالظالمين } وعيد لهم على ظلمهم في ترك الجهاد

246 - { وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا } طالوت علم عبري كداود وجعله فعلوتا من الطول تعسف يدفعه روي أن نبيهم صلى الله عليه و سلم لما دعا الله أن يملكهم أتى بعصا يقاس بها من يملك عليهم فلم يساوها إلا طالوت { قالوا أنى يكون له الملك علينا } من أين له ذلك ويستأهل { ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال } والحال أنا أحق بالملك منه وراثة ومكنة وإنه فقير لا مال له يعتضد به وإنما قالوا ذلك لأن طالوت كان فقيرا راعيا أو سقاء أو دباغا من أولاد بنيامين ولم تكن فيهم النبوة والملك وإنما كانت النبوة في أولاد لاوى بن يعقوب والملك في أولاد يهوذا وكان فيهم من السبطين خلق { قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم } لما استبعدوا تملكه لفقره وسقوط نسبه رد عليهم ذلك أولا بأن العمدة فيه اصطفاه الله سبحانه وتعالى وقد اختاره عليكم وهو أعلم بالمصالح منكم وثانيا بأن الشرط فيه وفور العلم ليتمكن به من معرفة الأمور السياسية وجسامة البدن ليكون أعظم خطرا في القلوب وأقوى على مقاومة العدو ومكابدة الحروب لا ما ذكرتم وقد زاده الله فيهما وكان الرجل القائم يمد يده فينال رأسه وثالثا بأن الله تعالى مالك الملك على الإطلاق فله أن يؤتيه من يشاء و رابعا أنه واسع الفضل يوسع على الفقير ويغنيه عليم بمن يليق بالملك من النسيب وغيره

248 - { وقال لهم نبيهم } لما طلبوا منه حجة على أنه سبحانه وتعالى اصطفى طالوت وملكه عليهم { إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت } الصندوق فعلوت من التوب وهو الرجوع فإنه لا يزال يرجع إلى ما يخرج منه وليس بفاعول لقلة نحو سلس وقلق ومن قرأه بالهاء فلعله أبدله منه كما أبدل من تاء التأنيث لاشتراكهما في الهمس والزيادة ويريد به صندوق التوراة وكان من خشب الشمشاد مموها بالذهب نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين { فيه سكينة من ربكم } الضمير للإتيان أي في إتيانه سكون لكم وطمأنينة أو للتابوت أي مودع فيه ما تسكنون إليه وهو التوراة وكان موسى عليه الصلاة و السلام إذا قاتل قدمه فتسكن نفوس بني إسرائيل ولايفرون وقيل صورة كانت فيه من زبرجد أو ياقوت لها رأس وذنب كرأس الهرة وذنبها وجناحان فتئن فيزف التابوت نحو العدو وهم يتبعونه فإذا استقر ثبتوا وسكنوا ونزل النصر وقيل صورة الأنبياء من آدم إلى محمد عليهم الصلاة والسلام وقيل التابوت هو القلب والسكينة ما فيه من العلم والإخلاص وإتيانه مصير قلبه مقرا للعلم والوقار بعد أن لم يكن { وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون } رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه وعمامة هارون وآلهما أبناؤهما أو أنفسهما والآل مقحم لتفخيم شأنهم أو أنبياء بني إسرائيل لأنهم أبناء عمهما { تحمله الملائكة } قيل رفعه الله بعد موسى فنزلت به الملائكة وهم ينظرون إليه وقيل كان بعده مع أنبيائهم يستفتحون به حتى أفسدوا فغلبهم الكفار عليه وكان في أرض جالوت إلى أن ملك الله طالوت فأصابهم بلاء حتى هلكت خمس مدائن فتشاءموا بالتابوت فوضعوه على ثورين فساقتهما الملائكة إلى طالوت { إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين } يحتمل أن يكون من تمام كلام النبي عليه الصلاة و السلام وأن يكون ابتداء خطاب من الله سبحانه وتعالى

249 - { فلما فصل طالوت بالجنود } انفصل بهم عن بلده لقتال العمالقة وأصله فصل نفسه عنه ولكن لما كثر حذف مفعوله صار كاللازم روي : أنه قال لهم لا يخرج معي إلا الشاب النشيط الفارغ فاجتمع إليه ممن إختاره ثمانون ألفا وكان الوقت قيظا فسلكوا مفازه وسألوه أن يجري الله لهم نهرا { قال إن الله مبتليكم بنهر } معاملكم معاملة المختبر بما اقترحتموه { فمن شرب منه فليس مني } فليس من أشياعي أو ليس بمتحد معي { ومن لم يطعمه فإنه مني } أي من لم يذقه من طعم الشيء إذا ذاقه مأكولا أو مشروبا قال الشاعر : وإن شئت لم أطعم نقاحا ولا بردا وإنما علم ذلك بالوحي إن كان نبيا كما قيل أو بإخبار النبي عليه الصلاة و السلام { إلا من اغترف غرفة بيده } استثناء من قوله فمن شرب منه وإنما قدمت عليه الجملة الثانية للعناية بها كما قدم والصائبون على الخبر في قوله : { إن الذين آمنوا والذين هادوا } والمعنى الرخصة في القليل دون الكثير وقرأ ابن عامر والكوفيون { غرفة } بضم الغين { فشربوا منه إلا قليلا منهم } أي فكرعوا فيه إذ الأصل في الشرب منه أن يكون بوسط وتعميم الأول ليتصل الاستثناء أو أفرطوا في الشرب منه إلا قليلا منهم وقرئ بالرفع حملا على المعنى فإن قوله { فشربوا منه } في معنى فلم يطيعوه والقليل كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا وقيل ثلاثة آلاف وقيل : ألفا روي أن من اقتصر على الغرفة كفتة لشربه وإداوته ومن لم يقتصر عليه واسودت شفته ولم يقدر أن يمضي وهكذا الدنيا لقاصد الآخرة { فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه } أي القليل الذين لم يخالفوه { قالوا } أي بعضهم لبعض { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } لكثرتهم وقوتهم { قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله } أي قال الخلص منهم الذين تيقنوا لقاء الله وتوقعوا ثوابه أو علموا أنهم يستشهدون عما قريب فيلقون الله تعالى وقيل : هم القليل الذين ثبتوا معه والضمير في { قالوا } للكثير المنخذلين عنه اعتذارا في التخلف وتخذيلا للقليل وكأنهم تقاولوا به والنهر بينهما { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } بحكمه وتيسيره و { كم } تحتمل الخبر والاستفهام و { من } مبينة أو مزيدة والفئة الفرقة من الناس من فأوت رأسه إذا شققته أو من فاء رجع فوزنها فعة أو فلة { والله مع الصابرين } بالنصر والإثابة

250 - { ولما برزوا لجالوت وجنوده } أي ظهروا لهم ودنوا منهم { قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين } التجؤوا إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء وفيه ترتيب بليغ إذ سألوا أولا إفراغ الصبر في قلوبهم الذي هو ملاك الأمر ثم ثبات القدم في مداحض الحرب المسبب عنه ثم النصر على العدو المترتب عليهما غالبا

251 - { فهزموهم بإذن الله } فكسروهم بنصره أو مصاحبين لنصره إياهم إجابة لدعائهم { وقتل داود جالوت } قيل : كان إيشا في عسكر طالوت معه ستة من بنيه وكان داود سابعهم وكان صغيرا يرعى الغنم فأوحى الله إلى نبيهم أنه الذي يقتل جالوت فطلبه من أبيه فجاء وقد كلمه في الطريق ثلاثة أحجار وقالت له إنك بنا تقتل جالوت فحملها في مخلاته ورماه بها فقتله ثم زوجه طالوت بنته { وآتاه الله الملك } أي ملك بني إسرائيل ولم يجتمعوا قبل داود على ملك { والحكمة } أي النبوة { وعلمه مما يشاء } كالسرد وكلام الدواب والطير { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين } ولولا أنه سبحانه وتعالى يدفع الناس ببعض وينصر المسلمين على الكفار ويكف بهم فسادهم لغلبوا وأفسدوا في الأرض أو لفسدت الأرض بشؤمهم وقرأ نافع هنا وفي الحج دفاع الله

252 - { تلك آيات الله } إشارة إلى ما قص من حديث الألوف وتمليك طالوت وإتيان التابوت وانهزام الجبابرة وقتل داود جالوت { نتلوها عليك بالحق } بالوجه المطابق الذي لا يشك فيه أهل الكتاب وأرباب التواريخ { وإنك لمن المرسلين } لما اختبرت بها من غير تعرف واستماع

253 - { تلك الرسل } إشارة إلى الجماعة المذكورة قصصها في السورة أو المعلومة للرسول صلى الله عليه و سلم أو جماعة الرسل واللام للاستغراق { فضلنا بعضهم على بعض } بأن خصصناه بمنقبة ليست لغيره { منهم من كلم الله } تفضيل له وهو موسى عليه الصلاة و السلام وقيل : موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام كلم الله موسى ليلة الحيرة وفي الطور ومحمدا عليه الصلاة و السلام ليلة المعراج حين كان قاب قوسين أو أدنى وبينهما بون بعيد وقرئ { كلم الله } و كالم الله بالنصب فإنه كلم الله كما أن الله كلمه ولذلك قيل كليم الله بمعنى مكالمه { ورفع بعضهم درجات } بأن فضله على غيره من وجوه متعددة أو بمراتب متباعدة وهو محمد صلى الله عليه و سلم فإنه خصه بالدعوة العامة والحجج المتكاثرة والمعجزات المستمرة والآيات المتعاقبة بتعاقب الدهر والفضائل العلمية والعملية الفائتة للحصر والإبهام لتفخيم شأنه كأنه العلم المتعين لهذا الوصف المستغني عن التعيين وقيل : إبراهيم عليه السلام خصصه بالخلة التي هي أعلى المراتب وقيل : إدريس عليه السلام لقوله تعالى : { ورفعناه مكانا عليا } وقيل : أولوا العزم من الرسل { وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس } خصه بالتعيين لإفراط اليهود والنصارى في تحقيره وتعظيمه وجعل معجزاته سبب تفضيله لأنها آيات واضحة ومعجزات عظيمة لم يستجمعها غيره { ولو شاء الله } أي هدى الناس جميعا { ما اقتتل الذين من بعدهم } من بعد الرسل { من بعد ما جاءتهم البينات } أي المعجزات الواضحة لاختلافهم في الدين وتضليل بعضهم بعضا { ولكن اختلفوا فمنهم من آمن } بتوفيقه التزام دين الأنبياء تفضلا { ومنهم من كفر } لإعراضه عنه بخذلانه { ولو شاء الله ما اقتتلوا } كرره للتأكيد { ولكن الله يفعل ما يريد } فيوفق من يشاء فضلا ويخذل من يشاء عدلا والآية دليل على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام متفاوتة الأقدام وأنه يجوز تفضيل بعضهم على بعض ولكن بقاطع لأن اعتبار الظن فيما يتعلق بالعمل وأن الحوادث بيد الله سبحانه وتعالى تابعة لمشيئته خيرا كان أو شرا إيمانا أو كفرا

254 - { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم } ما أوجب عليكم إنفاقه { من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة } من قبل أن يأتي يوم لا تقدرون فيه على تدارك ما فرطتم والخلاص من عذابه إذ لا بيع فيه فتحصلون ما تنفقونه أو تفتدون به من العذاب ولا خلة حتى يعينكم عليه أخلاؤكم أو يسامحوكم به ولا شفاعة { إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا } حتى تتكلموا على شفعاء تشفع لكم في حط ما في ذممكم وإنما رفعت ثلاثتها مع قصد التعميم لأنها في التقدير جواب : هل فيه بيع ؟ أو خلة ؟ أو شفاعة ؟ وقد فتحها ابن كثير و أبو عمرو و يعقوب على الأصل { والكافرون هم الظالمون } يريد والتاركون للزكاة هم ظالمون الذين ظلموا أنفسهم أو وضعوا المال في غيره موضعه وصرفوه على غير وجهه فوضع الكافرون موضعه تغليظا لهم وتهديدا كقوله : { ومن كفر } مكان ومن لم يحج وإيذانا بأن ترك الزكاة من صفات الكفار لقوله تعالى : { وويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكاة }

255 - { الله لا إله إلا هو } مبتدأ وخبر والمعنى أنه المستحق للعبادة لا غيره وللنجاة خلاف في أنه هل يضمر للأخير مثل في الوجود أو يصح أن يوجد { الحي } الذي يصح أن يعلم ويقدر وكل ما يصح له فهو واجب لا يزول لامتناعه عن القوة والإمكان { القيوم } الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه فيعول من قام بالأمر إذا حفظه وقرئ القيام و القيم { لا تأخذه سنة ولا نوم } السنة فتور يتقدم النوم قال ابن الرقاع :
( وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم )
والنوم حال تعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة بحيث تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس رأسا وتقديم السنة عليه وقياس المبالغة عكسه على ترتيب الوجود والجملة نفي للتشبيه وتأكيد لكونه حيا قيوما فإن من أخذه نعاس أو نوم كان موؤف الحياة قاصرا في الحفظ والتدبير ولذلك ترك العاطف فيه وفي الجمل التي بعده { له ما في السماوات وما في الأرض } تقرير لقيوميته واحتجاج به على تفرده في الألوهية والمراد بما فيهما داخلا في حقيقتهما أو خارجا عنهما متمكنا فيهما فهو أبلغ من قوله : { له ملك السماوات والأرض وما فيهن } { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } بيان لكبرياء شأنه سبحانه وتعالى وأنه لا أحد يساويه أو يدانيه يستقل بأن يدفع ما يريده شفاعة واستكانة فضلا عن أن يعاوقه عنادا أو مناصبة أي مخاصمة { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } ما قبلهم وما بعدهم أو بالعكس لأنك مستقبل المستقبل ومستدبر الماضي أو أمور الدنيا وأمور الآخرة أو عكسه أو ما يحسونه وما يعقلونه أو ما يدركونه وما لا يدركونه والضمير لما في السموات والأرض لأن فيهما العقلاء أو لما دل عليه من ذا من الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام { ولا يحيطون بشيء من علمه } من معلوماته { إلا بما شاء } أن يعلموه وعطفه على ما قبله لأن مجموعهما دل على تفرده بالعلم الذاتي التام الدال على وحدانيته سبحانه وتعالى { وسع كرسيه السموات والأرض } تصوير لعظمته وتمثيل مجرد كقوله تعالى : { وما قدروا الله حق قدره } { والأرض جميعا قبضته يوم القيامة و السموات مطويات بيمينه } ولا كرسي في الحقيقة و لا قاعد وقيل كرسيه مجاز عن علمه أو ملكه مأخوذ من كرسي العالم والملك وقيل جسم بين يدي العرش ولذلك سمي كرسيا محيط بالسموات السبع لقوله عليه الصلاة و السلام [ ما السموات السبع والأرضون السبع من الكرسي إلا كحلقة في فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة ] ولعله الفلك المشهور بفلك البروج وهو في الأصل اسم لما يقعد عليه ولا يفضل عن مقعد القاعد وكأنه منسوب إلى الكرسي وهو الملبد { ولا يؤوده } أي ولا يثقله مأخوذ من الأود وهو الاعوجاج { حفظهما } أي حفظه السموات والأرض فحذف الفاعل وأضاف المصدر إلى المفعول { وهو العلي } المتعالي عن الأنداد والأشباه { العظيم } المستحقر بالإضافة إلية كل ما سواه
وهذه الآية مشتملة على أمهات المسائل الإلهية فإنها دالة على أنه تعالى موجود واحد في الألوهية متصف بالحياة واجب لذاته موجد لغيره إذ القيوم هو القائم بنفسه المقيم لغيره منزه عن التحيز والحلول مبرأ عن التغير والفتور لا يناسب الأشباح ولا يعتريه ما يعتري الأرواح مالك الملك والملكوت ومبدع الأصول والفروع ذو البطش الشديد الذي لا يشفع عنده إلا من أذن له عالم الأشياء كلها جليها وحفيها كليها وجزئيها واسع الملك والقدرة كل ما يصح أن يملك ويقدر عليه لا يؤذه شاق ولا يشغله شأن متعال عما يدركه وهو عظيم لا يحيط به فهم ولذلك قال عليه الصلاة و السلام [ إن أعظم آية في القرآن آية الكرسي من قرأها بعث الله ملكا يكتب من حسناته ويمحو من سيئاته إلى الغد من تلك الساعة ] وقال [ من قرأ آيه الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد ومن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله ]

256 - { لا إكراه في الدين } إذ الإكراه إلزام الغير فعلا لا يرى فيه خيرا يحمله عليه ولكن { قد تبين الرشد من الغي } تميز الإيمان من الكفر بالآيات الواضحة ودلت الدلائل على أن الإيمان رشد يوصل إلى السعادة الأبدية والكفر غي يؤدي إلى الشقاوة السرمدية والعاقل متى تبين له ذلك بادرت نفسه إلى الإيمان طلبا للفوز بالسعادة والنجاة ولم يحتج إلى الإكراه والإلجاء وقبل إخبار في معنى النهي أي لا تكرهوا في الدين وهو إما عام منسوخ بقوله { جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } أو خاص بأهل الكتاب لما روي ( أن أنصاريا كان له ابنان تنصرا قبل المبعث ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما وقال : والله لا أدعكما حتى تسلما فأبيا فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : الأنصاري يا رسول الله أيدخل بعقبي النار وأنا أنظر إليه فنزلت فخلاهما ) { فمن يكفر بالطاغوت } بالشيطان أو الأصنام أو كل ما عبد من دون الله أو صد عن عبادة الله تعالى فعلوت من الطغيان قلبت عينه ولامه { ويؤمن بالله } بالتوحيد وتصديق الرسل { فقد استمسك بالعروة الوثقى } طلب الإمساك عن نفسه بالعروة الوثقى من الحبل الوثيق وهي مستعارة لمتمسك الحق من النظر الصحيح والرأي القويم { لا انفصام لها } لا انقطاع لها يقال فصمته فانفصم إذا كسرته { والله سميع } بالأقوال { عليم } بالنيات ولعله تعديد على النفاق

257 - { الله ولي الذين آمنوا } محبهم أو متولي أمورهم والمراد بهم من أراد إيمانه وثبت في علمه أنه يؤمن { يخرجهم } بهدايته وتوفيقه { من الظلمات } ظلمات الجهل واتباع الهوى وقبول الوساوس والشبه المؤدية إلى الكفر { إلى النور } إلى الهدى الموصول إلى الإيمان والجملة خبر بعد خبر أو حال من المستكن في الخبر أو من الموصول أو منهما أو استئناف مبين أو مقرر للولاية { والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت } أي الشياطين أو المضلات من الهوى والشيطان وغيرهما { يخرجونهم من النور إلى الظلمات } من النور الذي منحوه بالفطرة إلى الكفر وفساد الاستعداد والانهماك في الشهوات أومن نور البينات إلى ظلمات الشكوك والشبهات وقيل : نزلت في قوم ارتدوا عن الإسلام وإسناد الإخراج إلى الطاغوت باعتبار التسبب لا يأبى تعلق قدرته تعالى وإرادته بها { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } وعيد وتحذير ولعل عدم مقابلته بوعد المؤمنين تعظيم لشأنهم

258 - { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه } تعجيب من محاجة نمرود وحماقته { أن آتاه الله الملك } لأن آتاه أي أبطره إيتاء الملك وحمله على المحاجة أو حاج لأجله شكرا له على طريقة العكس كقولك عاديتني لأني أحسنت إليك أو وقت أن آتاه الله الملك وهو حجه على من منع إيتاء الله الملك الكافر من المعتزلة { إذ قال إبراهيم } ظرف لـ { حاج } أو بدل من { أن آتاه الله الملك } على الوجه الثاني { ربي الذي يحيي ويميت } بخلق الحياة والموت في الأجساد وقرأ حمزة رب بحذف الياء { قال أنا أحيي وأميت } بالعفو عن القتل وبالقتل وقرأ نافع أنا بلا ألف { قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب } أعرض إبراهيم عليه الصلاة و السلام عن الاعتراض على معارضته الفاسدة إلى الاحتجاج بما لا يقدر فيه نحو هذا التمويه دفعا للمشاغبة وهو في الحقيقة عدول عن مثال خفي إلى مثال جلي من مقدوراته التي يعجز عن الإتيان بها غيره لا عن حجة إلى أخرى ولعل نمرود زعم أنه يقدر أن يفعل كل جنس يفعله الله فنقضه إبراهيم بذلك وإنما حمله عليه بطر الملك وحماقته أو اعتقاد الحلول وقيل لما كسر إبراهيم عليه الصلاة و السلام الأصنام سجنه أياما ثم أخرجه ليحرقه فقال له من ربك الذي تدعو إليه وحاجة فيه { فبهت الذي كفر } فصار مبهوتا وقرئ { فبهت } أي فغلبت إبراهيم الكافر { والله لا يهدي القوم الظالمين } الذين ظلموا أنفسهم بالامتناع عن قبول الهداية وقيل لا يهديهم محجة الاحتجاج أو سبيل النجاة أو طريق الجنة يوم القيامة

259 - { أو كالذي مر على قرية } تقديره أو أرأيت مثل الذي فحذف لدلالة ألم تر عليه وتخصيصه بحرف التشبيه لأن المنكر للإحياء كثير والجاهل بكيفيته أكثر من أن يحصي بخلاف مدعي الربوبية وقيل الكاف مزيدة وتقدير الكلام ألم تر إلى الذي حاج أو الذي مر وقيل إنه عطف محمول على المعنى كأنه قيل : ألم تر كالذي حاج أو كالذي مر وقيل : إنه من كلام إبراهيم ذكره جوابا لمعارضته وتقديره أو إن كنت تحيي فأحيي كإحياء الله تعالى الذي مر على قرية وهو عزير بن شرحيا أو الخضر أو كافر بالبعث ويؤيده نظمه مع نمرود والقرية هي بيت المقدس حين خربه بختنصر وقيل القرية التي خرج منها الألوف وقيل غيرهما واشتقاقها من القرى وهو الجمع { وهي خاوية على عروشها } خالية ساقطة حيطانها على سقوفها { قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها } اعترافا بالقصور عن معرفة طريق الإحياء واستعظاما لقدرة المحيي إن كان القائل مؤمنا واستبعادا إن كان كافرا و { أنى } في موضع نصب على الظرف بمعنى متى أو على الحال بمعنى كيف { فأماته الله مائة عام } فألبثه ميتا مائة عام أو أماته الله فلبث ميتا مائة عام { ثم بعثه } بالإحياء { قال كم لبثت } القائل هو الله وساغ أن يكلمه وإن كان كافرا لأنه آمن بعد البعث أو شارف الإيمان وقيل ملك أو نبي { قال لبثت يوما أو بعض يوم } كقول الظان وقيل : إنه مات ضحى وبعث بعد المائة قبيل الغروب فقال قبل النظر إلى الشمس يوما ثم التفت فرأى بقية منها فقال أو بعض يوم على الإضراب { قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه } لم يتغير بمرور الزمان واشتقاقه من السنة والهاء أصلية إن قدرت لام السنة هاء وهاء سكت إن قدرت واوا وقيل أصله لم يتسنن من الحمأ المسنون فأبدلت النون الثالثة حرف علة كتقضى البازي وإنما أفرد الضمير لأن الطعام والشرب كالجنس الواحد وقيل كان طعامه تينا وعنبا وشرابه عصيرا أو لبنا وكان الكل على حاله ز وقرأ حمزة و الكسائي لم يتسن بغير الهاء في الوصل { وانظر إلى حمارك } كيف تفرقت عظامه أو انظر إليه سالما في مكانه كما ربطته حفظناه بلا ماء وعلف كما حفظناه الطعام والشراب من التغير والأول أدل على الحال وأوفق لما بعده { ولنجعلك آية للناس } أي وفعلنا ذلك لنجعلك آية روي أنه أتى قومه على حماره وقال أنا عزير فكذبوه فقرأ التوراة من الحفظ ولم يحفظها أحد قبله فعرفوه بذلك وقالوا هو ابن الله وقيل لما رجع إلى منزله كان شابا وأولاده شيوخا فإذا حدثهم بحديث قالوا حديث مائة سنة { وانظر إلى العظام } يعني عظام الحمار أو الأموات الذين تعجب من إحيائهم { كيف ننشزها } كيف نحييها أو نرفع بعضها على بعض ونركبه عليه وكيف منصوب بنشزها والجملة حال من العظام أي : انظر إليها محياة وقرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو و يعقوب ننشرها من أنشر الله الموتى وقرئ ننشرها من نشر بمعنى أنشر { ثم نكسوها لحما فلما تبين له } فاعل تبين مضمر يفسره ما بعده تقدير ه : فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير { قال أعلم أن الله على كل شيء قدير } فحذف الأول لدلالة الثاني عليه أو يفسره ما قبله أن فلما تبين له ما أشكل عليه وقرأ حمزة و الكسائي { قال أعلم } على الأمر مخاطبة أو هو نفسه خاطبها به على طريق التبكيت

260 - { وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى } إنما سأل ذلك ليصير علمه عيانا وقيل لما قال نمرود أنا أحيي وأميت قال له : إن إحياء الله تعالى برد الروح إلى بدنها فقال ليطمئن قلبه على الجواب إن سئل عنه مرة أخرى { قال أولم تؤمن } بأني قادر على الإحياء بإعادة التركيب والحياة قال له ذلك وقد علم أنه أغرق الناس في الإيمان ليجيب بما أجاب به فيعلم السامعون غرضه { قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } أي بلى آمنت ولكن سألت ذلك لأزيد بصيرة وسكون قلب العيان إلى الوحي أو الاستدلال { قال فخذ أربعة من الطير } قيل طاووسا وديكا وغرابا وحمامة ومنهم من ذكر النسر بدل الحمامة وفيه إيماء إلى أن إحياء النفس بالحياة الأبدية إنما يتأتى بإماتة حب الشهوات والزخارف الذي هو صفة الطاووس والصولة المشهورة بها الديك وخسة النفس وبعد الأمل المتصف بهما الغراب والترفع والمسارعة إلى الهوى الموسوم بهما الحمام وإنما خص الطير لأنه أقرب إلى الإنسان وأجمع لخواص الحيوان والطير مصدر سمي به أو جمع كصحب { فصرهن إليك } فأملهن واضممهن إليك لتتأملها وتعرف شياتها لئلا تلتبس عليك بعد الإحياء وقرأ حمزة و يعقوب { فصرهن } بالكسر وهما لغتان قال :
( وما صيد الأعناق فيهم حيلة ... ولكن أطراف الرماح تصورها )
و قال :
( وفرع يصير الجيد وحف كأنه ... على الليث قنوان الكروم الدوالح )
و قرئ { فصرهن } بضم الصاد وكسرها هما لغتان مشددة الراء من صره يصره ويصره إذا جمعه وفصرهن من التصرية وهي الجمع أيضا { ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا } أي ثم جزئهن وفرق أجزاءهن على الجبال التي بحضرتك قيل كانت أربعة وقيل سبعة وقرأ أبو بكر جزؤا و جزؤ بضم الزاي حيث وقع { ثم ادعهن } قل لهن تعالين بإذن الله تعالى { يأتينك سعيا } ساعيات مسرعات طيرانا أو مشيا روي أنه أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويقطعها فيمسك رؤوسها ويخلط سائر أجزائها ويوزعها على الجبال ثم يناديهن ففعل ذلك إشارة إلى أن من أراد إحياء نفسه بالحياة الأبدية فعليه أن يقبل على القوى البدنية فيقتلها ويمزج بعضها ببعض حتى تنكسر سورتها فيطاوعنه مسرعات متى دعاهن بدعاية العقل أو الشرع وكفى لك شاهدا على فضل إبراهيم عليه الصلاة و السلام ويمن الضراعة في الدعاء وحسن الأدب في السؤال إنه تعالى أراه ما أراد أن يريه في الحال على أيسر الوجوه وأراه عزيرا بعد أن أماته مائة عام { واعلم أن الله عزيز } لا يعجز عما يريده { حكيم } ذو حكمة بالغة في كل ما يفعله ويذره

261 - { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة } أي مثل نفقتهم كمثل حبة أو مثلهن كمثل باذر حبة على حذف المضاف { أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة } أسند الإنبات إلى الحبة لما كانت من الأسباب كما يسند إلى الأرض والماء والمنبت على الحقيقة هو الله تعالى والمعنى : أنه يخرج منها ساق يتشعب لكل منه سبع شعب لكل منها سنبلة فيها مائة حبة وهو تمثيل لا يقتضي وقوعه وقد يكون في الذرة والدخن في البر في الأراضي المغلة { والله يضاعف } تلك المضاعفة { لمن يشاء } بفضله وعلى حسب حال المنفق من إخلاصه وتعبه ومن أجل تفاوتت الأعمال في مقادير الثواب ز { والله واسع } لا يضيق عليه ما يتفضل به من الزيادة { عليم } بنية المنفق وقدر إنفاقه

262 - { الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى } نزلت في عثمان رضي الله تعالى عنه فإنه جهز جيش العسرة بألف بعير بأقتابها وأحلاسها وعبد الرحمن بن عوف فإنه أتى النبي صلى الله عليه و سلم بأربعة آلاف درهم صدقة والمن أن يعتد بإحسانه على من أحسن إليه والأذى أن يتطاول عليه بسبب ما أنعم إليه وثم للتفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى { لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } لعله لم يدخل الفاء فيه وقد تضمن ما أسند إليه معنى الشرط إيهاما بأنهم أهل لذلك وإن لم يفعلوا فكيف بهم إذا فعلوا

264 - { قول معروف } رد جميل { ومغفرة } وتجاوز عن السائل والحاجة أو نيل المغفرة من الله بالرد الجميل أو عفو من السائل بأن يعذر ويغتفر رده { خير من صدقة يتبعها أذى } خبر عنهما وإنما صح الابتداء بالنكرة لاختصاصها بالصفة { والله غني } عن إنفاق بمن وإيذاء { حليم } عن معالجة من يمن ويؤذي بالعقوبة

264 - { يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى } لا تحبطوا أجرها بكل واحد منهما { كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر } كإبطال المنافق الذي يرائي بإنفاقه ولا يريد به رضا الله تعالى ولا ثواب الآخرة أو مماثلين الذي ينفق رئاء الناس والكاف في محل النصب على المصدر أو الحال و { رئاء } نصب على المفعول له أو الحال بمعنى مرائيا أو المصدر أي إنفاق { رئاء } { فمثله } أي فمثل المرائي في إنفاقه ز { كمثل صفوان } كمثل حجر أملس ز { عليه تراب فأصابه وابل } مطر عظيم القطر { فتركه صلدا } أملس نقيا من التراب { لا يقدرون على شيء مما كسبوا } لا ينتفعون بما فعلوا رئاء ولا يجدون له ثوابا والضمير للذي ينفق باعتبار المعنى لأن المراد به الجنس أو الجمع كما في قوله :
( إن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد )
{ والله لا يهدي القوم الكافرين } إلى الخير والرشاد وفيه تعريض بأن الرئاء والمن والأذى على الإنفاق من صفات الكفار ولا بد للمؤمن أن يتجنب عنها

265 - { مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم } و تثبيتا بعض أنفسهم على الإيمان فإن المال شقيق الروح فمن بذل ماله لوجه الله ثبت بعض نفسه ومن بذل ماله وروحه ثبتها كلها أو تصديقا للإسلام وتحقيقا للجزاء مبتدأ من أصل أنفسهم وفيه تنبيه على أن حكمة الإنفاق للمنفق تزكية النفس عن البخل وحب المال { كمثل جنة بربوة } أي ومثل نفقة هؤلاء في الزكاة كمثل بستان بموضع مرتفع فإن شجره يكون أحسن منظرا وأزكى ثمرا وقرأ ابن عامر و عاصم { بربوة } بالفتح وقرئ بالكسر وثلاثتها لغات فيها { أصابها وابل } مطر عظيم القطر { فآتت أكلها } ثمرتها وقرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو بالسكون للتخفيف { ضعفين } مثلي ما كنت تثمر بسبب الوابل والمراد بالضعف المثل كما أريد بالزوج الواحد في قوله تعالى ز { من كل زوجين اثنين } و قيل : أربعة أمثاله ونصبه على الحال أي مضاعفا ز { فإن لم يصبها وابل فطل } أي فيصيبها أو فالذي يصيبها طل أو فطل يكفيها لكرم منبتها وبرودة هوائها لارتفاع مكانها وهو المطر الصغير القطر والمعنى أن نفقات هؤلاء زاكية عند الله لا تضيع بحال وإن كانت تتفاوت باعتبار ما ينضم إليها من أحواله ويجوز أن يكون التمثيل لحالهم عند الله تعالى بالجنة على الربوة ونفقاتهم الكثيرة والقليلة الزائدتين في زلفاهم بالوابل والطل { والله بما تعملون بصير } تحذير عن الرئاء وترغيب في الإخلاص

266 - { أيود أحدكم } الهمزة فيه للإنكار ز { أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات } جعل الجنة منهما مع ما فيها من سائر الأشجار تغلبا لهما لشرفهما وكثرة منافعهما ثم ذكر أن فيها من كل الثمرات ليدل على احتوائها على سائر أنواع الأشجار ويجوز أن يكون المراد بالثمرات المنافع ز { وأصابه الكبر } أي كبر السن فإن الفاقة والعالة في الشيخوخة أصعب والواو للحال أو للعطف حملا على المعنى فكأنه قيل : أيود أحدكم لو كانت له جنة وأصابه الكبر { وله ذرية ضعفاء } صغار لا قدرة لهم على الكسب { فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت } عطف على أصابه أو تكون باعتبار المعنى والإعصار ريح عاصفة تنعكس من الأرض إلى السماء مستديرة كعمود والمعنى تمثيل حال من يفعل الأفعال الحسنة ويضم إليها ما يحبطها كرياء وإيذاء في الحسرة الأسف فإذا كان يوم القيامة واشتدت حاجته إليها وجدها محبطة بحال من هذا شأنه وأشبههم به من جال بسره في عالم الملكوت وترقى بفكره إلى جناب الجبروت ثم نكص على عقبيه إلى عالم الزور والتفت إلى ما سوى الحق وجعل سعيه هباء منثورا { كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون } أي تتفكرون فيها فتعتبرون بها

267 - { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم } من حلاله أو جياده { ومما أخرجنا لكم من الأرض } أي ومن طيبات ما أخرجنا لكم من الحبوب والثمرات والمعادن فحذف المضاف لتقدم ذكره { ولا تيمموا الخبيث منه } أي ولا تقصدوا الرديء منه أي من المال أو مما أخرجنا لكم وتخصيصه بدلك لأن التفاوت فيه أكثر وقرئ ولا تؤمموا ولا تيمموا بضم التاء { تنفقون } حال مقدرة من فاعل تيمموا ويجوز أن يتعلق به منه ويكون الضمير للخبيث والجملة حالا منه { ولستم بآخذيه } أي وحالكم أنكم لا تأخذونه في حقوقكم لردائته { إلا أن تغمضوا فيه } إلا أن تتسامحوا فيه مجاز من أغمض بصره إذا غضه وقرئ { تغمضوا } أي تحملوا على الإغماض أو توجدوا مغمضين وعن ابن عباس رضي الله عنه : كانوا يتصدقون بحشف التمر وشراره فنهوا عنه { واعلموا أن الله غني } عن إنفاقكم وإنما بأمركم به لانتفاعكم { حميد } بقبوله وإثابته

268 - { الشيطان يعدكم الفقر } في الإنفاق والوعد في الأصل شائع في الخير والشر وقرئ { الفقر } بالضم والسكون وبضمتين وفتحتين { ويأمركم بالفحشاء } ويغريكم على البخل والعرب تسمي البخيل فاحشا وقيل المعاصي { والله يعدكم مغفرة منه } أي يعدكم في الإنفاق مغفرة لذنوبكم { وفضلا } خلفا أفضل مما أنفقتم في الدنيا أو في الآخرة { والله واسع } أي واسع الفضل لمن أنفق { عليم } بإنفاقه

269 - { يؤتي الحكمة } تحقيق العلم وإتقان العلم { من يشاء } مفعول أول أخر للإهتمام بالمفعول الثاني { ومن يؤت الحكمة } بناؤه للمفعول لأنه المقصود وقرأ يعقوب بالكسر أي ومن يؤته الله الحكمة { فقد أوتي خيرا كثيرا } أي : خير كثير ؟ إذ حيز له خير الدارين { وما يذكر } وما يتعظ بما قص من الآيات أو ما يتفكر فإن المتفكر كالمتذكر لما أودع الله في قلبه من العلوم بالقوة { إلا أولو الألباب } ذوو العقول الخالصة عن شوائب الوهم والركون إلى متابعة الهوى

270 - { وما أنفقتم من نفقة } قليلة أو كثيرة سرا أو علانية في حق أو باطل { أو نذرتم من نذر } بشرط أو بغير شرط في طاعة أو معصية { فإن الله يعلمه } فيجازيكم عليه { وما للظالمين } الذين ينفقون في المعاصي وينذرون فيها أو يمنعون الصدقات ولا يوفون بالنذر { من أنصار } من ينصرهم من الله ويمنعهم من عقابه

271 - { إن تبدوا الصدقات فنعما هي } فنعم شيئا إبداؤها وقرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي بفتح النون وكسر العين على الأصل وقرأ أبو بكر و أبو عمرو وقالون بكسر النون وسكون العين و روي عنهم بكسر النون وإخفاء حركة العين وهو أقيس { وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء } أي تعطوها مع الإخفاء { فهو خير لكم } فالإخفاء خير لكم وهذا في التطوع ولمن لم يعرف بالمال فإن إيداء الغرض لغيره أفضل لنفي التهمة عنه عن ابن عباس رضي الله عنهما ( صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها سبعين ضعفا وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا ) { ويكفر عنكم من سيئاتكم } قرأ ابن عامر و عاصم في رواية حفص بالياء أي والله يكفر أو الإخفاء وقرأ ابن كثير و أبو عمرو و عاصم في رواية ابن عياش و يعقوب بالنون مرفوعا على أنه فعلية مبتدأة أو إسمية معطوفة على ما بعد الفاء أي : ونحن نكفر وقرأ نافع و حمزة و الكسائي به مجزوما على محل الفاء وما بعده وقرئ بالتاء مرفوعا ومجزوما والفعل للصدقات { و الله بما تعملون خبير } ترغيب في الإسرار

272 - { ليس عليك هداهم } لا يجب عليك أن تجعل الناس مهديين وإنما عليك الإرشاد والحث على المحاسن والنهي عن المقابح كالمن والأذى وإنفاق الخبيث { ولكن الله يهدي من يشاء } صريح بأن الهداية من الله تعالى وبمشيئته وإنها تخص بقوم دون قوم { وما تنفقوا من خير } من نفقة معروفة ز { فلأنفسكم } فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيركم فلا تمنوا عليه ولا تنفقوا الخبيث { وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله } حال وكأنه قال وما تنفقون من خير فلأنفسكم غير منفقين إلا لابتغاء وجه الله وطلب ثوابه أو عطف على ما قبله أي وليست نفقتكم إلا لابتغاء وجهه فما بالكم تمنون بها وتنفقون الخبيث وقيل : نفي في معنى النهي { وما تنفقوا من خير يوف إليكم } ثوابه أضعافا مضاعفة فهو تأكيد للشرطية السابقة أو ما يخلف للمنفق استجابة لقوله عليه الصلاة و السلام [ اللهم اجعل لمنفق خلفا ولممسك تلفا ] روي : أن ناسا من المسلمين كانت لهم أصهار ورضاع في اليهود وكانوا ينفقون عليهم فكرهوا لما أسلموا أن ينفعوهم فنزلت وهذا في غير الواجب أما الواجب فلا يجوز صرفه إلى الكفار { وأنتم لا تظلمون } أي لا تنقصون ثواب نفقاتكم

273 - { للفقراء } متعلق بمحذوف أي عمدوا للفقراء أو اجعلوا ما تنفقونه للفقراء أو صدقاتكم للفقراء { الذين أحصروا في سبيل الله } أحصرهم الجهاد { لا يستطيعون } لاشتغالهم به { ضربا في الأرض } ذهابا فيها للكسب وقيل هم أهل الصفة كانوا نحوا من أربعمائة من فقراء المهاجرين يسكنون صفة المسجد يستغرقون أوقاتهم بالتعلم والعبادة وكانوا يخرجون في كل سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه و سلم { يحسبهم الجاهل } بحالهم وقرأ ابن عامر و عاصم و حمزة بفتح السين { أغنياء من التعفف } من أجل تعففهم عن السؤال { تعرفهم بسيماهم } من الضعف ورثاثة الحال والخطاب للرسول صلى الله عليه و سلم أو لكل أحد { لا يسألون الناس إلحافا } إلحاحا وهو أن يلازم المسؤول حتى يعطيه من قولهم لحفي من فضل لحافه أي أعطاني من فضل ما عنده والمعنى أنهم لا يسألون وإن سألوا عن ضرورة لم يلحوا وقيل : هو نفي للأمرين كقوله :
( على لا حب لا يهتدي بمناره )
فنصبه على المصدر فإنه كنوع من السؤال أو على الحال { ما تنفقوا من خير فإن الله به عليم } ترغيب في الإنفاق وخصوصا على هؤلاء

274 - { الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية } أي يعمون الأوقات والأحوال بالخير نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه تصديق بأربعين ألف دينار عشرة بالليل وعشرة بالنهار وعشرة بالسر وعشرة بالعلانية وقيل في أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه : لم يملك إلا أربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلا ودرهم نهارا ودرهم سرا ودرهم علانية وقيل : في ربط الخيل في سبيل الله والإنفاق عليها { فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } خبر الذين ينفقون والفاء للسببية وقيل للعطف والخبر محذوف أي ومنهم الذين ولذلك جوز الوقف على وعلانية

275 - { الذين يأكلون الربا } أي الآخذون له وإنما ذكر الأكل لأنه أعظم منافع المال ولأن الربا شائع في المطعومات وهو زيادة في الأجل بأن يباع مطعوم أو نقد بنقد إلى أجل أو في العوض بأن يباع أحدهما بأكثر منه من جنسه وإنما كتب بالواو كالصلاة للتفخيم على لغة وزيدت الألف بعدها تشبيها بواو الجمع { لا يقومون } إذا بعثوا من قبورهم { إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان } إلا قياما كقيام المصروع وهو وارد على ما يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع والخبط ضرب على غير اتساق كخبط العشواء { من المس } أي الجنون وهذا أيضا من زعمائهم أن الجني يمسه فيختلط عقله ولذلك قيل : جن الرجل وهو متعلق بـ { لا يقومون } أي لا يقومون من المس الذي بهم بسبب أكل الربا أو بيقوم أو بيتخبط فيكون نهوضهم وسقوطهم كالمصروعين لا لاختلال عقولهم ولكن لأن الله أربى في بطونهم ما أكلوه من الربا فأثقلهم { ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا } أي ذلك العقاب بسبب أنهم نظموا الربا والبيع في سلك واحد لإفضائهما إلى الربح فاستحلوه استحلاله وكان الأصل إنما الربا مثل البيع ولكن عكس للمبالغة كأنهم جعلوا الربا أصلا وقاسوا به البيع والفرق بين فإن من أعطى درهمين بدرهم ضيع درهما ومن اشترى سلعة تساوي درهما بدرهمين فلعل مساس الحاجة إليها أو توقع رواجها يجبر هذا الغبن { وأحل الله البيع وحرم الربا } إنكار لتسويتهم وإبطال القياس بمعارضة النص { فمن جاءه موعظة من ربه } فمن بلغه وعظ من الله تعالى وزجر كالنفي عن الربا { فانتهى } فاتعظ وتبع النهي { فله ما سلف } تقدم أخذه التحريم ولا يسترد منه وما في موضع الرفع بالظرف إن جعلت من موصولة وبالابتداء إن جعلت شرطية على رأي سيبويه إذ الظرف غير معتمد على ما قبله { وأمره إلى الله } يجازيه على انتهائه إن كان من قبول الموعظة وصدق النية وقيل يحكم في شأنه ولا اعتراض لكم عليه { ومن عاد } إلى تحليل الربا إذ الكلام فيه { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } لأنهم كفروا به

276 - { يمحق الله الربا } يذهب ببركته ويهلك المال الذي يدخل فيه { ويربي الصدقات } يضاعف ثوابها ويبارك فيما أخرجت منه وعنه عليه الصلاة و السلام [ إن الله يقبل الصدقة ويربيها كما يربي أحدكم مهره ] وعنه عليه الصلاة و السلام [ ما نقصت زكاة من مال قط ] { والله لا يحب } لا يرضى ولا يحب محبته للتوابين { كل كفار } مصر على تحليل المحرمات { أثيم } منهمك في ارتكابه

277 - { إن الذين آمنوا } بالله ورسوله وبما جاءهم منه { وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة } عطفها على ما يعمهما لأنافتهما على سائر الأعمال الصالحة { لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم } من آت { ولا هم يحزنون } على فائت

278 - { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا } واتركوا بقايا ما شرطتم على الناس من الربا { إن كنتم مؤمنين } بقلوبكم فإن دليله امتثال ما أمرتم به روي : أنه كان لثقيف مال على بعض قريش فطالبوهم عند المحل بالمال والربا فنزلت

279 - { فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } أي فاعلموا بها من أذن بالشيء إذا علم به وقرأ حمزة و عاصم في رواية ابن عياش فآذنوا أي فاعلموا بها غيركم من الأذن وهو الاستماع فإنه من طرق العلم وتنكير حرب للتعظيم وذلك يقتضي أن يقاتل المربي بعد الاستتابة حتى يفيء إلى أمر الله كالباغي ولا يقتضي كفره روي : أنها لما نزلت قالت ثقيف لا أيدي لنا بحرب الله ورسوله { وإن تبتم } من الارتباء واعتقاد حله { فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون } بأخذ الزيادة { ولا تظلمون } بالمطل والنقصان ويفهم منه أنها إن لم يتوبوا فليس لهم رأس مالهم وهو سديد على ما قلناه إذ المصر على التحليل مرتد وماله فيء :

280 - { وإن كان ذو عسرة } وإن وقع غريم ذو عسرة وقرئ ذا عسرة أي وإن كان الغريم ذا عسرة { فنظرة } فالحكم نظرة أو فعليكم نظرة أو فليكن نظرة وهي الإنظار وقرئ فناظره على الخبر أي فالمستحق ناظره بمعنى منتظره أو صاحب نظرته على طريق النسب وفناظره على الأمر أي فسامحه بالنظرة { إلى ميسرة } يسار وقرأ نافع و حمزة بضم السين وهما لغتان كمشرقة ومشرقة وقرئ بهما مضافين بحذف التاء عند الإضافة كقوله : { أخلفوا الله ما وعدوه } { وأن تصدقوا } بالإبراء وقرأ عاصم بتخفيف الصاد { خيرا لكم } أكثر ثوابا من الإنظار أو خير مما تأخذون لمضاعفة ثوابه ودوامه وقيل : المراد بالتصدق الإنظار لقوله عليه الصلاة و السلام [ لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة ] { إن كنتم تعلمون } ما فيه من الذكر الجميل الجزيل

281 - { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله } يوم القيامة أو يوم الموت فتأهبوا لمصيركم إليه وقرأ أبو عمرو و يعقوب بفتح التاء وكسر الجيم { ثم توفى كل نفس ما كسبت } جزاء ما عملت من خير أو شر { وهم لا يظلمون } بنقص ثواب وتضعيف عقاب وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ( إنها آخر آية نزل بها جبريل عليه السلام وقال ضعها في رأس المائتين والثمانين من البقرة ) وعاش رسول الله صلى الله عليه و سلم بعدها أحدا وعشرين يوما وقيل أحدا و وثمانين يوما وقيل سبعة أيام وقيل ثلاثة ساعات

282 - { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين } أي إذا داين بعضكم بعضا تقول : داينته إذا عاملته نسيئة معطيا أو آخذا وفائدة ذكر الدين أن لا يتوهم من التداين المجازاة ويعلم تنوعه إلى المؤجل والحال وأنه الباعث على الكتبة ويكون مرجع ضمير فاكتبوه { إلى أجل مسمى } معلوم الأيام والأشهر لا بالحصاد وقدوم الحاج { فاكتبوه } لأنه أوثق وادفع للنزاع والجمهور على أنه استحباب وعن ابن عباس رضي الله عنهما ( أن المراد به المسلم وقال لما حرم الله الربا أباح السلم ) { وليكتب بينكم كاتب بالعدل } من يكتب السوية لا يزيد ولا ينقص وهو في الحقيقة أمر للمتداينين باختيار كاتب فقيه دين حتى يجيء مكتوبة موثوقا به معدلا بالشرع { ولا يأب كاتب } ولا يمتنع أحد من الكتاب { أن يكتب كما علمه الله } مثل ما علمه الله من كتبة الوثائق أو لا يأب أن ينفع الناس بكتابته كما نفعه الله بتعليمها كقوله : { وأحسن كما أحسن الله إليك } { فليكتب } تلك الكتابة المعلمة أمر بها بعد النهي عن الإباء عنها تأكيدا ويجوز أن تتعلق الكاف بالأمر فيكون النهي عن الامتناع منها مطلقة ثم الأمر بها مقيدة { وليملل الذي عليه الحق } وليكن المملي من عليه الحق لأنه المقر المشهود عليه والإملال والإملاء واحد { وليتق الله ربه } أي المملي أو الكاتب { ولا يبخس } ولا ينقص { منه شيئا } أي من الحق أو مما أملى عليه { فإن كان الذي عليه الحق سفيها } ناقص العقل مبذرا { أو ضعيفا } صبيا أو شيخا مختلا { أو لا يستطيع أن يمل هو } أو غير مستطيع للإملال بنفسه لخرس أو جهل باللغة { فليملل وليه بالعدل } أي الذي يلي أمره ويقوم مقامه من قيم إن كان صبيا أو مختل العقل أو وكيل أو مترجم إن كان غير مستطيع وهو دليل جريان النيابة في الإقرار ولعله مخصوص بما تعاطاه القيم أو الوكيل { واستشهدوا شهيدين } واطلبوا أن يشهد على الدين شاهدان { من رجالكم } من رجال المسلمين وهو دليل اشتراط إسلام الشهود وإليه ذهب عامة العلماء وقال أبو حنيفة : تقبل شهادة الكفار بعضهم على بعض { فإن لم يكونا رجلين } فإن لم يكن الشاهدان رجلين { فرجل وامرأتان } فليشهد أو فليستشهد رجل وامرأتان وهذا مخصوص بالأموال عندنا وبما عدا الحدود والقصاص عند أبي حنيفة { ممن ترضون من الشهداء } لعلمكم بعدالتهم { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } علة اعتبار العدد أي لأجل أن إحداهما إن ضلت الشهادة بأن نسيتها ذكرتها الأخرى والعلة في الحقيقة التذكير ولكن لما كان الضلال سببا له نزل منزلته كقولهم : أعددت السلاح أن يجيء عدو فأدفعه وكأنه قيل : إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت وفيه إشعار بنقصان عقلهن وقلة ضبطهن وقرأ حمزة { أن تضل } على الشرط فتذكر بالرفع وابن كثير و أبو عمرو و يعقوب { فتذكر } من الإذكار { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } لأداء الشهادة أو التحمل وسموا شهداء قبل التحمل تنزيلا لما يشارف منزلة الواقع و { ما } مزيدة { ولا تسأموا أن تكتبوه } ولا تملوا من كثرة مدايناتكم أن تكتبوا الدين أو الحق أو الكتاب وقيل كنى بالسأم عن الكسل لأنه صفة المنافق ولذلك قال عليه الصلاة و السلام [ لا يقول المؤمن كسلت ] { صغيرا أو كبيرا } صغيرا كان الحق أو كبيرا أو مختصرا كان الكاتب أو مشبعا { إلى أجله } إلى وقت حلوله الذي أقر به المديون { ذلكم } إشارة إلى أن تكتبوه { أقسط عند الله } أكثر قسطا { وأقوم للشهادة } وأثبت لها وأعون على إقامتها وهما مبنيان من أقسط وأقام على غير قياس أو من قاسط بمعنى ذي قسط وقويم وإنما صحت الواو في { أقوم } كما صحت في التعجب لجموده { وأدنى أن لا ترتابوا } وأقرب في أن لا تشكوا في جنس الدين وقدره وأجله والشهود ونحو ذلك { إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها } استثناء من الأمر بالكتابة والتجارة الحاضرة تعم المبايعة بدين أو عين وإدارتها بينهم تعاطيهم إياها يدا بيد أي : إلا أن تتبايعوا يدا بيد فلا بأس أن تكتبوا لبعده عن التنازع والنسيان ونصب عاصم { تجارة } على أنه الخبر والاسم مضمر تقديره إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة كقوله :
( بني أسد هل تعلمون بلاءنا ... إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا )
ورفعها الباقون على أنها الاسم والخبر تديرونها أو على كان التامة { وأشهدوا إذا تبايعتم } هذا التبايع أو مطلقا لأنه أحوط والأوامر التي في هذه الآية للاستحباب عند أكثر الأئمة وقيل : إنها للوجوب ثم اختلف في إحكامها ونسخها { ولا يضار كاتب ولا شهيد } يحتمل البناءين ويدل عليه أنه قرئ { ولا يضار } بالكسر والفتح وهو نهيهما عن ترك الإجابة والتحريف والتغيير في الكتب والشهادة أو النهي عن الضرار بهما مثل أن يعجلا عن مهم ويكلفا الخروج عما حد لهما ولا يعطى الكاتب جعله والشهيد مؤنة مجيئه حيث كان { وإن تفعلوا } الضرار أو ما نهيتم عنه { فإنه فسوق بكم } خروج عن الطاعة لا حق بكم { واتقوا الله } في مخالفة أمره ونهيه { ويعلمكم الله } أحكامه المتضمنة لمصالحكم { والله بكل شيء عليم } كرر لفظه الله في الجمل الثلاث لاستقلالها فإن الأولى حث على التقوى والثانية وعد بإنعامه والثالثة تعظيم لشأنه ولأنه أدخل في التعظيم من الكناية

283 - { وإن كنتم على سفر } أي مسافرين { ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة } فالذي يستوثق به رهان أو فعليكم رهان أو فليؤخذ رهان وليس هذا التعليق لاشتراط السفر في الإرتهان كما ظنه مجاهد و الضحاك رحمهما الله تعالى لأنه عليه السلام رهن درعه في المدينة من يهودي على عشرين صاعا من شعير أخذه لأهله بل لإقامة التوثق للإرتهان مقام التوثق بالكتابة في السفر الذي هو مظنة إعوازها والجمهور على اعتبار القبض فيه غير مالك وقرأ ابن كثير و أبو عمرو فرهن كسقف وكلاهما جمع رهن بمعنى مرهون : وقرئ بإسكان الهاء على التخفيف { فإن أمن بعضكم بعضا } أي بعض الدائنين بعض المديونين واستغنى بأمانته عن الارتهان { فليؤد الذي اؤتمن أمانته } أي دينه سماه أمانة لائتمانه عليه بترك الارتهان به وقرئ الذي ايتمن بقلب الهمزة ياء و الذي أتمن بإدغام الياء في التاء وهو خطأ لأن المنقلبة عن الهمزة في حكمها فلا تدغم { وليتق الله ربه } في الخيانة وإنكار الحق وفيه مبالغات { ولا تكتموا الشهادة } أيها الشهود أو المدينون والشهادة شهادتهم على أنفسهم { ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } أي يأثم قلبه أو قلبه يأثم والجملة خبر إن وإسناد الإثم إلى القلب لأن الكتمان ونظيره : العين زانية والأذن زانية أو للمبالغة فإنه رئيس الأعضاء وأفعاله أعظم الأفعال وكأنه قيل : تمكن الإثم في نفسه وأخذ أشرف أجزائه وفاق سائر ذنوبه وقرئ { قلبه } بالنصب كحسن وجهه { والله بما تعملون عليم } تهديد

284 - { لله ما في السموات وما في الأرض } خلقا وملكا { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } يعني ما فيها من السوء والعزم عليه لترتب المغفرة والعذاب عليه { يحاسبكم به الله } يوم القيامة وهو حجة على من أنكر الحساب كالمعتزلة والروافض { فيغفر لمن يشاء } مغفرته { ويعذب من يشاء } تعذيبه وهو صريح في نفي وجوب التعذيب وقد رفعهما ابن عامر و عاصم و يعقوب على الاستئناف وجزمهما الباقون عطفا على جواب الشرط ومن جزم بغير فاء جعلهما بدلا منه يدل البعض من الكل أو الاشتمال كقوله :
( متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطبا جزلا ونارا تأججا )
وإدغام الراء في اللام لحن إذ الراء لا تدغم إلا في مثلها { والله على كل شيء قدير } فيقدر على الإحياء والمحاسبة

285 - { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه } شهادة وتنصيص من الله تعالى على صحة إيمانه والإعتداد به وإنه جازم في أمره غير شاك فيه { والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله } لا يخلو من أن يعطف { المؤمنون } على { الرسول } فيكون الضمير الذي ينوب عنه التنوين راجعا إلى { الرسول } { والمؤمنين } أو يجعل مبتدأ فيكون الضمير للمؤمنين وباعتبار يصح وقوع كل بخبره خبر المبتدأ ويكون إفراد الرسول بالحكم إما لتعظيمه أو لأن إيمانه عن مشاهدة وعيان وإيمانهم عن نطر واستدلال وقرأ حمزة و الكسائي وكتابه يعني القرآن أو الجنس والفرق بينه وبين الجمع أنه شائع في وحدان الجنس والجمع في جموعه ولذلك قيل : الكتاب أكثر من الكتب { لا نفرق بين أحد من رسله } أي يقولون لا تفرق وقرأ يعقوب لا يفرق بالياء على أن الفعل لـ { كل } وقرئ لا يفرقون حملا على معناه كقوله تعالى : { وكل أتوه داخرين } واحد في معنى الجمع لوقوعه في سياق النفي كقوله تعالى : { فما منكم من أحد عنه حاجزين } ولذلك دخل عليه بين والمراد نفي الفرق بالتصديق والتكذيب { وقالوا سمعنا } أجبنا { وأطعنا } أمرك { غفرانك ربنا } اغفر لنا غفرانك أو نطلب غفرانك { وإليك المصير } المرجع بعد الموت وهو إقرار منهم بالبعث

286 - { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } إلا ما تسعه قدرتها فضلا ورحمة أو ما دون مدى طاقتها بحيث يتسع فيه طوقهاويتيسر عليها كقوله تعالى : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } وهو يدل على عدم وقوع التكليف بالمحال ولا يدل على امتناعه { لها ما كسبت } من خير { وعليها ما اكتسبت } من شر لا ينتفع بطاعتها ولا يتضرر بمعاصيها غيرها وتخصيص الكسب بالخير والاكتساب بالشر لأن الاكتساب فيه احتمال والشر تشتهيه النفس وتنجذب إليه فكانت أجد في تحصيله وأعمل بخلاف الخير { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } أي لا تؤاخذنا بما أدى بنا إلى نسيان أو خطأ من تفريط وقلة مبالاة أو بأنفسهما إذ لا تمتنع المؤاخذة بهما عقلا فإن الذنوب كالسموم فكما أن تناولها يؤدي إلى الهلاك ـ وإن كان خطأ ـ فتعاطي الذنوب لا يبعد أن يفضي إلى العقاب وإن لم تكن عزيمة لكنه تعالى وعد التجاوزعنه رحمة وفضلا فيجوز أن يدعو الإنسان به استدامة واعتدادا بالنعمة فيه ويؤيد ذلك مفهوم قوله عليه الصلاة و السلام [ رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ] { ربنا ولا تحمل علينا إصرا } عبأ ثقيلا يأصر صاحبه أي يحبسه في مكانه يريد به التكاليف الشاقة وقرئ { ولا تحمل } بالتشديد للمبالغة { كما حملته على الذين من قبلنا } حملا مثل حملك إياه على { من قبلنا } أو مثل الذي حملته إياهم فيكون صفة لإصرا والمراد به ما كلف به بنو إسرائيل من قتل الأنفس وقطع موضع النجاسة وخمسين صلاة في اليوم والليلة وصرف ربع المال للزكاة أو ما أصابهم من الشدائد والمحن { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } من البلاء والعقوبة أو من التكاليف التي لا تفي بها الطاقة البشرية وهو يدل على جواز التكليف بما لا يطاق وإلا لما سئل التخلص منه والتشديد ههنا لتعدية الفعل إلى المفعول الثاني { واعف عنا } وامح ذنوبنا { واغفر لنا } واستر عيوبنا ولا تفضحنا بالمؤاخذة { وارحمنا } وتعطف بنا وتفضل علينا { أنت مولانا } سيدنا { فانصرنا على القوم الكافرين } فإن من حق المولى أن ينصر مواليه على الأعداء أو المراد به عامة الكفرة
روي أنه عليه الصلاة و السلام لما دعا بهذه الدعوات قيل له عند كل كلمة فعلت وعنه عليه السلام [ أنزل الله تعالى آيتين من كنوز الجنة كتبها الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة من قرأهما بعد العشاء الأخيرة أجزأتاه عن قيام الليل ] وعنه عليه الصلاة و السلام [ من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه ] وهو يرد قول من استكره أن يقال سورة البقرة وقال : ينبغي أن يقال السورة التي تذكر فيها البقرة كما قال عليه الصلاة و السلام [ السورة التي تذكر فيه البقرة فسطاط القرآن فتعلموها فإن تعلمها بركة وتركها حسرة ولن يستطيعها البطلة قيل : يا رسول الله وما البطلة ؟ قال : السحرة ]

سورة آل عمران
1 - { الم }

2 - { الله لا إله إلا هو } إنما فتح الميم في المشهور وكان حقها أن يوقف عليها لإلقاء حركة الهمزة عليها ليدل على أنها في حكم الثابت لأنها أسقطت للتخفيف لا للدرج فإن الميم في حكم الوقف كقولهم واحد إثنان بإلقاء حركة الهمزة على الدال لا لإلتقاء الساكنين فإنه غير محذور في باب الوقف ولذلك لم تحرك الميم في لام وقريء بكسرها على توهم التحريك للإلتقاء الساكنين وقرأ أبو بكر بسكونها والإبتداء بما بعدها على الأصل { الحي القيوم } روي أنه عليه الصلاة و السلام قال : [ إن إسم الله الأعظم في ثلاث سور في البقرة { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } وفي آل عمران { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } وفي طه { وعنت الوجوه للحي القيوم } ]

3 - { نزل عليك الكتاب } القرآن نجوما { بالحق } بالعدل أو بالصدق في إخباره أو بالحجج المحققة أنه من عند الله وهو في موضع الحال { مصدقا لما بين يديه } من الكتب { وأنزل التوراة والإنجيل } جملة على موسى وعيسى واشتقاقهما من الورى والنجل ووزنهما بتفعلة وافعيل تعسف لأنهما أعجميان ويؤيد ذلك أنه قريء { الإنجيل } بفتح الهمزة وهو ليس من أبنية العربية وقرأ أبو عمرو و ابن ذكوان و الكسائي التوراة بالإمالة في جميع القرآن ونافع و حمزة بين اللفظين إلا قالون فإنه قرأ بالفتح كقراءة الباقين

4 - { من قبل } من قبل تنزيل القرآن { هدى للناس } على العموم إن قلنا إنا متعبدون بشرع من قبلنا وإلا فالمراد به قومهما { وأنزل الفرقان } يريد به جنس الكتب الإلهية فإنها فارقة بين الحق والباطل ذكر ذلك بعد ذكر الكتب الثلاثة ليعم ما عداها كأنه قال : وأنزل سائر ما يفرق به بين الحق والباطل أو الزبور أو القرآن وكرر ذكره بما هو نعت له مدحا وتعظيما وإظهارا لفضله من حيث إنه يشاركهما في كونه وحيا منزلا ويتميز بأنه معجز يفرق بين المحق والمبطل أو المعجزات { إن الذين كفروا بآيات الله } من كتبه المنزلة وغيرها { لهم عذاب شديد } بسبب كفرهم { والله عزيز } غالب لا يمنع من التعذيب { ذو انتقام } لا يقدر على مثله منتقم والنقمة عقوبة المجرم والفعل منه نقم بالفتح والكسر وهو وعيد جيء به بعد تقرير التوحيد والإشارة إلى ما هو العمدة في إثبات النبوة تعظيما للأمر وزجرا عن الإعراض عنه

5 - { إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء } أي شيء كائن في العالم كليا كان أو جزئيا إيمانا أو كفرا فعبر عنه بالسماء والأرض إذ الحس لا يتجاوزهما وإنما قدم الأرض ترقيا من الأدنى إلى الأعلى ولأن المقصود بالذكر ما اقترف فيها وهو كالدليل على كونه حيا

6 - وقوله : { هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء } أي من الصور المختلفة كالدليل على القيومية والإستدلال على أنه عالم بإتقان فعله في خلق الجنين وتصويره وقريء تصوركم أي صوركم لنفسه وعبادته { لا إله إلا هو } إذ لا يعلم غيره جملة ما يعلمه ولا يقدر على مثل ما يفعله { العزيز الحكيم } إشارة إلى كمال قدرته وتناهي حكمته قيل : هذا حجاج على من زعم أن عيسى كان ربا فإن وفد نجران لما حاجوا فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم نزلت السورة من أولها نيف وثمانين آية تقريرا لما احتج به عليهم وأجاب عن شبههم

7 - { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات } أحكمت عبارتها بأن حفظت من الإجمال والإحتمال { هن أم الكتاب } أصله يرد إليها غيرها والقياس أمهات فأفرد على تأويل كل واحدة أو على أن الكل بمنزلة في آية واحدة { وأخر متشابهات } محتملات لا يتضح مقصو دها - لإجمال أو مخالفة الظاهر - إلا بالفحص و النظر ليظهر فيها فضل العلماء ويزداد حرصهم على أن يجتهدوا في تدبرها وتحصيل العلوم المتوقف على إستنباط المراد بها فينالوا بها - وبإتعاب القرائح في إستخراج معانيها والتوفيق لما بينها وبين المحكمات - معالي الدرجات وأما قوله تعالى : { الر كتاب أحكمت آياته } فمعناه أنها حفظت من فساد المعنى وركاكة اللفظ وقوله : { كتابا متشابها } فمعناه أنه يشبه بعضه بعضا في صحة المعنى وجزالة اللفظ { وأخر } جمع أخرى وإنما لم ينصرف لأنه وصف معدول عن الآخر ولا يلزم منه معرفته لأن معناه أن القياس أن يعرف ولم يعرف لا أنه في معنى المعرف أو عن { آخر } من { فأما الذين في قلوبهم زيغ } عدول عن الحق كالمبتدعة { فيتبعون ما تشابه منه } فيتعلقون بظاهره أو بتأويل باطل { ابتغاء الفتنة } طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم بالتشكيك والتلبيس ومناقضة المحكم بالمتشابه { وابتغاء تأويله } وطلب أن يأولوه على ما يشتهونه ويحتمل أن يكون الداعي إلى الإتباع مجموع الطلبتين أو كل واحدة منهما على التعاقب والأول يناسب المعاند والثاني يلائم الجاهل { وما يعلم تأويله } الذي يجب أن يحمل عليه { إلا الله والراسخون في العلم } أي الذين ثبتوا وتمكنوا فيه ومن وقف على { إلا الله } فسر المتشابه بما إستأثر الله بعلمه : كمدة بقاء الدنيا ووقت قيام الساعة وخواص الأعداد كعدد الزبانية أو بمبادل القاطع على أن ظاهره غير مراد ولم يدل على ما هو المراد { يقولون آمنا به } إستئناف موضع لحال { الراسخون } أ الحال منهم أو خبر أو جعلته مبتدأ { كل من عند ربنا } أي كل من المتشابه والمحكم من عنده { وما يذكر إلا أولو الألباب } مدح للراسخين بجودة الذهن وحسن النظر وإشارة إلى ماإستعدوا به للإهتداء إلى تأويله وهو تجرد العقل من غواشي الحس وإتصال الآية بما قبلها من حيث إنها تصوير الروح بالعلم وتربيته وما قبلها في تصوير الجسد وتسويته أو أنها جواب عن تثبت النصارى بنحو قوله تعالى : { وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه } كما أنه جواب عن قوله لا أب له غير الله فتعين أن يكون هو أباهبأنه تعالى هو مصور الأجنة كيف يشاء فيصور

8 - { ربنا لا تزغ قلوبنا } من مقال الراسخين وقيل : إستئناف والمعنى لا تزغ قلوبنا عن نهج الحق إلى إتباع المتشابه بتأويل لا ترتضيه قال عليه الصلاة و السلام : [ قلب ابن آدم بين اصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامه على الحق وإن شاء أزاغه عنه ] وقيل : لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا { بعد إذ هديتنا } إلى الحق والإيمان بالقسمين من المحكم والمتشابه وبعد نصب الظرف وإذ في موضع الجر بإضافته إليه وقيل إنه بمعنى إن { وهب لنا من لدنك رحمة } تزلفنا إليك ونفوز بها عندك أو توفيقا للثبات على الحق أو مغفرة للذنوب { إنك أنت الوهاب } لكل سؤال وفيه دليل على أن الهدى والضلال من الله وأنه متفضل بما ينعم على عباده لا يجب عليه شيء

9 - { ربنا إنك جامع الناس ليوم } لحساب يوم أو لجزائه { لا ريب فيه } في وقوع اليوم وما فيه من الحشر والجزاء نبهوا به على أن معظم غرضهم من الطلبتين ما يتعلق بالآخرة فإنها المقصد والمال { إن الله لا يخلف الميعاد } فإن الإلهية تنافيه وللإشعار به وتعظيم الموعود لون الخطاب وإستدل به الوعيدية وأجيب بأن وعيد الفساق مشروط بعدم العفو لدلائل منفصلة كما هو مشروط بعدم التوبة وفاقا

10 - { إن الذين كفروا } عام في الكفرة وقيل المراد به وفد نجران أو اليهود أو مشركوا العرب { لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا } أي من رحمته أو من طاعته على معنى البدلية أو من عذابه { وأولئك هم وقود النار } حطبها وقريء بالضم بمعنى أهل وقودها

11 - { كدأب آل فرعون } متصل بما قبله أي لن تغني عن أولئك أو توقد بهم كما توقد بأولئك أو إستئناف مرفوع المحل تقديره دأب هؤلاء كدأبهم في الكفر والعذاب وهو مصدر دأب في العمل إذا كدح فيه فنقل إلى معنى الشأن { والذين من قبلهم } عطف على { آل فرعون } وقيل إستئناف { كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم } حال بإضمار قد أو إستئناف بتفسير حالهم أو خبر إن إبتدأت بالذين من قبلهم { والله شديد العقاب } تهويل للمؤاخذة وزيادة تخويف الكفرة

12 - { قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم } أي قل لمشركي مكة ستغلبون يعني يوم بدر وقيل لليهود فإنه عليه الصلاة و السلام جمعهم بعد بدر في سوق بني قينقاع فحذرهم أن ينزل بهم ما نزل بقريش فقالوا لا يغرنك أنك أصبت أغمارا لا علم لهم بالحرب لئن قاتلتنا لعلمت أنا نحن الناس فنزلت وقد صدق الله وعده لهم بقتل قريضة وإجلاء بني النضير وفتح خيبر وضرب الجزية على من عداهم وهو من دلائل النبوة وقرأ حمزة والكسائي بالياء فيهما على أن الأمر بأن يحكي لهم ما أخبره به من وعيدهم بلفظه { وبئس المهاد } تمام ما يقال لهم أو إستئناف وتقدير بئس المهاد جهنم أو ما مهدوه لأنفسهم

13 - { قد كان لكم آية } الخطاب لقريش أو لليهود وقيل للمؤمنين { في فئتين التقتا } يوم بدر { فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم } يرى المشركون المؤمنين مثلي عدد المشركين وكان قريبا من ألف أو مثلي عدد المسلمين وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر وذلك كان بعد ما قللهم في أعينهم حتى إجترؤوا عليهم وتوجهوا إليهم كلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا مددا من الله تعالى للمؤمنين أو يرى المؤمنون المشركين مثلي المؤمنين وكانوا ثلاثة أمثالهم ليثبتوا لهم ويتيقنوا بالنصر الذي وعدهم الله به في قوله : { فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين } ويؤيده قراءة نافع ويعقوب بالتاء وقريء بهما على البناء للمفعول أي يريهم الله أو يريكم ذلك بقدرته وفئة بالجر على البدل من فئتين والنصب على الإختصاص أو الحال من فاعل إلتفتا { رأي العين } رؤية ظاهرة معاينة { والله يؤيد بنصره من يشاء } نصره كما أيد أهل بدر { إن في ذلك } أي التقليل والتكثير أو غلبة القليل عديم العدة في الكثير شاكي السلاح وكون الواقعة آية أيضا يحتملها ويحتمل وقوع الأمر على ما أخبر به الرسول صلى الله عليه و سلم { لعبرة لأولي الأبصار } أي لعظة لذوي البصائر وقيل لمن أبصرهم

14 - { زين للناس حب الشهوات } أي المشتهيات سماها شهوات مبالغة وإيماء على أنهم إنهمكوا في محبتها حتى أحبوا شهوتها كقوله تعالى : { أحببت حب الخير } والمزين هو الله تعالى لأنه الخالق للأفعال والدواعي ولعله زينه إبتلاء أو لأنه يكون وسيلة إلى السعادة الأخروية إذا كان على وجه يرتضيه الله تعالى أو لأنه من أسباب التعيش وبقاء النوع وقيل الشيطان فإن الآية في معرض الذم وفرق الجبائي بين المباح والمحرم { من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث } بيان للشهوات والقنطار المال الكثير وقيل مائة ألف دينار وقيل ملء مسك ثور وأختلف في أنه فعلا أو فنعال والمقنطرة مأخوذة منه للتأكيد كقولهم بدرة مبدرة والمسومة المعلمة من السومة وهي العلامة أو المرعية من أسام الدابة وسومها أو المطهمة والأنعام الإبل والبقر والغنم { ذلك متاع الحياة الدنيا } إشارة إلى ما ذكر { والله عنده حسن المآب } أي المرجع وهو تحريض على إستبدال ما عنده ممن اللذات الحقيقية الأبدية بالشهوات المخدجة الفانية

15 - { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم } يريد به تقرير أن ثواب الله تعالى خير من مستلذات الدنيا { للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } إستئناف لبيان ما هو خير ويجوز أن يتعلق اللام بخير ويرتفع جنات على ما هو جنات ويؤيده قراءة من جرها بدلا من { خير } { وأزواج مطهرة } مما يستقذر من النساء { ورضوان من الله } عاصم في رواية أبي بكر في جميع القرآن بضم الراء ما خلا الحرف الثاني في المائدة وهو قوله تعالى : { رضوانه سبل السلام } بكسر الراء وهما لغتان { والله بصير بالعباد } أي بأعمالهم فيثيب المحسن ويعاقب المسيء أو بأحوال الذين اتقوا فلذلك أعد لهم جنات وقد نبه بهذه الآية على نعمه فأدناها متاع الحياة الدنيا وأعلاها رضوان الله تعالى لقوله تعالى : { ورضوان من الله أكبر } وأوسطها الجنة ونعيمها

16 - { الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار } صفة للمتقين أو للعباد أو مدح منصوب أو مرفوع وفي ترتيب السؤال على مجرد الإيمان دليل على أنه كاف في إستحقاق المغفرة أو الإستعداد لها

17 - { الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار } حصر لمقامات السالك على أحسن ترتيب فإن معاملته مع الله تعالى إما توسل وإما طلب والتوسل إما بالنفس وهو منعها عن الرذائل وحبسها على الفضائل والصبر يشملهما وإما بالبدن وهو إما قولي وهو الصدق وإما فعلي وهو القنوت الذي هو ملازمة الطاعة وإما بالمال وهو الإنفاق في سبل الخير وإما الطلب فبالإستغفار لأن المغفرة أعظم المطالب بل الجامع لها وتوسيط الواو بينهما للدلالة على إستقلال كل واحد منهما وكمالهم فيها أو لتغاير الموصوفين بها وتخصيص الأسحار لأن الدعاء فيها أقرب إلى الإجابة لأن العبادة حينئذ أشق والنفس أصفى والروع أجمع للمجتهدين قيل إنهم كانوا يصلون إلى السحر ثم يستغفرون ويدعون

18 - { شهد الله أنه لا إله إلا هو } بين وحدانيته بنصب الدلائل الدالة عليها وإنزال الآيات الناطقة بها { والملائكة } بالإقرار { وأولو العلم } بالإيمان بها والإحتجاج عليها شبه ذلك في البيان والكشف بشهادة الشاهد { قائما بالقسط } مقيما للعدل في قسمه وحكمه وإنتصابه على الحال من الله وإنما جاز إفراده بها ولم يجز جاء زيد وعمر راكبا لعدم اللبس كقوله تعالى : { ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة } أو من هو والعامل فيها معنى الجملة أي تفرد قائما أو أحقه لأنه حال مؤكدة أو على المدح أو الصفة للمنفي وفيه ضعف للفصل وهو مندرج في المشهود به إذا جعلته صفة أو حالا من الضمير وقريء القائم بالقسط على البدل عن هو الخبر المحذوف { لا إله إلا هو } كرره للتأكيد ومزيد الإعتناء بمعرفة أدلة التوحيد والحكم به بعد إقامة الحجة وليبني عليه قوله : { العزيز الحكيم } فيعلم أنه الموصوف بهما وقدم العزيز لتقديم العلم بقدرته على العلم بحكمته ورفعهما على البدل من الضمير أو الصفة لفاعل شهد
وقد روي في فضلهما أنه عليه الصلاة و السلام قال : [ يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله تعالى : إن لعبدي هذا عندي عهدا وأنا أحق من وفى بالعهد أدخلوا عبدي الجنة ] وهي دليل على فصل علم أصول الدين وشرف أهله

19 - { إن الدين عند الله الإسلام } جملة مستأنفة مؤكدة للأولى أي لا دين مرضي عند الله سوى الإسلام وهو التوحيد والتدرع بالشرع الذي جاء به محمد صلى الله عليه و سلم وقرأ الكسائي بالفتح على أنه بدل الكل أن فسر الإسلام بالإيمان أو بما يتضمنه وبدل إشتمال إن فسر بالشريعة وقريء أنه بالكسر وأن بالفتح على وقوع الفعل على الثاني وإعتراض ما بينهما أو إجراء شهد مجرى قال تارة وعلم أخرى لتضمنه معناهما { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب } من اليهود والنصارى أو من أرباب الكتيب المتقدمة في الإسلام فقال قوم إنه حق وقال قوم إنه مخصوص بالعرب ونفاه آخرون مطلقا أو في التوحيد فثلثت النصارى { وقالت اليهود عزير ابن الله } وقيل هم قوم موسى اختلفوا بعده وقيل هم النصارى اختلفوا في أمر عيسى عليه السلام { إلا من بعد ما جاءهم العلم } أي بعد ما علموا حقيقة الأمر وتمكنوا من العلم بها بالآيات والحجج { بغيا بينهم } حسدا بينهم وطلبا للرئاسة لا لشبه وخفاء بالأمر { ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب } وعيد لمن كفر منهم

20 - { فإن حاجوك } في الدين أو جادلوك فيه بعد ما أقمت الحجج { فقل أسلمت وجهي لله } أخلصت نفسي وجملتي له لا أشرك فيها غيره وهو الدين القويم الذي قامت به الحجج ودعت إليه الآيات والرسل وإنما عبر بالوجه عن النفس لأنه أشرف الأعضاء الظاهرة ومظهر القوى والحواس { ومن اتبعن } عطف على التاء في أسلمت وحسن للفصل أو مفعول معه { وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين } الذين لا كتاب لهم كمشركي العرب { أأسلمتم } كما أسلمت لما وضحت لهم الحجة أم أنتم بعد على كفركم ونظيره قوله : { فهل أنتم منتهون } وفيه تعيير لهم بالبلادة أو المعاندة { فإن أسلموا فقد اهتدوا } فقد نفعوا أنفسهم بأن أخرجوها من الضلال { وإن تولوا فإنما عليك البلاغ } أي فلم يضروك إذ ما عليك إلا أن تبلغ وقد بلغت { والله بصير بالعباد } وعد ووعيد

21 - { إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم } هم أهل الكتاب الذين في عصره عليه السلام قتل أولهم الأنبياء ومتابعيهم وهم رضوا به وقصدوا قتل النبي صلى الله عليه و سلم والمؤمنين ولكن الله عصمهم وقد سبق مثله سورة البقرة وقرأ حمزة ويقاتلون الذين وقد منع سيبويه إدخال الفاء في خبر إن كليت ولعل ولذلك قيل الخبر

22 - { أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } كقولك زيد فافهم رجل صالح والفرق أنه لا يغير معنى الإبتداء بخلافهما { وما لهم من ناصرين } يدفع عنهم العذاب

23 - { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } أي التوراة أو جنس الكتب السماوية ومن للتبعيض أو للبيان وتنكير النصيب يحتمل التعظيم والتحقير { يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم } الداعي محمد عليه الصلاة و السلام وكتاب الله القرآن أو التوراة لما روي [ أنه عليه الصلاة و السلام دخل مدراسهم فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد على أي دين أنت فقال : على دين إبراهيم فقالا إن إبراهيم كان يهوديا فقال : هلموا إلى التوراة فإنها بيننا وبينكم فأبيا فنزلت ] وقيل نزلت في الرجم وقريء ليحكم على البناء للمفعول فيكون الإختلاف فيما بينهم فيه دليل على أن الأدلة السمعية حجة في الأصول
{ ثم يتولى فريق منهم } إستبعاد لتوليهم مع علمهم بأن الرجوع إليه واجب { وهم معرضون } وهم قوم عادتهم الإعراض والجملة حال من فريق وإنما ساغ لتخصصه بالصفة

24 - { وذلك } إشارة إلى التولي و الإعراض { بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات } بسبب تسهيلهم أمر العقاب على أنفسهم لهذا الإعتقاد الزائغ والطمع الفارغ { وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون } من أن النار لن تمسهم إلا أياما قلائل أو أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم أو أنه تعالى وعد يعقوب عليه السلام أن لا يعذب أولاده إلا تحلة القسم

25 - { فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه } إستعظام لما يحيق بهم في الآخرة وتكذيب لقولهم لن تمسنا النار إلا أياما معدودات روي : أن أول راية ترفع يوم القيامة من رايات الكفار راية اليهود فيفضحهم الله على رؤوس الأشهاد ثم يأمر بهم إلى النار { ووفيت كل نفس ما كسبت } جزاء ما كسبت وفيه دليل على أن العبادة لا تحبط وأن المؤمن لا يخلد في النار لأن توفية إيمانه وعمله لاتكون في النار ولا قبل دخولها فإذن هي بعد الخلاص منها { وهم لا يظلمون } الضمير لكل نفي على المعنى لأنه في معنى كل إنسان

26 - { قل اللهم } الميم عوض عن يا ولذلك لا يجتمعان وهو من خصائص هذا الإسم كدخول يا عليه مع لام التعريف وقطع همزته وتاء القسم وقيل : أصله يا الله أمن بخير فخفف بحذف حرف النداء ومتعلقات الفعل وهمزته { مالك الملك } يتصرف فيما يمكن التصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون وهو نداء ثان عند سيبويه فإن الميم عنده تمنع الوصفية { تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء } تعطي منه من تشاء من تشاء وتسترد فالملك الأول عام والآخران بعضان منه قيل : المراد بالملك النبوة ونزعها نقلها من قوم إلى قوم { وتعز من تشاء وتذل من تشاء } في الدنيا والآخرة أو فيهما بالنصر والإدبار والتوفيق والخذلان { بيدك الخير إنك على كل شيء قدير } ذكر الخير وحده لأنه المقضي بالذات والشر مقضي بالعرض إذ لا يوجد شر جزئي ما لم يتضمن خيرا كليا أو لمراعاة الأدب في الخطاب أو لأن الكلام وقع فيه إذ روي : [ أنه عليه السلام لما خط الخندق وقطع لكل عشرة أربعين ذراعا وأخذوا يحفرون فظهر فيه صخرة عظيمة لم يعمل فيها المعاول فوجهوا سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يخبره فجاء عليه الصلاة و السلام فأخذ المعول منه فضربها ضربة صدعتها وبرق منها برق أضاء منه ما بين لابتيها لكأن بها مصباحا في جوف بيت مظلم فكبر وكبر معه المسلمون وقال : أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب ثم ضرب الثانية فقال : أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم ثم ضرب الثالثة فقال : أضاءت لي منها قصور صنعاء وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة على كلها فأبشروافقال المنافقون : ألا تعجبون يمنيكم ويعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق فنزلت ] فنبه على أن الشر أيضا بيده بقول { إنك على كل شيء قدير }

27 - { تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب } عقب ذلك ببيان قدرته على معاقبة الليل والنهار : إدخال أحدهما في الآخر بالتعقيب أو الزيادة والنقص وإخراج الحي من الميت وبالعكس إنشاء الحيوانات من موادها وإماتتها أو إنشاء الحيوان من النطفة والنطفة منه وقيل : إخراج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن وقرأ ابن كثير و أبو عمرو و ابن عامر و أبو بكر { الميت } بالتخفيف

28 - { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء } نهوا عن موالاتهم لقرابة وصداقة جاهلية ونحوهما حتى لا يكون حبهم وبغضهم إلا في الله أو عن الإستعانة بهم في الغزو وسائر الأمور الدينية { من دون المؤمنين } إشارة إلى أنهم الأحقاء بالموالاة وأن في موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفرة { ومن يفعل ذلك } أي اتخاذهم أولياء { فليس من الله في شيء } أي من ولايته في شيء يصح أن يسمى ولاية فإن موالاة المتعاديين لا يجتمعان قال :
( تود عدوي ثم تزعم أنني ... صديقك ليس النوك عنك بعازب )
{ إلا أن تتقوا منهم تقاة } إلا أن تخافوا وقرأ من جهتهم ما يجب اتقاؤه أو اتقاء والفعل معدى بمن لأنه في معنى تحذروا وتخافوا وقرأ يعقوب { بقية } منع من موالاتهم ظاهرا وباطنا في الأوقات كلها إلا وقت المخافة فإن إظهار الموالاة حينئذ جائز كما قال عيسى عليه السلام : كن وسطا وامش جانبا { ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير } فلا القبح وذكر النفس ليعلم أن المحذر منه عقاب يصدر منه تعالى فلا يؤبه دونه بما يحذر من الكفرة

29 - { قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله } أي أنه يعلم ضمائركم من ولاية الكفار وغيرها إن تخفوها أو تبدوها { ويعلم ما في السموات وما في الأرض } في علم سركم وعلنكم { والله على كل شيء قدير } فيقدر على عقوبتكم إن لم تنتهوا ما نهيتم عنه والآية بيان لقوله تعالى : { ويحذركم الله نفسه } وكأنه قال ويحذركم نفيه لأنها متصفة بعلم ذاتي محيط بالمعلومات كلها وقدرة ذاتية تعم المقدورات بأسرها فلا تجسروا على عصيانه إذ ما من معصية إلا وهو مطلع عليها قادر على العقاب بها

30 - { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا } { يوم } منصوب بتود أي تتمنى كل نفس يوم تجد صحائف أعمالها أو جزاء أعمالها من الخير والشر حاضرة لو أن بينها وبين ذلك اليوم وهو له أمدا بعيدا أو بمضمر نحو اذكر و { تود } حال من الضمير في عملت أو خبر لما عملت من سوء وتجد مقصور على { ما عملت من خير } ولا تكون { ما } شرطية لارتفاع { تود } وقريء { ودت } وعلى هذا يصح أن تكون شرطية ولكن الحمل على الخبر أوقع معنى لأنه حكاية كائن وأوفق للقراءة المشهورة { ويحذركم الله نفسه } كرره للتأكيد والتذكير { والله رؤوف بالعباد } إشارة إلى أن الله تعالى إنما نهاهم رأفة بهم ومراعاة لصلاحهم أو أنه لذو مغفرة وذو عقاب أليم فترجى رحمته ويخشى عذابه

31 - { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني } المحبة ميل النفس إلى الشيء لكمال أدركته فيه بحيث يحملها على ما يقربها إليه والعبد إذا علم أن الكمال الحقيقي ليس إلا لله وأن كل ما يراه كمالا من نفسه أو غيره فهو من الله وبالله وإلى الله لم يكن حبه إلى لله وفي الله وذلك يقتضي إرادة طاعته والرغبة فيما يقربه إليه فلذلك فسرت المحبة بإرادة الطاعة وجعلت مستلزمة لإتباع الرسول صلى الله عليه و سلم في عبادته والحرص على مطاوعته { يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم } جواب للأمر أي يرض عنكم ويكشف الحجب عن قلوبكم بالتجاوز عما فرط منكم فيقربكم من جناب عزه ويبوئكم في جوار قدسه عبر عن ذلك بالمحبة على طريق الإستعارة أو المقابلة { والله غفور رحيم } لمن تحبب إليه بطاعته وإتباع نبيه صلى الله عليه و سلم روي : أنها نزلت لما قالت اليهود نحن أبناء الله وأحباؤه وقيل نزلت في وفد نجران لما قالوا : إنما نعبد المسيح حبا لله وقيل : في أقوام زعموا على عهده صلى الله عليه و سلم أنهم يحبون الله فأمروا أن يجعلوا لقولهم تصديقا من العمل

32 - { قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا } يحتمل المضي والمضارعة بمعنى فإن تتولوا { فإن الله لا يحب الكافرين } لا يرضى عنهم ولا يثني عليهم وإنما لم يقل لا يحبهم لقصد العموم والدلالة على أن التولي كفر وإنما من هذه الحيثية ينفي محبة الله وأن محبته مخصوصة للمؤمنين

33 - { إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين } بالرسالة والخصائص الروحانية والجسمانية ولذلك قووا على ما لم يقو عليه غيرهم لما أوجب طاعة الرسول صلى الله عليه و سلم وبين أنها الجالبة لمحبة الله عقب ذلك ببيان مناقبهم تحريضا عليها وبه استدل على فضلهم على الملائكة { وآل إبراهيم } إسماعيل واسحق وأولادهما وقد دخل فيهم الرسول صلى الله عليه و سلم { وآل عمران } موسى وهرون ابنا عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب أو عيسى وأمه مريم بنت عمران بن ماثان بن العازار بن أبي يوذ بن يوزن ين زربابل بن ساليان بن أوشيا بن منشكن بن حازقا بن أخاز بن يوثام بن عوزيا بن يورام بن ايشا بن راجعيم بن سليمان بن داود بن ايشي بن عوبد بن سلمون بن ياعز بن نحشون نب عمياد بن رام بن حصروم بنفارص بن يهوذا بن يعقوب عليه السلام وكان بين العمرانين ألف وثمانمائة سنة

34 - { ذرية بعضها من بعض } حال أو بدل من الآلين أو منهما ومن نوح أي إنهم ذرية واحدة متشعبة بعضها من بعض وقيل بعضها من بعض في الدين والذرية الولد يقع على الواحد والجمع فعلية من الذر أو فعولة من الذرء أبدلت همزتها ياء ثم قلبت الواو ياء وأدغمت { والله سميع عليم } بأقوال الناس وأعمالهم فيصطفي من كان مستقيم القول والعمل أو سميع بقول امرأة عمران عليم بنيتها

35 - { إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني } فينتصب به إذ على التنازع وقيل نصبه بإضمار اذكر وهذه حنة بنت فاقوذة جدة عيسى عليه السلام وكانت لعمران بن يصهر بنت يصهر بنت إسمها مريم أكبر من موسى وهرون فظن أن المراد زوجته ويرده كفالة زكريا فإنه كان معاصرا لابن ماثان وتزوج بنته ايشاع وكلن يحيى وعيسى عليهما السلام ابني خالة من الأب روي أنها كانت عاقرا عجوزا فبينما هي في ظل شجرة إذ رأت طائرا يطعم فرخه فحنت إلى الولد وتمنته فقالت : اللهم إن لك علي نذرا إن رزقتني ولدا أن أتصدق به على بيت المقدس فيكون من خدمه فحملت مريم وهلك عمران وكان هذا النذر مشروعا في عهدهم للغلمان فلعلها بنت الأمر على التقدير أو طلبت ذكرا { محررا } معتقا لخدمته لا أشغله بشيء أو مخلصا للعبادة ونصبه على الحال { فتقبل مني } ما نذرته { إنك أنت السميع العليم } لقولي ونيتي

36 - { فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى } لضمير لما في بطنها وتأنيثه لأنه كان أنثى وجاز انتصاب أنثى حالا عنه لأن تأنيثها علم منه في فإن الحال وصاحبها بالذات واحد أو على تأويل مؤنث كالنفس والحبلة وإنما قالته تحسرا وتحزنا إلى ربها لأنها كانت ترجو أن تلد ذكرا ولذلك نذرت تحريره { والله أعلم بما وضعت } أي بالشيء الذي وضعت وهو إستئناف من الله تعالى تعظيما لموضوعها وتجهيلا لها بشأنها وقرأ ابن عامر و أبو بكر عن عاصم و يعقوب { وضعت } على أنه من كلامها تسلية لنفسها أي ولعل الله سبحانه وتعالى فيه سرا أو الأنثى كانت خيرا وقريء { وضعت } على أ ه خطاب لله تعالى لها { وليس الذكر كالأنثى } بيان لقوله { والله أعلم } أي وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت واللام فيهما للعهد ويجوز أن يكون من قولها بمعنى وليس الذكر والأنثى سيان في ما نذرت فتكون اللام للجنس { وإني سميتها مريم } عطف على ما قبلها من مقالها وما بينهما اعتراض وإنما ذكرت ذلك لربها تقربا إليه وطلبا لأن يعصمها ويصلحها حتى يكون فعلها مطابقا لاسمها فإن مريم في لغتهم بمعنى : العبادة وفيه دليل على أن الاسم والمسمى والتسمية أمور متغايرة { وإني أعيذها بك } أجيرها بحفظك { وذريتها من الشيطان الرجيم } المطرود وأصل الرجم الرمي بالحجارة وعن النبي صلى الله عليه و سلم [ ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل من مسه إلا مريم وابنها ] ومعناه أن الشيطان يطمع في إغواء كل مولود يتأثر منه إلا مريم وابنها فإن الله تعالى عصمهما ببركة هذه الاستعاذة

37 - { فتقبلها ربها } فرضي بها في النذر مكان الذكر { بقبول حسن } أي بوجه حسن يقبل به النذائر وهو إقامتها مقام الذكر أو تسلمها عقيب ولادتها قبل أن تكبر وتصلح للسدانة روي أن حنة لما ولدتها لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار وقالت : دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم فإن بني ماثان كانت رؤوس بني إسرائيل وملوكهم فقال زكريا : أنا أحق بها عندي خالتها فأبوا إلا القرعة وكانوا سبعة وعشرين فانطلقوا إلى نهر فألقوا أقلامهم فطفا قلم زكريا ورسبت أقلامهم فتكفلها زكريا ويجوز أن يكون مصدرا على تقدير مضاف أي بذي قبول حسن وأن يكون تقبل بمعنى استقبل كتقضي وتعجل أي فأخذها في أول أمرها حين ولدت بقبول حسن { وأنبتها نباتا حسنا } مجاز من تربيتها بما يصلحها في جميع أحوالها { وكفلها زكريا } شدد الفاء حمزة والكسائي وعاصم وقصروا زكريا غير عاصم في رواية ابن عايش على أن الفاعل هو الله تعالى وزكريا مفعول أي جعله كافلا لها وضامنا لمصالحها وخفف الباقون ومدوا { زكريا } مرفوعا { كلما دخل عليها زكريا المحراب } أي الغرفة التي بنيت لها أو المسجد أو أشرف مواضعه ومقدمها سمي به لأنه محل محاربة الشيطان كأنها وضعت في أشرف موضع من بيت المقدس { وجد عندها رزقا } جواب { كلما } وناصبه روي : أنه كان لا يدخل عليها غيره وإذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب وكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وبالعكس { قال يا مريم أنى لك هذا } من أين لك هذا الرزق الآتي في غير أوانه والأبواب مغلقة عليك وهو دليل جواز الكرامة لأولياؤه جعل ذلك معجزة زكريا يدفعه اشتباه الأمر عليه { قالت هو من عند الله } فلا تستبعده قيل تكلمت صغيرة كعيسى عليه السلام ولم ترضع ثديا قط وكان رزقها ينزل عليها من الجنة { إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } بغير تقدير لكثرته أو بغير استحقاق تفضلا به وهو يحتمل أن يكون من كلامها وأن يكون من كلام الله تعالى روي : [ أن فاطمة رضي الله عنها أهدت لرسول الله صلى الله عليه و سلم رغيفين وبضعة لحم فرجع بها إليها وقال : هلمي يا بنية فكشفت عن الطبق فإذا هو مملوء خبزا ولحما فقال لها : أنى لك هذا ! فقالت : هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب فقال : الحمد لله الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل ثم جمع عليا والحسن والحسين وجمع أهل بيته عليه حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو فأوسعت على جيرانها ]

38 - { هنالك دعا زكريا ربه } في ذلك المكان أو الوقت إذ يستعار هنا وثم وحيث للزمان لما رأى كرامة مريم ومنزلتها من الله تعالى { قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة } كما وهبتها لحنة العجوز العاقر وقيل لما رأى الفواكه في غير أوانها انتبه على جواز ولادة العاقر من الشيخ فسأل وقال هب لي من لدنك ذرية لأنه لم يكن على الوجوه المعتادة وبالأسباب المعهودة { إنك سميع الدعاء } مجيبه

39 - { فنادته الملائكة } أي من جنسهم كقولهم زيد يركب الخيل فإن المنادي كان جبريل وحده وقرأ حمزة والكسائي { فناداه } بالإمالة والتذكير { وهو قائم يصلي في المحراب } أي قائما في الصلاة و { يصلي } صفة قائم أو خبر أو حال آخر أو حال من الضمير في قائم { أن الله يبشرك بيحيى } أي بأن الله وقرأ نافع و ابن عامر بالكسر على إرادة القول أو لأن النداء نوع منه وقرأ حمزة والكسائي { يبشرك } ويحيى اسم أعجمي وإن جعل عربيا منع صرفه للتعريف ووزن الفعل { مصدقا بكلمة من الله } أي بعيسى عليه السلام سمي بذلك لأنه وجد بأمره تعالى دون أب فشابه البدعيات التي هي عالم الأمر أو بكتاب الله سمي كلمة كما قيل كلمة الحويدرة لقصيدته { وسيدا } يسود قومه ويفوقهم وكان فائقا للناس كلهم في أنه ما هم بمعصية قط { وحصورا } مبالغا في حصر النفس عن الشهوات والملاهي روي أنه مر في صباه بصبيان فدعوه إلى اللعب فقال : ما للعب خلقت { ونبيا من الصالحين } ناشئا منهم أو كائنا من عداد من لم يأت كبيرة ولا صغيرة

40 - { قال رب أنى يكون لي غلام } إستبعادا من حيث العادة أو استعظاما أو تعجيبا أو استفهما عن كيفية حدوثه { وقد بلغني الكبر } أدركني كبر السن وأثر في وكان له تسع وتسعون ولامرأته ثمان وتسعون سنة { وامرأتي عاقر } لا تلد من العقر وهو القطع لأنها ذات عقر من الأولاد { قال كذلك الله يفعل ما يشاء } أي يفعل ما يشاء من العجائب مثل ذلك الفعل وهو إنشاء الولد من شيخ فان وعجوز عاقر أو كما أنت عليه أنت وزوجك من الكبر والعقر يفعل ما يشاء من خلق الولد أو كذلك الله مبتدأ وخبر أي الله مثل هذه الصفة ويفعل ما يشاء بيان له أو كذلك خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك والله يفعل ما يشاء بيان له

41 - { قال رب اجعل لي آية } علامة أعرف بها الحبل لاستقبله بالبشاشة والشكر وتزيح مشقة الإنتظار { قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام } أي لا تقدر على تكليم الناس ثلاثا وإنما حبس لسانه عن مكالمتهم خاصة ليخص المدة لذكر الله تعالى وشكره قضاء لحق النعمة وكأنه قال آيتك أن يحبس لسانك إلا عن الشكر وأحسن الجواب ما اشتق من السؤال { إلا رمزا } إشارة بنحو يد أو رأس وأصله التحرك ومنه الراموز للبحر والإستثناء منقطع وقيل متصل والمراد بالكلام ما دل على الضمير وقريء : { رمزا } بفتحتين كخدم جمع رامز ورمزا كرسل جمع رموز على أنه حال منه ومن الناس بمعنى مترامزين كقوله :
( متى ما تلقني فردين ترجف ... روانف اليتك وتستطارا )
{ واذكر ربك كثيرا } في أيام الحبسة وهو مؤكد لما قبله مبين للغرض منه وتقييد الأمر بالكثرة يدل على أنه لا يفيد التكرار { وسبح بالعشي } من الزوال إلى الغروب وقيل من العصر أو الغروب إلى ذهاب صدر الليل { والإبكار } من طلوع الفجر إلى الضحى وقريء بفتح الهمزة جمع بكر كسحر وأسحار

42 - { وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين } كلموها شفاها كرامة لها ومن أنكر الكرامة زعم أن ذلك كانت معجزة لزكريا أو إرهاصا لنبوة عيسى عليه السلام فإن الإجماع على أنه سبحانه وتعالى لم يستنبيء امرأة لقوله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا } وقيل ألهموها والاصطفاء الأول تقبلها من أمها ولم يقبل قبلها أنثى وتفريغها للعبادة وإغناؤها برزق الجنة عن الكسب وتطهيرها عما يستقذر من النساء والثاني هدايتها وإرسال الملائكة إليها وتخصيصها بالكرامات السنية كالوالد من غير أب وتبرئتها مما قذفتها به اليهود بإنطاق الطفل وجعلها وابنها آية للعالمين

43 - { يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين } أمرت بالصلاة في الجماعة بذكر أركانها مبالغة في المحافظة عليها وقدم السجود على الركوع إما لكونه كذلك في شريعتهم أو للتنبيه على أن الواو لا توجب الترتيب أو ليقترن اركعي بالراكعين للإيذان بأن من ليس في صلاتهم ركوع ليسوا مصليين وقيل المراد بالقنوت إدامة الطاعة كقوله تعالى : { أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما } وبالسجود الصلاة كقوله تعالى : { وأدبار السجود } وبالركوع الخشوع والإخبات

44 - { ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك } أي ما ذكرنا من القصص من الغيوب التي لم تعرفها إلا بالوحي { وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم } أقداحهم للإقتراع وقيل اقترعوا بأقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة تبركا والمراد تقرير كونه وحيا على سبيل التهكم بمنكريه فإن طريق المعرفة الوقائع المشاهدة والسماع وعدم السماع معلوم لا شبهة فيه عندهم فبقي أن يكون الإتهام باحتمال العيان ولا يظن به عاقل { أيهم يكفل مريم } متعلق بمحذوف دل عليه { يلقون أقلامهم } أي يلقونها ليعلموا أو يقولوا { أيهم يكفل مريم } { وما كنت لديهم إذ يختصمون } تنافسا في كفالتها

45 - { إذ قالت الملائكة } بدل من { إذ قالت } الأولى وما بينهما اعتراض أو من { إذ يختصمون } على أن وقوع الاختصام والبشارة في زمان متسع كقولك لقيته في سنة كذا { يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم } المسيح لقبه وهو من الألقاب المشرفة كالصديق وأصله بالعبرية مشيحا معناه : المبارك وعيسى معرب ايشوع واشتقاقهما من المسح لأنهما مسح من بالبركة أو بما طهره من الذنوب أو مسح الأرض ولم يقم في موضع أو مسحه جبريل من العيس وهو بياض يعلوه حمرة تكلف لا طائل تحته وابن مريم لما كان صفة تميز تمييز الأسماء نظمت في سلكها ولا ينافي تعدد الخبر وإفراد المبتدأ فإنه اسم جنس مضاف ويحتمل أن يراد به أن الذي يعرف به ويتميز عن غيره هذه الثلاثة فإن الإسم علامة المسمى والمميز له ممن سواه ويجوز أن يكون عيسى خبر مبتدأ محذوف وابن مريم صفته وإنما قيل ابن مريم والخطاب لها تنبيها على أنه يولد من غير أب إذ الأولاد تنسب إلى الآباء ولا تنيب إلى الأم إلا إذا فقد الأب { وجيها في الدنيا والآخرة } حال مقدرة من كلمة وهي وإن كانت نكرة لكنها موصوفة وتذكيره للمعنى والوجاهة في الدنيا النبوة وفي الآخرة الشفاعة { ومن المقربين } من الله وقيل إشارة إلى علو درجته في الجنة أو رفعه إلى السماء وصحبة الملائكة

46 - { ويكلم الناس في المهد وكهلا } أي يكلمهم حال كونه طفلا وكهلا كلام الأنبياء من غير تفاوت المهد مصدر سمي به ما يمهد للصبي في مضجعه وقيل إنه رفع شابا والمراد وكهلا بعد نزوله وذكر أحواله المختلفة المتنافية إرشادا إلى أنه بمعزل عن الألوهية { ومن الصالحين } حال ثالث من كلمة أو ضميرها الذي يكلم

47 - { قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر } تعجب أو إستبعاد عادي أو استفهام عن أنه يكون بتزوج أو غيره { قال كذلك الله يخلق ما يشاء } القائل جبريل أو الله تعالى وجبريل حكى لها قول الله تعالى { إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } إشارة إلى أنه تعالى كما يقدر أن يخلق الأشياء مدرجا بأسباب ومواد يقدر أن يخلقها دفعة من غير ذلك

48 - { ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل } كلام مبتدأ ذكر تطيبا لقلبها وإزاحة لما همها من خوف اللوم لما علمت أنها تلد من غير زوج أو عطف على يبشرك أو وجيها و { الكتاب } الكتبة أو جنس الكتب المنزلة وخص الكتابان لفضلهما وقرأ نافع و عاصم { ويعلمه } بالياء

49 - { ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم } منصوب بمضمر على إرادة القول تقديره : ويقول أرسلت رسولا بأني قد جئتكم أو بالعطف على الأحوال المتقدمة مضمنا معنى النطق فكأنه قال : وناطقا بأني قد جئتكم وتخصيص بني إسرائيل لخصوص بعثته إليهم أو للرد على من زعم أنه مبعوث إلى غيرهم { أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير } نصب بدل من أني قد جئتكم أو جر بدل من آية أو رفع على هي أني أخلق لكم والمعنى : أقدر لكم وأصور الأشياء مثل صورة الطير وقرأ نافع { إني } بالكسر { فأنفخ فيه } الضمير للكاف أي في ذلك الشيء المماثل { فيكون طيرا بإذن الله } فيصير حيا طيارا بأمر الله نبه به على أن إحياءه من الله تعالى لا منه وقرأ نافع هنا وفي المائدة { طائر } بالألف والهمزة { وأبرئ الأكمه والأبرص } الأكمة الذي ولد أعمى أو الممسوح العين روي : أن ربما كان يجتمع عليه ألوف من المرضى من أطاق منهم أتاه ومن لم يطق أتاه عيسى عليه الصلاة و السلام وما يداوي إلا بالدعاء { وأحيي الموتى بإذن الله } كرر بإذن الله دفعا لتوهم الألوهية فإن الإحياء ليس من جنس الأفعال البشرية { وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم } بالمغيبات من أحوالكم التي لا تشكون فيها { إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين } موفقين للإيمان فإن غيرهم لا ينتفع بالمعجزات أو مصدقين للحق غير معاندين

50 - { ومصدقا لما بين يدي من التوراة } عطف على { رسولا } على الوجهين أو منصوب بإضمار فعل دل عليه { قد جئتكم } أي وجئتكم مصدقا { ولأحل لكم } مقدر بإضماره أو مردود على قوله : { أني قد جئتكم بآية } أو معطوف على معنى { مصدقا } كقولهم جئتك معتذرا ولأطيب قلبك { بعض الذي حرم عليكم } أي في شريعة موسى عليه الصلاة و السلام كالشحوم والثروب والسمك ولحوم الإبل والعمل في السبت وهو يدل على أن شرعه كان ناسخا لشرع موسى عليه الصلاة و السلام ولا يخل ذلك بكونه مصدقا للتوراة كما لا يعود نسخ القرآن بعضه ببعض عليه بتناقض وتكاذب فإن النسخ في الحقيقة بيان وتخصيص في الأزمان { وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون }

51 - { إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم } أي جئتكم بآية أخرى ألهمنها ربكم وهو قوله : { إن الله ربي وربكم } فإنه دعوة الحق المجمع عليها فيما بين الرسل الفارقة بين النبي والساحر أو جئتكم بآية على أن الله ربي وربكم وقوله : { فاتقوا الله وأطيعون } اعتراض والظاهر أنه تكرير لقوله : { قد جئتكم بآية من ربكم } أي جئتكم بآية بعد أخرى مما ذكرت لكم والأول لتمهيد الحجة والثاني لتقريبها إلى الحكم ولذلك رتب عليه بالفاء قوله تعالى : { فاتقوا الله } أي لما جئتكم بالمعجزات الظاهرة والآيات الباهرة فاتقوا الله في المخالفة وأطيعون فيما دعوتكم إليه ثم شرع في الدعوة وأشار إليها بالقول المجمل فقال : { إن الله ربي وربكم } إشارة إلى استكمال القوة النظرية بالإعتقاد الحق الذي غايته التوحيد وقال : { فاعبدوه } إشارة إلى استكمال القوة العلمية فإنه بملازمة الطاعة التي هي الإتيان بالأوامر والانتهاء عن المناهي ثم قرر ذلك بأن بين أن الجمع بين الأمرين هو الطريق المشهود له بالاستقامة ونظيره قوله عليه الصلاة و السلام [ قل آمنت بالله ثم استقم ]

52 - { فلما أحس عيسى منهم الكفر } يحقق كفرهم عنده تحقق ما يدرك بالحواس { قال من أنصاري إلى الله } ملتجئا إلى الله تعالى أو ذاهبا أو ضاما إليه ويجوز أن يتعلق الجار ب { أنصاري } مضمنا معنى الإضافة أي من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله تعالى في نصري وقيل إلى ها هنا بمعنى ( مع ) أو ( في ) أو ( اللام ) و { قال الحواريون } حواري الرجل خاصته من الحور وهو البياض الخالص ومنه الحواريات للحضريات لخلوص ألوانهن سمي به أصحاب عيسى عليه الصلاة و السلام من اليهود وقيل قصارين يحورون الثياب أي يبيضونها { نحن أنصار الله } أي أنصار دين الله { آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون } لتشهد لنا يوم القيامة حين تشهد الرسل لقومهم وعليهم

53 - { ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين } أي مع الشاهدين بوحدانيتك أو مع الأنبياء الذين يشهدون لأتباعهم أو مع أمة محمد صلى الله عليه و سلم فإنهم شهداء على الناس

54 - { ومكروا } أي الذين أحس منهم الكفر من اليهود بأن وكلوا عليه من يقتله غيلة { ومكر الله } حين رفع عيسى عليه الصلاة و السلام وألقى شبهه على من قصد إغتياله حتى قتل والمكر من حيث إنه في الأصل حيلة يجلب بها غيره إلى مضرة لا يسند إلى الله تعالى إلا على سبيل المقابلة والازدواج { والله خير الماكرين } أقواهم مكرا وأقدرهم على إيصال الضرر من حيث لا يحتسب

55 - { إذ قال الله } ظرف لمكر الله أو خير الماكرين أو المضمر مثل وقع ذلك { يا عيسى إني متوفيك } أي مستوفي أجلك ومؤخرك إلى أجلك المسمى عاصما إياك من قتلهم أو قابضك من الأرض من توفيت مالي أو متوفيك نائما إذ روي أنه رفع نائما أو مميتك إلى السماء وإليه ذهبت النصارى { ورافعك إلي } إلى محل كرامتي ومقر ملائكتي { ومطهرك من الذين كفروا } من سوء جوازهم أو قصدهم { وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة } يعاونهم بالحجة أو السيف في غالب الأمر ومتبعوه من آمن بنبوته من المسلمين والنصارى وإلى الآن لم تسمع غلبة لليهود عليهم ولم يتفق لهم ملك ودولة { ثم إلي مرجعكم } الضمير لعيسى عليه الصلاة و السلام ومن تبعه ومن كفر به وغلب المخاطبين على الغائبين { فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون } من أمر الدين

56 - { فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين }

57 - { وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم } تفسير للحكم وتفصيل لهز وقرأ حفص { فيوفيهم } بالياء { والله لا يحب الظالمين } تقرير لذلك

58 - { ذلك } إشارة إلى ما سبق من نبأ عيسى وغيره وهو مبتدأ خبره { نتلوه عليك } وقوله : { من الآيات } حال من الهاء ويجوز أن يكون الخبر ونتلوه حالا على أن العامل معنى الإشارة وأن يكونا خبرين وأن ينتصب بمضمر يفسره نتلوه { والذكر الحكيم } المشتمل على الحكم أو المحكم الممنوع عن تطرق الخلل إليه يريد به القرآن وقيل اللوح

59 - { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم } إن شأنه الغريب كشأن آدم عليه الصلاة و السلام { خلقه من تراب } جملة مفسرة للتمثيل مبينة لما به الشبه وهو أنه خلق بلا أب كما خلق آدم من التراب بلا أب وأم شبه حاله بما هو أغرب منه إفحاما للخصم وقطعا لمواد الشبهة والمعنى خلق قالبه من التراب { ثم قال له كن } أي أنشأه بشرا كقوله تعالى : { ثم أنشأناه خلقا آخر } أو قدر تكوينه من التراب ثم كونه ويجوز أن يكون ثم لتراخي الخبر لا المخبر { فيكون } حكاية حال ماضية

60 - { الحق من ربك } خبر محذوف أي هو الحق وقيل { الحق } مبتدأ و { من ربك } خبره أي الحق المذكور من الله تعالى { فلا تكن من الممترين } خطاب للنبي صلى الله عليه و سلم على طريقة التهييج لزيادة الثبات أو لكل سامع

61 - { فمن حاجك } من النصارى { فيه } في عيسى { من بعد ما جاءك من العلم } أي من البينات الموجبة للعلم { فقل تعالوا } هلموا بالرأي والعزم { ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم } أي يدع كل منا ومنكم نفسه وأعزة أهله وألصقهم بقلبه إلى المباهلة ويحمل عليها وإنما قدمهم على الأنفس لأن الرجل يخاطر بنفسه لهم ويحارب دونهم { ثم نبتهل } أي نتباهل بأن نلعن الكاذب منا والبهلة بالضم والفتح اللعنة وأصله الترك من قولهم بهلت الناقة إذا تركتها بلا صرار { فنجعل لعنة الله على الكاذبين } عطف فيه بيان روي [ أنهم لما دعوا إلى المباهلة قالوا حتى ننظر فلما تخالوا قالوا للعاقب - وكان ذا رأيهم - ما ترى فقال : والله لقد عرفتم نبوته ولقد جاءكم بالفصل في أمر صاحبكم والله ما باهل قوم نبيا إلا هلكوا فإن أبيتم إلا إلف دينكم فوادعوا الرجل وانصرفوا فأتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد غدا محتضنا الحسين آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي رضي الله عنه خلفها وهو يقول : إذا أنا دعوت فأمنوا فقال أسقفهم يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو سألوا الله تعالى أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله فلا تباهلوا فتهلكوا فأذعنوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم وبذلوا له الجزية ألفي حلة حمراء وثلاثين درعا من حديد فقال عليه الصلاة و السلام : والذي نفسي بيده لو تباهلوا لمسخوا قردة وخنازير ولأضرم عليهم الوادي نارا ولأستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على الشجر ] وهو دليل على نبوته وفضل من أتى بهم من أهل بيته

62 - { إن هذا } أي ما قص من نبأ عيسى ومريم { لهو القصص الحق } بجملتها خبر إن أو هو فصل يفيد أن ما ذكره في شأن عيسى ومريم حق دون ما ذكروه وما بعده خبر واللام دخلت فيه لأنه أقرب إلى المبتدأ من الحبر وأصلها أن تدخل على المبتدأ { وما من إله إلا الله } صرح فيه ب { من } المزيدة للاستغراق تأكيدا للرد على النصارى في تثليثهم { وإن الله لهو العزيز الحكيم } لا أحد سواه يساويه في القدرة التامة والحكمة البالغة ليشاركه في الألوهية

63 - { فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين } وعيد لهم ووضع المظهر موضع المضمر ليدل على أن التولي عن الحجج والإعراض عن التوحيد إفساد للدين والإعتقاد المؤدي إلى فساد النفس بل وإلى فساد العالم

64 - { قل يا أهل الكتاب } يعم أهل الكتابين قيل يريد به وفد نجران أو يهود المدينة { تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } لا يختلف فيها الرسل والكتب ويفسرها ما بعدها { أن لا نعبد إلا الله } أن نوحده بالعبادة ونخلص فيها { ولا نشرك به شيئا } ولا نجعل غيره شريكا له في استحقاق العبادة ولا نراه أهلا لأن يعبد { ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله } ولا نقول عزير ابن الله ولا المسيح ابن الله ولا نطيع الأحبار فيما أحدثوا من التحريم والتحليل لأن كلا منهم بعضنا بشر مثلنا روي [ أنه لما نزلت { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } قال عدي بن حاتم : ما كنا نعبدهم يا رسول الله قال أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم قال نعم قال : هو ذاك ] { فإن تولوا } عن التوحيد { فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } أي لزمتكم الحجة فاعترفوا بأنا مسلمون دونكم أو اعترفوا بأنكم كافرون بما نطقت به الكتب وتطابقت عليه الرسل
( تنبيه ) أنظر إلى ما راعى في هذه القصة من المبالغة في الإرشاد وحسن التدرج في الحجاج بين : أولا أحوال عيسى عليه الصلاة و السلام وما تعاور عليه من الأطوار المنافية للألوهية ثم ذكر ما يحل عقدهم ويزيح شبهتهم فلما رأى عنادهم ولجاجهم دعاهم إلى المباهلة بنوع من الإعجاز ثم لما أعرضوا عنها وانقادوا بعض الانقياد عاد عليهم بالإرشاد وسلك طريقا أسهل وألزم بأن دعاهم إلى ما وافق عليه عيسى والإنجيل وسائر الأنبياء والكتب ثم لما لم يجد ذلك أيضا عليهم وعلم أن الآيات والنذر لا تغني عنهم أعرض عن ذلك وقال { فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون }

65 - { يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده } تنازعت اليهود والنصارى في إبراهيم عليه الصلاة و السلام وزعم كل فريق بأنه منهم وترافعوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت والمعنى أن اليهودية والنصرانية حدثتا بنزول التوراة والإنجيل على موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام وكان إبراهيم قبل موسى بألف سنة وعيسى بألفين فكيف يكون عليهما { أفلا تعقلون } فتدعون المحال

66 - { ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم } ها حرف تنبيه نبهوا بها على حالهم التي غفلوا عنها وأنتم مبتدأ و { هؤلاء } خبره و { حاججتم } جملة أخرى مبينة للأولى أي أنتم هؤلاء الحمقى وبيان حماقتكم أنكم جادلتم فيما لكم به علم مما وجدتموه في التوراة والإنجيل عنادا أو تدعون وروده في فلم تجادلون فيما لا علم لكم به ولا ذكر له في كتابكم من دين إبراهيم وقيل { هؤلاء } بمعنى الذين و { حاججتم } صلته وقيل ها أنتم أصله أأنتم على الاستفهام للتعجب من حماقتهم فقلبت الهمزة هاء وقرأ نافع و أبو عمرو { ها أنتم } حيث وقع بالمد من غير همز وورش أقل أمدا و قنبل الهمزة من غير ألف بعد الهاء والباقون بالمد والهمز و البزي بقصر المد على أصله { والله يعلم } ما حاججتم فيه { وأنتم لا تعلمون } وأنتم جاهلون به

67 - { ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا } تصريح بمقتضى ما قرره من البرهان { ولكن كان حنيفا } مائلا عن العقائد الزائغة { مسلما } منقادا لله وليس المراد أنه كان على ملة الإسلام وإلا لاشترك الإلزام { وما كان من المشركين } تعريض بأنهم مشركون لإشراكهم به عزيرا والمسيح ورد لادعاء المشركين أنهم على ملة إبراهيم عليه السلام

68 - { إن أولى الناس بإبراهيم } إن أخصهم به وأقربهم منه من الولي وهو القرب { للذين اتبعوه } من أمته { وهذا النبي والذين آمنوا } لموافقتهم له في أكثر ما شرع لهم على الأصالة وقريء والنبي بالنصب عطفا على الهاء في اتبعوه وبالجر عطفا على إبراهيم { والله ولي المؤمنين } ينصرهم ويجازيهم الحسنى لإيمانهم

69 - { ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم } نزلت في اليهود لما دعوا حذيفة وعمارا ومعاذا إلى اليهودية و { لو } بمعنى أن { وما يضلون إلا أنفسهم } وما يتخطاهم الإضلال ولا يعود وباله إلا عليهم إذ يضاعف به عذابهم أو ما يضلون إلا أمثالهم { وما يشعرون } وزره واختصاص ضرره بهم

70 - { يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله } بما نطقت به التوراة والإنجيل ودلت على نبوة محمد صلى الله عليه و سلم { وأنتم تشهدون } أنها آيات الله أو بالقرآن وأنتم تشهدون نعته في الكتابين أو تعلمون بالمعجزات أنه الحق

71 - { يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل } بالتحريف وإبراز الباطل في صورته أو في التقصير بالتمييز بينهما وقريء تلبسون بالتشديد وتلبسون بفتح الباء أي تلبسون الحق مع الباطل كقوله عليه السلام [ كلابس ثوبي زور ] { وتكتمون الحق } نبوة محمد صلى الله عليه و سلم ونعته { وأنتم تعلمون } عالمين بما تكتمونه

72 - { وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار } أي أظهروا الإيمان بالقرآن أول النهار { واكفروا آخره لعلهم يرجعون } واكفروا به آخره لعلهم يشكون في دينهم ظنا بأنكم رجعتم لخلل ظهر لكم والمراد بالطائفة كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف قالا لأصحابهما لما حولت القبلة : آمنوا بما أنزل عليهم من الصلاة إلى الكعبة وصلوا إليها أول النهار ثم وصلوا إلى الصخرة آخره لعلهم يقولون هم أعلم منا وقد رجعوا فيرجعون وقيل اثنا عشر من أحبار خيبر تقاولا بأن يدخلوا الإسلام أو النهار ويقولوا آخره نظرنا في كتابنا وشاورنا علماءنا فلم نجد محمدا عليه الصلاة و السلام بالنعت الذي ورد في التوراة لعل أصحابه يشكون فيه

73 - { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } ولا تقروا عن تصديق قلب إلا لأهل دينكم أو لا تظهروا إيمانكم وجه النهار لمن كان على دينكم فإن رجوعهم أرجى وأهم { قل إن الهدى هدى الله } هو يهدي من يشاء إلى الإيمان ويثبته عليه { أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم } متعلق بمحذوف أي دبرتم ذلك وقلتم لأن يؤتى أحد المعنى أن الحسد حملكم على ذلك أو بلا تؤمنوا أي ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأشياعكم ولا تفشوه إلى المسلمين لئلا يزيد ثباتهم ولا إلى المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام وقوله : { قل إن الهدى هدى الله } اعتراض يدل على أن كيدهم لا يجدي بطائل أو خبر إن على أن هدى الله بدل من الهدى وقراءة ابن كثير { أن يؤتى } على الاستفهام للتقريع تؤيد الوجه الأول أي إلا أن يؤتى أحد دبرتم و قرىء { إن } على أنها نافية فيكون من كلام الطائفة أي ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم وقولوا لهم ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم { أو يحاجوكم عند ربكم } عطف على { أن يؤتى } على الوجهين الأولين وعلى الثالث معناه : حتى يحاجوكم عند ربكم فيدحضوا حجتكم عند ربكم والواو ضمير أحد لأنه في معنى الجمع إذ المراد به غير أتباعهم { قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم }

74 - { يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم } رد وإبطال لما زعموه بالحجة الواضحة

75 - { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك } كعبد الله بن سلام استودعه قرشي ألفا ومائتي أوقية ذهبا فأداه إليه { ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك } كفنحاص بن عازوراء استودعه قرشي آخر دينارا فجحده وقيل المأمونون على الكثير النصارى إذ الغالب فيهم الأمانة والخائنون في القليل اليهود إذا الغالب عليهم الخيانة وقرأ حمزة و أبوبكر و أبو عمرو { يؤده إليك } و { لا يؤده إليك } بإسكان الهاء و قالون باختلاس كسرة الهاء وكذا روي عن حفص والباقون بإشباع الكسرة { إلا ما دمت عليه قائما } إلا مدة دوامك قائما على رأسه مبالغا في مطالبته بالتقاضي والترافع وإقامة البينة { ذلك } إشارة إلى ترك الأداء المدلول عليه بقوله { لا يؤده } { بأنهم قالوا } بسبب قولهم { ليس علينا في الأميين سبيل } أي ليس علينا في شأن من ليسوا من أهل الكتاب - ولم يكونوا على ديننا - عتاب وذم { ويقولون على الله الكذب } بادعائهم ذلك { وهم يعلمون } أنهم كاذبون وذلك لأنهم استحلوا ظلم من خالفهم وقالوا : لم يجعل لهم في التوراة حرمة وقيل عامل اليهود رجلا من قريش فلما أسلموا تقاضوهم فقالوا سقط حقكم حيث تركتم دينكم وزعموا أنه كذلك في كتابهم وعن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال عند نزولها [ كذب الأعداء ما من شيء في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر ]

76 - { بلى } إثبات لما نفوه أي بلى عليهم فيهم سبيل { من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين } اسئناف مقرر للجملة التي سدت { بلى } مسدها والضمير المجرور لمن أو لله وعموم المتقين ناب عن الراجع من الجزاء إلى { من } وأشعر بأن التقوى ملاك الأمر وهو يعم الوفاء وغيره من أداء الواجبات والاجتناب عن المناهي

77 - { إن الذين يشترون } يستبدلون { بعهد الله } بما عاهدوا الله عليه من الإيمان بالرسول والوفاء بالأمانات { وأيمانهم } وبما حلفوا به من قولهم والله لنؤمنن به ولننصرنه { ثمنا قليلا } متاع الدنيا { أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله } بما يسرهم أو بشء أصلا وأن الملائكة يسألونه يوم القيامة أو لا ينتفعون بكلمات الله وآياته والظاهر أنه كناية عن غضبه عليهم لقوله : { ولا ينظر إليهم يوم القيامة } فإن من سخط على غيره واستهان به أعرض عنه وعن التكلم معه والالتفات نحوه كما أن من اعتد بغيره يقاوله ويكثر النظر إليه { ولا يزكيهم } ولا يثني عليهم { ولهم عذاب أليم } على ما فعلوه قيل : إنها نزلت في أحبار حرفوا التوراة وبدلوا نعت محمد صلى الله عليه و سلم وحكم الأمانات وغيرهما وأخذوا على ذلك رشوة وقيل : نزلت في رجل أقام سلعة في السوق فحلف لقد اشتراها بما لم يشترها به وقيل : نزلت في ترافع كان بين الأشعث بن قيس ويهودي في بئر أو أرض وتوجهه الحلف على اليهودي

78 - { وإن منهم لفريقا } يعني المحرفين ككعب ومالك وحيي بن أخطب { يلوون ألسنتهم بالكتاب } يفتلونها بقراءته فيميلونها عن المنزل إلى المحرف أو يعطفونها بشبه الكتاب وقرىء { يلون } على قلب الواو المضمومة همزة ثم تخفيفها بحذفها وإلقاء حركتها على الساكن قبلها { لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب } الضمير للمحرف المدلول عليه بقوله { يلوون } وقرىء { لتحسبوه } بالياء والضمير أيضا للمسمين { ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله } تأكيد في قوله : { وما هو من الكتاب } وتشنيع عليهم وبيان لأنه يزعمون ذلك تصريحا لا تعريضا أي ليس هو نازلا من عنده وهذا لا يقتضي أن لا يكون فعل العبد فعل الله تعالى { ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } تأكيد وتسجيل عليهم بالكذب على الله والتعمد فيه

79 - { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله } تكذيب ورد على عبده عيسى عليه السلام وقيل [ أن أبا رافع القرظي والسيد النجراني قالا : يا محمد أتريد أن نعبدك ونتخذك ربا فقال : معاذ الله أن نعبد غير الله وأن نأمر بعبادة غير الله فما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني ] فنزلت وقيل [ قال رجل يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك قال : لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله ] { ولكن كونوا ربانيين } ولكن يقول كونوا ربانيين والرباني منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون كاللحياني والرقباني وهو الكامل في العلم والعمل { بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون } بسبب كونكم معلمين الكتاب وبسبب كونكم دارسين له فإن فائدة التعليم والتعلم معرفة الحق والخير للإعتقاد والعمل وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب تعلمون بمعنى عالمين وقرئ { تدرسون } من التدريس وتدرسون من أدرس بمعنى درس كأكرم وكرم ويجوز أن تكون القراءة المشهورة أيضا بهذا المعنى على تقدير وبما كنتم تدرسونه على الناس

80 - { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا } نصبه ابن عامر وحمزة وعاصم ويعقوب عطفا على ثم يقول وتكون لا مزيدة لتأكيد معنى النفي في قوله { ما كان } أي ما كان لبشر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادة نفسه ويأمر باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا أو غير مزيدة على معنى أنه ليس له أن يأمر بعبادته ولا يأمر باتخاذ أكفائه أربابا بل ينهى عنه وهو أدنى من العبادة ورفعه الباقون على الاستئناف ويحتمل الحال وقرأ أبو عمرو على أصله برواية الدوري باختلاس الضم { أيأمركم بالكفر } إنكار والضمير فيه للبشر وقيل لله { بعد إذ أنتم مسلمون } دليل على أن الخطاب للمسلمين وهم المستأذنون لأن يسجدوا له

81 - { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه } قيل إنه على ظاهره وإذا كان هذا حكم الأنبياء كان الأمم به أولى وقيل معناه أن الله تعالى أخذ الميثاق من النبيين وأممهم واستغنى بذكرهم عن ذكر الأمم وقيل إضافة الميثاق للنبيين إضافته إلى الفاعل والمعنى وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أممهم وقيل المراد أولاد النبيين على حذف المضاف وهم بنو لإسرائيل أو سماهم نبيين تهكما لأنهم كانوا يقولون نحن أحق بالنبوة من محمد لأنا أهل الكتاب والنبيون كانوا منا واللام في { لما } موطئه للقسم لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف وما تحتمل الشرطية ولتؤمنن ساد مسد جواب القسم والشرط وتحتمل الخبرية وقرأ حمزة { لما } بالكسر على أن ما مصدرية أي لأجل إيتائي إياكم بعضكم الكتاب ثم مجيء رسول مصدق له أخذ الله الميثاق لتؤمنن به ولتنصرنه أو موصولة والمعنى أخذه الله للذي آتيتكموه وجاءكم رسول مصدق له وقرىء { لما } بمعنى حين آتيتكم أو لمن أجل ما آتيتكم على أن أصله لمن ما بالإدغام فحذف إحدى الميمات الثلاث استثقالا وقرأ نافع { آتيناكم } بالنون والألف جميعا { قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري } أي عهدي سمي به لأنه يؤصر أي يشد وقرىء بالضم وهو إما لغة فيه كعبر وعبر عن جمع إصار وهو ما يشد به { قالوا أقررنا قال فاشهدوا } أي فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار وقيل الحطاب في للملائكة { وأنا معكم من الشاهدين } وأنا أيضا على إقراركم وتشاهدكم شاهد وهو توكيد وتحذير عظيم

82 - { فمن تولى بعد ذلك } بعد الميثاق والتوكيد والإقرار والشهادة { فأولئك هم الفاسقون } المتمردون من الكفرة

83 - { أفغير دين الله يبغون } عطف على الجملة المتقدمة والهمزة متوسطة بينهما للإنكار أو محذوف تقديره أتتولون فغير دين الله تبغون وتقديم المفعول لأنه المقصود بالإنكار والفعل بلفظ الغيبة عند أبي عمرو وعاصم في رواية حفص ويعقوب وبالتاء عند الباقين على تقدير وقل له { وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها } أي طائعين بالنظر واتباع الحجة وكارهين بالسيف ومعاينة ما يلجىء إلى الإسلام كنتق الجبل وإدراك الغرق والإشراف على الموت أو مختارين كالملائكة والمؤمنين ومسخرين كالكفرة فإنهم لا يقدرون أن يممتنعوا عما قضى عليهم { وإليه يرجعون } وقرىء بالياء على أن الضمير لمن

84 - { قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم } أمر للرسول صلى الله عليه و سلم بأن يخبر عن نفسه ومتابعيه بالإيمان والقرآن كما هو منزل عليه بتوسط تبليغه إليهم وأيضا المنسوب إلى واحد من الجمع قد ينسب إليهم أو بأن يتكلم عن نفسه على طريقة الملوك إجلالا له والنزول كما يعدى بإلى لأنه ينتهي إلى الرسل يعدى بعلى لأنه من فوق وإنما قدم المنزل عليه السلام على المنزل على سائر الرسل لأنه المعرف له والعيار عليه { لا نفرق بين أحد منهم } بالتصديق والتكذيب { ونحن له مسلمون } منقادون أو مخلصون في عبادته

85 - { ومن يبتغ غير الإسلام دينا } أي غير التوحيد والإنقياد لحكم الله { فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } الواقعين في الخسران والمعنى أن المعرض عن الإسلام والطالب لغيره فاقد للنفع واقع في الخسران بإبطال الفطرة السليمة التي فطر الناس عليها واستدل به على أن الإيمان هو الإسلام إذا لو كان غيره لم يقبل والجواب إنه ينفي قبول كل دين يغايره لا قبول كل ما يغايره ولعل الدين أيضا للأعمال

86 - { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات } استبعاد لأن يهديهم الله فإن الحائد عن الحق بعد ما وضح له منهمك في الضلال بعيد عن الرشاد وقيل نفي وإنكار له وذلك يقتضي بأن لا تقبل توبة المرتد { وشهدوا } عطف على ما في { إيمانهم } من معنى الفعل ونظيره فأصدق وأكن أو حال بإضمار قد من كفروا وهو على الوجهين دليل على أن الإقرار باللسان خارج عن حقيقة الإيمان { والله لا يهدي القوم الظالمين } الذين ظلموا أنفسهم بالإخلال بالنظر ووضع الكفر موضع الإيمان فكيف من جاءه الحق وعرفه ثم أعرض عنه

87 - { أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين } يدل بمنطوقه على جواز لعنهم وبمفهومه على نفي جواز لعن غيرهم ولعل الفرق أنهم مطبوعون على الكفر ممنوعون عن الهدى مؤيسون عن الرحمة رأسا بخلاف غيرهم والمراد بالناس المؤمنون أو العموم فإن الكافر أيضا بلعن منكر الحق والمرتد عنه ولكن لا يعرف الحق بعينه

88 - { خالدين فيها } في اللعنة أو العقوبة أو النار وإن لم يجز ذكرهما لدلالة الكلام عليهما { لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون }

89 - { إلا الذين تابوا من بعد ذلك } أي بعد الارتداد { وأصلحوا } ما أفسدوا ويجوز أ لا يقدر له مفعول بمعنى ودخلوا في الصلاح { فإن الله غفور } يقبل توبته { رحيم } يتفضل عليه قيل : إنها نزلت في الحارث بن سويد حين ندم على ردته فأرسل إلى قومه أن سلوا هل لي من توبة فأرسل إليه أخوه الجلاس بالآية فرجع إلى المدينة فتاب

90 - { إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا } كاليهود كفروا بعيسى والإنجيل بعد الإيمان بموسى والتوراة ثم ازدادوا كفرا بمحمد والقرآن أو كفروا بمحمد بعدما آمنوا به قبل مبعثه ثم ازدادوا كفرا بالإصرار والعناد والطعن فيه والصد عن الإيمان ونقض الميثاق أو كقوم ارتدوا ولحقوا بمكة ثم ازدادوا كفرا بقولهم نتربص بمحمد ريب المنون أو نرجع إليه وننافقه بإظهاره { لن تقبل توبتهم } لأنهم لا يتوبون أو لا يتوبون إلا إذا أشرفوا على الهلاك فكني عن عدم توبتهم بعدم قبولها تغليظا في شأنهم وإبرازا لحالهم في صورة حال اللآيسين من الرحمة أو لأن توبتهم لا تكون إلا نفاقا لارتدادهم وزيادة كفرهم ولذلك لم تدخل الفاء فيه { وأولئك هم الضالون } الثابتون على الضلال

91 - { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا } لما كان الموت على الكفر سببا لامتناع قبول الفدية أدخل الفاء ها هنا للإشعار به وملء الشيء ما يملؤه
و { ذهبا } نصب على التمييز وقرىء بالرفع على البدل من { ملء } أو الخبر لمحذوف { ولو افتدى به } محمول على المعنى كأنه قيل : فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبا أو معطوف على مضمر تقديره فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا لو تقرب به في الدنيا ولو افتدى به من العذاب في الآخرة أو المراد لو افتدى بمثله كقوله تعالى : { إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله } والمثل يحذف ويراد كثيرا لأن المثلين في حكم شيء واحد { أولئك لهم عذاب أليم } مبالغة في التحذير وإقناط لأن من لا يقبل منه الفداء ربما يعفى عنه تكرما { وما لهم من ناصرين } في دفع العذاب ومن مزيدة للاستغراق

92 - { لن تنالوا البر } أي لن تبلغوا حقيقة البر الذي هو كمال الخير أو لن تنالوا بر الله تعالى الذي هو الرحمة والرضى والجنة { حتى تنفقوا مما تحبون } أي من المال أو ما يعمه وغيره كبذل الجاه في معاونة الناس والبدن في طاعة الله والمهجة في سبيله روي [ أنها لما نزلت جاء أبو طلحة فقال : يا رسول الله إن أحب أموالي إلي بيرحاء فضعها حيث أراك الله فقال : بخ بخ ذاك مال رابح أو رائح وإني أرى أن تجعلها في الأقربين وجاء زيد ابن حارثة بفرس كان يحبها فقال : هذه في سبيل الله فحمل عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم أسامة بن زيد فقال زيد : إنما أردت أن أتصدق بها فقال عليه السلام : إن الله قد قبلها منك ] وذلك يدل على أن إنفاق أحب الأموال على أقرب الأقارب أفضل وأن الآية تعم الإنفاق الواجب والمستحب وقرىء بعض ما تحبون وهو يدل على أن من للتبعيض ويحتمل التبيين { وما تنفقوا من شيء } أي من أي شيء محبوب أو غيره ومن لبيان ما { فإن الله به عليم } فيجازيكم بحسبه

93 - { كل الطعام } أي المطعومات والمراد أكلها { كان حلا لبني إسرائيل } حلالا لهم وهو مصدر نعت به ولذلك استوى فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث قال تعالى : { لا هن حل لهم } { إلا ما حرم إسرائيل } يعقوب { على نفسه } كلحوم الإبل وألبانها وقيل كان به عرق النسا فنذر إن شفي لم يأكل أحب الطعام إليه وكان ذلك أحبه إليه وقيل : فعل ذلك للتدواي بإشارة الأطباء واحتج به من جوز للنبي صلى الله عليه و سلم أن يجتهد وللمانع أن يقول ذلك بإذن من الله فيه فهو كتحريمه ابتداء { من قبل أن تنزل التوراة } أي من قبل إنزالها مشتملة على تحريم ما حرم عليهم لظلمهم وبغيهم عقوبة وتشديدا وذلك رد على اليهود في دعوى البراءة مما نعى عليهم في قوله تعالى : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات } وقوله : { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } الآيتين بأن قالوا لسنا أول من حرمت عليه وإنما كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعده حتى انتهى الأمر إلينا فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا وفيه منع النسخ والطعن في دعوى الرسول صلى الله عليه و سلم موافقة إبراهيم عليه السلام بتحليله لحوم الإبل وألبانها { قل فاتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين } أمر بمحاجتهم بكتابهم وتبكيتهم بما فيه من أنه قد حرم عليهم بسبب ظلمهم ما لم يكن محرما روي : أنه عليه السلام لما قاله لهم بهتوا ولم يجسروا أن يخرجوا التوراة وفيه دليل على نبوته

94 - { فمن افترى على الله الكذب } ابتدعه على الله تعالى بزعمه أنه حرم ذلك قبل نزول التوراة على بني إسرائيل ومن قبلهم { من بعد ذلك } من بعد ما لزمتهم الحجة { فأولئك هم الظالمون } الذين لا ينصفون من أنفسهم ويكابرون الحق بعدما وضح لهم

95 - { قل صدق الله } تعريض بكذبهم أي ثبت أن الله صادق فيما أنزل وأنتم الكاذبون { فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا } أي ملة الإسلام التي هي في الأصل ملة إبراهيم أو مثل ملته حتى تتخلصوا من اليهودية التي اضطرتكم إلى التحريف والمكابرة لتسوية الأغراض الدنيوية وألزمتكم تحريم طيبات أحلها الله تعالى لإبراهيم ومن تبعه { وما كان من المشركين } فيه إشارة إلى أن اتباعه واجب في التوحيد الصرف والاستقامة في الدين والتجنب عن الإفراط والتفريط والتعريض بشرك اليهود

96 - { إن أول بيت وضع للناس } أي وضع للعبادة وجعل متعبدا لهم والواضع هو الله تعالى ويدل عليه أنه قرىء على البناء للفاعل { للذي ببكة } للبيت الذي { ببكة } وهي لغة في مكة كالنبيط والنميط وأمر راتب وراتم ولازب ولازم وقيل هي موضع المسجد ومكة البلد من بكة إذا زحمه أو من بكه إذا دقه فإنها تبك أعناق الجبابرة روي : [ أنه عليه السلام سئل عن أول بيت وضع للناس فقال : المسجد الحرام ثم بيت المقدس وسئل كم بينهما فقال أربعون سنة ] وقيل أول من بناه إبراهيم ثم هدم فبناه قوم من جرهم ثم العمالقة ثم قريش وقيل هو أول بيت بناه آدم فانطمس في الطوفان ثم بناه إبراهيم وقيل : كان في موضعه قبل آدم بيت يقال له الضراح يطوف به الملائكة فلما هبط آدم أمر بأن يحجه ويطوف حوله ورفع في الطوفان إلى السماء الرابعة تطوف به ملائكة السموات وهو لا يلائم ظهر الآية وقيل المراد أنه أول بيت بالشرف لا بالزمان { مباركا } كثير الخير والنفع لمن حجه و اعتمره واعتكف دونه وطاف حوله حال من المستكن في الظرف { وهدى للعالمين } لأنه قبلتهم ومتعبدهم ولأن فيه آيات عجيبة كما قال :

97 - { فيه آيات بينات } كانحراف الطيور عن موازاة البيت على مدى الأعصار وأن ضواري السباع تخالط الصيود في الحرم ولا تتعرض لها وإن كل جبار قصده بسوء قهره الله تعالى كأصحاب الفيل والجملة مفسرة للهدى أو حال أخرى { مقام إبراهيم } مبتدأ محذوف خبره أي منهما مقام إبراهيم أو بدل من آيات بدل البعض من الكل وقيل عطف بيان على أ المراد بالآيات أثر القدم في الصخرة الصماء وغوصها فيها إلى الكعبين وتخصيصها بهذه الإلانة من بين الصخار وإبقاؤه دون سائر آثار الأنبياء وحفظه مع كثرة أعدائه ألوف سنه ويؤيده أنه قرىء { آية } بينة على التوحيد وسبب هذا الأثر أنه لما ارتفع بنيان الكعبة قام على هذا الحجر ليتمكن من رفع الحجارة فغاصت فيه قدماه { ومن دخله كان آمنا } جملة ابتدائية أو شرطية معطوفة من حيث المعنى على مقام لأنه في معنى أمن من دخله أي ومنها أمن من دخله أو فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله اقتصر بذكرهما من الآيات الكثيرة وطوى ذكر غيرهما كقوله عليه السلام [ حبب إلي من دنياكم ثلاث : الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة ] لأن فيها غنية عن غيرها في الدارين بقاء الأثر مدى الدهر والأمن من العذاب يوم القيامة قال عليه الصلاة و السلام : [ من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا ] وعند أبي حنيفة من لزمه القتل بردة أو قصاص أو غيرهما والتجأ إلى الحرم لم يتعرض له ولكن ألجىء إلى الخروج { ولله على الناس حج البيت } بالكسر وهو لغة نجد { من استطاع إليه سبيلا } بدل من الناس بدل البعض من الكل مخصص له وقد فسر رسول الله صلى الله عليه و سلم الاستطاعة [ بالزاد والراحلة ] وهو يؤيد قول الشافعي رضي الله تعالى عنه إنها بالمال ولذلك أوجب الإستنابة على الزمن إذا وجد أجرة من ينوب عنه وقال مالك رحمه الله تعالى إنها بالبدن فيجب على من قدر على المشي والكسب في الطريق وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى إنها بمجموع الأمرين والضمير في إليه البيت أو الحج وكل ما أتى إلى الشيء فهو سبيله { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } وضع كفر موضع من لم يحج تأكيدا لوجوبه وتغليظا على تاركه ولذلك قال عليه السلام [ من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا ] وقد أكد أمر الحج في هذه الآية من وجوه الدلالة على وجوه بصيغة الخبر وإبرازه في الصورة الإسمية وإيراده على وجه يفيد أنه حق واجب لله تعالى في رقاب الناس وتعميم الحكم أولا ثم تخصيصه ثانيا فإنه كإيضاح بعد إيهام وتثنية وتكرير للمراد وتسمية ترك الحج كفرا من حيث إنه فعل الكفرة وذكر الإستغناء فإنه في هذا الموضع مما يدل على المقت والخذلان وقوله : { عن العالمين } يدل عليه لما فيه من مبالغة التعميم والدلالة على الاستغناء عنه بالبرهان والإشعار بعظم السخط لأنه تكليف شاق جامع بين كسر النفس وإتعاب البدن وصرف المال والتجرد عن الشهوات والإقبال على الله روي [ أنه لما نزل صدر الآية جمع رسول الله صلى الله عليه و سلم أرباب الملل فخطبهم وقال إن الله تعالى : كتب عليكم الحج فحجوا فآمنت به ملة واحدة وكفرت به خمس ملل فنزل ومن كفر ]

98 - { قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله } أي بآياته السمعية والعقلية الدالة على صدق محمد صلى الله عليه و سلم فيما يدعيه من وجوب الحج وغيره وتخصيص أهل الكتاب بالخطاب دليل على أن كفرهم أقبح لأن معرفتهم بالآيات أقوى وأنهم إن زعموا أنهم مؤمنون بالتوراة والإنجيل فهم كافرون بهما { والله شهيد على ما تعملون } والحال أنه شهيد مطلع على أعمالكم فيجازيكم عليها لا ينفعكم التحريف والاستسرار

99 - { قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن } كرر الخطاب والاستفهام مبالغة في التقريع ونفي العذر لهم وإشعارا بأن كل واحد من الأمرين مستقبح في نفسه مستقل باستجلاب العذاب وسبيل الله في دينه الحق المأمور بسلوكه وهو الإسلام قيل كانوا يفتنون المؤمنين ويحرشون بينهم حتى أتوا الأوس والخزرج فذكروهم وما بينهم في الجاهلية من التعادي والتحارب ليعودوا لمثله ويحتالون لصدهم عنه { تبغونها عوجا } حال من الواو أي باغين طالبين لها اعوجاجا بأن تلبسوا على الناس وتوهموا أن فيه عوجا عن الحق بمنع النسخ وتغيير صفة رسول الله صلى الله عله وسلم ونحوهما أو بأن تحرشوا بين المؤمنين لتختلف كلمتهم ويختل أمر دينهم { وأنتم شهداء } إنها سبيل الله تعالى والصد عنها ضلال وإضلال أو أنتم عدول عند أهل ملتكم يثقون بأقوالكم ويستشهدونكم في القضايا { وما الله بغافل عما تعملون } وعيد لهم ولما كان المنكر في الآية الأولى كفرهم وهم يجهرون به ختمها بقوله : { والله شهيد على ما تعملون } ولما كان في هذه الآية صدهم للمؤمنين عن الإسلام وكانوا يخفونه ويحتالون فيه قال { وما الله بغافل عما تعملون }

100 - { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين } [ نزلت في نفر من الأوس والخزرج كانوا جلوسا يتحدثون فمر بهم شاس بن قيس اليهودي فغاظه تألفهم واجتماعهم فأمر شابا من اليهود أن يجلس إليهم ويذكرهم يوم بعاث وينشدهم بعض ما قيل فيه وكان الظفر في ذلك اليوم للأوس ففعل فتنازع القوم وتفاخروا وتغاضبوا وقالوا السلاح السلاح واجتمع مع القبيلتين خلق عظيم فتوجه إليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه وقال أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بين قلوبكم فعلموا أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم فألقوا السلاح واستغفروا وعانق بعضهم بعضا وانصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ] وإنما خاطبهم الله بنفسه بعد ما أمر الرسول بأن يخاطب أهل الكتاب إظهارا لجلالة قدرهم وإشعارا بأنهم هم الأحقاء بأن يخاطبهم الله ويكلمهم

101 - { وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله } إنكار وتعجيب لكفرهم في حال اجتمع لهم الأسباب الداعية إلى الإيمان الصارفة عن الكفر { ومن يعتصم بالله } ومن يتمسك بدينه أو يلتجئ إليه في مجامع أموره { فقد هدي إلى صراط مستقيم } فقد اهتدى لا محالة

102 - { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته } حق تقواه وما يجب منها وهو استفراغ الوسع في القيام بالواجب والاجتناب عن المحارم كقوله : { فاتقوا الله ما استطعتم } وعن ابن مسعود رضي الله عنه : هو أن يطيع فلا يعصي ويشكر فلا يكفر ويذكر فلا ينسى وقيل هو : أن تنزه الطاعة عن الإلتفات إليها وعن توقع المجازاة عليها وفي هذا الأمر تأكيد للنهي عن طاعة أهل الكتاب وأصل تقاة وقية فقلبت واوها المضمومة تاء كما في تؤده وتخمة والياء ألفا { ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } أي ولا تكونن على حال سوى حال الإسلام إذا أدرككم الموت فإن النهي عن المقيد بحال أو غيرها قد يتوجه بالذات نحو الفعل تارة والقيد أخرى وقد يتوجه نحو المجموع دونهما وكذلك النفي

103 - { واعتصموا بحبل الله جميعا } بدين الإسلام أو بكتابه لقوله عليه السلام : [ القرآن حبل الله المتين ] استعار له الحبل من حيث إن التمسك به سبب للنجاة من الردي كما أن التمسك بالحبل سبب للسلامة من التردي والوثوق به والاعتماد عليه الاعتصام ترشيحا للمجاز { جميعا } مجتمعين عليه { ولا تفرقوا } أي ولا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم كأهل الكتاب أو لا تتفرقوا تفرقكم في الجاهلية يحارب بعضكم بعضا أو لا تذكروا ما يوجب التفرق ويزيل الألفة { واذكروا نعمة الله عليكم } التي من جملتها الهداية والتوفيق للإسلام المؤدي إلى التآلف وزوال الغل { إذ كنتم أعداء } في الجاهلية متقاتلين { فألف بين قلوبكم } بالإسلام { فأصبحتم بنعمته إخوانا } متحابين مجتمعين على الأخوة في الله وقيل كان الأوس والخزرج أخوين فوقع بين أولادهما العداوة وتطاولت الحروب مائة وعشرين سنة حتى أطفأها الله بالإسلام وألف بينهم برسوله صلى الله عليه و سلم { وكنتم على شفا حفرة من النار } مشفين على الوقوع في نار جهنم لكفركم إذ لو أدرككم الموت على تلك الحالة لوقعتم في النار { فأنقذكم منها } بالإسلام والضمير للحفرة أو للنار أو للشفا وتأنيثه لتأنيث ما أضيف إليه أو لأنه بمعنى الشفة فإن شفا البئر وشفتها طرفها كالجانب والجانبة وأصله شفو فقلبت الواو ألفا في المذكر وحذفت في المؤنث { كذلك } مثل ذلك التبيين { يبين الله لكم آياته } دلائله { لعلكم تهتدون } إرادة ثباتكم على الهدى وازديادكم فيه

104 - { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } من للتبعيض لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية ولأنه لا يصلح له كل أحد إذ للمتصدي له شروط لا يشترك فيها جميع الأمة كالعلم بالأحكام ومراتب الاحتساب وكيفية إقامتها والتمكن من القيام بها خاطب الجميع وطلب فعل بعضهم ليدل على أنه واجب على الكل حتى لو تركوه رأسا أثموا جميعا ولكن يسقط بفعل بعضهم وهكذا كل ما هو فرض كفاية أو للتبيين بمعنى وكونوا أمة يدعون كقوله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف } والدعاء إلى الخير يعم الدعاء إلى ما فيه صلاح ديني أو دنيوي وعطف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه عطف الخاص على العام للإيذان بفضله { أولئك هم المفلحون } المخصوصون بكمال الفلاح وروي أنه عليه السلام [ سئل من خير الناس فقال : آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأوصلهم للرحم ] والأمر بالمعروف يكون واجبا ومندوبا على حسب ما يأمر به والنهي عن المنكر واجب كله لأن جميع ما أنكره الشرع حرام والأظهر أن العاصي يجب عليه أن ينهى عما يرتكبه لأنه يجب عليه تركه وإنكاره فلا يسقط بترك أحدهما وجوب الآخر

105 - { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا } كاليهود والنصارى اختلفوا في التوحيد والتنزيه وأحوال الآخرة على ما عرفت { من بعد ما جاءهم البينات } الآيات والحجج المبينة للحق الموجبة للاتفاق عليه والأظهر أن النهي فيه مخصوص بالتفرق في الأصول دون الفروع لقوله عليه الصلاة و السلام [ اختلاف أمتي رحمة ] ولقوله عليه الصلاة و السلام [ من اجتهد فأصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر واحد ] { وأولئك لهم عذاب عظيم } وعيد للذين تفرقوا وتهديد عل التشبه بهم

106 - { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } نصب بما في لهم من معنى الفعل أو بإضمار اذكر وبياض الوجوه سواده كنايتان عن ظهور بهجة السرور وكآبة الخوف فيه وقيل يوسم أهل الحق ببياض الوجوه والصحيفة وإشراق البشرة وسعي النور بين بيديه وبيمينه وأهل الباطل بأضداد ذلك { فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم } على إرادة القول أي يقل لهم أكفرتم والهمزة للتوبيخ والتعجب من حالهم وهم المرتدون أو أهل الكتاب كفروا بالرسول صلى الله عليه و سلم بعد إيمانهم به قبل مبعثه أو جميع الكفار كفروا بعدما أقروا به حين أشهدهم على أنفسهم أو تمكنوا من الإيمان بالنظر في الدلائل والآيات { فذوقوا العذاب } أمر إهانة { بما كنتم تكفرون } بسبب كفركم أو جزاء لكفركم

107 - { وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله } يعني الجنة والثواب المخلد عبر عن ذلك بالرحمة تنبيها على أن المؤمن وإن استغرق عمره في طاعة الله تعالى لا يدخل الجنة إلا برحمته وفضله وكان حق الترتيب أن يقدم ذكرهم لكن قصد أن يكون مطلع الكلام ومقطعه حلية المؤمنين وثوابهم { هم فيها خالدون } أخرجه مخرج الاستئناف للتأكيد كأنه قيل : كيف يكونون فيها ؟ فقال هم فيها خالدون

108 - { تلك آيات الله } الواردة في وعده ووعيده { نتلوها عليك بالحق } ملتبسة بالحق لا شبهة فيها { وما الله يريد ظلما للعالمين } إذ يستحيل الظلم منه لأنه لا يحق عليه شيء فيظلم بنقصه ولا يمنع عن شيء فيظلم بفعله لأنه المالك على الإطلاق كم قال

109 - { ولله ما في السموات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور } فيجازي كلا بما وعد له وأوعد

110 - { كنتم خير أمة } دل على خيريتهم فيما مضى ولم يدل على انقطاع طرأ كقوله تعالى : { إن الله كان غفورا رحيما } وقيل كنتم في علم الله أو في اللوح المحفوظ أو فيما بين الأمم المتقدمين { أخرجت للناس } أي أظهرت لهم { تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } استئناف بين به كونهم { خير أمة } أو خبر ثان لكنتم { وتؤمنون بالله } يتضمن الإيمان بكل ما يجب أن يؤمن به لأن الإيمان به إنما يحق ويعتد به إذا حصل الإيمان بكل ما أمر أن يؤمن به وإنما أخره وحقه أن يقدم لأنه قصد بذكره الدلالة على أنهم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر إيمانا بالله وتصديقا به وإظهارا لدينه واستدل بهذه الآية على إن الإجماع حجة لأنها تقتضي كونهم آمرين بكل معروف وناهين عن كل منكر إذ اللام فيهما للاستغراق فلو أجمعوا على باطل كان أمرهم على خلاف ذلك { ولو آمن أهل الكتاب } إيمانا كما ينبغي { لكان خيرا لهم } لكان الإيمان خيرا لهم مما هم عليه { منهم المؤمنون } كعبد الله بن سلام وأصحابه { وأكثرهم الفاسقون } المتمردون في الكفر وهذه الجملة والتي بعدها واردتان على سيبل الاستطراد

111 - { لن يضروكم إلا أذى } ضررا يسيرا كطعن وتهديد { وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار } ينهزموا ولا يضروكم بقتل وأسر { ثم لا ينصرون } ثم لا يكون أحد ينصرهم عليكم أو يدفع بأسكم عنهم نفي إضرارهم سوى ما يكون بقول وقرر ذلك بأنهم لو قاموا إلى القتال كانت الدبرة عليهم ثم أخبر بأنه تكون عاقبتهم العجز والخلان وقرىء لا تنصروا عطفا على يولوا على أن ثم للتراخي في الرتبة فيكون عدم النصر مقيدا بقتالهم وهذه الآية من المغيبات التي وافقها الواقع إذ كان ذلك حال قريضة والنضير وبني قينقاع ويهود خيبر

112 - { ضربت عليهم الذلة } هدر النفس والمال والأهل أو ذل التمسك بالباطل والجزية { أينما ثقفوا } وجدوا { إلا بحبل من الله وحبل من الناس } استثناء من أعم عام الأحوال أي ضربت عليهم الذلة في عامة الأحوال إلا معتصمين أو متلبسين بذمة الله أو كتابة الذي آتاهم وذمة المسلمين أو بدين الإسلام واتباع سبيل المؤمنين { وباءوا بغضب من الله } رجعوا به مستوجبين له { وضربت عليهم المسكنة } فهي محيطة بهم إحاطة البيت المضروب على أهله واليهود في غالب الأمر فقراء ومساكين { ذلك } إشارة إلى ما ذكر ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب { بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق } بسبب كفرهم بالآيات وقتلهم الأنبياء والتقييد بغير حق مع أنه كذلك في نفس الأمر للدلالة على أنه لم يكن حقا بحسب اعتقادهم أيضا { ذلك } أي الكفر والقتل { بما عصوا وكانوا يعتدون } بسبب عصيانهم واعتدائهم على حدود الله فأن الإصرار على الصغائر يفضي إلى الكبائر والاستمرار عليها يؤدي إلى الكفر وقيل معناه أن ضرب الذلة في الدنيا واستيجاب الغضب في الآخرة كما هو معلل بكفرهم وقتلهم فهو مسبب عن عصيانهم واعتدائهم من حيث إنهم مخاطبون بالفروع أيضا

113 - { ليسوا سواء } في المساوي والضمير لأهل الكتاب { من أهل الكتاب أمة قائمة } استئناف لبيان نفي الاستواء والقائمة المستقيمة العادلة من أقمت العود فقام وهم الذين أسلموا منهم { يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون } يتلون القرآن في تهجدهم عبر عنه بالتلاوة في ساعات الليل مع السجود ليكون أبين وأبلغ في المدح وقيل المراد صلاة العشاء لأن أهل الكتاب ليصلونها لما روي [ أنه عليه الصلاة و السلام أخرها ثم خرج فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال : أما أنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم ]

114 - { يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات } صفات أخر لأمة وصفهم بخصائص ما كانت في اليهود فإنهم منحرفون عن الحق غير متعبدين في الليل مشركون بالله ملحدون في صفاته واصفون اليوم الآخر بخلاف صفته مداهنون في الاحتساب متباطئون عن الخيرات
{ وأولئك من الصالحين } أي الموصوفون بتلك الصفات ممن صلحت أحوالهم عند الله واستحقوا رضاه وثناءه

115 - { وما يفعلوا من خير فلن يكفروه } فلن يضيع ولا ينقص ثوابه البتة سمي ذلك كفرانا كما سمي توفية الثواب شكرا وتعديته إلى مفعولين لتضمنه معنى الحرمان وقرأ حفص وحمزة والكسائي { وما يفعلوا من خير فلن يكفروه } بالياء والباقون بالتاء { والله عليم بالمتقين } بشارة لهم وإشعار بأن التقوى مبدأ الخير وحسن العمل وأن الفائز عند الله هو أهل التقوى

116 - { إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا } من العذاب أو من الغناء فيكون مصدرا { وأولئك أصحاب النار } ملازموها { هم فيها خالدون }

117 - { مثل ما ينفقون } ما ينفق الكفرة قربة أو مفاخرة وسمعة أو المنافقون رياء أو خوفا { في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر } برد شديد والشائع إطلاقه للريح الباردة كالصر فهو في الأصل مصدر نعت به أو نعت وصف به البرد للمبالغة كقولك برد بارد { أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم } بالكفر والمعاصي { فأهلكته } عقوبة لهم لأن الإهلاك عن سخط أشد والمراد تشبيه ما أنفقوا في ضياعه بحرث كفار ضربته صر فاستأصلته ولم يبق لهم فيه منفعة ما في الدنيا والآخرة وهو من التشبيه المركب وشلك لم يبال بإيلاء كلمة التشبيه للريح دون الحرث ويجوز أن يقدر كمثل مهلك ريح وهو الحرث { وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون } أي ما ظلم المنفقين بضياع نفقاتهم ولكنهم ظلموا أنفسهم لما لم ينفقوها بحيث يعتد بها أو ما ظلم أصحاب الحرث بإهلاكه ولكنهم ظلموا أنفسهم بارتكاب ما استحق به العقوبة وقرىء { ولكن } أي ولكن أنفسهم يظلمونها ولا يجوز أن يقدر ضمير الشأن لأنه لا يحذف إلا في ضرورة الشعر كقوله :
( وما كنت ممن يدخل العشق قلبه ... ولكن من يبصر جفونك يعشق )

118 - { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة } وليجة وهو الذي يعرفه الرجل أسراره ثقة به شبه ببطانة الثوب كما شبه بالشعار قال عليه الصلاة و السلام : [ الأنصار شعار والناس دثار ] { من دونكم } من دون المسلمين وهو متعلق بلا تتخذوا أو بمحذوف هو صفة بطانة أي بطانة كائنة من دونكم { لا يألونكم خبالا } أي لا يقصرون لكم في الفساد والألو التقصير وأصله أن يعدى بالحرف وعدى إلى مفعولين كقولهم : لا آلوك نصحا على تضمين معنى المنع أو النقص { ودوا ما عنتم } تمنوا عنتكم وهو شدة الضرر والمشقة وما مصدرية { قد بدت البغضاء من أفواههم } أي في كلامهم لأنهم لا يتمالكون أنفسهم لفرط بغضهم { وما تخفي صدورهم أكبر } مما بدا لأن بدوره ليس عن روية واختيار { قد بينا لكم الآيات } الدالة على وجوب الإخلاص وموالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين { إن كنتم تعقلون } ما بين لكم والجمل الأربع جاءت مستأنفات على التعليل ويجوز أن تكون الثلاث الأول صفات لبطانة

119 - { ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم } أي أنتم أولاء الخاطئون في موالاة الكفار وتحبونهم ولا يحبونكم بيان لخطئهم في موالاتهم وهو خبر ثان أو خبر لأولاء والجملة خبر لأنتم كقولك : أنت زيد تحيه أو صلته أو حال والعامل فيها معنى الإشارة ويجوز أن ينصب أولاء بفعل مضمر يفسره ما بعده وتكون الجملة خبرا { وتؤمنون بالكتاب كله } بجنس الكتاب كله وهو حال من لا يحبونكم والمعنى : إنهم لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم أيضا فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بكتابكم وفيه توبيخ بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم { وإذا لقوكم قالوا آمنا } نفاقا وتغريرا { وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ } من أجله تأسفا وتحسرا حيث لم يجدوا إلى التشفي سبيلا { قل موتوا بغيظكم } دعاء عليهم بدوام الغيظ وزيادته بتضاعف قوة الإسلام وأهله حتى يهلكوا به { إن الله عليم بذات الصدور } فيعلم ما في صدورهم من البغضاء والحنق وهو يحتمل أن يكون من المقول أي وقل لهم إن الله عليم بما هو أخفى مما تخفونه من عض الأنامل غيظا وأن يكون خارجا عنه بمعنى قل لهم ذلك ولا تتعجب من اطلاعي إياك على أسرارهم فإني عليم بالأخفى من ضمائرهم

120 - { إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها } بيان لتناهي عداوتهم إلى حد حسدوا ما نالهم من خير ومنفعة وشمتوا بما أصابهم من ضرر وشدة والمس مستعار للإصابة { وإن تصبروا } على عداوتهم أو على مشاق التكاليف { وتتقوا } موالاتهم أو ما حرم الله جل جلاله عليكم { لا يضركم كيدهم شيئا } بفضل الله عز و جل وحفظه الموعود للصابرين والمتقين ولأن المجد في الأمر المتدرب بالاتقاء والصبر يكون قليل الانفعال جريا على الخصم وضمه الراء للاتباع كضمة مد وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب { لا يضركم } من ضاره يضيره { إن الله بما يعملون } من الصبر والتقوى وغيرهما { محيط } أي محيط علمه فيجازيكم مما أنتم أهله وقرىء بالياء أي { بما يعملون } في عداوتكم عليم فيعاقبهم عليه

121 - { وإذ غدوت } أي واذكر إذا غدوت { من أهلك } أي من حجرة عائشة رضي الله عنها { تبوء المؤمنين } تنزلهم أو تسوي وتهيء لهم ويؤيده القراءة باللام { مقاعد للقتال } مواقف وأماكن له وقد يستعمل المقعد والمقام بمعنى المكان على الاتساع كقوله تعالى : { في مقعد صدق } وقوله تعالى : { قبل أن تقوم من مقامك } { والله سميع } لأقوالكم { عليم } بنياتكم روي [ أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء - ثاني عشر من شوال سنة ثلاث من الهجرة - فاستشار الرسول الله صلى الله عليه و سلم أصحابه وقد دعا عبد الله بن أبي بن سلول ولم يدعه قبل فقال هو وأكثر الأنصار : أقم يا رسول الله بالمدينة ولا تخرج إليهم فوالله ما خرجنا منها إلى عدو إلا أصاب منا ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه فكيف وأنت فينا ؟ فدعهم فان أقاموا أقاموا بشر محبس وإن دخلوا قاتلهم الرجال ورماهم النساء والصبيان بالحجارة وإن رجعوا رجعوا خائبين وأشار بعضهم إلى الخروج فقال عليه الصلاة و السلام والسلام : رأيت في منامي بقرة مذبوحة حولي فأولتها خيرا ورأيت في ذباب سيفي ثلما فأولته هزيمة ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة فان رأيتم أن تقيموا في المدينة وتدعوهم فقال رجال
فاتتهم بدر وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد اخرج بنا إلى أعدائنا وبالغوا حتى دخل ولبس لامته فلما رأوا ذلك ندموا على مبالغتهم وقالوا اصنع يا رسول الله ما رأيت فقال : لا ينبغي لنبي أن يلبس لامته فيضعها حتى يقاتل فخرج بعد صلاة الجمعة وأصبح بشعب أحد يوم السبت ونزل في عدوة الوادي وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وسوى صفهم وأمر عبد الله بن جبير على الرماة وقال : انضحوا عنا بالنبل لا يأتونا من ورائنا ]

122 - { إذ همت } متعلق بقوله : { سميع عليم } أو بدل من إذ غدوت { طائفتان منكم } بنو سلمة منن الخزرج وبنو حارثة من الأوس كانا جناحي العسكر { أن تفشلا } أن تجبنا وتضعفا روي [ أنه عليه الصلاة و السلام خرج في زهاء ألف رجل ووعد لهم النصر إن صبروا فلما بلغوا الشوط انخذل ابن أبي في ثلاثمائة رجل وقال : علام نقتل أنفسنا وأولادنا فتبعهم عمروا ابن حزم الأنصاري وقال : أنشدكم الله و الإسلام في نبيكم وأنفسكم فقال : ابن أبي لو نعلم قتالا لاتبعناكم فهم الحيان باتباعه فعصمهم الله فمضوا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ] والظاهر أنها ما كانت عزيمة لقوله تعالى : { والله وليهما } أي عاصمهما من اتباع تلك الخطوة ويجوز أ يراد والله ناصرهما فما لهما يفشلان ولا يتوكلان على الله { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } أي فليتوكلوا عليه ولا يتوكلوا على غيره لينصرهم كما نصرهم ببدر

123 - { ولقد نصركم الله ببدر } تذكير ببعض ما أفادهم التوكل وبدر ماء بين مكة والمدينة كان لرجل يسمى بدرا فسمي به { وأنتم أذلة } حال من الضمير وإنما قال أذلة ولم يقل ذلائل تنبيها على قلتهم مع ذلتهم لضعف الحال وقلة المراكب والسلاح { فاتقوا الله } في الثبات { لعلكم تشكرون } بتقواكم ما أنعم به عليكم من نصره أو لعلكم بنعم الله عليكم فتشكرون فوضع الشكر موضع الإنعام لأنه سببه

124 - { إذ تقول للمؤمنين } ظرف لنصركم وقيل بدل ثاني من إذ غدوت على أن قولهم لهم يوم أحد وكان مع اشتراط الصبر والتقوى عن المخالفة فلما لم يصبروا عن الغنائم وخالفوا أمر الرسول صلى الله عليه و سلم لم تنزل الملائكة { ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين } إنكارا أن لا يكفيهم ذلك وإنما جيء بلن إشعارا بأنهم كانوا كالآيسين من النصر لضعفهم وقلتهم وقوة العدو وكثرتهم قيل أمدهم الله يوم بدر أولا بألف من الملائكة ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم صاروا خمسة آلاف وقرأ ابن عامر { منزلين } بالتشديد للتكثير أو للتدريج

125 - { بلى } إيجاب لما بعد لن أي بلى يكفيكم ثم وعد لهم الزيادة على الصبر والتقوى حثا عليهما وتقوية لقلوبهم فقال : { إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم } أي المشركون { من فورهم هذا } من ساعتهم هذه وهو في الأصل مصدر من فارت القدر إذ غلت فاستعير للسرعة ثم أطلق للحال التي لا ريث فيها ولا تراخي والمعنى أن يأتوكم في الحال { يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة } في حال إتيانهم بلا تراخ ولا تأخير { مسومين } معلمين من التسويم الذي هو إظهار سيما الشيء لقوله عليه الصلاة و السلام لأصحابه [ تسوموا فإن الملائكة قد تسومت ] أو مرسلين من التسويم بمعنى الأسامة وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم ويعقوب بكسر الواو

126 - { وما جعله الله } وما جعل إمدادكم بالملائكة { إلا بشرى لكم } إلا بشارة لكم بالنصر { ولتطمئن قلوبكم به } ولتسكن إليه من الخوف { وما النصر إلا من عند الله } لا من العدة والعدد وهو تنبيه على أنه لا حاجة في نصرهم إلى مدد وإنما أمدهم ووعد لهم به إشارة لهم وربطا على قلوبهم من حيث إن نظر العامة إلى الأسباب أكثر وحثا على أن لا يبالوا بنم تأخر عنهم { العزيز } الذي لا يغالب في أقضيته { الحكيم } الذي ينصر ويخذل بوسط وبغير وسط على مقتضى الحكمة والمصلحة

127 - { ليقطع طرفا من الذين كفروا } متعلق بنصركم أو { وما النصر } إن كان اللام فيه للعهد والمعنى لينقص منهم بقتل بعض وأسر آخرين وهو ما كان يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين من صناديدهم { أو يكبتهم } أو يخزيهم والكبت شدة الغيظ أو وهن يقع في القلب وأو للتنويع دون الترديد { فينقلبوا خائبين } فينهزموا منقطعي الآمال

128 - { ليس لك من الأمر شيء } اعتراض { أو يتوب عليهم أو يعذبهم } عطف على قوله أو يكبتهم والمعنى أن الله مالك أمرهم فإما أن يهلكهم أو يكبتهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا وليس لك من أمرهم شيء وإنما أنت عبد مأمور لإنذارهم وجهادهم ويحتمل أن يكون معطوفا على الأمر أو شيء بإضمار أن أي ليس لك من أمرهم أو من التوبة عليهم أو من تعذيبهم شيء أو ليس لك من أمرهم شيء أو التوبة عليهم أو تعذيبهم وأن تكون أو بمعنى إلا أن أي ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم فتسر به أو يعذبهم فتشفي منهم روي [ أن عتبة بن أبي وقاص شجه يوم أحد وكسر رباعيته فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم ] فنزلت وقيل هم أن يدعوا عليهم فنهاه الله لعلمه بأن فيهم من يؤمن { فإنهم ظالمون } قد استحقوا التعذيب بظلمهم

129 - { ولله ما في السموات وما في الأرض } خلقا وملكا فله الأمر كله لا لك { يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } صريح في نفي وجوب التعذيب والتقييد بالتوبة وعدمها كالمنافي له { والله غفور رحيم } لعباده فلا تبادر إلى الدعاء عليهم

130 - { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة } لا تزيدوا زيادات مكررة ولعل التخصيص بحسب الواقع إذ كان رجل منهم يربي إلى أجل ثم يزيد فيه زيادة أخرى حتى يستغرق بالشيء الطفيف مال المديون وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب { مضاعفة } { واتقوا الله } فيما نهيتكم عنه { لعلكم تفلحون } راجين الفلاح

131 - { واتقوا النار التي أعدت للكافرين } بالتحرز من متابعتهم وتعاطي أفعالهم وفيه تنبيه على أن النار بالذات معدة للكافرين وبالعرض للعصاة

132 - { وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون } اتبع الوعيد بالوعد ترهيبا عن المخالفة وترغيبا في الطاعة ولعل وعسى في أمثال ذلك دليل عزة التوصل إلى ما جعل خبرا له

133 - { وسارعوا } بادروا وأقبلوا { إلى مغفرة من ربكم } إلى ما يستحق به المغفرة كالإسلام والتوبة والإخلاص وقرأ نافع وابن عامر سارعوا بلا واو { وجنة عرضها السموات والأرض } أي عرضها كعرضهما وذكر العرض للمبالغة في وصفها بالسعة على طريقة التمثيل لأنه دون الطول وعن ابن عباس كسبع سموات وسبع أرضين لو وصل بعضها ببعض { أعدت للمتقين } هيئت لهم وفيه دليل على أن الجنة مخلوقة وإنها خارجة عن هذا العالم

134 - { الذين ينفقون } صفة مادحة للمتقين أو مدح منصوب أو مرفوع { في السراء والضراء } في حالتي الرخاء والشدة أو الأحوال كلها إذ الإنسان لا يخلو من مسرة أو مضرة أي لا يخلون في حال ما بإنفاق ما قدروا عليه من قليل أو كثير { والكاظمين الغيظ } الممسكين عليه الكافين من إمضائه مع القدرة من كظمت القرية إذا ملأتها وشددت رأسها وعن النبي صلى الله عليه و سلم [ من كظم غيظا وهو يقدر على إنقاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا ] { والعافين عن الناس } التاركين عقوبة من استحقوا مؤاخذته وعن النبي صلى الله عليه و سلم [ إن هؤلاء في أمتي قليل إلا من عصم الله ] وقد كانوا كثيرا في الأمم التي مضت { والله يحب المحسنين } يحتمل الجنس ويدخل تحته هؤلاء والعهد فتكون الإشارة إليهم

135 - { والذين إذا فعلوا فاحشة } فعلة بالغة في القبح كالزنى { أو ظلموا أنفسهم } بأن أذنبوا أي ذنب كان وقيل الفاحشة الكبيرة وظلم النفس الصغيرة ولعل الفاحشة ما يتعدى وظلم النفس ما ليس كذلك { ذكروا الله } تذكروا وعيده أو حكمه أو حقه العظيم { فاستغفروا لذنوبهم } بالندم والتوبة { ومن يغفر الذنوب إلا الله } استفهام بمعنى النفي معترض بين المعطوفين والمراد به وصفه تعالى بسعة الرحمة وعموم المغفرة والحث على الاستغفار والوعد بقبول التوبة { ولم يصروا على ما فعلوا } ولم يقيموا على ذنوبهم غير مستغفرين لقوله صلى الله عليه و سلم [ ما أصر من استغفر وان عاد في اليوم سبعين مرة ] { وهم يعلمون } حال من يصروا أي ولم يصروا على قبيح فعلهم عالمين به

136 - { أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } خبر للذين إن ابتدأت به وجملة مستأنفة مبينة لما قبلها إن عطفته على المتقين أو على الذين ينفقون ولا يلزم من إعداد الجنة للمتقين والتائبين جزاء لهم إن لا يدخلها المصرون كما لا يلزم في إعداد النار للكافرين جزاء لهم أن لا يدخلها غيرهم وتنكير جنات على الأول يدل على أن ما هم أدون مما للمتقين الموصوفين بتلك الصفات المذكورة في الآية المتقدمة وكفاك فارقا بين القبيلين أنه فصل آيتهم بأن بين أنهم محسنون مستوجبون لمحبة الله وذلك لأنهم حافظوا على حدود الشرع وتخطوا إلى التخصص بمكارمه وفصل آية هؤلاء بقوله : { ونعم أجر العاملين } لأن المتدارك لتقصيره كالعامل لتحصيل بعض ما فوت على نفسه وكم بين المحسن والمتدارك والمحبوب والأجير ولعل تبديل لفظ الجزاء بالأجر لهذه النكتة والمخصوص بالمدح محذوف تقديره ونعم أجر العاملين ذلك يعني المغفرة والجنات

137 - { قد خلت من قبلكم سنن } وقائع سنها الله تعالى في الأمم المكذبة كقوله تعالى { وقتلوا تقتيلا * سنة الله في الذين خلوا من قبل } وقيل أمم قال :
( ما عاين الناس من فضل كفضلكمو ... ولا رأوا مثله في سالف السنن )
{ فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } لتعتبروا بما ترون من آثار هلاكهم

138 - { هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين } إشارة إلى قوله { قد خلت } أو مفهوم قوله { فانظروا } أي أنه مع كونه بيانا للمكذبين فهو زيادة بصيرة في الموعظة للمتقين أو إلى ما لخص من أمر المتقين والتائبين وقوله قد خلت جملة معترضة للحث على الإيمان والتوبة وقيل إلى القرآن

139 - { ولا تهنوا ولا تحزنوا } تسلية لهم عما أصابهم يوم أحد والمعنى لا تضعفوا عن الجهاد بما أصابكم ولا تحزنوا على من قتل منكم { وأنتم الأعلون } وحالكم إنكم أعلى منهم شأنا فإنكم على الحق وقتالكم لله وقتلاكم في الجنة وإنهم على الباطل وقتالهم للشيطان وقتلاهم في النار أو لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم اليوم أو وأنتم الأعلون في العاقبة فيكون بشارة لهم بالنصر والغلبة { إن كنتم مؤمنين } متعلق بالنهي أي لا تهنوا إن صح إيمانكم فإنه يقتضي قوة القلب بالوثوق بالله أو بالأعلون

140 - { إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله } قرأ حمزة والكسائي وابن عياش عن عاصم بضم القاف والباقون بالفتح وهما لغتان كالضعف والضعف وقيل هو بالفتح الجراح وبالضم ألمها والمعنى إن أصابوا منكم يوم أحد فقد أصبتم منهم يوم بدر مثله ثم إنهم لم يضعفوا ولم يجبنوا فأنتم أولى بأن لا تضعفوا فإنكم ترجون من الله ما لا يرجون
وقيل كلا المسين كان يوم أحد فإن المسلمين نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر الرسول صلى الله عليه و سلم { وتلك الأيام نداولها بين الناس } نصرفها بينهم تدليل لهؤلاء تارة ولهؤلاء أخرى كقوله :
( فيوما علينا ويوما لنا ... ويوم نساء ويوم نسر )
والمداولة كالمعاودة يقال داولت الشيء بينهم فتداولوه والأيام تحتمل الوصف والخبر و { نداولها } يحتمل الخبر والحال والمراد بها : أوقات النصر والغلبة { وليعلم الله الذين آمنوا } عطف على علة محذوفة أي نداولها ليكون كيت وكيت وليعلم الله إيذانا بأن العلة فيه غير واحدة وإن ما يصيب المؤمن فيه من المصالح ما لا يعلم أو الفعل المعلل به محذوف تقديره وليتميز الثابتون على الإيمان من الذين على حرف فعلنا ذلك والقصد في أمثاله ونقائضه ليس إلى إثبات علمه تعالى ونفيه بل إلى إثبات المعلوم ونفيه على طريق البرهان وقيل معناه ليعلمهم علما يتعلق به الجزاء وهو العلم بالشيء موجودا { ويتخذ منكم شهداء } ويكرم ناسا منكم بالشهادة يريد شهداء أحد أو يخذ منكم شهودا معدلين بما صودف منهم من الثبات والبر على الشدائد { والله لا يحب الظالمين } الذين يضمرون خلاف ما يظهرون أو الكافرين وهو اعتراض وفيه تنبيه على أنه تعالى لا ينصر الكافرين على الحقيقة وإنما يغلبهم أحيانا استدراجا لهم وابتلاء للمؤمنين

141 - { وليمحص الله الذين آمنوا } ليطهرهم ويصفيهم من الذنوب إن كانت الدولة عليهم { ويمحق الكافرين } ويهلكهم إن كانت عليهم والمحق نقص الشيء قليلا قليلا

142 - { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة } بل أحسبتم ومعناه الإنكار { ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم } ولما تجاهدون وفيه دليل على أن الجهاد فرض كفاية والفرق بين { لما } ولم إن فيه توقع الفعل فيما يستقبل وقرىء { يعلم } بفتح الميم على أن أصله يعلمن فحذفت النون { ويعلم الصابرين } نصب بإضمار أن على أن الواو للجمع وقرىء بالرفع على أن الواو للحال كأنه قال : ولما تجاهدوا وأنتم صابرون

143 - { ولقد كنتم تمنون الموت } أي الحرب فإنها من أسباب الموت أو الموت بالشهادة والخطاب للذين لم يشهدوا بدرا وتمنوا أن يشهدوا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم لينالوا ما نال شهداء بدر من الكرامة فألحوا يوم أحد على الخروج { من قبل أن تلقوه } من قبل أن تشاهدوه وتعرفوا شدته { فقد رأيتموه وأنتم تنظرون } أي فقد رأيتموه معاينين له حين قتل دونكم من قتل من إخوانكم وهو توبيخ لهم على أنهم تمنوا الحرب وتسببوا لها ثم جبنوا وانهزموا عنها أو على تمني الشهادة فإن في تمنيها تمني غلبة الكفار

144 - { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } فسيخلوا كما خلو بالموت أو القتل { أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } إنكارا لارتدادهم وانقلابهم على أعقابهم عن الدين لخلوه بموت أو قتل بعد علمهم بخلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكا به وقيل الفاء لسببية والهمزة لإنكار أن يجعلوا خلو الرسل قبله سبابا لانقلابهم على أعقابهم بعد وفاته وروي [ أنه لما رمى عبد الله بن قميئة الحارثي رسول الله صلى الله عليه و سلم بحجر فكسر رباعيته وشج وجهه فذب عنه مصعب بن عمير رضي الله عنه وكان صاحب الراية حتى قتله ابن قميئة وهو يرى أنه قتل النبي صلى الله عليه و سلم فقال : قد قتلت محمدا وصرخ صارخ ألا إن محمدا قد قتل فانكفأ الناس وجعل الرسول صلى الله عليه و سلم يدعوا إلي عباد الله فانحاز إليه ثلاثون من أصحابه وحموه حتى كشفوا عنه المشركين وتفرق الباقون وقال بعضهم : ليت ابن أبي يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان وقال ناس من المنافقين لو كان نبيا لما قتل ارجعوا إلى إخوانكم ودينكم فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك رضي الله عنهما : يا قوم إن قتل محمدا فان رب محمد حي لا يموت وما تصنعون بالحياة بعده فقاتلوا على ما قاتل عليه ثم قال اللهم إني أعتذر إليك مما يقولون وأبرأ إليك منه وشد بسيفه فقاتل حتى قتل ] فنزلت { ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا } بارتداده بل يضر نفسه { وسيجزي الله الشاكرين } على نعمة الإسلام بالثبات عليه كأنس وأضرابه

145 - { وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله } إلا بمشيئة الله تعالى أو بإذنه لملك الموت عليه الصلاة و السلام في قبض روحه والمعنى أن لكل نفس أجلا مسمى في علمه تعالى وقضائه { لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } بالإحجام عن القتال والإقدام عليه وفيه تحريض وتشجيع على القتال ووعد للرسول صلى الله عليه و سلم بالحفظ وتأخير الأجل { كتابا } مصدر مؤكد إذ المعنى كتب الموت كتابا { مؤجلا } صفة له أي مؤقتا لا يتقدم ولا يتأخر { ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها } تعريض لمن شغلتهم الغنائم يوم أحد فإن المسلمين حملوا على المشركين وهزموهم وأخذوا ينهبون فلما رأى الرماة ذلك أقبلوا على النهب وخلوا مكانهم فانتهز المشركون وحملوا عليهم من ورائهم فهزموهم { ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها } أي من ثوابها { وسنجزي الشاكرين } الذين شكروا نعمة الله فلم يشغلهم شيء عن الجهاد

146 - { وكأين } أصله دخلت الكاف عليها وصارت بمعنى كم والنون تنوين أثبت في الخط على غير قياس وقرأ ابن كثير { وكأين } ككاعن ووجهه قلب قلب الكلمة الواحدة كقولهم وعملي في لعمري فصار كأين ثم حذفت الياء الثانية للتخفيف ثم أبدلت الياء الأخرى ألفا كما أبدلت من طائي { من نبي } بيان له { قاتل معه ربيون كثير } ربانيون علما ء أتقياء أو عابدون لربهم وقيل جماعات والربى منسوب إلى الربة وهي الجماعة للمبالغة وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب { قتل } وإسناده إلى { ربيون } أو ضمير النبي صلى الله عليه و سلم ومعه ربيون حال منه ويؤيد الأول أنه قرىء بالتشديد وقرىء { ربيون } بالفتح على الأصل وبالضم وهو من تغييرات النسب كالكسر { فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله } فما فتروا ولم ينكسر جدهم لما أصابهم من قتل النبي صلى الله عليه و سلم أو بعضهم { وما ضعفوا } عن العدو أو في الدين { وما استكانوا } وما خضعوا للعدو وأصله استكن من السكون لأن الخاضع يسكن لصاحبه ليفعل به ما يريده والألف من إشباع الفتحة أو استكون من الكون لأنه يطلب من نفسه أن يكون لمن يخضع له وهذا تعريف بما أصابهم عند الإرجاف بقتله عليه الصلاة و السلام { والله يحب الصابرين } فينصرهم ويعظم قدرهم

147 - { وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين } أي وما كان قولهم مع ثباتهم وقوتهم في الدين وكونهم ربانيين إلا هذا القول وهو إضافة الذنوب والإسراف إلى أنفسهم هضما لها وإضافة لما أصابهم إلى سوء أعمالهم والاستغفار عنها ثم طلب التثبيت في مواطن الحرب والنصر على العدو ليكون عن خضوع وطهارة فيكون أقرب إلى الإجابة وإنما جعل قولهم خيرا لأن أن قالوا أعرف لدلالته على جهة النسبة وزمان الحدث

148 - { فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين } فآتاهم الله بسبب الإستغفار واللجأ إلى الله النصر والغنيمة والعز وحسن الذكر في الدنيا والجنة والنعيم في الآخرة وخص ثوابها بالحسن إشعارا بفضله وأنه المعتد به عند الله

149 - { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم } أي إلى الكفر { على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين } نزلت في قول المنافقين للمؤمنين عند الهزيمة : ارجعوا إلى دينكم وإخوانكم ولو كان محمدا نبيا ما قتل وقيل أن تستكينوا لأبي سفيان وأشياعه وتستأمنوهم يردوكم إلى دينهم وقيل عام في مطاوعة الكفرة والنزول على حكمهم فإنه يستجر إلى موافقتهم

150 - { بل الله مولاكم } ناصركم وقرىء بالنصب على تقدير بل أطيعوا الله مولاكم { وهو خير الناصرين } فاستغنوا به عن ولاية غيره ونصره

151 - { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } يريد ما قذف في قلوبهم من الخوف يوم أحد حتى تركوا القتال ورجعوا من غير سبب ونادى أبو سفيان يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت فقال عليه الصلاة و السلام : إن شاء الله وقيل لما رجعوا وكانوا ببعض الطريق ندموا وعزموا أن يعودوا عليهم ليستأصلوهم فألقى الله الرعب في قلوبهم وقرأ ابن عامر والكسائي ويعقوب بالضم على الأصل في كل القرآن { بما أشركوا بالله } بسبب إشراكهم به { ما لم ينزل به سلطانا } أي آلهة ليس على إشراكهم حجة ولم ينزل عليهم به سلطانا وهو كقوله :
( ولا ترى الضب بها ينجحر )
وأصل السلطنة القوة ومنه السليط لقوة اشتعاله والسلاطة لحدة اللسان { ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين } أي مثواهم فوضع الظاهر موضع المضمر للتغليظ والتعليل

152 - { ولقد صدقكم الله وعده } أي وعده إياكم بالنصر بشرط التقوى والصبر وكان كذلك حتى خالف الرماة فان المشركين لما أقبلوا جعل الرماة يرشقونهم بالنبل والباقون يضربونهم بالسيف حتى انهزموا والمسلمون على آثارهم { إذ تحسونهم بإذنه } تقتلونهم من حسه إذا أبطل حسه { حتى إذا فشلتم } جبنتم وضعف رأيكم أو ملتم إلى الغنيمة فإن الحرص من ضعف العقل { وتنازعتم في الأمر } يعني اختلاف الرماة حين انهزم المشركون فقال بعضهم فما موقفنا ها هنا وقال آخرون لا نخالف أمر الرسول فثبت مكانه أميرهم في نفر دون العشرة ونفر الباقون للنهب وهو المعني بقوله : { وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون } من الظفر والغنيمة وانهزام العدو وجواب إذا محذوف وهو امتحنكم { منكم من يريد الدنيا } وهم التاركون المركز إلى الغنيمة { ومنكم من يريد الآخرة } وهم الثابتون محافظة على أمر الرسول صلى الله عليه و سلم { ثم صرفكم عنهم } ثم كفكم عنهم حتى حالت الحال فغلبوكم { ليبتليكم } على المصائب ويمتحن ثباتكم على الإيمان عندها { ولقد عفا عنكم } تفضلا ولما علم من ندمكم على المخالفة { والله ذو فضل على المؤمنين } يتفضل عليهم بالعفو أو في الأحوال كلها سواء أديل لهم أو عليهم إذ الابتلاء أيضا رحمة

153 - { إذ تصعدون } متعلق بصرفكم أو ليبتليكم أو بمقدر كاذكروا والإصعاد الذهاب والإبعاد في الأرض يقال : أصعدنا في مكة والمدينة { ولا تلوون على أحد } لا يقف أحد لأحد ولا ينتظره { والرسول يدعوكم } كان يقول إلي عباد الله أنا رسول الله من يكر فله الجنة { في أخراكم } في ساقتكم أو في جماعتكم الأخرى { فأثابكم غما بغم } عطف على صرفكم والمعنى فجازاكم الله عن فشلكم وعصيانكم غما متصلا بغم من الإغتمام بالقتل والجرح وظفر المشركين والإرجاف بقتل الرسول صلى الله عليه و سلم أو فجازاكم غما بسبب غم أذقتموه رسول الله صلى الله عليه و سلم بعصيانكم له { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم } لتتمرنوا على الصبر في الشدائد فلا تحزنوا فيما بعد على نفع فائت ولا ضر لاحق وقيل { لا } مزيدة والمعنى لتأسفوا على ما فاتكم من الظفر والغنيمة وعلى ما أصابكم من الجرح والهزيمة عقوبة لكم وقيل الضمير في أثابكم للرسول صلى الله عليه و سلم أي فآساكم في الاغتمام فاغتم بما نزل عليكم كما اغتممتم بما نزل عليه ولم يثر بكم على عصيانكم تسلية لكم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من النصر ولا على ما أصابكم من الهزيمة { والله خبير بما تعملون } عليم بأعمالكم وبم قصدتم بها

154 - { ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا } أنزل الله عليكم الأمن حتى أخذكم النعاس وعن أبي طلحة غشينا النعاس في المصاف حتى كان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه ثم يسقط فيأخذه والأمنة الأمن نصب على المفعول ونعاسا بدل منها أو هو المفعول و { أمنة } حال منه متقدمة أو مفعول له أو حال من المخاطبين بمعنى ذوي أمنة أو على أنه جمع آمن كبار وبررة وقرىء { أمنة } بسكون الميم كأنها المرة في الأمر { يغشى طائفة منكم } أي النعاس وقرأ حمزة والكسائي بالتاء ردا على الأمنة والطائفة المؤمنون حقا { وطائفة } هم المنافقون { قد أهمتهم أنفسهم } أوقعتهم أنفسهم في الهموم أو ما يهمهم إلا هم أنفسهم وطلب خلاصها { يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية } صفة أخرى لطائفة أو حال أو اسئناف على وجه البيان لما قبله وغير الحق نصب على المصدر أي : يظنون بالله غير الظن الحق الذي يحق أن يظن به و { ظن الجاهلية } بدله وهو الظن المختص بالملة الجاهلية وأهلها { يقولون } أي لرسول الله صلى الله عليه و سلم وهو بدل من يظنون { هل لنا من الأمر من شيء } هل لنا مما أمر الله ووعد من النصر والظفر نصيب قط وقيل : أخبر ابن أبي بقتل بني الخزرج فقال ذلك والمعنة \ ى إنا منعنى تدبير أنفسنا وتصريفها باختيارنا فلم يبق لنا من الأمر شيء أو هل يزول عنا هذا القهر فيكون لنا من الأمر شيء { قل إن الأمر كله لله } أي الغلبة الحقيقية لله تعالى ولأوليائه فإن حزب الله هم الغالبون أو القضاء له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وهو اعتراض وقرأ أبو عمرو ويعقوب كله بالرفع على الإبتداء { يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك } حال من الضمير يقولون أي يقولون مظهرين أنهم مسترشدون طالبون النصر مبطلين الإنكار والتكذيب { يقولون } أي في أنفسهم وإذا خلا بعضهم إلى بعض وهو بدل من يخفون أو استئناف على وجه البيان له { لو كان لنا من الأمر شيء } كما وعد محمد أو زعم أن الأمر كله لله ولأوليائه أو لو كان لنا اختيار وتدبير ولم نبرح كما كان ابن أبي وغيره { ما قتلنا هاهنا } لما غلبنا أو لما قتل من قتل منا في هذه المعركة { قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } أي لخرج الذين قدر الله عليهم القتل وكتبه في اللوح المحفوظ إلى مصارعهم ولم تنفعهم الإقامة بالمدينة ولم ينج منهم أحد فإنه قدر الأمور ودبرها في سابق قضائه لا معقب لحكمه { وليبتلي الله ما في صدوركم } وليمتحن ما في صدوركم ويظهر سرائرها من الإخلاص والنفاق وهو علة فعل محذوف أي وفعل ذلك ليبتلي أو عطف على محذوف أي لبرز لنفاد القضاء أو لمصالح جمة وللابتلاء أوعلى لكيلا تحزنوا { وليمحص ما في قلوبكم } وليكشفه ويميزه أو يخلصه من الوساوس { والله عليم بذات الصدور } بخفياتها قل إظهارها وفيه وعد ووعيد وتنبيه على أنه غني عن الإبتلاء وإنما فعل ذلك لتمرين المؤمنين وإظهار حال المنافقين

155 - { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا } يعني إن الذين انهزموا يوم أحد إنما كان السبب في انهزامهم أن الشيطان طلب منهم الزلل فأطاعوه واقترفوا ذنوبا لمفالفة النبي صلى الله عليه و سلم بترك المركز والحرص على الغنيمة أو الحياة فمنعوا التأييد وقوة القلب وقيل استزلال الشيطان توليهم وذلك بسبب ذنوب تقدمت لهم فإن المعاصي يجر بعضها بعضا كالطاعة وقيل استزلهم بذكر ذنوب سلفت منهم فكرهوا القتال قبل إخلاص التوبة والخرج من المظلمة { ولقد عفا الله عنهم } لتوبتهم واعتذارهم { إن الله غفور } للذنوب { حليم } لا يعاجل بعقوبة الذنب كي يتوب

156 - { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا } يعني المنافقين { وقالوا لإخوانهم } لأجلهم وفيهم ومعنى اخوتهم اتفاقهم في النسب أو المذهب { إذا ضربوا في الأرض } إذا سافروا فيها وأبعدوا للتجارة أو لغيرها وكان حقه إذ لقوله قالوا لكنه جاء على حكاية الحال الماضية { أو كانوا غزى } جمع غاز كعا وعفى { لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا } مفول قالوا وهو يدل على أن إخوانهم لم يكونوا مخاطبين به { ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم } متعلق ب { قالوا } على أن اللام لام العاقبة مثلها في ليكون لهم عدوا وحزنا أو لا تكونوا أي لا تكونوا مثلهم بالنطق بذلك القول والاعتقاد ليجعله حسرة في قلوبهم خاصة فذلك إشارة إلى ما دل عليه قولهم من الاعتقاد وقيل إلى ما دل عليه النهي أي لا تكونوا مثلهم ليجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم فإن مخالفتهم ومضادتهم مما يغمهم { والله يحيي ويميت } ردا لقولهم أي هو المؤثر في الحياة والممات لا الإقامة والسفر فإنه تعالى قد يحيي المسافر والغازي ويميت المقيم والقاعد { والله بما تعملون بصير } تهديد للمؤمنين على أن يماثلوهم وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء على أنه وعيد للذين كفروا

157 - { ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم } أي متم في سبيله وقرأ نافع وحمزة والكسائي بكسر الميم من مات يمات { لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون } جواب القسم وهو ساد مسد الجزاء والمعنى : إن السفر والغزو ليس مما يجلب الموت ويقدم الأجل وإن وقع ذلك في سبيل الله فما تنالون من المغفرة والرحمة بالموت خير مما تجمعون من الدنيا ومنافعها ولو لم تموتوا وقرأ حفص بالياء

158 - { ولئن متم أو قتلتم } أي على أي وجه اتفق هلاككم { لإلى الله تحشرون } لإلى معبودكم الذي توجهتم إليه وبذلتم مهجكم لوجهه لا إلى غيره لا محالة تحشرون فيوفي جزاءكم ويعظم ثوابكم وقرأ نافع وحمزة والكسائي { متم } بالكسر

159 - { فبما رحمة من الله لنت لهم } أي فبرحمة وما مزيدة للتأكيد والتنبيه والدلالة على أن لينه لهم ما كان إلا برحمة من الله وهو ربطه على جأشه وتوفيقه للرفق بهم حتى اغتم لهم بعد أن خالفوه { ولو كنت فظا } سيء الخلق جافيا { غليظ القلب } قاسيه { لانفضوا من حولك } لتفرقوا عنك ولم يسكنوا إليك { فاعف عنهم } فيما يختص بك { واستغفر لهم } فيما لله { وشاورهم في الأمر } أي في أمر الحرب إذ الكلام فيه أو فيما يصح أن يشاور فيه استظهارا برأيهم وتطيبا لنفوسهم وتمهيدا لسنة المشاورة في للأمة { فإذا عزمت } فإذا وطنت نفسك على شيء بعد الشورى { فتوكل على الله } في إمضاء أمرك على ما هو أصلح لك فإنه لا يعلمه سواه وقرىء { فإذا عزمت } على التكلم أي فإذا عزمت لك على شيء وعينته لك فتوكل على الله ولا تشاور فيه أحدا { إن الله يحب المتوكلين } فينصرهم ويهديهم إلى الصلاح

160 - { إن ينصركم الله } كما نصركم يوم بدر { فلا غالب لكم } فلا أخد يغلبكم { وإن يخذلكم } كما خذلك يوم أحد { فمن ذا الذي ينصركم من بعده } من بعد خذلانه أو من بعد الله بمعنى إذا جاوزتموه فلا ناصر لكم وهذا تنبيه على المقتضى للتوكل وتحريض على ما يستحق به انصر من الله وتحذير عما يستجلب خذلانه { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } فليخصوه بالتوكل عليه لما علموا أن لا ناصر لهم سواه وآمنوا به

161 - { وما كان لنبي أن يغل } وما صح لنبي أ يخون في الغنائم فان النبوة تنافي الخيانة يقال غل شيئا من المغنم يغل غلولا وأغل إغلالا إذ أخذه في خفية والمراد منه : إما براءة الرسول صلى الله عليه و سلم عما اتهم به إذ روي أن قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض المنافقين لعل رسول الله صلى الله عليه و سلم أخذها أو ظن به الرماة يوم أحد حين تركوا المركز للغنيمة وقالوا نخشى أن يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم من أخذ شيئا فهو له ولا يقسم الغنائم وإما المبالغة في النهي للرسول صلى الله عليه و سلم على ما روي أنه بعث طلائع فغنم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقسم على من معه ولم يقسم للطلائع فنزلت فيكون تسمية حرمان بعض المستحقين غلولا تغليظا ومبالغة ثانية وقرأ نافع وابن عامر وحمزة ويعقوب { أن يغل } على البناء للمفعول والمعنى : وما صح له أن يوجد غالا أو أن ينسب إلى الغلول { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } يأت بالذي غله يحمله على عنقه كما جاء في الحديث أو بما احتمل من وباله وإثمه { ثم توفى كل نفس ما كسبت } يعني تعطي جزاء ما كسبت وافيا وكان اللائق بما قبله أن يقال ثم يوفى ما كسبت لكنه عمم الحكم ليكون كالبرهان على المقصود والمبالغة فيه فإنه إذا كان كل كاسب مجزيا بعمله فالغال مع عظم جرمه بذلك أولى { وهم لا يظلمون } فلا ينقص ثواب مطيعهم ولا يزاد في عقاب عاصيهم

162 - { أفمن اتبع رضوان الله } بالطاعة { كمن باء } رجع { بسخط من الله } بسبب المعاصي { ومأواه جهنم وبئس المصير } الفرق بينه وبين المرجع إن المصير يجب أن يخالف الحالة الأولى ولا كذلك المرجع

163 - { هم درجات عند الله } شبهوا بالدرجات لما بينهم من التفاوت في الثواب والعقاب أو هم ذوو درجات { والله بصير بما يعملون } عالم بأعمالهم ودرجاتهم صادرة عنهم فيجازيهم على حسبها

164 - { لقد من الله على المؤمنين } أنعم على من آمن مع الرسول صلى الله عليه و سلم من قومه وتخصيصهم مع أن نعمة البعثة عامة لزيادة انتفاعهم بها قرىء { لقد من الله } على أنه خبر مبتدأ محذوف مثل منه أو بعثه { إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم } من نسبهم أ من جنسهم عربيا مثلهم ليفهموا كلامه بسهولة ويكونوا واقفين على حاله في الصدق والأمانة مفتخرين به وقرىء من { أنفسهم } أي من أشرفهم لأنه عليه الصلاة و السلام كان من أشرف قبائل العرب وبطونها { يتلو عليهم آياته } أي القرآن بعد ما كانوا جهالا لم يسمعوا الوحي { ويزكيهم } يطهرهم من دنس الطباع وسوء الاعتقاد والأعمال { ويعلمهم الكتاب والحكمة } أي القرآن والسنة { وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } إن هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة والمعنى وإن الشأن كانوا من قبل بعثه الرسول صلى الله عليه و سلم في ضلال ظاهر

165 - { أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا } الهمزة للتقريع والتقرير والوا عاطفة للجملة على ما سبق من قصة أحد أو على محذوف مثل أفعلتم كذا وقلتم ولما ظرفه المضاف إلى ما أصابتكم أي أقلتم حين أصابتكم مصيبة وهي قتل سبعين منكم يوم أحد والحال إنكم نلتم ضعفا يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين من أين هذا أصابنا وقد وعدنا الله النصر { قل هو من عند أنفسكم } أي مما اقترفته أنفسكم من مخالفة الأمر بترك المركز فإن الوعد كان مشروطا بالثبات والمطاوعة أو اختيار الخروج من المدينة وعن علي رضي الله تعالى عنه باختياركم الفداء يوم بدر { إن الله على كل شيء قدير } فيقدر على النصر ومنعه وعلى أن يصيب بكم ويصيب منكم

166 - { وما أصابكم يوم التقى الجمعان } جمع المسلمين وجمع المشركين يريد يوم أحد { فبإذن الله } فهو كائن بقضائه أو تخليته الكفار سماها إذنا لأنها من لوازمه { وليعلم المؤمنين }

167 - { وليعلم الذين نافقوا } وليتميز المؤمنون والمنافقون فيظهر إيمان هؤلاء وكفر هؤلاء { وقيل لهم } عطف على نافقوا داخل في الصلة أو كلام مبتدأ { تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا } تقسيم للأمر عليهم وتخيير بين أن يقاتلوا للآخرة أو للدفع عن الأنفس والأموال وقيل معناه قاتلوا الكفرة أو ادفعوهم بتكثيرهم سواد المجاهدين فإن كثرة السواد مما يروع العدو ويكسر منه { قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم } لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالا لاتبعناكم فيه لكن ما أنتم عليه ليس بقتال بل إلقاء بالأنفس إلى التهلكة أو لو نحسن قتالا لاتبعناكم فيه وإنما قالوه دغلا واستهزاء { هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان } لانخذالهم وكلامهم هذا فإنهما أول أمارات ظهرت منهم مؤذنة بكفرهم وقيل هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان إذ كان انخذالهم ومقالهم تقوية للمشركين وتخذيلا للمؤمنين { يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم } يظهرون خلا ف ما يضمرون لا تواطىء قلوبهم ألسنتهم بالإيمان وإضافة القول إلى الأفواه تأكيد وتصوير { والله أعلم بما يكتمون } من النفاق وما يخلوا به بعضهم إلى بعض فإنه يعلمه مفصلا بعلم واجب وأنت تعلمونه مجملا بأمارات

168 - { الذين قالوا } رفع بدلا من واو { يكتمون } أو نصب على الذم أو الوصف للذين نافقوا أو جر بدلا من الضمير في { بأفواههم } أو { قلوبهم } كقوله :
( على حالة لو أن في القوم حاتما ... على جوده لضن بالماء حاتم )
{ لإخوانهم } أي لأجلهم يريد من قتل يوم أحد من أقاربهم أو من جنسهم { وقعدوا } حال مقدرة بقد أي قالوا قاعدين عن القتال { لو أطاعونا } في القعود بالمدينة { ما قتلوا } كما لم نقتل وقرأ هاشم { ما قتلوا } بتشديد التاء { قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين } أي إن كنتم صادقين إنكم تقدرون على دفع القتل عمن كتب عليه فادفعوا عن أنفسكم الموت وأسبابه فإنه أحرى بكم والمعنى أن القعود غير مغن عن الموت فإن أسباب الموت كثيرة كما أن القتال يكون سببا للهلاك والقعود سببا للنجاة قد يكون الأمر بالعكس

169 - { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا } نزلت في شهداء أحد وقيل في شهداء بدر والخطاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم أو لكل أحد وقرىء بالياء على إسناده إلى ضمير الرسول أو من يحسب أو إلى الذين قتلوا والمفعول الأول محذوف لأنه في الأصل مبتدأ جائز الحذف عند القرينة وقرأ ابن عامر { قتلوا } بالتشديد لكثرة المقولين { بل أحياء } أي بل هم أحياء وقرىء بالنصب على معنى بل أحسبهم أحياء { عند ربهم } ذوو زلفى منه { يرزقون } من الجنة وهو تأكيد لكونهم أحياء

170 - { فرحين بما آتاهم الله من فضله } وهو شرف الشهادة والفوز بالحياة الأبدية والقرب من الله تعالى والتمتع بنعيم الجنة { ويستبشرون } يسرون بالبشارة { بالذين لم يلحقوا بهم } أي بإخوانهم المؤمنين الذين لم يقتلوا فيلحقوا بهم { من خلفهم } أي الذين من خلفهم زمانا أو رتبة { ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون } بدل من الذين والمعنى : إنهم يستبشرون بما تبين لهم من أمر الآخرة وحال من تركوا من خلفهم المؤمنين وهو إنهم إذا ماتوا أو قتلوا كانوا أحياء حياة لا يكدرها خوف وقوع محذور وحزن فوات محبوب والآية تدل على أن الإنسان غير الهيكل المحسوس بل هو جوهر مدرك بذاته لا يفنى بخراب البدن ولا يتوقف عليه إدراكه وتألمه والتذاذه ويؤيد ذلك قوله تعالى في آل فرعون { النار يعرضون عليها } الآية وما روى ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة و السلام قال : [ أرواح الشهداء في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل معلقة في ظل العرش ] ومن أنكر ذلك ولم ير الروح إلا ريحا وعرضا قال هم أحياء يوم القيامة وإنما وصفوا به في الحال لتحققه ودنوه أو أحياء بالذكر أو بالإيمان وفيها حث على الجهاد وترغيب في الشهادة وبعث على إزدياد الطاعة وإحماد لمن يتمنى لإخوانه مثل ما أنعم عليه وبشرى للمؤمنين بالفلاح

171 - { يستبشرون } كرره للتأكيد وليعلق به ما هو بيان لقوله : { ألا خوف عليهم } ويجوز أن يكون الأول بحال إخوانهم وهذا بحال أنفسهم { بنعمة من الله } ثوابا لأعمالهم { وفضل } زيادة عليه كقوله تعالى : { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } وتنكيرهما للتعظيم { وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين } من جملة المستبشر به عطف على فضل وقرأ الكسائي بالكسر على أنه استئناف معترض دال على أن ذلك أجر لهم على إيمانهم مشعر بأن من لا إيمان له أعماله محبطة وأجوره مضيعة

172 - { الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح } صفة للمؤمنين أو نصب على المدح أو مبتدأ خبره { للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم } بجملته ومن البيان والمقصود من ذكر الوصفين المدح والتعليل لا التقييد لأن المستجيبين كلهم محسنون متقون روي [ أن أبا سفيان وأصحابه لما رجعوا فبلغوا الروحاء ندموا وهموا بالرجوع فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فندب أصحابه للخروج في طلبه وقال لا يخرجن معنا إلا من حضر يومنا بالأمس فخرج عليه الصلاة و السلام مع جماعة حتى بلغوا حمراء الأسد - وهي ثمانية أميال من المدينة - وكان بأصحابه القرح فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر وألقى الله الرعب في قلوب المشركين فذهبوا ] فنزلت

173 - { الذين قال لهم الناس } يعني الركب الذين استقبلوهم من عبد قيس أو نعيم بن مسعود الأشجعي وأطلق عليه الناس لأنه من جنسهم كما يقال فلان يركب الخيل وما له إلا فرس واحد لأنه انضم إليه ناس من المدينة وأذاعوا كلامه { إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم } يعني أبا سفيان وأصحابه روي : أنه نادى عند انصرافه من أحد : يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت فقال عليه الصلاة و السلام والسلام : إن شاء الله تعالى فلما كان القابل خرج في أهل مكة حتى نزل بمر الظهران فأنزل الله الرعب في قلبه وبدا له أن يرجع فمر به ركب من عبد قيس يريدون المدينة للميرة فشرط لهم حمل بعير من زبيب أن ثبطوا المسلمين وقيل : لقي نعيم ابن مسعود وقد قدم معتمرا فسأله ذلك والتزم له عشرا من الإبل فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم أتوكم في دياركم فلم يفلت منكم أحد إلا شريد أفترون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم ففتروا فقال عليه السلام : والذي نفسي بيده لأخرجن ولو لم يخرج معي أحد فخرج في سبعين راكبا وهم يقولون حسبنا الله { فزادهم إيمانا } الضمير المستكن للمقول أو لمصدر قال أو لفاعله أن أريد به نعيم وحده والبارز للمقول لهم والمعنى : إنهم لم يلتفتوا إليه ولم يضعفوا بل ثبت به يقينهم بالله وازداد إيمانهم وأظهروا حمية الإسلام وأخلصوا النية عنده وهو دليل على أن الإيمان يزيد وينقص وعضده قول ابن عمر رضي الله عنهما [ قلنا يا رسول الله الإيمان يزيد وينقص قال : نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار ] وهذا ظاهر إن جعل الطاعة من جملة الإيمان وكذا إن لم تجعل فان اليقين يزداد بالإلف وكثرة التأمل وتناصر الحجج { وقالوا حسبنا الله } محسبنا وكافينا من أحسبه إذا كفاه ويدل على أنه بمعنى المحسب إنه لا يستفيد بالإضافة تعريفا في قولك هذا رجل حسبك { ونعم الوكيل } ونعم الموكل إليه وهو فيه

174 - { فانقلبوا } فرجعوا من بدر { بنعمة من الله } عافية وثبات على الإيمان وزيادة { وفضل } وربح في التجارة فانهم لما أتوا بدرا وأوفوا بها سوقا فاتجروا وربحوا { لم يمسسهم سوء } من جراحة وكيد عدو { واتبعوا رضوان الله } الذي هو مناط الفوز بخير الدارين بجراءتهم وخروجهم { والله ذو فضل عظيم } قد تفضل عليهم بالتثبيت وزيادة الإيمان والتوفيق للمبادرة إلى الجهاد والتصلب في الدين وإظهار الجراءة على العدو وبالحفظ على كل ما يسوءهم وإصابة النفع مع ضمان الأجر حتى انقلبوا بنعمة من الله وفضل وفيه تحسير للمتخلف وتخطئة رأيه حيث حرم نفسه ما فازوا به

175 - { إنما ذلكم الشيطان } يريد به المثبط نعيما أبو سفيان والشيطان خبر { ذلكم } وما بعده بيان لشيطنته أو صفته وما بعده خبر ويجوز أن تكون الإشارة إلى قوله على تقدير مضاف أي إنما ذلكم قول الشيطان يعني إبليس عليه اللعنة { يخوف أولياءه } القاعدين عن الخروج مع الرسول صلى الله عليه و سلم أو يخوفكم أولياؤه الذين هم أبو سفيان وأصحابه { فلا تخافوهم } الضمير للناس الثاني على الأول وإلى الأولياء على الثاني { وخافون } في مخالف أمري فجاهدوا مع رسولي { إن كنتم مؤمنين } فإن الإيمان يقتضي إيثار خوف الله تعالى على خوف الناس

176 - { ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } يقعون فيه سريعا حرصا عليه وهم المنافقين من المتخلفين أو قوم ارتدوا عن الإسلام والمعنى لا يحزنك خوف أن يضروك ويعينوا عليك لقوله : { إنهم لن يضروا الله شيئا } أي لن يضروا أولياء الله شيئا بمسارعتهم في الكفر وإنما يضرون بها أنفسهم وشيئا يحتمل المفعول والمصدر وقرأ نافع { يحزنك } بضم الياء وكسر الزاي حيث وقع ما خلا قوله في الأنبياء لا يحزنهم الفزع الأكبر فإنه فتح الياء وضم الزاي فيه والباقون كذلك في الكل { يريد الله أن لا يجعل لهم حظا في الآخرة } نصيبا من الثواب في الآخرة وهو يدل على تمادي طغيانهم وموتهم على الكفر وفي ذكر الإرادة إشعار بأن كفرهم بلغ الغاية حتى أراد أرحم الراحمين أن لا يكون لهم حظ من رحمته وإن مسارعتهم في الكفر لأنه تعالى لم يرد أن يكون لهم حظ في الآخرة { ولهم عذاب عظيم } مع الحرمان عن الثواب

177 - { إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم } تكرير للتأكيد أو تعميم للكفرة بعد تخصيص من نافق من المتخلفين أو ارتد من العرب

178 - { ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم } خطاب للرسول عليه الصلاة و السلام أو لكل من يحسب والذين مفعول و { أنما نملي } لهم بدل منه وإنما اقتصر على مفعول واحد لأن التعويل على البدل وهو ينوب عن المفعولين كقوله تعالى : { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون } أو المفعول الثاني على تقدير مضاف مثل : ولا تحسبن الذين كفروا أصحاب الإملاء خير لأنفسهم أو ولا تحسبن حال الذين كفروا أن الإملاء خير لأنفسهم وما مصدرية وكان حقها أن تفصل في الخط ولكنها وقعت متصلة في الإمام فاتبع وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم والكسائي ويعقوب بالياء على { إن الذين } فاعل وان مع ما في حيزه مفعول وفتح سينه في جميع القرآن ابن عامر وحمزة وعاصم والإملاء الإمهال وإطالة العمر وقيل تخليتهم وشأنهم من أملى لفرسه إذا أرخى له الطول ليرعي كيف يشاء { إنما نملي لهم ليزدادوا إثما } استئناف بما هو العلة للحكم قبلها وما كافة واللام لام الإرادة وعند المعتزلة لام العاقبة وقرىء { إنما } بالفتح هنا وبكسر الأولى ولا يحسبن بالياء على معنى { ولا يحسبن الذين كفروا } أن إملاءنا لهم لازدياد الإثم بل للتوبة والدخول في الإيمان و { أنما نملي لهم خير } اعتراض معناه أن إملاءنا خير لهم أن انتبهوا وتداركوا فيه ما فرط منكم { ولهم عذاب مهين } على هذا يجوز أن يكون حالا من واو أي ليزدادوا إثما معدا لهم عذاب مهين

179 - { ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب } الخطاب لعامة المخلصين والمنافقين في عصره والمعنى لا يترككم مختلطين لا يعرف مخلصكم من منافقكم حتى يميز المنافق من المخلص بالوحي إلى نبيه بأحوالكم أو بالتكاليف الشاقة التي لا يصبر عليها ولا يذعن لها إلا الخلص المخلصون منكم كبذل الأموال والأنفس في سبيل الله ليختبر النبي صلى الله عليه و سلم به بواطنكم ويستدل به على عقائدكم وقرأ حمزة والكسائي { حتى يميز } هنا وفي الأنفال بضم الياء وفتح الميم وكسر الياء وتشديدها والباقون بفتح الياء وكسر الميم وسكون الياء { وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء } وما كان الله ليؤتي أحدكم علم الغيب فيطلع على ما في القلوب من كفر وإيمان ولكن الله يجتبي لرسالته من يشاء فيوحي إليه ويخبره ببعض المغيبات أو ينصب له ما يدل عليها { فآمنوا بالله ورسله } بصفة الإخلاص أو بأن تعلموه وحده مطلعا على الغيب وتعلموهم عبادا مجتبين لا يعلمون إلا ما علمهم الله ولا يقولون إلا ما أوحي إليهم روي [ أن الكفرة قالوا : إن كان محمد صادقا فليخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر ] فنزلت عن السدي أنه عليه الصلاة و السلام قال : [ عرضت علي أمتي وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر ] فقال المنافقون إن يزعم أنه يعرف من يؤمن به ومن يكفر ونحن معه فلا يعرفنا فنزلت { وإن تؤمنوا } حق الإيمان { وتتقوا } النفاق { فلكم أجر عظيم } لا يقادر قدره

180 - { ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم } القراءات فيه على ما سبق ومن قرأ بالتاء قدر مضافا ليتطابق مفعولاه أي ولا تحسبن بخل الذين يبخلون هو خيرا لهم وكذا من قرأ بالياء إن جعل الفاعل ضمير الرسول صلى الله عليه و سلم أو من يحسب وإن جعله الموصول كان المفعول الأول محذوفا لدلالة يبخلون عليه أي ولا يحسبن البخلاء بخلهم هو خيرا لهم { بل هو } أي البخل { شر لهم } لاستجلاب العقاب عليهم { سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } بيان لذلك سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق وعنه عليه الصلاة و السلام : [ ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل الله شجاعا في عنقه يوم القيامة ] { ولله ميراث السموات والأرض } وله ما فيهما مما يتوارث فما لهؤلاء يبخلون عليه بماله ولا ينفقونه في سبيله أو أنه يرث منهم ما يمسكونه ولا ينفقونه في سبيله بهلاكهم وتبقى عليهم الحسرة والعقوبة { والله بما تعملون } من المنع والإعطاء { خبير } فمجازيهم وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي بالتاء على الإلتفات وهو أبلغ في الوعيد

181 - { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } قالته اليهود لما سمعوا { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا } وروي [ أنه عليه الصلاة و السلام كتب مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضا حسنا فقال فنحاص بن عازوراء : إن الله فقير حتى سأل القرض فلطمه أبو بكر رضي الله عنه على وجهه وقال : لولا ما بيننا من العهد لضربت عنقك فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وجحد ما قاله ] فنزلت والمعنى أنه لم يخف عليه وأنه أعد لهم العقاب عليه { سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق } أي سنكتبه في صحائف الكتبة أو سنحفظه في علمنا لا نهمله لأنه كلمة عظيمة إذ هو كفر بالله عز و جل واستهزاء بالقرآن والرسول ولذلك نظمه مع قتل الأنبياء وفيه تنبيه على أنه ليس أول جريمة ارتكبوها وأن من اجترأ على قتل الأنبياء لم يستبعد منه أمثال هذا القول وقرأ حمزة سيكتب بالياء وضمها وفتح التاء وقتلهم بالرفع ويقول بالياء { ونقول ذوقوا عذاب الحريق } أي وننتقم منهم بأن نقول لهم ذوقوا العذاب المحرق وفيه مبالغات في الوعيد والذوق إدراك الطعوم وعلى الإتساع يستعمل لإدراك سائر المحسوسات والحالات وذكره ها هنا لأن العذاب مرتب على قولهم الناشىء عن البخل والتهالك على المال وغالب حجة الإنسان إليه لتحصيل المطاعم ومعظم بخله به للخوف من فقدانه ولذلك كثر ذكر الأكل مع المال

182 - { ذلك } إشارة إلى العذاب { بما قدمت أيديكم } من قتل الأنبياء وقولهم هذا وسائر معاصيهم عبر بالأيدي عن الأنفس لأن أكثر أعمالها بهن { وأن الله ليس بظلام للعبيد } عطف على ما قدمت وسببيته للعذاب من حيث إن نفي اظلم يستلزم العدل المقتضي إثابة المحسن ومعاقبة المسيء

183 - { الذين قالوا } هم كعب بن الأشرف ومالك وحيي وفنحاص ووهب بن يهوذا { إن الله عهد إلينا } أمرنا في التوراة وأوصانا { أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار } بأن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بهذه المعجزة الخاصة التي كانت لأنبياء بني إسرائيل وهو أن يقرب بقربان فيقوم النبي فيدعو فتنزل نار سماوية فتأكله أي تحيله إلى طبعها بالإحراق وهذا من مفترياتهم وأباطيلهم لأن أكل النار القربان لم يوجب الإيمان إلا لكونه معجزة فهو وسائر المعجزات شرع في ذلك { قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين } تكذيب وإلزام بأن رسلا جاؤهم قبله كزكريا ويحيى بمعجزات أخر موجبة للتصديق وبما اقترحوه فقتلوهم فلو كان الموجب للتصديق هو الإتيان به وكان توقفهم وامتناعهم عن الإيمان لأجله فما لهم لم يؤمنوا بمن جاء به في معجزات أخر واجترؤا على قتله

184 - { فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات والزبر والكتاب المنير } تسلية للرسول صلى الله عليه و سلم من تكذيب قومه واليهود والزبر جمع زبور وهو الكتاب المقصور على الحكم من زبرت الشيء إذا حسبته والكتاب في عرف القرآن ما يتضمن الشرائع والأحكام ولذلك جاء الكتاب والحكمة متعاطفين في عامة القرآن وقيل الزبر والمواعظ والزواجر من زبرته إذا زجرته وقرأ ابن عامر وبالزبر وهشام وبالكتاب بإعادة الجار للدلالة على أنها مغايرة للبينات بالذات

185 - { كل نفس ذائقة الموت } وعد ووعيد للمصدق والمكذب وقرىء { ذائقة الموت } بالنصب مع التنوين وعدمه كقوله : { ولا يذكرون الله إلا قليلا } { وإنما توفون أجوركم } تعطون جزاء أعمالكم خيرا كان أو شرا تاما وافيا { يوم القيامة } يوم قيامكم من القبور ولفظ التوفية يشعر بأنه قد يكون قبلها بعض الأجور ويؤيده قوله عليه الصلاة و السلام : [ القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ] { فمن زحزح عن النار } بعد عنها والزحزحة في الأصل تكرير الزح وهو الجذب بعجلة { وأدخل الجنة فقد فاز } بالنجاة ونيل المراد والفوز الظفر بالبغية وعن النبي صلى الله عليه و سلم [ من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويأتي إلى الناس ما يجب أن يؤتى إليه ] { وما الحياة الدنيا } أي لذاتها وزخارفها { إلا متاع الغرور } شبهها بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغر حتى يشتريه وهذا لمن اثرها على الآخرة فأما من طلب بها الآخرة فهي له متاع بلاغ والغرور مصدر أو جمع غار

186 - { لتبلون } أي والله لتختبرن { في أموالكم } بتكليف الإنفاق وما يصيبها من الآفات { وأنفسكم } بالجهاد والقتل والأسر والجراح وما يرد عليها من المخاوف والأمراض والمتاعب { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا } من هجاء الرسول صلى الله عليه و سلم والطعن في الدين وإغراء الكفرة على المسلمين أخبرهم بذلك قبل وقوعها ليوطنوا أنفسهم على الصبر والاحتمال ويستعدوا للقائها حتى لا يرهقهم نزولها { وإن تصبروا } على ذلك { وتتقوا } مخالفة أمر الله { فإن ذلك } يعني الصبر والتقوى { من عزم الأمور } من معزومات الأمور التي يجب العزم عليها أو مما عزم الله عليه أي أمر به وبالغ فيه والعزم في الأصل ثبات الرأي على الشيء نحو إمضائه

187 - { وإذ أخذ الله } أي اذكر وقت أخذه { ميثاق الذين أوتوا الكتاب } يريد به العلماء { لتبيننه للناس ولا تكتمونه } حكاية لمخاطبتهم وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية ابن عياش بالياء لأنهم غيب واللام جواب القسم الذي ناب عنه قوله : { أخذ الله ميثاق الذين } والضمير للكتاب { فنبذوه } أي الميثاق { وراء ظهورهم } فلم يراعوه ولم يتلفتوا إليه والنبذ وراء الظهر مثل في ترك الاعتداد وعدم الإلتفات ونقيضه جعله نصب عينيه وإلقاؤه بين عينيه { واشتروا به } وأخذوا بدله
{ ثمنا قليلا } من حطام الدنيا وأعراضها { فبئس ما يشترون } يختارون لأنفسهم وعن النبي صلى الله عليه و سلم [ من كتم علما عن أهله ألجم بلجام من نار ] وعن علي رضي الله تعالى عنه ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا

188 - { لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب } الخطاب للرسول صلى الله عليه و سلم ومن ضم الباء جعل الخطاب له وللمؤمنين والمفعول الأول { الذين يفرحون } والثاني { بمفازة } وقوله { فلا تحسبنهم } تأكيد والمعنى : لا تحسبن الذين يفرحون بما فعلوا من التدليس وكتمان الحق ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من الوفاء بالميثاق وإظهار الحق والإخبار بالصدق بمفازة بمنجاة من العذاب أي فائزين بالنجاة منه وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء وفتح الباء في الأول وضمها في الثاني على أن الذين فاعل ومفعولا يحسبن محذوفان يدل عليهم مفعولا مؤكده فكأنه قيل ولا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا فلا يحسبن أنفسهم بمفازة أو المفعول الأول محذوف وقوله فلا تحسبنهم تأكيد للفعل وفاعله ومفعول الأول { ولهم عذاب أليم } بكفرهم وتدليسهم روي أنه عليه الصلاة و السلام [ سأل اليهود عن شيء مما في التوراة فأخبروه بخلاف
ما كان فيها وأروه أنهم قد صدقوه وفرحوا بما فعلوا ] فنزلت وقيل نزلت في قوم تخلفوا عن الغزو ثم اعتذروا بأنهم رأوا المصلحة في التخلف واستحمدوا به وقيل : نزلت في المنافقين فإنهم يفرحون بمنافقتهم ويستحمدون إلى المسلمين بالإيمان الذي لم يفعلوه على الحقيقة

189 - { ولله ملك السموات والأرض } فهو يملك أمرهم { والله على كل شيء قدير } فيقدر على عقابهم وقيل هو رد لقولهم إن الله فقير

190 - { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } لدلائل واضحة على وجود الصانع ووحدته وكمال علمه وقدرته لذوي العقول المجلوة الخالصة من شوائب الحس والوهم كما سبق في سورة آل عمران البقرة ولعل الإقتصار على هذه الثلاثة في هذه الآية لان مناط الاستدلال هو التغيير وهذه متعرضة لجملة أنواعه فإنه إما أن يكون في ذات الشيء كتغير الليل والنهار أو جزئه كتغير العناصر بتبدل صورها أو الخارج عنه كتغير الأفلاك بتبدل أوضاعها وعن النبي صلى الله عليه و سلم [ ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها ]

191 - { الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم } أي يذكرونه دائما على الحالات كلها قائمين وقاعدين ومضطجعين وعنه عليه الصلاة و السلام [ من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله ] وقيل معناه يصلون على الهيئات الثلاث حسب طاقتهم لقوله عليه الصلاة و السلام لعمران بن حصين : [ صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب تومئ إيماء ] فهو حجة للشافعي رضي الله عنه في أن المريض يصلي مضطجعا على جنبه الأيمن مستقبلا بمقاديم بدنه { ويتفكرون في خلق السموات والأرض } استدلالا واعتبارا وهو أفضل العبادات كما قال عليه الصلاة و السلام [ لا عبادة كالتفكر ] لأنه المخصوص بالقلب والمقصود من الخلق وعنه عليه الصلاة و السلام : [ بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى السماء والنجوم فقال : أشهد أن لك ربا وخالقا : اللهم اغفر لي فنظر الله إليه فغفر له ] وهذا دليل واضح على شرف علم الأصول وفضل أهله { ربنا ما خلقت هذا باطلا } على إرادة القول أي يتفكرون قائلين ذلك وهذا إشارة إلى المتفكر فيه أي الخلق على أنه أريد به المخلوق من السموات والأرض أو إليهما لأنهما في معنى المخلوق والمعنى ما خلقته عبثا ضائعا من غير حكمة بل خلقته لحكم عظيمة من جملتها أن يكون مبدأ لوجود الإنسان وسبابا لمعاشه ودليلا يدله على معرفتك ويحثه على طاعتك لينال الحياة الأبدية والسعادة السرمدية في جوارك { سبحانك } تنزيها لك من العبث وخلق الباطل وهو اعتراض { فقنا عذاب النار } للإخلال بالنظر فيه والقيام بما يقتضيه وفائدة الفاء هي الدلالة على أن علمهم بما لأجله خلقت السموات والأرض حملهم على الإستعاذة

192 - { ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته } غاية الإخزاء وهو نظير قولهم : من أدرك مرعى الصمان فقد أدرك والمراد به تهويل المستعاذ منه تنبيها على شدة خوفهم وطلبهم الوقاية منه وفيه إشعار بأن العذاب الروحاني أفظع { وما للظالمين من أنصار } أراد بهم المدخلين ووضع المظهر موضع المضمر للدلالة على أن ظلمهم سبب لإدخالهم النار وانقطاع النصرة عنهم في الخلاص منها ولا يلزم من نفي النصرة نفي الشفاعة لأن النصر دفع بقهر

193 - { ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان } أوقع الفعل على المسمع وحذف المسموع لدلالة وصفه عليه وفيه مبالغة ليست في إيقاعه على نفس المسموع وفي تنكير المنادي وإطلاقه ثم تقييده تعظيم لشأنه والمراد به الرسول صلى الله عليه و سلم وقيل القرآن والنداء والدعاء ونحوهما يعدى بإلى واللام لتضمنها معنى الانتهاء والاختصاص { أن آمنوا بربكم فآمنا } أي بأن آمنوا فامتثلنا { ربنا فاغفر لنا ذنوبنا } كبائرنا فإنها ذات تبعة { وكفر عنا سيئاتنا } صغائرنا فإنها مستقبحة ولكن مكفرة عن مجتنب الكبائر { وتوفنا مع الأبرار } مخصوصين بصحبتهم معدودين في زمرتهم وفيه تنبيه على أنهم محبون لقاء الله ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه والأبرار جمع بر أو بار كأرباب وأصحاب

194 - { ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك } أي ما وعدتنا على تصديق رسلك من الثواب لما أظهر امتثاله لما أمر به سأل ما وعد عليه لا خوفا من إخلاف الوعد بل مخافة أن لا يكون من الموعودين لسوء عاقبة أو قصور في الامتثال أو تعبدا واستكانة ويجوز أن يعلق على بمحذوف تقديره : ما وعدتنا منزلا على رسلك أ محمولا عليهم وقيل معناه على ألسنة رسلك { ولا تخزنا يوم القيامة } بأن تعصمنا عما يقتضيه { إنك لا تخلف الميعاد } بإثابة المؤمن وإجابة الداعي وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الميعاد البعث بعد الموت وتكرير ربنا للمبالغة في الابتهال والدلالة على أن استقلال المطالب وعلو شأنها وفي الآثار من حزبه أمر فقال خمس مرات ربنا أنجاه الله مما يخاف

195 - { فاستجاب لهم ربهم } إلى طلبتهم وهو أخص من أجاب ويعدي بنفسه وباللام { أني لا أضيع عمل عامل منكم } أي بأني لا أضيع وقرىء بالكسر على إرادة القول { من ذكر أو أنثى } بيان عامل { بعضكم من بعض } لأن الذكر من الأنثى و الأنثى من الذكر أ لأنهما من أصل واحد أو لفرط الاتصال والاتحاد أو للاجتماع في والاتفاق الدين وهي جملة معترضة بين بها شركة النساء مع الرجال فيما وعد للعمال روي [ أن أم سلمة رضي الله عنها قالت : يا رسول الله إني أسمع الله يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساءفنزلت ] { فالذين هاجروا } إلخ وتفصيل لأعمال العمال وما أعد لهم من الثواب على سبيل المدح والتعظيم والمعنى فالذين هاجروا الشرك أو الأوطان والعشائر للدين { وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي } بسبب إيمانهم بالله ومن أجله { وقاتلوا } الكفار { وقتلوا } في الجهاد وقرأ حمزة والكسائي بالعكس لأن الواو لا توجب ترتيبا والثاني أفضل أو لأن المراد لما قتل منهم قوم قاتل الباقون ولم يضعفوا وشدد ابن كثير وابن عامر { قتلوا } للتكثير { لأكفرن عنهم سيئاتهم } لأمحونها { ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله } أي أثيبهم بذلك إثابة من عند الله تفضلا منه فهو مصدر مؤكد { والله عنده حسن الثواب } على الطاعات قادر عليه

196 - { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد } والخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم والمراد أمته أو تثبيته على ما كان عليه كقوله : { فلا تطع المكذبين } أو لكل أحد والنهي في المعنى للمخاطب وإنما جعل للتقلب تنزيلا للسبب منزلة المسبب للمبالغة والمعنى لا تنظر إلى ما الكفرة عليه من السعة والحظ ولا تغتر بظاهر ما ترى من تبسطهم في مكاسبهم ومتاجرهم ومزارعهم روي أن بعض المؤمنين كانوا يرون المشركين في رخاء ولين عيش فيقولون : إن أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهدفنزلت

197 - { متاع قليل } خبر مبتدأ محذوف أي ذلك التقلب متاع قليل لقصر مدته في جنب ما أعد الله للمؤمنين قال عليه الصلاة و السلام [ ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع ] { ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد } أي ما مهدوا لأنفسهم

198 - { لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله } النزل والنزل ما يعد للنازل من طعام وشراب وصلة قال أبو الشعر الضبي :
( وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا ... جعلنا القنا والمرهفات نزلا )
وانتصابه على الحال من جنات والعامل فيها الظرف وقيل : إنه مصدر مؤكد والتقدير أنزلوها نزلا { وما عند الله } لكثرته ودوامه { خير للأبرار } مما يتقلب فيه الفجار لقلته وسرعة زواله

199 - { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله } نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه وقيل في أربعين من نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا نصارى فأسلموا وقيل في أصحمة النجاشي لما نعاه جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فخرج فصلى عليه فقال المنافقون انظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط وإنما دخلت اللام على الاسم للفصل بينه وبين إن بالظرف { وما أنزل إليكم } من القرآن { وما أنزل إليهم } من الكتابيين { خاشعين لله } حال من فاعل يؤمن وجمعه باعتبار المعنى { لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا } كما يفعله المحرفون من أحبارهم { أولئك لهم أجرهم عند ربهم } ما خص بهم من الأجر ووعده في قوله تعالى : { أولئك يؤتون أجرهم مرتين } { إن الله سريع الحساب } لعمله بالأعمال وما يستوجبه من الجزاء واستغنائه عن التأمل والاحتياط والمراد أن الأجر الموعود سريع الوصول فإن سرعة الحساب تستدعي سرعة الجزاء

200 - { يا أيها الذين آمنوا اصبروا } على مشاق الطاعات وما يصيبكم من الشدائد { وصابروا } وغالبوا أعداء الله بالصبر على شدائد الحرب وأعدى عدوكم في الصبر على مخالفة الهوى وتخصيصه بعد الأمر بالصبر مطلقا لشدته { ورابطوا } أبدانكم وخيولكم في الثغور مترصدين للغزو وأنفسكم على الطاعة كما قال عليه الصلاة و السلام [ من الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة ] وعنه عليه الصلاة و السلام [ من رابط يوما وليلة في سبيل الله كان كعدل صيام شهر رمضان وقيامه لا يفطر ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة ] { واتقوا الله لعلكم تفلحون } فاتقوه بالتبري عما سواه لكي تفلحوا غاية الفلاح أو واتقوا القبائح لعلكم تفلحون بنيل المقامات الثلاثة المرتبة التي هي الصبر على مضض الطاعات ومصابة النفس في رفض العادات ومرابطة السر على جناب الحق لترصد الواردات المعبر عنها بالشريعة والطريقة والحقيقة عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ من قرأ سورة آل عمران أعطي بكل آية منها أمانا على جسر جهنم ] وعنه عليه الصلاة و السلام [ من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى الله عليه و سلم الله عليه وملائكته حتى تجب الشمس ] والله أعلم

1 - { يا أيها الناس } خطاب يعم بني آدم { اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة } هي آدم { وخلق منها زوجها } عطف على خلقكم أي خلقكم من شخص واحد وخلق منه أمكم حواء من ضلع من أضلاعه أو محذوف تقديره من نفس واحدة خلقها وخلق منها زوجها وهو تقرير لخلقهم من نفس واحدة { وبث منهما رجالا كثيرا ونساء } بيان لكيفية تولدهم منهما والمعنى ونشر من تلك النفس والزوج المخلوقة منها بنين وبنات كثيرة واكتفى بوصف الرجال بالكثرة عن وصف النساء بها إذ الحكمة تقتضي أن يكن أكثر وذكر { كثيرا } حملا على الجمع وترتيب الأمر بالتقوى على هذه القصة لما فيها من الدلالة على القدرة القاهرة التي من حقها أن تخشى والنعمة الباهرة التي توجب طاعة موليها أو لأن المراد به تمهيد الأمر بالتقوى فيما يتصل بحقوق أهل منزله وبني جنسه على ما دلت عليه الآيات التي بعدها وقرئ { خالق } { وبث } على حذف مبتدأ تقديره وهو خالق وباث { واتقوا الله الذي تساءلون به } أي يسأل بعضكم بعضا تقول أسألك بالله وأصله تتساءلون فأدغمت التاء الثانية في السين وقرأ عاصم و حمزة و الكسائي بطرحها { والأرحام } بالنصب عطف على محل الجار والمجرور كقولك : مررت بزيد وعمرا أو على الله أي اتقوا الله واتقوا الأرحام فصلوها ولا تقطعوها وقرأ حمزة بالجر عطفا على الضمير المجرور وهو ضعيف لأنه كبعض الكلمة وقرئ بالرفع على انه مبتدأ محذوف الخبر تقديره والأرحام كذلك أي مما يتقى أو يتساءل به وقد نبه سبحانه وتعالى إذ قرن الأرحام باسمه الكريم على أن صلتها بمكان منه وعنه عليه الصلاة و السلام [ الرحم معلقة بالعرش تقول ألا من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله ] { إن الله كان عليكم رقيبا } حافظا مطلعا

2 - { وآتوا اليتامى أموالهم } أي إذا بلغوا واليتامى جمع يتيم وهو الذي مات أبوه من اليتم وهو الانفراد ومنه الدرة اليتيمة إما على أنه لما جرى مجرى الأسماء كفارس وصاحب جمع على يتائم ثم قلب فقيل يتامى أو على أنه جمع على يتمي كأسرى لأنه من باب الآفات ثم جمع يتمي على يتامى كأسرى وأسارى والاشتقاق يقتضي وقوعه على الصغار والكبار لكن العرف خصصه بمن لم يبلغ وروده في الآية إما للبلغ على الأصل أو الاتساع لقرب عهدهم بالصغر حثا على أن يدفع إليهم أموالهم أول بلوغهم قبل أن يزول عنهم هذا الاسم إن أونس منهم الرشد ولذلك أمر بابتلائهم صغارا أو لغير البلغ والحكم مقيد كأنه قال وآتوهم إذا بلغوا ويؤيد الأول ما روي : أن رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ طلب المال منه فمنعه فنزلت فلما سمعها العم قال : أطعنا الله رسوله نعوذ بالله من الحوب الكبير { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } ولا تستبدلوا الحرام من أموالهم بالحلال من أموالكم أو الأمر الخبيث وهو اختزال أموالهم بالأمر الطيب الذي هو حفظها وقيل ولا تأخذوا الرفيع من أموالهم وتعطوا الخسيس مكانها وهذا تبديل وليس بتبدل { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } ولا تأكلوها مضمومة إلى أموالكم أي لا تنفقوهما معا ولا تسووا بينهما وهذا حلال وذاك حرام وهو فيما زاد على قدر أجره لقوله تعالى : { فليأكل بالمعروف } { إنه } الضمير للأكل
{ كان حوبا كبيرا } ذنبا عظيما وقرئ حوبا وهو مصدر حاب { حوبا } وحابا كقال قولا وقالا

3 - { وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء } أي إن خفتم أن لا تعدلوا في يتامى النساء إذا تزوجتم بهن فتزوجوا ما طاب لكم من غيرهن إذ كان الرجل يجد يتيمة ذات مال وجمال فيتزوجها ضنا بها فربما يجتمع عنده منهن عدد ولا يقدر على القيام بحقوقهن أو إن خفتم أن لا تعدلوا في حقوق اليتامى فتحرجتم منها فخافوا أيضا أن لا تعدلوا بين النساء فانكحوا مقدارا يمكنكم الوفاء بحقه لأن المتحرج من الذنب ينبغي أن يتحرج من الذنوب كلها على ما روي : أنه تعالى لما عظم أمر اليتامى تحرجوا من ولاية اليتامى ولا يتحرجون من الزنى فقيل لهم إن خفتم أن لا تعدلوا في أمر اليتامى فخافوا الزنى فانكحوا ما حل لكم وإنما عبر عنهن بما ذهابا إلى إجراء لهن مجرى غير العقلاء لنقصان عقلهن ونظيره { أو ما ملكت أيمانكم } وقرئ { تقسطوا } بفتح التاء على أن { لا } مزيدة أي إن خفتم أن تجوروا { مثنى وثلاث ورباع } معدولة عن أعداد مكررة وهي : ثنتين ثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا وهي غير منصرفة للعدل والصفة فإنها بنيت صفات وإن كانت أصولها لم تبن لها وقيل لتكرير العدل فإنها معدولة باعتبار الصفة والتكرير منصوبة على الحال من فاعل طاب ومعناها : الإذن لكل ناكح يريد الجمع أن ينكح ما شاء من العدد المذكور متفقين فيه ومختلفين كقولك : اقتسموا هذه البدرة درهمين درهمين وثلاثة ثلاثة ولو أفردت كان المعنى تجويز الجمع بين هذه الأعداد دون التوزيع ولو ذكرت بأو لذهب تجويز الاختلاف في العدد { فإن خفتم أن لا تعدلوا } بين هذه الأعداد أيضا { فواحدة } فاختاروا أو فانكحوا واحدة وذروا الجمع وقرئ بالرفع على أنه فاعل محذوف أو خبره تقديره فتكفيكم واحدة أو فالمقنع واحدة { أو ما ملكت أيمانكم } سوى بين الواحدة من الأزواج والعدد من السراري لخفة مؤنهن وعدم وجوب القسم بينهن { ذلك } أي التقليل منهن أو اختيار الواحدة أو التسري { أدنى أن لا تعولوا } أقرب من أن لا تميلوا يقال عال الميزان إذا مال وعال الحاكم إذا جار وعول الفريضة إذا الميل عن حد السهام المسماة وفسر بأن لا تكثر عيالكم على أنه من عال الرجل عياله يعولهم إذا مانهم فعبر عن كثرة العيال بكثرة المؤمن على الكناية ويؤيده قراءة { فلا تميلوا } من أعال الرجل إذا كثر عياله ولعل المراد بالعيال الأزواج وإن أريد الأولاد فلأن التسري مظنة قلة الولد بالإضافة إلى التزوج لجواز العزل فيه كتزوج الواحدة بالإضافة إلى تزوج الأربع

4 - { وآتوا النساء صدقاتهن } مهورهن وقرئ بفتح الصاد وسكون الدال على التخفيف وبضم الصاد وسكون الدال جمع صدقة كغرفة وبضمهما على التوحيد وهو تثقيل صدقة كظلمة في ظلمة { نحلة } أي عطية يقال نحلة كذا نحلة ونحلا إذا أعطاه إياه عن طيب نفس بلا توقع عوض ومن فسرها بالفريضة ونحوها نظر إلى مفهوم الآية لا إلى موضوع اللفظ ونصبها على المصدر لأنها في معنى الإيتاء أو الحال من الواو أو الصدقات أي آتوهن صدقاتهن ناحلين أو منحولة وقيل المعنى نحلة من الله وتفضلا منه عليهن فتكون حالا من الصدقات وقيل ديانة من قولهم انتحل فلان كذا إذا دان به على أنه مفعول له أو حال من الصدقات أي دينا من الله تعالى شرعه والخطاب للأزواج وقيل للأولياء لأنهم كانوا يأخذون مهور مولياتهم { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا } للصداق حملا على المعنى أو جرى مجرى اسم الإشارة كقول رؤبة :
( كأنه في الجلد ... توليع البهق )
إذ سئل فقال : أردت كأن ذاك وقيل للإيتاء ونفسا تمييز لبيان الجنس ولذلك وحد والمعنى فإن وهبن لكم شيئا من الصداق عن طيب نفس لكن جعل العمدة طيب النفس للمبالغة وعداه بعن لتضمن معنى التجافي والتجاوز وقال منه بعثا لهن على تقليل الموهوب { فكلوه هنيئا مريئا } فخذوه وأنفقوه حلالا بلا تبعة والهنيء والمريء صفتان من هنأ الطعام ومرأ إذا ساغ من غير غصص أقيمتا مقام مصدريهما أو وصف بهما المصدر أو جعلتا حالا من الضمير وقيل الهنيء ما يلذه الإنسان والمريء ما تحمد عاقبته روي : أن ناسا كانوا يتأثمون أن يقبل أحدهم من زوجته شيئا مما ساق إليها فنزلت

5 - { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } نهي للأولياء عن أن يؤتوا الذين لا رشد لهم أموالهم فيضيعوها وإنما أضاف الأموال إلى الأولياء لأنها في تصرفهم وتحت ولايتهم وهو الملائم للآيات المتقدمة والمتأخرة وقيل نهي لكل أحد أن يعمد إلى ما خوله الله تعالى من المال فيعطي امرأته وأولاده ثم ينظر إلى أيديهم وإنما سماهم سفهاء استخفافا بعقولهم واستهجانا لجعلهم قواما على أنفسهم وهو أوفق لقوله : { التي جعل الله لكم قياما } أي تقومون بها وتنتعشون وعلى الأول يؤول بأنها التي من جنس ما جعل الله لكم قياما سمي ما به القيام قياما للمبالغة وقرأ نافع و ابن عامر { قيما } بمعناه كعوذ بمعنى عياذ وقرئ { قواما } وهو ما يقام به { وارزقوهم فيها واكسوهم } واجعلوها مكنا لرزقهم وكسوتهم بأن تتجروا فيها وتحصلوا من نفعها ما يحتاجون إليه { وقولوا لهم قولا معروفا } عدة جميلة تطيب بها نفوسهم والمعروف ما عرفه الشرع أو العقل بالحسن والمنكر ما أنكره أحدهما لقبحه

6 - { وابتلوا اليتامى } اختبروهم قبل بلوغ بتتبع أحوالهم في صلاح الدين والتهدي إلى ضبط المال وحسن التصرف بأن يكل إليه مقدمات العقد وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى بأن يدفع إليه ما يتصرف فيه { حتى إذا بلغوا النكاح } حتى إذا بلغوا حد البلوغ بأن يحتلم أو يستكمل خمسة عشر سنة عندنا لقوله عليه الصلاة و السلام : [ إذا استكمل الولد خمس عشرة سنة كتب ما له وما عليه وأقيمت عليه الحدود ] وثماني عشرة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وبلوغ النكاح كناية عن البلوغ لأنه يصلح للنكاح عنده { فإن آنستم منهم رشدا } فإن أبصرتم منهم رشدا وقرئ أحستم بمعنى أحسستم { فادفعوا إليهم أموالهم } من غير تأخير عن حد البلوغ ونظم الآية أن إن الشرطية جواب إذا المتضمنة معنى الشرط والجملة غاية الابتلاء فكأنه قيل وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم واستحقاقهم دفع أموالهم إليهم بشرط إيناس الرشد منهم وهو دليل على أنه لا يدفع إليهم ما لم يأنس منهم الرشد وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى : إذا زادت على سن البلوغ سبع سنين وهي مدة معتبرة في تغير الأحوال إذ الطفل يميز بعدها ويؤمر بالعبادة دفع إليه المال وإن لم يأنس منه الرشد { ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا } مسرفين ومبادرين كبرهم أو لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم { ومن كان غنيا فليستعفف } من أكلها { ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف } بقدر حاجته وأجرة سعيه ولفظ الاستعفاف والأكل بالمعروف مشعر بأن الولي له حق في مال الصبي وعنه عليه الصلاة و السلام : [ أن رجلا قال له إن في حجري يتيما أفآكل من ماله ؟ قال : كل بالمعروف غير متأثل مالا ولا واق مالك بماله ] وإيراد هذا التقسيم بعد قوله ولا تأكلوها يدل على أنه نهي للأولياء أن يأخذوا وينفقوا على أنفسهم أموال اليتامى { فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم } بأنهم قبضوها فإنه أنفى للتهمة وأبعد من الخصومة ووجوب الضمان وظاهره يدل على أن القيم لا يصدق في دعواه إلا بالبينة وهو المختار عندنا وهو مذهب مالك رحمه الله تعالى خلافا لأبي حنيفة { وكفى بالله حسيبا } محاسبا فلا تخالفوا ما أمرتكم به ولا تتجاوزوا ما حد لكم

7 - { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } يريد بهم المتوارثين بالقرابة { مما قل منه أو كثر } بدل مما ترك بإعادة العامل { نصيبا مفروضا } نصب عل أنه مصدر مؤكد كقوله تعالى : { فريضة من الله } أو حال إذ المعنى : ثبت لهم مفروضا نصيب أو على الإختصاص بمعنى أعني نصيبا مقطوعا واجبا لهم وفيه دليل على أن الوارث لو أعرض عن نصيبه لم يسقط حقه روي [ أن أوس بن الصامت الأنصاري خلف زوجته أم كحة وثلاث بنات فزوى ابنا عمه سويد وعرفطة أو قتادة وعرفجة ميراثه عنهن على سنة الجاهلية فإنهم ما كانوا يورثون النساء والأطفال ويقولون : إنما يرث من يحارب ويذب عن الحوزة فجاءت أم كحة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في مسجد الفضيخ فشكت إليه فقال : ارجعي حتى أنظر ما يحدث الله فنزلت فبعث إليهما : لا تفرقا من مال أوس شيئا فإن الله قد جعل لهن نصيبا ولم يبين حتى يبين فنزلت { يوصيكم الله } فأعطى أم كحة الثمن والبنات الثلثين والباقي ابن العم ] وهو دليل عل جواز تأخير البيان عن وقف الخطاب

8 - { وإذا حضر القسمة أولو القربى } ممن لا يرث { واليتامى والمساكين فارزقوهم منه } فأعطوهم شيئا من المقسوم تطيبا لقلوبهم وتصدقا عليهم وهو أمر ندب للبلغ من الورثة وقيل أمر وجوب ثم اختلف في نسخه والضمير لما ترك أو دل عليه القسمة { وقولوا لهم قولا معروفا } وهو أن يدعوا لهم ويستقلوا ما أعطوهم ولا يمنوا عليهم

9 - { وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم } أمر للأوصياء بأن يخشوا الله تعالى ويتقوه في مر اليتامى فيفعلوا بهم ما يحبون أن يفعل بذراريهم الضعاف بعد وفاتهم أو للحاضرين المريض عند الإيصاء بأن يخشوا ربهم أو يخشوا على أولاد المريض ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم فلا يتركوه أن يضر بهم بصرف المال عنهم أو للورثة بالشفقة على من حضر القسمة من ضعفاء الأقارب واليتامى والمساكين متصورين أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضعافا مثلهم هل يجوزون حرمانهم أو للموصين بأن ينظروا للورثة فلا يسرفوا في الوصية ولو بما في حيزه جعل صلة للذين على معنى وليخش الذين حالهم وصفتهم أنهم لو شارفوا أن يخلفوا ذرية ضعافا خافوا عليهم الضياع وفي ترتيب الأمر عليه إشارة إلى المقصود منه والعلة فيه وبعث على الترحم وأن يحب لأولاد غيره ما يحب لأولاده وتهديدي للمخالف بحال أولاده { فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا } أمرهم بالتقوى التي هي غاية الخشية بعدما أمرهم بها مراعاة للمبدأ والمنتهى إذ لا ينفع الأول دون الثاني ثم أمرهم أن يقولوا لليتامى مثل ما يقولون لأولادهم بالشفقة وحسن الأدب أو للمريض ما يصده عن الإسراف في الوصية وتضييع حق الورثة ويذكره التوبة وكلمة الشهادة أو لحاضري القسمة عذرا جميلا ووعدا حسنا أو أن يقولوا في الوصية ما لا يؤدي إلى مجاوزة الثلث وتضييع الورثة

10 - { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما } ظالمين أو على زجه الظلم { إنما يأكلون في بطونهم } ملء بطونهم { نارا } ما يجر إلى النار ويؤول إليها وعن أبي بردة رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه و سلم قال : [ يبعث الله قوما من قبورهم تتأجج أفواههم نارا فقيل : من هم ؟ فقال : ألم تر أن الله يقول : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا } { وسيصلون سعيرا } وسيدخلون نارا وأي نار ] وقرأ ابن عامر و ابن عياش عن عاصم بضم الياء مخففا وقرئ به مشددا يقال صلى النار قاسى حرها وصليته شويته وأصليته وصليته ألقيته فيها والسعير فعيل بمعنى مفعول من سعرت النار إذا ألهبتها

11 - { يوصيكم الله } يأمركم ويعهد إليكم { في أولادكم } في شأن ميراثهم وهو إجمال تفصيله { للذكر مثل حظ الأنثيين } أي يعد كل ذكر بأنثيين حيث اجتمع الصنفان فيضعف نصيبه وتخصيص الذكر بالتنصيص عل حظه لأن القصد إلى بيان فضله والتنبيه على أن التضعيف كاف للتفضيل فلا يحرمن بالكلية وقد اشتركا في الجهة والمعنى للذكر منهم فحذف للعلم به { فإن كن نساء } أي إن كان الأولاد نساء خلصا ليس معهن ذكر الضمير فأنث الضمير باعتبار الخبر أو على تأويل المولودات { فوق اثنتين } خبر ثان أو صفة للنساء أي نساء زائدات على اثنتين { فلهن ثلثا ما ترك } المتوفى منكم ويدل عليه المعنى { وإن كانت واحدة فلها النصف } أي وإن كانت المولودة واحدة وقرأ نافع بالرفع على كان التامة واختلف في الثنتين فقال ابن عباس رضي الله عنهما حكمهما حكم الواحدة لأنه تعالى جعل الثلثين لما فوقهما وقال الباقون حكمهما حكم ما فوقهما لأنه تعالى لما بين أن حظ الذكر مثل حظ الأنثيين إذا كان معه أنثى وهو الثلثان اقتضى ذلك أن فرضهما الثلثان ثم لما أوهم ذلك أن يزداد النصيب بزيادة العدد رد ذلك بقوله : { فإن كن نساء فوق اثنتين } ويؤيد ذلك أن البنت الواحدة لما استحقت الثلث مع أخيها فبالحري أن تستحقه مع أخت مثلها وأن البنتين أمس رحما من الأختين وقد فرض لهما الثلثين بقوله تعالى : { فلهما الثلثان مما ترك } { ولأبويه } ولأبوي الميت { لكل واحد منهما } بدل منه بتكرير العامل وفائدته التنصيص على استحقاق كل واحد منهما السدس والتفصيل بعد الإجمال تأكيدا { السدس مما ترك إن كان له } أي الميت { ولد } ذكر أو أنثى غير أن الأب يأخذ السدس مع الأنثى بالفريضة وما بقي من ذوي الفروض أيضا بالعصوبة { فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه } فحسب { فلأمه الثلث } مما ترك وإنما لم يذكر حصة الأب لأنه لما فرض أن الوارث أبواه فقط وعين نصيب الأم علم أن الباقي للأب وكأنه قال : فلهما ما ترك أثلاثا وعلى هذا ينبغي أن يكون لها حيث كان معهما أحد الزوجين ثلث ما بقي من فرضه كما قاله الجمهور لا ثلث المال كما قاله ابن عباس فإنه يفضي إلى تفضيل الأنثى على الذكر المساوي لها في الجهة القرب وهو خلاف وضع الشرع { فإن كان له إخوة فلأمه السدس } ب'طلاقه يدل على أن الأخوة يريدونها من الثلث إلى السدس وإن كانوا لا يرثون مع الأب وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم يأخذون السدس الذي حجبوا عنه الأم والجمهور على أن المراد بالإخوة عدد ممن له إخوة من غير اعتبار التثليث سواء كان من الإخوة أو من الأخوات وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لا يحجب الأم من الثلث ما دون الثلاثة ولا الأخوات الخلص أخذا بالظاهر وقرأ حمزة و الكسائي { فلأمه } بكسر الهمزة اتباعا للكسرة التي قبلها { من بعد وصية يوصي بها أو دين } متعلق بما تقدمه من قسمة المواريث كلها أي هذه الأنصباء للورثة من بعد ما كان من وصية أو دين وإنما قال بأو التي للإباحة دون الواو للدلالة على أنهما متساويان في الوجوب مقدمان على القسمة مجموعين ومنفردين وقدم الوصية على الدين وهي متأخرة في الحكم لأنها مشبهة للميراث شاقة على الورثة مندوب إليها الجميع والدين إما يكون على الندور وقرأ ابن كثير و ابن عامر و أبو بكر بفتح الصاد { آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا } أي لا تعلمون من أنفع لكم ممن يرثكم من أصولكم وفروعكم في عاجلكم وآجلكم فتحروا فيهم ما أوصاكم الله به ولا تعمدوا إلى تفضيل بعض وحرمانه روي أن أحد المتوالدين كان أرفع درجة من الآخر في الجنة سأل أن يرفع إليه فيرفع بشفاعته أو من مورثيكم منهم أو من أوصى منهم فعرضكم للثواب بإمضاء وصيته أو من لم يوصي فوفر عليكم ماله فهو اعتراض مؤكد لأمر القسمة أو تنفيذ الوصية { فريضة من الله } مصدر مؤكد أو مصدر يوصيكم الله لأنه في معنى يأمركم ويفرض عليكم { إن الله كان عليما } بالمصالح والرتب { حكيما } فيما قضى وقدر

12 - { ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن } أي ولد وارث من بطنها أو من صلب بنيها أو بني بنيها وإن سفل ذكرا كان أو أنثى منكم أو من غيركم { من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين } فرض للرجل بحق الزواج ضعف ما للمرأة كما في النسب وهكذا قياس كل رجل وامرأة اشتركا في الجهة والقرب ولا يستثنى من إلا أولاد الأم والمعتق والمعتقة وتستوي الواحدة والعدد منهم في الربع والثمن { وإن كان رجل } أي الميت { يورث } أي يورث منه من ورث صفة رجل { كلالة } خبر كان أو يورث خبره وكلالة حال من الضمير فيه وهو من لم يخلف ولدا ولا والدا أو مفعول له والمراد بها قرابة ليست من جهة الوالد والولد ويجوز أن يكون الرجل الوارث ويورث من أورث وكلالة من ليس له بوالد ولا ولد وقرئ { يورث } عل البناء للفاعل فالرجل الميت وكلالة تحتمل المعني الثلاثة وعلى الأول خبر أم حال وعلى الثاني مفعول له وعلى الثالث مفعول به وهي في الأصل مصدر بمعنى الكلال قال الأعشى :
( فآليت لا أرثي لها من كلالة ... ولا من حفا حتى ألاقي محمدا )
فاستعيرت لقرابة ليست بالبعضية لأنها كالة بالإضافة إليها ثم وصف بها المورث والوارث بمعنى ذي كلالة كقولك فلان من قرابتي { أو امرأة } عطف على رجل { وله } أي وللرجل واكتفي بحكمه عن حكم المرأة لدلالة العطف على تشاركهما فيه { أخ أو أخت } أي من الأم ويدل عليه قراءة أبي و سعد بن مالك { وله أخ أو أخت } وأنه ذكر في آخر السورة أن للأختين الثلثين وللأخوة الكل وهو لا يليق بأولاد الأم وأن ما قدر ها هنا فرض الأم فيناسب أن يكون لأولادها { فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث } سوى بين الذكر والأنثى في القسمة لأن الإدلاء بمحض الأنوثة ومفهوم الآية أنهم لا يرثون ذلك مع الأم والجدة كما لا يرثون مع البنت وبنت الابن فخص فيه الإجماع { من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار } أي غير مضار لورثته بالزيادة على الثلث أو قصد المضارة بالوصية دون القربة والإقرار بدين لا يلزمه وهو حال من فاعل يوصى المذكور في هذه القراءة والمدلول عليه بقوله يوصى على البناء للمفعول في قراءة ابن كثير و ابن عامر و ابن عياش عن عاصم { وصية من الله } مصدر مؤكد أو منصوب بغير مضار على المفعول به ويؤيده أنه قرئ { غير مضار وصية } بالإضافة أي لا يضار وصية من الله وهو الثلث فما دونه بالزيادة أو وصية منه بالأولاد بالإسراف في الوصية والإقرار الكاذب { والله عليم } بالمضار وغيره { حليم } لا يعاجل بعقوبته

13 - { تلك } إشارة إلى الأحكام التي قدمت في أمر اليتامى والوصايا والمواريث { حدود الله } شرائعه التي هي كالحدود المحدودة التي لا يجوز مجاوزتها { ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم }

14 - { ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين } توحيد الضمير في يدخله وجمع { خالدين } للفظ والمعنى وقرأ نافع و ابن عامر { ندخله } بالنون و { خالدين } حال مقدرة كقولك : مررت برجل معه صقر صائدا به غدا وكذلك خالدا وليستا صفتين لجنات ونارا وإلا لوجب إبراز الضمير لأنهما جريا على غير من هما له

15 - { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم } أي يفعلنها يقال أتى الفاحشة وجاءها وغشيها ورهقها إذا فعلها والفاحشة الزنا لزيادة قبحها وشناعتها { فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } فاطلبوا ممن قذفهن أربعة من رجال المؤمنين تشهد عليهن { فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت } فاحبسوهن في البيوت واجعلوها سجنا عليهن { حتى يتوفاهن الموت } يستوفي أرواحهن الموت أو يتوفاهن ملائكة الموت قيل : قيل كان ذلك عقوبتهن في أوائل الإسلام فنسخ بالحد ويحتمل أن يكون المراد به التوصية بإمساكهن بعد أن يجلدن كيلا يجري عليهن ما جرى بسبب الخروج والتعرض للرجال لم يذكر الحد استغناء بقوله تعالى : { الزانية والزاني } { أو يجعل الله لهن سبيلا } كتعيين الحد المخلص عن الحبس أو النكاح المغني عن السفاح

16 - { واللذان يأتيانها منكم } يعني الزانية والزاني وقرأ ابن كثير { واللذان } بتشديد النون وتمكين مد الألف والباقون بالتخفيف من غير تمكين { فآذوهما } بالتوبيخ والتقريع وقيل بالتعيير والجلد { فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما } فاقطعوا عنهما الإيذاء أو أعرضوا عنهما بالإغماض والستر { إن الله كان توابا رحيما } علة الأمر بالإعراض وترك المذمة قيل هذه الآية سابقة على الأولى نزولا وكان عقوبة الزنى الأذى ثم الحبس ثم الجلد وقيل الأولى في السحاقات وهذه في اللواطين والزانية والزاني في الزناة

17 - { إنما التوبة على الله } أي إن قبول التوبة كالمحتوم على الله بمقتضى وعده من تاب عليه إذا قبل توبته { للذين يعملون السوء بجهالة } متلبسين بها سفها فإن ارتكاب الذنب سفها وتجاهل ولذلك قيل من عصى الله فهو جاهل حتى ينزع عن جهالته { ثم يتوبون من قريب } من زمان قريب أي قبل حضور الموت لقوله تعالى : { حتى إذا حضر أحدهم الموت } وقوله عليه الصلاة و السلام : [ إن الله يقبل توبة عبده ما لم يغرغر ] وسماه قريبا لأن أمد الحياة قريب لقوله تعالى : { قل متاع الدنيا قليل } أو قبل أن يشرب في قلوبهم حبة فيطبع عليها فيتعذر عليهم الرجوع و { من } للتبعيض أي يتوبون في أي جزء من الزمان القريب الذي هو ما قبل أن ينزل بهم سلطان الموت أو يزين السوء { فأولئك يتوب الله عليهم } وعد بالفاء بما أوعد به وكتب على نفسه بقوله : { إنما التوبة على الله } { وكان الله عليما } فهو يعلم بإخلاصهم في التوبة { حكيما } والحكيم لا يعاقب التائب==

مجلد 2. تفسير البيضاوي البيضاوي

18 - { وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار } سوى بين من يتوب إلى حضور الموت من الفسقة والكفار وبين من مات على الكفر في نفي التوبة للمبالغة في عدم الاعتداد بها في تلك الحالة وكأنه قال وتوبة هؤلاء وعدم توبة هؤلاء سواء وقيل المراد بالذين يعملون السوء عصاة المؤمنين وبالذين يعملون السيئات المنافقون لتضاعف كفرهم وسوء أعمالهم وبالذين يموتون الكفار { أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما } تأكيد لعدم قبول توبتهم وبيان أن العذاب أعده لهم لا يعجزه عذابهم متى شاء والاعتداد التهيئة من العتاد وهو العدة وقيل أصله أعددنا فأبدلت الدال الأولى تاء

19 - { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها } كان الرجل إذا مات وله عصبة ألقى ثوبه على امرأته وقال : أنا أحق بها ثم إن شاء تزوجها بصداقها الأول وإن شاء زوجها غيره وأخذ صداقها وإن شاء عضلها لتفتدي بما ورثت من زوجها فنهوا عن ذلك وقيل : لا يحل لكم أن تأخذوهن على سبيل الإرث فتتزوجوهن كارهات لذلك أو مكرهات عليه وقرأ حمزة و الكسائي { كرها } بالضم في مواضعه وهما لغتان وقيل بالضم المشقة وبالضم ما يكره عليه { ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } عطف على { أن ترثوا } ولا لتأكيد النفي أي ولا تمنعوهن من التزويج وأصل العضل التضييق يقال عضلت الدجاجة ببيضها وقيل الخطاب مع الأزواج كانوا يحبسون النساء من غير حاجة ورغبة حتى يرثوا منهن أو يختلعن بمهورهن وقيل تم الكلام بقوله كرها ثم خاطب الأزواج ونهاهم عن العضل { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } كالنشوز وسوء العشرة وعدم التعفف والاستثناء من أعم عام الظرف أو المفعول له تقديره ولا تعضلوهن للافتداء إلا وقت أن يأتين بفاحشة أو لا تعضلوهن لعلة إلا أن يأتين بفاحشة وقرأ ابن كثير و أبو بكر { مبينة } هنا وفي الأحزاب والطلاق بفتح الياء والباقون بكسرها فيهن { وعاشروهن بالمعروف } بالإنصاف في الفعل والإجمال بالقول { فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا } أي فلا تفارقوهن لكراهة النفس فإنها قد تكره ما هو أصلح دينا وأكثر خيرا وقد تحب ما هو بخلافه وليكن نظركم إلى ما هو أصلح للدين وأدنى إلى الخير وعسى في الأصل علة فأقيم مقامه والمعنى فإن كرهتموهن فاصبروا عليهن فعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم

20 - { وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج } تطليق امرأة وتزوج أخرى { وآتيتم إحداهن } أي إحدى الزوجات جمع الضمير لأنه أراد بالزوج الجنس { قنطارا } مالا كثيرا { فلا تأخذوا منه شيئا } أي من القنطار { أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا } إستفهام إنكار وتوبيخ أي تأخذونه باهتين وآثمين و يحتمل النصب على العلة كما في قولك : قعدت عن الحرب جبنا لأن الأخذ بسبب بهتانهم واقترافهم المآثم قيل كان الرجل منهم إذا أراد امرأة جديدة بهت التي تحته بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوج الجديدة فنهوا عن ذلك والبهتان الكذب الذي يبهت المكذوب عليه وقد يستعمل في افعل الباطل ولذلك فسر ها هنا بالظلم

21 - { وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض } إنكار لاسترداد المهر والحال أنه وصل إليها بالملامسة ودخل بها وتقرر المهر { وأخذن منكم ميثاقا غليظا } عهدا وثيقا وهو حق الصحبة والممازحة أو ما أوثق الله عليهم في شأنهم بقوله : { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } أو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه و سلم بقوله : [ أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ]

22 - { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم } ولا تنكحوا التي نكحها آباؤكم وإنما ذكر ما دون من لأنه أريد به الصفة وقيل ما مصدرية على إرادة المفعول من المصدر { النساء } بيان ما نكح على الوجهين { إلا ما قد سلف } استثناء من المعنى اللازم لنهي وكأنه قيل : وتستحقون العقاب بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف أو من للمبالغة في التحريم والتعميم كقوله :
( ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب )
والمعنى ولا تنكحوا حلائل لابائكم إلا ما قد سلف إن أمكنكم أن تنكحهن وقيل الاستثناء منقطع ومعناه لكن ما قد سلف فإنه لا مؤاخذة عليه لأنه مقرر { إنه كان فاحشة ومقتا } علة للنهي أي إن نكاحهن كان فاحشة عند الله ما رخص فيه لأمة من الأمم ممقوتا عند ذوي المروءات ولذلك سمي ولد الرجل من زوجة أبيه المقتي { وساء سبيلا } سبيل من يراه ويفعله

23 - { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت } ليس المراد تحريم ذواتهن بل تحريم نكاحهن لأنه معظم ما يقصد بهن ولأنه المتبادر إلى الفهم كتحريم الأكل من قوله : { حرمت عليكم الميتة } ولأن ما قبله وما بعده في النكاح وأمهاتكم تعم من ولدتك أو ولدت من ولدك وإن علت وبناتكم تتناول من ولدتها أو ولدت من ولدها وإن سفلت وأخواتكم الأخوات من الأوجه الثلاثة وكذلك الباقيات والعمة كل أنثى ولدها من ولد ذكرا ولدك والخالة كل أنثى ولدها من ولد أنثى ولدتك قريبا أو بعيدا وبنات الأخ وبنات الأخت تتناول القربى والبعدى { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } نزل الله الضراعة منزلة النسب حتى سمى المرضعة أما والمرضعة أختا وأمرها على قياس النسب باعتبار المرضعة ووالد الطفل الذي در عليه اللبن قال عليه الصلاة و السلام : [ يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ] واستثناء أخت ابن الرجل وأم أخيه من الرضاع من هذا الأصل ليس بصحيح فإن حرمتهما من النسب بالمصاهرة دون النسب { وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } ذكر أولا محرمات النسب ثم محرمات الرضاعة لأن لها لحمة كلحمة النسب ثم محرمات المصاهرة فإن تحريمهن عارض لمصلحة الزواج والربائب جمع ربيبة والربيب ولد المرأة من آخر سمي به لأنه يربه كما يرب ولده في غالب الأمر فعيل بمعنى مفعول وإنما لحقه التاء لأنه صار اسما من نسائكم متعلق بربائبكم واللاتي بصلتها صفة لها مقيدة للفظ والحكم بالإجماع قضية للنظم ولا يجوز تعليقها بالأمهات أيضا لأن من إذا علقتها بالربائب كانت ابتدائية وإذا علقتها بالأمهات لم يجز ذلك بل وجب أن يكون بيانا لنسائكم والكلمة الواحدة لا تحمل عل معنيين عند جمهور الأدباء اللهم إذا جعلتها للاتصال كقوله :
( إذا حاولت في أسد فجورا ... فإني لست منك ولست مني )
على معنى أن أمهات النساء وبناتهن متصلات بهن لكن الرسول صلى الله عليه و سلم فرق بينهما فقال في رجل تزوج امرأة وطلقها قبل أن يدخل بها [ إنه لا بأس أن يتزوج ابنتها ولا يحل له أن يتزوج أمها ] وإليه ذهب عامة العلماء غير أنه روي أن علي رضي الله تعالى عنه تقييد التحريم فيهما ولا يجوز أن يكون الموصول الثاني صفة للنساءين لان عاملهما مختلف وفائدة قوله { في حجوركم } تقوية العلة وتكميلها والمعنى أن الربائب إذا دخلتم بأمهاتهن وهن في احتضانكم أو بصدده تقوى الشبه بينها وبين أولادكم وصارت أحقاء بأن تجروها مجراهم لا تقييد الحرمة وإله ذهب جمهور العلماء وقد روي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه جعله شرطا والأمهات والربائب يتناولان القريبة والبعيدة وقوله دخلتم بهن أي دخلتم معهن الستر وهي كناية عن الجماع ويؤثر في حرمة المصاهرة ما ليس بزنا كالوطء بشبهة أو ملك يمين وعند أبي حنيفة لمس المنكوحة ونحوه كالدخول { فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم } تصريح بعد إشعار دفعا للقياس { وحلائل أبنائكم } زوجاتهم سميت الزوجة حليلة لحلها أو لحلولها مع الزوج { الذين من أصلابكم } احتراز عن المتبنين لا عن أبناء الولد { وأن تجمعوا بين الأختين } في موضع الرفع عطفا على المحرمات والظاهر أن الحرمة غير مقصورة على النكاح فإن المحرمات المعدودة كما هي محرمة في النكاح فهي حرمة في ملك اليمين ولذلك قال عثمان وعلي رضي الله تعالى عنهما : حرمتهما آية وأحلتهما آية يعنيان هذه الآية وقوله : { أو ما ملكت أيمانكم } فرجح علي كرم الله تعالى وجهه التحريم وعثمان رضي الله تعالى عنه التحليل وقول علي أظهر لأن آية التحليل مخصوصة في غي ذلك ولقوله عليه الصلاة و السلام : [ ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام ] { إلا ما قد سلف } استثناء من لازم المعنى أو منقطع معناه ما قد سلف مغفور له لقوله : { إن الله كان غفورا رحيما }

24 - { والمحصنات من النساء } ذوات الأزواج أحصنهن التزويج أو الأزواج وقرأ الكسائي بكسر الصاد في جميع القرآن لأنهن أحصن فروجهن { إلا ما ملكت أيمانكم } يريد ما ملكت أيمانكم من اللاتي سبين ولهن أزواج كفار فهن حلال للسابين والنكاح مرتفع بالسبي [ لقول أبي سعيد رضي الله تعالى عنه : أصبنا سبايا يوم أوطاس ولهن أزواج كفار فكرهنا أن نقع عليهن فسألنا النبي صلى الله عليه و سلم فنزلت الآية فاستحللناهن ] وإياه عني الفرزدق بقوله :
( وذات حليل أنكحتها رماحنا ... حلال لمن يبني بها لم تطلق )
وقال أبو حنيفة لو سبي الزوجان لم يرتفع النكاح ولم تحل للسابي وإطلاق الآية والحديث حجة عليه { كتاب الله عليكم } مصدر مؤكد أي كتب الله عليكم تحريم هؤلاء كتابا وقرئ { كتب } الله بالجمع والرفع أي هذه فرائض الله عليكم { كتب الله } بلفظ الفعل { وأحل لكم } عطف عل الفعل المضمر الذي نصب كتاب الله وقرأ حمزة و الكسائي و حفص عن عاصم على البناء للمفعول عطفا على { حرمت } { ما وراء ذلكم } ما سوى المحرمات الثمان المذكورة وخص عنه بالسنة ما في معنى المذكورات كسائر محرمات الرضاع والجمع بين المرأة وعمتها وخالتها { أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين } مفعول له والمعنى أحل لكم ما وراء ذلكم إرادة أن تبتغوا النساء بأموالكم بالصرف في مهورهن أو أثمانهن في حال كونكم محصنين غير مسافحين ويجوز أن لا يقدر مفعول تبتغوا وكأنه قيل إرادة أن تصرفوا أموالكم محصنين غير مسافيحين أو بدل مما وراء ذلكم بدل الاشتمال واحتج به الحنفية على أن المهر لابد وأن يكون مالا ولا حجة فيه والإحصان العفة فإنها تحصين للنفس عن اللوم والعقاب والسفاح الزنا من السفح وهو صب المني فإنه الغرض منه { فما استمتعتم به منهن } فمن تمتعتم به من المنكوحات أو فما استمتعتم به منهن من الجماع أو عقد عليهن { فآتوهن أجورهن } مهورهن فإن المهر في مقابلة الإستمتاع { فريضة } حال من الأجور بمعنى مفروضة أو صفة مصدر محذوف أي إيتاء مفروضا أو مصدر مؤكد { ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة } فيما يزاد على المسمى أو يحط عنه بالتراضي أو فيما تراضيا به في نفقة أو مقام أو فراق وقيل : نزلت الآية في المتعة التي كانت ثلاثة أيام حين فتحت مكة ثم نسخت لما روي أنه عليه الصلاة و السلام أباحها ثم أصبح يقول : [ يا أيها الناس إني كنت أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء ألا إن الله حرم ذلك إلى يوم القيامة ] وهي النكاح المؤقت بوقت معلوم سمي بها إذ الغرض منه مجرد الاستمتاع بالمرأة أو تمتيعها بما تعطي وجوزها ابن عباس رضي الله عنهما ثم رجع عنه { إن الله كان عليما } بالمصالح { حكيما } فيما شرع من الأحكام

25 - { ومن لم يستطع منكم طولا } عنى واعتلاء وأصله الفضل والزيادة { أن ينكح المحصنات المؤمنات } في موضع النصب بطولا أو بفعل مقدر صفة له أي ومن لم يستطع منكم غنى يبلغ به نكاح المحصنات يعني الحرائر قوله لقوله : { فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات } يعني الإماء المؤمنات فظاهر الآية حجة للشافعي رضي الله تعالى عنه في تحريم نكاح الأمة على من ملك ما يجعله صداق حرة ومنع نكاح الأمة الكتابية مطلقا وأول أبو حنيفة رحمه الله تعالى طول المحصنات بأن يملك فراشهن على أن النكاح هو الوطء وحمل قوله تعالى : { من فتياتكم المؤمنات } على الأفضل كما حمل عليه في قوله : { المحصنات المؤمنات } ومن أصحابنا من حمله أيضا على التقييد وجز نكاح الأمة لمن قدر على الحرة الكتابية دون المؤمنة حذرا من مخالطة الكفار وموالاتهم والمحذور في نكاح الأمة رق الولد وما فيه من المهانة ونقصان حق الزوج { والله أعلم بإيمانكم } فاكتفوا بظاهر الإيمان فإنه العالم بالسرائر وبتفاضل ما بينكم في الإيمان فرب أمة تفضل الحرة فيه ومن حقكم أن تعتبروا فضل الإيمان لا فضل النسب والمراد تأنيسهم بنكاح الإماء ومنعهم عن الاستنكاف منه ويؤيده { بعضكم من بعض } أنت وأرقاؤكم متناسبون نسبكم من آدم ودينكم الإسلام { فانكحوهن بإذن أهلهن } يريد أربابهن واعتبار إذنهم مطلقا لا إشعار له على أن لهن أن يباشرن العقد بأنفسهم حتى يحتج به الحنفية { وآتوهن أجورهن } أي أدوا إليهن مهورهن بإذن أهلهن ! فحذف ذلك لتقدم ذكره أو إلى مواليهن فحذف المضاف للعلم بأن المهر للسيد لأنه عوض عن حقه فيجب أن يؤدي إليه وقال مالك رضي الله عنه : المهر للأمة ذهابا إلى الظاهر { بالمعروف } بغير مطل وإضرار ونقصان { محصنات } عفائف { غير مسافحات } غير مجاهرات بالسفاح { ولا متخذات أخدان } أخلاء في السر { فإذا أحصن } بالتزويج قرأ أبو بكر و حمزة بفتح الهمزة والصاد والباقون بضم الهمزة وكسر الصاد { فإن أتين بفاحشة } زنى { فعليهن نصف ما على المحصنات } يعني الحرائر { من العذاب } من الحد لقوله تعالى : { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } وهو يدل على أن حد العبد نصف حد الحر وأن لا يرجم لأن الرجم لا ينتصف { ذلك } أي نكاح الإماء { لمن خشي العنت منكم } لمن خاف الوقوع في الزنا وهو في الأصل انكسار العظم بعد الجبر مستعار لكل مشقة وضرر ولا ضرر أعظم من مواقعه الإثم بأفحش القبائح وقيل : المراد به الحد وهذا شرط آخر لنكاح الإماء { وأن تصبروا خير لكم } أي وصبركم عن نكاح الإماء متعففين خير لكم قال عليه الصلاة و السلام [ الحرائر صلاح البيت والإماء هلاكه ] { والله غفور } لمن لم يصبر { رحيم } بأن رخص له

26 - { يريد الله ليبين لكم } ما تعبدكم به من الحلال والحرام أو ما خفي عنكم من مصالحكم ومحاسن أعمالكم وليبين مفعول يريد واللام زيدت لتأكيد معنى الاستقبال اللازم للإرادة كما في قول قيس بن سعد :
( أردت لكي ما يعلم الناس أنه ... سراويل قيس والوفود شهود )
وقيل المفعول محذوف وليبين مفعول له أي يريد الحق لأجله { ويهديكم سنن الذين من قبلكم } مناهج من تقدمكم من أهل الرشد لتسلكوا طرقهم { ويتوب عليكم } ويغفر لكم ذنوبكم أو يرشدكم إلى ما يمنعكم من المعاصي ويحثكم على التوبة أو إلى ما يكون كفارة لسيئاتكم { والله عليم } بها { حكيم } في وضعها

27 - { والله يريد أن يتوب عليكم } كرره للتأكيد والمبالغة { ويريد الذين يتبعون الشهوات } يعني الفجرة فإن اتباع الشهوات الائتمار لها وأما المتعاطي لما سوغه الشرع منها دون غيره فهو متبع له في الحقيقة لا لها وقيل : المجوس وقيل : اليهود فإنهم يحلون الأخوات من الأب وبنات الأخ وبنات الأخت { أن تميلوا } عن الحق بموافقتهم على اتباع الشهوات واستحلال المحرمات { ميلا عظيما } بالإضافة إلى ميل من اقترف خطيئة على ندور غير مستحل له

28 - { يريد الله أن يخفف عنكم } فلذلك شرع لكم الشرعة الحنيفية السمحة السهلة ورخص لكم في المضايق كإحلال نكاح الأمة { وخلق الإنسان ضعيفا } لا يصبر عن الشهوات ولا يتحمل مشاق الطاعات وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ثمان آيات في سورة النساء هن خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت هذه الثلاث : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } { إن الله لا يغفر أن يشرك به } { إن الله لا يظلم مثقال ذرة } { من يعمل سوءا يجز به } { ما يفعل الله بعذابكم }

29 - { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } بما لم يبحه الشرع كالغصب والربا والقمار { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } استثناء منقطع أي ولكن كون تجارة عن تراض غير منهي عنه أو اقصدوا كون تجارة وعن تراض صفة لتجارة أي تجارة صادرة عن تراضي المتقاعدين وتخصيص التجارة من الوجوه التي بها يحل تناول مال الغير لأنها أغلب وأرفق لذوي المروءات ويجوز أن يراد بها الانتقال مطلقا وقيل : المراد بالنهي المنع عن صرف المال فيما لا يرضاه الله وبالتجارة صرفه فيما يرضاه وقرأ الكوفيون { تجارة } بالنصب على كان الناقصة وإضمار الإسم أي إلا أن تكون التجارة أو الجهة تجارة { ولا تقتلوا أنفسكم } بالبخع كما تفعله جهلة الهند أو بإلقاء النفس إلى التهلكة ويؤيده ما روي : أن عمرو بن العاص تأوله التيمم لخوف البرد فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه و سلم أو بارتكاب ما يؤدي إلى قتلها أو باقتراف ما يذلها ويرديها فإنه القتل الحقيقي للنفس وقيل المراد بالأنفس من كان من أهل دينهم فإن المؤمنين كنفس واحدة جمع في التوصية بين حفظ النفس والمال الذي هو شقيقها من حيث إنه سبب قوامها استبقاء لهم ريثما تستكمل النفوس وتستوفى فضائلها رأفة بهم ورحمة كمال أشار إليه بقوله : { إن الله كان بكم رحيما } أي أمر ما أمر ونهى عما نهى لفرط رحمته عليكم وقيل : معناه إنه كان بكم يا أمة محمد رحيما لما أمر بني إسرائيل بقتل الأنفس ونهاكم عنه

30 - { ومن يفعل ذلك } إشارة إلى القتل أو ما سبق من المحرمات { عدوانا وظلما } إفراطا في التجاوز عن الحق وإتيانا بما لا يستحقه وقيل أراد بالعدوان التعدي على الغير وبالظلم ظلم النفس بتعريضها للعقاب { فسوف نصليه نارا } ندخله إياها وقرئ بالتشديد من صلى وبفتح النون من صلاه يصليه ومنه شاة مصلية ويصليه بالياء والضمير لله تعالى أو لذلك من حيث أنه سبب الصلي { وكان ذلك على الله يسيرا } لا عسر فيه ولا صارف عنه

31 - { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } كبائر الذنوب التي نهاكم الله ورسوله عنها وقرئ كبير على إرادة الجنس { نكفر عنكم سيئاتكم } نغفر لكم صغائركم ونمحها عنكم
واختلف في الكبائر والأقرب أن الكبير كل ذنب رتب الشارع علي حدا أو صرح بالوعيد فيه وقيل ما علم حرمته بقاطع وعن النبي صلى الله عليه و سلم [ أنها سبع : الإشراك بالله وقتل النفس التي حرم الله وقذف المحصنة وأكل مال اليتيم والربا والفرار من الزحف وعقوق الوالدين ] وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : الكبائر إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع وقيل أراد ههنا أنواع الشرك لقوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وقيل صغر الذنوب وكبرها بالإضافة إلى ما فوقها وما تحتها فأكبر الكبائر الشرك وأصغر الصغائر حديث النفس وبينهما وسائط يصدق عليها الأمران فمن عن له أمران منها ودعت نفسه إليها بحيث لا يتمالك فكفها عن أكبرها كفر عنه ما ارتكبه لما استحق من الثواب على اجتناب الأكبر ولعل هذا مما يتفاوت باعتبار الأشخاص والأحوال ألا ترى أنه تعالى عاتب نبيه عليه الصلاة و السلام في كثير من خطواته التي لم تعد على غيره خطيئة فضلا عن أن يؤاخذه عليها { وندخلكم مدخلا كريما } الجنة وما وعد من الثواب أو إدخالا مع كرامة وقرأ نافع هنا وفي الحج بفتح الميم وهو أيضا يحتمل المكان والمصدر

32 - { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } من الأمور الدنيوية كالجاه والمال فلعل عدمه خير والمقتضى للمنع كونه ذريعة إلى التحاسد والتعادي معربة عن عدم الرضا بما قسم الله له وأنه تشه لحصول الشيء له من غير طلب وهو مذموم لأنه تمنى ما لم يقدر له معارضة لحكمة القدر وتمني ما قدر له بكسب بطالة وتضييع حظ وتمني ما قدر له بغير كسب ضائع ومحال { للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن } بيان لذلك أي لكل من الرجال والنساء فضل ونصيب بسبب ما اكتسب ومن أجله فاطلبوا الفضل من الله تعالى بالعمل لا بالحسد والتمني كما قال عليه الصلاة و السلام [ ليس الإيمان بالتمني ] وقيل المراد نصيب الميراث وتفضيل الورثة بعضهم على بعض فيه وجعل ما قسم لكل منهم على حسب ما عرف من حاله الموجبة للزيادة والنقص كالمكتسب له { واسألوا الله من فضله } أي لا تتمنوا ما للناس واسألوا الله من فضله بما يقربه ويسوقه إليكم وقرأ ابن كثير و الكسائي { واسألوا الله من فضله } وسلهم فسل الذين وشبهه إذا كان أمرا موجها به وقبل السين واو أو فاء بغير همزة و حمزة في الوقف على أصله والباقون بالهمز { إن الله كان بكل شيء عليما } فهو يعلم ما يستحقه كل إنسان فيفضل عن علم وتبيان روي [ أن أم سلمة قالت : يا رسول الله يغزو الرجال ولا نغزو وإنما لنا نصف الميراث ليتنا كنا رجالا فنزلت ]

33 - { ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون } أي ولكل تركة جعلنا وراثا يلونها ويحرزونها ومما ترك بيان لكل مع الفصل بالعامل أو لكل ميت جعلنا وراثا مما ترك على أن من صلة موالي لأنه في معنى الوارث وفي ترك ضمير كل والوالدان والأقربون استئناف مفسر للموالي وفيه خروج الأولاد فإن الأقربون لا يتناولهم كما لا يتناول الوالدين أو لكل قوم جعلناهم موالي حظ مما ترك الوالدان والأقربون على إن جعلنا موالي صفة كل والراجع إليه محذوف على هذا فالجملة من مبتدأ وخبر { والذين عقدت أيمانكم } موالى الموالاة كان الحليف يورث السدس من مال حليفه فنسخ بقوله : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض } وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى : لو أسلم رجل على يد رجل وتعاقد على أن يتعاقلا ويتوارثا صح وورث أو الأزواج على أن العقد عقد النكاح وهو مبتدأ ضمن معنى الشرط وخبره { فآتوهم نصيبهم } أو منصوب بمضمر يفسره ما بعده كقولك : زيدا فاضربه أو معطوف على الوالدان وقوله فآتوهم جملة مسببة عن الجملة المتقدمة مؤكدة لها والضمير للموالي وقرأ الكوفيون { عقدت } بمعنى عقدت عهودهم إيمانكم فحذف العهود وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه ثم حذف كما حذف في القراءة الأخرى { إن الله كان على كل شيء شهيدا } تهديد على منع نصيبهم

34 - { الرجال قوامون على النساء } يقومون عليهم قيام الولاة على الرعية وعلل ذلك بأمرين وهبي وكسبي فقال : { بما فضل الله بعضهم على بعض } بسبب تفضيله تعالى الرجال على النساء بكمال العقل حسن التدبير ومزيد القوة في الأعمال والطاعات ولذلك خصوا بالنبوة والإمامة والولاية وإقامة الشعائر والشهادة في مجامع القضايا ووجوب الجهاد والجمعة ونحوها والتعصيب وزيادة السهم في الميراث والاستبداد بالفراق { وبما أنفقوا من أموالهم } في نكاحهن كالمهر والنفقة روي [ أن سعد بن الربيع أحد نقباء الأنصار نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير فلطمها فانطلق بها أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فشكى فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لتقتص منه فنزلت فقال عليه الصلاة و السلام : أردنا أمرا وأراد الله أمرا والذي أراد الله خير ] { فالصالحات قانتات } مطيعات لله قائمات بحقوق الأزواج { حافظات للغيب } لمواجب الغيب أي يحفظن في غيبة الأزواج ما يجب حفظه في النفس والمال وعنه عليه الصلاة و السلام : [ خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرتك وإن أمرتها أطاعتك وإن غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها ] وتلا الآية وقيل لأسرارهم { بما حفظ الله } بحفظ الله إياهن بالأمر على حفظ الغيب والحث عليه بالوعد والوعيد والتوفيق له أو بالذي حفظه الله لهن عليهم من المهر والنفقة والقيام بحفظهن والذب عنهن وقرئ { بما حفظ الله } بالنصب على أن ما موصولة فإنها لو كانت مصدري لم يكن لحفظ فاعل والمعنى بالأمر الذي حفظ حق الله وطاعته وهو التعفف والشفقة على الرجال { واللاتي تخافون نشوزهن } عصيانهن وترفعهن عن مطاوعة الأزواج من النشز { فعظوهن واهجروهن في المضاجع } في المراقد فلا تدخلوهن تحت اللحف أو لا تباشروهن فيكون كناية عن الجماع وقيل المضاجع المبايت أي لا تباينوهن { واضربوهن } يعني ضربا غير مبرح ولا شائن والأمور الثلاثة مرتبة ينبغي التدرج فيها { فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا } بالتوبيخ والإيذاء والمعنى فأزيلوا عنهن التعرض واجعلوا ما كان منهن كأن لم يكن فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له { إن الله كان عليا كبيرا } فاحذروه فإنه أقدر عليكم منكم على من تحت أيديكم أو أنه على علو شأنه يتجاوز عن سيئاتكم ويتوب عليكم فأنتم أحق بالعفو عن أزواجكم أو أنه يتعالى ويتكبر أن يظلم أحدا أو ينقص حقه

35 - { وإن خفتم شقاق بينهما } خلافا بين المرأة وزوجها أضمرها وإن لم يجر ذكرهما لجرى ما يدل عليهما وإضافة الشقاق إلى الظرف إما لإجرائه مجرى المفعول به كقوله : يا سارق الليلة أهل الدار أو لفاعل كقوله نهارك صائم { فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها } فابعثوا أيها الحكام متى اشتبه عليكم حالهما لتبيين الأمر أو إصلاح ذات البين رجلا وسطا يصلح للحكومة والإصلاح من أهله وآخر من أهلها فإن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال وأطلب للصلاح وهذا على وجه الاستحباب فلو نصبا من الأجانب جاز وقيل الخطاب للأزواج والزوجات واستدل به على جواز التحكيم والأظهر أن النصب لإصلاح ذات البين أو لتبيين الأمر ولا يليان الجمع والتفريق إلا بإذن الزوجين وقال مالك لهما أن يتخالعا إن وجدا الصلاح فيه { إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما } الضمير الأول للحكمين والثاني للزوجين أي إن قصدا الإصلاح أوقع الله بحسن سعيهما الموافقة بين الزوجين وقيل كلاهما للحكمين أي إن قصدا الإصلاح يوفق الله بينهما لتتفق كلمتهما ويحصل مقصودهما وقيل للزوجين أي إن أرادا الإصلاح وزوال الشقاق أوقع الله بينهما الألفة والوفاق وفيه تنبيه على أن من أصلح نيته فيما يتحراه أصلح الله مبتغاه { إن الله كان عليما خبيرا } بالظواهر والبواطن فيعلم كيف يرفع الشقاق ويوقع الوفاق

36 - { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا } صنما أو غيره أو شيئا من الإشراك جليا أو خفيا { وبالوالدين إحسانا } وأحسنوا بهما إحسانا { وبذي القربى } وبصاحب القرابة { واليتامى والمساكين والجار ذي القربى } أي الذي قرب جواره وقيل الذي له الجوار قرب واتصال بسبب أو دين وقرئ بالنصب على الاختصاص تعظيما لحقه { والجار الجنب } البعيد أو الذي لا قرابة له وعنه عليه الصلاة و السلام : [ الجيران ثلاثة فجار له ثلاثة حقوق : حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام وجار له حقان : حق الجوار وحق الإسلام وجار له حق واحد : حق الجوار وهو المشرك من أهل الكتاب ] { والصاحب بالجنب } الرفيق في أمر حسن كتعلم وتصرف وصناعة وسفر فإنه صحبك وحصل بجنبك وقيل المرأة { وابن السبيل } المسافر أو الضعيف { وما ملكت أيمانكم } العبيد والإماء { إن الله لا يحب من كان مختالا } متكبرا بأنف عن أقاربه وجيرانه وأصحابه ولا يلتفت إليهم { فخورا } يتفاخر عليهم

37 - { الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل } بدل من قوله من كان أو نصب على الذم أو رفع عليه أي هم الذين أو مبتدأ خبره محذوف تقديره الذين يبخلون بما منحوا به ويأمرون الناس بالبخل به وقرأ حمزة و الكسائي ههنا وفي الحديد { بالبخل } بفتح الحرفين وهي لغة { ويكتمون ما آتاهم الله من فضله } الغنى والعلم فهم أحقاء بكل ملامة { وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا } وضع الظاهر فيه موضع المضمر إشعارا بأن من هذا شأنه فهو كافر لنعمة الله وما كان كافرا لنعمة الله فله عذاب يهينه كما أهان النعمة بالبخل والإخفاء والآية نزلت في طائفة من اليهود كانوا يقولون للأنصار تنصيحا : لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر وقيل في الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه و سلم

38 - { والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس } عطف على الذين يبخلون أو الكافرين وإنما شاركهم في الذم والزهيد لأن البخل والسرف الذي هو الإنفاق لا على ما ينبغي من حيث إنهما طرفا إفراط وتفريط سواء في القبح واستجلاب الذم أو مبتدأ خبره محذوف مدلول عليه بقوله : { ومن يكن الشيطان له قرينا } { ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } ليتحروا بالإنفاق مراضيه وثوابه وهم مشركو مكة وقيل هم المنافقون { ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا } تنبيه على أن الشيطان قرنهم فحملهم على ذلك وزينة لهم كقوله تعالى : { إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين } والمراد إبليس وأعوانه الداخلة والخارجة ويجوز أن يكون وعيدا لهم بأن يقرن بهم الشيطان في النار

39 - { وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله } أي وما الذي عليهم أو أي تبعة تحيق بهم بسبب الإيمان والإنفاق في سبيل الله وهو توبيخ لهم على الجهل بمكان المنفعة والاعتقاد في الشيء على خلاف ما هو عليه وتحريض على الفكر لطلب الجواب لعلة يؤدي بهم إلى العلم بما فيه من الفوائد الجليلة والعوائد الجميلة وتنبيه على أن المدعو إلى أمر لا ضرر فيه ينبغي أن يجيب احتياطا فكيف إذا تضمن المنافع وإنما قدم الإيمان ها هنا وأخره في الآية لأخرى لأن القصد بذكره إلى التخصيص ها هنا والتعليل ثم { وكان الله بهم عليما } وعيد لهم

40 - { إن الله لا يظلم مثقال ذرة } لا ينقص من الأجر ولا يزيد في العقاب أصغر شيء كالذرة وهي النملة الصغيرة ويقال لكل جزء من أجزاء الهباء والمثقال مفعال من الثقل وفي ذكره إيماء إلى أنه وإن صغر قدره عظم جزاؤه { وإن تك حسنة } وإن يكن مثقال الذرة حسنة وأنت الضمير لتأنيث الخبر أو لإضافة المثقال إلى مؤنث وحذف النون من غير قياس تشبيها بحروف العلة وقرأ ابن كثير و نافع { حسنة } بالرفع على كان التامة { يضاعفها } يضاعف ثوابها وقرأ ابن كثير و ابن عامر ويعقوب يضعفها وكلا هما بمعنى { ويؤت من لدنه } ويعط صاحبها من عنده على سبيل التفضل زائدا على ما وعد في مقابلة العمل { أجرا عظيما } عطاء جزيلا وإنما سماه أجرا لأنه تابع للأجر مزيدا عليه

41 - { فكيف } أي فكيف حال هؤلاء الكفرة من اليهود والنصارى وغيرهم ؟ { إذا جئنا من كل أمة بشهيد } يعني نبيهم يشهد على فساد عقائدهم وقبح أعمالهم والعامل في الظرف مضمون المبتدأ والخبر من هول الأمر وتعظيم الشأن { وجئنا بك } يا محمد { على هؤلاء شهيدا } تشهد على صدق هؤلاء الشهداء لعلمك بعقائدهم واستجماع شرعك مجامع قواعدهم وقيل هؤلاء إشارة إلى الكفرة المستفهم عن حالهم وقيل إلى المؤمنين كقوله تعالى : { لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا }

42 - { يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض } بيان لحالهم حينئذ أي يود الذين جمعوا بين الكفر وعصيان الأمر أو الكفرة والعصاة في ذلك الوقت أن يدفنوا فتسوى بهم الأرض كالموتى أو لم يبعثوا أو لم يخلقوا وكانوا هم والأرض سواء { ولا يكتمون الله حديثا } ولا يقدرون على كتمانه لأن جوارحهم تشهد عليهم وقيل الواو للحال أي يودون أن تسوى بهم الأرض وحالهم أنهم لا يكتمون من الله حديثا ولا يكذبونه بقولهم { والله ربنا ما كنا مشركين } إذ روي : أنهم إذا قالوا ختم الله على أفواههم فتشهد عليهم جوارحهم فيشتد الأمر عليهم فيتمنون أن تسوى بهم الأرض وقرأ نافع و ابن عامر { تسوى بهم } على أن أصله تتسوى فأدغمت التاء في السين وقرأ حمزة و الكسائي { تسوى } على حذف التاء الثانية يقال سويته فتسوى

43 - { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } أي لا تقوموا إليها وأنتم سكارى من نحو نوم أو خمر حتى تنتهوا وتعلموا ما تقولون في صلاتكم روي ( أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه صنع مأدبة ودعا نفرا من الصحابة - حين كانت الخمر مباحا - فأكلوا وشربوا حتى ثملوا وجاء وقت صلاة المغرب فتقدم أحدهم ليصلي بهم فقرأ : أعبد ما تعبدون ) فنزلت وقيل أراد بالصلاة مواضعها وهي المساجد وليس المراد منه نهي السكران عن قربان الصلاة وإنما المراد النهي عن الإفراط في الشرب والسكر من السكر وهو السد وقرىء { سكارى } بالفتح وسكرى على أنه جمه كهلكى أو مفرد بمعنى وأنتم قوم سكرى أو جماعة سكرى وسكرى كحبلى على أنها صفة للجماعة { ولا جنبا } عطف على قوله { وأنتم سكارى } إذ الجملة في موضع النصب على الحال والجنب الذي أصابته الجنابة يستوي فيه المذكر والمؤنث والواحد والجمع لأنه يجرى مجرى المصدر { إلا عابري سبيل } متعلق بقوله { ولا جنبا } استثناء من أعم الأحوال أي لا تقربوا الصلاة جنبا في عامة الأحوال إلا في السفر وذلك إذا لم يجد الماء وتيمم ويشهد له تعقيبه بذكر التيمم أو صفة لقوله { جنبا } أي جنبا غير عابري سبيل وفي دليل على أن التيمم لا يرفع الحدث ومن فسر الصلاة بمواضعها فسر عابري سبيل بالمجتازين فيها وجوز الجنب عبور المسجد وبه قال الشافعي رضي الله عنه وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : لا يجوز له المرور في المسجد إلا إذا كان فيه الماء أو الطريق { حتى تغتسلوا } غاية النهي عن القربان حال الجنابة وفي الآية تنبيه على أن المصلي ينبغي أن يتحرز عما يلهيه ويشغل قلبه ويزكي نفسه عما يجب تطهيرها عنه { وإن كنتم مرضى } مرضا يخاف معه من استعمال الماء فإن الواجد كالفاقد أو مرضا يمنعه من الوصول إليه { أو على سفر } لا تجدونه فيه { أو جاء أحد منكم من الغائط } فأحدث بخروج الخارج من أحد السبيلين وأصل الغائط المكان المطمئن من الأرض { أو لامستم النساء } أو مسستم بشرتهن ببشرتكم وبه استدل الشافعي على أن اللمس ينقض الوضوء وقيل : أو جامعتموهن وقرأ حمزة و الكسائي هنا وفي المائدة لمستم واستعماله كناية عن الجماع أقل من الملامسة { فلم تجدوا ماء } فلم تتمكنوا من استعماله إذ الممنوع عنه كالمفقود ووجه هذا التقسيم أن المترخص بالتيمم إما محدث أو جنب والحالة المقتضية له في غالب الأمر مرض أو سفر والجنب لما سبق ذكره اقتصر على بيان حاله والمحدث لما لم يجر ذكره ذكر من أسبابه ما يحدث بالذات وما يحدث بالعرض واستغنى عن تفصيل أحواله بتفصيل حال الجنب وبيان العذر مجملا فكأنه قيل : وإن كنتم جنبا مرضى أو على سفر أو محدثين جئتم من الغائط أو فلم تجدوا ماء { فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم } أي فتعمدوا شيئا من وجه الأرض طاهرا ولذلك قالت الحنفية : لو ضرب المتيمم يده على حجر صلد ومسح به أجزأه وقال أصحابنا لابد من أن يعلق باليد شيء من التراب لقوله تعالى في المائدة { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } أي بعضه وجعل من لابتداء الغاية تعسف إذ لا يفهم من نحو ذلك إلا التبعيض واليد اسم للعضو إلى المنكب وما روي أنه عليه الصلاة و السلام تيمم ومسح يديه إلى مرفقيه والقياس على الوضوء دليل على أن المراد ها هنا { وأيديكم إلى المرافق } { إن الله كان عفوا غفورا } فلذلك يسر الأمر عليكم ورخص لكم

44 - { ألم تر إلى الذين أوتوا } من رؤية البصر أي ألم تنظر إليهم أو القلب وعدي بإلى لتضمن معنى الانتهاء { نصيبا من الكتاب } حظا يسيرا من علم التوراة لأن المراد أحبار اليهود { يشترون الضلالة } يختارونها على الهدى أو يستبدلونها به بعد تمكنهم منه أو حصوله لهم بإنكار نبوة محمد صلى الله عليه و سلم وقيل : يأخذون الرشى ويحرفون التوراة { ويريدون أن تضلوا } أيها المؤمنون { السبيل } سبيل الحق

45 - { والله أعلم } منكم { بأعدائكم } وقد أخبركم بعداوة هؤلاء وما يريدون بكم فاحذروهم { وكفى بالله وليا } يلي أمركم { وكفى بالله نصيرا } يعينكم فثقوا عليه واكتفوا به عن غيره والباء تزاد في فاعل كفى لتوكيد الاتصال الإسنادي بالاتصال الإضافي

46 - { من الذين هادوا يحرفون } بيان للذين أوتوا نصيبا فإنه يحتملهم وغيرهم وما بينهما اعتراض أو بيان لأعدائكم أو صلة لنصيرا أي ينصركم من الذين هادوا ويحفظكم منهم أو خبر محذوف صفته يحرفون { الكلم عن مواضعه } أي من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها بإزالته عنها وإثبات غيره فيها أو يؤولونه على ما يشتهون فيميلونه عما أنزل الله فيه وقرئ الكلم بكسر الكاف وسكون اللام جمع كلمة تخفيف كلمة { ويقولون سمعنا } قولك { وعصينا } أمرك { واسمع غير مسمع } أي مدعوا إليك بلا سمعت لصمم أو موت أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه أو اسمع غير مسمع كلاما ترضاه أو اسمع كلاما غير مسمع إياك لأن أذنك تنبو عنه فيكون مفعولا به أو اسمع غير مسمع مكروها من قولهم أسمعه فلان إذا سبه وإنما قالوه نفاقا { وراعنا } انظرنا نكلمك أو نفهم كلامك { ليا بألسنتهم } فتلا بها وصرفا للكلام إلى ما يشبه السب حيث وضعوا راعنا المشابه لما يتسابون به موضع انظرنا وغير مسمع موضع لا أسمعت مكروها أو فتلا بها وضما لما يظهرون من الدعاء والتوقير إلى ما يضمرون من السب والتحقير نفاقا { وطعنا في الدين } استهزاء به وسخرية { ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا } ولو ثبت قولهم هذا مكان ما قالوه { لكان خيرا لهم وأقوم } لكان قولهم ذلك خيرا لهم وأعدل وإنما يجب حذف الفعل بعد لو في مثل ذلك لدلالة أن عليه ووقوعه موقعه { لكن لعنهم الله بكفرهم } ولكن خذلهم الله وأبعدهم عن الهدى بسبب كفرهم { فلا يؤمنون إلا قليلا } أي إلا إيمانا قليلا لا يعبأ به وهو الإيمان ببعض الآيات والرسل ويحتمل أن يراد بالقلة العدم كقوله :
( قليل التشكي للمهم يصيبه ... أو إلا قليلا منهم آمنوا أو سيؤمنون )

47 - { يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها } من قبل أن نمحو تخطيط صورها ونجعلها على هيئة أدبارها يعني الأقفاء أو ننكسها إلى ورائها في الدنيا أو في الآخرة وأصل الطمس إزالة الأعلام المائلة وقد يطلق بمعنى الطلس في إزالة الصورة ولمطلق القلب والتغيير ولذلك قيل معناه من قبل أن نغير وجوها فنسلب وجاهتها وإقبالها ونكسوها الصغار والإدبار أو نردها إلى حيث جاءت منه وهي أذرعات الشام يعني إجلاء بني النضير ويقرب منه قول من قال إن المراد بالوجوه الرؤساء أو من قبل أن نطمس وجوها بأن نعمي الأبصار عن الاعتبار ونصم الأسماع عن الإصغاء إلى الحق بالطبع ونردها عن الهداية إلى الضلالة { أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت } أو نخزيهم بالمسخ كما أخزينا به أصحاب السبت أو نمسخهم مسخا مثل مسخهم أو نلعنهم على لسانك كما لعناهم على لسان داود والضمير لأصحاب الوجوه أو للذين على طريقة الإلتفات أو للوجوه إن أريد به الوجهاء وعطفه على الطمس بالمعنى الأول يدل على أن المراد به ليس مسخ الصورة في الدنيا ومن حمل الوعيد على تغيير الصورة في الدنيا قال إنه بعد مترقب أو كان وقوعه مشروطا بعد إيمانهم وقد آمن منهم طائفة { وكان أمر الله } بإيقاع شيء أو وعيده أو ما حكم به أو قضاه { مفعولا } نافذا وكائنا فيقع لا محالة ما أوعدتم به إن لم تؤمنوا

48 - { إن الله لا يغفر أن يشرك به } لأنه بت الحكم على خلود عذابه وأن ذنبه لا ينمحي عنه أثره فلا يستعد للعفو بخلاف غيره { ويغفر ما دون ذلك } أي ما دون الشرك صغيرا كان أو كبيرا { لمن يشاء } تفضلا عليه وإحسانا والمعتزلة علقوه بالفعلين على معنى إن الله لا يغفر الشرك لمن يشاء وهو من لم يتب ويغفر ما دونه لمن يشاء وهو من تاب وفيه تقييد بلا دليل إذ ليس عموم آيات الوعيد بالمحافظة أولى منه ونقض لمذهبهم فإن تعليق الأمر بالمشيئة ينافي وجوب التعذيب قبل التوبة والصفح بعدها فالآية كما هي حجة عليهم فهي حجة على الخوارج الذين زعموا أن كل ذنب شرك وأن صاحبه خالد في النار { ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما } ارتكب ما يستحقر دونه الآثام وهو إشارة إلى المعنى الفارق بينه وبين سائر الذنوب والافتراء كما يطلق على القول يطلق على الفعل وكذلك الاختلاق

49 - { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم } يعني أهل الكتاب قالوا { نحن أبناء الله وأحباؤه } وقيل : [ ناس من اليهود جاؤوا بأطفالهم إلى رسول الله فقالوا : هل على هؤلاء ذنب قال لا قالوا : والله ما نحن إلا كهيئتهم ما عملنا بالنهار كفر عنا بالليل وما عملنا بالليل كفر عنا بالنهار ] وفي معناهم من زكى نفسه وأثنى عليها { بل الله يزكي من يشاء } تنبيه على أن تزكيته تعالى هي المعتد بها دون تزكية غيره فإنه العالم بما ينطوي عليه الإنسان من حسن وقبيح وقد ذمهم وزكى المرتضين من عباده المؤمنين وأصل التزكية نفي ما يستقبح فعلا أو قولا { ولا يظلمون } بالذم أو العقاب على تزكيتهم أنفسهم بغير حق { فتيلا } أدنى ظلم وأصغره وهو الخيط الذي في شق النواة يضرب به المثل في الحقارة

50 - { انظر كيف يفترون على الله الكذب } في زعمهم أنهم أبناء الله وأزكياء عنده { وكفى به } بزعمهم هذا أو بالافتراء { إثما مبينا } لا يخفى كونه مأثما من بين آثامهم

51 - { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت } نزلت في اليهود كانوا يقولون إن عبادة الأصنام أرضى عند الله مما يدعوهم إليه محمد وقيل في حيي ابن أخطب وكعب بن الأشرف في جمع من اليهود خرجوا إلى مكة يحالفون قريشا على محاربة رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : أنتم أهل كتاب وأنتم أقرب إلى محمد منكم إلينا فلا نأمن مكركم فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ففعلوا والجبت في الأصل اسم صنم فاستعمل في كل ما عبد من دون الله وقيل أصله الجبس وهو الذي لا خير فيه فقلبت سينه تاء والطاغوت يطلق لكل باطل من معبود أو غيره { ويقولون للذين كفروا } لأجلهم وفيهم { هؤلاء } إشارة إليهم { أهدى من الذين آمنوا سبيلا } أقوم دينا وأرشد طريقا

52 - { أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا } يمنع العذاب منه بشفاعة أو غيرها

53 - { أم لهم نصيب من الملك } أم منقطعة ومعنى الهمزة إنكار أن يكون لهم نصيب من الملك وجحد لما زعمت اليهود من أن الملك سيصير إليهم { فإذا لا يؤتون الناس نقيرا } أي لو كان لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون أحدا ما يوازي نقيرا وهو النقرة في ظهر النواة وهذا هو الإغراق في بيان شحهم فإنهم إن بخلوا بالنقير وهم ملوك فما ظنك بهم إن كانوا فقراء أذلاء متفاقرين ويجوز أن يكون المعنى إنكار أنهم أتوا نصيبا من الملك على الكناية وأنهم لا يؤتون الناس شيئا وإذا وقع بعد الواو والفاء لا لتشريك مفرد جاز فيه الإلغاء والإعمال ولذلك قرئ فإذا لا يؤتوا الناس على النصب

54 - { أم يحسدون الناس } بل أيحسدون رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه أو العرب أو الناس جميعا لأن من حسد على النبوة فكأنما حيد الناس كلهم كمالهم ورشدهم وبخعهم وأنكر عليهم الحسد كما ذمهم على البخل وهما شر الرذائل وكأ بينهما تلازما وتجاذبا { على ما آتاهم الله من فضله } يعني النبوة والكتاب والنصرة والإعزاز وجعل النبي الموعود منهم { فقد آتينا آل إبراهيم } الذي هم أسلاف محمد صلى الله عليه و سلم وأبناء عمه { الكتاب والحكمة } النبوة { وآتيناهم ملكا عظيما } فلا يبعد أن يؤتيه الله مثل ما آتاهم

55 - { فمنهم } من اليهود { من آمن به } بمحمد صلى الله عليه و سلم أو بما ذكر من حديث آل إبراهيم { ومنهم من صد عنه } أعرض عنه ولم يؤمن به وقيل معناه فمن آل إبراهيم من آمن به ومنهم من كفر ولم يكن في ذلك توهين أمره فلذلك لا يوهن كفر هؤلاء أمرك { وكفى بجهنم سعيرا } نارا مسعورة يعذبون بها أي إن لم يعجلوا بالعقوبة فقد كفاهم ما أعد لهم من سعير جهنم

56 - { إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا } كالبيان والتقرير لذلك { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها } بأن يعاد ذلك الجلد بعينه على صورة أخرى كقولك : بدلت الخاتم قرطا أو بأن يزال عنه أثر الإحراق ليعود إحساسه للعذاب كما قال : { ليذوقوا العذاب } أي ليدوم لهم ذوقه وقيل يخلق مكانه لهم جلد آخر والعذاب في الحقيقة للنفس العاصية المدركة لا لآلة إدراكها فلا محذور { إن الله كان عزيزا } لا يمتنع عليه ما يريده { حكيما } يعاقب على وفق حكمته

57 - { والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا } قدم ذكر الكفار ووعيدهم على ذكر المؤمنين ووعدهم لأن الكلام فيهم وذكر المؤمنين بالعرض { لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا } فينانا لا وجوب فيه ودائما لا تنسخه الشمس وهو إشارة إلى النعمة التامة الدائمة والظليل صفة مشتقة من الظل لتأكيده كقولهم : شمس شامس وليل أليل ويوم أيوم

58 - { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } خطاب يعم المكلفين والأمانات وإن نزلت يوم الفتح في عثمان بن طلحة بن عبد الدار لما أغلق باب الكعبة وأبى أن يدفع المفتاح ليدخل فيها رسول الله وقال : لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه فلوى علي كرم الله وجهه يده وأخذه منه وفتح فدخل رسول الله صلى الله عليه و سلم وصلى ركعتين فلما خرج سأله العباس رضي الله عنه أن يعطيه المفتاح ويجمع له السقاية والسدانة فنزلت فأمره الله أن يرده إليه فأمر عليا رضي الله عنه أن يرده ويعتذر إليه وصار ذلك سببا لإسلامه ونزل الوحي بأن السدانة في أولاده أبدا { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } أي وأن تحكموا بالإنصاف والسوية إذا قضيتم بين من ينفذ عليه أمركم أو يرضى بحكمكم ولأن احكم وظيفة الولاة قيل الخطاب لهم { إن الله نعما يعظكم به } أي نعم شيئا بيعظكم به أو نعم الشيء الذي يعظكم به فما منصوبة موصوفة بيعظكم به أو مرفوعة موصولة به والمخصوص بالمدح محذوف وهو المأمور به من أداء الأمانات والعدل في الحكومات { إن الله كان سميعا بصيرا } بأقوالكم وأحكامكم وما تفعلون في الأمانات

59 - { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } يريد بهم أمراء المسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه و سلم وبهده ويندرج فيهم الخلفاء والقضاة وأمراء السرية أمر الناس بطاعتهم بعدما أمرهم بالعدل تنبيها على أن وجوب طاعتهم ما داموا على الحق وقيل علماء الشرع لقوله تعالى : { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } { فإن تنازعتم } أنت وأولي الأمر منكم { في شيء } من أمور الدين وهو يؤيد الوجه الأول إذ ليس للمقلد أن ينازع المجتهد في حكمه بخلاف المرؤوس إلا أن يقال الخطاب لأولي الأمر على طريقة الالتفات { فردوه } فراجعوا فيه { إلى الله } إلى كتابه { والرسول } بالسؤال عنه في زمانه والمراجعة إلى سنته بعده واستدل به منكروا القياس وقالوا : إنه تعالى أوجب رد المختلف إلى الكتاب والسنة دون القياس وأجيب بأن رد المختلف إلى المنصوص عليه إنما يكون بالتمثيل والبناء عليه وهو القياس ويؤيد ذلك الأمر به بعد الأمر بطاعة الله وطاعة رسوله فإنه يدل على أن الأحكام ثلاثة مثبت بالكتاب ومثبت بالسنة ومثبت بالرد إليهما على وجه القياس { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } فإن الإيمان يوجب ذلك { ذلك } أي الرد { خير } لكم { وأحسن تأويلا } عاقبة أو أحسن تأويلا من تأويلكم بلا رد

60 - { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت } عن ابن عباس رضي الله عنهما ( أن منافقا خاصم يهوديا فدعاه اليهودي إلى النبي صلى الله عليه و سلم ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف ثم إنهما احتكما إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فحكم لليهودي فلم يرض المنافق بقضائه وقال : نتحاكم إلى عمر فقال اليهودي لعمر : قضى لي رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يرض بقضائه وخاصم إليك فقال عمر رضي الله تعالى عنه للمنافق : أكذلك فقال نعم مكانكم حتى أخرج إليكم فدخل فأخذ سيفه ثم خرج فضرب به عنق المنافق حتى برد وقال : هكذا أقضي لمن يرضى بقضاء الله ورسوله ) فنزلت وقال جبريل إن عمر قد فرق بين الحق والباطل فسمي الفاروق والطاغوت على هذا كعب بن الأشرف وفي معناه من يحكم بالباطل ويؤثر لأجله سمي بذلك لفرط طغيانه أو لتشبهه بالشيطان أو لأن التحاكم إليه تحاكم إلى الشيطان من حيث إنه الحامل عليه كما قال : { وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا } وقرئ أن يكفروا بها على أن الطاغوت جمع لقوله تعالى { أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم }

61 - { وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول } وقرئ { تعالوا } بضم اللام على أنه حذف لام الفعل اعتباطا ثم ضم اللام لواو الضمير { رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا } هو مصدر أو اسم للمصدر الذي هو الصد والفرق بينه وبين السد أنه غير محسوس والسد محسوس ويصدون في موضع الحال

62 - { فكيف } يكون حالهم { إذا أصابتهم مصيبة } كقتل عمر المنافق أو النقمة من الله تعالى { بما قدمت أيديهم } من التحاكم إلى غيرك وعدم الرضى بحكمك { ثم جاؤوك } حين يصابون للإعتذار عطف على إصابتهم وقيل على يصدون وما بينهما اعتراض { يحلفون بالله } حال { إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا } ما أردنا بذلك إلا الفصل بالوجه الأحسن والتوفيق بين الخصمين ولم نرد مخالفتك وقيل جاء أصحاب القتيل طالبين بدمه وقالوا ما أردنا بالتحاكم إلى عمر إلا أن يحسن إلى صاحبنا ويوفق بينه وبين خصمه

63 - { أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم } من النفاق فلا يغني عنهم الكتمان والحلف الكاذب من العقاب { فأعرض عنهم } أي من عقابهم لمصلحة في استبقائهم أو عن قبول معذرتهم { وعظهم } بلسانك وكفهم عما هم عليه { وقل لهم في أنفسهم } أي في معنى أنفسهم أو خاليا بهم فإن النصح في السر أنجع { قولا بليغا } يبلغ منهم ويؤثر فيهم أمرهم التجافي عن ذنوبهم والنصح لهم والمبالغة فيه بالترغيب والترهيب وذلك مقتضى شفقة الأنبياء عليهم السلام وتعليق الظرف ببليغا على معنى بليغا في أنفسهم مؤثرا فيها ضعيف لأن معمول الصفة لا يتقدم على الموصوف والقول البليغ في الأصل هو الذي يطابق مدلوله المقصود به

64 - { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } بسبب إذنه في طاعته وأمره المبعوث إليهم بأن يطيعوه وكأنه احتج بذلك على أن الذي لم يرض بحكمه وإن أظهر الإسلام كان كافرا مستوجب القتل وتقريره أن إرسال الرسول لما لم يكن إلا ليطاع كان من لم يطعه ولم يرض بحكمه لم يقبل رسالته ومن كان كذلك كان كافرا مستوجب القتل { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم } بالنفاق أو التحاكم إلى الطاغوت { جاؤوك } تائبين من ذلك وهو خبر أن وإذ متعلق به { فاستغفروا الله } بالتوبة والإخلاص { واستغفر لهم الرسول } واعتذروا إليك حتى انتصبت لهم شفيعا وإنما عدل الخطاب تفخيما لشأنه وتنبيها على أن من حق الرسول أن يقبل اعتذار التائب وإن عظم جرمه ويشفع له ومن منصبه أن يشفع في كبائر الذنوب { لوجدوا الله توابا رحيما } لعلموه قابلا لتوبتهم متفضلا عليهم بالرحمة وإن فسر وجد بصادف كان توابا حالا ورحيما بدلا منه أو حالا من الضمير فيه

65 - { فلا وربك } أي فوربك ولا مزيدة لتأكيد القسم لا لتظاهر لا في قوله : { لا يؤمنون } لأنها تزاد أيضا في الإثبات كقوله تعالى : { لا أقسم بهذا البلد } { حتى يحكموك فيما شجر بينهم } فيما اختلف بينهم واختلط ومنه الشجر لتداخل أغصانه { ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت } ضيقا مما حكمت به أو من حكمك أو شكا من أجله فإن الشك في ضيق من أمره { ويسلموا تسليما } وينقادوا إليك انقيادا بظاهرهم وباطنهم

66 - { ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم } تعرضوا بها للقتل في الجهاد أو اقتلوها كما قتل بنو إسرائيل وأن مصدرية أو مفسرة لأن كتبنا في معنى أمرنا { أو اخرجوا من دياركم } خروجهم حين استتيبوا من عبادة العجل وقرأ أبو عمرو و يعقوب أن اقتلوا بكسر النون على أصل التحريك أو اخرجوا بضم الواو للاتباع والتشبيه بواو الجمع في نحو قوله تعالى : { ولا تنسوا الفضل } وقرأ حمزة و عاصم بكسرهما على الأصل والباقون بضمهما إجراء لهما مجرى الهمزة المتصلة بالفعل { ما فعلوه إلا قليل منهم } إلا أناس قليل وهم المخلصون لما بين إيمانهم لا يتم إلا بأن يسلموا حق التسليم نبه على قصور أكثرهم ووهن إسلامهم والضمير للمكتوب ودل عليه كتبنا أو لأحد مصدري الفعلين - وقرأ ابن عامر بالنصب على الاستثناء أو على إلا فعلا قليلا { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به } من مطاوعة الرسول صلى الله عليه و سلم مطاوعته طوعا ورغبة { لكان خيرا لهم } في عاجلهم وآجلهم { وأشد تثبيتا } في دينهم لأنه أشد لتحصيل العلم ونفي الشك أو تثبيتا لثواب أعمالهم ونصبه على التمييز والآية أيضا مما نزلت في شأن المنافق اليهودي وقيل إنها والتي قبلها نزلتا في حاطب بن أبي بلتعة خاصم زبيرا في شراج من الجرة كانا يسقيان بها النخل فقال عليه الصلاة و السلام : [ اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك فقال حاطب : لأن كان ابن عمتك فقال عليه الصلاة و السلام : اسق يا زبير ثم احبس الماء إلى الجدر واستوف حقك ثم أرسله إلى جارك ]

67 - { وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل وما يكون لهم بعد التثبيت فقال وإذا لو تثبتوا لآتيناهم لأن { إذا } جواب وجزاء

68 - { ولهديناهم صراطا مستقيما } يصلون بسلوكه جناب القدس ويفتح عليهم أبواب الغيب قال النبي صلى الله عليه و سلم [ من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم ]

69 - { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم } مزيد ترغيب في الطاعة بالوعد عليها مرافقة أكرم الخلائق وأعظمهم قدرا { من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين } بيان للذين أو حال منه أو من ضميره قسمهم أربعة بحسب منازلهم في العلم والعمل وحث كافة الناس على أن لا يتأخروا عنهم وهم : الأنبياء الفائزون بكمال العلم والعمل المتجاوزون حد الكمال إلى درجة التكميل ثم الصديقون الذين صعدت نفوسهم تارة بمراقي النظر في الحجج والآيات وأخرى بمعارج التصفية والرياضات إلى أوج العرفان حتى اطلعوا على الأشياء وأخبروا عنها على ما هي عليها ثم الشهداء الذين أدى بهم الحرص على الطاعة والجد في إظهار الحق حتى بذلوا مهجهم في إعلاء كلمة الله تعالى ثم الصالحون الذين صرفوا أعمارهم في طاعته وأموالهم في مرضاته ولك أن تقول المنع عليهم هم العارفون بالله وهؤلاء إما أن يكونوا بالغين درجة العيان أو واقفين في مقام الاستدلال والبرهان والأولون إما أن ينالوا مع العيان القرب بحيث يكونوا كمن يرى الشيء قريبا وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أولا فيكونون كمن يرى الشيء بعيدا وهم الصديقون والآخرون إما أن يكون عرفانهم بالبراهين القاطعة وهم العلماء الراسخون في العلم الذين هم شهداء الله في أرضه وإما أن يكون بأمارات و إقناعات تطمئن إليها نفوسهم وهم الصالحون { وحسن أولئك رفيقا } في معنى التعجب { رفيقا } في معنى التعجب ورفيقا على التمييز أو الحال ولم يجمع لأنه يقال للواحد والجمع كالصديق أو لأنه أريد وحسن كل واحد منهم رفيقا روي أن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم أتاه يوما وقد تغير وجهه ونحل جسمه فسأله عن حاله فقال : ما بي من وجع غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك ثم ذكرت الآخرة فخفت أن لا أراك هناك لأني عرفت أنك ترتفع مع النبيين وإن أدخلت الجنة كنت في منزل دون منزلك وإن لم أدخل فذلك حين لا أراك أبدا فنزلت

70 - { ذلك } مبتدأ إشارة إلى ما للمطيعين من الأجر ومزيد الهداية ومرافقة المنعم عليهم أو إلى فضل هؤلاء المنعم عليهم ومزيتهم { الفضل } صفته { من الله } خبره أو الفضل خبره ومن الله حال والعامل فيه معنى الإشارة { وكفى بالله عليما } بجزاء من أطاعه أو بمقادير الفضل واستحقاق أهله

71 - { يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم } تيقظوا واستعدوا للأعداء والحذر والحذر كالأثر والأثر وقيل ما يحذر به كالحزم والسلاح { فانفروا } فاخرجوا إلى الجهاد { ثبات } جماعات متفرقة جمع ثبة من ثبيت على فلان تثبية إذا ذكرت متفرق محاسنه ويجمع أيضا على ثبين جبرا لما حذف من عجزه { أو انفروا جميعا } مجتمعين كوكبة واحدة والآية وإن نزلت في الحرب لكن ينبغي إطلاق لفظها وجوب المبادرة إلى الخيرات كلها كيفما أمك قبل الفوات

72 - { وإن منكم لمن ليبطئن } الخطاب لعسكر رسول الله صلى الله عليه و سلم المؤمنين منهم والمنافقين والمبطئون منافقوهم تثاقلوا وتخلفوا عن الجاه من بطأ بمعنى أبطأ وهو لازم أو ثبطوا غيرهم كما ثبط ابن أبي ناسا يوم أحد من بطأ منقولا من بطؤ كثقل من ثقل واللام الأولى للابتداء دخلت اسم إن للفصل بالخبر والثانية جواب قسم محذوف والقسم بجوابه صلة من والراجع إليه ما استكن في ليبطئن والتقدير : وإن منكم لمن أقسم بالله ليبطئن
{ فإن أصابتكم مصيبة } كقتل وهزيمة { قال } المبطئ { قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا } حاضرا فيصيبني ما أصابهم

73 - { ولئن أصابكم فضل من الله } كفتح وغنيمة { ليقولن } أكده تنبيها على فرط تحسره وقرئ بضم اللام إعادة للضمير إلى معنى { من } { كأن لم تكن بينكم وبينه مودة } اعتراض بين الفعل ومفعوله وهو { يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما } للتنبيه على ضعف عقيدتهم وأن قولهم هذا قول من لا مواصلة بينكم وبينه وإنما أريد أن يكون معكم لمجرد المال أو حال من الضمير في ليقولن أو داخل في المقول أي يقول المبطئ لمن يبطئه من المنافقين وضعفه المسلمين تضريبا وحسدا كأن لم يكن بينكم وبين محمد صلى الله عليه و سلم مودة حيث لم يستعن بكم فتفوزوا بما فازيا ليتني كنت معهم وقيل إنه متصل بالجملة الأولى وهو ضعيف إذ لا يفصل أبعاض الجملة بما لا يتعلق بها لفظا ومعنى وكأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وهو محذوف وقرأ ابن كثير و حفص عن عاصم و رويس عن يعقوب { تكن } بالتاء لتأنيث لفظ المودة والمنادى في يا ليتني محذوف أي : يا قوم وقيل يا أطلق للتنبيه على الإتساع فأفوز نصب على جواب التمني وقرئ بالرفع على تقدير فأنا أفوز في ذلك الوقت أو العطف على كنت

74 - { فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة } أي الذين يبيعونها بها والمعنى إن بطأ هؤلاء عن القتال فليقاتل المخلصون الباذلون أنفسهم في طلب الآخرة أو الذين يشترونها ويختارونها على الآخرة وهم المبطئون والمعنى حثهم على ترك ما حكي عنهم { ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما } وعد له الأجر العظيم غلب أو غلب ترغيبا في القتال وتكذيبا لقولهم { قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا } وإنما قال { فيقتل أو يغلب } تنبيها على أن المجاهد ينبغي أن يثبت في المعركة حتى يعز نفسه بالشهادة أو الدين بالظفر والغلبة وأن لا يكون قصده بالذات إلى القتل بل إلى إعلاء كلمة الحق وإعزاز الدين

75 - { وما لكم } مبتدأ وخبر { لا تقاتلون في سبيل الله } حال والعامل فيها ما في الظرف من معنى الفعل { والمستضعفين } عطف على إسم الله تعالى أي وفي سبيل المستضعفين وهو تخليصهم من الأسر وصونهم من العدو أو على سبيل بحذف المضاف أي وفي خلاص المستضعفين ويجوز نصبه على الاختصاص فإن سبيل الله تعالى يعم أبواب الخير وتخليص ضعفة المسلمين من أيدي الكفار أعظمها وأخصها { من الرجال والنساء والولدان } بيان للمستضعفين وهم المسلمون الذين بقوا بمكة لصد المشركين أو ضعفهم عن الهجرة مستذلين ممتحنين وإنما ذكر الولدان مبالغة في الحث وتنبيها على تناهي ظلم المشركين بحيث بلغ أذاهم الصبيان وأن دعوتهم أجيبت بسبب مشاركتهم في الدعاء حتى يشاركوا في استنزال الرحمة واستدفاع البلية وقيل المراد به العبيد والإماء وهو جمع وليد { الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا } فاستجاب الله دعاءهم بأن يسر لبعضهم الخروج إلى المدينة وجعل لمن بقي منهم خير ولي وناصر بفتح مكة على نبيه صلى الله عليه و سلم فتولاهم نصرهم ثم استعمل عليهم عتاب بن أسيد فحماهم ونصرهم حتى صاروا أعز أهلها والقرية مكة والظالم صفتها وتذكيره لتذكير ما أسند إليه فإن اسم الفاعل أو المفعول إذا جرى على غير من هو له كان كالفعل يذكر ويؤنث على حسب ما عمل فيه

76 - { الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله } فيما يصلون به إلى الله سبحانه وتعالى { الذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت } فيما يبلغ بهم إلى الشيطان { فقاتلوا أولياء الشيطان } لما ذكر مقصد الفريقين أمر أولياءه أن يقاتلوا أولياء الشيطان ثم شجعهم بقوله : { إن كيد الشيطان كان ضعيفا } أي إن كيده للمؤمنين بالإضافة إلى كيد الله سبحانه وتعالى للكافرين ضعيف فلا يؤبه به فلا تخافوا أولياءه فإن اعتمادهم على أضعف شيء وأوهنه

77 - { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم } أي عن القتال { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } واشتغلوا بما أمرتم به { فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله } يخشون الكفار أن يقتلوهم كما يخشون الله أن ينزل عليهم بأسه وإذا جواب للمفاجأة جواب لما وفريق مبتدأ منهم صفته ويخشون على معنى يخشون الناس مثل أهل خشية الله منه { أو أشد خشية } عطف عليه إن جعلته حالا وإن جعلته مصدرا فلا أفعل التفضيل إذا نصب ما بعده لم يكن من جنسه بل هو معطوف على اسم الله تعالى أي : وكخشية الله تعالى أو كخشية أشد خشية منه على فرض اللهم إلا أن تجعل الخشية ذات خشية كقولهم : جد جده على معنى يخشون الناس خشية مثل خشية الله تعالى أو خشية أشد خشية من خشية الله تعالى { وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب } استزادة في مدة الكف عن القتال حذرا من الموت ويحتمل أنهم ما تفوهوا به ولكن قالوه في أنفسهم فحكى الله تعالى عنهم { قل متاع الدنيا قليل } سريع التقضي { والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا } أي ولا تنقصون أدنى شيء من ثوابكم فلا ترغبوا عنه أو من آجالكم المقدرة وقرأ ابن كثير و حمزة و الكسائي { ولا يظلمون } لتقدم الغيبة

78 - { أينما تكونوا يدرككم الموت } قرئ بالرفع على حذف الفاء كما في قوله :
من يفعل الحسنات الله يشكرها أو على أنه كلام مبتدأ وأينما متصل ب { لا تظلمون } { ولو كنتم في بروج مشيدة } في قصور أو حصون مرتفعة والبروج في الأصل بيوت على أطراف القصور من تبرجت المرأة إذا ظهرت وقرئ مشيدة بكسر الياء وصفا لها بوصف فاعلها كقولهم : قصيدة شاعرة ومشيدة من شيد القصر إذا رفعه { وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك } كما تقع الحسنة والسيئة على الطاعة والمعصية يقعان على النعمة والبلية وهما المراد في الآية أي : وإن تصبهم نعمة كخصب نسبوها إلى الله سبحانه وتعالى وإن تصبهم بلية كقحط أضافوها إليك وقالوا إن هي إلا بشؤمك كما قالت اليهود : منذ دخل محمد المدينة نقصت ثمارها وغلت أسعارها { قل كل من عند الله } أي يبسط ويقبض حسب إرادته { فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا } يوعظون به وهو القرآن فإنهم لو فهموه وتدبروا معانيه لعلموا أن الكل من عند الله سبحانه وتعالى أو حديثا ما كبهائم لا أفهام لها أو حادثا من صروف الزمان فيفتكرون في فيعلمون أن القابض والباسط هو الله سبحانه وتعالى

79 - { ما أصابك } يا إنسان { من حسنة } من نعمة { فمن الله } أي تفضلا منه فإن كل ما يفعله الإنسان من الطاعة لا يكافئ نعمة الوجود فكيف يقتضي غيره ولذلك قال عليه الصلاة و السلام : [ ما يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله تعالى قيل ولا أنت قال : ولا أنا ] { وما أصابك من سيئة } من بلية { فمن نفسك } لأنها السبب فيها لاستجلابها بالمعاصي وهو لا ينافي قوله سبحانه وتعالى : { قل كل من عند الله } فإن الكل منه إيجادا وإيصالا غير أن الحسنة إحسان وامتنان والسيئة مجازاة وانتقام كم قالت عائشة رضي الله عنها ما من مسلم يصيبه من وصب ولا نصب ولا الشوكة يشاكها وحتى انقطاع شسع نعله إلا بذنب وما يعفو الله أكثر والآيتان كما ترى لا حجة فيهما لنا وللمعتزلة { وأرسلناك للناس رسولا } حال قصد بها التأكيد إن علق الجار بالفعل والتعميم إن علق بها أي رسولا للناس جميعا كقوله تعالى : { وما أرسلناك إلا كافة للناس } ويجوز نصبه على المصدر كقوله : ولا خارجا من في زور الكلام { وكفى بالله شهيدا } على رسالتك بنصب المعجزات

80 - { من يطع الرسول فقد أطاع الله } لأنه عليه الصلاة و السلام في الحقيقة مبلغ والأمر هو الله سبحانه وتعالى روي [ أنه عليه الصلاة و السلام قال : من أحبني فقد أحب الله ومن أطاعني فقد أطاع الله فقال : ( المنافقون لقد قارف الشرك وهو ينهى عنه ما يريد إلا أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى ربا ) فنزلت ] { ومن تولى } عن طاعته { فما أرسلناك عليهم حفيظا } تحفظ عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب وهو حال من الكاف

81 - { ويقولون } إذا أمرتهم بأمر { طاعة } أي أمرنا أو منا الطاعة وأصلها النصب على المصدر ورفعها للدلالة على الثبات { فإذا برزوا من عندك } خرجوا { بيت طائفة منهم غير الذي تقول } أي زورت خلاف ما قلت لها أو ما قالت لك من القبول وضمان الطاعة والتبييت إما من البيتوتة لأن الأمور تدبر بالليل أو من بيت الشعر أو البيت المبني لأنه يسوي ويدبر وقرأ أبو عمرو و حمزة { بيت طائفة } بالإدغام لقربهما في المخرج { والله يكتب ما يبيتون } يثبته في صحائفهم للمجازاة أو في جملة ما يوحى إليك لتطلع على أسرارهم { فأعرض عنهم } قلل المبالاة بهم أو تجاف عنهم { وتوكل على الله } في الأمور كلها سيما شأنهم { وكفى بالله وكيلا } يكفيك مضرتهم وينتقم لك منهم

82 - { أفلا يتدبرون القرآن } يتأملون في معانيه ويتبصرون ما فيه وأصل التدبر النظر في أدبار الشيء { ولو كان من عند غير الله } أي ولو كان من كلام البشر كما تزعم الكفار { لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } من تناقض المعنى وتفاوت النظم وكان بعضه فصيحا وبعضه ركيكا وبعضه يصعب معارضته وبعضه يسهل ومطابقة بعض أخباره المستقبلة للواقع دون بعض وموافقة العقل لبعض أحكامه دون بعض على ما دل عليه الاستقراء لنقصان القوة البشرية ولعل ذكره ها هنا للتنبيه على أن اختلاف ما سبق من الأحكام ليس لتناقض في الحكم بل لاختلاف الأحوال في الحكم والمصالح

83 - { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف } مما يوجب الأمن أو الخوف { أذاعوا به } أفشوه كما كان يفعل قوم من ضعفة المسلمين إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول الله صلى الله عليه و سلم أو أخبرهم الرسول صلى الله عليه و سلم بما أوحي إليه من وعد بالظفر أو تخويف من الكفرة أذاعوا به لعدم حزمهم فكانت إذاعتهم مفسدة والباء مزيدة أو لتضمن الإذاعة معنى التحدث { ولو ردوه } أي ولو ردوا ذلك الخبر { إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم } إلى رأيه ورأي كبار أصحابه البصراء بالأمور أو الأمراء { لعلمه } لعلموا ما أخبروا به على أي وجه يذكر { الذين يستنبطونه منهم } يستخرجون تدابيره بتجاربهم وأنظارهم وقيل كانوا يسمعون أراجيف المنافقين فيذيعونها فتعود وبالا على المسلمين ولو ردوه إلى الرسول صلى الله عليه و سلم وإلى أولي الأمر منهم حتى يسمعوه منهم وترفوا أنه هل يذاع لعلم ذلك من هؤلاء الذين يستنبطونه من الرسول صلى الله عليه و سلم وأولي الأمر أي : يستخرجون علمه من جهتهم وأصل الاستنباط إخراج النبط : وهو الماء يخرج من البئر أول ما يحفر { ولولا فضل الله عليكم ورحمته } بإرسال الرسول وإنزال الكتب { لاتبعتم الشيطان } والكفر والضلال { إلا قليلا } أي إلا قليلا منكم تفضل الله عليه بعقل راجح اهتدى به إلى الحق والصواب وعصمه من متابعة الشيطان كزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل أو إلا اتباعا قليلا على الندور

84 - { فقاتل في سبيل الله } أن تثبطوا وتركوك وحدك { لا تكلف إلا نفسك } إلا فعل نفسك لا يضرك مخالفتهم وتقاعدهم فتقدم إلى الجهاد وإن لم يساعدك أحد فإن الله ناصرك لا الجنود روي [ أنه عليه الصلاة و السلام دعا الناس في بدر الصغرى إلى الخروج فكرهه بعضهم فنزلت فخرج عليه الصلاة و السلام وما معه إلا سبعون لا يلو على أحد ] وقرئ لا { تكلف } بالجزم و { لا نكلف } بالنون على بناء الفاعل أي لا نكلفك إلا فعل نفسك لا أنا لا نكلف أحدا إلا نفسك لقوله : { وحرض المؤمنين } على القتال إذ ما عليك في شأنهم إلا التحريض { عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا } يعني قريشا وقد فعل بأن ألقى في قلوبهم الرعب حتى رجعوا { والله أشد بأسا } من قريش { وأشد تنكيلا } تعذيبا منهم وهو تقريع وتهديد لمن لم يتبعه

85 - { من يشفع شفاعة حسنة } راعى بها حق مسلم ودفع بها عنه ضرا أو جلب إليه نفعا ابتغاء لوجه الله تعالى ومنها الدعاء لمسلم قال عليه الصلاة و السلام : [ من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال له الملك ولك مثل ذلك ] { يكن له نصيب منها } وهو ثواب الشفاعة والتسبب إلى الخير الواقع بها { ومن يشفع شفاعة سيئة } يريد بها محرما { يكن له كفل منها } نصيب من وزرها مساو لها في القدر { وكان الله على كل شيء مقيتا } مقتدرا من أقات الشيء إذا قدر قال :
( وذي ضغن كففت الضغن عنه ... وكنت على مساءته مقيتا )
أو شهيدا حافظا واشتقاقه من القوت فإنه يقوي البدن ويحفظه

86 - { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } الجمهور على أنه في السلام ويدل على وجوب الجواب إما بأحسن منه وهو أن يزيد عليه ورحمة الله فإن قاله المسلم زاد وبركاته وهي النهاية وإما برد مثله لما روي [ أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم : السلام عليك فقال : وعليك السلام ورحمة الله وقال آخر : السلام عليك ورحمة الله فقال : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته وقال آخر : السلام عليك ورحمة الله وبركاته فقال : وعليك فقال الرجل : نقصتني فأين ما قال الله تعالى وتلا الآية فقال صلى الله عليه و سلم : إنك لم تترك لي فضلا فردت عليك مثله ] وذلك لاستجماعه أقسام المطالب السالمة عن المضار وحصول المنافع وثباتها ومنه قيل أو للترديد بين أن يحيى المسلم ببعض التحية وبين أن يحيى بتمامها وهذا الوجوب على الكفاية وحيث السلام مشروع فلا يرد في الخطبة وقراءة القرآن وفي الحمام وعند قضاء الحاجة ونحوها والتحية في الأصل مصدر حياك الله على الإخبار من الحياة ثم استعمل للحكم والدعاء بذلك ثم قيل لكل دعاء فغلب في السلام وقيل المراد بالتحية العطية وواجب الثواب أو الرد على المتهب وهو قول قديم لل شافعي رضي الله تعالى عنه { إن الله كان على كل شيء حسيبا } يحاسبكم على التحية وغيرها

87 - { الله لا إله إلا هو } مبتدأ وخبر أو { الله } مبتدأ والخبر { ليجمعنكم إلى يوم القيامة } أي الله والله ليحشرنكم من القبور إلى يوم القيامة أو مفضين إليه أو في يوم القيامة ولا إله إلى هو اعتراض والقيام والقيامة كالطلاب والطلابة وهي قيام الناس من القبور أو للحساب { لا ريب فيه } في اليوم أو في الجمع فهو حال من اليوم أو صفة للمصدر { ومن أصدق من الله حديثا } إنكار أن يكون أحد أصدق منه فإنه لا يتطرق الكذب إلى خبره بوجه لأنه نقص وهو على الله محال

88 - { فما لكم في المنافقين } فما لكم تفرقتم في أمر المنافقين { فئتين } أي فرقتين ولم تتفقوا على كفرهم وذلك أن ناسا منهم استأذنوا رسول الله صلى الله عليه و سلم في الخروج إلى البدو لاجتواء المدينة فلما خرجوا لم يزالوا رحلين مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين فاختلف المسلمون في إسلامهم وقيل نزلت في المتخلفين يوم أحد أو في قوم هاجروا ثم رجعوا معتلين باجتواء المدينة والاشتياق إلى الوطن أو قوم أظهروا الإسلام وقعدوا عن الهجرة و { فئتين } حال عاملها لكم كقولك : مالك قائما و { في المنافقين } حال من { فئتين } أي متفرقتين فيهم أو من الضمير أي فما لكم تفترقون فيهم ومعنى الافتراق مستفاد من { فئتين } { والله أركسهم بما كسبوا } ردهم إلى حكم الكفرة أو نكسهم بأن صيرهم إلى للنار وأصل الركس رد الشيء مقلوبا { أتريدون أن تهدوا من أضل الله } أن تجعلوه من المهتدين { ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا } إلى الهدى

89 - { ودوا لو تكفرون كما كفروا } تمنوا أن تكفروا ككفرهم { فتكونون سواء } فتكونون معهم سواء في الضلال وهو عطف على تكفرون ولو نصب على جواب التمني لجاز { فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله } فلا توالوهم حتى يؤمنوا وتتحققوا إيمانهم بهجرة هي إلى الله ورسوله لا لأغراض الدنيا وسبيل الله ما أمر بسلوكه { فإن تولوا } عن الإيمان الظاهر بالهجرة أو عن إظهار الإيمان { فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم } كسائر الكفرة { ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا } أي جانبوهم رأسا ولا تقبلوا منهم ولاية ولا نصرة

90 - { إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق } استثناء من قوله فخذوهم واقتلوهم أي : إلا الذين يتصلون وينتهون إلى قوم عاهدوكم ويفارقون محاربتكم والقوم هم خزاعة وقيل : هم الأسلميون فإنه عليه الصلاة و السلام وادع وقت خرجه إلى مكة هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه ومن لجأ إليه فله من الجوار مثل مال وقيل بنو بكر بن زيد مناة { أو جاؤوكم } عطف على الصلة أي أو الذين جاؤوكم كافين عن قتالكم وقتال قومهم استثنى من المامور باخذهم وقتلهم من ترك المحاربين فلحق بالمعاهدين أو أتى الرسول صلى الله عليه و سلم وكف عن قتال الفريقين أو على صفة وكأنه قيل : إلا الذين يصلون إلى قوم معاهدين أو قوم كافين عن القتال لكم وعليكم والأول أظهر لقوله فإن اعتزلوكم وقرئ بغير العاطف على أنه صفة بعد صفة أو بيان ليصلون أو استئناف { حصرت صدورهم } حال بإضمار قد ويدل عليه أنه قرئ { حصرت صدورهم } وحصرات صدورهم أو بيان لجاءوكم وقيل صفة محذوف أي جاؤوكم قوما حصرت صدورهم وهم بنو مدلج جاءوا رسول الله صلى الله عليه و سلم غير مقاتلين والحصر الضيق والانقباض { أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم } أي عن أن أو لأن أو كراهة أن يقاتلوكم { ولو شاء الله لسلطهم عليكم } بأن قوى قلوبهم وبسط صدورهم وأزال الرعب عنهم { فلقاتلوكم } ولم يكفوا عنكم { فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم } فإن لم يتعرضوا لكم { وألقوا إليكم السلم } الاستسلام والانقياد { فما جعل الله لكم عليهم سبيلا } فما أذن لكم في أخذهم وقتلهم

91 - { ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم } هم أسد وغطفان وقيل بنو عبد الدار أتوا المدينة وأظهروا الإسلام ليأمنوا المسلمين فلما رجعوا كفروا { كل ما ردوا إلى الفتنة } دعوا إلى الكفر وإلى قتال المسلمين { أركسوا فيها } عادوا إليها وقلبوا فيها أقبح قلب { فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم } وينبذوا إليكم العهد { ويكفوا أيديهم } عن قتالكم { فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم } حيث تمكنتم منهم فإن مجرد الكف لا يوجب نفي التعرض { وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا } حجة واضحة في التعرض لهم بالقتل والسبي لظهور عداوتهم ووضوح كفرهم وغدرهم أو تسلطا ظاهرا حيث أذنا [ * 1 ] لكم في قتلهم
في الكتاب أذنا ( بالتنوين )
وأعتقد خطأ

92 - { وما كان لمؤمن } وما صح له وليس من شأنه { أن يقتل مؤمنا } بغير حق { إلا خطأ } فإنه على عرضته ونصبه على الحال أو المفعول له أي : لا يقتله في شيء من الأحوال إلا حال الخطأ أو لا يقتله لعلة إلا للخطأ أو على أنه صفة مصدر محذوف أي قتلا خطأ وقيل { ما كان } نفي معنى النهي والاستثناء منقطع أي لكن إن قتله خطأ فجزاؤه ما يذكر والخطأ ما لا يضامه القصد إلى الفعل أو الشخص أو لا يقصد به زهوق الروح غالبا أو لا يقصد به محذور كرمي مسلم في صف الكفار مع الجهل بإسلامه أ يكون فعل غير مكلف وقرئ { خطأ } بالمد و { خطا } كعصا بتخفيف الهمزة والآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل من الأم لقي حارث بن زيد في طريق وكان قد أسلم ولم يشعر به عياش فقتله { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة } أي فعليه أو فواجبه تحرير رقبة والتحرير الإعتاق والحر كالعتيق للكريم من الشيء ومنه حر الوجه لأكرم موضع منه سمي به لأن الكرم في الأحرار واللؤم في العبيد والرقبة عبر بها عن النسمة كما عبر عنها بالرأس { مؤمنة } محكوم بإسلامها وإن كانت صغيرة { ودية مسلمة إلى أهله } مؤداة إلى ورثته يقتسمونها كسائر المواريث لقول ضحاك بن سفيان الكلابي : ( كتب إلي رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمرني أن أورث امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها ) وهي على العاقلة فإن لم تكن فعلى بيت المال فإن لم يكن ففي ماله { إلا أن يصدقوا } إلا أن يصدقوا عليه بالدية سمي العفو عنها صدقة حثا عليه وتنبيها على فضله وعن النبي صلى الله عليه و سلم : [ كل معروف صدقة ] وهو متعلق بعليه أو بمسلمة أي تجب الدية عليه أو يسلمها إلى أهله إلا حال تصدقهم عليه أو زمانه فهو في محل النصب على الحال من القاتل أو الأهل أو الظرف { فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة } أي فإن كان المؤمن المقتول من قوم كفار محاربين أو في تضاعيفهم ولم يعلم إيمانه فعلى قاتله الكفارة دون الدية إلى أله إذ لا وراثة بينه وبينهم ولأنهم محاربون { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة } أي وإن كان من قوم كفرة معاهدين أو أ÷ل الذمة فحكمه حكم المسلمين في وجوب الكفارة والدية ولعله فيما إذا كان المقتول معاهدا أو كان له وارث مسلم { فمن لم يجد } رقبة بأن لم يملكها ولا ما يتوصل به إليها { فصيام شهرين متتابعين } فعليه أو فالواجب عليه صيام شهرين متتابعين { توبة } نصب على المفعول له أي شرع ذلك توبة من تاب الله عليه إذا قبل توبته أو على المصدر أي وتاب الله عليكم توبة أو الحال بحذف مضاف أي فعليه صيام شهرين ذا توبة { من الله } صفتها { وكان الله عليما } بحاله { حكيما } فيما أمر في شأنه

93 - { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما } لما فيه من التهديد العظيم قال ابن عباس رضي الله عنهم لا تقبل توبة قاتل المؤمن عمدا ولعله أراد به التشديد إذ روي عنه خلافه والجمهور على أنه مخصوص بمن لم يتب لقوله تعالى : { وإني لغفار لمن تاب } ونحوه وهو من عندنا إما مخصوص بالمستحل له كما ذكره عكرمة وغيره ويؤيده أنه نزل في مقيس بن ضبابة وجد أخاه هشاما قتيلا في بني النجار ولم يظهر قاتله فأمرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يدفعوا إليه ديته فدفعوا إليه ثم حمل على مسلم فقتله ورجع إلى مكة مرتدا أو المراد بالخلود المكث الطويل فإن الدلائل متظاهرة على أن عصاة المسلمين لا يدوم عذابهم

94 - { يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله } سافرتم وذهبتم للغزو { فتبينوا } فاطلبوا بيان الأمر وثباته ولا تعجلوا فبه وقرأ حمزة و الكسائي { فثبتوا } في الموضعين هنا وفي الحجرات من التثبت { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام } لمن حياكم بتحية الإسلام وقرأ نافع و ابن عامر و حمزة السلم بغير الألف أي الاستسلام والانقياد وفسر به السلام أيضا { لست مؤمنا } وإنما فعلت ذلك متعوذا وقرئ { مؤمنا } بالفتح أي مبذولا له الأمان { تبتغون عرض الحياة الدنيا } تطلبون ماله الذي هو حطام سريع النفاذ وهو حال من الضمير في تقولوا مشعر بما هو الحامل لهم على العجلة وترك التثبت { فعند الله مغانم } لكم { كثيرة } نغنيكم عن قتل أمثاله لماله { كذلك كنتم من قبل } أي أول ما دخلتم في الإسلام تفوهتم بكلمتي الشهادة فحصنت بها دماؤكم وأموالكم من غير أن يعلم مواطأة قلوبكم ألسنتكم { فمن الله عليكم } بالاشتهار بالإيمان والاستقامة في الدين { فتبينوا } وافعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل الله بكم ولا تبادروا إلى قتلهم ظنا بأنهم دخلوا فيه اتقاء وخوفا فإن بقاء كافر أهون على الله من قتل امرئ مسلم وتكريره تأكيد لتعظيم الأمر وترتيب الحكم على ما ذكر من حالهم { إن الله كان بما تعملون خبيرا } عالما به وبالغرض منه فلا تتهافتوا في القتل واحتاطوا فيه روي [ أن سرية رسول الله صلى الله عليه و سلم غزت أهل فدك فهربوا وبقي مرداس ثقة بإسلامه فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل وصعد فلما تلاحقوا به وكبروا كبر ونزل وقال : لا إله إلا الله محمد رسول الله السلام عليكم فقتله أسامة واستاق غنمه ] وقيل نزلت في المقداد مر برجل في غنيمة فأراد قتله فقال : لا إله إلا الله فقتله وقال : ود لو فر بأهله وماله وفيه ذليل على صحة إيمان المكره وأن المجتهد قد يخطئ وأن خطأه مغتفر

95 - { لا يستوي القاعدون } عن الحرب { من المؤمنين } في موضع الحال من القاعدين أو من الضمير الذي فيه { غير أولي الضرر } بالرفع صفة للقاعدون لأنه لم يقصد به قوم بأعيانهم أو بدل منه وقرأ نافع و ابن عامر و الكسائي بالنصب على الحال أو الاستثناء وقرئ بالجر على أنه صفة للمؤمنين أو أنه بدل منه وعن زيد بن ثابت أنها نزلت ولم يكن فيها غير أولي الضرر فقال ابن أم مكتوم : وكيف وأن أعمى فغشي رسول الله صلى الله عليه و سلم في مجلسه الوحي فوقعت فخذه على فخذي حتى خشيت أن ترضها ثم سري عنه فقال اكتب { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر } { والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم } أي لا مساواة بينهم وبين قعد عن الجهاد من غير علة وفائدته تذكير ما بينهما من التفاوت ليرغب القاعد في الجهاد رفعا لرتبته وأنفة عن انحطاط منزلته { فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة } جملة موضحة لما نفي الاستواء فيه والقاعدون على التقييد السابق ودرجة نصب بنزع الخافض أي بدرجة أو على المصدر لأنه تضمن معنى التفضيل ووقع موقع المرة منه أو الحال بمعنى ذوي الدرجة { وكلا } من القاعدين والمجاهدين { وعد الله الحسنى } المثوبة الحسنى وهي الجنة لحسن عقيدتهم وخلوص نبتهم وإنما التفاوت في زيادة العمل المقتضي لمزيد الثواب { وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما } نصب على المصدر لأن فضل بمعنى أجر أو المفعول الثاني له لتضمنه معنى الإعطاء كأنه قيل : وأعطاهم زيادة على القاعدين أجرا عظيما

96 - { درجات منه ومغفرة ورحمة } كل واحد منها بدل من أجرا ويجوز أن ينتصب درجات على المصدر كقولك ضربته أسواطا وأجرا على الحال عنها تقدمت عليها لأنها نكرة ومغفرة ورحمة على المصدر بإضمار فعليهما كرر تفضيل المجاهدين وبالغ فيه إجمالا وتفصيلا تعظيما للجهاد وترغيبا فيه وقيل : الأول ما خولهم في الدنيا من الغنيمة والظفر وجميل الذكر والثاني ما جعل لهم في الآخرة وقيل المراد بالدرجة الأولى ارتفاع منزلتهم عند الله سبحانه وتعالى وبالدرجات منازلهم في الجنة وقيل القاعدون الأول هم الأضراء والقاعدون الثاني هم الذين أذن لهم في التخلف اكتفاء بغيرهم وقيل المجاهدون الأولون من جاهد الكفار والآخرون من جاهد نفسه وعليه قوله عليه الصلاة و السلام [ رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ] { وكان الله غفورا } لما عسى أن يفرط منهم { رحيما } بما وعد لهم

97 - { إن الذين توفاهم الملائكة } يحتمل الماضي والمضارع وقرئ { توفتهم } و { توفاهم } على المضارع وفيت بمعنى أن الله يوفي الملائكة أنفسهم فيتوفونها أي يمكنهم من استيفائها فيستوفونها { ظالمي أنفسهم } في حال ظلمهم أنفسهم بترك الهجرة وموافقة الكفرة فإنها نزلت في أناس من مكة أسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرة واجبة { قالوا } الملائكة توبيخا لهم { فيم كنتم } أي في أي شيء كنتم من أمر دنياكم { قالوا كنا مستضعفين في الأرض } اعتذروا مما وبخوا به بضعفهم وعجزهم عن الهجرة أو عن إظهار الدين وإعلاء كلمة الله { قالوا } أي الملائكة تكذيبا لهم وتبكيتا { ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } إلى قطر آخر كما فعل المهاجرون إلى المدينة والحبشة { فأولئك مأواهم جهنم } لتركهم الواجب ومساعدتهم الكفار وهو خبر إن والفاء فيه لتضمن الاسم معنى الشرط وقالوا فيما كنتم حال من الملائكة بإضمار قد أو الخبر قالوا والعائد محذوف أي قالوا لهم وهو جملة معطوفة على الجملة التي قبلها مستنتجة منها { وساءت مصيرا } مصيرهم نار جهنم وفي الآية دليل على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن الرجل فيه من إقامة دينه وعن النبي صلى الله عليه و سلم [ من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجبت له الجنة وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد عليهما الصلاة والسلام ]

98 - { إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان } استثناء منقطع لعدم دخولهم في الموصول وضمير الإشارة إليه وذكر الولد إن أريد به المماليك فظاهر وإن أريد به الصبيان فللمبالغة في الأمر والإشعار بأنهم على صدد وجوب الهجرة فإنهم إذا بلغوا وقدروا على الهجرة فلا محيص لهم عنها وأن قوامهم يجب عليهم أن يهاجروا بهم متى أمكنت { لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا } صفة للمستضعفين إذ لا توقيت فيه أو حال منه أو من المستكن فيه واستطاعة الحيلة وجدان أسباب الهجرة وما تتوقف عليه واهتداء السبيل معرفة الطريق بنفسه أو بدليل

99 - { فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم } ذكر بكلمة الإطماع ولفظ العفو إيذانا بأن ترك الهجرة أمر خطير حتى أن المضطر من حقه أن لا يأمن ويترصد الفرصة ويعلق بها قلبه { وكان الله عفوا غفورا }

100 - { ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا } متحولا من الرغام وهو التراب وقيل طريق يراغم قومه بسلوكه أي يفارقهم على رغم أنوفهم وهو أيضا من الرغام { وسعة } في الرزق وإظهار الدين { ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت } وقرئ { يدركه } بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ثم هو يدركه و بالنصب على إضمار أن كقوله :
( سأترك منزلي ببني تميم ... وألحق بالحجاز فأستريحا )
{ فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما } الوقوع والوجوب متقاربان والمعنى : ثبت أجره عند الله تعالى ثبوت الأمر الواجب والآية الكريمة نزلت في جندب بن ضمرة حمله بنوه على سرير متوجها إلى المدينة فلما بلغ التنعيم أشرف على الموت فصفق بيمينه على شماله فقال : الهم هذه لك وهذه لرسولك أبايعك على ما بايع عليه رسولك صلى الله عليه و سلم فمات

101 - { وإذا ضربتم في الأرض } سافرتم { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } بتنصيف ركعاتها ونفي الحرج فيه يدل على جوازه دون وجوبه ويؤيده أن عليه الصلاة و السلام أتم في السفر وأن عائشة رضي الله تعالى عنها [ اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وقالت : يا رسول الله قصرت وأتممت وصمت وأفطرت فقال : أحسنت يا عائشة ] وأوجبه أبو حنيفة لقول عمر رضي الله تعالى عنه : صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه و سلم ولقول عائشة رضي الله تعالى عنها أول ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر فظاهرهما يخالف الآية الكريمة فإن صحا فالأول مؤول بأنه كالتام في الصحة والإجزاء والثاني لا ينفي جواز الزيادة فلا حاجة إلى تأويل الآية بأنهم ألفوا الأربع فكانوا مظنة لأن يخطر ببالهم أن ركعتي السفر قصر ونقصان فسمي الإتيان بهما قصرا على ظنهم ونفي الجنام فيه لتطبيب [ * 1 ] به نفوسهم وأقل سفر تقتصر فيه أربعة برد عندنا وستة عن أبي حنيفة وقرئ { تقصروا } من أقصر بمعنى قصر ومن الصلاة صفة محذوف أي : شيئا من الصلاة عند سيبويه ومفعول تقصروا بزيادة عند الأخفش { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا } شريطة باعتبار الغالب في ذلك الوقت ولذلك لم يعتبر مفهومها كما لم يعتبر في قوله تعالى : { فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به } وقد تظاهرت السنن على جوازه أيضا في حال الأمن وقرئ من الصلاة أن يفتنكم بغير إن خفتم بمعنى كراهة أن يفتنكم : وهو القتال والتعرض بما يكره
[ * 1 ] مكتوبة كما هي في
الكتاب وأعتقد خطأ والصحيح
( لتطييب ) بدون باء

102 - { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } تعلق بمفهومه من خص صلاة الخوف بحضرة الرسول صلى الله عليه و سلم لفضل الجماعة وعامة الفقهاء على أنه تعالى علم الرسول صلى الله عليه و سلم كيفيتها ليأتم به الأئمة بعده فإنهم نواب عنه فيكون حضورهم كحضوره { فلتقم طائفة منهم معك } فاجعلهم طائفتين فلتقم إحداهما معك يصلون وتقوم الطائفة الأخرى وذكر الطائفة الأولى يدل عليهم { فإذا سجدوا } يعني المصلين { فليكونوا } أي غير المصلين { من ورائكم } يحرسونكم يعني النبي صلى الله عليه و سلم ومن يصلي فغلب المخاطب على الغالب { ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا } لاشتغالهم بالحراسة { فليصلوا معك } ظاهره يدل على أن الإمام يصلي مرتين بكل طائفة مرة كما فعله رسول الله صلى الله عليه و سلم ببطن نخل وإن أريد به أن يصلي بكل ركعة إن كانت الصلاة ركعتين فكيفيته أن يصلي بالأولى ركعة وينتظر قائما حتى يتموا صلاتهم منفردين ويذهبوا إلى وجه العدو وتأتي الأخرى فيتم بهم الركعة الثانية ثم ينتظر قاعدا حتى يتموا صلاتهم ويسلموا بهم كما فعله رسول الله صلى الله عليه و سلم بذات الرقاع وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : يصلي بالأولى ركعة ثم تذهب هذه وتقف بإزاء العدو وتأتي الأخرى فتصلي معه ركعة ويتم صلاته ثم تعود إلى وجه العدو وتأتي الأولى فتؤدي الركعة الثانية بغير قراءة وتتم صلاتها ثم تعود وتأتي الأخرى فتؤدي الركعة بقراءة وتتم صلاتها { وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم } جعل الحذر آلة يتحصن بها المغازي فجمع بينه وبين الأسلحة في وجوب الأخذ ونظيره قوله تعالى : { والذين تبوؤوا الدار والإيمان } { ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة } تمنوا أن ينالوا منكم غرة في صلاتكم فيشدون عليكم شدة واحدة وهو بيان ما لأجله أمروا بأخذ الحذر والسلاح { ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم } رخصة لهم في وضعها إذا ثقل عليهم أخذها بسبب مطر أو مرض وهذا مما يؤيد أن الأمر بالأخذ للوجوب دون الاستحباب { وخذوا حذركم } أمرهم مع ذلك بأخذ الحذر كي لا يهجم عليهم العدو { إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا } وعد للمؤمنين بالنصر على الكفار بعد الأمر بالحزم لتقوى قلوبهم وليعلموا أن الأمر بالحزم ليس لضعفهم وغلبة عدوهم بل لأن الواجب أن يحافظوا في الأمور على مراسم التيقظ والتدبر فيتوكلوا على الله سبحانه وتعالى

103 - { فإذا قضيتم الصلاة } أديتم وفرغتم منها { فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم } فداوموا على الذكر في جميع الأحوال أو إذا أردتم أداء الصلاة واشتد الخوف فأدوها كيفما أمكن قياما مسايفين ومقارعين وقعودا مرامين وعلى جنوبكم
مثخنين { فإذا اطمأننتم } سكنت قلوبكم من الخوف { فأقيموا الصلاة } فعدلوا واحفظوا أركانها وشرائطها وائتوا بها تامة { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } فرضا محدود الأوقات لا يجوز إخراجها عن أوقاتها في شيء من الأحوال وهذا دليل على أن المراد بالذكر الصلاة وأنها واجبة الأداء حال المسايفة والاضطراب في المعركة وتعليل للأمر بالإيتاء بها كيفما أمكن وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى لا يصلي المحارب حتى يطمئن

104 - { ولا تهنوا } ولا تضعفوا { في ابتغاء القوم } في طلب الكفار بالقتال { إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون } إلزام لهم وتقريع على التواني فيه بأن ضرر القتال دائر بين الفريقين غير مختص بهم وهم يرجون من الله بسببه من إظهار الدين واستحقاق الثروات ما لا يرجو عدوهم فينبغي أن يكونوا أرغب منهم في الحرب وأصبر عليها وقرئ { إن تكونوا } بالفتح بمعنى ولا تهنوا لأن تكونوا تألمون ويكون قوله فإنهم يألمون علة للنهي عن الوهن لأجله والآية نزلت في بدر الصغرى { وكان الله عليما } بأعمالكم وضمائركم { حكيما } فيما يأمر وينهى

105 - { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس } نزلت في طعمة بن أبيرق من بني ظفر سرق درعا من جاره قتادة بن النعمان في جراب دقيق فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه وخبأها عند زيد بن السمين اليهودي فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد وحلف ما أخذها وماله بها علم فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها فقال دفعها إلى طعمة وشهد له ناس من اليهود فقالت بنو ظفر : انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فسألوه أن يجادل عن صاحبكم وقالوا : إن لم تفعل هلك وافتضح وبرئ اليهودي فهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يفعل { بما أراك الله } بما عرفك الله وأوحى به إليك وليس من الرؤية بمعنى العلم وإلا لاستدعى ثلاثة مفاعيل { ولا تكن للخائنين } أي لأجلهم والذب عنهم { خصيما } للبرآء

106 - { واستغفر الله } مما همت به { إن الله كان غفورا رحيما } لمن يستغفر

107 - { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } يخونونها فإن وبال خيانتهم يعود عليها أو جعل المعصية خيانة لها كما جعلت ظلما عليها والضمير لطعمة وأمثاله أو له ولقومه فإنهم شاركوه في الإثم حيث شهدوا على براءته وخاصموا عنه { إن الله لا يحب من كان خوانا } مبالغا في الخيانة مصرا عليها { أثيما } منهمكا فيها روي : أن طعمة هرب إلى مكة وارتد ونقب حائطا بها ليسرق أهله فسقط الحائط عليه فقتله

108 - { يستخفون من الناس } يستترون منهم حياء وخوفا { ولا يستخفون من الله } ولا يستحيون منه وهو أحق بأن يستحيا ويخاف منه { وهو معهم } لا يخفى عليه سرهم فلا طريق معه إلا ترك ما يستقبحه ويؤاخذ عليه { إذ يبيتون } يدبرون ويزورون { ما لا يرضى من القول } من رمي البريء والحلف الكاذب وشهادة الزور { وكان الله بما يعملون محيطا } لا يفوت عنه شيء

109 - { ها أنتم هؤلاء } مبتدأ وخبر { جادلتم عنهم في الحياة الدنيا } جملة مبينة لوقوع أولاء خبرا أو صلة عند من يجعله موصولا { فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا } محاميا يحميهم من العذاب

110 - { ومن يعمل سوءا } قبيحا يسوء به غيره { أو يظلم نفسه } بما يختص به ولا يتعداه وقيل المراد بالسوء ما دون الشرك وبالظلم الشرك وقيل : الصغيرة والكبيرة { ثم يستغفر الله } بالتوبة { يجد الله غفورا } لذنوبه { رحيما } متفضلا عليه وفيه حث لطعمة وقومه على التوبة والاستغفار

111 - { ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه } فلا يتعداه وباله كقوله تعالى : { وإن أسأتم فلها } { وكان الله عليما حكيما } فهو عالم بفعله حكيم في مجازاته

112 - { ومن يكسب خطيئة } صغيرة أو ما لا عمد فيه { أو إثما } كبيرة أو ما كان على عمد { ثم يرم به بريئا } كما رمى طعمة زيدا ووحد الضمير لمكان أو { فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا } بسبب رمي البريء وتبرئة النفس الخاطئة ولذلك سوى بينهما وإن كان مقترف أحدهما دون مقترف الآخر

113 - { ولولا فضل الله عليك ورحمته } بإعلام ما هم عليه بالوحي والضمير لرسول الله صلى الله عليه و سلم { لهمت طائفة منهم } أي من بني ظفر { أن يضلوك } عن القضاء بالحق مع علمهم بالحال والجملة جواب لولا وليس القصد فيه إلى نفي همهم بل إلى نفي تأثيره فيه { وما يضلون إلا أنفسهم } لأنه ما أزلك عن الحق وعاد وباله عليهم { وما يضرونك من شيء } فإن الله سبحانه وتعالى عصمك وما خطر ببالك كان اعتمادا منك على ظاهر الأمر لا ميلا في الحكم ومن شيء في موضع النصب على المصدر أي شيء من الضرر { وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم } من خفيات الأمور أو من أمور الدين والأحكام { وكان فضل الله عليك عظيما } إذ لا فضل أعظم من النبوة

114 - { لا خير في كثير من نجواهم } من متناجيهم كقوله تعالى : { وإذ هم نجوى } أو من تناجيهم فقوله : { إلا من أمر بصدقة أو معروف } على حذف مضاف أي إلا نجوى من أمر أو على الانقطاع بمعنى ولكن من أمر بصدقة ففي نجواه الخير والمعروف كل ما يستحسنه الشرع ولا ينكره العقل وفسرها هنا بالقرض وإغاثة الملهوف وصدقة التطوع وسائر ما فسر به { أو إصلاح بين الناس } أو إصلاح ذات البين { ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما } بني الكلام على الأمر ورتب الجزاء على الفعل واعتبار الأمر من حيث أنه وصلة إليه وقيد الفعل بأن يقول لطلب مرضاة الله سبحانه وتعالى لأن الأعمال بالنيات وأن كل من فعل خيرا رياء وسمعة لم يستحق به م الله أجرا ووصف الأجر بالعظم تنبيها على حقارة ما فات في جنبه من أعراض الدنيا وقرأ حمزة و أبو عمرو { يؤتيه } بالياء

115 - { ومن يشاقق الرسول } يخالفه من الشق فإن كلا من المتخالفين في شق غير شق الآخر { من بعد ما تبين له الهدى } ظهر له الحق بالوقوف على المعجزات { ويتبع غير سبيل المؤمنين } غير ما هم عليه من اعتقاد أو عمل { نوله ما تولى } نجعله وليا لما تولى من الضلال ونخل بينه وبين ما اختاره { ونصله جهنم } وندخله فيها وقرئ بفتح النون من صلاة { وساءت مصيرا } جهنم والآية تدل على حرمة مخالفة الإجماع لأنه سبحانه وتعالى رتب الوعيد الشديد على المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين وذلك إما لحرمة كل واحد منهما أو أحدهم أو الجمع بينهما والثاني باطل إذ يقبح أن يقال من شرب الخمر وأكل الخبز استوجب الحد وكذا الثالث لأن المشاقة محرمة ضم إليها غيرها أو لم يضم وإذا كان اتباع غير سبيلهم محرما كان اتباع سبيلهم واجبا لأن ترك اتباع سبيلهم ممن عرف سبيلهم اتباع غير سبيلهم وقد استقصيت الكلام فيه في مرصاد الأفهام إلى مبادئ الأحكام

116 - { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } كرره للتأكيد أو لقصة طعمة وقيل [ جاء شيخ إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال : إني شيخ منهك في الذنوب ألا أني لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته وآمنت به ولم اتخذ من دونه وليا ولم أوقع المعاصي جرأة وما توهمت طرفة عين أني أعجز الله هربا وإني لنادم تائب فما ترى حالي عند الله سبحانه وتعالى فنزلت { ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا } ] عن الحق فإن الشرك اعظم أنواع الضلالة وأبعدها عن الصواب والاستقامة وإنما ذكر في الآية الأولى فقد افترى لأنها متصلة بقصة أهل الكتاب ومنشأ شركهم كان نوع افتراء وهو دعوى التبني على الله سبحانه وتعالى
[ * 1 ] في الكتاب كما هي مكتوبة ( بالتشديد )
اعتقد الصواب بدون ( تشديد )

117 - { إن يدعون من دونه إلا إناثا } يعني اللات والعزى ومناة ونحوها كان لكل حي صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بني فلان وذلك إما لتأنيث أسمائها كما قال :
( وما ذكر فإن يسمن فأنثى ... شديد الأزم ليس له ضروس )
فإنه عنى القراد وهو ما كان صغيرا سمي قرادا فإذا كبر سمي حلمة أو لأنها كانت جمادات والجمادات تؤنث من حيث أنها ضاهت الإناث لا نفعا لها ولعله سبحانه وتعالى ذكرها بهذا الإسم تنبيها على أنهم يعبدون ما يسمونه إناثا على لأنه ينفعل ولا يفعل ومن حق المعبود أن يكون فاعلا غير منفعل ليكون دليلا على تناهي جهلهم وفرط حماقتهم وقيل المراد الملائكة لقولهم : الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى وهو جمع أنثى كرباب وربى وقرئ { أنثى } على التوحيد وأننا على أنه جمع أنيث كخبث وخبيث ووثنا بالتخفيف ووثنا بالتثقيل وهو جمع وثن كأسد وأسد وأسد وأثنا وأثنا بهما على قلب الواو لضمها همزة { وإن يدعون } وإن يعبدون بعبادتها { إلا شيطانا مريدا } لأنه الذي أمرهم بعبادتها وأغراهم عليها فكأن في طاعته في ذلك عبادة له والمارد والمريد الذي لا يعلق بخير وأصل التركيب للملابسة ومنه { صرح ممرد } وغلام أمرد وشجرة مرداء للتي تناثر ورقها

118 - { لعنه الله } صفة ثانية للشيطان { وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا } عطف عليه أي شيطانا مريدا جامعا بين لعنة الله وهذا القول الدال على فرط عداوته للناس
وقد برهن سبحانه وتعالى أولا على أن الشرك ضلال في الغاية على سبيل التعليل بأن ما يشركون به ينفعل ولا يفعل فعلا اختياريا وذلك ينافي الألوهية غاية المنافاة فإن الإله ينبغي أن يكون فاعلا غير منفعل ثم استدل عليه أنه عبادة الشيطان وهي أفظع الضلال لثلاثة أوجه الأول : أنه مريد منهمك في الضلال لا يعلق بشيء من الخير والهدى فتكون طاعته ضلالا بعيدا عن الهدى والثاني : أنه ملعون لضلاله فلا تستجلب مطاوعته سوى الضلال واللعن والثالث : أنه في غاية العداوة والسعي في إهلاكهم وموالاة من هذا شأنه غاية الضلال فضلا عن عبادته والمفروض المقطوع أي نصيبا قدر لي وفرض من قولهم فرض له في العطاء

119 - { ولأضلنهم } عن الحق { ولأمنينهم } الأماني الباطلة كطول الحياة وأن لا بعث ولا عقاب { ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام } يشقونها لتحريم ما أحل الله وهي عبارة عما كانت العرب تفعل بالبحائر والسوائب وإشارة إلى تحريم ما أحل ونقص كل ما خلق كاملا بالفعل أو القوة { ولآمرنهم فليغيرن خلق الله } عن وجهه وصورته أو صفته ويندرج فيه ما قيل من فقء عين الحامي وخصاء العبيد والوشم والوشر واللواط والسحق ونحو ذلك وعبادة الشمس والقمر وتغيير فطرة الله سبحانه وتعالى التي هي الإسلام واستعمال الجوارح والقوى فيما لا يعود على النفس كمالا ولا يوجب لها من الله سبحانه وتعالى زلفى وعموم اللفظ يمنع الخصاء مطلقا لكن الفقهاء خصوا في خصاء البهائم للحاجة والجمل الأربع حكاية عما ذكره الشيطان نطقا أو أتاه فعلا { ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله } بإيثاره ما يدعوا إليه على ما أمر الله به ومجاوزته عن طاعة الله إلى طاعته { فقد خسر خسرانا مبينا } إذا ضيع رأس ماله وبدله مكانه من الجنة بمكان من النار

120 - { يعدهم } ما لا ينجزه { ويمنيهم } ما لا ينالون { وما يعدهم الشيطان إلا غرورا } وهو إظهار النفع فيما فيه الضرر وهذا الوعد إما بالخواطر الفاسدة أو بلسان أوليائه

121 - { أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا } معدلا ومهربا من حاص يحيص إذا عدل وعنها حال منه وليس صلة له لأنه اسم مكان وإن جعل مصدرا فلا يعمل أيضا فيما قبله

122 - { والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا } أي وعده وعدا وحق ذلك حقا فالأول مؤكد لنفسه لأن مضمون الجملة الإسمية التي قبله وعد والثاني مؤكد لغيره ويجوز أن ينصب الموصول بفعل يفسره ما بعده ووعد الله بقوله { سندخلهم } لأنه بمعنى نعدهم إدخالهم وحقا على أنه حال من المصدر { ومن أصدق من الله قيلا } جملة مؤكدة بليغة والمقصود من الآية معارضة المواعيد الشيطانية الكاذبة لقرنائه بوعد الله الصادق لأوليائه والمبالغة في توكيده ترغيبا للعباد في تحصيله

123 - { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب } أي ليس ما وعد الله من الثواب ينال بأمانيكم أيها المسلمون ولا بأماني أهل الكتاب وإنما ينال بالإيمان والعمل الصالح وقيل : ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل روي ( أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أولي بالله منكم وقال المسلمون : نحن أولى منكم نبينا خاتم النبيين وكتابنا يقضي على الكتب المتقدمة ) فنزلت وقيل : الخطاب مع المشركين ويدل عليه تقدم ذكرهم أي : ليس الأمر بأماني المشركين وهو قولهم لا جنة ولا نار وقولهم إن كان الأمر كما يزعم هؤلاء لنكونن خيرا منهم وأحسن حالا ولا أماني أهل الكتاب وهو قولهم : { لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى } وقولهم : { لن تمسنا النار إلا أياما معدودة } ثم قرر ذلك وقال : { من يعمل سوءا يجز به } عاجلا أو آجلا لما روي [ أنها لما نزلت قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه : فمن ينجوا مع هذا يا رسول الله فقال عليه الصلاة و السلام : أما تحزن أما تمرض أما يصيبك الأراء ؟ قال : بلى يا رسول الله قال : هو ذاك ] { ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا } ولا يجد لنفسه إذا جاوز موالاة الله ونصرته من يواليه وينصره في دفع العذاب عنه

124 - { ومن يعمل من الصالحات } بعضها أو شيئا منها فإن كل أحد لا يتمكن من كلها وليس مكلفا بها { من ذكر أو أنثى } في موضع الحال من المستكن في يعمل و { من } للبيان أو من الصالحات أي كائنة من ذكر أو أنثى ومن للابتداء { وهو مؤمن } حال شرط اقتران العمل بها في استدعاء الثواب المذكور وتنبيها على أنه لا اعتداد به دونه فيه { فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا } بنقص شيء من الثواب وإذا لم ينقص ثواب المطيع فبالحري أن لا يزاد عقاب العاصي لأن المجازي أرحم الراحمين ولذلك اقتصر على ذكره عقيب الثواب وقرأ ابن كثير و أبو عمرو و أبو بكر { يدخلون الجنة } هنا وفي غافر و مريم بضم الياء وفتح الخاء والباقون بفتح الياء وضم الخاء

125 - { ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله } أخلص نفسه لله لا يعرف لها ربا سواه وقيل بذل وجهه له في السجود وفي هذا الاستفهام تنبيه على أن ذلك منتهى ما تبلغه القوة البشرية { وهو محسن } آت بالحسنات تارك للسيئات { واتبع ملة إبراهيم } الموافقة لدين الإسلام المتفق على صحتها { حنيفا } مائلا عن سائر الأديان وهو حال من المتبع أو من الملة أو إبراهيم { واتخذ الله إبراهيم خليلا } اصطفاه وخصصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله وإنما أعاد ذكره ولم يضمر تفخيما لشأنه وتنصيصا على أنه الممدوح والخلة من الخلال فإنه ود تخلل النفس وخالطها قيل من الخلل فإن كان واحد من الخليلين يسد خلل الآخر أو من الخل وهو الطريق في الرمل فإنهما يترافقان في الطريقة أو من الخلة بمعنى الخصلة فإنهما يتوافقان في الخصال والجملة استئناف جيء بها للترغيب في اتباع ملته صلى الله عليه و سلم والإيذان بأنه نهاية في الحسن وغاية كمال البشر روي ( أن إبراهيم عليه الصلاة و السلام بعث إلى خليل له بمصر في أزمة أصابت الناس يمتاز منه فقال خليله : لو كان إبراهيم يريد لنفسه لفعلت ولكن يريد للأضياف وقد أصابنا ما أصاب الناس فاجتاز غلمانه ببطحاء لينة فملؤوا منها الغرائر حياء من الناس فلما أخبروا إبراهيم ساءه الخبر فغلبته عيناه فنام وقامت سارة إلى غرارة منها فأخرجت حوارى واختبزت فاستيقظ إبراهيم عليه السلام فاشتم رائحة الخبز فقال : من أين لكم هذا ؟ فقالت : من خليلك المصري بل هو من عند خليلي الله عز و جل فسماه الله خليلا )

126 - { ولله ما في السموات وما في الأرض } خلقا وملكا يختار منهما من يشاء وما يشاء وقيل هو متصل بذكر العمال مقرر لوجوب طاعته على أهل السموات والأرض وكمال قدرته مجازاتهم على الأعمال { وكان الله بكل شيء محيطا } إحاطة علم وقدرة فكان عالما بأعمالهم فيجازيهم على خيرها وشرها

127 - { ويستفتونك في النساء } في ميراثهن إذ سبب نزوله [ أن عيينة بن حصن أتى الرسول صلى الله عليه و سلم فقال : أخبرنا أنك تعطي الابنة النصف والأخت النصف وإنما كنا نورث من يشهد القتال ويجوز الغنيمة فقال عليه الصلاة و السلام : كذلك أمرت ] { قل الله يفتيكم فيهن } يبين لكم حكمه فيهن والافتاء تبيين المبهم { وما يتلى عليكم في الكتاب } عطف على اسم الله تعالى أو ضميره المستكن في يفتيكم وساغ للفصل فيكون الإفتاء مسندا إلى الله سبحانه وتعالى وإلى ما في القرآن من قوله تعالى : { يوصيكم الله } ونحوه والفعل الواحد ينسب إلى فاعلين مختلفين باعتبارين مختلفين ونظيره أغناني زيد وعطاؤهن أو استئناف لتعظيم المتلو عليهم على أن ما يتلى عليكم مبتدأ وفي الكتاب خبره والمراد به اللوح المحفوظ ويجوز أن ينصب على معنى ويبين لكم ما يملي عليكم أو يخفض على القسم كأنه قيل : وأقسم بما يتلى عليكم في الكتاب ولا يجوز عطفه على المجرور في فيهن لاختلاله لفظا ومعنى { في يتامى النساء } صلة يتلى إن عطف الموصول على ما قبله أي يتلى عليكم في شأنهن وإلا فبدل من فيهن أو صلة أخرى ليفتيكم على معنى الله يفتيكم فيهن بسبب يتامى النساء كم تقول : كلمتك اليوم في زيد وهذه الإضافة بمعنى من لأنها إضافة الشيء إلى جنسه وقرئ ييامى بياءين على أنه أيامى فقلبت همزته ياء { اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن } أي فرض لهن من الميراث { وترغبون أن تنكحوهن } في أن تنكحوهن أو عن أن تنكحوهن فإن أولياء اليتامى كانوا يرغبون فيهن إن كن جميلات ويأكلون مالهن وإلا كانوا يعضلونهن طمعا في ميراثهن والوا تحتمل الحال والعطف وليس فيه دليل على جواز تزويج اليتيمة إذ لا يلزم من الرغبة في نكاحها جريان العقد في صغرها { والمستضعفين من الولدان } عطف على يتامى النساء والعرب ما كانوا يورثونهم كما لا يورثون النساء { وأن تقوموا لليتامى بالقسط } أيضا عطف عليه أي ويفتيكم أو ما يتلى في أن تقوموا هذا إذا جعلت في يتامى صلة لأحدهما فإن جعلته بدلا فالوجه نصبهما عطفا على موضع فيهن ويجوز أن ينصب وأن تقوموا بإضمار فعل أي : ويأمركم أن تقوموا وهو خطاب للأئمة في أن ينظروا لهم ويستوفوا حقوقهم أو للقوام بالنصفة في شأنهم { وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما } وعد لمن آثر الخير في ذلك

128 - { وإن امرأة خافت من بعلها } توقعت منه لما ظهر لها من المخايل وامرأة فاعل فعل يفسره الظاهر { نشوزا } تجافيا عنها وترفعا عن صحبتها كراهة لها ومنعا لحقوقها { أو إعراضا } بأن يقل مجالستها ومحادثتها { فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا } أن يتصالحا بأن تحط له بعض المهر أ القسم أو تهب له شيئا تستميله به وقرأ الكوفيون { أن يصلحا } من أصلح بين المتنازعين وعلى هذا جاز أن ينتصب صالحا على المفعول به وبينهما ظرف أو حال منه أو على المصدر كما في القراءة الأولى والمفعول بينهما أو هو محذوف وقرئ { يصلحا } من أصلح بمعنى أصطلح { والصلح خير } من الفرقة أو سوء العشرة أو من الخصومة ولا يجوز أن يراد به التفضيل بل بيان أنه من الخيور كما أن الخصومة من الشرور وهو اعتراض وكذا قوله : { وأحضرت الأنفس الشح } ولذلك اغتفر عدم مجانستهما والأول للترغيب في المصالحة والثاني لتمهيد العذر في المماكسة ومعنى إحضار الأنفس الشح جعلها حاضرة عليه مطبوعة عليه فلا تكاد المرأة تسمح بالإعراض عنها والتقصير في حقها ولا الرجل يسمح بأن يمسكها ويقوم بحقها على ما ينبغي إذا كرهها أو أحب غيرها { وإن تحسنوا } في العشرة { وتتقوا } النشوز والإعراض ونقص الحق { فإن الله كان بما تعملون } من الإحسان والخصومة { خبيرا } عليما به وبالغرض فيه فيجازيكم عليه أقام كونه عالما بأعمالهم مقام إثباته إياهم عليها الذي هو في الحقيقة جواب الشرط إقامة للسبب مقام المسبب

129 - { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء } لأن العدل أن لا يقع ميل البتة وهو متعذر فلذلك كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقسم بين نسائه فيعدل ويقول : [ هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك ] { ولو حرصتم } أي على تحري ذلك وبالغتم فيه { فلا تميلوا كل الميل } بترك المستطاع والجور على المرغوب عنها فإن ما لا يدرك كله لا يترك جله { فتذروها كالمعلقة } التي ليست ذات بعل ولا مطلقة وعن النبي صلى الله عليه و سلم [ من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل ] { وإن تصلحوا } ما كنتم تفسدون من أمورهن { وتتقوا } فيم يستقبل من الزمان { فإن الله كان غفورا رحيما } يغفر لكم ما مضى من ميلكم

130 - { وإن يتفرقا } وقرئ وأن يفارق كل منهما صاحبه { يغن الله كلا } منهما عن الآخر ببدل أو سلوة { من سعته } غناه وقدرته { وكان الله واسعا حكيما } مقتدرا متقنا في أفعاله وأحكامه

131 - { ولله ما في السماوات وما في الأرض } تنبيه على كمال سعته وقدرته { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } يعني اليهود والنصارى ومن قبلهم و { الكتاب } للجنس و { من } متعلقة ب { وصينا } أو ب { أوتوا } ومساق الآية لتأكيد الأمر بالإخلاص { وإياكم } عطف على الذين { أن اتقوا الله } بأن اتقوا الله ويجوز أن تكون أن مفسرة لأن التوصية في معني القول { وإن تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض } على إرادة القول أي : وقلنا لهم ولكم أن تكفروا فإن الله مالك الملك كله لا يتضرر بكفركم ومعاصيكم كما لا ينتفع بشكركم وتقواكم وإنما وصاكم لرحمته لا لحاجته ثم قرر ذلك بقوله : { وكان الله غنيا } عن الخلق وعبادتهم { حميدا } في ذاته حمد وإن لم يحمد

132 - { ولله ما في السموات وما في الأرض } ذكره ثالثا للدلالة على كونه غنيا حميدا فإن جميع المخلوقات تدلي بحاجتها على غناه وبما أفاض عليها من الوجود وأنواع الخصائص والكمالات على كونه حميدا { وكفى بالله وكيلا } راجع إلى قوله { يغن الله كلا من سعته } فإنه توكل بكفايتهما وما بينهما تقرير لذلك

133 - { إن يشأ يذهبكم أيها الناس } يفنكم ومفعول يشأ محذوف دل عليه الجواب { ويأت بآخرين } ويوجد قوما آخرين أو خلقا آخرين مكان الأنس { وكان الله على ذلك } من الإعدام والإيجاد { قديرا } بليغ القدرة لا يعجزه مراد وهذا أيضا تقرير لغناه وقدرته وتهديد لمن كفر به وخالف أمره وقيل : هو خطاب لمن عادى رسول الله صلى الله عليه و سلم من العرب ومعناه معنى قوله تعالى : { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم } لما روي : [ أنه لما نزلت ضرب رسول الله صلى الله عليه و سلم يده على ظهر سلمان وقال : إنهم قوم هذا ]

134 - { من كان يريد ثواب الدنيا } كالمجاهد يجاهد للغنيمة { فعند الله ثواب الدنيا والآخرة } فما له يطلب أخسهما فليطلبهما كمن يقول : { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة } أو ليطلب الأشرف منهما فإن من جاهد خالصا لله سبحانه وتعالى لم تخطئه الغنيمة وله في الآخرة ما هي جنبه كلا شيء أو فعند الله دارين فيعطي كلا ما يريده كقوله تعالى : { من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه } الآية { وكان الله سميعا بصيرا } عالما بالأغراض فيجازي كلا بحسب قصده

135 - { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط } مواظبين على العدل مجتهدين في إقامته { شهداء لله } بالحق تقيمون شهاداتكم لوجه الله سبحانه وتعالى وهو خبر ثاني أو حال { ولو على أنفسكم } ولو كانت الشهادة على أنفسكم بأن تقروا عليها لأن الشهادة بيان للحق سواء كان عليه أو على غيره { أو الوالدين والأقربين } ولو على والديكم وأقاربكم { إن يكن } أي المشهود عليه أو كل واحد منه ومن المشهود له { غنيا أو فقيرا } فلا تمتنعوا عن إقامة الشهادة أو لا تجوروا فيها ميلا أو ترحما { فالله أولى بهما } بالغني والفقير وبالنظر لهما فلو لم تكن الشهادة عليهما أو لهما صلاحا لما شرعها وهو علة الجواب أقيمت مقامه والضمير في بهما راجع لما دل عليه المذكور وهو جنسا الغني والفقير لا إليه وإلا لوحد ويشهد عليه أنه قرئ { فالله أولى بهم } { فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا } لأن تعدلوا عن الحق أو كراهة أن تعدلوا من العدل { وإن تلووا } ألسنتكم عن شهادة الحق أو حكومة العدل قرأ÷ نافع و ابن كثير و أبو بكر و أبو عمرو و عاصم و الكسائي بإسكان اللام وبعدها واوان الأولى مضمومة والثانية ساكنة وقرأ حمزة و ابن عامر { وإن تولوا } بمعنى وإن وليتم إقامة الشهادة فأديتموها { أو تعرضوا } عن أدائها { فإن الله كان بما تعملون خبيرا } فيجازيكم عليه

136 - { يا أيها الذين آمنوا } خطاب للمسلمين أو للمنافقين أو لمؤمني أهل الكتاب إذ روي : أن ابن سلام وأصحابه قالوا يا رسول الله : إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سواه فنزلت { آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل } اثبتوا على الإيمان بذلك وداوموا عليه أو آمنوا به بقلوبكم كما آمنتم بألسنتكم أو آمنوا إيمانا عاما يعم الكتب والرسل فإن الإيمان بالعض كلا إيمان والكتاب الأول القرآن والثاني الجنس وقرأ نافع والكوفيون : { الذي نزل } و { الذي أنزل } بفتح النون والهمزة والزاي والباقون بضم النون والهمزة وكسر الزاي { ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر } أي ومن يكفر بشيء من ذلك { فقد ضل ضلالا بعيدا } عن المقصد بحيث لا يكاد يعود إلى طريقه

137 - { إن الذين آمنوا } يعني اليهود آمنوا بموسى عليه الصلاة و السلام { ثم كفروا } حين عبدوا العجل { ثم آمنوا } بعد عوده إليهم { ثم كفروا } بعيسى عليه الصلاة و السلام { ثم ازدادوا كفرا } بمحمد صلى الله عليه و سلم أو قوما تكرر منهم الارتداد ثم أصروا على الكفر وازدادوا تماديا في الغي { لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا } إذ يستبعد منهم أن يتوبوا عن الكفر ويثبتوا على الإيمان فإن قلوبهم ضربت بالكفر وبصائرهم عميت عن الحق لا أنهم لو أخلصوا الإيمان لم يقبل منهم ولم يغفر لهم وخبر كان في أمثال ذلك محذوف تعلق به اللام مثل : لم يكن الله مريدا ليغفر لهم

138 - { بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما } يدل على أن الآية في المنافقين وهم قد آمنوا في الظاهر وكفروا في السر مرة بعد أخرى ثم ازدادوا بالإصرار على النفاق وإفساد الأمر على المؤمنين ووضع { بشر } مكان أنذر تهكم بهم

139 - { الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } في محل النصب أو الرفع على الذم بمعنى أريد الذين أو هم الذين { أيبتغون عندهم العزة } أيتعززون بموالاتهم { فإن العزة لله جميعا } لا يتعزز إلا من أعزه الله وقد كتب العزة لأوليائه فقال : { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } ولا يؤبه بعزة غيرهم بالإضافة إليهم

140 - { وقد نزل عليكم في الكتاب } يعني القرآن وقرأ عاصم { نزل } وقرأ الباقون { نزل } على البناء للمفعول والقائم مقام فاعله { أن إذا سمعتم آيات الله } وهي المخففة والمعنى أنه إذا سمعتم { يكفر بها ويستهزأ بها } حالان من الآيات جيء بهما لتقييد النهي عن المجالسة في قوله : { فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره } الذي هو جزاء الشرط بما إذا كان من يجالسه هازئا معاندا غير مرجو ويؤيده الغاية وهذا تذكار لما نزل عليهم بمكة من قوله : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم } الآية والضمير في معهم للكفرة المدلول عليهم بقوله يكفر بها ويستهزأ بها { إنكم إذا مثلهم } في الإثم لأنكم قادرون على الاعراض عنهم والانكار عليهم أو الكفر إن رضيتم بذلك أو لأن الذين يقاعدون الخائضين في القرآن من الأحبار كانوا منافقين ويدل عليه : { إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا } يعني القاعدين والمقعود معهم وإذا ملغاة لوقوعها بين الاسم والخبر ولذلك لم يذكر بعدها الفعل وإفراد مثلهم لأنه كالمصدر أو للاستغناء بالإضافة إلى الجمع وقرئ بالفتح على البناء لإضافته إلى مبني كقوله تعالى : { مثل ما أنكم تنطقون }

141 - { الذين يتربصون بكم } ينتظرون وقوع أمر بكم وهو بدل من الذين يتخذون أو صفة للمنافقين و الكافرين أو ذم مرفوع أو منصوب أو مبتدأ خبره { فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم } مظاهرين لكم فأسهموا لنا مما غنمتم { وإن كان للكافرين نصيب } من الحرب فإنها سجال { قالوا ألم نستحوذ عليكم } أي قالوا للكفرة : ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم فأبقينا عليكم والاستحواذ الاستيلاء وكان القياس أن يقال استحاذ يستحيذ استحاذة فجاءت على الأصل { ونمنعكم من المؤمنين } بأن خذلناهم بتخييل ما ضعفت به قلوبهم وتوانينا في مظاهرتهم فأشركونا فيما أصبتم وإنما سمي ظفر المسلمين فتحا وظفر الكافرين نصيبا لخسة حظهم لأنه مقصور على أمر دنيوي سريع الزوال { فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } حينئذ أو في الدنيا والمراد بالسبيل الحجة واحتج به أصحابنا على فساد شراء الكافر المسلم والحنفية على حصول البينونة بنفس الارتداد وهو ضعيف لأنه لا ينفي كونه أن يكون إذا عاد إلى الإيمان قبل مضي العدة

142 - { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم } سبق الكلام فيه أول سورة البقرة { وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى } متثاقلين كالمكره على الفعل وقرئ { كسالى } بالفتح وهما جمعا كسلان { يراؤون الناس } ليخالوهم مؤمنين المراءاة مفاعلة بمعنى التفعيل كنعم وناعم أو للمقابلة فإن المرائي يري من يرائيه عمله وهو يريه استحسانه { ولا يذكرون الله إلا قليلا } إذ المرائي لا يفعل إلا بحضرة من يرائيه وهو أقل أحواله أو لأن ذكرهم باللسان قليل بالإضافة إلى ذكر القلب وقيل المراد بالذكر الصلاة وقيل الذكر فيها فإنهم لا يذكرون فيها غير التكبير والتسليم

143 - { مذبذبين بين ذلك } حال من واو { يراؤون } كقوله : { ولا يذكرون } أي يراؤونهم غير ذاكرين مذبذبين أو واو يذكرون أو منصوب على الذم والمعنى : مرددين بين الإيمان والكفر من الذبذبة وهي جعل الشيء مضطربا وأصله الذي بمعنى الطرد وقرئ بكسر الذال بمعنى يذبذبون قلوبهم أو دينهم أو يتذبذبون كقولهم : صلصل بمعنى تصلصل وقرئ بالدال غير المعجمة بمعنى أخذوا تارة في دبة وتارة في دبة وهي الطريقة { لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء } لا منسوبين إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين أو لا صائرين إلى أحد الفريقين بالكلية { ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا } إلى الحق والصواب ونظيره قوله تعالى : { ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور }

144 - { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين } فإنه صنيع المنافقين ودينه فلا تتشبهوا بهم { أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا } حجة بينة فإن موالاتهم دليل على النفاق أو سلطانا يسلط عليكم عقابه

145 - { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } وهو الطبقة التي في قعر جهنم وإنما كان كذلك لأنهم أخبث الكفرة إذ ضموا إلى الكفر استهزاء بالإسلام وخداعا للمسلمين وأم قوله عليه الصلاة و السلام [ ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم : من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان ] ونحوه فمن باب التشبيه والتغليظ وإنما سميت طبقاتها السبع دركات لأنها متداركة متتابعة بعضها فوق بعض وقرأ الكوفيون بسكون الراء وهي لغة وكالسطر والسطر والتحريك أوجه لأنه يجمع على إدراك { ولن تجد لهم نصيرا } يخرجهم منه

146 - { إلا الذين تابوا } عن النفاق { وأصلحوا } ما أفسدوا من أسرارهم وأحوالهم في حال النفاق { واعتصموا بالله } وثقوا به أو تمسكوا بدينه { وأخلصوا دينهم لله } لا يريدون بطاعتهم إلا وجهه الكريم سبحانه وتعالى { فأولئك مع المؤمنين } ومن عدادهم في الدارين { وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما } فيساهمونهم فيه

147 - { ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم } أيتشفى به غيظا أو يدفع به ضررا أو يستجلب به نفعا وهو الغني المتعالي عن النفع والضرر وإنما يعاقب المصر بكفره لأن إصراره عليه كسوء مزاج يؤدي إلى مرض فإذا أزاله بالإيمان والشكر - ونفى نفسه عنه - تخلص من تبعته وإنما قدم الشكر لأن الناظر يدرك النعمة أولا فيشكر شكرا مبهما ثم يمعن النظر حتى يعرف المنعم فيؤمن به { وكان الله شاكرا } مثيبا يقبل اليسير ويعطي الجزيل { عليما } بحق شكركم وإيمانكم

148 - { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم } إلا من ظلم بالدعاء على الظالم والتظلم منه وروي أن رجلا ضاف قوما فلم يطعموه فاشتكاهم فعوتب عليه فنزلت وقرئ من ظلم على البناء للفاعل فيكون الاستثناء منقطعا أي ولكن الظالم يفعل ما لا يحبه الله { وكان الله سميعا } لكلام المظلوم { عليما } بالظالم

149 - { إن تبدوا خيرا } طاعة وبرا { أو تخفوه } أو تفعلوه سرا { أو تعفوا عن سوء } لكم المؤاخذة عليه وهو المقصود وذكر إبداء الخير وإخفائه تشبيب له ولذلك رتب عليه قوله { فإن الله كان عفوا قديرا } أي يكثر العفو عن العصاة مع كمال قدرته على الانتقام فأنتم أولى بذلك وهو حث للمظلوم على العفو بعدما رخص له في الانتظار حملا على مكارم الأخلاق

150 - { إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله } بأن يؤمنوا بالله ويكفروا برسله { ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض } نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعضهم { ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا } طريقا وسطا بين الإيمان والكفر لا واسطة : إذ الحق لا يختلف فإن الإيمان بالله سبحانه وتعالى لا يتم إلا بالإيمان برسله وتصديقهم فيما بلغوا عنه تفصيلا وإجمالا فالكافر ببعض ذلك كالكافر بالكل في الضلال كما قال الله تعالى : { فماذا بعد الحق إلا الضلال }

151 - { أولئك هم الكافرون } هم الكاملون في الكفر لا عبرة بإيمانهم هذا { حقا } مصدر مؤكد لغيره أو صفة لمصدر الكافرين بمعنى : هم الذين كفروا كفرا حقا أي يقينا محققا { وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا }

152 - { والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم } أضدادهم ومقابلوهم وإنما دخل بين على أحد وهو يقتضي متعددا لعمومه من حيث إنه وقع في سياق النفي { أولئك سوف يؤتيهم أجورهم } الموعودة لهم وتصديره بسوف لتأكيد الوعد والدلالة على أنه كائن لا محالة وإن تأخر وقرأ حفص عن عاصم و قالون عن يعقوب بالياء على تلوين الخطاب { وكان الله غفورا } لما فرط منهم { رحيما } عليهم بتضعيف حسناتهم

153 - { يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء } نزلت في أحبار اليهود قالوا : إن كنت صادقا فائتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى به موسى عليه السلام وقيل : كتابا محررا بخط سماوي على ألواح كما كانت التوراة أو كتابا نعاينه حين ينزل أو كتابا إلينا بأعياننا بأنك رسول الله { فقد سألوا موسى أكبر من ذلك } جواب شرط مقدر أي : إن استكبرت ما سألوه منك فقد سألوا موسى عليه السلام أكبر منه وهذا السؤال وإن كان من آبائهم أسند إليهم لأنهم كانوا آخذين بمذهبهم تابعين لهديهم والمعنى إن عرقهم راسخ في ذلك وأن ما اقترحوه عليك ليس بأول جهالاتهم وخيالاتهم { فقالوا أرنا الله جهرة } عيانا أرناه نره جهرة أو مجاهرين معاينين له { فأخذتهم الصاعقة } نار جاءت من قبل السماء فأهلكتهم { بظلمهم } بسبب ظلمهم وهو تعنتهم وسؤالهم ما يستحيل في تلك الحال التي كانوا عليها وذلك لا يقتضي امتناع الرؤية مطلقا { ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات } هذه الجناية الثانية التي اقترفها أيضا أوائلهم والبينات المعجزات ولا يجوز حملها على التوراة إذ لم تأتهم بعد { فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا } تسلطا ظاهرا عليهم حين أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم توبة عن اتخاذهم

154 - { ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم } بسبب ميثاقهم ليقبلوه { وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا } على لسان موسى والطور مظل عليهم { وقلنا لهم لا تعدوا في السبت } على لسان داود عليه الصلاة و السلام ويحتمل أن يراد على لسان موسى حين ظلل الجبل عليهم فإنه شرع السبت ولكن كان الاعتداء فيه والمسخ به في زمن داود عليه الصلاة و السلام وقرأ ورش عن نافع { لا تعدوا } على أن أصله لا تتعدوا فأدغمت التاء في الدال وقرأ قالون بإخفاء حركة العين وتشديد الدال والنص عنه بالإسكان { وأخذنا منهم ميثاقا غليظا } على ذلك وهو قولهم سمعنا وأطعنا

155 - { فبما نقضهم ميثاقهم } أي فخالفوا ونقضوا ففعلنا بهم ما فعلنا بنقضهم وما مزيدة للتأكيد والياء متعلقة بالفعل المحذوف ويجوز أن تتعلق بحرمنا عليهم طيبات فيكون التحريم بسبب النقص وما عطف عليه إلى قوله فبظلم لا بما دل عليه قوله : { بل طبع الله عليها } مثل لا يؤمنون لأنه رد لقولهم قلوبنا غلف فيكون من صلة وقولهم المعطوف على المجرور فلا يعمل في جاره { وكفرهم بآيات الله } بالقرآن أو بما جاء في كتابهم { وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف } أوعية للعلوم أو في أكنة مما تدعونا إليه { بل طبع الله عليها بكفرهم } فجعلها محجوبة عن العلم أو خذلها ومنعها التوفيق للتدبر في الآيات والتذكر في المواعظ { فلا يؤمنون إلا قليلا } منهم كعبد الله بن سلام أو إيمانا قليلا إذ لا عبر به لنقصانه

156 - { وبكفرهم } بعيسى عليه الصلاة و السلام وهو معطوف على وبكفرهم لأنه من أسباب الطبع أو على قوله : { فبما نقضهم } ويجوز أن يعطف مجموع هذا وما عطف عليه على مجموع ما قبله ويكون تكرير ذكر الكفر إيذانا بتكرر كفرهم فإنهم كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمد عليه الصلاة و السلام { وقولهم على مريم بهتانا عظيما } يعني نسبتها إلى الزنا

157 - { وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله } أي بزعمهم ويحتمل أنهم قالوه استهزاء ونظيره أن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون وأن يكون استئنافا من الله سبحانه وتعالى بمدحه أو وضعا للذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح { وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم } روي ( أن رهطا من اليهود سبوه وأمه فدعا عليهم فمسخهم الله تعالى قردة وخنازير فاجتمعت اليهود على قتله فأخبره الله تعالى بأنه يرفعه إلى السماء فقال لأصحابه : أيكم يرضى أن يلقى عليه شبهي فيقتل ويصلب ويدخل الجنة فقام رجل منهم فألقى الله عليه شبهه فقتل وصلب ) وقيل ( كان رجلا ينافقه فخرج ليدل عليه فألقى الله عليه شبهه فأخذ وصلب وقتل ) وقيل : ( دخل طيطانوس اليهودي بيتا كان هو فيه فلم يجده وألقى الله عليه شبهه فلما خرج ظن أنه عيسى فأخذ وصلب ) وأمثال ذلك من الخوارق التي لا تستبعد في زمان النبوة وإنما ذمهم الله سبحانه وتعالى بما دل عليه الكلام من جراءتهم على الله سبحانه وتعالى وقصدهم قتل نبيه المؤيد بالمعجزات الباهرة وتبجحهم به لا بقولهم هذا على حسب حسبانهم و { شبه } مسند إلى الجار والمجرور كأنه قيل ولكن وقع لهم التشبيه بين عيسى والمقتول أو في الأمر على قول من قال : لم يقتل أحد ولكن أرجف بقتله فشاع بين الناس أو إلى ضمير المقتول لدلالة إنا قتلنا على أن ثم قتيلا { وإن الذين اختلفوا فيه } في شأن عيسى عليه الصلاة و السلام فإنه لما وقعت تلك الواقعة اختلف الناس فقال بعض اليهود : إنه كان كذبا فقتلناه حقا وتردد آخرون فقال بعضهم : إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا وقال بعضهم : الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا وقال من سمع منه أن الله سبحانه وتعالى يرفعني إلى السماء : أنه رفع إلى السماء وقال قوم : صلب الناسوت وصعد اللاهوت { لفي شك منه } لفي تردد والشك كما يطلق على ما لا يترجح أحد طرفيه يطلق على مطلق التردد وعلى ما يقابل العلم ولذلك أكده بقوله : { ما لهم به من علم إلا اتباع الظن } استثناء منقطع أي لكنهم يتبعون الظن ويجوز أن يفسر الشك بالجهل والعلم بالاعتقاد الذي تسكن إليه النفس جزما كان أو غيره فيتصل الاستثناء { وما قتلوه يقينا } قتلا يقينا كما زعموه بقولهم { إنا قتلنا المسيح } أو متيقنين وقيل معناه ما علموه يقينا كقول الشاعر :
( كذاك تخبر العالمات بها ... وقد قتلت بعلمي ذلكم يقينا )
من قولهم قتلت الشيء علما ونحرته علما إذا أردت أن تبالغ في علمك

158 - { بل رفعه الله إليه } وإنكار لقتله وإثبات لرفعه { وكان الله عزيزا } لا يغلب على ما يريده { حكيما } فيما دبره لعيسى عليه الصلاة و السلام

159 - { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته } أي وما من أهل الكتاب من أحد إلا ليؤمنن به فقوله { ليؤمنن به } جملة قسمية وقعت صفة لأحد ويعود إليه الضمير الثاني والأول لعيسى عليه الصلاة و السلام والمعنى ما من اليهود والنصارى أحد إلا ليؤمنن بأن عيسى عبد الله ورسوله قبل أن يموت ولو حين أن تزهق روحه ولا ينفعه إيمانه ويؤيد ذلك أنه قرئ { إلا ليؤمنن به قبل موته } بضم النون لأن أحدا في معنى الجمع وهذا كالوعيد لهم والتحريض على معالجة الإيمان به قبل أن يضطروا إليه ولم ينفعهم إيمانهم وقيل الضميران لعيسى عليه أفضل الصلاة والسلام والمعنى : أنه إذا نزل من السماء آمن به أهل الملل جميعا روي : أنه عليه الصلاة و السلام ينزل من السماء حين يخرج الدجال فيهلكه ولا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن به حتى تكون الملة واحدة وهي ملة الإسلام وتقع الأمنة حتى ترتع الأسود مع الإبل والنمور مع البقر والذئاب مع الغنم وتلعب الصبيان بالحيات ويلبث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون ويدفنوه { ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا } فيشهد على اليهود بالتكذيب وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن الله

160 - { فبظلم من الذين هادوا } أي فبأي ظلم منهم { حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } يعني ما ذكره في قوله و على الذين هادوا حرمنا { وبصدهم عن سبيل الله كثيرا } ناسا كثيرا أو صدا

161 - { وأخذهم الربا وقد نهوا عنه } كان الربا محرما عليهم كما هو محرم علينا وفيه دليل على دلالة النهي للتحريم { وأكلهم أموال الناس بالباطل } بالرشوة وسائر الوجوه المحرمة { وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما } دون من تاب وآمن

162 - { لكن الراسخون في العلم منهم } كعبد الله بن سلام وأصحابه { والمؤمنون } أي منهم أو من المهاجرين أو الأنصار { يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } خبر المبتدأ { والمقيمين الصلاة } نصب على المدح إن جعل يؤمنون الخبر لولئك أو عطف على ما أنزل إليك والمراد بهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أي : يؤمنون بالكتب والأنبياء وقرئ بالرفع عطفا على { الراسخون } أو على الضمير في { يؤمنون } أو على أنه مبتدأ والخبر { أولئك سنؤتيهم } { والمؤتون الزكاة } رفعه لأحد الأوجه المذكورة { والمؤمنون بالله واليوم الآخر } قدم عليه الإيمان بالأنبياء والكتب وما يصدقه من اتباع الشرائع لأنه المقصود بالآية { أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما } على جمعه بين الإيمان الصحيح والعمل الصالح وقرأ حمزة { سنؤتيهم } بالياء

163 - { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده } جواب لأهل الكتاب عن اقتراحهم أن ينزل عليهم كتابا من السماء واحتجاج عليهم بأن أمره في الوحي كسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام { وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان } خصهم بالذكر مع اشتمال النبيين عليهم تعظيما لهم فإن إبراهيم أول أولي العزم منهم وعيسى آخرهم والباقين أشرف الأنبياء ومشاهيرهم { وآتينا داود زبورا } وقرأ حمزة { زبورا } بالضم وهو جمع زبر بمعنى مزبور

164 - { ورسلا } نصب بمضمر دل عليه أوحينا إليك كأرسلنا أو فسره : { قد قصصناهم عليك من قبل } أي من قبل هذه السورة أو اليوم { ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما } وهو منتهى مراتب الوحي خص به موسى من بينهم وقد فضلال محمدا صلى الله عليه و سلم بأن أعطاه مثل ما أعطى كل واحد منهم

165 - { رسلا مبشرين ومنذرين } نصب على المدح أو بإضمار أرسلنا أو على الحال ويكون رسلا موطئا لما بعده كقولك مررت بزيد رجلا صالحا { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } فيقولوا لولا أرسلت إلينا رسولا فينبهنا ويعلمنا ما لم نكن نعلم وفيه تنبيه على أن بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلى الناس ضرورة لقصور الكل عن إدراك جزيئات المصالح والأكثر عن إدراك كلياتها واللام متعلقة بأرسلنا أو بقوله { مبشرين ومنذرين } و { حجة } إسم كان وخبره { للناس } أو { على الله } والآخر حال ولا يجوز تعلقه بحجة لأنه مصدر وبعد ظرف لها أو صفة { وكان الله عزيزا } لا يغلب فيما يريد { حكيما } فيما دبر من أمر النبوة وخص كل نبي بنوع من الوحي والإعجاز

166 - { لكن الله يشهد } استدراك عن مفوهم ما قبله فكأنه لما تعنتوا علي بسؤال كتاب ينزل عليهم من السماء واحتج عليهم بقوله { إنا أوحينا إليك } قال : إنهم لا يشهدون ولكن الله يشهد أو أنهم أنكروه ولكن الله يثبته ويقرره { بما أنزل إليك } من القرآن المعجز الدال على نبوتك روي أنه لما نزل إنا أوحينا إليك قالوا ما نشهد لك فنزلت { أنزله بعلمه } أنزله متلبسا بعلمه الخاص به وهو العلم بتأليفه على نظم يعجز عنه كل بليغ أو بحال منه يستعد للنبوة ويستاهل نزول الكتاب عليه أو بعلمه الذي يحتاج إليه الناس في معاشهم ومعاهدهم فالجار والمجرور على الأولين حال من الفاعل وعلى الثالث حال من المفعول والجملة كالتفسير لما قبلها { والملائكة يشهدون } أيضا بنبوتك وفيه تنبيه على أنهم يودون أن يعلموا صحة دعوى النبوة على وجه يستغني عن النظر والتأمل وهذا النوع من خواص الملك ولا سبيل للإنسان إلا العلم بأمثال ذلك سوى الفكر والنظر فلو أتى هؤلاء بالنظر الصحيح لعرفوا نبوتك وشهدوا بها كما عرفت الملائكة وشهدوا { وكفى بالله شهيدا } أي وكفى بما أقام من الحجج على صحة نبوتك عن الاستشهاد بغيره

167 - { إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا } لأنهم جمعوا بين الضلال والإضلال ولأن المضل يكون أغرق في الضلال وأبعد من الانقلاع عنه

168 - { إن الذين كفروا وظلموا } محمدا عليه الصلاة و السلام بإنكار نبوته أو الناس بصدهم عما فيه صلاحهم وخلاصهم أو بأعم من ذلك والآية تدل على أن الكفار مخاطبون بالفروع إذ المراد بهم الجامعون بين الكفر والظلم { لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا }

169 - { إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا } لجرى حكمه السابق ووعده المحتوم على أن من مات على كفره فهو خالد في النار وخالدين حال مقدرة { وكان ذلك على الله يسيرا } لا يصعب عليه ولا يستعظمه

170 - { يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم } لما قرر أمر النبوة وبين طريق الموصل إلى العلم بها ووعيد من أنكرها خاطب الناس عامة بالدعوة وإلزام الحجة والوعد بالإجابة والوعيد على الرد { فآمنوا خيرا لكم } أي إيمانا خيرا لكم أو ائتوا أمرا خيرا لكم مما أنتم عليه وقيل تقديره يكن الإيمان خيرا لكم ومنعه البصريون لأن كان لا يحذف مع اسمه إلا فيما لابد من ولأنه يؤدي إلى الشرط وجوابه { وإن تكفروا فإن لله ما في السموات والأرض } يعني وإن تكفروا فهو غني عنكم لا يتضرر بكفركم كما لا ينتفع بإيمانكم ونبه على غناه بقوله : { لله ما في السموات والأرض } وهو يعم ما اشتملتا عليه وما ركبتاه منه { وكان الله عليما } بأحوالهم { حكيما } فيما دبر لهم

171 - { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم } الخطاب للفريقين غلت اليهود في حط عيسى عليه الصلاة و السلام حتى رموه بأن ولد من رشدة والنصارى في رفعه حتى اتخذوه إلها وقيل الخطاب للنصارى خاصة فإنه أوفق لقوله : { ولا تقولوا على الله إلا الحق } يعني تنزيهه عن الصاحبة والولد { إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم } أوصلها إليها وخصلها فيها { وروح منه } وذو روح صدر منه بتوسط ما يجري مجرى الأصل والمادة له وقيل سمي روحا لأنه كان يحيي الأموات أو القلوب { فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة } أي الألهة ثلاثة الله والمسيح ومريم ويشهد عليه قوله تعالى : { أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } أو الله ثلاثة إن صح أنهم يقولون الله ثلاثة أقانيم [ * 1 ] الأب والابن وروح القدس ويريدون الأب بالذات والابن العلم وبروح القدس الحياة { انتهوا } عن التثليث { خيرا لكم } نصبه كما سبق { إنما الله إله واحد } أي واحد بالذات لا تعدد فيه بوجه ما { له ما في السموات وما في الأرض } ملكا وخلقا لا يماثله شيء من ذلك فيتخذه ولدا { وكفى بالله وكيلا } تنبيه على غناه عن الولد فإن الحاجة إليه ليكون وكيلا لأبيه والله سبحانه وتعالى قائم بحفظ الأشياء كاف في ذلك مستغن عمن يخلقه أو يعينه
[ * 1 ] أعتقد خطأ والمطلوب التحري
لأني لم أخمن الصحيح

172 - { لن يستنكف المسيح } لن يأنف من نكفت الدمع إذا نحيته بإصبعك كيلا يرى أثره عليك { أن يكون عبدا لله } من أن يكون عبدا له فإن عبوديته شرف يتباهى به وإنما لمذلة والاستنكاف في عبودية غيره روي [ أن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم : لم تعيب صاحبنا ؟ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ومن صاحبكم ؟ قالوا : عيسى عليه الصلاة و السلام قال عليه السلام : وأي شيء أقول قالوا : تقول إنه عبد الله ورسوله قال : إنه ليس بعار أن يكون عبد الله قالوا : بلى فنزلت ] { ولا الملائكة المقربون } عطف على المسيح أي ولا يستنكف الملائكة المقربون أن يكونوا عبيدا لله واحتج به من زعم أنه فضل الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقال مساقه لرد قول النصارى في رفع المسيح عن مقام لعبودية وذلك يقتضي أن يكون المعطوف أعلى درجة من المعطوف عليه حتى يكون عدم استنكافهم كالدليل على عدم استنكافه وجوابه أن الآية للرد على عبدة المسيح والملائكة فلا يتجه ذلك وإن سلم اختصاصها بالنصارى فلعله أراد بالعطف المبالغة باعتبار التكثير دون التكبير كقولك : أصبح الأمير لا يخالفه رئيس ولا مرءوس وإن أراد به التكبير فغايته تفضيل المقربين من الملائكة وهم الكروبيون الذين هم حول العرش أو من على منهم رتبة من الملائكة على المسيح من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وذلك لا يستلزم فضل أحد الجنسين على الآخر مطلقا والنزاع فيه { ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر } ومن يرتفع عنها والاستكبار دون الاستنكاف ولذلك عطف عليه وإنما يستعمل من حيث الاستحقاق بخلاف التكبر فإنه قد يكون بالاستحقاق { فسيحشرهم إليه جميعا } فيجازيهم

173 - { فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا } تفصيل للمجازاة العامة المدلول عليها من فحوى الكلام وكأنه قال فسيحشرهم إليه جميعا يوم يحشر العباد للمجازاة أو لمجازاتهم فإن إثابة مقابلهم والإحسان إليهم تعذيب لهم بالغم والحسرة

174 - { يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا } عنى بالبرهان المعجزات وبالنور القرآن أي قد جاءكم دلائل العقل وشواهد النقل ولم يبق لكم عذر ولا علة وقيل : البرهان الدين أو رسول الله صلى الله عليه و سلم أو القرآن

175 - { فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه } في ثواب قدره بإزاء إيمانه وعمله رحمة منه لا قضاء لحق واجب { وفضل } إحسان زائد عليه { ويهديهم إليه } إلى الله سب وقيل إلى الموعود { صراطا مستقيما } هو الإسلام والطاعة في الدنيا وطريق الجنة في الآخرة

176 - { يستفتونك } أي في الكلالة حذفت لدلالة الجواب عليه روي [ أن جابر بن عبد الله كان مريضا فعاده رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إني كلالة فكيف أصنع في مالي فنزلت ] وهي آخر ما نزل من الأحكام { قل الله يفتيكم في الكلالة } سبق تفسيرها في أول السورة { إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك } ارتفع { امرؤ } بفعل يفسره الظاهر وليس له ولد صفة له أو حال من المستكن في هلك والواو في { وله } يحتمل الحال والعطف والمراد بالأخت الأخت من الأبوين أو الأب لأنه جعل أخوها عصبة وابن الأم لا يكون عصبة والولد على ظاهره فان الأخت وإن ورثت مع البنت عند عامة العلماء - غير ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - لكنها لا ترث النصف { وهو يرثها } أي والمرء يرث إن كان الأمر بالعكس { إن لم يكن لها ولد } ذكرا كان أو أنثى إن أريد بيرثها يرث جميع مالها وإلا فالمراد به الذكر إذ البنت لا تحجب الأخ والآية كما لم تدل على سقوط الإخوة بغير الولد لم تدل على عدم سقوطهم به وقد دلت السنة على أنهم لا يرثون مع الأب وكذا مفهوم قوله : { قل الله يفتيكم في الكلالة } إن فسرت بالميت { فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك } الضمير لمن يرث بالأخوة وتثنيته محمولة على المعنى وفائدة الإخبار عنه باثنتين التنبيه على أن الحكم باعتبار العدد دون الصغر والكبر وغيرهما { وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين } أصله وإن كانوا أخوة وأخوات فغلب المذكر { يبين الله لكم أن تضلوا } أي يبين الله لكم ضلالكم الذي من شأنكم إذا خليتم وطباعكم لتحترزوا عنه وتتحروا خلافه أو يبين لكم الحق والصواب كراهة أن تضلوا وقيل لئلا تضلوا فحذف لا وهو قول الكوفيين { والله بكل شيء عليم } فهو عالم بمصالح العباد في المحيا والممات عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ من قرأ سورة النساء فكأنما تصدق على كل مؤمن ومؤمنة وورث ميراثا وأعطي من الأجر كمن اشترى محررا وبرئ من الشرك وكان في مشيئة الله تعالى من الذين يتجاوز عنهم ]

1 - { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } الوفاء هو القيام بمقتضى العهد وكذلك الإيفاء والعهد الموثق قال الحطيئة :
( قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم ... شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا )
وأصله الجمع بين الشيئين بحيث يصعب الانفصال ولعل المراد
بالعقود ما يعم العقود التي عقدها الله سبحانه وتعالى على عباده وألزمها إياهم من التكاليف وما يعقدون بينهم من عقود الأمانات والمعاملات ونحوها مما يجب الوفاء به أو يحسن إن حملنا الأمر على المشترك بين الوجوب والندب { أحلت لكم بهيمة الأنعام } تفصيل للعقود والبهيمة كل حي لا يميز وقيل كل ذات أربع وإضافتها إلى الأنعام للبيان كقولك : ثوب خز ومعناه البهيمة من الأنعام وهي الأزواج الثمانية وألحق بها الضباء ويقر الوحش وقيل هما المراد بالبهيمة ونحوها مما يماثل الأنعام في الاجترار وعدم الأنياب وإضافتها إلى الأنعام لملابسة الشبه { إلا ما يتلى عليكم } إلا محرم ما يتلى عليكم كقوله تعالى : { حرمت عليكم الميتة } أو إلا ما يتلى عليكم تحريمه { غير محلي الصيد } حال من الضمير في { لكم } وقيل من واو { أوفوا } وقيل استثناء وفيه تعسف و { الصيد } يحتمل المصدر والمفعول { وأنتم حرم } حال مما استكن في { محلي } وال { حرم } جمع حرام وهو المحرم { إن الله يحكم ما يريد } من تحليل أو تحريم

2 - { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله } يعني مناسك الحج جمع شعيرة وهي اسم كل ما أشعر أي جعل شعارا سمى به أعمال الحج وموافقة لأنها علامات الحج وأعلام انسك وقيل دين الله لقوله سبحانه وتعالى : { ومن يعظم شعائر الله } أي دينه وقيل فرائضه التي حدها لعباده { ولا الشهر الحرام } بالقتال فيه أو بالنسيء { ولا الهدي } ما أهدي إلى الكعبة جمع هدية كجدي في جميع جدية السرح { ولا القلائد } أي ذوات القلائد من الهدي وعطفها على الهدي للاختصاص فإنها أشرف الهدي أو القلائد أنفسها والنهي عن إحلالها مبالغة في النهي عن التعرض للهدي ونظيره قوله تعالى : { ولا يبدين زينتهن } والقلائد جمع قلادة وهو ما قلد به الهدي من نعل أو لحاء شجر أو غيرهما ليعلم به أنه هدي فلا يتعرض له { ولا آمين البيت الحرام } قاصدين لزيارته { يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا } أن يثيبهم ويرض عنهم والجملة في موضع الحال من المستكن في آمين وليست صفة له لأنه عامل والمختار أن اسم الفاعل الموصوف لا يعمل وفائدته استنكار تعرض من هذا شأنه التنبيه على المانع له وقيل معناه يبتغون من الله رزقا بالتجارة ورضوانا بزعمهم إذ روي أن الآية نزلت في عام القضية في حجاج اليمامة لما هم المسلمون أن يتعرضوا لهم بسبب أنه كان فيهم الحطيم بن شريح بن ضبيعة وكان قد استاق سرح المدينة وعلى هذا فالآية منسوخة وقرئ تبتغون على خطاب المؤمنين { وإذا حللتم فاصطادوا } إذن في الاصطياد بعد زوال الإحرام ولا يلزم من إرادة الإباحة ههنا من الأمر دلالة الأمر الآتي بعد الحظر على الإباحة مطلقا وقرئ بكسر الفاء على إلقاء حركة الوصل عليها وهو ضعيف جدا وقرئ { حللتم } يقال حل المحرم وأحل { ولا يجرمنكم } لا يحملنكم أو لا يكسبنكم { شنآن قوم } شدة بغضهم وعداوتهم وهو مصدر أضيف إلى المفعول أو الفاعل وقرأ ابن عامر و إسماعيل عن نافع و ابن عياش عن عاصم بسكون النون وهو أيضا مصدر كليان أو نعت بمعنى : بغيض قوم وفعلان في النعت أكثر كعطشان وسكران { أن صدوكم عن المسجد الحرام } لأن صدوكم عنه عام الحديبية وقرأ ابن كثير و أبو عمرو بكسر الهمزة على أنه شرط معترض أغنى عن جوابه لا يجرمنكم { أن تعتدوا } بالانتقام وهو ثاني مفعولي يجرمنكم فإنه يعدى إلى واحد وإلى اثنين ككسب ومن قرأ { يجرمنكم } بضم الياء جعله منقولا من التعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين { وتعاونوا على البر والتقوى } على العفو والإغضاء ومتابعة الأمر ومجانبة الهوى { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } للتشفي والانتقام { واتقوا الله إن الله شديد العقاب } فانتقامه أشد

3 - { حرمت عليكم الميتة } بيان ما يتلى عليكم والميتة ما فارقه الروح من غير تذكية { والدم } أي الدم المسفوح لقوله تعالى : { أو دما مسفوحا } وكان أهل الجاهلية يصبونه في الأمعاء ويشوونها { ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به } أي رفع الصوت لغير الله به كقولهم : باسم اللات والعزى عند ذبحه { والمنخنقة } أي التي ماتت بالخنق { والموقوذة } المضروبة بنحو خشب أو حجر حتى تموت من وقذته إذا ضربته { والمتردية } التي تردت من علو أو في بئر فماتت { والنطيحة } التي نطحتها أخرى فماتت بالنطح والتاء فيها للنقل { وما أكل السبع } وما أكل منه السبع فمات وهو يدل على أن جوارح الصيد إذا أكلت مما اصطادته لم تحل { إلا ما ذكيتم } إلا ما أدركتم ذكاته وفيه حياة مستقرة من ذلك وقيل الاستثناء مخصوص بما أكل السبع والذكاة في الشرع لقطع الحلقوم والمريء بمحدد { وما ذبح على النصب } النصب واحد الأنصاب وهي أحجار كانت منصوبة حول البيت يذبحون عليها ويعدون ذلك قربة وقيل هي الأصنام وعلى بمعنى اللام أو على أصلها بتقدير وما ذبح مسمى على الأصنام وقيل هو جمع والواحد نصاب { وأن تستقسموا بالأزلام } أي وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام وذلك أنهم إذا قصدوا فعلا ضربوا ثلاثة أقداح مكتوب على أحدها أمرني ربي وعلى الآخر : نهاني ربي والثالث غفل فإن خرج الأمر مضوا على ذلك وإن خرج الناهي تجنبوا عنه وإن خرج الغفل أجلوها ثانية فمعنى الاستقسام طلب معرفة ما قسم دون ما لم يقسم لهم بالأزلام وقيل هو استقسام الجزور بالأقداح على الأنصباء المعلومة وواحد الأزلام زلم كجمل وزلم كصرد { ذلكم فسق } إشارة إلى الاستقسام وكونه فسقا لأنه دخول في علم الغيب وضلال باعتقاد أن ذلك طريق إليه وافتراء على الله سبحانه وتعالى إن أريد بربي الله وجهالة وشرك إن أريد به الصنم أو الميسر المحرم أو إلى تناول ما حرم عليهم { اليوم } لم يرد به يوما بعينه وقد نزلت بعد عصر يوم الجمعة في عرفة حجة الوداع { يئس الذين كفروا من دينكم } أي من إبطاله ورجوعكم عنه بتحيل هذه الخبائث وغيرها أو من أن يغلبوكم عليه { فلا تخشوهم } أن يظهروا عليكم { واخشون } واخلصوا الخشية لي { اليوم أكملت لكم دينكم } بالنصر والإظهار على الأديان كلها أو بالتنصيص على قواعد العقائد والتوقيف على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد { وأتممت عليكم نعمتي } بالهداية والتوفيق أو بإكمال الدين أو بفتح مكة وهدم منار الجاهلية { ورضيت لكم الإسلام دينا } اخترته لكم دينا من بين الأديان وهو الدين عند الله لا غير { فمن اضطر } متصل بذكر المحرمات وما بينهما اعتراض لما يوجب التجنب عنها وهو أن تناولها فسوق وحرمتها من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام المرضي والمعنى : فمن اضطر إلى تناول شيء من هذه المحرمات { في مخمصة } مجاعة { غير متجانف لإثم } غير مائل له ومنحرف إليه بأن يأكلها تلذذا أو مجاوزا حد الرخصة كقوله : { غير باغ ولا عاد } { فإن الله غفور رحيم } لا يؤاخذه بأكله

4 - { يسألونك ماذا أحل لهم } لما تضمن السؤال معنى القول أوقع على الجملة وقد سبق الكلام في { ماذا } وإنما قال لهم ولم يقل لنا على الحكاية لأن { يسألونك } بلفظ الغيبة وكلا الوجهين سائغ في أمثاله والمسؤول ما أحل لهم من المطاعم كأنهم لما تلي عليهم ما حرم عليهم سألوا عما أحل لهم { قل أحل لكم الطيبات } ما لم تستخبثه الطباع السليمة ولم تنفر عنه ومن مفهومه حرم مستخبثات العرب أو ما لم يدل نص ولا قياس على حرمته { وما علمتم من الجوارح } عطف على { الطيبات } إن جعلت { ما } موصولة على تقدير وصيد ما علمتم وجملة شرطية إن جعلت شرطا وجوابها { فكلوا } و { الجوارح } كواسب الصيد على أهلها من سباع ذوات الأربع والطير { مكلبين } معلمين إياه الصيد والمكلب مؤدب الجوارح ومضر بها بالصيد مشتق من الكلب لأن التأديب يكون أكثر فيه وآثره أو لأن كل سبع يسمى كلبا لقوله عليه الصلاة و السلام [ الهم سلط عليه كلبا من كلابك ] وانتصابه على الحال من علمتم وفائدتها المبالغة في التعليم { تعلمونهن } حال ثانية أو استئناف { مما علمكم الله } من الحيل وطرق التأديب فإن العلم بها إلهام من الله تعالى أو مكتسب بالعقل الذي هو منحة منه سبحانه وتعالى أو مما علمكم الله أن تعلموه م اتباع الصيد بإرسال صاحبه وأن ينزجر بزجره وينصرف بدعائه ويمسك عله الصيد ولا يأكل منه { فكلوا مما أمسكن عليكم } وهو ما لم تأكل منه
[ لقوله عليه الصلاة و السلام لعدي بن حاتموإن أكل منه فلا تأكل إنما أمسك على نفسه ] وإليه ذهب أكثر الفقهاء وقال بعضهم : لا يشترط ذلك في سباع الطير لأن تأديبها إلى هذا الحد متعذر وقال آخرون لا يشترط مطلقا { واذكروا اسم الله عليه } الضمير لما علمتم والمعنى : سموا عليه عند إرساله أو لما أمسكن بمعنى سموا عليه إذا أدركتم ذكاته { واتقوا الله } في محرماته { إن الله سريع الحساب } فيؤاخذكم بما جل ودق

5 - { اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } يتناول الذبائح وغيرها ويعم الذين أوتوا الكتاب اليهود والنصارى واستثنى علي رضي الله عنه نصارى بني تغلب وقال : ليسوا على النصرانية ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر ولا يلحق بهم المجوس في ذلك وإن ألحقوا بهم في التقرير على الجزية لقوله عليه الصلاة و السلام : [ سنوا بهم سنة أهلا الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم ] { وطعامكم حل لهم } فلا عليكم أن تطعموه وتبيعوه منهم ولو حرم عليهم لم يجز ذلك { والمحصنات من المؤمنات } أي الحرائر أو العفائف وتخصيصهن بعث على ما هو الأولى { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } وإن كن حربيات وقال ابن عباس لا تحل الحربيات { إذا آتيتموهن أجورهن } مهورهن وتقييد الحل بإيتائها لتأكيد وجوبها والحث على ما هو الأولى وقيل المراد بإيتائها التزامها { محصنين } أعفاء بالنكاح { غير مسافحين } غير مجاهرين بالزنا { ولا متخذي أخدان } مسرين به والخدن الصديق يقع على الذكر والأنثى { ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين } يريد بالإيمان شرائع الإسلام وبالكفر إنكاره والامتناع عنه

6 - { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } أي إذا أردتم القيام كقوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } عبر عن إرادة الفعل المسبب عنها للإيجاز والتنبيه على من أراد العبادة ينبغي أن يبادر إليها بحيث لا ينفك الفعل عن الإرادة أو إذا قصدتم الصلاة لأن التوجه إلى الشيء والقيام له قصد له وظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وإن لم يكن محدثا والإجماع على خلافه لما روي [ أنه عليه الصلاة و السلام صلى الصلوات الخمس بوضوء واحد يوم الفتح فقال عمر رضي الله تعالى عنه : صنعت شيئا لم تكن تصنعه فقال عمدا فعلته ] فقيل مطلق أريد به التقييد والمعنى إذا قمتم إلى الصلاة محدثين وقيل الأمر فيه للندب وقيل كان ذلك في أول الأمر ثم نسخ وهو ضعيف لقوله عليه الصلاة و السلام : [ المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها ] { فاغسلوا وجوهكم } أمروا الماء عليها ولا حاجة إلى الدلك خلافا لمالك { وأيديكم إلى المرافق } الجمهور على دخول المرفقين في المغسول ولذلك قيل : { إلى } بمعنى مع كقوله تعالى : { ويزدكم قوة إلى قوتكم } أو متعلق بمحذوف تقديره : وأيديكم مضافة إلى المرافق ولو كان كذلك لم يبق لمعنى التحديد ولا لذكره مزيد فائدة لأن مطلق اليد يشتمل عليها وقيل : إلى تفيد الغاية مطلقا وأما دخولها في الحكم أو خروجها منه فلا دلالة لها عليه وإنما يعلم من خارج ولم يكن في الآية وكانت الأيدي متناولة لها فحكم بدخولها احتياطا وقيل إلى من حيث أنها تفيد الغاية تقتضي خروجها وإلا لم تكن غاية لقوله تعالى : { فنظرة إلى ميسرة } وقوله تعالى : { ثم أتموا الصيام إلى الليل } ولكن لما لم تتميز الآية ها هنا عن ذي الغاية وجب إدخالها احتياطا { وامسحوا برؤوسكم } الباء مزيدة وقيل للتبعيض فإنه الفارق بين قولك مسحت المنديل وبالمنديل ووجهه أن يقال إنها تدل على تضمين الفعل معنى الإلصاق وكأنه قيل : وألصقوا المسح برؤوسكم وذلك لا يقتضي الاستيعاب بخلاف ما لو قيل : وامسحوا رؤوسكم فإنه كقوله : { فاغسلوا وجوهكم } واختلف العلماء في قدر الواجب فأوجب الشافعي رضي الله تعالى عنه : أقل ما يقع عليه الإسم أخذا باليقين و أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : مسح ربع الرأس لأنه عليه الصلاة و السلام مسح على ناصيته وهو قريب من الربع و مالك رضي الله تعالى عنه : مسح كله أخذا بالاحتياط { وأرجلكم إلى الكعبين } نصبه نافع و ابن عامر و حفص و الكسائي و يعقوب عطفا على وجوهكم ويؤيده : السنة الشائعة وعمل الصحابة وقول أكثر الأئمة والتحديد إذ المسح لم يحد وجره الباقون على الجوار ونظيره كثير في القرآن والشعر كقوله تعالى : { عذاب يوم أليم } { وحور عين } بالجر في قراءة حمزة و الكسائي وقولهم جحر ضب خرب وللنحاة باب في ذلك وفائدته التنبيه على أنه ينبغي أن يقتصد في صب الماء عليها ويغسل غسلا يقرب من المسح وفي الفصل بينه وبين أخويه إيماء على وجوب الترتيب وقرئ بالرفع على { وأرجلكم } مغسولة { وإن كنتم جنبا فاطهروا } فاغتسلوا { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } سبق تفسيره ولعل تكريره ليتصل الكلام في بيان أنواع الطهارة { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } أي ما يريد الأمر بالطهارة للصلاة أو الأمر بالتيمم تضييقا عليكم { ولكن يريد ليطهركم } لينظفكم أو ليطهركم عن الذنوب فإن الوضوء تكفير للذنوب أو ليطهركم بالتراب إذا أعوزكم التطهير بالماء فمفعول { يريد } في الموضعين محذوف واللام للعلة وقيل مزيدة والمعنى : ما يريد الله أن يجعل عليكم من حرج حتى لا يرخص لكم في التيمم ولكن يريد أن يطهركم وهو ضعيف لأن أن لا تقدر بعد المزيدة { وليتم نعمته عليكم } ليتم بشرعه ما هو مطهرة لأبدانكم ومكفرة لذنوبكم نعمته عليكم في الدين أوليتم برخصه إنعامه عليكم بعزائمه { لعلكم تشكرون } نعمته والآية مشتملة على سبعة أمور كلها مثنى : طهارتان أصل وبدل والأصل اثنان مستوعب وغير مستوعب وغير المستوعب باعتبار الفعل غسل ومسح وباعتبار المحل محدود وغير محدود وأن آلتهما مائع وجامد وموجبهما حدث أصغر وأكبر وأن المبيح للعدول إلى البدل مرض أو سفر وأن الموعود عليهما تطهير الذنوب وإتمام النعمة

7 - { واذكروا نعمة الله عليكم } بالإسلام لتذكركم المنعم وترغبكم في شكره { وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا } يعني الميثاق الذي أخذه على المسلمين حين بايعهم رسول الله صلى الله عليه و سلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره أو ميثاقه ليلة العقبة أو بيعة الرضوان { واتقوا الله } في إنساء نعمته ونقض ميثاقه { إن الله عليم بذات الصدور } أي بخفياتها فيجازيكم عليها فضلا عن جليات أعمالكم

8 - { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا } عداه بعلى لتضمنه معنى الحمل والمعنى لا يحملكم شدة بغضكم للمشركين على ترك العدل فيهم فتعتدوا عليهم بارتكاب ما لا يحل كمثلة وقذف وقتل نساء وصبية ونقض عهد تشفيا مما في قلوبكم { اعدلوا هو أقرب للتقوى } أي العدل أقرب للتقوى صرح لهم بالأمر بالعدل وبين أنه بمكان من التقوى بعد ما نهاهم عن الجور وبين أنه مقتضى الهوى وإذا كان هذا للعدل مع الكفار فما ظنك بالعدل مع المؤمنين { واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون } فيجازيكم به وتكرير هذا الحكم إما لاختلاف السبب كما قيل إن الأولى نزلت في المشركين وهذه في اليهود أو لمزيد الاهتمام بالعدل والمبالغة وفي إطفاء ثائرة الغيظ

9 - { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم } إنما حذف ثاني مفعولي وعد استغناء بقوله { لهم مغفرة } فإنه استئناف يبينه وقيل الجملة في موضع المفعول فإن الوعد ضرب من القول كأنه قال : وعدهم هذا القول

10 - { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم } هذا من عادته تعالى أن يتبع حال أحد الفريقين الآخر وفاء بحق الدعوة وفيه مزيد وعد للمؤمنين وتطيب لقلوبهم

11 - { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم } روي ( أن المشركين رأوا رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه بعسفان قاموا إلى الظهر معا فلما صلوا ندموا ألا كانوا أكبوا عليهم وهموا أن يوقعوا بهم إذا قاموا إلى العصر فرد الله عليهم كيدهم بأن أنزل عليهم صلاة الخوف ) والآية إشارة إلى ذلك وقيل إشارة إلى ما روي [ أنه عليه الصلاة و السلام أتى قريظة ومعه الخلفاء الأربعة يستقرضهم لدية مسلمين قتلهما عمرو بن أمية الضمري يحسبهما مشركين فقالوا : نعم يا أبا القاسم اجلس حتى نطعمك ونقرضك فأجلسوه وهموا بقتله فعمد عمرو بن جحاش إلى رحى عظيمة يطرحها عليه فأمسك الله يده فنزل جبريل فأخبره فخرج ] وقيل [ نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم منزلا وعلق سلاحه بشجرة وتفرق الناس عنه فجاء أعرابي فسل سيفه وقال : من يمنعك مني فقال : الله ! فأسقطه جبريل من يده فأخذه الرسول صلى الله عليه و سلم وقال : من يمنعك مني ؟ فقال : لا أحد أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول اللهفنزلت ] { إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم } بالقتل والإهلاك يقال بسط إليه يده إذا بطش به وبسط إليه لسانه إذا شتمه { فكف أيديهم عنكم } منعها أن تمد إليكم ورد مضرتها عنكم { واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون } فإنه الكافي لإيصال الخير ودفع الشر

12 - { ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا } شاهدا من كل سبط ينقب عن أحوال قومه ويفتش عنها أو كفيلا يكفل عليهم بالوفاء بما أمروا به روي أن بني إسرائيل لما فرغوا من فرعون واستقروا بمصر أمرهم الله سبحانه وتعالى بالمسير إلى أريحاء من ارض الشام وكان يسكنها الجبابرة الكنعانيون وقال : إني كتبتها لكم دارا وقرارا فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها فإني ناصركم وأمر موسى عليه الصلاة و السلام أن يأخذ من كل سبط كفيلا عليهم بالوفاء بما أمروا به فأخذ عليهم الميثاق واختار منهم النقباء وسار بهم فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون الأخبار ونهاهم أن يحدثوا قومهم فرأوا أجراما عظيمة وبأسا شديدا فهابوا ورجعوا وحدثوا قومهم ونكث الميثاق إلا كالب بن يوفنا من سبط يهوذا ويوشع بن نون من سبط أفراييم بن يوسف { وقال الله إني معكم } بالنصرة { لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم } أي نصرتموهم وقويتموهم وأصله الذب ومنه التعزير { وأقرضتم الله قرضا حسنا } بالإنفاق في سبيل الخير وقرضا يحتمل المصدر والمفعول { لأكفرن عنكم سيئاتكم } جواب للقسم المدلول عليه باللام في لئن ساد مسد جواب الشرط { ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك } بعد ذلك الشرط المؤكد المعلق به الوعد العظيم { منكم فقد ضل سواء السبيل } ضلالا لا شبه فيه ولا عذر معه بخلاف من كفر قبل ذلك إذ قد يمكن أن يكون له شبهة ويتوهم له معذرة

13 - { فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم } طردناهم من رحمتنا أو مسخناهم أو ضربنا عليهم الجزية { وجعلنا قلوبهم قاسية } لا تنفعل عن الآيات والنذر وقرأ حمزة و الكسائي { قاسية } وهي إما مبالغة { قاسية } أو بمعنى رديئة من قولهم درهم قسي إذا كان مغشوشا وهي أيضا من القسوة فإن المغشوش فيه يبس وصلابة وقرئ { قاسية } باتباع القاف للسين { يحرفون الكلم عن مواضعه } استئناف لبيان قسوة قلوبهم فإن لا قسوة أشد من تغيير كلام الله سبحانه وتعالى والافتراء عليه ويجوز أن يكون حالا من مفعول { لعناهم } لا من القلوب إذ لا ضمير له فيهز { ونسوا حظا } وتركوا نصيبا وافيا { مما ذكروا به } من التوراة أو من اتباع محمد صلى الله عليه و سلم والمعنى أنهم حرفوا التوراة وتركوا حظهم مما أنزل عليهم فلم ينالوه وقيل معناه أنهم حرفوها فزلت بشؤمه أشياء منها عن حفظهم لما روي أن ابن مسعود قال : قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية وتلا هذه الآية { ولا تزال تطلع على خائنة منهم } خيانة منهم أو فرقة خائنة أو خائن والتاء للمبالغة والمعنى أن الخيانة والغدر من عادتهم وعادة أسلافهم لا تزال ترى ذلك منهم { إلا قليلا منهم } لم يخزنوا وهم الذين آمنوا منهم وقيل استثناء من قوله : { وجعلنا قلوبهم قاسية } { فاعف عنهم واصفح } إن تابوا وآمنوا أو عاهدوا والتزموا الجزية وقيل : مطلق نسخ بآية السيف { إن الله يحب المحسنين } تعليل للأمر بالصفح وحث عليه وتنبيه على أن العفو عن الكافر الخائن إحسان فشلا عن العفو عن غيره

14 - { ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم } أي وأخذنا من النصارى ميثاقهم كما أخذنا ممن قبلهم وقيل تقديره ومن الذين قالوا إنا نصارى قوم أخذنا وإنما قال قالوا إنا نصارى ليدل على أنهم سموا أنفسهم بذلك ادعاء لنصرة الله سبحانه وتعالى { فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا } فألزمنا من غري بالشيء إذا لصق به { بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة } بين فرق النصارى وهم نسطورية ويعقوبية وملكانية أو بينهم وبين اليهود { وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون } بالجزاء والعقاب

15 - { يا أهل الكتاب } يعني اليهود والنصارى ووحد الكتاب لأنه للجنس { قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب } كنت محمد صلى الله عليه و سلم وآية الرجم في التوراة وبشارة عيسى عليه الصلاة و السلام بأحمد صلى الله عليه و سلم في الإنجيل { ويعفو عن كثير } مما تخفونه لا يخبر به إذا لم يضطر إليه أمر ديني أو عن كثير منكم فلا يؤخذاه بجرمه { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين } يعني القرآن فإنه الكاشف لظلمات الشك والضلال والكتاب الواضح الإعجاز وقيل يريد بالنور محمد صلى الله عليه و سلم

16 - { يهدي به الله } وحد الضمير لأن المراد بهما واحد أو لأنهما كواحد في الحكم { من اتبع رضوانه } من اتبع رضاه بالإيمان منهم { سبل السلام } طرق السلامة من العذاب أو سبل الله { ويخرجهم من الظلمات إلى النور } من أنواع الكفر إلى الإسلام { بإذنه } بإرادته وتوفيقه { ويهديهم إلى صراط مستقيم } طريق هو أقرب الطرق إلى الله سبحانه وتعالى ومؤد إليه لا محالة

17 - { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } هم الذين قالوا بالاتحاد منهم وقيل لم يصرح به أحد منهم ولكن لما زعموا أن فيه لاهوتا وقالوا لا إله إلا الله واحد لزمهم أن يكون هو المسيح فنسب إليهم لازم قولهم توضيحا لجهلهم وتفضيحا لمعتقدهم { قل فمن يملك من الله شيئا } فمن يمنع من قدرته وإرادته شيئا { إن أراد أن يهلك المسيح } عيسى { ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا } احتج بذلك على فساد عقولهم وتقريره : أن المسيح مقدور مقهور قابل للفناء كسائر الممكنات ومن كان كذلك فهو بمعزل عن الألوهية { ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير } إزاحة لما عرض لهم من الشبه في أمره والمعنى أنه سبحانه وتعالى قادر على الإطلاق يخلق من غير أصل كما خلق السموات والأرض ومن أصل كخلق ما بينهما فينشئ من أصل ليس من جنسه كآدم وكثير من الحيوانات ومن أصل يجانسه إما من ذكر وحده كما خلق حواء أو من أنثى وحدها كعيسى أو منهم كسائر الناس

18 - { وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه } أشياع ابنيه عزيرا والمسيح كما قيل لأشياع ابن الزبير الحبيبون أو المقربون عنده قرب الأولاد من والدهم وقد سبق لنحو ذلك مزيد بيان في سورة آل عمران { قل فلم يعذبكم بذنوبكم } أي فإن صح ما زعمتم فلم يعذبكم بذنوبكم فإن من كان بهذا المنصب لا يفعل ما يوجب تعذيبه وقد عذبكم في الدنيا بالقتل والأسر والمسخ واعترفتم بأنه سيعذبكم بالنار أياما معدودات { بل أنتم بشر ممن خلق } ممن خلقه الله تعالى { يغفر لمن يشاء } وهم من آمن به وبرسله { ويعذب من يشاء } وهم من كفر والمعنى أنه يعاملكم معاملة سائر الناس لا مزية لكم عنده { ولله ملك السموات والأرض وما بينهما } كلها سواء في كونها خلقا وملكا له { وإليه المصير } فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته

19 - { يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم } أي الدين وحذف لظهوره أو ما كتمتم وحذف لتقدم ذكره ويجوز أن لا يقدر مفعول على معنى يبذل لكم البيان والجملة في موضع الحال أي جاءكم رسولنا مبينا لكم { على فترة من الرسل } متعلق بجاءكم أي جاءكم على حين فتور من الإرسال وانقطاع من الوحي أو يبين حال من الضمير فيهز { أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير } كراهة أن تقولوا ذلك وتعتذروا به { فقد جاءكم بشير ونذير } متعلق بمحذوف أي لا تعتذروا ب { ما جاءنا } فقد جاءكم { والله على كل شيء قدير } فيقدر على الإرسال تترى كما فعل بين موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام إذ كان بينهما ألف وسبعمائة سنة وألف نبي وعلى الإرسال على فترة كما فعل بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام كان بينهما ستمائة أو خمسمائة وتسع وستون سنة وأربعة أنبياء ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب خالد بن سنان العبسي وفي الآية امتنان عليهم بأن بعث إليهم حين انطمست آثار الوحي وكانوا أحوج ما يكونون إليه

20 - { وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء } فأرشدكم وشرفكم بهم ولم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء { وجعلكم ملوكا } أي وجعل منكم أو فيكم وقد تكاثر فيهم الملوك تكاثر الأنبياء بعد فرعون حتى قتلوا يحيى وهموا بقتل عيسى وقيل لما كانوا مملوكين في أيدي القبط فأنقذهم الله وجعلهم مالكين لأنفسهم وأمورهم سماهم ملوكا { وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين } من فلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى ونحوها مما آتاهم الله وقيل المراد بالعالمين عالمي زمانهم

21 - { يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة } أرض بيت المقدس سميت بذلك لأنها كانت قرار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومسكن المؤمنين وقيل الطور وما حوله وقيل : دمشق وفلسطين وبعض الأردن وقيل الشام { التي كتب الله لكم } قسمها لكم أو كتب في اللوح أنها تكون مسكنا لكم ولكن إن آمنتم وأطعتم لقوله لهم بعدما عصوا { فإنها محرمة عليهم } { ولا ترتدوا على أدباركم } ولا ترجعوا مدبرين خوفا من الجبابرة قيل لما سمعوا حالهم من النقباء بكوا وقالوا : ليتنا متنا بمصر تعالوا نجعل علينا رأسا ينصرف بنا إلى مصر أو لا ترتدوا عن دينكم بالعصيان وعدم الوثوق على الله سبحانه وتعالى { فتنقلبوا خاسرين } ثواب الدارين ويجوز في فتنقلبوا الجزم على العطف والنصب على الجواب

22 - { قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين } متغلبين لا تأتي مقاومتهم والجبار فعال من جبره على الأمر بمعنى أجبره وهو الذي يجبر الناس على ما يريده { وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون } إذ لا طاقة لنا بهم

23 - { قال رجلان } كالب ويوشع { من الذين يخافون } أي يخافون الله سبحانه وتعالى ويتقونه وقيل كان رجلان من الجبابرة أسلما وسارا إلى موسى عليه الصلاة و السلام فعلى هذا الواو لبني إسرائيل والراجع إلى الموصول محذوف أي من الذين يخافهم بنو إسرائيل ويشهد له أنه قرئ { الذين يخافون } بالضم أي المخوفين وعلى المعنى الأول يكون هذا من الإخافة أي الذين يخفون من الله عز و جل بالتذكير أو يخوفهم الوعيد { أنعم الله عليهما } بالإيمان والتثبيت وهو صفة ثانية لرجلان أو اعتراض { ادخلوا عليهم الباب } باب قريتهم أي باغتوهم وضاغطوهم في المضيق وامنعوهم من الأصحار { فإذا دخلتموه فإنكم غالبون } لتعسر الكر عليهم في المضايق من عظم أجسامهم ولأنهم أجسام لا قلوب فيها ويجوز أن يكون علمهما بذلك من إخبار موسى عليه الصلاة و السلام وقوله : { كتب الله لكم } أو مما علما من عادة الله سبحانه وتعالى في نصرة رسله وما عهدا من صنعه لموسى عليه الصلاة و السلام في قهر أعدائه { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } أي مؤمنين به ومصدقين بوعده

24 - { قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا } نفوا دخولهم على التأكيد والتأبيد { ما داموا فيها } بدل البعض { فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } قالوا ذلك استهانة بالله ورسوله وعدم مبالاة بهما وقيل تقديره اذهب أنت وربك يعينك

25 - { قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي } قاله شكوى بثه وحزنه إلى الله سبحانه وتعالى لما خالفه قومه وأيس منهم ولم يبق معه موافق يثق به غير هارون عليه السلام والرجلان المذكوران وإن كانا يوافقانه لم يثق عليهم لما كابد من تلون قومه ويجوز أن يراد بأخي من يواخيني في الدين فيدخلان فيه ويحتمل نصبه عطفا على نفسي أو على اسم إن ورفعه عطفا على الضمير في { لا أملك } أو على محل إن واسمها وجره عند الكوفيين عطفا على الضمير في نفسي { فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين } بأن تحكم لنا بما نستحقه وتحكم عليهم بما يستحقونه أو بالتبعيد بيننا وبينهم وتخليصنا من صحبتهم

26 - { قال فإنها } فإن الأرض المقدسة { محرمة عليهم } لا يدخلونها ولا يملكونها بسبب عصيانهم { أربعين سنة يتيهون في الأرض } عامل الظرف إما محرمة فيكون التحريم موقوتا غير مؤبد فلا يخالف ظاهر قوله { التي كتب الله لكم } ويؤيد ذلك ما روي : أن موسى عليه الصلاة و السلام سار بعده بمن بقي من بني إسرائيل ففتح أريحاء وأقام بها ما شاء الله ثم قبض وقيل إنه قبض في التيه ولما احتضر أخبرهم بأن يوشع بعده نبي وأن الله سبحانه وتعالى أمره بقتال الجبابرة فسار بهم يوشع وقتل الجبابرة وصار الشام كله لبني إسرائيل وإما يتيهون أي يسيرون فيها متحيرين لا يرون طريقا فيكون التحريم مطلقا وقد قيل لم يدخل الأرض المقدسة أحد ممن قال إنا لن ندخلها بل هلكوا في التيه وإنما قاتل الجبابرة أولادهم روي أنهم لبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ يسيرون من الصباح إلى المساء فإذا هم بحيث ارتحلوا عنه وكان الغمام يظلهم من الشمس وعمود من نور يطلع بالليل فيضيء لهم وكان طعامهم المن والسلوى وماؤهم من الحجر الذي يحملونه والأكثر على أن موسى وهارون كانا معهم في التيه إلا أنه كان ذلك روحا لهما وزيادة في درجتهما وعقوبة لهم وأنهما ماتا فيه مات هارون وموسى بعده بسنة ثم دخل يوشع أريحاء بعد ثلاثة أشهر ومات النقباء فيه بغتة غير كالب ويوشع { فلا تأس على القوم الفاسقين } حاطب به موسى عليه الصلاة و السلام لما ندم على الدعاء عليهم وبين أنهم أحقاء بذلك لفسقهم

27 - { واتل عليهم نبأ ابني آدم } قابيل وهابيل أوحى الله سبحانه وتعالى إلى آدم أن يزوج كل واحد منهما توأمة الآخر فسخط منه قابيل لأن توأمته كانت أجمل فقال لهما آدم : قربا قربانا فمن أيكما قبل تزوجها فقبل قربان هابيل بأن نزلت نار فأكلته فازداد قابيل سخطا وفعل ما فعل وقيل لم يرد لهما ابني آدم لصلبه وأنهما رجلان من بني إسرائيل ولذلك قال : { كتبنا على بني إسرائيل } { بالحق } صفة مصدر محذوف أي تلاوة متلبسة بالحق أو حال من الضمي في اتل أو من نبأ أي متلبسا بالصدق موافقا لما في كتب الأولين { إذ قربا قربانا } ظرف لنبأ أو حال منه أو بدل على حذف مضاف أي واتل عليهم نبأهما نبأ ذلك الوقت والقربان اسم ما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى من ذبيحة أو غيرها كما أن الحلوان اسم ما يحلى به أي يعطى وهو في الأصل مصدر ولذلك لم يثن وقيل تقديره إذا قرب كل واحد منهما قربانا قيل كان قابيل صاحب زرع وقرب أردأ قمح عنه وهابيل صاحب ضرع وقرب جملا سمينا { فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر } لأنه سخط حكم الله سبحانه وتعالى ولم يخلص النية في قربانه وقصد إلى أخس ما عنده { قال لأقتلنك } نوعده بالقتل لفرط الحسد له على تقبل قربانه ولذلك { قال إنما يتقبل الله من المتقين } في جوابه أي إنما أتيت من قبل نفسك بترك التقوى لا من قبلي فلم تقتلني وفيه إشارة إلى أن الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره ويجتهد في تحصيل ما به صار المحسود محظوظا لا في إزالة حظه فإن في ذلك مما يضره ولا ينفعه وأن الطاعة لا تقبل إلا من مؤمن متق

28 - { لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين } قيل كان هابيل أقوى منه ولكن تحرج عن قتله واستسلم له خوفا من الله سبحانه وتعالى لأن الدفع لم يبح بعد أو تحريما لما هو الأفضل قال عليه الصلاة و السلام : [ كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل ] وإنما قال : { ما أنا بباسط } في جواب { لئن بسطت } للتبري عن هذا الفعل الشنيع رأسا والتحرز من أن يوصف به ويطلق عليه ولذلك أكد النفي بالباء

29 - { إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين } تعليل ثاني للامتناع عن المعارضة والمقاومة والمعنى إنما أستسلم لك إرادة أن تحمل إثمي لو بسطت إليك يدي وإثمك ببسط يدك إلي ونحوه المستبان ما قالا فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم وقيل معنى بإثمي بإثم قتلي وبإثمك الذي لم يتقبل من أجله قربانك وكلاهما في موضع الحال أي ترجع متلبسا بالإثمين حملا لهما ولعله لم يرد معصية أخيه وشقاوته بل قصده بهذا الكلام إلى أن ذلك إن كان لا محالة واقفا فأريد أن يكون لك لا لي فالمراد بالذات أن لا يكون له أن يكون لأخيه ويجوز أن يكون المراد بالإثم عقوبته وإرادة عقاب العاصي جائزة

30 - { فطوعت له نفسه قتل أخيه } فسهلته ووسعته من طاع له المرتع إذا اتسع وقرئ { فطوعت } على أنه فاعل بمعنى فعل أو على أن { قتل أخيه } كأنه دعاها إلى الإقدام عليه فطاوعته وله لزيادة الربط كقولك حفظت لزيد ماله { فقتله فأصبح من الخاسرين } دينا ودنيا إذ بقي مدة عمره مطرودا محزونا قيل قتل هابيل وهو ابن عشرين سنة عند عقبة حراء وقيل : بالبصرة في موضع المسجد الأعظم

31 - { فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوآة أخيه } روي أنه لما قتله تحير في أمره ولم يدر ما يصنع به إذ كان أول ميت من بني آدم فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر فحفر له بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة والضمير في ليرى الله سبحانه وتعالى أو للغراب وكيف حال من الضمير في { يواري } والجملة ثاني مفعولي يرى ! والمراد بسوأة أخيه جسده الميت فإنه مما يستقبح أن يرى { قال يا ويلتى } كلمة جزع وتحسر والألف فيها بدل من ياء المتكلم والمعنى يا ويلتي احضري فهذا أوانك والويل والويلة الهلكة { أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوآة أخي } لا أهتدي إلى مثل ما أهتدي إليه وقوله : { فأواري } عطف على { أكون } وليس جواب الاستفهام إذ ليس المعنى ههنا لو عجزت لواريت وقرئ بالسكون على فأنا أواري أو على تسكين المنصوب تخفيفا { فأصبح من النادمين } على قتله لما كابد فيه من التحير في أمره وحمله على رقبته سنة أو أكثر على ما قيل وتلمذه للغراب واسوداد لونه وتبري أبويه منه إذ روي أنه لما قتله اسود جسده فسأله آدم عن أخيه فقال ما كنت عليه وكيلا فقال بل قتلته ولذلك اسود جسدك وتبرأ منه ومكث بعد ذلك مائة سنة لا يضحك وعدم الظفر بما فعله من أجله

32 - { من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل } بسببه قضينا عليهم وأجل في الأصل مصدر أجل شرا إذا جناه استعمل في تعليل الجنايات كقولهم من جراك فعلت أي من جررته أي جنيته ثم اتسع فيه فاستعمل في كل تعليل ومن ابتدائية متعلقة بكتبنا أي ابتداء الكتب ونشوء من أجل ذلك { أنه من قتل نفسا بغير نفس } أي بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص { أو فساد في الأرض } أو بغير فساد فيها كالشرك أو قطع الطريق { فكأنما قتل الناس جميعا } من حيث أنه هتك حرمة الدماء وسن القتل وجرأ الناس عليه أو من حيث أ قتل الواحد وقتل الجميع سواء في استجلاب غضب الله سبحانه وتعالى والعذاب العظيم { ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا } أي ومن تسبب لبقاء حياتها بعفو أو منع عن القتل أو استنقاذ من بعض أسباب الهلكة فكأنما فعل ذلك بالناس جميعا والمقصود منه تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب ترهيبا عن التعرض لها وترغيبا في المحاماة عليها { ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون } أي بعد ما كتبنا عليهم هذا التشديد العظيم من أجل أمثال ذلك الجناية وأرسلنا إليهم الرسل بالآيات الواضحة تأكيدا للأمر وتجديدا للعهد كي يتحاموا عنها وكثير منهم يسرفون في الأرض بالقتل ولا يبالون به وبهذا اتصلت القصة بما قبلها والإسراف التباعد عن حد الاعتدال في الأمر

33 - { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } أي يحاربون أولياءهما وهم المسلمون جعل محاربتهم محاربتهما تعظيما وأصل الحرب السلب والمراد به ههنا قطع الطريق وقيل المكابرة في باللصوصية وإن كانت في مصر { ويسعون في الأرض فسادا } أي مفسدين ويجوز نصبه على العلة أو المصدر لأن سعيهم كان فسادا فكأنه قيل : ويفسدون في الأرض فسادا { أن يقتلوا } أي قصاصا من غير صلب إن أفردوا القتل { أو يصلبوا } أي يصلبوا مع القتل إن قتلوا وأخذوا المال وللفقهاء خلاف في أنه يقتل ويصلب أو يصلب حيا ويترك أو يطعن حتى يموت { أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف } تقطع أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى إن أخذوا المال ولم يقتلوا { أو ينفوا من الأرض } ينفوا من بلد إلى بلد بحيث لا يتمكنون من القرار في موضع إن اقتصروا على الإخافة وفسر أبو حنيفة النفي بالحبس وأو في الآية على التفصيل وقيل : إنه للتخيير والإمام مخير بين هذه العقوبات في كل قاطع طريق { ذلك لهم خزي في الدنيا } ذل وفضيحة { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } لعظم ذنوبهم

34 - { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } استثناء مخصوص بما هو حق لله سبحانه وتعالى ويدل عليه قوله تعالى : { فاعلموا أن الله غفور رحيم } أما القتل قصاصا فإلى الأولياء يسقط بالتوبة وجوبه لا جوازه وتقييد التوبة بالتقدم على القدرة يدل على أنها بعد القدرة لا تسقط الحد وإن أسقطت العذاب وأن الآية في قطاع المسلمين لأن توبة المشرك تدرأ عنه العقوبة قبل القدرة وبعدها

35 - { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة } أي ما تتوسلون به إلى ثوابه والزلفى منه بفعل الطاعات وترك المعاصي من وسل إلى كذا إذا تقرب إليه وفي الحديث [ الوسيلة منزلة في الجنة ] { وجاهدوا في سبيله } بمحاربة أعدائه الظاهرة والباطنة { لعلكم تفلحون } بالوصول إلى الله سبحانه وتعالى والفوز بكرامته

36 - { إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض } من صنوف الأموال { جميعا ومثله معه ليفتدوا به } ليجعلوه فدية لأنفسهم { من عذاب يوم القيامة } واللام متعلقة بمحذوف تستدعيه لو إذ التقدير لو ثبت أن لهم ما في الأرض وتوحيد الضمير في به والمذكور شيئان إما لإجرائه مجرى اسم الإشارة في نحو قوله تعالى : { عوان بين ذلك } أو لأن الواو ومثله بمعنى مع { ما تقبل منهم } جواب ولو بما في حيزه خبر إن والجملة تمثيل للزوم العذاب لهم وأنه لا سبيل لهم إلى الخلاص منه { ولهم عذاب أليم } تصريح بالمقصود منه وكذلك قوله :

37 - { يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم } وقرئ { يخرجوا } من أخرج وإنما قال { وما هم بخارجين } بدل وما يخرجون للمبالغة

38 - { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } جملتان عند سيبويه إذ التقدير فيما يتلى عليكم السارق والسارقة أي حكمهما وجملة عند المبرد والفاء للسببية دخل الخبر لتضمنهما معنى الشرط إذ المعنى : والذي سرق والتي سرقت وقرئ بالنصب وهو المختار في أمثاله لأن الإنشاء لا يقع خبرا إلا بإضمار وتأويل والسرقة : أخذ مال الغير في خفية وإنما توجب القطع إذا كانت من حرز والمأخوذ ربع دينار أو ما يساويه لقوله عليه الصلاة و السلام [ القطع في ربع دينار فصاعدا ] وللعلماء خلاف في ذلك لأحاديث وردت فيه وقد استقصيت الكلام فيه في شرح المصابيح والمراد بالأيدي الإيمان ويؤيده قراءة ابن مسعود رضي الله عنه أيمانهم ولذلك ساغ وضع الجمع موضع المثنى كما في قوله تعالى : { فقد صغت قلوبكم } اكتفاء بتثنية المضاف إليه واليد اسم لتمام العضو ولذلك ذهب الخوارج إلى أن المقطع هو المنكب والجمهور على أنه الرسغ لأنه عليه الصلاة و السلام أتى بسارق فأمر بقطع يمينه منه { جزاء بما كسبا نكالا من الله } منصوبان على المفعول له أو المصدر ودل على فعلهما فاقطعوا { والله عزيز حكيم }

39 - { فمن تاب } من السراق { من بعد ظلمه } أي بعد سرقته { وأصلح } أمره بالتقصي عن التبعات والعزم على أن لا يعود إليها { فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم } يقبل توبته فلا يعذبه في الآخرة وأما القطع فلا يسقط بها عند الأكثرين لأن فيه حق المسروق منه

40 - { ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض } الحطاب للنبي صلى الله عليه و سلم أو لكل أحد { يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير } قدم التعذيب على المغفرة إيتاء على ترتيب ماسبق أو لأن استحقاق التعذيب مقدم أو لأن المراد به القطع وهو في الدنيا

41 - { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } أي صنيع الذين يقعون في الكفر سريعا أي في إظهاره إذا وجدوا منه فرصة { من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } أي من المنافقين والباء متعلقة بقالوا لا بآمنا والوا تحتمل الحال والعطف { ومن الذين هادوا } عطف على { من الذين قالوا } { سماعون للكذب } خبر محذوف أي هم سماعون والضمير للفريقين أو للذين يسارعون ويجوز أن يمون مبتدأ ومن الذين خبره أي ومن اليهود قوم سماعون واللام في للكذب إما مزيدة للتأكيد أو لتضمين السماع معنى القبول أي قابلون لما تفتريه الأحبار أو للعلة والمفعول محذوف أي : سماعون كلامك ليكذبوا عليك فيه { سماعون لقوم آخرين لم يأتوك } أي لجمع آخرين من اليهود لم يحضروا مجلسك وتجافوا عنك تكبرا وإفراطا في البغضاء والمعنى على الوجهين أي مصغون لهم قابلون كلامهم أو سماعون منك لأحلهم والإنهاء إليهم ويجوز أ تتلعق اللام بالكذب لأن سماعون الثاني مكرر للتأكيد أي : سماعون ليكذبوا لقوم آخرين { يحرفون الكلم من بعد مواضعه } أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها إما لفظا : بإهماله أو تغيير وضعه وإما معنى : بحمله على غير المراد وإجرائه في غير مورده والجملة صفة أخرى لقوم أو صفة لسماعون أو حال من الضمير فيه أو استئناف لا موضع له أو في موضع الرفع خبرا لمحذوف أي هم يحرفون وكذلك { يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه } أي إن أوتيتم هذا المحرف فاقبلوه واعملوا به { وإن لم تؤتوه } بل أفتاكم محمد بخلافه { فاحذروا } أي احذروا قبول ما أفتاكم به روي [ أن شريفا من خيبر زنى بشريفة وكانا محصنين فكرهوا رجمهما فأرسلوهما مع رهط منهم إلى بني قريضة ليسألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم عنه وقالوا : إن أمركم بالجلد والتحميم فاقبلوا وإن أمركم بالرجم فلا فأمرهم بالرجم فأبوا عنه فجعل ابن صوريا حكما بينه وبينهم وقال له : أنشدك الله الذي لا إله إلا هو الذي فلق البحر لموسى ورفع فوقكم الطور وأنجاكم وأغرق آل فرعون والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه هل تجدون فيه الرجم على من أحصن قال : نعم فوثبوا عليه فقال : خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بالزانيين فرجما عند باب المسجد ] { ومن يرد الله فتنته } ضلالته أو فضيحته { فلن تملك له من الله شيئا } فلن تستطيع له من الله شيئا في دفعها { أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } من الكفر وهو كما ترى نص على فساد قول المعتزلة { لهم في الدنيا خزي } هو أن بالجزية والخوف من المؤمنين { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } وهو الخلود في النار والضمير للذين هادوا إن استأنفت بقوله ومن الذين وإلا فللفريقين

42 - { سماعون للكذب } كرره للتأكيد { أكالون للسحت } أي الحرام كالرشا من سحته إذا استأصله لأنه مسحوت البركة وقرأ ابن كثير و أبو عمرو و الكسائي و يعقوب في المواضع الثلاثة بضمتين وهما لغتان كالعنق والعنق وقرئ بفتح السين على لفظ المصدر { فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } تحيير لرسول الله صلى الله عليه و سلم إذا تحاكموا إليه بين الحكم والإعراض ولهذا قيل : لو تحاكم كتابيان إلى القاضي لم يجب عليه الحكم وهو قول الشافعي والأصح وجوبه إذا كان المترافعان أو أحدهما ذميا لأنا التزمنا الذب عنهم ودفع الظلم منهم والآية ليست في أهل الذمة وعند أبي حنيفة يجب مطلقا { وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا } بأن يعادوك لإعراضك عنهم فإن الله سبحانه وتعالى يعصمك من الناس { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } أي بالعدل الذي أمر الله به { إن الله يحب المقسطين } فيحفظهم ويعظم شأنهم

43 - { وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله } تعجيب من تحكيمهم من لا يؤمنون به والحال أن الحكم منصوص عليه في الكتاب الذي عندهم وتنبيه على أنهم ما قصدوا بالتحكيم معرفة الحق وإقامة الشرع وإنما طلبوا به ما يكون أهون عليهم وإن لم يكن حكم الله تعالى في زعمهم و { فيها حكم الله } حال م التوراة إن رفعتها بالظرف وإن جعلتها مبتدأ فمن ضميرها المستكن فيه وتأنيثها لكونها نظيرة المؤنث في كلامهم لفظا كموماة ودوداة { ثم يتولون من بعد ذلك } ثم يعرضون عن حكمك الموافق لكتابهم بعد التحكيم وهو عطف على يحكمونك داخل في حكم التعجيب { وما أولئك بالمؤمنين } بكتابهم لإعراضهم عنه أولا وعما يوافقه ثانيا أو بك وبه

44 - { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى } يهدي إلى الحق { ونور } يكشف عما استبهم من الأحكام { يحكم بها النبيون } يعني أنبياء بني إسرائيل أو موسى ومن بعده إن قلنا شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ وبهذه الآية تمسك القائل به { الذين أسلموا } صفة أجريت على النبيين مدحا لهم وتنويها بشأن المسلمين وتعريضا باليهود وأنهم بمعزل عن دين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واقتفاء هديهم { للذين هادوا } متعلق بأنزل أو بيحكم أي يحكمون بها في تحاكمهم وهو يدل على أن النبيين أنبياؤهم { والربانيون والأحبار } زهادهم وعلماؤهم السالكون طريقة أنبياؤهم عطف على النبييون { بما استحفظوا من كتاب الله } بسبب أمر الله إياهم بأن يحفظوا كتابه من التضييع والتحريف والراجع إلى ما محذوف ومن النبيين { وكانوا عليه شهداء } رقباء لا يتركون أن يغير أو شهداء يبينون ما يخفى منه كما فعل ابن صوريا { فلا تخشوا الناس واخشون } نهي للحكام أن يخشوا غير الله في حكوماتهم ويداهنوا فيها خشية ظالم أو مراقبة كبير { ولا تشتروا بآياتي } ولا تستبدلوا بأحكامي التي أنزلتها { ثمنا قليلا } هو الرشوة والجاه { ومن لم يحكم بما أنزل الله } مستهينا به منكرا له { فأولئك هم الكافرون } لاستهانتهم به وتمردهم بأن حكموا بغيره ولذلك وصفهم بقوله { الكافرون } و { الظالمون } و { الفاسقون } فكفرهم لإنكاره وظلمهم بالحكم على خلافه وفسقهم بالخروج عنه ويجوز أن يكون كل واحدة من الصفات الثلاث باعتبار حال انضمت إلى الامتناع عن الحكم به ملائمة لها أو لطائفة كما قيل هذه في المسلمين لاتصالهم بخطابهم والظالمين في اليهود والفاسقون في النصارى

45 - { وكتبنا عليهم } وفرضنا على اليهود { فيها } في التوراة { أن النفس بالنفس } أي أن النفس تقتل بالنفس { والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن } رفعها الكسائي على أنها جمل معطوفة على أن وما في حيزها باعتبار المعنى وكأنه قيل : وكتبنا عليهم النفس بالنفس والعين بالعين فإن الكتابة والقراءة تقعان على اجمل كالقول أو مستأنفة ومعناها : كذلك العين مفقوءة بالعين والأنف مجدوعة بالأنف والأذن مصلومة بالأذن والسن مقلوعة بالسن أو على أن المرفوع منها معطوف على المستكن في قوله بالنفس وإنما ساغ لأنه في الأصل مفصول عنه بالطرف والجار والمجرور حال مبينة للمعنى وقرأ نافع { والأذن بالأذن } وفي أذنيه باسكان الذال حيث وقع { والجروح قصاص } أي ذات قصاص وقرأ الكسائي أيضا بالرفع ووافقه ابن كثير و أبو عمرو و ابن عامر على أنه إجمال للحكم بعد التفضيل { فمن تصدق } من المستحقين { به } بالقصاص أي فمن عفا عنه { فهو } فالتصدق { كفارة له } للمتصدق يكفر الله به ذنوبه وقيل للجاني يسقط عنه ما لزمه وقرئ { فهو كفارة له } فالمتصدق كفارته التي يستحقها بالتصدق له لا ينقص منها شيء { ومن لم يحكم بما أنزل الله } من القصاص وغيره { فأولئك هم الظالمون }

46 - { وقفينا على آثارهم } أي وأتبعناهم على آثارهم فحذف المفعول لدلالة الجار والمجرور عليه والضمير للنبيون { بعيسى ابن مريم } مفعول ثاني عدي إليه الفعل بالباء { مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل } وقرىء بفتح الهمزة { فيه هدى ونور } في موضع النصب بالحال { ومصدقا لما بين يديه من التوراة } عطف عليه وكذا قوله : { وهدى وموعظة للمتقين } ويجوز نصبهما على المفعول له عطفا على محذوف أو تعلقا به وعطف

47 - { وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه } { عليه } في قراءة حمزة وعلى الأول اللام متعلقة بمحذوف أي وآتيناه ليحكم وقرئ : { وإن ربك ليحكم } على أن أن موصولة بالأمر كقولك : أمرتك بأن قم أي وأمرنا بأن ليحكم { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } عن حكمه أو عن الإيمان إن كان مستهينا به والآية تدل على أن الإنجيل مشتمل على الأحكام وأن اليهودية منسوخة ببعثة عيسى عليه الصلاة و السلام وأنه كان مستقلا بالشرع وحملها على وليحكموا بما أنزل الله فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة خلاف الظاهر

48 - { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق } أي القرآن { مصدقا لما بين يديه من الكتاب } من جنس الكتب المنزلة فاللام الأولى للعهد والثانية للجنس { ومهيمنا عليه } ورقيبا على سائر الكتب يحفظه عن التغيير ويشهد له بالصحة والثبات وقرئ على بنية المفعول أي هومن عليه وحوفظ من التحريف والحافظ له هو الله سبحانه وتعالى أو الحفاظ في كل عصر { فاحكم بينهم بما أنزل الله } أي بما أنزل الله إليك { ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق } بالانحراف عنه إلى ما يشتهونه فعن صلة للاتتبع لتضمنه معنى لا تنحرف أو حال من فاعله أي لا تتبع أهواءهم مائلا عما جاءك { لكل جعلنا منكم } أيها الناس { شرعة } شريعة وهي الطريقة إلى الماء شبهه بها الدين لأنه طريق إلى ما هو سبب الحياة الابدية وقرئ بفتح الشين { ومنهاجا } وطريقا واضحا في الدين من نهج الأمر إذا وضح واستدل به على أنا غير متعبدين بالشرائع المتقدمة { ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة } جماعة متفقة على دين واحد في جميع الأعصار من غير نسخ وتحويل ومفعول لو شاء محذوف دل عليه الجواب وقيل المعنى لو شاء الله اجتماعكم على الإسلام لأجبركم عليه { ولكن ليبلوكم في ما آتاكم } من الشرائع المختلفة المناسبة لكل عصر وقرن هل تعملون بها مذعنين لها معتقدين أن اختلافها بمقتضى الحكمة الإلهية أم تزيغون عن الحق وتفرطون في العمل { فاستبقوا الخيرات } فابتدروها انتهازا للفرصة وحيازة لفضل اسبق والتقدم { إلى الله مرجعكم جميعا } استئناف فيه تعليل الأمر بالاستباق ووعد ووعيد للمبادرين والمقصرين { فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } بالجزاء الفاصل بين المحق والمبطل والعامل والمقصر

49 - { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } عطف على الكتاب أي أنزلنا إليك الكتاب والحكم أو على الحق أي أنزلناه بالحق وبأن احكم ويجوز أ يكون جملة بتقدير وأمرنا أن أحكم { ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك } أي أن يضلوك ويصرفوك عنه وأن بصلته بدل من هم بدل الاشتمال أي احذر فتنتهم أو مفعول له أي احذرهم مخافة أن يفتنوك روي [ أن أحبار اليهود قالوا : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه فقالوا يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأنا إن تبعناك اتبعنا اليهود كلهم إن بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم ] فنزلت { فإن تولو } عن الحكم المنزل وأرادوا غيره { فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم } يعني ذنب التولي عن حكم الله سبحانه وتعالى فعبر عنه بذلك تنبيها على أن لهم ذنوبا كثيرة وهذا مع عظمه واحد منها معدود من جملتها وفيه دلالة على التعظيم كما في التنكير ونظيره قول لبيد :
( أو يرتبط بعض النفوس حمامها )
{ وإن كثيرا من الناس لفاسقون } لمتمردون في الكفر معتدون فيه

50 - { أفحكم الجاهلية يبغون } الذي هو الميل والمداهنة في الحكم والمراد بالجاهلية الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى وقيل نزلت في بني قريظة والنضير طلبوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يحكم بما كان يحكم به أهل الجاهلية من التفاضل بين القتلى وقرئ برفع الحكم على أنه مبتدأ و { يبغون } خبره والراجع محذوف حذفه في الصلة في قوله تعالى : { أهذا الذي بعث الله رسولا } واستضعف ذلك في غير الشعر وقرئ أفحكم الجاهلية أي يبغون حاكما كحكام الجاهلية يحكم بحسب شهيتهم وقرأ ابن عامر تبغون بالتاء على قل لهم أفحكم الجاهلية تبغون { ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } أي عندهم واللام للبيان كما في قوله تعالى : { هيت لك } أي هذا الاستفهام لقوم يوقنون فإنهم هم الذين يتدبرون الأمور ويتحققون الأشياء بأنظارهم فيعلمون أن لا أحسن حكما من الله سبحانه وتعالى

51 - { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } فلا تعتمدوا عليهم ولا تعاشروهم معاشرة الأحباب { بعضهم أولياء بعض } إيماء إلى علة النهي أي فإنهم متفقون على خلافكم يوالي بعضهم بعضا لاتحادهم في الدين وإجماعهم على مضادتكم { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } أي ومن والاهم منكم فإنه من جملتهم وهذا التشديد وجوب مجانبتهم كما قال عليه الصلاة و السلام : [ لا تتراءى ناراهما ] أو لأن الموالي لهم كانوا منافقين { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } أي الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفار أو المؤمنين بموالاة أعدائهم

52 - { فترى الذين في قلوبهم مرض } يعني ابن أبي وأضرابه { يسارعون فيهم } أي في موالاتهم ومعاونتهم { يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة } يعتذرون بأنهم يخافون أن تصيبهم دائرة من دوائر الزمان بأن ينقلب الأمر وتكون الدولة للكفار روي [ أن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم : إن لي موالي من اليهود كثير عددهم وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولا يتهم وأوالي الله ورسوله فقال ابن أبي : إني رجل أخاف الدوائر ولا أبرأ من ولاية موالي ] فنزلت { فعسى الله أن يأتي بالفتح } لرسول الله صلى الله عليه و سلم على أعدائه وإظهار المسلمين { أو أمر من عنده } يقطع شأفة اليهود من القتل والإجلاء أو الأمر بإظهار أسرار المنافقين وقتلهم { فيصبحوا } أي هؤلاء المنافقون { على ما أسروا في أنفسهم نادمين } على ما استبطنوه من الكفر والشك في أمر الرسول صلى الله عليه و سلم فضلا عما أظهروه مما أشعر على نفاقهم

53 - { ويقول الذين آمنوا } بالرفع قراءة عاصم و حمزة و الكسائي على أنه كلام مبتدأ ويؤيده قراءة ابن كثير و نافع و ابن عامر مرفوعا بغير واو على أن يأتي باعتبار المعنى وكأنه قال : عسى أن يأتي الله بالفتح ويقول الذين آمنوا أو يجعله بدلا من اسم الله تعالى داخلا في اسم عسى مغنيا عن الخبر بما تضمنه من الحدث أو على الفتح بمعنى عسى الله أن يأتي بالفتح وبقول المؤمنين فإن الإتيان بما يوجبه كالإتيان به { أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم } يقول المؤمنين بعضهم إلى بعض تعجبا من حال المنافقين وتبجحا بما من الله سبحانه وتعالى عليهم من الإخلاص أو يقولونه لليهود فإن المنافقين حلفوا لهم بالمعاضدة كما حكى الله تعالى عنهم { وإن قوتلتم لننصرنكم } وجهد الأيمان أغلظها وهو في الأصل مصدر ونصبه على الحال على تقدير وأقسموا بالله يجهدون جهد أيمانهم فحذف الفعل وأقيم المصدر مقامه ولذلك ساغ كونها معرفة أو على المصدر لأنه بمعنى أقسموا { حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين } إما من جملة المقول أو قول الله سبحانه وتعالى شهادة لهم بحبوط أعمالهم وفيه معنى التعجب كأنه قيل احبط أعمالهم فما أخسرهم

54 - { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه } قرأه على الأصل نافع و ابن عامر وهو كذلك في الإمام والباقون بالإدغام وهذا من الكائنات التي أخبر الله تعالى عنها قبل وقوعها وقد ارتد من العرب في أواخر عهد الرسول صلى الله عليه و سلم ثلاث فرق : بنو ملدج وكان رئيسهم ذو الخمار الأسود العنسي تنبأ باليمن واستولى على بلاده ثم قتله فيروز الديلمي ليلة قبض رسول الله صلى الله عليه و سلم من غدها وأخبر الرسول صلى الله عليه و سلم في تلك الليلة فسر المسلمين وأتى الخبر في أواخر ربيع الأول وبنو حنيفة أصحاب مسيلمة تنبأ وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم : من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله أما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك فأجاب من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين فحاربه أبو بكر رضي الله تعالى عنه بجند من المسلمين وقتله وحشي قاتل حمزة وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد تنبأ فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم خالدا فهرب بعد القتال إلى الشام ثم أسلم وحسن إسلامه وفي عهد أبي بكر رضي الله عنه سبع فزازة قوم غيبنه بن حصن وغطفان قوم فرة بن سلمة القشيري وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد الله يا ليل وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة وبعض تميم قوم سجاح بنت المنذر المتنبئة زوجة مسيلمة وكندة قوم الأشعث بن غيث وبنو بكر بن وائل في البحرين قوم الحطم بن زيد وكفى الله أمرهم على يده وفي إمرة عمر بن الحطاب رضي الله تعالى عنه غسان قوم جبلة بن الأيهم تنصر وسار إلى الشام { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } قيل هم أهل اليمن لما روي [ أنه عليه الصلاة و السلام أشار إلى أبي موسى الأشعري وقال : هم قوم هذا ] وقيل الفرس لأنه عليه الصلاة و السلام سئل عنهم فضرب يده على عاتق سلمان وقال : هذا وذووه وقيل الذين جاهدوا يوم القادسية ألفان من النخع وخمسة آلاف من كنده وبجيلة وثلاثة آلاف من أفناء الناس والراجع إلى من محذوف تقديره فسوف يأتي الله بقوم مكانهم ومحبة الله تعالى للعباد إرادة الهدى والتوفيق لهم في الدنيا وحسن الثواب في الآخرة ومحبة العباد له إرادة طاعته والتحرز عن معاصيه { أذلة على المؤمنين } عاطفين عليهم متذللين لهم جمع ذليل لا ذلول فإن جمعه ذلل واستعماله مع على إما لتضمنه معنى العطف والحنو أو للتنبيه على أنهم مع علو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خاضعون لهم أو للمقابلة { أعزة على الكافرين } شداد متغلبين عليهم من عزه إذا غلبه وقرئ بالنصب على الحال { يجاهدون في سبيل الله } صفة أخرى لقوم أو حال من الضمير في أعزة { ولا يخافون لومة لائم } عطف على يجاهدون بمعنى أنهم الجامعون بين المجاهدة في سبيل الله والتصلب في دينه أو حال بمعنى أنهم مجاهدون حالهم خلاف حال المنافقين فإنهم يخرجون في جيش المسلمين خائفين ملامة أوليائهم من اليهود فلا يعملون شيئا يلحقهم فيه لوم من جهتهم واللوم المرة من اللوم فيها وفي تنكير لائم مبالغتان { ذلك } إشارة إلى ما تقدم من الأوصاف { فضل الله يؤتيه من يشاء } يمنحه ويوفق له { والله واسع } كثير الفضل { عليم } بمن هو أهله

55 - { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } لما نهى عن موالاة الكفرة ذكر عقبيه من هو حقيق بها وإنما قال { وليكم الله } ولم يقل أولياؤكم للتنبيه على أن الولاية لله سبحانه وتعالى على الأصالة ولرسوله صلى الله عليه و سلم وللمؤمنين على التبع { الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة } صفة للذين آمنوا فإنه جرى مجرى الاسم أو بدل منه ويجوز نصبه ورفعه على المدح { وهم راكعون } متخشعون في صلاتهم وزكاتهم وقيل هو حال مخصوصة بيؤتون أو يؤتون الزكاة في حال ركوعهم في الصلاة حرصا على الإحسان ومسارعه إليه وإنها نزلت في علي رضي الله تعالى عنه حين سأله سائل وهو راكع في صلاته فطرح له خاتمه واستدل بها الشيعة على إمامته أن المراد بالولي المتولي للأمور والمستحق للتصرف فيها والظاهر ما ذكرناه مع أن حمل الجمع على الواحد أيضا خلاف الظاهر وإن صح أنه نزل فيه فلعله جيء الجمع لترغيب الناس في مثل فعله ليندرجوا فيه وعلى هذا يكون دليل على أن الفعل القليل في الصلاة لا يبطلها وأن الصدقة التطوع تسمى زكاة

56 - { ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا } ومن يتخذهم أولياء { فإن حزب الله هم الغالبون } أي فإنهم هم الغالبون ولكن وضع الظاهر موضع المضمر تنبيه على البرهان عليه فكأن قيل : ومن يتولى هؤلاء فهم حزب الله وحزب الله هم الغالبون وتنويها بذكرهم وتعظيما لشأنهم وتشريفا لهم بهذا الإسم وتعريضا لمن يوالي غير هؤلاء بأنه حزب الشيطان وأصل الحزب القوم يجتمعون لأمر حز بهم

57 - { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء } نزلت في رفاعة بن زيد وسويد ابن الحرث أظهرا الإسلام ثم نافقا وكان رجال من المسلمين يوادونهم وقد رتب النهي عن موالاتهم على اتخاذهم دينهم هزوا ولعبا وإيماء إلى العلة وتنبيها على أن من هذا شأنه بعيد عن الموالاة جدير بالمعاداة والبغضاء وفصل المستهزئين بأهل الكتاب والكفار على قراءة من جره وهم أبو عمرو و الكسائي و يعقوب والكفار وإن عم أهل الكتاب يطلق على المشركين خاصة لتضاعف كفرهم ومن نصبه عطفه على الذين اتخذوا على أن النهي عن موالاة من ليس على الحق رأسا سواء من كان ذا دين تبع فيه الهوى وحرفه عن الصواب كأهل الكتاب ومن لم يكن كالمشركين { واتقوا الله } بترك المناهي { إن كنتم مؤمنين } لأن الإيمان حقا يقتضي ذلك وقيل إن كنتم مؤمنين بوعده ووعيده

58 - { وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا } أي اتخذوا الصلاة أو المناداة وفيه دليل على أن الأذان مشروع للصلاة روي : أن نصرانيا بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول أشهد أن محمدا رسول الله قال : أحرق الله الكاذب فدخل خادمه ذات ليلة بنار وأهله نيام فتطاير شررها في البيت فأحرقه وأهله { ذلك بأنهم قوم لا يعقلون } فإن السفه يؤدي إلى الجهل بالحق والهزؤ به والعقل يمنع منه

59 - { قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا } هل تنكرون منا وتعيبون يقال نقم منه كذا إذا أنكره وانتقم إذا كافأه وقرء { تنقمون } بفتح القاف وهي لغة { إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل } الإيمان بالكتب المنزلة كلها { وأن أكثركم فاسقون } عطف على { أن آمنا } وكأن المستثنى لازم الأمرين وهو المخالفة أي : ما تنكرون منا إلا مخالفتكم حيث دخلنا الإيمان وأنتم خارجون منه أو كان الأصل واعتقاد أن أكثركم فاسقون فحذف المضاف أو على ما أي : وما تنقمون منا إلا الإيمان بالله بوما أنزل وبأن أكثركم فاسقون وأو على علة محذوفة والتقدير هل تنقمون منا إلا أن آمنا لقلة إنصافكم وفسقكم أو نصب بإضمار فعل يدل عليه هل تنقمون أي : ولا تنقمون أن أكثركم فاسقون أو رفع على الإبتداء والخبر محذوف أي : وفسقكم ثابت معلوم عندكم ولكن حب الرياسة والمال يمنعكم من الإنصاف والآية خطاب ليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم عمن يؤمن به فقال : { آمنا بالله وما أنزل إلينا } إلى قوله : { ونحن له مسلمون } فقالوا حين سمعوا ذكر عيسى : لا نعلم دينا شرا من دينكم

60 - { قل هل أنبئكم بشر من ذلك } أي من لك المنقوم { مثوبة عند الله } جزاء ثابتا عند الله سبحانه وتعالى والمثوبة مختصة بالخير كالعقوبة بالشر فوضعت ها هنا موضعها على طريقة قولهم :
( تحية بينهم ضرب وجيع )
ونصبها عن التمييز عن بشر { من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير } بدل من بشر على حذف مضاف أي بشر من أهل ذلك من لعنه الله أو بشر من ذلك دين محمد لعنه الله أو خبر محذوف أي هو من لعنه الله وهم اليهود أبعدهم الله من رحمته وسخط عليهم بكفرهم وانهماكهم في المعاصي بعد وضوح الآيات ومسخ بعضهم قردة وهم أصحاب السبت وبعضهم خنازير وهم كفار أهل مائدة عيسى عليه الصلاة وقيل كلا المسخين في أصحاب السبت مسخت شبانهم قردة ومشايخهم خنازير { وعبد الطاغوت } عطف على صلة من وكذا { عبد الطاغوت } على البناء للمفعول ورفع { الطاغوت } و { عبد } بمعنى صار معبودا فيكون الراجع محذوفا أي فيهم أو بينهم ومن قرأ { وعبد الطاغوت } أو { عبد } على أنه نعت كفطن ويقظ أو عبدة أو { عبد الطاغوت } على أنه جمع كخدم أو أن أصله عبدة فحذف التاء للإضافة عطفه على القردة ومن قرأ { وعبد الطاغوت } بالجر عطفه على من والمراد { من } الطاغوت العجل وقيل الكهنة وكل من أطاعوه في معصية الله تعالى { أولئك } أي الملعونون { شر مكانا } جعل مكانهم شرا ليكون أبلغ في الدلالة على شرارتهم وقيل { مكانا } منصرفا { وأضل عن سواء السبيل } قصد الطريق المتوسط بين غلو النصارى وقدح اليهود والمراد من صيغتي التفضيل الزيادة مطلقا لا بالإضافة إلى المؤمنين في الشرارة والضلالة

61 - { وإذا جاؤوكم قالوا آمنا } نزلت في يهود نافقوا رسول الله صلى الله عليه و سلم أو في عامة المنافقين { وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به } أي يخرجون من عندك كما دخلوا لم يؤثر فيهم ما سمعوا منك والجملتان حالان من فاعل قالوا وبالكفر وبه حالان من فاعلي دخلوا وخرجوا وقد وإن دخلت لتقريب الماضي من الحال ليصح أن يقع حالا أفادت أيضا لما فيها من التوقع أن أمارة النفاق كانت لائحة عليهم وكان الرسول صلى الله عليه و سلم يظنه ولذلك قال : { والله أعلم بما كانوا يكتمون } أي من الكفر وفيه وعيد لهم

62 - { وترى كثيرا منهم } أي من اليهود أو من المنافقين { يسارعون في الإثم } أي الحرام وقيل الكذب لقوله : { عن قولهم الإثم } { والعدوان } الظلم أو المجاوزة الحد في المعاصي وقيل { الإثم } ما يختص بهم والعدوانالظلم أو المجاوزة في الحد في المعاصي وقيل { الإثم } ما يختص بهم والعدوان ما يتعدى إلى غيرهم { وأكلهم السحت } أي الحرام خصه بالذكر للمبالغة { لبئس ما كانوا يعملون } لبئس شيئا عملوه

63 - { لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت } تحضيض لعلمائهم على النهي عن ذلك فإن لولا إذا دخل على الماضي أفاد التوبيخ وإذا دخل على المستقبل أفاد التحضيض { لبئس ما كانوا يصنعون } أبلغ من قوله لبئس ما كانوا يعملون من حيث إن الصنع عمل الإنسان بعد تدرب فيه وترو وتحري إجادة ولذلك ذم به خواصهم ولأن ترك الحسنة أقبح من مواقعه المعصية لأن النفس تلتذ بها وتميل إليها ولا كذلك ترك الإنكار عليها فكان جديرا بأبلغ الذم

64 - { وقالت اليهود يد الله مغلولة } أي هو ممسك يقتر بالرزق وغل اليد وبسطها كجاز عن البخل والجود ولا قصد فيه إلى إثبات يد وغل وبسط ولذلك يستعمل حيث لا يتصور ذلك كقوله :
( جاد الحمى بسط اليدين بوابل ... شكرت نداه تلاعه ووهاده )
ونظيره من المجازات المركبة : شابت لمة الليل وقيل معناه إنه فقير لقوله تعالى : { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } { غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا } دعاء عليهم بالبخل والنكد أو بالفقر والمسكنة أو بغل الأيدي حقيقة يغلون أسارى في الدنيا ومسحوبين إلى النار في الآخرة فتكون المطابقة من حيث اللفظ وملاحظة الأصل كقولك : سبني سب الله دابره { بل يداه مبسوطتان } ثنى اليد مبالغة في الرد ونفي البخل عنه تعالى وإثباتا لغاية الجود فإن غاية ما يبذله السخي من ماله أن يعطيه بيديه وتنبيها على منح الدنيا والآخرة وعلى ما يعطي للاستدراج وما يعطي للإكرام { ينفق كيف يشاء } تأكيد لذلك أي هو مختار في إنفاقه يوسع تارة ويضيق أخرى على حسب مشيئته ومقتضى حكمته لا على تعاقب وسعة وضيق في ذات يد ولا يجوز جعله حالا من الهاء للفصل بينهما بالخبر ولأنها مضاف إليها ولا من اليدين غذ لا ضمير لهما فيه ولا من ضميرهما لذلك والآية نزلت في فنحاص بن عازوراء فإنه قال ذلك لما كف الله عن اليهود ما بسط عليهم من السعة بشؤم تكذيبهم محمدا صلى الله عليه و سلم وأشرك فيه الأخرون لأنهم رضوا بقوله : { وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا } أي هم طاغون كافرون ويزدادون طغيانا وكفرا بما يسمعون من القرآن كما يزداد المريض مرضا من تناول الغذاء الصالح للأصحاء { وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة } فلا تتوافق قلوبهم ولا تتطابق أقوالهم { كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله } كلما أرادوا حرب الرسول صلى الله عليه و سلم وإثارة شر عليه ردهم الله سبحانه وتعالى بأن أوقع بينهم منازعة كف بها عنه شرهم أو كلما أرادوا حرب أحد غلبوا فإنهم لما خالفوا حكم التوراة سلط الله عليهم بختنصر ثم أفسدوا فسلط عليهم فطرس الرومي ثم أفسدوا فسلط عليهم المجوس ثم أفسدوا فسلط عليهم المسلمين وللحرب صفة أوقدوا أو صفة نارا { ويسعون في الأرض فسادا } أي للفساد وهو اجتهادهم في الكيد وإثارة الحروب والفتن وهتك المحارم { والله لا يحب المفسدين } فلا يجازيهم إلا شرا

65 - { ولو أن أهل الكتاب آمنوا } بمحمد وبما جاء به { واتقوا } ما عددنا من معاصيهم ونحوه { لكفرنا عنهم سيئاتهم } التي فعلوها ولم نؤاخذهم بها { ولأدخلناهم جنات النعيم } وجعلناهم داخلين فيها وفيه تنبيه على عظم معاصيهم وكثرة ذنوبهم وأن الإسلام يجب ما قبله وإن جل وأن الكتابي لا يدخل الجنة ما لم يسلم

66 - { ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل } بإذاعة ما فيهما من نعت محمد صلى الله عليه و سلم والقيام بأحكامها { وما أنزل إليهم من ربهم } يعني سائر الكتب المنزلة فإنها من حيث أنهم مكلفون بالإيمان بها كالمنزل إليهم أو القرآن { لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم } لوسع عليهم أرزاقهم بأن يفيض عليهم بركات من السماء والأرض أو يكثر ثمرة الأشجار وغلة الزروع أو يرزقهم الجنان اليانعة الثمار فيجتنونها من رأس الشجر ويلتقطون ما تساقط على الأرض بين ذلك أن ما كف عنهم بشؤم كفرهم ومعاصيهم لا لقصور الفيض ولو أنهم آمنوا وأقاموا ما أمروا به لوسع عليهم وجعل لهم خير الدارين { منهم أمة مقتصدة } عادلة غير غالية ولا مقصرة وهم الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه و سلم وقيل مقتصدة متوسطة في عداوته { وكثير منهم ساء ما يعملون } أي بئس ما يعملونه وفيه معنى التعجب أي ما أسوأ عملهم وهو المعاندة وتحريف الحق والإعراض عنه والإفراط في العداوة

67 - { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } جميع ما أنزل إليك غير مراقب أحدا ولا خائف مكروها { وإن لم تفعل } وإن لم تبلغ جميعه كما أمرتك { فما بلغت رسالته } فما أديت شيئا منها لأن كتمان بعضها يضيع ما أدي منها كترك بعض أركان الصلاة فإن غرض الدعوة ينتقض به أو فكأنك ما بلغت شيئا منها كقوله : { فكأنما قتل الناس جميعا } من حيث أن كتمان البعض والكل شواء في الشفاعة واستجلاب العقاب وقرأ نافع و ابن عامر و أبو بكر رسالاته بالجمع وكسر التاء { والله يعصمك من الناس } عدة وضمان من الله سبحانه وتعالى بعصمة روحه صلى الله عليه و سلم من تعرض الأعادي وإزاحة لمعاذيره { إن الله لا يهدي القوم الكافرين } لا يمكنهم مما يريدون بك وعن النبي صلى الله عليه و سلم : [ بعثني الله برسالاته فضقت بها ذرعا فأوحى الله تعالى إلي إن لم تبلغ عني رسالتي عذبتك وضمن لي العصمة فقويت ] وعن أنس رضي الله تعالى عنه [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحرس حتى نزلت فأخرج رأسه من قبة أدم فقال : انصرفوا يا أيها الناس فقد عصمني الله من الناس ] وظاهر الآية يوجب تبليغ ما يتعلق به مصالح العباد وقصد بإنزاله إطلاعهم عليه فإن من الأسرار الإلهية ما يحرم إفشاؤه

68 - { قل يا أهل الكتاب لستم على شيء } أي دين يعتد به ويصح أن يسمى شيئا لأنه باطل { حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم } ومن إقامتها الإيمان بمحمد صلى الله عليه و سلم والإذعان لحكمه فإن الكتب الإلهية بأسرها آمرة بالإيمان بمن صدقه والمعجزة ناطقة بوجوب الطاعة له والمراد إقامة أصولها وما لم ينسخ من فروعها { وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين } فلا تحزن عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم بما تبلغه إليهم فإن ضرر ذلك لاحق بهم لا يتخطاهم وفي المؤمنين مندوحة لك عنهم

69 - { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى } سبق تفسيره في سورة البقرة والصابئون رفع على الإبتداء وخبره محذوف والنية به التأخير عما في حيز إن والتقدير : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا والصابئون كذلك كقوله :
( فإني وقيار بها لغريب )
وقوله :
( وإلا فأعلموا أنا وأنتم ... بغاة ما بقينا في شقاق )
أي فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك وهو كاعتراض دل به على أنه لما كان الصابئون مع ظهور ضلالهم وميلهم عن الأديان كلها يتاب عليهم إن صح منهم الإيمان والعمل الصالح كان غيرهم أولى بذلك ويجوز أن يكون والنصارى معطوفا عليه ومن آمن خبرهما وخبر إن مقدر دل عليه ما بعده كقوله :
( نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف )
ولا يجوز عطفه على محل إن واسمها فإنه مشروط بالفراغ من الخبر إذ لو عطف عليه قبله كان الخبر خبر المبتدأ وخبر إن معا فيجتمع عليه عاملان ولا على الضمير في هادوا لعدم التأكيد والفصل ولأنه يوجب كون الصابئين هودا وقيل إن بمعنى نعم وما بعدها في موضع الرفع بالابتداء وقيل { الصابئون } منصوب بالفتحة وذلك كما جوز بالياء جوز الواو { من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا } في محل الرفع بالابتداء وخبره { فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } والجملة خبر إن أو خبر المبتدأ كما مر والراجع محذوف أي : من آمن منهم أو بالنصب على البدل من اسم إن وما عطف عليه وقرئ و { الصابئين } وهو الظاهر و { الصابئون } بقلب الهمزة ياء و { الصابئون } بحذفها من صبأ بإبدال الهمزة ألفا أو من صبوت لأنهم صبوا إلى اتباع الشهوات ولم يتبعوا شرعا ولا عقلا

70 - { لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا } ليذكروهم وليبينوا لهم أمر دينهم { كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم } بما يخالف هواهم من الشرائع ومشاق التكاليف { فريقا كذبوا وفريقا يقتلون } جواب الشرط والجملة صفة رسلا والراجع محذوف أي رسول منهم وقيل الجواب محذوف دل عليه ذلك وهو استئناف وإنما جيء ب { يقتلون } موضع قتلوا على حكاية الحال الماضية استحضارا لها واستفظاعا للقتل وتنبيها على أن ذلك من ديدنهم ماضيا ومستقبلا ومحافظة على رؤوس الآي

71 - { وحسبوا أن لا تكون فتنة } أي وحسب بنو إسرائيل أن لا يصيبهم بلاء وعذاب بقتل الأنبياء وتكذيبهم وقرأ أبو عمر و حمزة و الكسائي و يعقوب { لا تكون } وإدخال فعل الحسبان عليها وهي للتحقيق تنزيل له منزلة العلم لتمكنه من قلوبهم و { أن } أو { أن } بما في حيزها ساد مسد مفعوليه { فعموا } عن الدين أو الدلائل والهدى { وصموا } عن استماع الحق كما فعلوا حين عبدوا العجل { ثم تاب الله عليهم } أي ثم تابوا فتاب الله عليهم { ثم عموا وصموا } كرة أخرى وقرئ بالضم فيهما على أن الله تعالى أعماهم وأصمهم أي رماهم بالعمى والصمم وهو قليل واللغة الفاشية أعمى وأصم { كثير منهم } بدل من الضمير أو فاعل والواو علامة الجمع كقولهم : أكلوني البراغيث أو خبر مبتدأ محذوف أي العمى والصم كثير منهم وقيل مبتدأ والجملة قبله خبره وهو ضعيف لأن تقديم الخبر في مثله ممتنع { والله بصير بما يعملون } فيجازيهم على وفق أعمالهم

72 - { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم } أي إني عبد مربوب مثلكم فاعبدوا خالقي وخالقكم { إنه من يشرك بالله } أي في عبادته أو فيما يختص به من الصفات والأفعال { فقد حرم الله عليه الجنة } يمنع من دخولها كما يمنع المحرم عليه من المحرم فإنها دار الموحدين { ومأواه النار } فإنها معدة للمشركين { وما للظالمين من أنصار } أي وما لهم من أحد ينصرهم من النار فوضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا على أنهم ظلموا بالاشراك وعدلوا عن طريق الحق وهو يحتمل أن يكون من تمام كلام عيسى عليه الصلاة وأن يكون من كلام الله تعالى نبه به على أنهم قالوا ذلك تعظيما لعيسى عليه صلى الله عليه و سلم وتقربا إليه وهو معاديهم بذلك ومخاصمهم فيه فما ظنك بغيره

73 - { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } أي أحد ثلاثة وهي حكاية عما قاله النسطورية والملكانية منهم القائلون بالأقانيم الثلاثة وما سبق قول اليعقوبية القائلين بالاتحاد { وما من إله إلا إله واحد } وما في الوجود ذات واجب مستحق للعبادة من حيث إنه مبدئ جميع الموجودات إلا إله واحد موصوف بالوحدانية متعال عن قبول الشركة ومن مزيدة للاستغراق { وإن لم ينتهوا عما يقولون } ولم يوحدوا { ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم } أي ليمسن الذين بقوا منهم على الكفر أو ليمسن الذين كفروا من النصارى وضعه موضع ليمسنهم تكريرا للشهادة على كفرهم وتنبيها على أن العذاب على من دام على الكفر ولم ينقلع عنه فلذلك عقبه بقوله :

74 - { أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه } أي أفلا يتوبون بالإنهاء عن تلك العقائد والأقوال الزائغة ويستغفرونه بالتوحيد والتنزيه عن الاتحاد والحلول بعد هذا التقرير والتهديد { والله غفور رحيم } يغفر لهم ويمنحهم من فضله إن تابوا وفي هذا الاستفهام تعجيب من إصرارهم

75 - { ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } أي ما هو إلا رسول كالرسل قبله خصه الله سبحانه وتعالى بالآيات كما خصهم بها فإن إحياء الموتى على يده فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى على يد موسى عليه السلام وهو أعجب وإن خلقه من غير أب فقد خلق آدم من غير أب وأم أغرب { وأمه صديقة } كسائر النساء اللاتي يلازمن الصدق أو يصدقن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام { كانا يأكلان الطعام } ويفتقران إليه افتقار الحيوانات بين أولا أقصى ما لهما من الكمال ودل على أنه لا يوجب لهما ألوهية لأن كثيرا من الناس يشاركهما في مثله ثم نبه على نقصهما وذكر ما ينافي الربوبية ويقتضي أن يكونا من عداد المركبات الكائنة الفاسدة ثم عجب لمن يدعي الربوبية لهما مع أمثال هذه الأدلة الظاهرة فقال : { انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون } كيف يصرفون عن استماع الحق وتأمله وثم لتفاوت ما بين العجيبين أي إن بياننا للآيات عجب وإعراضهم عنها أعجب

76 - { قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا } يعني عيسى عليه الصلاة و السلام وهو إن ملك ذلك بتمليك الله سبحانه وتعالى إياه لا يملكه من ذاته ولا يملك مثل ما يضر الله تعالى به من البلايا والمصائب وما ينفع به من الصحة والسعة وإنما قال ما نظرا إلى ما هو عليه في ذاته توطئة لنفي القدرة عنه رأسا وتنبيها على أنه من هذا الجنس ومن كان له حقيقة تقبل المجانسة والمشاركة فبمعزل عن الألوهية وإنما قدم الضر لأن التحرز عنه أهم من تحري النفع { والله هو السميع العليم } بالقوال والعقائد فيجازي عليها إن خيرا فخير وإن شرا فشر

77 - { قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق } أي غلوا باطلا فترفعوا عيسى عليه الصلاة و السلام إلى أن تدعوا له الألوهية أو تضعوه فتزعموا أنه لغير رشدة وقيل الحطاب للنصارى خاصة { ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل } يعني أسلافهم وأئمتهم الذين قد ضلوا قبل بعث محمد عليه الصلاة و السلام في شريعتهم { وأضلوا كثيرا } ممن شايعهم على بدعهم وضلالهم { وضلوا عن سواء السبيل } عن قصد السبيل الذي هو الإسلام بعد مبعثه صلى الله عليه و سلم لما كذبوه وبغوا عليه وقيل الأول إشارة إلى ضلالهم عن مقتضى اعقل والثاني إشارة إلى ضلالهم عما جاء به الشرع

78 - { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم } أي لعنهم الله في الزبور والإنجيل على لسانهما وقيل أن أهل أيلة لما اعتدوا في السبت لعنهم الله تعالى على لسان داود فمسخهم الله تعالى قردة وأصحاب المائدة لما كفروا دعا عليهم عيسى عليه السلام ولعنهم فأصبحوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل { ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } أي ذلك اللعن الشنيع المقتضي للمسخ بسبب عصيانهم واعتدائهم ما حرم عليهم

79 - { كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه } أي لا ينهي بعضهم بعضا عن معاودة منكر فعلوه أو عن مثل منكر فعلوه أو عن منكر أرادوا فعله وتهيؤوا له أو لا ينتهون عنه من قولهم تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع { لبئس ما كانوا يفعلون } تعجيب من سوء فعلهم مؤكد بالقسم

80 - { ترى كثيرا منهم } من أهل الكتاب { يتولون الذين كفروا } يوالون المشركين بغضا لرسول الله صلى الله عليه و سلم والمؤمنين { لبئس ما قدمت لهم أنفسهم } أي لبئس شيئا قدموه ليزدادوا عليه يوم القيامة { أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون } هو المخصوص بالذم والمعنى موجب سخط الله والخلود في العذاب أو علة الذم والمخصوص محذوف أي لبئس شيئا ذلك لنه كسبهم السخط والخلود

81 - { ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي } يعني نبيهم وإن كانت الآية في المنافقين فالمراد نبينا عليه السلام { وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء } إذ الإيمان يمنع ذلك { ولكن كثيرا منهم فاسقون } خارجون عن دينهم أو متمردون في نفاقهم

82 - { لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا } لشدة شكيمتهم وتضاعف كفرهم وانهماكهم في اتباع الهوى وركونهم إلى التقليد وبعدهم عن التحقيق وتمرنهم على تكذيب الأنبياء ومعاداتهم { ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى } للين جانبهم ورقة قلوبهم وقلة حرصهم على الدنيا وكثرة اهتمامهم بالعلم والعمل وإليه أشار بقوله : { ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون } عن قبول الحق إذا فهموه أو يتواضعون ولا يتكبرون كاليهود وفيه دليل على أن التواضع والإقبال على العلم والعمل والإعراض عن الشهوات محمود وإن كانت من كافر

83 - { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع } عطف على { لا يستكبرون } وهو بيان لرقة قلوبهم وشدة خشيتهم ومسارعتهم إلى قبول الحق وعدم تأبيهم عنه والفيض انصباب عن امتلاء فوضع موضع الامتلاء للمبالغة أو جعلت أعينهم من فرط البكاء كأنها تفيض بأنفسها { مما عرفوا من الحق } من الأولى للابتداء والثانية لتبيين ما عرفوا أو للتبعيض بأنه بعض الحق والمعنى أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم فكيف إذا عرفوا كله { يقولون ربنا آمنا } بذلك أو بمحمد { فاكتبنا مع الشاهدين } من الذين شهدوا أنه حق أو بنبوته أو من أمته الذين هم شهداء على الأمم يوم القيامة

84 - { وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين } استفهام إنكار واستبعاد لانتفاء الإيمان مع قيام الداعي وهو الطمع في الانخراط مع الصالحين والدخول في مداخلهم أو جواب سائل قال لم أمنتم ؟ و { لا نؤمن } حال من الضمير والعامل ما في اللام من معنى الفعل أي أي شيء حصل لنا غير مؤمنين بالله أي بوحدانيته فإنهم كانوا مثلثين أو بكتابه ورسوله فإن الإيمان بهما إيمان به حقيقة وذكره توطئة وتعظيما ونطمع عطف على نؤمن أو خبر محذوف والواو للحال أي ونحن نطمع والعامل فيها عمال الأولى مقيدا بها أو نؤمن

85 - { فأثابهم الله بما قالوا } أي عن اعتقاد من قولك هذا قول فلان أي معتقده { جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين } الذين أحسنوا النظر واعمل أو الذين اعتادوا الإحسان في الأمور والآيات الأربع روي [ أنها نزلت في النجاشي وأصحابه بعث إليه الرسول صلى الله عليه و سلم بكتابه فقرأه ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه وأحضر الرهبان والقسيسين فأمر جعفرا أن يقرأ عليهم القرآن فقرأ سورة المائدة مريم فبكوا وآمنوا بالقرآن ] وقيل نزلت في ثلاثين أو سبعين رجلا من قومه وفدوا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقرأ عليهم سورة يس فبكوا وآمنوا

86 - { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم } عطف التكذيب بآيات الله على الكفر وهو ضرب منه لأن القصد إلى بيان حال المكذبين وذكرهم في معرض المصدقين بها جمعا بين الترغيب والترهيب

87 - { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } أي ما طاب ولذ منه كأنه لما تضمن ما قبله مدح النصارى على ترهبهم والحث على كسر النفس ورفض الشهوات عقبه النهي عن الإفراط في ذلك والاعتداء عما حد الله سبحانه وتعالى بجعل الحلال حراما فقال : { ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } ويجوز أن يراد به ولا تعتدوا حدود ما أحل الله لكم إلى ما حرم عليكم فتكون الآية ناهية عن التحريم ما أحل وتحليل ما حرم داعية إلى القصد بينهما [ روي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم وصف القيامة لأصحابه يوما وبالغ في إنذارهم فرقوا واجتمعوا في بيت عثمان بن مظعون واتفقوا على أن لا يزالون صائمين قائمين وأن لا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم والودك ولا يقربوا النساء والطيب ويرفضوا الدنيا ويلبسوا المسوح ويسيحوا في الأرض ويجبوا مذاكيرهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لهم : إني لم أمر بذلك إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ] فنزلت

88 - { وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا } أي كلوا ما حل لكم وطاب مما رزقكم الله فيكون حلالا مفعول كلوا ومما حال منه تقدمت عليه لأنه نكرة ويجوز أن تكون من ابتدائية متعلقة بكلوا ويجوز أن تكون مفعولا وحلالا حال من الموصول أو العائد المحذوف أو صفة لمصدر محذوف وعلى الوجوه لو لم يقع الرزق على الحرام لم يكن لذكر الحلال فائدة زائدة { واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون }

89 - { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } هو ما يبدوا من المرء بلا قصد كقول الرجل : لا والله وبلى والله وإليه ذهب الشافعي رضي تعالى عنه وقيل الحلف على ما يظن أنه كذلك ولم يكن وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى وفي أيمانكم صلة يؤاخذكم أو اللغو لأنه مصدر أو حال منه { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } بما وثقتم الأيمان عليه بالقصد والنية والمعنى ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم أو بنكث ما عقدتم فحذف للعلم به وقرأ حمزة و الكسائي و ابن عياش عن عاصم { عقدتم } بالتخفيف و ابن عامر برواية ابن ذكوان { عقدتم } وهو من فاعل بمعنى فعل { فكفارته } فكفارة نكثه أي الفعلة التي تذهب اثمه وتستره واستدل بظاهره على جواز التكفير بالمال قبل الحنث وهو عندنا خلافا للحنفية لقوله عليه الصلاة و السلام [ من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير ] { إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم } من أقصده في النوع والقدر وهو مد لكل مسكين عندنا ونصف صاع عند الحنفية وما محله النصب لأنه صفة مفعول محذوف تقديره : أن تطعموا عشرة مساكين طعاما من أوسط ما تطعمون أو الرفع على البدل من إطعام وأهلون كأرضون
قرئ { أهليكم } بسكون الياء على لغة من يسكنها في الأحوال الثلاث كالألف وهو جمع أهل كالليالي في جمع ليل والأراضي في جمع أرض وقيل هو جمع اهلاة { أو كسوتهم } عطف على إطعام أو من أوسط إن جعل بدلا وهو ثوب يغطي العورة وقيل ثوب جامع قميص أو رداء أو إزار وقرئ بضم الكاف وهو لغة كقدوة في قدوة وكأسوتهم بمعنى أو كمثل ما تطعمون أهليكم إسرافا كان أو تقتيرا تواسون بينهم وبينهم إن لم تطعموهم الأوسط والكاف في محل الرفع وتقديره : أو إطعامهم كأسوتهم { أو تحرير رقبة } أو إعتاق إنسان وشرط الشافعي رضي الله تعالى عنه في الأيمان قياسا على كفارة القتل ومعنى أو إيجاب إحدى الخصال الثلاث مطلقا وتخيير المكفر في التعيين { فمن لم يجد } أي واحدة منها { فصيام ثلاثة أيام } فكفارته صيام ثلاثة أيام وشرط فيه أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه التتابع لأنه قرئ { ثلاثة أيام } والشواذ ليست بحجة عندنا إذا لم تثبت كتابا ولم ترو سنة { ذلك } أي المذكور { كفارة أيمانكم إذا حلفتم } وحنثتم { واحفظوا أيمانكم } بأن تضنوا بها ولا تبذلوها لكل أمر أو بأن تبروا فيها ما استطعتم ولم يفت بها خير أو بأن تكفروها إذا حنثتم { كذلك } أي مثل ذلك البيان { يبين الله لكم آياته } أعلام شرائعه { لعلكم تشكرون } نعمة التعليم أو نعمة الواجب شكرها فإن مثل هذا التبيين يسهل لكم المخرج منه

90 - { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب } أي الأصنام التي نصبت للعبادة { والأزلام } سبق تفسيرها في أول السورة { رجس } قذر تعاف عته العقول وأفرده لأنه خبر للخمر وخبر المعطوفات محذوف أو لمضاف محذوف كأنه قال : إنما تعاطي الخمر والميسر { من عمل الشيطان } لأنه مسبب عن تسويله وتزيينه { فاجتنبوه } الضمير للرجس أو لما ذكر أو للتعاطي { لعلكم تفلحون } لكي تفلحوا بالاجتناب عنه
واعلم أنه سبحانه وتعالى أكد تحريم الخمر والميسر في هذه الآية بأن صدر الجملة ب { إنما } وقرنهما بالأنصاب والأزلام وسماهما رجسا وجعلهما من عمل الشيطان تنبيها على أن الاشتغال بهما شر بحت أو غالب وأمر بالاجتناب عن عينهما وجعله سببا يرجى منه الفلاح ثم قرر ذلك بأن بينما فيهما من المفاسد الدنيوية والدينية المقتضية للتحريم فقال تعالى :

91 - { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة } وإنما خصهما بإعادة الذكر وشرح ما فيهما من الوبال تنبيها على أنهما المقصود بالبيان وذكر الأنصاب والأزلام للدلالة على أنهما مثلهما في الحرمة والشرارة لقوله عليه الصلاة و السلام [ شارب الخمر كعابد الوثن ] وخص الصلاة من الذكر بالإفراد للتعظيم والإشعار بأن الصاد عنها كالصاد عن الإيمان من حيث أنها عماده والفارق بينه وبين الكفر ثم أعاد الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام مرتبا على ما تقدم من أنواع الصوارف فقال : { فهل أنتم منتهون } إيذانا بأن الأمر في المنع والتحذير بلغ الغاية وأن الأعذار قد انقطعت

92 - { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول } فيما أمرا به { واحذروا } ما نهيا عنه أو مخالفتهما { فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين } أي فاعلموا أنكم لم تضروا الرسول صلى الله عليه و سلم بتوليكم فإنما عليه البلاغ وقد أدى وإنما ضررتم به أنفسكم

93 - { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } مما لم يحرم عليهم لقوله : { إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات } أي اتقوا المحرم وثبتوا على الإيمان والأعمال الصالحة { ثم اتقوا } ما حرم عليهم بعد كالخمر { وآمنوا } بتحريمه { ثم اتقوا } ثم استمروا وثبتوا على اتقاء المعاصي { وأحسنوا } وتحروا الأعمال الجميلة واشتغلوا بها روي [ أنه لما نزل تحريم الخمر قال الصحابة رضي الله تعالى عنهم يا رسول الله فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسرفنزلت ] ويحتمل أن يكون هذا التكرير باعتبار الأوقات الثلاثة أو باعتبار الحالات الثلاث استعمال الإنسان التقوى والإيمان بينه وبين نفسه وبين الناس وبين الله تعالى ولذلك بدل الإيمان بالإحسان في الكرة الثالثة إشارة إلى ما قاله عليه الصلاة و السلام في تفسيره أو باعتبار المراتب الثلاث المبدأ الوسط والمنتهى أو باعتبار ما يتقي فإنه ينبغي أن يترك المحرمات توقيا من العقاب والشبهات تحرزا عن الوقوع في الحرام وبعض المباحات تحفظا للنفس عن الخسة وتهذيبا لها عن دنس الطبيعة { والله يحب المحسنين } فلا يؤاخذهم بشيء وفيه أن من فعل ذلك صار محسنا ومن صار محسنا صار لله محبوبا

94 - { يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم } نزلت في عام الحديبية ابتلاهم الله سبحانه وتعالى بالصيد وكانت الوحوش تغشاهم في رحالهم بحيث يتمكنون من صيدها أخذا بأيديهم وطعنا برماحهم وهم محرمون والتقليل والتحقير في بشيء للتنبيه على أنه ليس من العظائم التي تدحض الأقدام كالابتلاء ببذل الأنفس والأموال فمن لم يثبت عنده كيف يثبت عند ما هو أشد منه { ليعلم الله من يخافه بالغيب } ليتميز الخائف من عقابه وهو غائب منتظر لقوة إيمانه ممن لا يخافه لضعف قلبه وقلة إيمانه فذكر العلم وأراد وقوع المعلوم وظهوره أو تعلق العلم { فمن اعتدى بعد ذلك } بعد ذلك الابتلاء بالصيد { فله عذاب أليم } فالوعيد لاحق به فإن من لا يملك جأشه في مثل ذلك ولا يراعي حكم الله فيه فكيف به فيما تكون النفس أميل إليه وأحرص عليه

95 - { يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } أي محرمون جمع حرام كرداح وردح ولعله ذكر القتل دون الذبح والذكاة للتعميم وأراد بالصيد ما يؤكل لحمه لأنه الغالب فيه عرفا ويؤيده قوله عليه الصلاة و السلام [ خمس يقتلن في الحل والحرم الحدأة والغراب والعقرب والفأرة والكلب العقور ] وفي رواية أخرى [ الحية ] بدل [ العقرب ] مع ما فيه من التنبيه على جواز قتل كل مؤذ واختلف في أن هذا النهي هل يلغي حكم الذبح فيلحق مذبوح المحرم بالميتة ومذبوح الوثني أو لا فيكون كالشاة المغصوبة إذا ذبحها الغاصب { ومن قتله منكم متعمدا } ذاكرا لإحرامه عالما بأنه حرام عليه قبل ما يقتله والأكثر على أن ذكره ليس لتقييد وجوب الجزاء فإن إتلاف العامد والمخطئ واحد في إيجاب الضمان بل لقوله : { ومن عاد فينتقم الله منه } ولأن الآية نزلت فيمن تعمد إذ روي : أنه عن لهم في عمرة الحديبية حمار وحش فطعنه أبو اليسر برمحه فقتله فنزلت { فجزاء مثل ما قتل من النعم } برفع الجزاء والمثل قراءة الكوفيين و يعقوب بمعنى فعليه أي فواجبه جزاء يماثل ما قتل من النعم وعليه لا يتعلق الجار بجزاء للفصل بينهما بالصفة فإن متعلق المصدر كالصلة له فلا يوصف ما لم يتم بها وإنما يكون صفته وقرأ الباقون على إضافة المصدر إلى المفعول وإقحام مثلي كما في قولهم مثلي لا يقول كذا والمعنى فعليه أن يجزى مثل ما قتل وقرئ فجزاء مثلي ما قتل بنصبهما على فليجز جزاء أو فعليه أن يجزي جزاء يماثل ما قتل وفجزاؤه مثل ما قتل وهذه المماثلة باعتبار الخلقة والهيئة عند مالك و الشافعي رضي الله تعالى عنهما والقيمة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقال : يقوم الصيد حيث صيد فإن بلغت القيمة ثم هدي تخير بين أن يهدي ما قيمته قيمته وبين أن يشتري بها طعاما فيعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من غيره وبين أن يصوم عن كل مسكين يوما وإن لم تبلغ تخير بين الإطعام والصوم واللفظ للأول أوفق { يحكم به ذوا عدل منكم } صفة جزاء ويحتمل أن يكون حالا من ضميره في خبره أو منه إذا أضفته أو صفته ورفعته بخبر قدر لمن وكما أن التقويم يحتاج إلى نظر واجتهاد يحتاج إلى المماثلة في الخلقة والهيئة إليها فإن الأنواع تتشابه كثيرا وقرئ ذو عدل على إرادة الجنس أو الإمام { هديا } حال من الهاء في به أو من جزاء وإن نون لتخصصه بالصفة أو بدل من مثل باعتبار محله أو لفظه فيمن نصبه { بالغ الكعبة } وصف به هديا لأن إضافته لفظية ومعنى بلوغه الكعبة ذبحه بالحرم والتصدق به وقال أبو حنيفة يذبح في الحرم ويتصدق به حيث شاء { أو كفارة } عطف على جزاء إن رفعته وإن نصبته فخبر محذوف { طعام مساكين } عطف على بيان أو بدل منهن أو خبر محذوف أي هي طعام وقرأ نافع و ابن عامر كفارة { طعام } بالإضافة للتبيين كقولك : خاتم فضة والمعنى عند الشافعي أو أن يكفر بإطعام مساكين ما يساوي قيمة الهدي من غالب قوت البلد فيعطي كل مسكين مدا { أو عدل ذلك صياما } أو ما سواه من الصوم فيصوم عن طعام كل مسكين يوما وهو في الأصل مصدر أطلق للمفعول وقرئ بكسر العين وهو ما عدل بالشيء في المقدر كعدل الحمل وذلك إشارة إلى الطعام وصياما تمييز للعدل { ليذوق وبال أمره } متعلق بمح أي فعليه الجزاء أو الطعام أو الصوم ليذوق ثقل فعله وسوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام أو الثقل الشديد على مخالفة أمر الله تعالى وأصل الوبل الثقل ومنه الطعام الوبيل { عفا الله عما سلف } من قتل الصيد محرما في الجاهلية أو قبل التحريم أو في هذه المرة { ومن عاد } إلى مثل هذا { فينتقم الله منه } فهو ينتقم الله منه وليس فيه ما يمنع الكفارة على العائد كما حكي عن ابن عباس وشريح { والله عزيز ذو انتقام } مما أصر على عصيانه

96 - { أحل لكم صيد البحر } ما صيد منه مما لا يعيش إلا في الماء وهو حلال كله لقوله عليه الصلاة و السلام في البحر [ هو الطهور ماؤه الحل ميتته ] وقال أبو حنيفة لا يحل منه إلا السمك وقيل يحل السمك وما يؤكل نظيره في البر { وطعامه } ما قذفه أو نضب عنه وقيل الضمير للصيد وطعامه أكله { متاعا لكم } تمتيعا لكم نصب على الغرض { وللسيارة } أي ولسيارتكم يتزودونه قديدا { وحرم عليكم صيد البر } أي ما صيد فيه أو الصيد فيه فعلى الأول يحرم على المحرم أيضا ما صاده الحلال وإن لم يكن له فيه مدخل والجمهور على حله لقوله عليه الصلاة و السلام [ لحم الصيد حلال لكم ما لم تصطادوه أو يصد لكم ] { ما دمتم حرما } أي محرمين وقرئ بكسر الدال من دام يدام { واتقوا الله الذي إليه تحشرون }

97 - { جعل الله الكعبة } صيرها وإنما سمي كعبة لتكعبه { البيت الحرام } عطف بيان على جهة المدح أو المفعول الثاني { قياما للناس } انتعاشا لهم أي سبب انتعاشهم في أمر معاشهم ومعادهم يلوذ به الخائف ويأمن فيه الضعيف ويربح فيه التجار ويتوجه إليه الحجاج والعمار أو ما يقوم به أمر دينهم ودنياهم وقرأ ابن عامر { قيما } على أنه مصدر على فعل كالشبع أعل عينه كما أعل في فعله ونصبه على المصدر أو الحال { والشهر الحرام والهدي والقلائد } سبق تفسيرها والمراد بالشهر الذي يؤدي فيه الحج وهو ذو الحجة لأنه المناسب لقرنائه وقيل الجنس { ذلك } إشارة إلى الجعل أو إلى ما ذكر من الأمر بحفظ حرمة الإحرام وغيره { لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض } فإن شرع الأحكام لدفع المضار قبل وقوعها وجلب المنافع المترتبة عليها دليل حكمة الشارع وكمال علمه { وأن الله بكل شيء عليم } تعميم بعد تخصيص ومبالغة بعد إطلاق

98 - { اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم } وعيد ووعد لمن انتهك محارمه ولمن حفظ عليها أو لمن أصر عليه ولمن لم يقلع عنه

99 - { ما على الرسول إلا البلاغ } تشديد في إيجاب القيام بما أمر به أي الرسول لأتى بما أمر به من التبليغ ولم يبق لكم عذر في التفريط { والله يعلم ما تبدون وما تكتمون } من تصديق وتكذيب وفعل وعزيمة

100 - { قل لا يستوي الخبيث والطيب } حكم عام في نفي المساواة عند الله سبحانه وتعالى بين الرديء من الأشخاص والأعمال والأموال وجيدها رغب في مصالح العمل وحلال المال { ولو أعجبك كثرة الخبيث } فإن العبرة بالجودة والرداءة دون القلة والكثرة فإن المحمود القليل خير من المذموم الكثير والخطاب لكل معتبر ولذلك قال : { فاتقوا الله يا أولي الألباب } أي فاتقوه في تحري الخبيث وإن كثر وآثروا الطيب وإن قل { لعلكم تفلحون } راجين أن تبلغوا الفلاح روي : أنها نزلت في حجاج اليمامة لما هم المسلمين أن يوقعوا بهم فنهوا عنه وإن كانوا مشركين

101 - { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم } الشرطية وما عطف عليها صفتان لأشياء والمعنى : لا تسألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أشياء إن تظهر لكم تغمكم وإن تسألوا عنها في زمان الوحي تظهر لكم وهما كمقدمتين تنتجان ما يمنع السؤال وهو أنه مما يغمهم والعاقل لا يفعل ما يغمه وأشياء اسم جمع كطرفاء غير أنه قلبت لامه فجعلت لفعاء وقيل أفعلاء حذفت لامه جمع لشيء على أن أصله شيء كهين أو شيء كصديق فخفف وقيل أفعال جمع له من غير تغيير كبيت وأبيات ويرده منع صرفه { عفا الله عنها } صفة أخرى أي عن أشياء عفا الله عنها ولم يكلف بها إذ روي أنه [ لما نزلت { ولله على الناس حج البيت } قال سراقة بن مالك : أكل عام فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أعاد ثلاثا فقال : لا ولو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لما استطعتم فاتركوني ما تركتكم فنزلت ] أو استئناف أي عفا الله عما سلف من مسألتكم فلا تعودوا لمثلها { والله غفور حليم } لا يعاجلكم بعقوبة ما يفرط منكم ويعفوا عن كثير وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما [ أنه عليه الصلاة و السلام كان يخطب ذات يوم وهو غضبان من كثرة ما يسألون عنه مما لا يعنيهم فقال : لا أسأل عن شيء إلا أجبت فقال رجل : أين أبي فقال في النار وقال آخر من أبي فقال : حذافة وكان يدعى لغيره فنزلت ]

102 - { قد سألها قوم } في الضمير للمسألة التي دل عليها تسألوا ولذلك لم يعد بعن أو لأشياء بحذف الجار { من قبلكم } متعلق بسأل وليس صفة لقوم فإن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثة ولا حالا من ولا خبرا عنها { ثم أصبحوا بها كافرين } أي بسببها حيث لا يأتمروا بما سألوا جحودا

103 - { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } رد وإنكار لما ابتدعه أهل الجاهلية وهو أنهم إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا أذنها أي شقوها وخلوا سبيلها فلا تركب ولا تحلب وكان الرجل منهم يقول : إن شفيت فناقتي سائبة ويجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها وإذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم وإن ولدت ذكرا فهو لألهتهم وإن ولدتهما قالت وصلت الأنثى أخاها فلا يذبح لها الذكر وإذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن حرموا ظهره ولم يمنعوه من ماء ولا مرعى وقالوا : قد حمي ظهره ومعنى ما جعل ما شرع ووضع ولذلك تعدى إلى مفعول واحد وهو البحيرة ومن مزيدة { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } بتحريم ذلك ونسبته إلى الله سبحانه وتعالى { وأكثرهم لا يعقلون } أي الحلال من الحرام والمبيح من المحرم أو الأمر من الناهي ولكنهم يقلدون كبارهم وفيه أن منهم من يعرف بطلان ذلك ولكن يمنعهم حب الرياسة وتقليد الآباء أن يعترفوا به

104 - { وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا } بيان لقصور عقولهم وانهماكهم في التقليد وأن لا سند لهم سواه { أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون } الواو للحال والهمزة دخلت عليها لإنكار الفعل على هذه الحال أي حسبهم ما وجدوا عليه آباءهم ولو كانوا جهلة ضالين والمعنى أن الإقتداء إنما يصح بمن علم أنه عالم مهتد وذلك لا يعرف إلا بالحجة فلا يكفي التقليد

105 - { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم } أي احفظوها والزموا إصلاحها والجار مع المجرور جعل اسما لإلزموا ولذلك نصب أنفسكم وقرئ بالرفع على الإبتداء { لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } لا يضركم الضلال إذا كنتم مهتدين ومن الاهتداء أن ينكر المنكر حسب طاقته كم قال عليه الصلاة و السلام [ من رأى منكم منكرا واستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ] والآية نزلت لما كان المؤمنون يتحسرون على الكفرة ويتمنون إيمانهم وقيل كان الرجل إذا أسلم قالوا له سفهت آباءك فنزلت و { لا يضركم } يحتمل الرفع على أنه مستأنف ويؤيده أن قرئ { لا يضركم } والجزم على الجواب أو النهي لكنه ضمت الراء إتباعا لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة وتنصره قراءة من قرأ { لا يضركم } بالفتح و { لا يضركم } بكسر الضاد وضمها من ضاره يضيره ويضوره { إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون } وعد ووعيد للفريقين وتنبيه على أن أحدا لا يؤاخذ بذنب غيره

106 - { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } أي فيما أمرتم شهادة بينكم والمراد بالشهادة الإشهاد في الوصية وإضافتها إلى الظرف على الاتساع وقرئ { شهادة } بالنصب والتنوين على ليقم { إذا حضر أحدكم الموت } إذا شارفه وظهرت أماراته وهو ظرف للشهادة { حين الوصية } بدل منه وفي إبداله تنبيه على أن الوصية مما ينبغي أن لا يتهاون فيه أو ظرف حاضر { اثنان } فاعل شهادة ويجوز أن يكون خبرها على حذف المضاف { ذوا عدل منكم } أي من أقاربكم أو من المسلمين وهما صفتان لاثنان { أو آخران من غيركم } عطف على اثنان ومن فسر الغير بأهل الذمة جعله منسوخا فإن شهادته على المسلم لا تسمع إجماعا { إن أنتم ضربتم في الأرض } أي سافرتم فيها { فأصابتكم مصيبة الموت } أي قاربتم الأجل { تحبسونهما } تقفونهما وتصبرونهما صفة لآخران والشرط بجوابه المحذوف المدلول عليه بقوله أو آخران من غيركم اعتراض فائدته الدلالة على أنه ينبغي أن يشهد اثنان منكم فإن تعذر كما في السفر فمن غيركم أو استئناف كأنه قيل كيف نعمل إن ارتبنا بالشاهدين فقال تحبسونهما { من بعد الصلاة } صلاة العصر لأنه وقت اجتماع الناس وتصادم ملائكة الليل وملائكة النهار وقيل أي صلاة كانت { فيقسمان بالله إن ارتبتم } إن ارتاب الوارث منكم { لا نشتري به ثمنا } مقسم عليه وإن ارتبتم اعتراض يفيد اختصاص القسم بحال الارتياب والمعنى لا نستبدل بالقسم أو بالله عرضا من الدنيا أي لا نحلف بالله كاذبا لطمع { ولو كان ذا قربى } ولو كان المقسم له قريبا منا وجوابه أيضا محذوف أي لا نشتري { ولا نكتم شهادة الله } أي الشهادة التي أمرنا الله بإقامتها وعن الشعبي أنه وقف على شهادة ثم ابتدأ بالله بالمد على حذف حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه وروي عنه بغيره كقولهم الله لأفعلن { إنا إذا لمن الأثمين } أي إن كتمنا وقرئ { لمن الأثمين } بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وإدغام النون فيها

107 - { فإن عثر } فإن طلع { على أنهما استحقا إثما } أي فعلا ما أوجب إثما كتحريف { فآخران } فشاهدان آخران { يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم } من الذين جنى عليهم وهم الورثة وقرأ حفص { استحق } على البناء للفاعل وهو الأوليان { الأوليان } الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما وهو خبر محذوف أي : هما الأوليان أو خبر { آخران } أو مبتدأ خبره آخران أو بدل منهما أو من الضمير في يقومان وقرأ حمزة و يعقوب و أبو بكر عن عاصم { الأولين } على أنه صفة للذين أو بدل منه أي من الأولين الذين استحق عليهم وقرئ { الأولين } على التثنية وعلى انتصابه على المدح والأولان وإعرابه إعراب الأوليان { فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما } أصدق منها وأولى بأن تقبل { وما اعتدينا } وما تجاوزنا فيها الحق { إنا إذا لمن الظالمين } الواضعين الباطل موضع الحق أو الظالمين أنفسهم إن اعتدينا ومعنى الآيتين أن المحتضر إذا أراد الوصية ينبغي أن يشهد عدلين من ذوي نسبه أو دينه على وصيته أو يوصي إليهما احتياطا فإن لم يجدهما بأن كان في سفر فآخرين من غيرهم ثم إن وقع نزاع وارتياب أقسما على صدق ما يقولان بالتغليظ في الوقت فإن اطلع على أنهما كذبا بأمارة أو مظنة حلف آخران من أولياء الميت والحكم منسوخ إن كان الاثنان شاهدين فإنه لا يخلف الشاهد ولا يعارض يمينه بيمين الوارث وثابت إن كانا وصيين ورد اليمين إلى الورثة إما لظهور خيانة الوصيين فإن تصديق الوصي باليمين لأمانته أو لتغيير الدعوى إذ روي أن تميما الداري وعدي بن زيد خرجا إلى الشام للتجارة وكانا حينئذ نصرانيين ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص وكان مسلما فلما قدموا الشام مرض بديل فدون ما معه في صحيفة وطرحها في متاعه ولم يخبرهما به وأوصى إليهما بأن يدفعا متاعه إلى أهله ومات ففتشاه وأخذا منه إناء من فضة فيه ثلثمائة مثقال منقوشا بالذهب فغيباه فأصاب أهله الصحيفة فطالبوهما بالإناء فجحدا فترافعوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت : { يا أيها الذين آمنوا } الآية فحلفهما رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد صلاة العصر عند المنبر وخلى سبيلهما ثم وجد الإناء في أيديهما فأتاهما بنو سهم في ذلك فقالا : قد اشتريناه منه ولكن لم يكن لنا عليه بينة فكرهنا أن نقربه فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت { فإن عثر } فقام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهميان فحلفا واستحقاه ولعل تخصيص العدد فيهما لخصوص الواقعة

108 - { ذلك } أي الحكم الذي تقدم أو تحليف الشاهد { أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها } على نحو ما حملوها من غير تحريف وخيانة فيها { أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم } أن ترد اليمين على المدعين بعد أيمانهم فيفتضحوا بظهور الخيانة واليمين الكاذبة وإنما جمع الضمير لأنه حكم يعم الشهود كلهم { واتقوا الله واسمعوا } ما توصون به سمع إجابة { والله لا يهدي القوم الفاسقين } أي فإن لم تتقوا ولم تسمعوا كنتم قوما فاسقين { والله لا يهدي القوم الفاسقين } أي لا يهديهم إلى حجة أو إلى طريق الجنة فقوله تعالى :

109 - { يوم يجمع الله الرسل } ظرف له وقيل بدل من مفعول واتقوا بدل الاشتمال أو مفعول واسمعوا على حذف المضاف أي واسمعوا خبر يوم جمعهم أو منصوب بإضمار اذكر { فيقول } أي للرسل { ماذا أجبتم } أي إجابة أجبتم على أن ماذا في موضع المصدر أو بأي شيء أجبتم فحذف الجار وهذا السؤال لتوبيخ قومهم كما أن سؤال المودة لتوبيخ الوائد ولذلك { قالوا لا علم لنا } أي لا علم لنا بما لست تعلمه { إنك أنت علام الغيوب } فتعلم ما نعلمه مما أجابونا وأظهروا لنا وما لا نعلم ما أضمروا في قلوبهم وفيه التشكي منهم ورد الأمر إلى علمه لما كابدوا منهم وقيل المعنى لا علم لنا إلى جنب علمك أو لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا وإنما الحكم للخاتمة وقرئ { علام } بالنصب على أن الكلام قد تم بقوله { إنك أنت } أي إنك أنت الموصوف بصفاتك المعروفة وعلام منصوب على الاختصاص أو النداء وقرأ أبو بكر و حمزة الغيوب بكسر الغين حيث وقع

110 - { إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك } بدل من يوم يجمع وهو على الطريقة { ونادى أصحاب الجنة } والمعنى أنه سبحانه وتعالى يوبخ الكفرة يومئذ بسؤال الرسل عن إجابتهم وتعديد ما أظهر عليهم من الآيات فكذبتهم طائفة وسموهم سحرة وغلا آخرون فاتخذوهم آلهة أو نصب بإضمار اذكر { إذ أيدتك } قويتك وهو ظرف لنعمتي أو حال منه وقرئ { أيدتك } { بروح القدس } بجبريل عليه الصلاة السلام أو بالكلام الذي يحيى به الدين أو النفس حياة أبدية ويطهر من الآثام ويؤيده قوله : { تكلم الناس في المهد وكهلا } أي كائنا في المهد وكهلا والمعنى تكلمهم في الطفولة والكهولة على سواء والمعنى إلحاق حاله في الطفولية بحال الكهولية في كمال العقل والتكلم وبه استدل على أنه سينزل فإنه رفع قبل أن يكتمل { وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني } سبق تفسيره في سورة آل عمران وقرأ نافع و يعقوب { طائر } ويحتمل الإفراد والجمع كالباقر { وإذ كففت بني إسرائيل عنك } يعني اليهود حين هموا بقتله { إذ جئتهم بالبينات } ظرف لكففت { فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين } أي ما هذا الذي جئت به إلا سحر مبين وقرأ حمزة و الكسائي إلا ساحر فالإشارة إلى عيسى عليه الصلاة و السلام

111 - { وإذ أوحيت إلى الحواريين } أي أمرتهم على ألسنة رسلي { أن آمنوا بي وبرسولي } يجوز أن تكون أن مصدرية وأن تكون مفسرة { قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون } مخلصون

112 - { إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم } منصوب بالذكر أو ظرف لقالوا فيكون تنبيها على أن ادعائهم الإخلاص مع قولهم { هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء } لم يكن بعد عن تحقيق واستحكام معرفة وقيل هذه الاستطاعة على ما تقتضيه الحكمة والإرادة لا على ما تقتضيه القدرة وقيل المعنى هل يطيع ربك أي هل يجيبك واستطاع بمعنى أطاع كاستجاب وأجاب وقرأ الكسائي { يستطيع ربك } أي سؤال ربك والمعنى هل تسأله ذلك من غير صارف والمائدة الخوان إذا كان عليه الطعام من مادة الماء يميد إذا تحرك أو من مادة إذا أعطاه كأنها تميد من تقدم إليه ونظيرها قولهم شجرة مطعمة { قال اتقوا الله } من أمثال هذا السؤال { إن كنتم مؤمنين } بكمال قدرته وصحة نبوتي ا صدقتم في ادعائكم الإيمان

113 - { قالوا نريد أن نأكل منها } تمهيد عذر وبيان لما دعاهم إلى السؤال وهو أن يتمتعوا بالأكل منها { وتطمئن قلوبنا } بانضمام علم المشاهدة إلى علم الاستدلال بكمال قدرته سبحانه وتعالى { ونعلم أن قد صدقتنا } في ادعاء النبوة أو أن الله يجيب دعوتنا { ونكون عليها من الشاهدين } إذا استشهدتنا أو من الشاهدين للعين دون السامعين للخبر

114 - { قال عيسى ابن مريم } لما رأى منهم غرضا صحيحا في ذلك أو أنهم لا يقلعون عنه فأراد إلزامهم الحجة بكمالها { اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا } أي يكون يوم نزولها عيدا نعظمه وقيل العيد السرور العائد ولذلك سمي يوم العيد عيدا وقرئ { تكن } على جواب الأمر { لأولنا وآخرنا } بدل من لنا بإعادة العامل أي عيدا لمتقدمينا ومتأخرينا روي : أنها نزلت يوم الأحد فلذلك اتخذه النصارى عيدا وقيل يأكل منها أولنا وآخرنا وقرئ { لأولنا وآخرنا } بمعنى الأمة أو الطائفة { وآية } عطف على { عيدا } { منك } صفة لها أي آية كائنة منك دالة على كمال قدرتك وصحة نبوتي { وارزقنا } المائدة والشكر عليها { وأنت خير الرازقين } أي خير من يرزق لأنه خالق الرزق ومعطيه بلا عوض

115 - { قال الله إني منزلها عليكم } إجابة إلى سؤالكم وقرأ نافع و ابن عامر و عاصم { منزلها } بالتشديد { فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا } أي تعذيبا ويجوز أن يجعل مفعولا به على السعة { لا أعذبه } الضمير للمصدر أو للعذاب إن أريد ما يعذب به على حذف حرف الجر { أحدا من العالمين } أي من عالمي زمانهم أو للعالمين مطلقا فإنهم مسخوا قردة وخنازير ولم يعذب بمثل ذلك غيرهم روي : أنها نزلت سفرة حمراء بين غمامتين وهو ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم فبكى عيسى عليه الصلاة و السلام وقال : اللهم اجعلني من الشاكرين اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة ثم قام فتوضأ وصلى وبكى ثم كشف المنديل وقال : بسم الله خير الرازقين فإذا سمكة مشوية بلا فلوس ولا شوك تسيل دسما وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد فقال شمعون : يا روح الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة قال : ليس منهما ولكن اخترعه الله سبحانه وتعالى بقدرته كلوا ما سألتم واشكروا يمددكم الله ويزدكم من فضله فقالوا : يا روح الله لو أريتنا محمد هذه الآية آية أخرى فقال : يا سمكة أحيي بإذن الله تعالى فاضطربت ثم قال لها عودي كما كنت فعادت مشوية ثم طارت المائدة ثم عصوا بعدها فمسخوا وقيل كانت تأتيهم أربعين يوما غبا يجتمع عليها الفقراء والأغنياء والصغار والكبار يأكلون حتى إذا فاء الفيء طارت وهم ينظرون في ظلها ولم يأكل منها فقير إلا غني مدة عمره ولا مريض إلا بريء ولم يمرض أبدا ثم أوحي الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة و السلام أن اجعل مائدتي في الفقراء والمرضى دون الأغنياء والأصحاء فاضطرب الناس لذلك فمسخ منهم ثلاثة وثمانون رجلا وقيل لما وعد الله إنزالها بهذه الشريطة استعفوا وقالوا : لا نريد فلم تنزل وعن مجاهد أن هذا مثل ضربه الله لمقترحي المعجزات وعن الصوفية : المائدة ههنا عبارة عن حقائق المعارف فإنها غذاء الروح كما أن الأطعمة غذاء البدن وعلى هذا فلعل الحال أنهم رغبوا في حقائق لم يستعدوا للوقوف عليها فقال لهم عيسى عليه الصلاة و السلام : إن حصلتما الإيمان فاستعملوا التقوى حتى تتمكنوا من الإطلاع عليها فلم يقلعوا عن السؤال وألحوا فيه فسأل لأجل اقتراحهم فبين الله سبحانه وتعالى أن إنزاله سهل ولكن فيه خطر وخوف عاقبة فإن السالك إذا انكشف له ما هو أعلى من مقامه لعله لا يحتمله ولا يستقر له فيضل به ضلالا بعيدا

116 - { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } يريد به توبيخ الكفرة وتبكيتهم ومن دون لا صفة لإلهين أو صلة اتخذوني ومعنى دون إما المغايرة فيكون فيه تنبيه على أن عبادة الله سبحانه وتعالى مع عبادة غيره كلا عبادة فمن عبده مع عبادتهما كأنه عبدهما ولم يعبده أو للقصور فإنهم لم يعتقدوا أنهما مستقلان باستحقاق العبادة وإنما زعموا أن عبادتهم توصل إلى عبادة الله سبحانه وتعالى وكأن قيل : اتخذوني وأمي إلهين متوصلين بنا إلى الله سبحانه وتعالى { قال سبحانك } أنزهك تنزيها من أن يكون لك شريك { ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق } ما ينبغي لي أن أقول قولا لا يحق لي أن أقوله { إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } تعلم ما أخفيه في نفسي كما تعلم ما أعلنه ولا أعل ما تخفيه من معلوماتك وقوله في نفسك للمشاكلة وقيل المراد بالنفس الذات { إنك أنت علام الغيوب } تقرير للجملتين باعتبار منطوقه ومفهومه

117 - { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به } تصريح بنفي المستفهم عنه بعد تقديم ما يدل عليه { أن اعبدوا الله ربي وربكم } عطف بيان للضمير في به أو بدل منه وليس من شرط البدل جواز طرح المبدل منه مطلقا ليلزم بقاء الموصول بلا راجع أو خبر مضمر أو مفعوله مثل هو أو أعني ولا يجوز إبداله من ما أمرتني به فإن المصدر لا يكون مفعول القول ولا أن تكون أن مفسرة لأن الأمر مسند إلى الله سبحانه وتعالى وهو لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم والقول لا يفسر بل الجملة تحكي بعده إلا أن يؤول القول بالأمر فكأن قيل : ما أمرتهم إلا بما أمرتني به أن { اعبدوا الله } { وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم } أي رقيبا عليهم أمنعهم أن يقولوا ذلك ويعتقدوه أو مشاهدا لأحوالهم من وإيمان { فلما توفيتني } بالرفع إلى السماء لقوله : { إني متوفيك ورافعك } والتوفي أخذ الشيء وافيا والموت نوع منه قال الله تعالى : { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها } { كنت أنت الرقيب عليهم } المراقب لأحوالهم تمنع من أردت عصمته من القول به بالإرشاد إلى الدلائل والتنبيه عليها بإرسال الرسل وإنزال الآيات { وأنت على كل شيء شهيد } مطلع عليه مراقب له

118 - { إن تعذبهم فإنهم عبادك } أي إن تعذبهم فإنك تعذب عبادك ولا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل بملكه وفيه تنبيه على أنهم استحقوا ذلك لأنهم عبادك وقد عبدوا غيرك { وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } فلا عجز ولا استقباح فإنك القادر القوي على الثواب والعقاب الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب فإن المغفرة مستحسنة لكل مجرم فإن عذبت فعدل وإن غفرت ففضل وعدم غفران الشرك بمقتضى الوعيد فلا امتناع فيه لذاته ليمنع الترديد والتعليق بأن

119 - { قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } وقرأ نافع { يوم } بالنصب على أنه ظرف لقال وخبر هذا محذوف أو ظرف مستقر وقع خبرا والمعنى هذا الذي مر من كلام عيسى واقع يوم ينفع وقيل إنه خبر ولكن بني على الفتح بإضافته إلى الفعل وليس بصحيح لأن المضاف إليه معرب والمراد بالصدق الصدق في الدنيا فإن النافع ما كان حال التكليف { لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم } بيان للنفع

120 - { لله ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير } تنبيه على كذب النصارى وفساد دعواهم في المسيح أمه وإنما لم يقل ومن فيهن تغليب للعقلاء وقال { وما فيهن } اتباعا لهم غير أولي العقل إعلاما بأنهم في غاية القصور عن معنى الربوبية والنزول عن رتبة العبودية وإهانة لهم وتنبيها على المجانسة المنافية للألوهية ولأن ما يطلق متناولا للأجناس كلها فهو أولى بإرادة العموم عن النبي صلى الله عليه و سلم [ من قرأ سورة المائدة أعطي من الأجر عشر حسنات ومحي عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات بعدد كل يهودي ونصراني يتنفس في الدنيا ]

1 - { الحمد لله الذي خلق السموات والأرض } أخبر بأنه سبحانه وتعالى حقيق بالحمد ونبه على أنه المستحق له على هذه النعم الجسام حمد أو يحمد ليكون حجة على الذين هم بربهم يعدلون وجمع السموات دون الأرض وهي مثلهن لأن طبقاتها مختلفة بالذات متفاوتة الآثار والحركات وقدمها لشرفها وعلو مكانها وتقدم وجودها { وجعل الظلمات والنور } أنشأهما والفرق بين خلق وجعل الذي له مفعول واحد أن الخلق فيه معنى التقدير والجعل فيه معنى التضمين ولذلك عبر عن إحداث النور والظلمة بالجعل تنبيها على أنهما لا يقومان بأنفسهما كما زعمت الثنوية وجمع الظلمات لكثرة أسبابها والأجرام الحاملة لها أو لأن بالظلمة الضلال وبالنور الهدى والهدى واحد والضلال متعدد وتقديمها لتقدم الإعدام على الملكات ومن زعم أن الظلمة عرض يضاد النور احتج بهذه الآية ولم يعلم أن عدم الملكة كالعمى ليس صرف العدم حتى لا يتعلق به الجعل { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } عطف على قوله الحمد لله على معنى أن الله سبحانه وتعالى حقيق بالحمد على ما خلقه نعمة على العباد ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمته ويكون بربهم تنبيها على أنه خلق هذه الأشياء أسبابا لتكونهم وتعيشهم فمن حقه أن يحمد عليها ولا يكفر أو على قوله خلق على معنى أنه وتعالى خلق ما لا يقدر عليه أحد سواه ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه ومعنى ثم : عدو لهم بعد هذا البيان والباء على الأول متعلقة بكفروا وصلة يعدلون محذوفة أي يعدلون عنه ليقع الإنكار على نفس الفعل وعلى الثاني متعلقة ب { يعدلون } والمعنى أن الكفار يعدلون بربهم الأوثان أي يسوونها به سبحانه وتعالى

2 - { هو الذي خلقكم من طين } أي ابتدأ خلقكم منه فإنه المادة الأولى وأن آدم الذي هو أصل البشر خلق منه أو خلق أباكم فحذف المضاف { ثم قضى أجلا } أجل الموت { وأجل مسمى عنده } أجل القيامة وقيل الأول ما بين الخلق والموت والثاني ما بين الموت والبعث فإن الأجل كما يطلق لآخر المدة يطلق لجملتها وقيل الأول النوم والثاني الموت وقيل الأول لمن بقي ولمن يأتي وأجل نكرة خصصت بالصفة ولذلك استغني عن تقديم الخبر والاستئناف به لتعظيمه ولذلك نكر ووصف بأنه مسمى أي مثبت معين لا يقبل التغيير وأخبر عنه بأنه عند الله لا مدخل لغيره فيه يعلم ولا قدرة ولأنه المقصود بيانه { ثم أنتم تمترون } استبعاد لامترائهم بعد ما ثبت انه خالقهم وخالق أصولهم ومحييهم إلى آجالهم فإن من قدر على خل المواد وجمعها وإيداع الحياة فيها وإبقائها ما يشاء كان أقدر على جمع تلك المواد وإحيائها ثانيا فالآية الأولى دليل التوحيد والثانية دليل البعث والامتراء الشك وأصله المري وهو استخراج اللبن من الضرع

3 - { وهو الله } الضمير لله سبحانه وتعالى و { الله } خبره { في السموات وفي الأرض } متعلق باسم { الله } والمعنى هو المستحق للعبادة فيهما لا غير كقوله سبحانه وتعالى : { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } أو بقوله : { يعلم سركم وجهركم } والجملة خبر ثان أو هي الخبر و { الله } بدل ويكفي لصحة الظرفية كون المعلوم فيهما كقولك رميت الصيد في الحرم إذا كنت خارجه والصيد فيه أو ظرف مستقر وقع خبرا بمعنى أنه سبحانه وتعالى لكمال علمه بما فيهما كأنه فيهما ويعلم سركم وجهركم بيان وتقرير له وليس متعلقا بالمصدر لأن صفته لا تتقدم عليه { ويعلم ما تكسبون } من خير أو شر فيثيب عليه ويعاقب ولعله أريد بالسر والجهر مما يخفى وما يظهر من أحوال الأنفس وبالمكتسب أعمال الجوارح

4 - { وما تأتيهم من آية من آيات ربهم } { من } الأولى مزيدة للاستغراق والثانية للتبعيض أي : ما يظهر لهم دليل قط من الأدلة أو معجزة من المعجزات أو آية من آيات القرآن { إلا كانوا عنها معرضين } تاركين للنظر فيه غير ملتفتين إليه

5 - { فقد كذبوا بالحق لما جاءهم } يعني القرآن وهو كاللازم ما قبله كأنه قيل : إنهم لما كانوا معرضين عن الآيات كلها كذبوا به لما جاءهم أو كدليل عليه على معنى أنهم لما أعرضوا عن القرآن وكذبوا به وهو أعظم الآيات فكيف لا يعرضون عن غيره ولذلك رتب عليه بالفاء { فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون } أي سيظهر لهم ما كانوا به يستهزئون عند نزول العذاب بهم في الدنيا والآخرة أو عند ظهور الإسلام وارتفاع أمره

6 - { ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن } أي من أهل زمان والقرن مدة أغلب أعمار الناس وهي سبعون سنة وقيل ثمانون وقيل القرن أهل عصر فيه نبي أو فائق في العلم قلت المدة أو كثرت واشتقاقه من قرنت { مكناهم في الأرض } جعلنا لهم فيها مكانا وقررناهم فيها وأعطيناهم من القوى والآلات ما تمكنوا بها من أنواع التصرف فيها { ما لم نمكن لكم } ما لم نجعل لكم من السعة وطول المقام يا أهل مكة ما لم نعطكم من القوة والسعة في المال والاستظهار في العدد والأسباب { وأرسلنا السماء عليهم } أي المطر أو ا لسحاب أو المظلة إن مبدأ المطر منها { مدرارا } أي مغزارا { وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم } فعاشوا في الخصب والريف بين الأنهار والثمار { فأهلكناهم بذنوبهم } أي لم يغن ذلك عنهم شيئا { وأنشأنا } وأحدثنا { من بعدهم قرنا آخرين } بدلا منهم والمعنى أنه سبحانه وتعالى كما قدر على أن يهلك من قبلكم كعاد وثمود وينشئ مكانهم يعمر بهم بلاده يقدر أن يفعل ذلك بكم

7 - { ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس } مكتوبا في ورق { فلمسوه بأيديهم } فمسوه وتخصيص اللمس لأن التزوير لا يقع فيه فلا يمكنهم أن يقولوا إنما سكرت أبصارنا ولأنه يتقدمه الإبصار حيث لا مانع وتقييده بالأيدي لدفع التجوز فإنه قد يتجوز به للفحص كقوله : { وأنا لمسنا السماء } { لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين } تعنتا وعنادا

8 - { وقالوا لولا أنزل عليه ملك } هلا أنزل معه ملك يكلمنا أنه نبي كقوله : { لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا } { ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر } جواب لقولهم وبيان هو المانع مما اقترحوه والخلل فيه والمعنى أن الملك لو أنزل بحيث عاينوه كما اقترحوا لحق إهلاكهم فإن سنة الله قد جرت بذلك فيمن قبلهم { ثم لا ينظرون } بعد نزوله طرفة عين

9 - { ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون } جواب ثان إن جعل الهاء للمطلوب وإن جعل للرسول فهو جواب اقتراح ثان فإنهم تارة يقولون لولا أنزل عليه ملك وتارة يقولون لو شاء ربنا لأنزل ملائكة والمعنى ولو جعلنا قرينا لك ملكا يعاينوه أو الرسول ملكا لمثلناه رجلا كما مثل جبريل في صورة دحية الكلبي فإن القوة البشرية لا تقوى على رؤية الملك في صورته وإنما رآهم كذلك الأفراد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بقوتهم القدسية وللبسنا جواب محذوف أي ولو جعلناه رجلا للبسنا أي : لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم فيقولون ما هذا إلا بشر مثلكم وقرئ ( لبسنا ) بلام واحدة و ( لبسنا ) بالتشديد للمبالغة

10 - { ولقد استهزئ برسل من قبلك } تسلية لرسول الله صلى الله عليه و سلم عما يرى من قومه { فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون } فأحاط بهم الذي كانوا يستهزئون به حيث أهلكوا لأجله أو فنزل بهم وبال استهزائهم

11 - { قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين } كيف أهلكهم الله بعذاب الاستئصال كي تعتبروا والفرق بينه وبين وقوله : { قل سيروا في الأرض فانظروا } أن السير ثمت لأجل النظر ولا كذلك ها هنا ولذلك قيل معناه إباحة السير للتجارة وغيرها وإيجاب النظر في آثار الهالكين

12 - { قل لمن ما في السموات والأرض } خلقا وملكا وهو سؤال تبكيت
{ قل لله } تقريرا لهم وتنبيها على أنه المتعين للجواب بالإنفاق بحيث لا يمكنهم أن يذكروا غيره { كتب على نفسه الرحمة } التزامها تفضلا وإحسانا والمراد بالرحمة ما يعم الدارين ومن ذلك الهداية إلى معرفته والعلم بتوحيده بنصب الأدلة وإنزال الكتب والإمهال على الكفر { ليجمعنكم إلى يوم القيامة } استئناف وقسم للوعيد على إشراكهم وإغفالهم النظر أي : ليجمعنكم في القبور مبعوثين إلى يوم القيامة فيجازيكم على شرككم أو في يوم القيامة وإلى بمعنى في وقيل بدل من الرحمة بدل البعض فإنه من رحمته بعثه إياكم وإنعامه عليكم { لا ريب فيه } في اليوم أو الجمع { الذين خسروا أنفسهم } بتضييع رأس مالهم وهو الفطرة الأصلية والعقل السليم وموضع الذين نصب على الذم أو رفع على الخبر أي : وأنتم الذين أو على الابتداء والخبر { فهم لا يؤمنون } والفاء للدلالة على أن عدم إيمانهم مسبب عن خسرانهم فإن إبطال العقل باتباع الحواس والوهم والانهماك في التقليد وإغفال النظر أدى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناع من الإيمان

13 - { وله } عطف على الله { ما سكن في الليل والنهار } من السكنى وتعديته بفي كما في قوله تعالى : { وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم } والمعنى ما اشتملا عليه أو من السكون أي ما سكن فيهما وتحريك فاكتفى بأحد الضدين عن الآخر { وهو السميع } لكل مسموع { العليم } بكل معلوم فلا عليه شيء ويجوز أن يكون وعيدا للمشركين على أقوالهم وأفعالهم

14 - { قل أغير الله أتخذ وليا } إنكار لاتخاذ غير الله وليا لا لاتخاذ الولي فلذلك قدم وأولى الهمزة والمراد بالولي المعبود لأنه رد لمن دعاه إلى الشرك { فاطر السموات والأرض } مبدعهما وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ما عرفت معنى الفاطر حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما أنا فطرتها أي ابتدأتها وجره على الصفة لله فإنه بمعنى الماضي ولذلك قرئ ( فطر ) وقرئ بالرفع والنصب على المدح { وهو يطعم ولا يطعم } يرزق ولا يرزق وتخصيص الطعام لشدة الحاجة إليه وقرئ ولا يطعم بفتح الياء وبعكس الأول على أن الضمير لغير الله والمعنى كيف أشرك بمن هو فاطر السموات والأرض ما هو نازل عن رتبة الحيوانية وببنائهما لفاعل على أن الثاني من انعم بمعنى استطعم أو على معنى أنه يطعم ولا يطعم أخرى كقوله : { يقبض ويبسط } { قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم } لأن النبي صلى الله عليه و سلم سابق أمته في الدين { ولا تكونن من المشركين } وقيل لي ولا تكونن ويجوز عطفه على قل

15 - { قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم } مبالغة أخرى في قطع أطماعهم وتعريض لهم بأنهم عصاة مستوجبون للعذاب والشرط معترض بين الفعل والمفعول به وجوابه محذوف دل عليه الجملة

16 - { من يصرف عنه يومئذ } أي بصرف العذاب عنه وقرأ حمزة و الكسائي و يعقوب و أبو بكر عن عاصم { يصرف } على أن الضمير فيه لله سبحانه وتعالى وقد قرئ بإطهاره والمفعول به محذوف أو يومئذ بحذف المضاف { فقد رحمه } نجاه وأنعم عليه { وذلك الفوز المبين } أي الصرف أو الرحمة

17 - { وإن يمسسك الله بضر } ببلية كمرض وفقر { فلا كاشف له } فلا قادر على كشفه { إلا هو وإن يمسسك بخير } بنعمة كصحة وغنى { فهو على كل شيء قدير } فكان قادرا على حفظه وإدامته فلا يقدر غيره على دفعه كقوله تعالى : { فلا راد لفضله }

18 - { وهو القاهر فوق عباده } تصوير لقهره وعلوه بالغلبة والقدرة { وهو الحكيم } في أمره وتدبيره { الخبير } بالعباد وخفايا أحوالهم

19 - { قل أي شيء أكبر شهادة } نزلت حين قالت قريش : يا محمدج لقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة فأرنا من يشهد لك أنك رسول الله والشيء يقع على كل موجود وقد سبق القول فيه في سورة ( البقرة ) { قل الله } أي الله أكبر شهادة ثم ابتدأ { شهيد بيني وبينكم } أي هو شهيد بيني وبينكم ويجوز أن يكون الله شهيد هو الجواب لأنه سبحانه وتعالى إذا كان الشهيد كان أكبر شيء شهادة { وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به } أي بالقرآن واكتفى بذكر الإنذار عن ذكر البشارة { ومن بلغ } عطف على ضمير المخاطبين أي لأنذركم به يا أهل مكة وسائر من بلغه من الأسود والأحمر أو من الثقلين أو لأنذركم به أيها الموجودون ومن بلغه إلى يوم القيامة وفيه دليل على أن أحكام القرآن تعم الموجودين وقت نزوله ومن بعدهم وأنه لا يؤاخذ بها من لم تبلغه { أإنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى } تقرير لهم مع إنكار واستبعاد { قل لا أشهد } بما تشهدون { قل إنما هو إله واحد } أي بل أشهد أن لا إله إلا الله { وإنني بريء مما تشركون } يعني الأصنام

20 - { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه } يعرفون رسول الله صلى الله عليه و سلم بحليته المذكورة في التوراة والإنجيل { كما يعرفون أبناءهم } بحلاهم { الذين خسروا أنفسهم } من أهل الكتاب والمشركين { فهم لا يؤمنون } لتضييعهم ما به يكتسب الإيمان

21 - { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا } كقولهم : الملائكة بنات الله وهؤلاء شفعاؤنا عند الله { أو كذب بآياته } كأن كذبوا بالقرآن والمعجزات وسموها سحرا وإنما ذكر ( أو ) وهم وقد جمعوا بين الأمرين تنبيها على أن كلا منهما وحده بالغ غاية الإفراط في الظلم على النفس { إنه } الضمير للشأن { لا يفلح الظالمون } فضلا عمن لا أحد أظلم منه

22 - { ويوم نحشرهم جميعا } منصوب بمضمر تهويلا للأمر { ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم } أي آلهتكم التي جعلتموها شركاء الله وقرأ يعقوب ( يحشرهم ) ويقول بالباء { الذين كنتم تزعمون } أي تزعمونهم شركاء فحذف المفعولان والمراد من الاستفهام التوبيخ ولعله يحال بينهم وبين آلهتهم حينئذ ليفقدوها في الساعة التي علقوا بها الرجاء فيها ويحتمل أن يشاهدوهم ولكن لما لم ينفعوهم فكأنهم غيب عنهم

23 - { ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا } أي كفرهم والمراد عاقبته وقيل معذرتهم التي يتوهمون أن يتخلصوا بها من فتنت الذهب إذا خلصته وقيل جوابهم وإنما سماه فتنة لأنه كذب أو لأنهم قصدوا به الخلاص وقرأ ابن كثير و ابن عامر و حفص عن عاصم { لم تكن } بالتاء و { فتنتهم } بالرفع على أنها الاسم و نافع و أبو عمر و أبو بكر عنه بالتاء والنصب على أن الاسم { أن قالوا } والتأنيث للخبر كقولهم من كانت أمك والباقون بالياء والنصب { والله ربنا ما كنا مشركين } يكذبون ويحلفون عليه مع علمهم بأنه لا ينفعهم من فرط الحيرة والدهشة كما يقولون : { ربنا أخرجنا منها } وقد أيقنوا بالخلود وقيل معناه ما كنا مشركين عند أنفسنا وهو لا يوافق قوله

24 - { انظر كيف كذبوا على أنفسهم } أي بنفي الشرك عنها وحمله على كذبهم في الدنيا تعسف يخل بالنظم ونظير ذلك قوله : { يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم } وقرأ حمزة و الكسائي ربنا بالنصب على النداء أو المدح { وضل عنهم ما كانوا يفترون } من الشركاء

25 - { ومنهم من يستمع إليك } حين تتلو القرآن والمراد أبو سفيان والوليد والنضر وعتبة وشيبة وأبو جهل وأضرابهم اجتمعوا فسمعوا رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ القرآن فقالوا للنضر ما يقول فقال والذي جعلها بيته ما أدري ما يقول إلا أنه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين مثل ما حدثتكم عن القرون الماضية فقال أبو سفيان إني لأرى حقا فقال أبو جهل كلا { وجعلنا على قلوبهم أكنة } أغطية جمع كنان وهو ما يستر الشيء { أن يفقهوه } كراهة أن يفقهوه { وفي آذانهم وقرا } يمنع من استماعه وقد مر تحقيق ذلك في أول ( البقرة ) { وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها } لفرط عنادهم واستحكام التقليد فيهم { حتى إذا جاؤوك يجادلونك } أي بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم جاؤوا يجادلونك وحتى هي التي نقع بعدها الجمل لا عمل لها والجملة إذا وجوابه وهو { يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين } فإن جعل أصدق الحديث خرافات الأولين غاية التكذيب ويجادلونك حال لمجيئهم ويجوز أن تكون الجارة وإذا جاؤوك في موضع الجر ويجادلونك حال ويقول تفسير له والأساطير الأباطيل جمع أسطورة أو اسطارة أو أسطار جمع سطر وأصله ا لسطر بمعنى الخط

26 - { وهم ينهون عنه } أي ينهون الناس عن القرآن أو الرسول صلى الله عليه و سلم والإيمان به { وينأون عنه } بأنفسهم أو ينهون عن التعرض لرسول الله صلى الله عليه و سلم وينأون عنه فلا يؤمنون به كأبي طالب { وإن يهلكون } وما يهلكون بذلك { إلا أنفسهم وما يشعرون } أن ضرره لا يتعداهم إلى غيرهم

27 - { ولو ترى إذ وقفوا على النار } جوابه محذوف أي : لو تراهم حين يوقعون على النار حتى يعاينوها أو يطلعون عليها أو يدخلوها فيعرفون مقدار عذابها لرأيت أمرا شنيعا وقرئ { وقفوا } على البناء للفاعل من وقف عليها وقوفا { فقالوا يا ليتنا نرد } تمنيا للرجوع إلى الدنيا { ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين } استئناف كلام منهم على وجه الإثبات كقولهم : دعني ولا أعود أي وأنا لا أعود تركتني أو لم تتركني أو عطف على نرد أو حال من الضمير فيه فيكون في حكم التمني وقوله : { وإنهم لكاذبون } راجع إلى ما تضمنه التمني من الوعد ونصبهما حمزة و يعقوب و حفص على الجواب بإضمار أن بعد الواو إجراء لها مجرى الفاء وقرأ ابن عامر برفع الأول على العطف ونصب ا لثاني على الجواب

28 - { بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل } الإضراب عن إرادة الإيمان المفهومة من التمني والمعنى أنه ظهر لهم ما كانوا يخفون من نفاقهم أو قبائح أعمالهم فتمنوا ذلك ضجرا لا عزما على أنهم لو ردوا لآمنوا { ولو ردوا } أي إلى الدنيا بعد الوقوف والظهور { لعادوا لما نهوا عنه } من الكفر والمعاصي { وإنهم لكاذبون } فيما وعدوا به من أنفسهم

29 - { وقالوا } عطف على لعادوا أو على إنهم لكاذبون أو على نهوا أو استئناف بذكر ما قالوه فلي الدنيا { إن هي إلا حياتنا الدنيا } الضمير للحياة { وما نحن بمبعوثين }

30 - { ولو ترى إذ وقفوا على ربهم } مجاز عن الحبس للسؤال والتوبيخ وقيل معناه وقفوا على قضاء ربهم أو جزائه أو عرفوه حق التعريف { قال أليس هذا بالحق } كأنه جواب قائل قال : ماذا قال ربهم حينئذ ؟ والهمزة للتقريع على التكذيب والإشارة إلى البعث وما يتبعه من الثواب والعقاب { قالوا بلى وربنا } إقرار مؤكد باليمين لانجلاء الأمر غاية الجلاء { قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } بسبب كفركم أو ببدله

31 - { قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله } إذ فاتهم النعم واستوجبوا العذاب المقيم ولقاء الله البعث وما يتبعه { حتى إذا جاءتهم الساعة } غاية لكذبوا لا لخسر لأن خسرانهم لا غاية له { بغتة } فجأة ونصبها على الحال أو المصدر فإنها نوع من المجيء { قالوا يا حسرتنا } أي تعالي فهذا أوانك { على ما فرطنا } قصرنا { فيها } في الحياة الدنيا أضمرت وإن لم يجر ذكرها للعلم بها أو في الساعة يعني في شأنها والإيمان بها { وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم } تمثيل لاستحقاقهم آصار الآثام { ألا ساء ما يزرون } بئس شيئا يزرونه وزرهم

32 - { وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو } أي وما أعمالها إلا لعب ولهو يلهي الناس ويشغلهم عما يعقب منفعة دائمة ولذة حقيقية وهو جواب لقولهم { إن هي إلا حياتنا الدنيا } { وللدار الآخرة خير للذين يتقون } لدوامها وخلوص منافعها ولذاتها وقوله : { للذين يتقون } تنبيه على ما ليس من أعمال المتقين لعب ولهو وقرأ ابن عامر ( ولدار الآخرة ) { أفلا تعقلون } أي الأمر خير وقرأ نافع و ابن عامر و حفص عن عاصم و يعقوب بالتاء على خطاب المخاطبين به أو تغليب الحاضرين على الغائبين

33 - { قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون } معنى قد زيادة الفعل وكثرته كما في قوله :
( ولكنه قد يهلك المال نائله )
والهاء في أنه للشأن وقرئ { ليحزنك } من أحزن { فإنهم لا يكذبونك } في الحقيقة وقرأ نافع و الكسائي { لا يكذبونك } من أكذبه إذا وجده كاذبا أو نسبه إلى الكذب { ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } ولكنهم يجحدون بآيات الله ويكذبونها فوضع الظالمين موضع الضمير للدلالة على أنهم ظلموا بجحودهم أو جحدوا لتمرنهم على الظلم والباء لتضمن الجحود معنى التكذيب روى أن أبا جهل كان يقول : ما نكذبك وإنك عندنا لصادق وإنما نكذب ما جئتنا به فنزلت

34 - { ولقد كذبت رسل من قبلك } تسلية لرسول الله صلى الله عليه و سلم وفيه دليل على أن قوله : { لا يكذبونك } ليس تكذيبه مطلقا { فصبروا على ما كذبوا وأوذوا } على تكذيبهم وإيذائهم فتأس بهم واصبر { حتى أتاهم نصرنا } فيه إيماء بوعد النصر للصابرين { ولا مبدل لكلمات الله } لمواعيده من قوله : { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين } الآيات { ولقد جاءك من نبإ المرسلين } أي بعض قصصهم وما كابدوا من قومهم

35 - { وإن كان كبر عليك } عظم وشق { إعراضهم } عنك وعن الإيمان بما جئت به { فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية } منفذا تنفذ فيه إلى جوف الأرض فتطلع لهم آية أو مصعدا تصعد به إلى السماء فتنزل منها آية وفي الأرض صفة لنفقا وفي السماء صفة لسلما ويجوز أن يكون متعلقين بتبتغي أو حالين من المستكن وجواب الشرط الثاني محذوف تقديره فافعل والجملة جواب الأول والمقصود بيان حرصه البالغ على إسلام قومه وأنه قدر أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } لوفقهم للإيمان حتى يؤمنوا ولكن لم تتعلق به مشيئته فلا تتهالك عليه والمعتزلة أولوه بأنه لو شاء لجمعهم على الهدى بأن يأتيهم بآية ملجئة ولكن لم يفعل لخروجه عن الحكمة { فلا تكونن من الجاهلين } بالحرص على ما لا يكون والجزع في مواطن الصبر فإن ذلك من دأب الجهلة

36 - { إنما يستجيب الذين يسمعون } إنما يجيب الذين يسمعون بفهم وتأمل لقوله تعالى : { أو ألقى السمع وهو شهيد } وهؤلاء كالموتى الذين لا يسمعون { والموتى يبعثهم الله } فيعلمهم حين لا ينفعهم الإيمان { ثم إليه يرجعون } للجزاء

37 - { وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه } أي آية بما اقترحوه أو آية أخرى سوى ما أنزل من الآيات المتكاثرة لعدم اعتدادهم بها عنادا { قل إن الله قادر على أن ينزل آية } مما اقترحوه أو آية تضطرهم إلى الإيمان كنتق الجبل أو آية إن جحدوها هلكوا { ولكن أكثرهم لا يعلمون } أن الله قادر على إنزالها وأن إنزالها يستجلب عليهم البلاء وأن لهم فيما أنزل مندوحة عن غيره وقرأ ابن كثير ينزل بالتخفيف والمعنى واحد [ نائل1 ]
[ نائل1 ]

38 - { وما من دابة في الأرض } تدب على وجهها { ولا طائر يطير بجناحيه } في الهواء وصفه به قطعا لمجاز السرعة ونحوها وقرئ ولا طائر بالرفع على المحل { إلا أمم أمثالكم } محفوظة أحوالها مقدرة أرزاقها وآجالها والمقصود من ذلك الدلالة على كمال قدرته وشمول علمه وسعة تدبيره ليكون كالدليل على أنه قادر على أن ينزل آية وجمع الأمم للحمل على المعنى { ما فرطنا في الكتاب من شيء } يعني اللوح المحفوظ فإنه مشتمل على ما يجري في العالم من الجليل والدقيق لم يهمل فيه أمر حيوان ولا جماد أو القرآن فإنه قد دون فيه ما يحتاج إليه من أمر الدين مفصلا أو مجملا ومن مزيدة وشيء في موضع المصدر لا بالمفعول به فإن فرط لا يتعدى بنفسه وقد عدي بفي إلى الكتاب وقرئ { ما فرطنا } بالتخفيف { ثم إلى ربهم يحشرون } يعني الأمم كلها فينصف بعضها من بعض كما روي : أنه يأخذ للجماء من القرناء وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : حشرها موتها

39 - { والذين كذبوا بآياتنا صم } لا يسمعون مثل هذه الآيات الدالة على ربوبيته وكمال علمه وعظم قدرته سماعا تتأثر به نفوسهم { وبكم } لا ينطقون بالحق { في الظلمات } خير ثالث أي خابطون في ظلمات الكفر أو في ظلمة الجهل وظلمة العناد وظلمة التقليد ويجوز أن يكون حالا من المستكن في الخبر { من يشإ الله يضلله } من يشأ الله إضلاله يضلله وهو دليل واضح لنا على المعتزلة { ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم } بأن يرشده إلى الهدى ويحمله عليه

40 - { قل أرأيتكم } استفهام تعجيب والكاف حرف خطاب أكد به الضمير للتأكيد لا محل له من الإعراب لأنك تقول : أرأيتك زيدا ما شأنه فلو جعلت الكاف مفعولا كما قاله الكوفيون لعديت الفعل إلى ثلاثة مفاعيل وللزم في الآية أن يقال : أرأيتكم بل الفعل معلق أو المفعول محذوف تقديره : أرأيتكم آلهتكم تنفعكم إذ تدعونها وقرأ نافع أرأيتكم وأرأيت وأرأيتم وأفرأيتم وأفرأيت وشبهها إذا كان قبل الراء همزة بتسهيل الهمزة التي بعد الراء و الكسائي يحذفها أصلا والباقون يحققونها و حمزة إذا وقف وافق نافعا { إن أتاكم عذاب الله } كما أتى من قبلكم { أو أتتكم الساعة } وهو لها ويدل عليه { أغير الله تدعون } وهو تبكيت لهم { إن كنتم صادقين } أن الأصنام آلهة وجوابه محذوف أي فادعوه

41 - { بل إياه تدعون } بل تخصونه بالدعاء كما حكى عنهم في مواضع وتقديم المفعول لإفادة التخصيص { فيكشف ما تدعون إليه } أي ما تدعونه إلى كشفه { إن شاء } أي يتفضل عليكم ولا يشاء في الآخرة { وتنسون ما تشركون } وتتركون آلهتكم في ذلك الوقت لما ركز في العقول على أنه القادر على كشف الضر دون غيره أو وتنسونه من شدة الأمر وهوله

42 - { ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك } أي قبلك ومن زائدة { فأخذناهم } أي فكفروا وكذبوا المرسلين فأخذناهم { بالبأساء } بالشدة والفقر { والضراء } والضر والآفات وهما صيغتا تأنيث لا مذكر لهما { لعلهم يتضرعون } يتذللون لنا ويتوبون عن ذنوبهم

43 - { فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا } معناه نفي تضرعهم في ذلك الوقت مع قيام ما يدعوهم أي لم يتضرعوا { ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون } استدراك على المعنى وبيان للصارف لهم عن التضرع وأنه : لا مانع لهم إلا قساوة قلوبهم وإعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم

44 - { فلما نسوا ما ذكروا به } من البأساء والضراء ولم يتعظوا به { فتحنا عليهم أبواب كل شيء } من أنواع النعم مراوحة عليهم بين نوبتي الضراء والسراء وامتحانا لهم بالشدة والرخاء إلزاما للحجة وإزاحة للعلة أو مكرا بهم لما روي أنه عليه الصلاة و السلام قال [ مكر بالقوم ورب الكعبة ] وقرأ ابن عامر { فتحنا } بالتشديد في جميع القرآن ووافقه يعقوب فيما عدا هذا والذي في الأعراف { حتى إذا فرحوا } أعجبوا { بما أوتوا } من النعم ولم يزيدوا غير البطر والاشتغال بالنعم عن المنعم والقيام بحقه سبحانه وتعالى { أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون } متحسرون آيسون

45 - { فقطع دابر القوم الذين ظلموا } أي آخرهم بحيث لم يبق منهم أحد من دبره دبرا ودبورا إذا تبعه { والحمد لله رب العالمين } على إهلاكهم فإن هلاك الكفار والعصاة من حيث إنه تخليص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم وأعمالهم نعمة جليلة يحق أن يحمد عليها

46 - { قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم } أصمكم وأعماكم { وختم على قلوبكم } بأن يغطي عليها ما يزول به عقلكم وفهمكم { من إله غير الله يأتيكم به } أي بذلك أو بما أخذ وختم عليه أو بأحد هذه المذكورات { انظر كيف نصرف الآيات } نكررها تارة من جهة المقدمات العقلية وتارة من جهة الترغيب والترهيب وتارة بالتنبيه والتذكير بأحوال المتقدمين { ثم هم يصدفون } يعرضون عنها وثم لاستبعاد الإعراض بعد تصريف الآيات وظهورها

47 - { قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة } من غير مقدمة { أو جهرة } بتقدمة أمارة تؤذن بحلوله وقيل ليلا أو نهارا وقرئ { بغتة أو جهرة } { هل يهلك } أي ما يهلك به هلاك سخط وتعذيب { إلا القوم الظالمون } ولذلك صح الاستثناء المفرغ منه وقرئ { يهلك } بفتح الياء

48 - { وما نرسل المرسلين إلا مبشرين } المؤمنين بالجنة { ومنذرين } الكافرين بالنار ولم نرسلهم ليقترح عليهم ويتلهى بهم { فمن آمن وأصلح } ما يجب إصلاحه على ما شرع لهم { فلا خوف عليهم } من العذاب { ولا هم يحزنون } بفوات الثواب

49 - { والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب } جعل العذاب ماسا لهم كأنه الطالب للوصول إليهم واستغنى بتعريفه عن التوصيف { بما كانوا يفسقون } بسبب خروجهم عن التصديق والطاعة

50 - { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله } مقدوراته أو خزائن رزقه { ولا أعلم الغيب } ما لم يوح إلي ولم ينصب عليه دليل وهو من جملة المقول { ولا أقول لكم إني ملك } أي من جنس الملائكة أو أقدر على ما يقدرون عليه { إن أتبع إلا ما يوحى إلي } تبرأ عن دعوى الألوهية والملكية وادعى النبوة التي هي من كمالات البشر ردا لاستبعادهم دعواه وجزمهم على فساد مدعاه { قل هل يستوي الأعمى والبصير } مثل للضال والمهتدي أو الجاهل والعالم أو مدعي المستحيل كالألوهية والملكية ومدعي المستقيم كالنبوة { أفلا تتفكرون } فتهتدوا أو فتميزوا بين ادعاء الحق والباطل أو فتعلموا أن اتباع الوحي مما لا محيص عنه

51 - { وأنذر به } الضمير لما يوحى إلي { الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم } هم المؤمنون المفرطون في العمل أو المجوزون للحشر مؤمنا كان أو كافرا مقرا به أو مترددا فيه فإن الإنذار ينفع فيهم دون الفارغين الجازمين باستحالته { ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع } في موضع الحال من يحشروا فإن المخوف هو الحشر على هذه الحالة { لعلهم يتقون } لكي يتقوا

52 - { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } بعدما أمره بإنذار غير المتقين ليتقوا أمره بإكرام المتقين وتقريبهم وأن لا يطردهم ترضية لقريش روي أنهم قالوا : [ لو طردت هؤلاء الأعبد يعنون فقراء المسلمين كعمار وصهيب وخباب وسلمان ـ جلسنا إليك وحادثناك فقال : ما أنا بطارد المؤمنين قالوا : فأقمهم عنا إذا جئناك قال : نعم ] وروي أن عمر رضي الله عنه قال له : لو فعلت حتى ننظر إلى ماذا يصيرون فدعا بالصحيفة وبعلي رضي الله تعالى عنه ليكتب فنزلت والمراد بذكر الغداة والعشي الدوام وقيل صلاتا الصبح والعصر وقرأ ابن عامر بالغدوة هنا وفي الكهف { يريدون وجهه } حال من يدعون أي يدعون ربهم مخلصين فيه قيد الدعاء بالإخلاص تنبيها على أنه ملاك الأمر ورتب النهي عليه إشعارا بأنه يقتضي إكرامهم وينافي إبعادهم { ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء } أي ليس عليك حساب إيمانهم فلعل إيمانهم عند الله أعظم من إيمان من تطردهم بسؤالهم طمعا في إيمانهم لو آمنوا أو ليس عليك اعتبار بواطنهم وإخلاصهم لما اتسموا بسيرة المتقين وإن كان لهم باطن غير مرضي كما ذكره المشركون وطعنوا في دينهم فحسابهم عليهم لا يتعداهم إليك كما أن حسابك عليك لا يتعداك إليهم وقيل ما عليك من حساب رزقهم أي فقرهم وقيل الضمير للمشركين والمعنى : لا تؤاخذ بحسابهم ولا هم بحسابك حتى يهمك إيمانهم بحيث تطرد المؤمنين طمعا فيه { فتطردهم } فتبعدهم وهو جواب النفي { فتكون من الظالمين } جواب النهي ويجوز عطفه على فتطردهم على وجه التسبب وفيه نظر

53 - { وكذلك فتنا بعضهم ببعض } ومثل ذلك الفتن وهو اختلاف أحوال الناس في أمور الدنيا { فتنا } أي ابتلينا بعضهم ببعض في أمر الدين فقدمنا هؤلاء الضعفاء على أشراف قريش بالسبق إلى الإيمان { ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا } أي أهؤلاء من أنعم الله عليهم بالهداية والتوفيق لما يسعدهم دوننا ونحن الأكابر والرؤساء وهو المساكين والضعفاء وهو إنكار لأن يخص هؤلاء من بينهم بإصابة الحق والسبق إلى الخير كقولهم : { لو كان خيرا ما سبقونا إليه } واللام للعاقبة أو التعليل على أن فتنا متضمن معنى خذلنا { أليس الله بأعلم بالشاكرين } بمن يقع منه الإيمان والشكر فيوفقه وبمن لا يقع منه فيخذله

54 - { وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة } الذين يؤمنون هم الذين يدعون ربهم وصفهم بالإيمان بالقرآن واتباع الحجج بعدما وصفهم بالمواظبة على العبادة وأمره أن يبدأ بالتسليم أو يبلغ سلام الله تعالى إليهم ويبشرهم بسعة رحمة الله تعالى وفضله بعد النهي عن طردهم إيذانا بأنهم الجامعون لفضيلتي العلم والعمل ومن كان كذلك ينبغي أن يقرب ولا يطرد ويعز ولا يذل ويبشر من الله بالسلامة في الدنيا والرحمة في الآخرة وقيل إن قوما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا : إنا أصبنا ذنوبا عظاما فلم يرد عليهم شيئا فانصرفوا فنزلت : { أنه من عمل منكم سوءا } استئناف بتفسير الرحمة وقرأ نافع و ابن عامر و عاصم و يعقوب بالفتح على البدل منها { بجهالة } في موضع الحال أي من عمل ذنبا جاهلا بحقيقة ما يتبعه من المضار والمفاسد كعمر فيما أشار إليه أو ملتبسا بفعل الجهالة فإن ارتكاب ما يؤدي إلى الضرر من أفعال أهل السفه والجهل { ثم تاب من بعده } بعد العمل أو السوء { وأصلح } بالتدارك والعزم على أن لا يعود إليه { فأنه غفور رحيم } فتحه من فتح الأول غير نافع على إضمار مبتدأ أو خبر أي فأمره أو فله غفرانه

55 - { وكذلك } ومثل ذلك التفصيل الواضح { نفصل الآيات } أي آيات القرآن في صفة المطيعين والمجرمين المصرين منهم والأوابين { ولتستبين سبيل المجرمين } قرأ نافع بالتاء ونصب السبيل على معنى ولتستوضح يا محمد سبيلهم فتعامل كلا منهم بما يحق له فصلنا هذا التفصيل و ابن كثير و ابن عامر و أبو عمرو و يعقوب و حفص عن عاصم برفعه على معنى ولنبين سبيلهم والباقون بالياء والرفع على تذكير السبيل فإنه يذكر ويؤنث ويجوز أن يعطف على علة مقدرة أي نفصل الآيات ليظهر الحق وليستبين

56 - { قل إني نهيت } صرفت وزجرت بما نصب لي من الأدلة وأنزل علي من الآيات في أمر التوحيد { فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله } عن عبادة ما تعبدون من دون الله أو ما تدعونها آلهة أي تسمونها { قل لا أتبع أهواءكم } تأكيد لقطع أطماعهم وإشارة إلى الموجب للنهي وعلة الامتناع عن متابعتهم واستجهال لهم وبيان لمبدأ ضلالهم وأن ما هم عليه هوى وليس يهدي وتنبيه لمن تحرى الحق على أن يتبع الحجة ولا يقلد { قد ضللت إذا } أي اتبعت أهواءكم فقد ضللت { وما أنا من المهتدين } أي في شيء من الهدى حتى أكون من عدادهم وفيه تعريض بأنهم كذلك

57 - { قل إني على بينة } تنبيه على ما يجب اتباعه بعد ما بين ما لا يجوز اتباعه والبينة الدلالة الواضحة التي تفصل الحق من الباطل وقيل المراد بها القرآن والوحي أو الحجج العقلية أو ما يعمها { من ربي } من معرفته وأنه لا معبود سواه ويجوز أن يكون صفة لبينة { وكذبتم به } الضمير لربي أي كذبتم به حيث أشركتم به غيره أو للبينة باعتبار المعنى { ما عندي ما تستعجلون به } يعني العذاب الذي استعجلوه بقولهم : { فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } { إن الحكم إلا لله } في تعجيل العذاب وتأخيره { يقص الحق } أي القضاء الحق أو يصنع الحق ويدبره من قولهم قضى الدرع إذا صنعها فيما يقضي من تعجيل وتأخير وأصل القضاء الفصل بتمام الأمر وأصل الحكم المنع فكأنه منع الباطل وقرأ ابن كثير و نافع و عاصم يقص من قص الأثر أو من قص الخبر { وهو خير الفاصلين } القاضين

58 - { قل لو أن عندي } أي في قدرتي ومكنتي { ما تستعجلون به } من العذاب { لقضي الأمر بيني وبينكم } لأهلكتكم عاجلا غضبا لربي وانقطع ما بيني وبينكم { والله أعلم بالظالمين } في معنى الاستدراك كأنه قال : ولكن الأمر إلى الله سبحانه وتعالى وهو أعلم بمن ينبغي أن يؤخذ وبمن ينبغي أن يمهل منهم

59 - { وعنده مفاتح الغيب } خزائنه جمع مفتح الميم وهو المخزن أو ما يتوصل به إلى المغيبات مستعار من المفاتح الذي هو جمع مفتح بكسر الميم وهو المفتاح ويؤيده أنه قرئ مفاتيح والمعنى أنه المتوصل إلى المغيبات المحيط علمه بها { لا يعلمها إلا هو } فيعلم أوقاتها وما في تعجيلها وتأخيرها من الحكم فيظهرها على ما اقتضته حكمته وتعلقت به مشيئته وفيه دليل على أنه سبحانه وتعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها { ويعلم ما في البر والبحر } عطف للأخبار عن تعلق علمه تعالى بالمشاهدات على الإخبار عن اختصاص العلم بالمغيبات به { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها } مبالغة في إحاطة علمه بالجزئيات { ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس } معطوفات على ورقة وقوله { إلا في كتاب مبين } بدل من الاستثناء الأول بدل الكل على أن الكتاب المبين علم الله سبحانه وتعالى أو بدل الاشتمال إن أريد به اللوح وقرئت بالرفع للعطف على محل ورقة أو رفعا على الابتداء والخبر { إلا في كتاب مبين }

60 - { وهو الذي يتوفاكم بالليل } ينيمكم فيه ويراقبكم استعير التوفي من الموت للنوم لما بينهم من المشاركة في زوال الإحساس والتمييز فإن أصله قبض الشيء بتمامه { ويعلم ما جرحتم بالنهار } كسبتم فيه خص الليل بالنوم والنهار بالكسب جريا على المعتاد { ثم يبعثكم } يوقظكم أطلق البعث ترشيحا للتوفي { فيه } في النهار { ليقضى أجل مسمى } ليبلغ المتيقظ آخر أجله المسمى له في الدنيا { ثم إليه مرجعكم } بالموت { ثم ينبئكم بما كنتم تعملون } بالمجازاة عليه وقيل الآية خطاب للكفرة والمعنى أنكم ملقون كالجيف بالليل وكاسبون للآثام بالنهار وأنه سبحانه وتعالى مطلع على أعمالكم يبعثكم من القبور في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام بالنهار ليقضي الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم ثم إليه مرجعكم بالحساب ثم ينبئكم بما كنتم تعملون بالجزاء

61 - { وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة } ملائكة تحفظ أعملكم وهم الكرام الكاتبون والحكمة فيه أن المكلف إذا علم أن أعماله تكتب عليه وتعرض على رؤوس الأشهاد كان أزجر عن المعاصي وأن العبد إذا وثق بلطف سيده واعتمد على عفوه وستره لم يحتشم منه احتشامه من خدمة المطلعين عليه { حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا } ملك الموت وأعوانه وقرأ حمزة توفاه بالألف ممالة { وهم لا يفرطون } بالتواني والتأخير وقرئ بالتخفيف المعنى : لا يجازون ما حد لهم بزيادة أو نقصان

62 - { ثم ردوا إلى الله } إلى حكمه وجزائه { مولاهم } الذي يتولى أمرهم { الحق } العدل الذي لا يحكم إلا بالحق وقرئ بالنصب على المدح { ألا له الحكم } يومئذ لا حكم لغيره فيه { وهو أسرع الحاسبين } يحاسب الخلائق في مقدار حلب شاة لا يشغله حساب عن حساب

63 - { قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر } من شدائدهما استعيرت الظلمة للشدة لمشاركتهما في الهول وإبطال الإبصار فقيل لليوم الشديد يوم مظلم ويوم ذو كواكب أو من الخسف في البر و الغرق في البحر وقرأ يعقوب { ينجيكم } بالتخفيف والمعنى واحد { تدعونه تضرعا وخفية } معلنين ومسرين أو إعلانا وإسرارا وقرأ أبو بكر هنا وفي الأعراف { وخفية } بالكسر وقرئ { خيفة } { لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين } على إرادة القول أي تقولون لئن أنجيتنا وقرأ الكوفيون لئن أنجانا ليوافق قوله { تدعونه } وهذه إشارة إلى الظلمة

64 - { قل الله ينجيكم منها } شدده الكوفيون و هشام وخففه الباقون { ومن كل كرب } غم سواها { ثم أنتم تشركون } تعودون إلى الشرك ولا توفون بالعهد وإنما وضع تشركون موضع لا تشكرون تنبيها على أن من أشرك بعبادة الله سبحانه وتعالى فكأنه لم يعيده رأسا

65 - { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم } كما فعل بقوم نوح ولوط وأصحاب الفيل { أو من تحت أرجلكم } كما أغرق فرعون وخسف بقارون وقيل من فوقكم أكابركم وحكامكم ومن تحت أرجلكم سفلتكم وعبيدكم { أو يلبسكم } يخلطكم { شيعا } فرقا متحزبين على أهواء شتى فينشب القتال بينكم قال :
( وكتيبة لبستها بكتيبة ... حتى إذا التبست نفضت لها يدي )
{ ويذيق بعضكم بأس بعض } يقاتل بعضكم بعضا { انظر كيف نصرف الآيات } بالوعد والوعيد { لعلهم يفقهون }

66 - { وكذب به قومك } أي بالعذاب أو بالقرآن { وهو الحق } الواقع لا محالة أو الصدق { قل لست عليكم بوكيل } بحفيظ وكل إلي أمركم فأمنعكم من التكذيب أو أجازيكم إنما أنا منذر والله الحفيظ

67 - { لكل نبإ } خبر يريد به إما بالعذاب أو الإيعاد به { مستقر } وقت استقرار ووقوع { وسوف تعلمون } عند وقوعه في الدنيا والآخرة

68 - { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا } بالتكذيب والاستهزاء بها والطعن فيها { فأعرض عنهم } فلا تجالسهم وقم عنهم { حتى يخوضوا في حديث غيره } أعاد الضمير على معنى الآيات لأنها القرآن { وإما ينسينك الشيطان } بأن يشغلك بوسوسته حتى تنسى النهي وقرأ ابن عامر { ينسينك } بالتشديد { فلا تقعد بعد الذكرى } بعد أن تذكره { مع القوم الظالمين } أي معهم فوضع الظاهر موضع المضمر دلالة على أنهم ظلموا بوضع التكذيب والاستهزاء موضع التصديق والاستعظام

69 - { وما على الذين يتقون } وما يلزم المتقين من قبائح أعمالهم وأقوالهم الذين يجالسونهم { من حسابهم من شيء } شيء مما يحاسبون عليه { ولكن ذكرى } ولكن عليهم أن يذكروهم ذكرى ويمنعوهم عن الخوض وغيره من القبائح ويظهروا كراهتها وهو يحتمل النصب على المصدر والرفع ولكن عليهم ذكرى ولا يجوز عطفه على محل من شيء لأن من حسابهم يأباه ولا على شيء لذلك ولأن من لا تزاد في الإثبات { لعلهم يتقون } يجتنبون ذلك حياء أو كراهة لمساءتهم ويحتمل أن يكون الضمير للذين يتقون والمعنى : لعلهم يثبتون على تقواهم ولا تنثلم بمجالستهم وروي : أن المسلمين قالوا لئن كنا نقوم كلما استهزءوا بالقرآن لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام ونطوف فنزلت

70 - { وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا } أي بنوا أمر دينهم على التشهي وتدينوا بما لا يعود عليهم بنفع عاجلا أو آجلا كعبادة الأصنام وتحريم البحائر والسوائب أو اتخذوا دينهم الذي كلفوه لعبا ولهوا حيث سخروا به أو جعلوا عيدهم الذي جعل ميقات عبادتهم زمان لهو ولعب والمعنى أعرض عنهم ولا تبال بأفعالهم وأقوالهم ويجوز أن يكون تهديدا لهم كقوله تعالى : { وغرتهم الحياة الدنيا } حتى أنكروا البعث { وذكر به } أي بالقرآن { أن تبسل نفس بما كسبت } مخافة أن تسلم إلى الهلاك وترهن بسوء عملها وأصل الأبسال والبسل المنع ومنه أسد باسل لأن فريسته لا تفلت منه والباسل الشجاع لامتناعه من قرنه وهذا بسل عليك أي حرام { ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع } يدفع عنها العذاب { وإن تعدل كل عدل } وإن تفد كل فداء والعدل الفدية لأنها تعادل المفدي وها هنا الفداء وكل نصب على المصدرية { لا يؤخذ منها } الفعل مسند إلى منها لا إلى ضميره بخلاف قوله : { ولا يؤخذ منها عدل } فإنه المفدى به { أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا } أي سلموا إلى العذاب بسبب أعمالهم القبيحة وعقائدهم الزائغة { لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون } تأكيد وتفصيل لذلك والمعنى هم بين ماء مغلي يتجرجر في بطونهم ونار تشتعل بأبدانهم بسبب كفرهم

71 - { قل أندعو } أنعبد { من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا } ما لا يقدر على نفعنا وضرنا { ونرد على أعقابنا } ونرجع إلى الشرك { بعد إذ هدانا الله } فأنقذنا منه ورزقنا الإسلام { كالذي استهوته الشياطين } كالذي ذهبت به مردة الجن في المهامة استفعال من هوى يهوي هويا إذا ذهب وقرأ حمزة استهواه بألف ممالة ومحل الكاف النصب على الحال من فاعل { نرد } أي : مشبهين الذي استهوته أو على المصدر أي ردا مثل رد الذي استهوته { في الأرض حيران } متحيرا ضالا عن الطريق { له أصحاب } لهذا المستهوى رفقة { يدعونه إلى الهدى } إلى أن يهدوه الطريق المستقيم أو إلى الطريق المستقيم وسماه هدى تسمية للمفعول بالمصدر { ائتنا } يقولون له ائتنا { قل إن هدى الله } الذي هو الإسلام { هو الهدى } وحده وما عداه ضلال { وأمرنا لنسلم لرب العالمين } من جملة المقول عطف على أن هدى الله واللام لتعليل الأمر أي أمرنا بذلك لنسلم وقيل هي بمعنى الباء وقيل هي زائدة

72 - { وأن أقيموا الصلاة واتقوه } عطف على لنسلم أي للإسلام ولإقامة الصلاة أو على موقعه كأنه قيل : وأمرنا أن نسلم وأن أقيموا الصلاة روي : أن عبد الرحمن بن أبي بكر دعا أباه إلى عبادة الأوثان فنزلت وعلى هذا كان أمر الرسول صلى الله عليه و سلم بهذا القول إجابة عن الصديق رضي الله عنه تعظيما لشأنه وإظهارا للاتحاد الذي كان بينهما { وهو الذي إليه تحشرون } يوم القيامة

73 - { وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق } قائما بالحق والحكمة { ويوم يقول كن فيكون قوله الحق } جملة اسمية قدم فيها الخبر أي قوله الحق يوم يقول كقولك : القتال يوم الجمعة والمعنى أنه الخالق للسماوات والأرضين وقوله الحق نافذ في الكائنات وقيل يوم منصوب بالعطف على السماوات أو الهاء في واتقوه أو بمحذوف دل عليه بالحق وقوله الحق مبتدأ وخبر أو فاعل يكون على معنى وحين يقول لقوله الحق أي لقضائه كن فيكون والمراد به حين يكون الأشياء ويحدثها أو حين تقوم القيامة فيكون التكوين حشر الأموات وإحياءها { وله الملك يوم ينفخ في الصور } كقوله سبحانه وتعالى : { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } { عالم الغيب والشهادة } أي هو عالم الغيب { وهو الحكيم الخبير } كالفذلكة للآية

74 - { وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر } هو عطف بيان لأبيه وفي كتب التواريخ أن اسمه تارح فقيل هما علمان له كإسرائيل و يعقوب وقيل العلم تارح وآزر وصف معناه الشيخ أو المعوج ولعل منع صرفه لأنه أعجمي حمل على موازنة أو نعت مشتق من الآزر أو الوزر والأقرب أنه علم أعجمي على فاعل كعابر وشالخ وقيل اسم صنم يعبده فلقب به للزوم عبادته أو أطلق عليه بحذف المضاف وقيل المراد به الصنم ونصبه بفعل مضمر يفسره ما بعده أي أتعبد آزر ثم قال : { أتتخذ أصناما آلهة } تفسيرا وتقريرا ويدل عليه أنه قرئ أزرا تتخذ أصناما بفتح همزة آزر وكسرها وهو اسم صنم وقرأ يعقوب بالضم على النداء وهو يدل على أنه علم { إني أراك وقومك في ضلال } عن الحق { مبين } ظاهر الضلالة

75 - { وكذلك نري إبراهيم } ومثل هذا التبصير نبصره وهو حكاية حال ماضية وقرئ : ترى بالتاء ورفع الملكوت ومعناه تبصره دلائل الربوبية { ملكوت السموات والأرض } ربوبيتها وملكها وقيل عجائبها وبدائعها والملكوت أعظم الملك والتاء فيه للمبالغة { وليكون من الموقنين } أي ليستدل وليكون أو وفعلنا ذلك ليكون

76 - { فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي } تفصيل وبيان لذلك وقيل عطف على قال إبراهيم وكذلك نري اعتراض فإن أباه وقومه كانوا يعبدون الأصنام والكواكب فأراد أن ينبههم على ضلالتهم ويرشدهم إلى الحق من طريق النظر والاستدلال وجن عليه الليل ستره بظلامه والكواكب كان الزهزة أو المشتري وقوله : { هذا ربي } على سبيل الوضع فإن المستدل على فساد قول يحكيه على ما يقوله الخصم ثم يكر عليه بالإفساد أو على وجه النظر والاستدلال وإنما قاله زمان مراهقته أو أول أوان بلوغه { فلما أفل } أي غاب { قال لا أحب الأفلين } فضلا عن عبادتهم فإن الانتقال والاحتجاب بالأستار يقتضي الأمان والحدوث وينافي الألوهية

77 - { فلما رأى القمر بازغا } مبتدئا في الطلوع { قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين } استعجز نفسه واستعان بربه في درك الحق فإنه لا يهتدي إليه إلا بتوفيقه إرشادا لقومه وتنبيها لهم على أن القمر أيضا لتغير حاله لا يصلح للألوهية وأن من اتخذه إلها فهو ضال

78 - { فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي } ذكر اسم الإشارة لتذكير الخبر وصيانة للرب عن شبهة التأنيث { هذا أكبر } كبره استدلالا أو إظهارا لشبهة الخصم { فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون } من الأجرام المحدثة المحتاجة إلى محدث يحدثها ومخصص يخصصها بما تخص به ثم لما تبرأ منها توجه إلى موجدها ومبدعها الذي دلت هذه الممكنات عليه فقال :

79 - { إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين } وإنما احتج بالأفول دون البزوغ مع أنه أيضا انتقال لتعدد دلالته ولأنه رأى الكوكب الذي يعبدونه في وسط السماء حين حاول الاستدلال

80 - { وحاجه قومه } وخاصموه في التوحيد { قال أتحاجوني في الله } في وحدانيته سبحانه وتعالى وقرأ نافع و ابن عامر بخلاف عن هشام بتخفيف النون { وقد هدان } إلى توحيده { ولا أخاف ما تشركون به } أي لا أخاف معبوداتكم في وقت لأنها لا تضر بنفسها ولا تنفع { إلا أن يشاء ربي شيئا } أن يصيبني بمكروه من جهتها ولعله جواب لتخويفهم إياه من آلهتهم وتهديد لهم بعذاب الله { وسع ربي كل شيء علما } كأنه علة الاستثناء أي أحاط به علما فلا يبعد أن يكون في علمه أن يحيق بي مكروه من جهتها { أفلا تتذكرون } فتميزوا بين الصحيح والفاسد والقادر والعاجز

81 - { وكيف أخاف ما أشركتم } ولا يتعلق به ضر { ولا تخافون أنكم أشركتم بالله } وهو حقيق بأن يخاف منه كل الخوف لأنه إشراك للمصنوع بالصانع وتسوية بين المقدور العاجز بالقادر الضار النافع { ما لم ينزل به عليكم سلطانا } ما لم ينزل بإشراكه كتابا أو لم ينصب عليه دليلا { فأي الفريقين أحق بالأمن } أي الموحدون أو المشركون وإنما لم يقل أينا أنا أم أنتم احترازا من تزكية نفسه { إن كنتم تعلمون } ما يحق أن يخاف منه

82 - { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } استئناف منه أو من الله بالجواب عما استفهم عنه والمراد بالظلم ها هنا الشرك لما روي [ أن الآية لما نزلت شق ذلك على الصحابة وقالوا : أينا لا يظلم نفسه فقال عليه الصلاة و السلام : ليس ما تظنون إنما هو ما قال لقمان لابنه { يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم } ] وليس الإيمان به أن يصدق بوجود الصانع الحكيم ويخلط بهذا التصديق الإشراك به وقيل المعصية

83 - { وتلك } إشارة إلى ما احتج به إبراهيم على قومه من قوله : { فلما جن عليه الليل } إلى قوله { وهم مهتدون } أو من قوله : { أتحاجوني } إليه { حجتنا آتيناها إبراهيم } أرشدناه إليها أو علمناه إياها { على قومه } متعلق بقوله : { حجتنا } إن جعل خبر تلك وبمحذوف إن جعل بدله أي : آتيناها إبراهيم حجة على قومه { نرفع درجات من نشاء } في العلم والحكمة وقرأ الكوفيون و يعقوب بالتنوين { إن ربك حكيم } في رفعه وخفضه : { عليم } بحال من يرفعه واستعداده له

84 - { ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا } أي كلا
منهما { ونوحا هدينا من قبل } من قبل إبراهيم عد هداه نعمة على إبراهيم من حيث إنه أبوه وشرف الوالد يتعدى إلى الولد { ومن ذريته } الضمير لإبراهيم عليه الصلاة و السلام إذ الكلام فيه وقيل لنوح عليه السلام لأنه أقرب ولأن يونس ولوطا ليسا من ذرية إبراهيم فلو كان لإبراهيم اختص البيان بالمعدودين في تلك الآية والتي بعدها والمذكورون في الآية الثالثة عطف على نوحا { داود وسليمان وأيوب } أيوب بن أموص من أسباط عيص بن إسحاق { ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين } أي ونجزي المحسنين جزاء مثل ما جزينا إبراهيم برفع درجاته وكثر أولاده والنبوة فيهم

85 - { وزكريا ويحيى وعيسى } هو ابن مريم وفي ذكره دليل على أن الذرية تتناول أولاد البنت { وإلياس } قيل هو إدريس جد نوح فيكون البيان مخصوصا بمن في الآية الأولى وقيل هو من أسباط هارون أخي موسى { كل من الصالحين } الكاملين في الصلاح وهو الإتيان بما ينبغي والتحرز عما لا ينبغي

86 - { إسماعيل واليسع } هو الليسع بن أخطوب وقرأ حمزة و الكسائي والليسع وعلى القراءتين هو علم أعجمي أدخل عليه اللام كما أدخل على اليزيد في قوله :
( رأيت الوليد بن اليزيد مباركا ... شديدا بأعباء الخلافة كاهله ) { ويونس } هو يونس بن متى { ولوطا } هو ابن هاران أخي إبراهيم { وكلا فضلنا على العالمين } بالنبوة وفيه دليل على فضلهم على من عداهم من الخلق

87 - { ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم } عطف على { كلا } أو { نوحا } أي فضلنا كلا منهم أو هدينا هؤلاء وبعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم فإن منهم من لم يكن نبيا ولا مهديا { واجتبيناهم } عطف على { فضلنا } أو { هدينا } { وهديناهم إلى صراط مستقيم } تكرير لبيان ما هدوا إليه

88 - { ذلك هدى الله } إشارة إلى ما دانوا به { يهدي به من يشاء من عباده } دليل على أنه متفضل عليهم بالهداية { ولو أشركوا } أي ولو أشرك هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع فضلهم وعلو شأنهم { لحبط عنهم ما كانوا يعملون } لكانوا كغيرهم في حبوط أعمالهم بسقوط ثوابها

89 - { أولئك الذين آتيناهم الكتاب } يريد به الجنس { والحكم } الحكمة أو فصل الأمر على ما يقتضيه الحق { والنبوة } والرسالة { فإن يكفر بها } أي بهذه الثلاثة { هؤلاء } يعني قريشا { فقد وكلنا بها } أي بمراعاتها : { قوما ليسوا بها بكافرين } وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام المذكورون ومتابعوهم وقيل هم الأنصار أو أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم صلى الله عليه و سلم أو كل من آمن به أو الفرس وقيل الملائكة

90 - { أولئك الذين هدى الله } يريد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام المتقدم ذكرهم { فبهداهم اقتده } فاختص طريقهم بالاقتداء والمراد بهداهم ما توافقوا عليه من التوحيد وأصول الدين دون الفروع المختلف فيها فإنها ليست هدى مضافا إلى الكل ولا يمكن التأسي بهم جميعا فليس فيه دليل على أنه عليه الصلاة و السلام متعبد بشرع من قبله والهاء في { اقتده } للوقف ومن أثبتها في الدرج ساكنة كابن كثير و نافع و أبي عمرو و عاصم أجرى الوصل مجرى الوقف ويحذف الهاء في الوصل خاصة حمزة و الكسائي وأشبعها بالكسر ابن عامر برواية ابن ذكوان على أنها كناية المصدر وكسرها بغير إشباع برواية هشام { قل لا أسألكم عليه } أي على التبليغ أو القرآن { أجرا } جعلا من جهتكم كما لم يسأل من قبلي من النبيين وهذا من جملة ما أمر بالاقتداء بهم فيه { إن هو } أي التبليغ أو القرآن أو الغرض { إلا ذكرى للعالمين } إلا تذكيرا وموعظة لهم

91 - { وما قدروا الله حق قدره } وما عرفوه حق معرفته في الرحمة والإنعام على العباد { إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } حين أنكروا الوحي وبعثة الرسل عليهم الصلاة والسلام وذلك من عظائم رحمته وجلائل نعمته أو في السخط على الكفار وشدة البطش بهم حين جسروا على هذه المقالة ' والقائلون هم اليهود قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن بدليل نقض كلامهم وإلزامهم بقوله : { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس } وقراءة الجمهور { تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا } بالتاء وإنما قرأ بالياء ابن كثير و أبو عمرو حملا على قالوا وما قدروا وتضمن ذلك توبيخهم على سوء جهلهم بالتوراة وذمهم على تجزئتها بإبداء بعض انتخبوه وكتبوه في ورقات متفرقة وإخفاء بعض لا يشتهونه وروي [ أن مالك بن الصيف قاله لما أغضبه الرسول صلى الله عليه و سلم بقوله : أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين قال : نعم إن الله يبغض الحبر السمين قال عليه الصلاة و السلام : فأنت الحبر السمين ] وقيل هم المشركين وإلزامهم بإنزال التوراة لأنه كان من المشهورات الذائعة عندهم ولذلك كانوا يقولون : { لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم } و { علمتم } على لسان محمد صلى الله عليه و سلم { ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم } زيادة على ما في التوراة وبيانا لما التبس عليكم وعلى آبائكم الذين كانوا أعلم منكم ونظيره { إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون } وقيل الخطاب لمن آمن من قريش { قل الله } أي أنزله الله أو الله أنزله أمره بأن يجيب عنهم إشعارا بأن الجواب متعين لا يمكن غيره وتنبيها على أنهم بهتوا بحيث إنهم لا يقدرون على الجواب { ثم ذرهم في خوضهم } في أباطيلهم فلا عليك بعد التبليغ وإلزام الحجة { يلعبون } حال من هم الأول والظرف صلة ذرهم أو يلعبون أو حال منهم الأول والظرف صلة ذرهم أو يلعبون أو حال من مفعوله أو فاعل يلعبون أو من هم الثاني والظرف متصل بالأول

92 - { وهذا كتاب أنزلناه مبارك } كثير الفائدة والنفع { مصدق الذي بين يديه } يعني التوراة أو الكتب التي قبله { ولتنذر أم القرى } عطف على ما دل عليه مبارك أي للبركات ولتنذر أو علة لمحذوف أي ولتنذر أهل أم القرى أنزلناه وإنما سميت مكة بذلك لأنها قبلة أهل القرى ومحجهم ومجتمعهم وأعظم القرى شأنا وقيل لأن الأرض دحيت من تحتها أو لأنها مكان أول بيت وضع للناس وقرأ أبو بكر عن عاصم بالياء ولينذر الكتاب { ومن حولها } أهل الشرق والغرب { والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون } فإن من صدق بالآخرة خاف العاقبة ولا يزال الخوف يحمله على النظر والتدبر حتى يؤمن بالنبي والكتاب والضمير يحتملهما ويحافظ على الطاعة وتخصيص الصلاة لأنها عماد الدين وعلم الإيمان

93 - { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا } فزعم أنه بعثه نبيا كمسيلمة والأسود العنسي أو اختلق عليه أحكاما كعمرو بن لحي ومتابعيه { أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء } كعبد الله بن أبي سرح [ كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه و سلم فلما نزلت { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } فلما بلغ قوله : { ثم أنشأناه خلقا آخر } قال عبد الله فتبارك الله أحسن الخالقين تعجبا من تفصيل خلق الإنسان فقال عليه الصلاة و السلام : اكتبها فكذلك نزلت فشك عبد الله وقال لئن كان محمد صادقا لقد أوحي إلي كما أوحي إليه ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال ] { ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله } كالذين قالوا لو نشاء لقلنا مثل هذا { ولو ترى إذ الظالمون } حذف مفعوله لدلالة الظرف عليه أي ولو ترى الظالمين { في غمرات الموت } شدائده من غمره الماء إذا غشيه { والملائكة باسطوا أيديهم } بقبض أرواحهم كالمتقاضي الملظ أو بالعذاب { أخرجوا أنفسكم } أي يقولون لهم أخرجوها إلينا من أجسادكم تغليظا وتعنيفا عليهم أو أخرجوها من العذاب وخلصوها من أيدينا { اليوم } يريدون وقت الإماتة أو الوقت الممتد من الإماتة إلى ما لا نهاية له { تجزون عذاب الهون } أي الهوان يريدون العذاب المتضمن لشدة وإهانة فإضافته إلى الهون لعراقته وتمكنه فيه { بما كنتم تقولون على الله غير الحق } كادعاء الولد والشريك له ودعوى النبوة والوحي كاذبا { وكنتم عن آياته تستكبرون } فلا تتأملون فيها ولا تؤمنون

94 - { ولقد جئتمونا } للحساب والجزاء { فرادى } منفردين عن الأموال والأولاد وسائر ما آثرتموه من الدنيا أو عن الأعوان والأوثان التي زعمتم أنها شفعاؤكم وهو جمع فرد والألف للتأنيث ككسالى وقرئ فراد كرجال وفراد كثلاث وفردى كسكرى { كما خلقناكم أول مرة } بدل منه أي على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد أو حال ثانية إن جوز التعدد فيها أو حال من الضمير في { فرادى } أي مشبهين ابتداء خلقكم عراة حفاة غرلا بهما أو صفة مصدر { جئتمونا } أي مجيئنا كما خلقناكم { وتركتم ما خولناكم } ما تفضلنا به عليكم في الدنيا فشغلتم به عن الآخرة { وراء ظهوركم } ما قدمتم منه شيئا ولم تحتملوا نقيرا : { وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء } أي شركاء لله في ربوبيتكم واستحقاق عبادتكم { لقد تقطع بينكم } أي تقطع وصلكم وتشتت جمعكم والبين من الأضداد يستعمل للوصل والفصل وقيل هو الظرف أسند إليه الفعل اتساعا والمعنى : وقع التقطع بينكم ويشهد له قراءة نافع و الكسائي و حفص عن عاصم بالنصب على إضمار الفاعل لدلالة ما قبله عليه أو أقيم مقام موصوفة وأصله لقد تقطع ما بينكم وقد قرئ به : { وضل عنكم } ضاع وبطل : { ما كنتم تزعمون } أنها شفعاؤكم أو أن لا بعث ولا جزاء

95 - { إن الله فالق الحب والنوى } بالنبات والشجر وقيل المراد به الشقاق الذي في الحنطة والنواة { يخرج الحي } يريد به ما ينمو من الحيوان والنبات ليطابق ما قبله { من الميت } مما لا ينمو كالنطف والحب { ومخرج الميت من الحي } ومخرج ذلك من الحيوان والنبات ذكره بلفظ الاسم حملا على فالق الحب فإن قوله : يخرج الحي واقع موقع البيان له { ذلكم الله } أي ذلكم المحيي المميت هو الذي يحق له العبادة { فأنى تؤفكون } تصرفون عنه إلى غيره

96 - { فالق الإصباح } شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل أو عن بياض النهار أو شاق ظلمة الإصباح وهو الغبش الذي يليه والإصباح في الأصل مصدر أصبح إذا دخل في الصباح سمي به الصبح وقرئ بفتح الهمزة على الجمع وقرئ { فالق الإصباح } بالنصب على المدح { وجعل الليل سكنا } يسكن إليه التعب بالنهار لاستراحته فيه من سكن إليه إذا اطمأن إليه استئناسا به أو يسكن فيه الخلق من قوله تعالى { لتسكنوا فيه } ونصبه بفعل دل عليه جاعل لا به فإن في معنى الماضي ويدل عليه قراءة الكوفيين { وجعل الليل } حملا على معنى المعطوف عليه فإن فالق بمعنى فلق ولذلك قرئ به أو به على أن المراد منه جعل مستمر في الأزمنة المختلفة وعلى هذا يجوز أن يكون { والشمس والقمر } عطفا على محل الليل ويشهد له قراءتهما بالجر والأحسن نصبهما يجعل مقدرا وقرئ بالرفع على الابتداء والخبر محذوف أي مجعولان { حسبانا } أي على أدوار مختلفة يحسب بهما الأوقات ويكونان علمي الحسبان وهو مصدر حسب بالفتح كما أن الحسبان بالكسر مصدر حسب وقيل جمع حساب كشهاب وشهبان { ذلك } إشارة إلى جعلهما حسبانا أي ذلك التيسير بالحساب المعلوم { تقدير العزيز } الذي قهرهما وسيرهما على الوجه المخصوص { العليم } بتدبيرهما والأنفع من التداوير الممكنة لهما

97 - { وهو الذي جعل لكم النجوم } خلقها لكم { لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر } في ظلمات الليل في البر والبحر وإضافتها إليهما للملابسة أو في مشتبهات الطرق وسماها ظلمات على الاستعارة وهو إفراد لبعض منافعها بالذكر بعد ما أجملها بقوله لكم { قد فصلنا الآيات } بيناها فصلا فصلا { لقوم يعلمون } فإنهم المنتفعون به

98 - { وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة } هو آدم عليه الصلاة و السلام { فمستقر ومستودع } أي فلكم استقرار في الأصلاب أو فوق الأرض واستيداع في الأرحام أو تحت الأرض أو موضع استقرار واستيداع وقرأ ابن كثير والبصريان بكسر القاف على أنه اسم فاعل والمستودع اسم مفعول أي فمنكم قار ومنكم مستودع لأن الاستقرار منا دون الاستيداع { قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون } ذكر مع ذكر النجوم يعلمون لأن أمرها ظاهر ومع ذكر تخليق بني آدم يفقهون لأن إنشاءهم من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة دقيق غامض يحتاج إلى استعمال فطنة وتدقيق نظر

99 - { وهو الذي أنزل من السماء ماء } من السحاب أو من جانب السماء { فأخرجنا } على تلوين الخطاب { به } بالماء { نبات كل شيء } نبت كل صنف من النبات والمعنى : إظهار القدرة في إنبات الأنواع المختلفة المفننة المسقية بماء واحد كما في قوله سبحانه وتعالى : { يسقى بماء واحد } ونفضل بعضها على بعض في الأكل { فأخرجنا منه } من النبات أو الماء { خضرا } شيئا أخضر وخضر كأعور وعور وهو الخارج من الحبة المتشعب { نخرج منه } من الخضر { حبا متراكبا } وهو السنبل { ومن النخل من طلعها قنوان } أي أخرجنا من النخل نخلا من طلعها قنوان أو من النخل شيء من طلعها قنوان ويجوز أن يكون من النخل خبر قنوان ومن طلعها بدل منه والمعنى : وحاصلة من طلع النخل قنوان وهو الأعذاق جمع قنو كصنوان جمع صنو وقرئ بضم القاف كذئب وذؤبان وبفتحها على أنه اسم جمع إذ ليس فعلان من أبنية الجمع { دانية } قريبة من المتناول أو متلفة قريب بعضها من بعض وإنما اقتصر على ذكرها عن مقابلها لدلالتها عليه وزيادة النعمة فيها { وجنات من أعناب } عطف على نبات كل شيء وقرأ نافع بالرفع على الابتداء أي ولكم أو ثم جنات أو من الكرم جنات ولا يجوز عطفه على { قنوان } إذ العنب لا يخرج من النخل { والزيتون والرمان } أيضا عطف على نبات أو نصب على الاختصاص لعزة هذين الصنفين عندهم { مشتبها وغير متشابه } حال من الرمان أو من الجميع أي بعض ذلك متشابه وبعضه غير متشابه في الهيئة والقدر واللون والطعم { انظروا إلى ثمره } أي ثمر كل واحد من ذلك وقرأ حمزة و الكسائي بضم التاء والميم وهو جمع ثمرة كخشبة وخشب أو ثمار ككتاب وكتب { إذا أثمر } إذا أخرج ثمره كيف يثمر ضئيلا لا يكاد ينتفع به { وينعه } وإلى حال نضجه أو إلى نضيجة كيف يعود ضخما ذا نفع ولذة وهو في الأصل مصدر ينعت الثمر إذا أدركت وقيل جمع يانع كتاجر وتجر وقرئ بالضم وهو لغة فيه ويانعة { إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون } أي لآيات دالة على وجود القادر الحكيم وتوحيده فإن حدوث الأجناس المختلفة والأنواع المتفننة من أصل واحد ونقلها من حال إلى حال لا يكون إلا بإحداث قادر يعلم تفاصيلها ويرجح ما تقتضيه حكمته مما يمكن من أحوالها ولا يعوقه عن فعله ند يعارضه أو ضد يعانده ولذلك عقبه بتوبيخ من أشرك به والرد عليه فقال

100 - { وجعلوا لله شركاء الجن } أي الملائكة بأن عبدوهم وقالوا : الملائكة بنات الله وسماهم جنا لاجتنابهم تحقيرا لشأنهم أو الشياطين لأنهم أطاعوهم كما يطاع الله تعالى أو عبدوا الأوثان بتسويلهم وتحريضهم أو قالوا الله خالق الخير وكل نافع والشيطان خالق الشر وكل ضار كمما هو رأي الثنوية ومفعول { جعلوا } { لله شركاء } والجن بدل من { شركاء } أو { شركاء } الجن و { لله } متعلق بقوله : { شركاء } أو حال منه وقرئ { الجن } بالرفع كأنه قيل : من هم فقيل الجن و { الجن } بالجر على الإضافة للتبيين { وخلقهم } حال بتقدير قد والمعنى وقد علموا أن الله خالقهم دون الجن وليس من يخلق كمن لا يخلق وقرئ { وخلقهم } عطفا على { الجن } أي وما يخلقونه من الأصنام أو على شركاء أي وجعلوا له اختلافهم للإفك حيث نسبوه إليه { وخرقوا له } افتعلوا وافتروا له وقرأ نافع بتشديد الراء للتكثير وقرئ وحرفوا أي وزوروا { بنين وبنات } فقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله وقالت العرب الملائكة بنات الله { بغير علم } من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه ويروا عليه دليلا وهو في موضع الحال من الواو أو المصدر أي خرقا بغير علم { سبحانه وتعالى عما يصفون } وهو أن له شريكا أو ولدا

101 - { بديع السموات والأرض } من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها أو إلى الظرف كقولهم : ثبت الغدر بمعنى أنه عديم النظير فيهما وقيل معناه المبدع وقد سبق الكلام فيه ورفعه على الخبر والمبتدأ محذوف أو على الابتداء وخبره { أنى يكون له ولد } أي من أين أو كيف يكون له ولد { ولم تكن له صاحبة } يكون منها الولد وقرئ بالياء للفصل أو لأن الاسم ضمير الله أو ضمير الشأن { وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم } لا تخفى عليه خافية وإنما لم يقل به لتطرق التخصيص إلى الأول وفي الآية استدلال على نفي الولد من وجوه : ( الأول ) أنه من مبدعاته السموات والأرضون وهي مع أنها من جنس ما يوصف بالولادة مبرأة عنها لاستمرارها وطول مدتها فهو أولى بأن يتعالى عنها أو أن ولد الشيء نظيره ولا نظير له فلا ولد و ( الثاني ) أن المعقول من الولد ما يتولد من ذكر وأنثى متجانسين والله سبحانه وتعالى منزه عن المجانسة و ( الثالث ) أن الولد كفؤ الوالد ولا كفؤ له لوجهين : الأول أن كل ما عداه مخلوقه فلا يكافئه والثاني أنه سبحانه وتعالى لذاته عالم بكل المعلومات ولا كذلك غيره بالإجماع

102 - { ذلكم } إشارة إلى الموصوف بما سبق من الصفات وهو مبتدأ { الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء } أخبار مترادفة ويجوز أن يكون البعض بدلا أو صفة والبعض خبرا { فاعبدوه } حكم مسبب عن مضمونها فإن من استجمع هذه الصفات استحق العبادة { وهو على كل شيء وكيل } أي وهو مع تلك الصفات متولي أموركم فكلوها إليه وتوسلوا بعبادته إلى إنجاح مآربكم ورقيب على أعمالكم فيجازيكم عليها

103 - { لا تدركه } أي لا تحيط به { الأبصار } جمع بصر وهي حاسة النظر وقد يقال للعين من حيث إنها محلها واستدل به المعتزلة على امتناع الرؤية وهو ضعيف إذ ليس الإدراك مطلق الرؤية ولا النفي في الآية عاما في الأوقات فلعله مخصوص ببعض الحالات ولا في الأشخاص فإنه في قوة قولنا لا كل بصر يدركه مع أن النفي لا يوجب الامتناع { وهو يدرك الأبصار } يحيط علمه بها { وهو اللطيف الخبير } فيدرك ما لا تدركه الأبصار كالأبصار ويجوز أن يكون من باب اللف أي لا تدركه لأنه اللطيف وهو يدرك الأبصار لأنه الخبير فيكون اللطيف مستعارا من مقابل الكثيف لما لا يدرك بالحاسة ولا ينطبع فيها

104 - { قد جاءكم بصائر من ربكم } البصائر جمع بصيرة وهي للنفس كالبصر للبدن سميت بها لدلالة لأنها تجلي لها الحق وتبصرها به { فمن أبصر } أي أبصر الحق وآمن به { فلنفسه } أبصر لأن نفعه لها { ومن عمي } عن الحق وضل { فعليها } وباله { وما أنا عليكم بحفيظ } وإنما أنا منذر والله سبحانه وتعالى هو الحفيظ عليكم يحفظ أعمالكم ويجازيكم عليها وهذا كلام ورد على لسان رسول الله عليه الصلاة و السلام

105 - { وكذلك نصرف الآيات } ومثل ذلك التصريف نصرف وهو إجراء المعنى الدائر في المعاني المتعاقبة من الصرف وهو نقل الشيء من حال إلى حال { وليقولوا درست } أي ليقولوا درست صرفنا واللام لام العاقبة والدرس القراءة والتعليم وقرأ ابن كثير و أبو عمرو دارست أي دارست أهل الكتاب وذاكرتهم و ابن عامر و يعقوب درست من الدروس أي قدمت هذه الآيات وعفت كقولهم أساطير الأولين وقرئ { درست } بضم الراء مبالغة في درست ودرست على البناء للمفعول بمعنى قرئت أو عفيت ودارست بمعنى درست أو دارست اليهود محمدا صلى الله عليه و سلم وجاز إضمارهم بلا ذكر لشهرتهم بالدراسة ودرسن أي عنون ودرس أي درس محمد صلى الله عليه و سلم ودارسات أي قديمات أو ذوات درس كقوله تعالى : { في عيشة راضية } { ولنبينه } اللام على أصله لأن التبيين مقصود التصريف والضمير للآيات باعتبار المعنى أو للقرآن وإن لم يذكر بكونه معلوما أو للمصدر { لقوم يعلمون } فإنهم المنتفعون به

106 - { اتبع ما أوحي إليك من ربك } بالتدين به { لا إله إلا هو } اعتراض أكد به إيجاب الاتباع أو حال مؤكدة من ربك بمعنى منفردا في الألوهية { وأعرض عن المشركين } ولا تحتفل بأقوالهم ولا تلتفت إلى آرائهم ومن جعله منسوخا بآية السيف حمل الإعراض على ما يعم الكف عنهم

107 - { ولو شاء الله } توحيدهم وعدم إشراكهم { ما أشركوا } وهو دليل على أنه سبحانه وتعالى لا يريد إيمان الكافرين وأن مراده واجب الوقوع { وما جعلناك عليهم حفيظا } رقيبا { وما أنت عليهم بوكيل } تقوم بأمورهم

108 - { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله } أي ولا تذكروا آلهتهم التي يعبدونها بما فيها من القبائح { فيسبوا الله عدوا } تجاوزا عن الحق إلى الباطل { بغير علم } على جهالة بالله سبحانه وتعالى وبما يجب أن يذكر به وقرأ يعقوب { عدوا } يقال عدا فلان عدوا وعدوا وعداء وعدوانا روي : [ أنه عليه الصلاة و السلام كان يطعن في آلهتهم فقالوا لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون إلهك ] فنزلت
وقيل كان المسلمون يسبونها فنهوا لئلا يكون سبهم سببا لسب الله سبحانه وتعالى وفيه دليل على أن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة وجب تركها فإن ما يؤدي إلى الشر شر { كذلك زينا لكل أمة عملهم } من الخير والشر بإحداث ما يمكنهم منه ويحملهم عليه توفيقا وتخذيلا ويجوز تخصيص العمل بالشر وكل أمة بالكفرة لأن الكلام فيهم والمشبه به تزيين سب الله لهم { ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون } بالمحاسبة والمجازات عليه

109 - { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } مصدر في موقع الحال والداعي لهم إلى هذا القسم والتأكيد فيه التحكم على الرسول صلى الله عليه و سلم صلى الله عليه و سلم في طلب الآيات واستحقار ما رأوا منها { لئن جاءتهم آية } من مقترحاتهم { ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله } هو قادر عليها يظهر منها ما يشاء وليس شيء منها بقدرتي وإرادتي { وما يشعركم } وما يدريكم استفهام إنكار { أنها } أي أن الآية المقترحة { إذا جاءت لا يؤمنون } أي لا تدرون أنهم لا يؤمنون أنكر السبب مبالغة في نفي المسبب وفيه تنبيه على أنه سبحانه وتعالى إنما لم ينزلها لعلمه بأنها إذا جاءت لا يؤمنون بها وقيل لا مزيدة وقيل أن بمعنى لعل إذ قرئ لعلها قرأ ابن كثير و أبو عمرو و أبو بكر عن عاصم و يعقوب إنها بالكسر كأنه قال : وما يشعركم ما يكون منهم ثم أخبركم بما علم منهم والخطاب للمؤمنين فإنهم يتمنون مجيء الآية طمعا فقال إيمانهم فنزلت وقيل للمشركين إذ قرأ ابن عامر و حمزة لا تؤمنونبالتاء وقرئ وما يشعرهم أنها إذا جاءتهم فيكون إنكارا لهم على حلفهم أي : وما يشعركم أن قلوبهم حينئذ لم تكن مطبوعة كما كانت عند نزول القرآن وغيره من الآيات فيؤمنون بها

110 - { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم } عطف على لا يؤمنون أي : وما يشعركم أنا حينئذ يقلب أفئدتهم عن الحق فلا يفقهونه وأبصارهم فلا يبصرونه فلا يؤمنون بها { كما لم يؤمنوا به } أي بما أنزل من الآيات { أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون } وندعهم متحيرين لا نهديهم هداية المؤمنين وقرئ ويقلب ويذرهم على الغيبة و تقلب على البناء للمفعول والإسناد إلى الأفئدة

111 - { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا } كما اقترحوا فقالوا : لولا أنزل علينا الملائكة فأتوا بآياتنا { أو تأتي بالله والملائكة قبيلا } وقبلا جمع قبيل بمعنى كفيل أي : كفلاء بما بشروا به وأنذروا به أو جمع قبيل الذي هو جمع قبيلة بمعنى جماعات أو مصدر بمعنى مقابلة كقبلا وهو قراءة نافع و ابن عامر وهو على الوجوه حال من كل وإنما جاز ذلك لعمومه { ما كانوا ليؤمنوا } لما سبق عليهم القضاء بالكفر { إلا أن يشاء الله } استثناء من أعم الأحوال أي : لا يؤمنون في حال من الأحوال إلا حال مشيئة الله تعالى إيمانهم وقيل منقطع وهو حجة واضحة على المعتزلة { ولكن أكثرهم يجهلون } أنهم لو أوتوا كل آية لم يؤمنوا فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون ولذلك أسند الجهل إلى أكثرهم مع أن مطلق الجهل يعمهم أو ولكن أكثر المسلمين يجهلون أنهم لا يؤمنون فيتمنون نزول الآية طمعا في إيمانهم

112 - { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا } أي كما جعلنا لكل نبي سبقك عدوا وهو دليل على أن عداوة الكفرة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام بفعل الله سبحانه وتعالى وخلقه { شياطين الإنس والجن } مردة الفريقين وهو بدل من عدوا أو أول مفعولي { جعلنا } و { عدوا } مفعوله الثاني ولكل متعلق به أو حال منه { يوحي بعضهم إلى بعض } يوسوس شياطين الإنس أو بعض الجن إلى بعض وبعض الإنس إلى بعض { زخرف القول } الأباطيل المموهة منه من زخرفة إذا زينه { غرورا } مفعول له أو مصدر في موقع الحال { ولو شاء ربك } إيمانهم { ما فعلوه } أي ما فعلوا ذلك يعني معاداة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وإيحاء الزخارف ويجوز أن يكون الضمير للإيحاء أو الزخرف أو الغرور وهو أيضا دليل على المعتزلة { فذرهم وما يفترون } وكفرهم

113 - { ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة } عطف على { غرورا } إن جعل علة أو متعلق بمحذوف أي وليكون ذلك { جعلنا لكل نبي عدوا } والمعتزلة لما اضطروا فيه قالوا : اللام لام العاقبة أو لام القسم كسرت لما لم يؤكد الفعل بالنون أو لام الأمر وضعفه أظهر والصغو : الميل والضمير لما له الضمير في فعلوه { وليرضوه } لأنفسهم { وليقترفوا } وليكتسبوا { ما هم مقترفون } من الآثام

114 - { أفغير الله أبتغي حكما } على إرادة القول أي : قل لهم يا محمد أفغير الله أطلب من يحكم بيني وبينكم ويفصل المحق منا من المبطل وغير مفعول { أبتغي } و { حكما } حال منه ويحتمل عكسه و { حكما } أبلغ من حاكم ولذلك لا يوصف به غير العادل { وهو الذي أنزل إليكم الكتاب } القرآن المعجز { مفصلا } مبينا فيه الحق والباطل بحيث نيفي التخليط والالتباس وفيه تنبيه على أن القرآن بإعجازه وتقريره مغن عن سائر الآيات { والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق } تأييد لدلالة الإعجاز على أن القرآن حق منزل من عند الله سبحانه وتعالى يعلم أهل الكتاب به لتصديقه ما عندهم مع أنه عليه الصلاة و السلام لم يمارس كتبهم ولم يخالط علماءهم وإنما وصف جميعهم بالعلم لأن أكثرهم يعلمون ومن لم يعلم فهو متمكن منه بأدنى تأمل وقيل المراد مؤمنون أهل الكتاب وقرأ ابن عامر و حفص عن عاصم { منزل } بالتشديد { فلا تكونن من الممترين } في أنهم يعلمون أو في أنه منزل لجحود أكثرهم وكفرهم به فيكون من باب التهييج كقوله تعالى : { ولا تكونن من المشركين } أو خطاب الرسول صلى الله عليه و سلم لخطاب أمته وقيل الخطاب لكل أحد على معنى أن الأدلة لما تعاضدت على صحته فلا ينبغي لأحد أن يمتري فيه

115 - { وتمت كلمة ربك } بلغت الغاية أخباره وأحكامه ومواعيده { صدقا } في الأخبار والمواعيد { وعدلا } في الأقضية والأحكام ونصبها يحتمل التمييز والحال والمفعول له { لا مبدل لكلماته } لا أحد يبدل شيئا منها بما هو أصدق وأعدل أو لا أحد يقدر أن يحرفها شائعا ذائعا كما فعل بالتوراة على أن المراد بها القرآن فيكون ضمانا لها من الله سبحانه وتعالى بالحفظ كقوله : { وإنا له لحافظون } أو لا نبي ولا كتاب بعدها ينسخها ويبدل أحكامها وقرأ الكوفيون و يعقوب { كلمة ربك } أي ما تكلم به أو القرآن { وهو السميع } لما يقولون { العليم } بما يضمرون فلا يهملهم

116 - { وإن تطع أكثر من في الأرض } أي أكثر الناس يريد الكفار أو الجهال أو أتباع الهوى وقيل الأرض أرض مكة { يضلوك عن سبيل الله } عن الطريق الموصل إليه فإن الضال في غالب الأمر لا يأمر إلا بما فيه ضلال { إن يتبعون إلا الظن } وهو ظنهم أن آباءهم كانوا على الحق أو جهالاتهم وآراؤهم الفاسدة فإن الظن يطلق على ما يقابل العلم : { وإن هم إلا يخرصون } يكذبون على الله سبحانه وتعالى فيما ينسبون إليه كاتخاذ الولد وجعل عبادة الأوثان وصلة إليه وتحليل الميتة وتحريم البحائر أو يقدرون أنهم على شيء وحقيقته ما يقال عن ظن وتخمين

117 - { إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين } أي أعلم بالفريقين و { من } موصولة أو موصوفة في محل النصب بفعل دل عليه أعلم لا به فإن أفعل لا ينصب الظاهر في مثل ذلك أو استفهامية مرفوعة بالابتداء والخبر { يضل } والجملة معلق عنها الفعل المقدر وقرئ { من يضل } أي يضله الله فتكون من منصوبة بالفعل المقدر أو مجرورة بإضافة أعلم إليه أي : أعلم المضلين من قوله تعالى : { من يضلل الله } أو من أضللته إذا وجدته ضالا والتفضيل في العلم بكثرته وإحاطته بالوجوه التي يمكن تعلق العلم بها ولزومه وكونه بالذات لا بالغير

118 - { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه } مسبب عن إنكار اتباع المضلين الذين يحرمون الحلال ويحللون الحرام والمعنى كلوا مما ذكر اسم الله على ذبحه لا مما ذكر عليه اسم غيره أو مات حتف أنفه { إن كنتم بآياته مؤمنين } فإن الإيمان بها يقتضي استباحة ما أحله الله سبحانه وتعالى واجتناب ما حرمه

119 - { وما لكم أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه } وأي غرض لكم في أن تتحرجوا عن أكله وما يمنعكم عنه { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } مما لم يحرم بقوله : { حرمت عليكم الميتة } وقرأ ابن كثير و أبو عمرو و ابن عامر { فصل } على البناء للمفعول و نافع و يعقوب و حفص { حرم } على البناء للفاعل { إلا ما اضطررتم إليه } مما حرم عليكم فإنه أيضا حلال حال الضرورة { وإن كثيرا ليضلون } بتحليل الحرام وتحريم الحلال قرأ الكوفيون بضم الياء والباقون بالفتح { بأهوائهم بغير علم } بتشبيههم من غير تعلق بدليل يفيد العلم { إن ربك هو أعلم بالمعتدين } بالمجاوزين الحق إلى الباطل والحلال إلى الحرام

120 - { وذروا ظاهر الإثم وباطنه } ما يعلن وما يسر أو ما بالجوارح وما بالقلب وقيل الزنا في الحوانيت واتخاذ الأخدان { إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون } يكتسبون

121 - { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } ظاهر في تحريم متروك التسمية عمدا أو نسيانا وإليه ذهب داود وعن أحمد مثله وقال مالك و الشافعي بخلافه لقوله عليه الصلاة و السلام [ ذبيحة المسلم حلال وإن لم يذكر اسم الله عليه ] وفرق أبو حنيفة رحمه الله بين العمد والنسيان وأوله بالميتة أو بما ذكر غير اسم الله عليه لقوله : { وإنه لفسق } فإن الفسق ما أهل لغير الله به والضمير لما ويجوز أن يكون للأكل الذي دل عليه ولا تأكلوا { وإن الشياطين ليوحون } ليوسوسون { إلى أوليائهم } من الكفار { ليجادلوكم } بقولهم تأكلون ما قتلتم أنتم وجوارحكم وتدعون ما قتله الله وهو يؤيد التأويل بالميتة { وإن أطعتموهم } في استحلال ما حرم { إنكم لمشركون } فإن من ترك طاعة الله تعالى إلى طاعة غيره واتبعه في دينه فقد أشرك وإنما حسن حذف الفاء فيه لأن الشرط بلفظ الماضي

122 - { أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس } مثل به من هداه الله سبحانه وتعالى وأنقذه من الضلال وجعل له نور الحجج والآيات يتأمل بها في الأشياء فيميز بين الحق والباطل والمحق والمبطل وقرأ نافع و يعقوب { ميتا } على الأصل { كمن مثله } صفته وهو مبتدأ خبره { في الظلمات } وقوله : { ليس بخارج منها } حال من المستكن في الظرف لا من الهاء في مثله للفصل وهو مثل لمن بقي على الضلالة لا يفارقها بحال { كذلك } كما زين للمؤمنين إيمانهم { زين للكافرين ما كانوا يعملون } والآية نزلت في حمزة وأبي جهل وقيل في عمر أو عمار وأبي جهل

123 - { وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها } أي كما جعلنا في مكة أكابر مجرميها ليمكروا فيها جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيه و { جعلنا } بمعنى صيرنا ومفعولاه { أكابر مجرميها } على تقديم المفعول الثاني أو في كل قرية { أكابر } و { مجرميها } بدل ويجوز أن يكون مضافا إليه إن فسر الجعل بالتمكين وأفعل التفضيل إذا أضيف جاز فيه الإفراد والمطابقة ولذلك قرئ أكبر مجرميها وتخصيص الأكابر لأنهم أقوى على استتباع الناس والمكر بهم { وما يمكرون إلا بأنفسهم } لأن وباله يحيق بهم { وما يشعرون } ذلك

124 - { وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله } يعني كفار قريش لما روي : أن أبا جهل قال زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يوحى إليه والله لا نرضى به إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه فنزلت : { الله أعلم حيث يجعل رسالته } استئناف للرد عليهم بأن النبوة ليست بالنسب والمال وإنما هي بفضائل نفسانية يخص الله سبحانه وتعالى بها من يشاء من عباده فيجتبي لرسالاته من علم أنه يصلح لها وهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه وقرأ ابن كثير و حفص عن عاصم { رسالته } { سيصيب الذين أجرموا صغار } ذل وحقارة بعد كبرهم { عند الله } يوم القيامة وقيل تقديره من عند الله { وعذاب شديد بما كانوا يمكرون } بسبب مكرهم أو جزاء على مكرهم

125 - { فمن يرد الله أن يهديه } يعرفه طريق الحق ويوفقه للإيمان { يشرح صدره للإسلام } فيتسع له وينفسح فيه مجاله وهو كناية عن جعل النفس قابلة للحق مهيأة لحلوله فيها مصفاة عما يمنعه وينافيه وإليه أشار عليه أفضل الصلاة والسلام حين سئل عنه فقال : [ نور يقذفه الله سبحانه وتعالى في قلب المؤمن فينشرح له وينفسح فقالوا هل لذلك من أمارة يعرف بها فقال : نعم الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله ] { ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا } بحيث ينبو عن قبول الحق فلا يدخله الإيمان وقرأ ابن كثير { ضيقا } بالتخفيف و نافع و أبو بكر عن عاصم حرجا بالكسر أي شديد الضيق والباقون بالفتح وصفا بالمصدر { كأنما يصعد في السماء } شبهة مبالغة في ضيق صدره بمن يزاول ما لا يقدر عليه فإن صعود السماء مثل فيما يبعد عن الاستطاعة ونبه به على أن الإيمان يمتنع منه كما يمتنع بالصعود وقيل معناه كأنما يتصاعد إلى السماء نبوا عن الحق وتباعدا في الهرب منه وأصل يصعد يتصعد وقد قرئ به وقرأ ابن كثير { يصعد } و أبو بكر عن عاصم يصاعد بمعنى يتصاعد { كذلك } أي كما يضيق صدره ويبعد قلبه عن الحق { يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون } يجعل العذاب أو الخذلان عليهم فوضع الظاهر موضع المضمر للتعليل

126 - { وهذا } إشارة إلى البيان الذي جاء به القرآن أو إلى الإسلام أو ما سبق من التوفيق والخذلان { صراط ربك } الطريق الذي ارتضاه أو عادته وطريقه الذي اقتضته حكمته { مستقيما } لا عوج فيه أو عادلا مطردا وهو حال مؤكدة كقوله : { وهو الحق مصدقا } أو مقيدة والعامل فيها معنى الإشارة { قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون } فيعلمون أن القادر هو الله سبحانه وتعالى وأن كل ما يحدث من خير أو شر فهو بقضائه وخلقه وأنه عالم بأحوال العباد حكيم عادل فيما يفعل بهم

127 - { لهم دار السلام } دار الله أضاف الجنة إلى نفسه تعظيما لها أو دار السلامة من المكارة أو دار تحيتهم فيها سلام { عند ربهم } في ضمانه أو ذخيرة لهم عنده لا يعلم كنهها غيره { وهو وليهم } مواليهم أو ناصرهم { بما كانوا يعملون } بسبب أعمالهم أو متوليهم بجزائها فيتولى إيصاله
إليهم

128 - { ويوم يحشرهم جميعا } نصب بإضمار اذكر أو نقول والضمير لمن يحشر من الثقلين وقرأ حفص عن عاصم و روح عن يعقوب { يحشرهم } بالياء { يا معشر الجن } يعني الشياطين { قد استكثرتم من الإنس } أي من إغوائهم وإضلالهم أو منهم جعلتموهم أتباعكم فحشروا معكم كقوله استكثر الأمير من الجنود { وقال أولياؤهم من الإنس } الذين أطاعوهم { ربنا استمتع بعضنا ببعض } أي انتفع الإنس بالجن بأن دلوهم على الشهوات وما يتوصل به إليها والجن بالإنس بأن أطاعوهم وحصلوا مرادهم وقيل استمتاع الإنس بهم أنهم كانوا يعوذون بهم في المفاوز وعند المخاوف واستمتاعهم بالإنس اعترافهم بأنهم يقدرون على إجازتهم { وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا } أي البعث وهو اعتراف بما فعلوه من طاعة الشيطان واتباع الهوى وتكذيب البعث وتحسر على حالهم { قال النار مثواكم } منزلكم أو ذات مثواكم { خالدين فيها } حال والعامل فيها مثواكم إن جعل مصدرا ومعنى الإضافة إن جعل مكانا { إلا ما شاء الله } إلا الأوقات التي ينقلون فيها من النار إلى الزمهرير وقيل { إلا ما شاء الله } قيل الدخول كأنه قيل : النار مثواكم أبدا إلا ما أمهلكم { إن ربك حكيم } في أفعاله { عليم } بأعمال الثقلين وأحوالهم

129 - { وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا } نكل بعضهم إلى بعض أو نجعل بعضهم يتولى بعضا فيغويهم أولياء بعض وقرناءهم في العذاب كما كانوا في الدنيا { بما كانوا يكسبون } من الكفر والمعاصي

130 - { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم } الرسل من الإنس خاصة لكن لما جمعوا مع الجن في الخطاب صح ذلك ونظيره { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } والمرجان يخرج من الملح دون العذب وتعلق بظاهره قوم وقالوا بعث إلى كل من الثقلين رسل من جنسهم وقيل الرسل من الجن رسل الرسل إليهم لقوله تعالى { ولوا إلى قومهم منذرين } { يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا } يعني يوم القيامة { قالوا } جوابا { شهدنا على أنفسنا } بالجرم والعصيان وهو اعتراف منهم بالكفر واستيجاب العذاب { وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } ذم لهم على سوء نظرهم وخطأ رأيهم فإنهم اغتروا بالحياة الدنيوية واللذات المخدجة وأعرضوا عن الآخرة بالكلية حتى كان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام للعذاب المخلد تحذير للسامعين مثل حالهم

131 - { ذلك } إشارة إلى إرسال الرسل وهو خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك { أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون } تعليل للحكم وأن مصدرية أو مخففة من الثقيلة أي : الأمر لانتفاء كون ربك أو لأن الشأن لم يكن ربك مهلك أهل القرى بسبب ظلم فعلوه أو ملتبسين يظلم أو ظالما وهو غافلون لم ينبهوا برسول أو بدل من ذلك

132 - { ولكل } من المكلفين { درجات } مراتب { مما عملوا } من أعمالهم أو من جزائها أو من أجلها { وما ربك بغافل عما يعملون } فيخفى عليه عمل أو قدر ما يستحق به من ثواب أو عقاب وقرأ ابن عامر بالتاء على تغليب الخطاب على الغيبة

133 - { وربك الغني } عن العباد والعبادة { ذو الرحمة } يترحم عليهم بالتكليف تكميلا لهم ويمهلهم على المعاصي وفيه تنبيه على أن ما سبق ذكره من الإرسال ليس لنفعه بل لترحمه على العباد وتأسيس لما بعده وهو قوله : { إن يشأ يذهبكم } أي ما به إليكم حاجة { إن يشأ يذهبكم } أيها العصاة { ويستخلف من بعدكم ما يشاء } من الخلق { كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين } أي قرنا بعد قرن لكنه أنبأكم ترحما عليكم

134 - { إنما توعدون } من البعث وأحواله { لآت } لكائن لا محالة { وما أنتم بمعجزين } طالبكم به

135 - { قل يا قوم اعملوا على مكانتكم } على غاية تمكنكم واستطاعتكم يقال مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكن أو على ناحيتكم وجهتكم التي أنتم عليها من قولهم مكان ومكانة كمقام ومقامة وقرأ أبو بكر عن عاصم مكاناتكم بالجمع في كل القرآن وهو أمر تهديد والمعنى : اثبتوا على كفركم وعداوتكم { إني عامل } ما كنت عليه من المصابرة والثبات على الإسلام والتهديد بصيغة الأمر مبالغة في الوعيد كأن المهدد يريد تعذيبه مجمعا عليه فيحمله بالأمر على ما يفضي به إليه وتسجيل بأن المهدد لا يتأتى منه إلا الشر كالمأمور به الذي لا يقدر أن ينقضي عنه { فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار } إن جعل { من } استفهامية بمعنى أينا تكون له عاقبة الدار الحسنى التي خلق الله لها هذه الدار فمحلها الرفع وفعل العلم معلق عنه وإن جعلت خبرية فالنصب بقوله : { تعلمون } أي فسوف تعرفون الذي تكون له عاقبة الدار وفيه مع الإنذار إنصاف في المقال وحسن الأدب وتنبيه على وثوق المنذر بأنه محق وقرأ حمزة و الكسائي يكون بالياء لأن تأنيث العاقبة غير حقيقي { إنه لا يفلح الظالمون } وضع الظالمين موضع الكافرين لأنه أعم وأكثر فائدة

136 - { وجعلوا } أي مشركوا العرب { لله مما ذرأ } خلق { من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم } روي : أنهم كانوا يعينون شيئا ؟ من حرث ونتائج لله ويصرفونه إلى الضيفان والمساكين وشيئا منهما لآلهتهم وينفقونه على سدنتها ويذبحونه عندها ثم إن رأوا ما عينوا لله أزكى بدلوه بما لآلهتهم وإن رأوا ما لآلهتهم أزكى تركوه لها حبا لآلهتهم وفي قوله { مما ذرأ } تنبيه على فرط جهالتهم فإنهم أشركوا الخالق في خلقه جمادا لا يقدر على شيء ثم رجحوه عليه بأن جعلوا الزاكي له وفي قوله { بزعمهم } تنبيه على أن ذلك مما اخترعوه لم يأمرهم الله به وقرأ الكسائي بالضم في الموضعين وهو لغة فيه وقد جاء فيه الكسر أيضا كالود والود { ساء ما يحكمون } حكمهم هذا

137 - { وكذلك } ومثل ذلك للتزيين في قسمة القربان { زين لكثير من المشركين قتل أولادهم } بالوأد ونحرهم لآلهتهم { شركاؤهم } من الجن أو من السدنة وهو فاعل { زين } وقرأ ابن عامر { زين } على البناء للمفعول الذي هو القتل ونصب الأولاد وجر الشركاء بإضافة القتل إليه مفصولا بينهما بمفعوله وهو ضعيف في العربية معدود من ضرورات الشعر كقوله :
( فزججتها بمزجة ... زج القلوص أبي مزاده )
وقرئ بالبناء للمفعول وجر أولادهم ورفع شركاؤهم بإضمار فعل دل عليه { زين } { ليردوهم } ليهلكوهم بالإغواء { وليلبسوا عليهم دينهم } وليخلطوا عليهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل أو ما وجب عليهم أن يتدينوا به واللام للتعليل إن كان التزيين من الشياطين والعاقبة إن كان من السدنة { ولو شاء الله ما فعلوه } ما فعل المشركون ما زين لهم أو الشركاء التزيين أو الفريقان جميع ذلك { فذرهم وما يفترون } افتراءهم أو ما يفترونه من الإفك

138 - { وقالوا هذه } إشارة إلى ما جعل لآلهتهم { أنعام وحرث حجر } حرام فعل بمعنى مفعول كالذبح يستوي فيه الواحد والكثير والذكر والأنثى وقرئ { حجر } بالضم وحرج أي مضيق { لا يطعمها إلا من نشاء } يعنون خدم الأوثان والرجال دون النساء { بزعمهم } من غير حجة { وأنعام حرمت ظهورها } يعني البحائر والسوائب والحوامي { وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها } في الذبح وإنما يذكرون أسماء الأصنام عليها وقيل لا يحجون على ظهورها { افتراء عليه } نصب على المصدر لأن ما قالوا تقول على الله سبحانه وتعالى والجار متعلق ب { قالوا } أو بمحذوف هو صفة له أو على الحال أو على المفعول له والجار متعلق به أو بالمحذوف { سيجزيهم بما كانوا يفترون } بسببه أو بدله

139 - { وقالوا ما في بطون هذه الأنعام } يعنون أجنة البحائر والسوائب { خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا } حلال للذكور خاصة دون الإناث إن ولد حيا لقوله : { وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء } فالذكور والإناث فيه سواء وتأنيث الخالصة للمعنى فإن ما في معنى الأجنة ولذلك وافق عاصم في رواية أبي بكر بن عامر في تكن بالتاء وخالفه هو و ابن كثير في { ميتة } فنصب كغيرهم أو التاء فيه للمبالغة كما في رواية الشعر أو هو مصدر كالعافية وقع موقع الخالص وقرئ بالنصب على أنه مصدر مؤكد والخبر { لذكورنا } أو حال من الضمير الذي في الظرف لا من الذي في ذكورنا ولا من الذكور لأنها لا تتقدم على العامل المعنوي ولا على صاحبها المجرور وقرئ خالصين بالرفع والنصب و { خالصة } بالرفع والإضافة إلى الضمير على أنه بدل من ها أو مبتدأ ثان والمراد ما كان حيا والتذكير في فيه لأن المراد بالميتة ما يعم الذكر والأنثى فغلب الذكر { سيجزيهم وصفهم } أي جزاء وصفهم الكذب على الله سبحانه وتعالى في التحريم والتحليل من قوله : { وتصف ألسنتهم الكذب } { إنه حكيم عليم }

140 - { قد خسر الذين قتلوا أولادهم } يريد بهم العرب الذين كانوا يقتلون بناتهم مخافة السبي والفقر وقرأ ابن كثير و ابن عامر { قتلوا } بالتشديد بمعنى التكثير { سفها بغير علم } لخفة عقلهم وجهلهم بأن الله سبحانه وتعالى رازق أولادهم لا هم ويجوز نصبه على الحال أو المصدر { وحرموا ما رزقهم الله } من البحائر ونحوها { افتراء على الله } يحتمل الوجوه المذكورة في مثله { قد ضلوا وما كانوا مهتدين } إلى الحق والصواب

141 - { وهو الذي أنشأ جنات } من الكروم { معروشات } مرفوعات على ما يحملها { وغير معروشات } ملقيات على وجه الأرض وقيل المعروشات ما غرسه الناس فعرشوه وغير معروشات ما نبت في البراري والجبال { والنخل والزرع مختلفا أكله } ثمره الذي يؤكل في الهيئة والكيفية والضمير للزرع والباقي مقيس عليه أو النخل والزرع داخل في حكمه لكونه معطوفا عليه أو للجميع على تقدير أكل ذلك أو كل واحد منهما ومختلفا حالا مقدرة لأنه لم يكن ذلك عند الإنشاء { والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه } يتشابه بعض أفرادهما في اللون والطعم ولا يتشابه بعضها { كلوا من ثمره } من ثمر كل واحد من ذلك { إذا أثمر } وإن لم يدرك ولم يينع بعد وقيل فائدته رخصة المالك في الأكل منه قبل أداء حق الله تعالى { وآتوا حقه يوم حصاده } يريد به ما كان يتصدق به يوم الحصاد لا الزكاة المقدرة لأنها فرضت بالمدينة والآية مكية وقيل الزكاة والآية مدنية والأمر بإيتائها يوم الحصاد ليهتم به حينئذ حتى لا يؤخر عن وقت الأداء وليعلم أن الوجوب بالإدراك لا بالتقنية وقرأ ابن كثير و نافع و حمزة و الكسائي { حصاده } بكسر الحاء وهو لغة فيه { ولا تسرفوا } في التصدق كقوله تعالى { ولا تبسطها كل البسط } { إنه لا يحب المسرفين } لا يرتضي فعلهم

142 - { ومن الأنعام حمولة وفرشا } عطف على جنات أي وأنشأ من الأنعام ما يحمل الأثقال وما يفرش للذبح أو ما يفرش المنسوج من شعره وصوفه ووبره وقيل الكبار الصالحة للحمل والصغار الدانية من الأرض مثل الفرش المفروش عليها { كلوا مما رزقكم الله } كلوا مما أحل لكم منه { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } في التحليل والتحريم من عند أنفسكم { إنه لكم عدو مبين } ظاهرة العداوة

143 - { ثمانية أزواج } بدل من حمولة وفرشا أو مفعول كلوا ولا تتبعوا معترض بينهما أو فعل دل عليه أو حال من ما بمعنى مختلفة أو متعددة والزوج ما معه آخر من جنسه يزاوجه وقد يقال لمجموعهما والمراد الأول { من الضأن اثنين } زوجين اثنين الكبش والنعجة وهو بدل من ثمانية وقرئ اثنان على الابتداء و { الضأن } اسم جنس كالإبل وجمعه ضئين أو جمع ضائن كتاجر وتجر وقرئ بفتح الهمزة وهو لغة فيه { ومن المعز اثنين } التيس والعنز وقرأ ابن كثير
و أبو عمرو و ابن عامر و يعقوب بالفتح وهو جمع ماعز كصاحب وصحب وحارس وحرس وقرئ المعزى { قل آلذكرين } ذكر الضأن وذكر المعز { حرم أم الأنثيين } أم أنثييهما ونصب الذكرين والاثنين بحرم { أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين } أو ما حملت إناث الجنسين ذكرا كان أو أنثى { نبئوني بعلم } بأمر معلوم يدل على أن الله تعالى حرم شيئا من ذلك { إن كنتم صادقين } دعوى التحريم عليه

144 - { ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين } كما سبق والمعنى إنكار أن الله حرم شيئا من الأجناس الأربعة ذكرا كان أو أنثى أو ما تحمل إناثها ردا عليهم فإنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة وإناثها تارة أخرى وأولادهما كيف كانت تارة زاعمين أن الله حرمها { أم كنتم شهداء } بل أكنتم شاهدين حاضرين { إذ وصاكم الله بهذا } حين وصاكم بهذا التحريم إذ أنتم لا تؤمنون بنبي فلا طريق لكم إلى معرفة أمثال ذلك إلا المشاهدة والسماع { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا } فنسب إليه تحريم ما لم يحرم والمراد كبراؤهم المقررون لذلك أو عمرو بن لحي بن قمعة المؤسس لذلك { ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين }

145 - { قل لا أجد في ما أوحي إلي } أي في القرآن أو فيما أوحي إلي مطلقا وفيه تنبيه على أن التحريم إنما يعلم بالوحي لا بالهوى { محرما } طعاما محرما { على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة } أن يكون الطعام ميتة وقرأ ابن كثير وحمزة تكون بالتاء لتأنيث الخبر وقرأ ابن عامر بالياء ورفع ال { ميتة } على أن كان هي التامة وقوله : { أو دما مسفوحا } عطف على أن مع ما في حيزة أي : إلا وجود ميتة أو دما مسفوحا أي مصبوبا كالدم في العروق لا كالكبد والطحال { أو لحم خنزير فإنه رجس } فإن الخنزير أو لحمه قذر لتعوده أكل النجاسة أو خبيث محنث { أو فسقا } عطف على لحم خنزير وما بينهما اعتراض للتعليل { أهل لغير الله به } صفة له موضحة وإنما سمي ما ذبح على يكون والمستكين فيه راجع إلى ما رجع إليه المستكن في يكون { فمن اضطر } فمن دعته الضرورة إلى تناول شيء من ذلك { غير باغ } على مضطر مثله { ولا عاد } قدر الضرورة { فإن ربك غفور رحيم } لا يؤاخذه والآية محكمة لأنها تدل على أنه لم يجد فيما أوحي إلى تلك الغاية محرما غير هذه وذلك لا ينافي ورود التحريم في شيء آخر فلا يصح الاستدلال بها على نسخ الكتاب بخبر الواحد ولا على حل الأشياء غيرها إلا مع الاستصحاب

146 - { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } كل ماله أصبع الإبل والسباع والطيور وقيل كل ذي مخلب وحافر وسمي الحافر ظفرا مجازا ولعل المسبب عن الظلم تعميم التحريم { ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما } الثروب وشحوم الكلى والإضافة لزيادة الربط { إلا ما حملت ظهورهما } إلا ما علقت بظهورهما { أو الحوايا } أو ما اشتمل على الأمعاء جمع حاوية أو حاوياء كقاصعاء وقواصع أو حوية كسفينة وسفائن وقيل هو عطف على شحومهما وأو بمعنى الواو { أو ما اختلط بعظم } هو شحم الإلية لاتصالها بالعصعص { ذلك } التحريم أو الجزاء { جزيناهم ببغيهم } بسبب ظلمهم { وإنا لصادقون } في الإخبار أو الوعد والوعيد

147 - { فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة } يمهلكم على التكذيب فلا تغتروا بإمهاله فإنه لا يهمل { ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين } حين ينزل أو ذو رحمة واسعة على المطيعين وذو بأس شديد على المجرمين فأقام مقامه ولا يرد بأسه لتضمنه التنبيه على إنزال البأس عليهم مع الدلالة على أنه لازب بهم لا يمكن رده عنهم

148 - { سيقول الذين أشركوا } إخبار عن مستقبل ووقوع مخبره يدل على إعجازه { لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء } أي لو شاء خلاف ذلك مشيئة ارتضاء كقوله { فلو شاء لهداكم أجمعين } لما فعلنا نحن ولا آباؤنا أرادوا بذلك أنهم على الحق المشروع المرضي عند الله لا الاعتذار عن ارتكاب هذه القبائح بإرادة الله إياها منهم حتى ينهض ذمهم به دليلا للمعتزلة ويؤيده قوله { كذلك كذب الذين من قبلهم } أي مثل هذا التكذيب لك في أن الله تعالى منع من الشرك ولم يحرم ما حرموه كذب الذين من قبلهم الرسل وعطف آباؤنا على الضمير في أشركنا من غير تأكيد للفصل بلا { حتى ذاقوا بأسنا } الذي أنزلنا عليهم بتكذيبهم { قل هل عندكم من علم } من أمر معلوم يصح الاحتجاج به على ما زعمتم { فتخرجوه لنا } فتظهروه لنا { إن تتبعون إلا الظن } ما تتبعون في ذلك إلا الظن { وإن أنتم إلا تخرصون } تكذبون على الله سبحانه وتعالى وفيه دليل على المنع من اتباع الظن سيما في الأصول ولعل ذلك حيث يعارضه قاطع إذ الآية فيه

149 - { قل فلله الحجة البالغة } البينة الواضحة التي بلغت غاية المتانة والقوة على الإثبات أو بلغ بها صاحبها صحة دعواه وهي من الحج بمعنى القصد كأنها تقصد إثبات الحكم وتطلبه { فلو شاء لهداكم أجمعين } بالتوفيق لها والحمل عليها ولكن شاء هداية قوم وضلال آخرين

150 - { قل هلم شهداءكم } أحضروهم وهو اسم فعل لا يتصرف عند أهل الحجاز وفعل يؤنث ويجمع عند بني تميم وأصله عند البصريين : ها لم من لم إذا قصد حذفت الألف لتقدير السكون في اللام فإنه الأصل وعند الكوفيون هل أم فحذفت الهمزة بإلقاء حركتها على اللام وهو بعيد لأن هل لا تدخل الأمر ويكون متعديا كما في الآية ولازما كقوله هلم إلينا { الذين يشهدون أن الله حرم هذا } يعني قدوتهم فيه استحضرهم ليلزمهم الحجة ويظهر بانقطاعهم ضلالتهم وأنه لا متمسك لهم كمن يقلدهم ولذلك قيد الشهداء بالإضافة ووصفهم بما يقتضي العهد بهم { فإن شهدوا فلا تشهد معهم } فلا تصدقهم فيه وبين لهم فساده فإن تسلميه موفقة لهم في الشهادة الباطلة { ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا } من وضع المظهر موضع المضمر للدلالة على أن مكذب الآيات متبع الهوى لا غير وأن متبع الحجة لا يكون إلا مصدقا بها { والذين لا يؤمنون بالآخرة } كعبدة الأوثان { وهم بربهم يعدلون } يجعلون له عديلا

151 - { قل تعالوا } أمر من التعالي وأصله أن يقوله من كان في علو لمن كان في سفل فاتسع فيه بالتعميم { أتل } أقرأ { ما حرم ربكم } منصوب بأتل وما تحتمل الخبرية والمصدرية ويجوز أن تكون استفهامية منصوبة بحرم والجملة مفعول { أتل } لأنه بمعنى أقل فكأنه قيل أتل أي شيء حرم ربكم { عليكم } متعلق ب { حرم } أو { أتل } { أن لا تشركوا به } أي لا تشركوا به ليصح عطف الأمر عليه ولا يمنعه تعليق الفعل المفسر ب { ما حرم } فإن التحريم باعتبار الأوامر يرجع إلى أضدادها ومن جعل أن ناصبة فمحلها النصب بعليكم على أنه للإغراء أو البدل من { ما } أو من عائدة المحذوف على أن لا زائدة والجر بتقدير اللام أو الرفع على تقدير المتلو أن لا تشركوا أو المحرم أن تشركوا { شيئا } يحتمل المصدر والمفعول { وبالوالدين إحسانا } أي وأحسنوا بهما إحسانا وضعه موضع النهي عن الإساءة إليهما للمبالغة وللدلالة على أن ترك الإساءة في شأنهما غير كاف بخلاف غيرهما { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق } من أجل فقر ومن خشية كقوله { خشية إملاق } { نحن نرزقكم وإياهم } منع لموجبية ما كانوا يفعلون لأجله واحتجاج عليه { ولا تقربوا الفواحش } كبائر الذنوب أو الزنا { ما ظهر منها وما بطن } بدل منه وهو مثل قوله { ظاهر الإثم وباطنه } { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } كالقود وقتل المرتد ورجم المحصن { ذلكم } إشارة إلى ما ذكر مفصلا
{ وصاكم به } بحفظه { لعلكم تعقلون } ترشدون فإن كمال العقل هو الرشد

152 - { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } أي بالفعلة التي هي أحسن ما يفعل بماله كحفظه وتثميره { حتى يبلغ أشده } حتى يصير بالغا وهو جمع شدة كنعمة وأنعم أو شد كصر وأصر وقيل مفرد كأنك { وأوفوا الكيل والميزان بالقسط } بالعدل والتسوية { لا نكلف نفسا إلا وسعها } إلا ما يسعها ولا يعسر عليها وذكره عقيب الأمر معناه أن إيفاء الحق عسر عليكم فعليكم بما في وسعكم وما وراءه معفو عنكم { وإذا قلتم } في حكومة ونحوها { فاعدلوا } فيه { ولو كان ذا قربى } ولو كان المقول له أو عليه من ذوي قرابتكم { وبعهد الله أوفوا } يعني ما عهد إليكم من ملازمة العدل وتأدية أحكام الشرع { ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون } تتعظون به وقرأ حمزة و حفص و الكسائي { تذكرون } بتخفيف الذال حيث وقع إذا كان بالتاء والباقون بتشديدها

153 - { وأن هذا صراطي مستقيما } الإشارة فيه إلى ما ذكر في السورة فإنها بأسرها في إثبات التوحيد والنبوة وبيان الشريعة وقرأ حمزة و الكسائي { إن } بالكسر على الاستئناف و ابن عامر و يعقوب بالفتح والتخفيف وقرأ الباقون بها مشددة بتقدير اللام على أنه علة لقوله { فاتبعوه } وقرأ ابن عامر { صراطي } بفتح الياء وقرئ وهذا صراطي وهذا صراط ربك { ولا تتبعوا السبل } الأديان المختلفة أو الطرق التابعة للهوى فإن مقتضى الحجة واحد ومقتضى الهوى متعدد لاختلاف الطبائع والعادات { فتفرق بكم } فتفرقكم وتزيلكم { عن سبيله } الذي هو اتباع الوحي واقتفاء البرهان { ذلكم } الاتباع { وصاكم به لعلكم تتقون } الضلال والتفرق عن الحق

154 - { ثم آتينا موسى الكتاب } عطف على { وصاكم } وثم للتراخي في الإخبار أو للتفاوت في الرتبة كأنه قيل ذلكم وصاكم به قديما وحديثا ثم أعظم من ذلك { ولقد آتينا موسى الكتاب } { تماما } للكرامة والنعمة { على الذي أحسن } على كل من أحسن القيام به ويؤيده إن قرئ على الذين أحسنوا أو على الذي أحسن تبليغه وهو موسى عليه الصلاة و السلام أو تماما على ما أحسنه أي أجاده من العلم والتشريع أي زيادة على علمه إتماما له وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي على الذي هو أحسن أو على الوجه الذي هو حسن ما يكون عليه الكتب { وتفصيلا لكل شيء } وبيانا مفصلا لكل ما يحتاج إليه في الدين وهو عطف على تمام ونصبهما يحتمل العلة والحال والمصدر { وهدى ورحمة لعلهم } لعل بني إسرائيل { بلقاء ربهم يؤمنون } أي بلقائه للجزاء

155 - { وهذا كتاب } يعني القرآن { أنزلناه مبارك } كثير النفع { فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون } بواسطة اتباعه وهو العمل بما فيه

156 - { أن تقولوا } كراهة أن تقولوا علة لأنزلناه { إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا } اليهود والنصارى ولعل الاختصاص في { إنما } لأن الباقي المشهود حينئذ من الكتب السماوية لم يكن غير كتبهم { وإن كنا } إن هي المخففة من الثقيلة ولذلك دخلت اللام الفارقة في خبر كان أي وإنه كنا { عن دراستهم } قراءتهم { لغافلين } لا ندري ما هي أو لا تعرف مثلها

157 - { أو تقولوا } عطف على الأول { لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم } لحدة أذهاننا وثقابة أفهامنا ولذلك تلقفنا فنونا من العلم كالقصص والأشعار والخطب على أنا أميون { فقد جاءكم بينة من ربكم } حجة واضحة تعرفونها { وهدى ورحمة } لمن تأمل فيه وعمل به { فمن أظلم ممن كذب بآيات الله } بعد أن عرف صحتها أو تمكن من معرفتها { وصدف } أعرض أو صد { عنها } فضل أو أفضل { سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب } شدته { بما كانوا يصدفون } بإعراضهم أو صدهم

158 - { هل ينظرون } أي ما ينتظرون يعني أهل مكة وهم ما كانوا منتظرين لذلك ولكن لما كان يلحقهم لحوق المنتظر شبهوا بالمنتظرين { إلا أن تأتيهم الملائكة } ملائكة الموت أو العذاب وقرأ حمزة و الكسائي بالياء هنا وفي النحل { أو يأتي ربك } بالعذاب أو كل آية يعني آيات القيامة والهلاك الكلي لقوله : { أو يأتي بعض آيات ربك } يعني أشراط الساعة وعن حذيفة بن اليمان والبراء بن عازب [ كنا نتذاكر الساعة إذ أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : ما تذاكرون ؟ قلنا : نتذاكر الساعة قال : إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات : الدخان ودابة الأرض وخسفا بالمشرق وخسفا بالمغرب وخسفا بجزيرة العرب والدجال وطلوع الشمس من مغربها ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى عليه الصلاة و السلام ونارا تخرج من عدن ] { يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها } كالمحتضر إذ صار الأمر عيانا والإيمان برهاني وقرئ تنفع بالتاء لإضافة الإيمان إلى ضمير المؤنث { لم تكن آمنت من قبل } صفة نفسا { أو كسبت في إيمانها خيرا } عطف على { آمنت } والمعنى : أنه لا ينفع الإيمان حينئذ نفسا غير مقدمة إيمانها أو مقدمة إيمانها غير كاسبة في إيمانها خيرا وهو دليل لمن لم يعتبر الإيمان المجرد عن العمل وللمعتبر تخصيص هذا الحكم بذلك اليوم وحمل الترديد على اشتراط النفع بأحد الأمرين على معنى لا ينفع نفسا خلت عنها إيمانها والعطف على لم تكن بمعنى لا ينفع نفسا إيمانها الذي حدثته حينئذ وإن كسبت فيه خيرا { قل انتظروا إنا منتظرون } وعيد لهم أي : انتظروا إتيان أحد الثلاثة فإنا منتظرون له وحينئذ لنا الفوز وعليكم الويل

159 - { إن الذين فرقوا دينهم } بددوه فآمنوا ببعض وكفروا ببعض أو افترقوا فيه قال عليه الصلاة و السلام : [ افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة وافترقت النصارى على إثنتين وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة ] وقرأ حمزة و الكسائي فارقوا أي باينوا { وكانوا شيعا } فرقا كل فرقة إماما { لست منهم في شيء } أي من السؤال عنهم وعن تفرقهم أو من عقابهم أو أنت بريء منهم وقيل هو نهي عن التعرض لهم وهو منسوخ بآية السيف { إنما أمرهم إلى الله } يتولى جزاءهم { ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون } بالعقاب

160 - { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } أي عشر حسنات أمثالها فضلا من الله وقرأ يعقوب عشرة بالتنوين وأمثالها بالرفع على الوصف وهذا أقل ما وعد من الأضعاف وقد جاء الوعد بسبعين وسبعمائة وبغير حساب ولذلك قيل : المراد بالعشر الكثرة دون العدد { ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها } قضية للعدل { وهم لا يظلمون } بنقص الثواب وزيادة العقاب

161 - { قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم } بالوحي والإرشاد إلى ما نصب من الحجج { دينا } بدل من محل إلى صراط إذ المعنى هداني صراطا كقوله : { ويهديكم صراطا مستقيما } أو مفعول فعل مضمر دل عليه الملفوظ { قيما } فيعل من قام كسيد من ساد وهو أبلغ من المستقيم باعتبار الزنة والمستقيم باعتبار الصيغة وقرأ ابن عامر و عاصم و حمزة و الكسائي { قيما } على أنه مصدر نعت به وكان قياسه قوما كعوض فاعل لإعلال فعله كالقيام { ملة إبراهيم } عطف بيان لدينا { حنيفا } حال من إبراهيم { وما كان من المشركين } عطف عليه

162 - { قل إن صلاتي ونسكي } عبادتي كلها أو قرباتي أو حجي { ومحياي ومماتي } وما أنا عليه في حياتي وأموت عليه من الإيمان والطاعة أو طاعات الحياة والخيرات المضافة إلى الممات كالوصية والتدبير أو الحياة والممات أنفسهما وقرأ نافع { محياي } بإسكان الياء إجراء للوصل مجرى الوقف { لله رب العالمين }

163 - { لا شريك له } خالصة له لا أشرك فيها غيرا { وبذلك } القول أو الإخلاص { أمرت وأنا أول المسلمين } لأن إسلام كل نبي متقدم على إسلام أمته

164 - { قل أغير الله أبغي ربا } فأشركه في عبادتي وهو جواب عن دعائهم له إلى عبادة آلهتهم { وهو رب كل شيء } حال في موضع العلة للإنكار والدليل له أي وكل ما سواه مربوب مثلي لا يصلح للربوبية { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } فلا ينفعني في ابتغاء رب غيره ما أنتم عليه من ذلك { ولا تزر وازرة وزر أخرى } جواب عن قولهم { اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم } { ثم إلى ربكم مرجعكم } يوم القيامة { فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } بتبيين الرشد من الغي وتمييز المحق من المبطل

165 - { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض } يخلف بعضكم بعضا أو خلفاء الله في أرضه تتصرفون فيها على أن الخطاب عام أو خلفاء الأمم السالفة على أن الخطاب للمؤمنين { ورفع بعضكم فوق بعض درجات } في الشرف والغنى { ليبلوكم في ما آتاكم } من الجاه والمال { إن ربك سريع العقاب } لأن ما هو آت قريب أو لأنه يسرع إذا أراده { وإنه لغفور رحيم } وصف العقاب ولم يصفه إلى نفسه ووصف ذاته بالمغفرة وضم إليه الوصف بالرحمة وأتى ببناء المبالغة واللام المؤكدة تنبيها على أنه تعالى غفور بالذات معاقب بالعرض كثير الرحمة مبالغ فيها كثير العقوبة مسامح فيها عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أنزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد فمن قرأ الأنعام صلى عليه واستغفر له أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية من سورة الأنعام يوما وليلة ]

سورة الأعراف
مكية غير ثمان آيات من قوله : { واسألهم } إلى قوله : { وإذ نتقنا الجبل } محكمة كلها وقيل إلا قوله : { وأعرض عن الجاهلين } وآيه مائتان وخمس أو ست آيات
1 - { المص } سبق الكلام في مثله

2 - { كتاب } خبر مبتدأ محذوف أي هو كتاب أو خبر { المص } والمراد به السورة أو القرآن { أنزل إليك } صفته { فلا يكن في صدرك حرج منه } أي شك فإن الشك حرج الصدر أو ضيق قلب من تبليغه مخافة أن تكذب فيه أو تقصر في القيام بحقه وتوجيه النهي إليه للمبالغة كقولهم : لا أرينك ها هنا والفاء تحتمل العطف والجواب فكأنه قيل : إذا نزل إليك لتنذر به فلا يحرج صدرك { لتنذر به } متعلق بأنزل أو بلا يكن لأنه إذا أيقن أنه من عند الله جسر على الإنذار وكذا إذا لم يخفهم أو علم أنه موفق للقيام بتبليغه
{ وذكرى للمؤمنين } يحتمل النصب بإضمار فعلها أي : لتنذر وتذكر ذكرى فإنها بمعنى التذكير والجر عطفا على محل تنذر والرفع عطفا على كتاب أو خبرا لمحذوف

3 - { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم } يعم القرآن والسنة لقوله سبحانه وتعالى : { وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى } { ولا تتبعوا من دونه أولياء } يضلونكم من الجن والإنس وقيل الضمير في { من دونه } ل { ما أنزل } أي : ولا تتبعوا من دون دين الله دين أولياء وقرئ { ولتبتغوا } { قليلا ما تذكرون } أي تذكرا قليلا أو زمانا قليلا تذكرون حيث تتركون دين الله وتتبعون غيره و { ما } مزيدة لتأكيد القلة وإن جعلت مصدرية لم ينتصب { قليلا } ب { تذكرون } وقرأ حمزة و الكسائي و حفص عن عاصم { تذكرون } بحذف التاء وابن عامر { يتذكرون } على أن الخطاب بعد مع النبي صلى الله عليه و سلم

4 - { وكم من قرية } وكثيرا من القرى { أهلكناها } أردنا إهلاك أهلها أو أهلكناها بالخذلان { فجاءها } فجاء أهلها { بأسنا } عذابنا { بياتا } بائتين كقوم لوط مصدر وقع موقع الحال { أو هم قائلون } عطف عليه أي قائلين نصف النهار كقوم شعيب وإنما حذفت واو الحال استثقالا لاجتماع حرفي التعبيرين مبالغة في غفلتهم وأمنهم من العذاب ولذلك خص الوقتين ولأنهما وقت دعة واستراحة فيكون مجيء العذاب فيهما أفظع

5 - { فما كان دعواهم } أي دعاؤهم واستغاثتهم أو ما كانوا يدعونه من دينهم { إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين } إلا اعترافهم بظلمهم فيما كانوا عليه وبطلانه تحسرا عليهم

6 - { فلنسألن الذين أرسل إليهم } عن قبول الرسالة وإجابتهم الرسل { ولنسألن المرسلين } عما أجيبوا به والمراد عن هذا السؤال توبيخ الكفرة وتقريعهم والمنفي في قوله : { ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون } سؤال استعلام أو الأول في موقف الحساب وهذا عند حصولهم على العقوبة

7 - { فلنقصن عليهم } على الرسل حين يقولون { لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب } أو على الرسل والمرسل إليهم ما كانوا عليه { بعلم } عالمين بظواهر هم وبواطنهم أو بمعلومنا منهم { وما كنا غائبين } عنهم فيخفى علينا شيء من أحوالهم

8 - { والوزن } أي القضاء أو وزن الأعمال وهو مقابلتها بالجزاء والجمهور على أن صحائف الأعمال توزن بميزان له لسان وكفتان ينظر إليه الخلائق إظهارا للمعدلة وقطعا للمعذرة كما يسألهم عن أعمالهم فتعترف بها ألسنتهم وتشهد بها جوارحهم ويؤيده ما روي : أن الرجل يؤتى به إلى الميزان فينشر عليه تسعة وتسعون سجلا كل سجل مد البصر ن فيخرج له بطاقة فيها كلمتا الشهادة فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة وقيل توزن الأشخاص لما روي أنه عليه الصلاة و السلام قال : [ إنه ليأتي العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة ] { يومئذ } خبر المبتدأ الذي هو الوزن { الحق } صفته أو خبر محذوف ومعناه العدل السوي { فمن ثقلت موازينه } حسناته أو ما يوزن به حسناته فهو جمع موزون أو ميزان وجمعه باعتبار اختلاف الموزونات وتعدد الوزن { فأولئك هم المفلحون } الفائزون بالنجاة والثواب

9 - { ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم } بتضييع الفطرة السليمة التي فطرت عليها واقتراف ما عرضها للعذاب { بما كانوا بآياتنا يظلمون } فيكذبون بدل التصديق

10 - { ولقد مكناكم في الأرض } أي مكناكم من سكناها وزرعها والتصرف فيها { وجعلنا لكم فيها معايش } أسبابا تعيشون بها جمع معيشة وعن نافع أنه همزه تشبيها بما الياء فيه زائدة كصحائف { قليلا ما تشكرون } فيما صنعت إليكم

11 - { ولقد خلقناكم ثم صورناكم } أي خلقنا أباكم آدم طينا غير مصور ثم صورناه نزل خلقه وتصويره منزلة خلق الكل وتصويره أو ابتدأنا خلقكم ثم تصويركم بأن خلقنا آدم ثم صورناه { ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } وقيل ثم لتأخير الإخبار { فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين } ممن سجد لآدم

12 - { قال ما منعك أن لا تسجد } أي أن تسجد ولا صلة مثلها في لئلا يعلم مؤكدة معنى الفعل الذي دخلت عليه ومنبهة على أن الموبخ عليه ترك السجود وقيل الممنوع عن الشيء مضطر إلى خلافه فكأنه قيل : ما اضطرك إلى ألا تسجد { إذ أمرتك } دليل على أن مطلق الأمر للوجوب والفور { قال أنا خير منه } جواب من حيث المعنى استأنف به استبعادا لأن يكون مثله مأمورا بالسجود لمثله كأنه قال : المانع أني خير منه ولا يحسن للفاضل أن يسجد للمفضول فكيف يحسن أن يؤمر به فهو الذي سن التكبر وقال بالحسن والقبح العقليين أولا { خلقتني من نار وخلقته من طين } تعليل لفضله عليه وقد غلط في ذلك بأن رأى الفضل كله باعتبار العنصر وغفل عما يكون باعتبار الفاعل كما أشار إليه بقوله تعالى : { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } أي بغير واسطة وباعتبار الصورة كما نبه عليه بقوله { ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين } وباعتبار الغاية وهو ملاكه ولذلك أمر الملائكة بسجوده لما بين لهم أنه أعلم منهم وأن له خواص ليست لغيره والآية دليل الكون والفساد وأن الشياطين أجسام كائنة ولعل إضافة خلق الإنسان إلى الطين والشيطان إلى النار باعتبار الجزء الغالب

13 - { قال فاهبط منها } من السماء أو الجنة { فما يكون لك } فما يصح { أن تتكبر فيها } وتعصي فإنها مكان الخاشع والمطيع وفيه تنبيه على أن التكبر لا يليق بأهل الجنة وأنه سبحانه وتعالى إنما طرده وأهبطه لتكبره لا لمجرد عصيانه { فاخرج إنك من الصاغرين } ممن أهانه الله لتكبره قال عليه الصلاة و السلام [ من تواضع رفعه الله ومن تكبر وضعه الله ]

14 - { قال أنظرني إلى يوم يبعثون } أمهلني إلى يوم القيامة فلا تمتني أو لا تعجل عقوبتي

15 - { قال إنك من المنظرين } يقتضي الإجابة إلى ما سأله ظاهر ا لكنه محمول على ما جاء مقيدا بقوله تعالى : { إلى يوم الوقت المعلوم } وهو النفخة الأولى أ وقت يعلم الله انتهاء أجله فيه وفي إسعافه إليه ابتلاء العباد وتعريضهم للثواب بمخالفته

16 - { قال فبما أغويتني } أي بعد أن أمهلتني لاجتهدن في إغوائهم بأي طريق يمكنني بسبب إغوائك إياي بواسطتهم تسمية أو حملا على الغي أو تكليفا بما غويت لأجله والباء متعلقة بفعل القسم المحذوف لا أقعدن فإن اللام تصد عنه وقيل الباء للقسم : { لأقعدن لهم } ترصدا بهم كما يقعد القطاع للسابلة { صراطك المستقيم } طريق الإسلام ونصبه على الظرف كقوله :
( لدن بهز الكف يعسل متنه ... فيه كما عسل الطريق الثعلب )
وقيل تقديره على صراطك كقولهم : ضرب زيد الظهر والبطن

17 - { ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم } أن من جميع الجهات الأربع مثل قصده إياهم بالتسويل والإضلال من أي وجه يمكنه بإتيان العدو من الجهات الأربع ولذلك لم يقل من فوقهم ومن تحت أرجلهم وقيل لم يقل من فوقهم لأن الرحمة تنزل منه ولم يقل من تحتهم لأن الإتيان منه يوحش الناس وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : من بين أيديهم من قبل الآخرة ومن خلفهم من قبل الدنيا وعن أيمانهم وعن شمائلهم من جهة حسناتهم وسيئاتهم ويحتمل أن يقال من بين أيديهم من حيث يعلمون ويقدرون على التحرز عنه ومن خلفهم من حيث لا يعلمون ولا يقدرون وعن أيمانهم وعن شمائلهم من حيث يتيسر لهم أن يعلموا ويتحرزوا ولكن لم يفعلوا لعدم تيقظهم واحتياطهم وإنما عدى الفعل إلى الأولين بحرف الابتداء لأنه منهما موجة إليهم وإلى الأخيرين بحرف المجاوزة فإن الآتي منهما كالمنحرف عنهم المار على عرضهم ونظيره قولهم جلست عن يمينه { ولا تجد أكثرهم شاكرين } مطيعين وإنما قاله ظنا لقوله تعالى : { ولقد صدق عليهم إبليس ظنه } لما رأى فيهم مبدأ الشر متعددا ومبدأ الخير واحدا ن وقيل سمعه من الملائكة

18 - { قال اخرج منها مذؤوما } مذموما من ذأمه وقرئ { مذؤوما } كمسول في مسؤول أو كمكول في مكيل ن من ذامه يذيمه ذيما { مدحورا } مطرودا { لمن تبعك منهم } اللام فيه لتوطئة القسم وجوابه { لأملأن جهنم منكم أجمعين } وهو ساد مسد جواب الشرط وقرئ { لمن } بكسر اللام على أنه خبر لأملأن على معنى : لمن تبعك هذا الوعيد أو علة لأخرج ولأملأن جواب قسم محذوف ومعنى منكم ومنهم فغلب المخاطب

19 - { ويا آدم } أي وقلنا يا آدم { اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة } وقرئ هذي وهو الأصل لتصغيره على ذيا والهاء بدل من الياء { فتكونا من الظالمين } فتصيرا من الذين ظلموا أنفسهم وتكونا يحتمل الجزم على العطف والنصب على الجواب

20 - { فوسوس لهما الشيطان } أي فعل الوسوسة لأجلهما وهي في الأصل الصوت الخفي كالهينمة والخشخشة ومنه وسوس الحلي وقد سبق في سورة البقرة كيفية وسوسته { ليبدي لهما } ليظهر لهما وللام للعاقبة أو للغوض على أنه أراد أيضا بوسوسته أن يسوأهما بانكشاف عورتيهما ولذلك عبر عنهما بالسوأة وفيه دليل على أن كشف العورة في الخلوة وعند الزوج من غير حاجة قبيح مستهجن في الطباع { ما وري عنهما من سوآتهما } ما غطي عنهما من عوراتهما وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر وإنما لم تقلب الواو المضمومة همزة في المشهور كما قلبت في أو يصل تصغير واصل لأن الثانية مدة وقرئ { سوآتهما } بحذف الهمزة والقاء حركتها على الواو وسوآتهما بقلبها واوا وإدغام الساكنة فيها { وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا } إلا كراهة أن تكونا { ملكين أو تكونا من الخالدين } الذين لا يموتون أو يخلدون في الجنة واستدل به على فضل الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وجوابه : أنه كان من المعلوم أن الحقائق لا تنقلب وإنما كانت رغبتهما في أن يحصل لهما أيضا ما للملائكة من الكمالات الفطرية والاستغناء عن الأطعمة والأشربة وذلك لا يدل على فضلهم مطلقا

21 - { وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين } أي أقسم لهما على ذلك وأخرجه على زنه المفاعلة للمبالغة وقيل أقسما له بالقبول وقيل أقسما عليه بالله أنه لمن الناصحين فأقسم لهما فجعل ذلك مقاسمة

22 - { فدلاهما } فنزلهما إلى الأكل من الشجرة نبه به على أنه أهبطهما بذلك من درجة عالية إلى رتبة سافلة فإن التدلية والإدلاء إرسال الشيء من أعلى إلى أسفل { بغرور } بما غرهما به من القسم فإنهما ظنا أن أحدا لا يحلف بالله كاذبا أو ملتبسين بغرور { فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما } أي فلما وجدا طعمهما آخذين في الأكل منها أخذتهما العقوبة وشؤم المعصية فتهافت عنهما لباسهما وظهرت لهما عوراتهما واختلف في أن الشجرة كانت السنبلة أو الكرم أو غيرهما وأن اللباس كان نورا أو حلة أو ظفرا { وطفقا يخصفان } أخذا يرقعان ويلزقان ورقة فوق ورقة { عليهما من ورق الجنة } قيل كان ورق التين وقرئ { يخصفان } من أخصف أي يخصفان أنفسهما ويخصفان منخصف ويخصفان وأصله يختصفان { وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين } عتاب على مخلفة النهي وتوبيخ على الاغترار بقول العدو وفيه دليل على أن مطلق النهي للتحريم

23 - { قالا ربنا ظلمنا أنفسنا } أضررناها بالمعصية والتعريض للإخراج من الجنة { وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } دليل على أن الصغائر معاقب عليها إن لم تغفر وقالت المعتزلة لا يجوز المعاقبة عليها مع اجتناب الكبائر ولذلك قالوا : إنما قالا ذلك على عادة المقربين في استعظام الصغير من السيئات واستحقار العظيم من الحسنات

24 - { قال اهبطوا } الخطاب لآدم وحواء وذريتنها أولهما ولإبليس كرر الأمر له تبعا ليعلم أنهم قرناء أبدا وأخبر عما قال لهم متفرقا { بعضكم لبعض عدو } في موضع الحال أي متعادين { ولكم في الأرض مستقر } استقرار أن موضع استقرار { ومتاع } وتمتع { إلى حين } إلى أن تقضى آجالكم

25 - { قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون } للجزاء وقرأ حمزة و الكسائي و ابن ذكوان { ومنها تخرجون } وفي ( الزخرف ) كذلك { تخرجون } بفتح التاء وضم الراء

26 - { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا } أي خلقناه لكم بتدبيرات سماوية وأسباب نازلة ونظيره قوله تعالى : { وأنزل لكم من الأنعام } وقوله تعالى : { وأنزلنا الحديد } { يواري سوآتكم } التي قصد الشيطان إبداءها ويغنيكم عن خصف الورق روي : أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون لا نطوف في ثياب عصينا الله فيها فنزلت ولعله ذكر قصة آدم مقدمة لذلك حتى يعلم أن انكشاف العورة أول سوء أصاب الإنسان من الشيطان وأنه أغواهم في ذلك كما أغوى أبويهم { وريشا } ولباسا تتجملون به والريش الجمال وقيل ملا ومنه تر يش الرجل إذا تمول وقرئ رياشا وهو جمع ريش كشعب وشعاب { ولباس التقوى } خشية الله وقيل الإيمان وقيل السمت الحسن وقيل لباس الحرب ورفعه بالابتداء وخبره : { ذلك خير } أو خبر وذلك صفته كأنه قيل : ولباس التقوى المشار إليه خير وقرأ نافع و ابن عامر و الكسائي { ولباس التقوى } بالنصب عطفا على { لباسا } { ذلك } أي إنزال اللباس { من آيات الله } الدالة على فضله ورحمته { لعلهم يذكرون } فيعرفون نعمته أو يتعظون فيتورعون عن القبائح

27 - { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان } لا يمتحننكم بأن يمنعكم دخول الجنة بإغوائكم { كما أخرج أبويكم من الجنة } كما محن أبويكم بأن أخرجهما منها والنهي في اللفظ للشيطان والمعنى نهمهم عن اتباعه والافتنان به { ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما } حال من { أبويكم } أو من فاعل { أخرج } وإسناد النزع إليه للتسبب { إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم } تعليل للنهي وتأكيد للتحذير من فتنته وقبيله جنوده ورؤيتهم إيانا من حيث لا نراهم في الجملة لا تقتضي امتناع رؤيتهم وتمثلهم لنا { إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون } بما وجدنا بينهم من التناسب أو بإرسالهم عليهم وتمكينهم من خذلانهم وحملهم على ما سولوا لههم والآية مقصود القصة وفذلكة الحكاية

28 - { وإذا فعلوا فاحشة } فعلة متناهية في القبح كعبادة الصنم وكشف العورة في الطواف { قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها } اعتذروا واحتجوا بأمرين تقليد الآباء والافتراء على الله سبحانه وتعالى فأعرض عن الأول لظهور فساده ورد الثاني بقوله { قل إن الله لا يأمر بالفحشاء } لأن عادته سبحانه وتعالى جرت على الأمر بمحاسن الأفعال والحث على مكارم الخصال ولا دلالة عليه على أن أقبح الفعل بمعنى ترتب الذم عليه آجلا عقلي فإن المراد بالفاحشة ما ينفر عنه الطبع السليم ويستنقصه العقل المستقيم وقيل هما جوابا سؤالين مترتبين كأنه قيل لهم لما فعلوها لم فعلتم ؟ فقالوا : وجدنا عليها آباءنا فقيل ومن أين أخذ آباؤكم ؟ فقالوا : الله أمرنا بها وعلى الوجهين يمتنع التقليد إذا قام الدليل على خلافه لا مطلقا { أتقولون على الله ما لا تعلمون } إنكار يتضمن النهي عن الافتراء على الله تعالى

29 - { قل أمر ربي بالقسط } بالعدل وهو الوسط من كل أمر المتجافي عن طرفي الإفراط والتفريط { وأقيموا وجوهكم } وتوجهوا إلى عبادته مستقيمين غير عادلين إلى غيرها أو أقيموها نحو القبلة { عند كل مسجد } في كل وقت سجود أو مكانه وهو الصلاة أو في أي مسجد حضرتكم الصلاة ولا تؤخروها حتى تعودوا إلى مساجدكم { وادعوه } واعبدوه { مخلصين له الدين } أي الطاعة فإن إليه مصيركم { كما بدأكم } كما أنشأكم ابتداء { تعودون } بإعادته فيجازيكم على أعمالكم فأخلصوا له العبادة وإنما تشبه الإعادة بالإبداء تقريرا لإمكانها والقدرة عليها وقيل كما بدأكم من التراب تعودوه إليه وقيل كما بدأكم حفاة عراة تهودون وقيل كما بدأكم مؤمنا وكافرا يعيدكم

30 - { فريقا هدى } بأن وفقهم للإيمان ز { وفريقا حق عليهم الضلالة } بمقتضى القضاء السابق وانتصابه بفعل يفسره ما بعده أي وخذل فريقا { إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله } تعليل لخذلانههم أو تحقيق لضلالهم { ويحسبون أنهم مهتدون } يدل على أن الكافر المخطئ
والمعاند سواء في استحقاق الذم وللفارق أن يحمله على المقصر في المنظر

31 - { يا بني آدم خذوا زينتكم } ثيابكم لمواراة عورتكم { عند كل مسجد } لطواف أو صلاة ومن السنة أن يأخذ الرجل أحسن هيئة للصلاة وفيه دليل على وجوب ستر العورة في الصلاة { وكلوا واشربوا } ما طاب لكم روي : أن بني عامر في أيام حجهم كانوا لا يأكلون الطعام إلا قوتا ولا يأكلون دسما يعظمون بذلك حجهم فهم المسلمون به فنزلت { ولا تسرفوا } بتحريم الحلال أن بالتعدي إلى الحرام أو بإفراط الطعام والشره عليه وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كل ما شئت ولبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة وقال علي بن الحسين بن واقد : قد جمع الله الطب في نصف آية فقال : { كلوا واشربوا ولا تسرفوا } { إنه لا يحب المسرفين } أي لا يرتضي فعلهم

32 - { قل من حرم زينة الله } من الثياب وسائر ما يتجمل به { التي أخرج لعباده } من النبات كالقطن والكتان والحيوان كالحرير والصوف ن والمعادن كالدروع : { والطيبات من الرزق } المستلذات من المآكل والمشارب وفيه دليل على أن الأصل في المطاعم والملابس وأنواع التجملات الإباحة لأن الاستفهام في من للإنكار { قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا } بالأصالة والكفرة وإن شاركوهم فيها فتبع { خالصة يوم القيامة } لا يشاركهم فيها غيرهم وانتصابها على الحال وقرا نافع بالرفع على أنها خبر بعد خبر
{ كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون } أي كتفصيلنا هذا الحكم نفصل سائر الأحكام لهم

33 - { قل إنما حرم ربي الفواحش } ما تزايد قبحه وقيل ما يتعلق بالفروج { ما ظهر منها وما بطن } جهرها وسرها { والإثم } وما يوجب الإثم تعميم بعد تخصيص وقيل شرب الخمر { والبغي } الظلم أو الكبر أفرده بالذكر للمبالغة { بغير الحق } متعلق بالبغي مؤكد له معنى { وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا } تهكم بالمشركين ن وتنبيهه على تحريم اتباع ما لم يدل عليه برهان { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } بالإلحاد في صفاته سبحانه وتعالى والافتراء عليه كقولهم { الله أمرنا بها }

34 - { ولكل أمة أجل } مدة أو وقت نزول العذاب بهم وهو وعيد لأهل مكة { فإذا جاء أجلهم } انقرضت مد تهم أو حان وقتهم { لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } أي لا يتأخرون ولا يتقدمون أقصر وقت أو لا يطلبون التأخر والتقدم لشدة الهول

35 - { يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي } شرط ذكره بحرف الشك للتنبيه على أن إتيان الرسل أمر جائز غير واجب كما ظنه أهل التعليم وضمت إليها ما لتأكيد معنى الشرط ولذلك أكد فعلها بالنون وجوابه : { فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون }

36 - { والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } والمعنى فمن اتقى التكذيب وأصلح عمله منكم والذين كذبوا بآياتنا منكم وإدخال الفاء في الخبر الأول دون الثاني للمبالغة في الوعد والمسامحة في الوعيد

37 - { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته } ممن تقول على الله ما لم يقله أو كذب ما قاله { أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب } مما كتب لهم من الأرزاق والآجال
وقيل الكتاب اللوح المحفوظ أي مما أثبت لهم فيه ز { حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم } أي يتوفون أرواحهم وهو حال من الرسل وحتى غاية لنيلهم وهي التي يبتدأ بعدها الكلام { قالوا } جواب إذا { أين ما كنتم تدعون من دون الله } أي أين الآلهة التي كنتم تعبدونها وما وصلت بأين في خط المصحف وحقها الفصل لأنها موصولة { قالوا ضلوا عنا } غابوا عنا { وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } اعترفوا بأنهم كانوا ضالين فيما كانوا عليه

38 - { قال ادخلوا } أي قال الله تعالى لهم يوم القيامة أو أحد من الملائكة { في أمم قد خلت من قبلكم } أي كائنين في جملة أمم مصاحبين لهم يوم القيامة { من الجن والإنس } يعني كفار الأمم الماضية عن النوعين { في النار } متعلق بادخلوا { كلما دخلت أمة } أي في النار { لعنت أختها } التي ضلت بالاقتداء بها { حتى إذا اداركوا فيها جميعا } أي تداركوا وتلاحقوا واجتمعوا في النار ز { قالت أخراهم } دخولا أو منزلة وهم الاتباع { لأولاهم } أي لأجل أولاهم إذ الخطاب مع الله لا معهم { ربنا هؤلاء أضلونا } سنوا لنا الضلال فاقتدينا بهم { فآتهم عذابا ضعفا من النار } مضاعفا لأنهم ضلوا وأضلوا { قال لكل ضعف } أما القادة فبكفرهم وتضليلهم وأما الأتباع فبكفرهم وتقليدهم { ولكن لا تعلمون } مالكم أو ما لكل فريق وقرأ عاصم بالياء على الانفصال

39 - { وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل } عطفوا كلامهم على جواب الله سبحانه وتعالى { لأخراهم } ورتبوه عليه أي فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا وإنا وإياكم متساوون في الضلال واستحقاق العذاب { فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون } من قول القادة أو من قول الفريقين

40 - { إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها } أي عن الإيمان بها { لا تفتح لهم أبواب السماء } لأدعيتهم وأعمالهم أو لأزواجهم كما تفتح لأعمال المؤمنين وأرواحهم لتتصل بالملائكة والتاء في تفتح لتأنيث غير الأبواب والتشديد لكثرتها وقرأ أبو عمرو بالتخفيف و حمزة و الكسائي به وبالياء لأن التأنيث غير حقيقي والفعل مقدم وقرئ على البناء للفاعل ونصب الأبواب بالتاء على أن الفعل للآيات وبالياء لأن الفعل لله { ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط } أي حتى يدخل ما هو مثل في عظم الجرم وهو البعير فيما هو مثل في ضيق المسلك وهو ثقبة الإبرة وذلك مما لا يكون فكذا ما يتوقف عليه وقرئ { الجمل } كالقمل والجمل كالنغر والجمل كالقفل والجمل كالنصب والجمل كالحبل وهو الحبل الغليظ من القنب وقيل حبل السفينة وسم بالضم والكسر وفي سم المخيط وهو والخياط ما يخاط به كالحزام والمحزم { وكذلك } ومثل ذلك الجزاء الفظيع { نجزي المجرمين }

41 - { لهم من جهنم مهاد } فراش { ومن فوقهم غواش } أغطية والتنوين فيه للبدل عن الإعلال عند سيبويه وللصرف عند عيره وقرئ { غواش } على إلغاء المحذوف { وكذلك نجزي الظالمين } عبر عنهم بالمجرمين تارة وبالظالمين أخرى إشعارا بتكذيبهم الآيات اتصفوا بهذه الأوصاف الذميمة وذكر الجرم مع الحرمان من الجنة والظلم مع التعذيب بالنار تنبيها على أنه أعظم الإجرام

42 - { والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } على عادته سبحانه وتعالى في أن يشفع الوعيد بالوعد ولا نكلف نفسا إلا وسعها اعترض بين المبتدأ وخبره للترغيب في اكتساب النعيم المقيم بما تسعه طاقتهم ويسهل عليهم وقرئ لا تكلف نفس

43 - { ونزعنا ما في صدورهم من غل } أي نخرج من قلوبهم أسباب الغل أو نطهرها منه حتى لا يكون بينهم إلا التواد وعن علي كرم الله وجهه : إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم { تجري من تحتهم الأنهار } زيادة في لذتهم وسرورهم { وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا } لما جزاؤه هذا { وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله } لولا هداية الله وتوفيقه واللام لتوكيد النفي وجواب لولا محذوف دل عليه ما قبله وقرأ ابن عامر { ما كنا } بغير واو على أنها مبينة للأولى { لقد جاءت رسل ربنا بالحق } فاهتدينا بإرشادهم يقولون ذلك اعتباطا وتبجحا بأن ما علموه يقينا في الدنيا صار لهم قين اليقين في الآخرة { ونودوا أن تلكم الجنة } إذا رأوها من بعيد أو بعد دخولها والمنادى له بالذات { أورثتموها بما كنتم تعملون } أي أعطيتموها بسبب أعمالكم وهو حال من الجنة والعامل فيها معنى الإشارة أو خبر والجنة صفة تلكم وأن في المواقع الخمسة هي المخففة أو المفسرة لأن المناداة والتأذين من القول

44 - { ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا } إنما قالوه تبجحا بحالهم وشماتة بأصحاب النار وتحسيرا لهم وإنما لم يقل ما وعدكم كما قال { ما وعدنا } لأن ما ساءهم من الموعود لم يكن بأسره مخصوصا وعده بهم كالبعث والحساب ونعيم أهل الجنة { قالوا نعم } وقرأ الكسائي بكسر العين وهما لغتان { فأذن مؤذن } قيل هو صاحب الصور { بينهم } بين الفريقين { أن لعنة الله على الظالمين } وقرأ ابن كثير في رواية للبزي و ابن عامر و حمزة و الكسائي { أن لعنة الله } بالتسديد والنصب قرئ { إن } بالكسر على إرادة القول أو إجراء أذن مجرى قال

45 - { الذين يصدون عن سبيل الله } صفة للظالمين مقررة أو ذم مرفوع أو منصوب { ويبغونها عوجا } زيغا ميلا عما هو عليه والعرج بالكسر في المعاني والأعيان ما لم تكن منتصبة وبالفتح ما كان في المنتصبة كالحائط والرمح { وهم بالآخرة كافرون }

46 - { وبينهما حجاب } أي بين الفريقين لقوله تعالى : { فضرب بينهم بسور } أو بين الجنة والنار ليمنع وصول أثر إحداهما إلى الأخرى { وعلى الأعراف } وعلى أعراف الحجاب أي أعاليه وهو السور المضروب بينهما جمع عرف مستعار من عرف الفرس وقيل العرف ما ارتفع من الشيء فإنه يكون لظهوره أعرف من غيره { رجال } طائفة من الموحدين قصروا في العمل فيحبسون بين الجنة والنار حتى يقضي الله سبحانه وتعالى فيهم ما يشاء وقيل عيل قوم علت درجاتهم كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام أو الشهداء رضي الله تعالى عنهم أو خيار المؤمنين وعلمائهم أو ملائكة يرون في صورة الرجال { يعرفون كلا } من أهل الجنة والنار { بسيماهم } بعلامتهم التي أعلمهم الله بها كبياض الوجه وسواده فعل من سام إبله إذا أرسلها في المرعى معلمة أو من وسم على القلب كالجاه من الوجه وإنما يعرفون ذلك بالإلهام أو تعليم الملائكة { ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم } أي إذا نظروا إليهم سلموا عليهم { لم يدخلوها وهم يطمعون } حل من الواو على الوجه الأول ومن أصحاب على الوجوه الباقية

47 - { وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا } نعوذ بالله { ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين } أي في النار

48 - { ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم } من رؤساء الكفرة { قالوا ما أغنى عنكم جمعكم } كثرتكم أو جمعكم المال { وما كنتم تستكبرون } عن الحق أو على الخلق وقرئ ( تستكبرون ) من الكثرة

49 - { أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة } من تتمة قولهم للرجال والإشارة إلى ضعفاء أهل الجنة الذين كانت الكفرة يحتقرونهم في الدنيا ويحلفون أن الله لا يدخلهم الجنة { ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون } أي فالتفتوا إلى أصحاب الجنة وقالوا لهم ادخلوا وهو أوفق للوجوه الأخيرة أو فقيل لأصحاب الأعراف ادخلوا الجنة بفضل الله سبحانه وتعالى بعد أن حبسوا حتى أبصروا الفريقين وعرفوهم وقالوا لهم ما قالوا قيل لما عيروا أصحاب النار أقسموا أن أصحاب الأعراف لا يدخلون الجنة فقال الله سبحانه وتعالى أو بعض الملائكة هؤلاء الذين أقسمتم وقرئ { ادخلوا } و ( دخلوا ) على الاستئناف وتقديره دخلوا الجنة مقولا لهم { لا خوف عليكم }

50 - { ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء } أي صبوه وهو دليل على أن الجنة فوق النار { أو مما رزقكم الله } من سائر الأشربة ليلائم الإفاضة أو من الطعام كقوله : علفتها تبنا وماء باردا { قالوا إن الله حرمهما على الكافرين } منعهما عنهم منع المحرم من المكلف

51 - { الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا } كتحريم البحيرة والتصدية والمكاء حول البيت واللهو صرف الهم بما لا يحسن أن يصرف به واللعب طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب به { وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم } نفعل بهم فعل الناسين فنتركهم في النار { كما نسوا لقاء يومهم هذا } فلم يخطروه ببالهم ولم يستعدوا له { وما كانوا بآياتنا يجحدون } وكما كانوا منكرين أنها من عند الله

52 - { ولقد جئناهم بكتاب فصلناه } بينا معانيه من العقائد والأحكام والمواعظ مفصلة { على علم } عالمين بوجه تفصيله حتى جاء حكيما وفيه دليل على أنه سبحانه وتعالى عالم بعلم أو مشتملا على علم فيكون حالا من المفعول وقرئ ( فضلناه ) أي على سائر الكتب عالمين بأنه حقيق بذلك { هدى ورحمة لقوم يؤمنون } حال من الهاء

53 - { هل ينظرون } ينتظرون { إلا تأويله } إلا يؤول إليه أمره من تبين صدقه بظهور ما نطق به من الوعد والوعيد { يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل } تركوه ترك الناسي { قد جاءت رسل ربنا بالحق } أي قد تبين أنهم جاؤوا بالحق { فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا } اليوم { أو نرد } أو هل نرد إلى الدنيا وقرئ بالنصب عطفا على { فيشفعوا } أو لأن { أو } بمعنى إلى أن فعلى الأول المسؤول أحد الأمرين الشفاعة أن ردهم إلى الدنيا وعلى الثاني أن يكون لهم شفعاء إما لأحد الأمرين أو لأمر واحد وهو الرد { فنعمل غير الذي كنا نعمل } جواب الاستفهام الثاني وقرئ بالرفع أي فنحن نعمل { قد خسروا أنفسهم } بصرف أعمارهم في الكفر { وضل عنهم ما كانوا يفترون } بطل عنهم فلم ينفعهم

54 - { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام } أي في ستة أوقات كقوله : { ومن يولهم يومئذ دبره } أو في مقدار ستة أيام فإن المتعارف باليوم زمان طلوع الشمس إلى غروبها ولم يكن حينئذ وفي خلق الأشياء مدرجا مع القدرة على إيجادها دفعة دليل للاختيار واعتبار للنظار وحث على التأني في الأمور { ثم استوى على العرش } استوى أمره أو استولى وعن أصحابنا أن الاستواء على العرش صفة لله بلا كيف والمعنى : أن له تعالى استواء على الوجه الذي عناه منزها عن الاستقرار والتمكين والعرش الجسم المحيط بسائر الأجسام سمي به لارتفاعه أو للتشبيه بسرير الملك فإن الأمور والتدابير تنزل منه وقيل الملك { يغشي الليل النهار } يغطيه به ولم يذكر عكسه للعلم به أو لأن اللفظ يحتملهما ولذلك قرئ { يغشي الليل النهار } بنصب { الليل } ورفع { النهار } قرأ حمزة و الكسائي و يعقوب و أبو بكر عن عاصم بالتشديد فيه وفي ( الرعد ) للدلالة على التكرير { يطلبه حثيثا } يعقبه سريعا كالطالب له لا يفصل بينهما شيء ولحثيث فعيل من الحث وهو صفة مصدر محذوف أوحال من الفاعل بمعنى حاثا أو المفعول بمعنى محثوثا { والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره } بقضائه وتصريفه ونصبها بالعطف على السماوات ونصب مسخرات على الحال وقرأ ابن عامر كلها بالرفع على الابتداء والخبر { ألا له الخلق والأمر } فإنه الموجد والمتصرف { تبارك الله رب العالمين } تعالى بالوحدانية في الألوهية وتعظم بالتفرد في الربوبية وتحقيق الآية والله سبحانه وتعالى أعلم أن الكفرة كانوا متخذين أربابا فبين لهم أن المستحق للربوبية واحد وهو الله سبحانه وتعالى لأنه الذي له الخلق والأمر فإنه سبحانه وتعالى خلق العالم على ترتيب قويم وتدبير حكيم فأبدع الأفلاك ثم زينها بالكواكب كما أشار إليه بقوله تعالى : { فقضاهن سبع سماوات في يومين } وعمد إلى إيجاد الأجرام السفلية فخلق جسما قابلا للصور المتبدلة والهيئات المختلفة قسمها بصور نوعية متضادة الآثار والأفعال وأشار إليه بقوله وخلق الأرض أي ما في جهة السفل في يومين ثم أنشأ أنواع المواليد الثلاثة بتركيب موادها أولا وتصويرها ثانيا كما قال تعالى بعد قوله : { خلق الأرض في يومين } { وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام } أي مع اليومين الأولين لقوله تعالى في سورة السجدة { الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام } ثم لما تم له عالم الملك عمد إلى تدبيره كالملك الجالس على عرشه لتدبير المملكة فدبر الأمر من السماء إلى الأرض بتحريك الأفلاك وتسيير الكواكب وتكوير الليالي والأيام ثم صرح بما هو فذلكة التقرير ونتيجته فقال : { ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين } ثم أمرهم بأن يدعوه متذللين مخلصين فقال :

55 - { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } أي ذوي تضرع وخفية فإن الإخفاء دليل الإخلاص { إنه لا يحب المعتدين } المجاوزين ما أمروا به في الدعاء وغيره نبه به على أن الداعي ينبغي أن لا يطلب ما لا يليق به كرتبة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والصعود إلى السماء وقيل هو الصياح في الدعاء والإسهاب فيه [ وعن النبي صلى الله عليه و سلم سيكون قوم يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول : اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ثم قرأ { إنه لا يحب المعتدين } ]

56 - { ولا تفسدوا في الأرض } بالكفر والمعاصي { بعد إصلاحها } ببعث الأنبياء وشرع الأحكام { وادعوه خوفا وطمعا } ذوي خوف من الرد لقصور أعمالكم وعدم استحقاقكم وطمع في إجابته تفضلا وإحسانا لفرط رحمته { إن رحمة الله قريب من المحسنين } ترجيح للطمع وتنبيه على ما يتوسل به للإجابة وتذكير قريب لأن الرحمة بمعنى الرحم أو لأنه صفة محذوف أي أمر قريب أو على تشبيهه بفعيل الذي هو بمعنى مفعول أو الذي هو مصدر كالنقيض أو الفرق بين القريب من النسب والقريب من غيره

57 - { وهو الذي يرسل الرياح } وقرأ ابن كثير و حمزة و الكسائي ( الريح ) على الوحدة { نشرا } جمع نشور بمعنى ناشر وقرأ ابن عامر ( نشرا ) بالتخفيف حيث وقع حمزة و الكسائي ( نشرا ) بفتح النون حيث وقع على أنه مصدر في موقع الحال بمعنى ناشرات أو مفعول مطلق فإن الإرسال والنشر متقاربان وعاصم { بشرا } وهو تخفيف بشر جمع بشير وقد قرئ به و { بشرا } بفتح الباء مصدر بشره بمعنى باشرات أو للبشارة وبشرى { بين يدي رحمته } قدام رحمته يعني المطر فإن الصبا تثير السحاب والشمال تجمعه والجنوب تدره والدبور تفرقه { حتى إذا أقلت } أي حملت واشتقاقه من القلة فإن المقل للشيء يستقله { سحابا ثقالا } بالماء جمعه لأن السحاب جمع بمعنى السحائب { سقناه } أي السحاب وإفراد الضمير باعتبار اللفظ { لبلد ميت } لأجله أو لإحيائه أو لسقيه وقرئ { ميت } { فأنزلنا به الماء } بالبلد أو بالسحاب أو بالسوق أو بالريح وكذلك { فأخرجنا به } ويحتمل فيه عود الضمير إلى { الماء } وإذا كان ل { لبلد } فالباء للإلصاق في الأول وللظرفية في الثاني وإذا كان لغيره فهي للسببية فيهما { من كل الثمرات } من كل أنواعها { كذلك نخرج الموتى } الإشارة فيه إلى إخراج الثمرات أو إلى إحياء البلد الميت أي كما نحييه بإحداث القوة النامية فيه وتطريتها بأنواع النبات والثمرات نحرج الموتى من الأجداث ونحييها برد النفوس إلى مواد أبدانها بعد جمعها وتطريتها بالقوى والحواس { لعلكم تذكرون } فتعلمون أن من قدر على ذلك قدر على هذا

58 - { والبلد الطيب } الأرض الكريمة التربة { يخرج نباته بإذن ربه } بمشيئته وتيسيره عبر به عن كثرة النبات وحسنه وغزارة نفعه لأنه أوقعه في مقابلة { والذي خبث } أي كالحرة والسبخة { لا يخرج إلا نكدا } قليلا عديم النفع ونصبه على الحال وتقدير الكلام والبلد الذي خبث لا يخرج نباته إلا نكدا فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فصار مرفوعا مستترا وقرئ { يخرج } أي يخرجه البلد فيكون { إلا نكدا } مفعولا و { نكدا } بالإسكان للتخفيف { كذلك نصرف الآيات } نرددها ونكررها { لقوم يشكرون } نعمة الله فيتفكرون فيها ويعتبرون بها والآية مثل لمن تدبر الآيات وانتفع بها ولمن لم يرفع إليها رأسا ولم يتأثر بها

59 - { لقد أرسلنا نوحا إلى قومه } جواب قسم محذوف ولا تكاد تطلق هذه اللام إلا مع قد لأنها مظنة التوقع فإن المخاطب إذا سمعها توقع وقوع ما صدر بها ونوح بن لمك بن متوشلح بن إدريس أول نبي بعده بعث وهو ابن خمسين سنة أو أربعين { فقال يا قوم اعبدوا الله } أي اعبدوه وحده لقوله تعالى : { ما لكم من إله غيره } وقرأ الكسائي غيره بالكسر نعتا أولا بدلا على اللفظ حيث وقع إذا كان قبل إله من التي تخفض وقرئ بالنصب على الاستثناء { إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } إن لم تؤمنوا وهو وعيد وبيان للداعي إلى عبادته واليوم يوم القيامة أو يوم نزول الطوفان

60 - { قال الملأ من قومه } أي الأشراف فإنهم يملؤون العيون رواء { إنا لنراك في ضلال } زوال عن الحق { مبين } بين

61 - { قال يا قوم ليس بي ضلالة } أي شيء من الضلال بالغ في النفي كما بالغوا في الإثبات وعرض لهم به { ولكني رسول من رب العالمين } استدراك باعتبار ما يلزمه وهو كونه على هدى كأنه قال : ولكني على هدى في الغاية لأني رسول من الله سبحانه وتعالى

62 - { أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون } صفات لرسول أو استئناف ومساقها على الوجهين لبيان كونه رسولا وقرأ أبو عمرو { أبلغكم } بالتخفيف وجمع الرسالات لاختلاف أوقاتها أو لتنوع معانيها كالعقائد والمواعظ والأحكام أو لأن المراد بها ما أوحي إليه وإلى الأنبياء قبله كصحف شيث وإدريس وزيادة اللام في لكم للدلالة على إمحاض النصح لهم وفي أعلم من الله تقريرا لما أوعدهم به فإن معناه أعلم من قدرته وشدة بطشه أو من جهته بالوحي أشياء لا علم لكم بها

63 - { أوعجبتم } الهمزة للإنكار والواو للعطف على محذوف أي أكذبتم وعجبتم { أن جاءكم } من أن جاءكم { ذكر من ربكم } رسالة أو موعظة { على رجل } على لسان رجل { منكم } من جملتكم أو من جنسكم فإنهم كانوا يتعجبون من إرسال البشر وقولون { لو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين } { لينذركم } عاقبة الكفر والمعاصي { ولتتقوا } منهما بسبب الإنذار { ولعلكم ترحمون } بالتقوى وفائدة حرف الترجي التنبيه على أن التقوى غير موجب والترحم من الله سبحانه وتعالى تفضل وأن المتقي ينبغي أن لا يعتمد على تقواه ولا يأمن من عذاب الله تعالى

64 - { فكذبوه فأنجيناه والذين معه } وهم من آمن به وكانوا أربعين رجلا وأربعين امرأة وقيل تسعة بنوه سام وحام ويافث وستة ممن آمن به { في الفلك } متعلق بمعه أو بأنجيناه أو حال من الموصول أومن الضمير في معه { وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا } بالطوفان { إنهم كانوا قوما عمين } عمي القلوب غير مستبصرين وأصله عمين فخفف وقرئ ( عامين ) والأول أبلغ لدلالته على الثبات

65 - { وإلى عاد أخاهم } عطف على نوحا إلى قومه { هودا } عطف بيان لأخاهم والمراد به الواحد منهم كقولهم يا أخا العرب للواحد منهم فإنه هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح وقيل هود بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح ابن عم أبي عاد وإنما جعل منهم لأنهم أفهم لقوله وأعرف بحاله وأرغب في اقتفائه { قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } استأنف به ولم يعطف كأنه جواب سائل قال : فما قال لهم حين أرسل ؟ وكذلك جوابهم { أفلا تتقون } عذاب الله وكأن قومه كانوا أقرب من قوم نوح عليه الصلاة و السلام ولذلك قال { أفلا تتقون } { قال الملأ الذين كفروا من قومه } إذ كان من أشرافهم من آمن به كمرثد بن سعد

66 - { إنا لنراك في سفاهة } متمكنا في خفة عقل راسخا فيها حيث فارقت دين قومك { وإنا لنظنك من الكاذبين }

67 - { قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين }

68 - { أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين }

69 - { أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم } سبق تفسيره وفي إجابة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الكفرة عن كلماتهم الحمقاء بما أجابوا والإعراض عن مقابلتهم كمال النصح والشفقة وهضم النفس وحسن المجادلة وهكذا ينبغي لكل ناصح وفي قوله : { وأنا لكم ناصح أمين } تنبيه على أنهم عرفوه بالأمرين وقرأ أبو عمرو { أبلغكم } في المرضعين في هذه السورة وفي ( الأحقاف ) مخففا { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح } أي في مساكنهم أو في الأرض بأن جعلكم ملوكا فإن شداد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض من رمل عالج إلى شحر عمان خوفهم من عقاب الله ثم ذكرهم بإنعامه { وزادكم في الخلق بسطة } قامة وقوة { فاذكروا آلاء الله } تعميم بعد تخصيص { لعلكم تفلحون } لكي يفضي بكم ذكر النعم إلى شكرها المؤدي الفلاح

70 - { قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا } استبعدوا اختصاص الله بالعبادة والإعراض عما أشرك به آباؤهم انهماكا في التقليد وحبا لما ألفوه ومعنى المجيء في { أجئتنا } إما المجيء من مكان اعتزل به عن قومه أو السماء على التهكم أو القصد على المجاز كقولهم ذهب يسبني { فأتنا بما تعدنا } من العذاب المدلول عليه بقوله { أفلا تتقون } { إن كنت من الصادقين } فيه

71 - { قال قد وقع عليكم } قد وجب وحق عليكم أو نزل عليكم على أن المتوقع كالواقع { من ربكم رجس } عذاب من الإرتجاس وهو الاضطراب { وغضب } إرادة انتقام { أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان } أي في أشياء سميتموها آلهة وليس فيها معنى الإلهية لأن المستحق للعبادة بالذات هو الموجد للكل وأنها لو استحقت كان استحقاقها بجعله تعالى إما بإنزال آية أو بنصب حجة بين أن منتهى حجتهم وسندهم أن الأصنام تسمى آلهة من غير دليل يدل على تحقق المسمى وإسناد الاطلاق إلى من لا يؤبه بقوله إظهارا لغاية جهالتهم وفرط غباوتهم واستدل به على أن الاسم هو المسمى وأن اللغات توقيفية إذ لو لم يكن كذلك لم يتوجه الذم والإبطال بأنها أسماء مخترعة لم ينزل الله بها سلطانا وضعفهما ظاهر { فانتظروا } لما وضح الحق وأنتم مصرون على العناد نزول العذاب بكم { إني معكم من المنتظرين }

72 - { فأنجيناه والذين معه } في الدين { برحمة منا } عليهم { وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا } أي استأصلناهم { وما كانوا مؤمنين } تعرض بمن آمن منهم وتنبيه على أن الفارق بين من نجا وبين منهلك هو الإيمان روي انهم كانوا يعبدون الأصنام فبعث الله إليهم هودا فكذبوه وازدادوا عتوا فأمسك الله القطر عنهم ثلاث سنين حتى جهدهم وكان الناس حينئذ مسلمهم ومشركهم إذا نزل بهم بلاء توجهوا إلى البيت الحرام وطلبوا من الله الفرح فجهزوا إليه قيل بن عثر ومرثد بن سعد في سبعين من أعيانهم وكان إذ ذاك بمكة العمالقة أولاد عمليق بن لاوذ بن سام وسيدهم معاوية بن بكر فلما قدموا عليه وهو بظاهر مكة أنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره فلبثوا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان قينتان له فلما رأى ذهولهم باللهو عما بعثوا له أهمه ذلك واستحيا أن يكلمهم في مخافة أن يظنوا به ثقل مقامهم فعلم القينتين :
( ألا ياقيل ويحك قم فهينم ... لعل الله يسقينا الغماما )
( فيسقي أرض عاد إن عادا ... قد امسوا ما يبينون الكلاما )
حتى غنتا به فأزعجهم ذلك فقال مرثد : والله لا تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى الله سبحانه وتعالى سقيتم فقالوا لمعاوية : احبسه عنا لا يقدمن معنا مكة فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا ثم دخلوا مكة فقال قيل : للهم اسق عادا ما كنت تسقيهم فأنشأ الله تعالى سحابات ثلاثا بيضاء وحمراء وسوداء ثم ناداه مناد من السماء يا قيل : اختر لنفسك ولقومك : فقال اخترت السوداء فإنها أكثرهن ماء فخرجت على عاد من وادي المغيث فاستبشروا بها وقالوا { هذا عارض ممطرنا } فجاءتهم منها ريح عقيم فأهلكتهم ونجا هود والمؤمنون معه فأتوا مكة وعبدوا الله سبحانه وتعالى فيها حتى ماتوا

73 - { وإلى ثمود } قبيلة أخرى من العرب سموا باسم أبيهم الأكبر ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح وقيل سموا به لقلة مائهم من الثمد وهو الماء القليل وقرئ مصروفا بتأويل الحي أو باعتبار الأصل وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى { أخاهم صالحا } صالح بن عبيد بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود
{ قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم } معجزة ظاهرة الدلالة على نبوتي وقوله : { هذه ناقة الله لكم آية } استئناف لبيانها وآية نصب على الحال والعامل فيها معنى الإشارة ولكم بيان لمن هي له آية ويجوز أن تكون { ناقة الله } بدلا أو عطف بيان ولكم خبرا عاملا في { آية } وإضافة الناقة إلى الله لتعظيمها ولأنها جاءت من عنده بلا وسائط وأسباب معهودة ولذلك كانت آية { فذروها تأكل في أرض الله } العشب { ولا تمسوها بسوء } نهى عن المس الذي هو مقدمة الإصابة بالسوء الجامع لأنواع الأذى مبالغة في الأمر وإزاحة للعذر { فيأخذكم عذاب أليم } جواب النهي

74 - { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض } أرض الحجر { تتخذون من سهولها قصورا } أي تبنون في سهولها او من سهولة الأرض بما تعملون منها كاللبن والآخر { وتنحتون الجبال بيوتا } وقرئ { تنحتون } بالفتح وتنحاتون بالإشباع وانتصاب { بيوتا } على الحال المقدرة أو المفعول على أن التقدير بيوتا من الجبال أو تنحتون بمعنى تتخذون { فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين }

75 - { قال الملأ الذين استكبروا من قومه } أي عن الإيمان { للذين استضعفوا } أي اللذين استضعفوهم واستذلوهم { لمن آمن منهم } بدل من الذين استضعفوا بدل الكل إن كان الضمير لقومه وبدل البعض إن كان للذين وقرأ ابن عامر وقال الملأ بالواو { أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه } قالوه على الاستهزاء { قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون } عدلوا به عن الجواب السوي الذي هو نعم تنبيها على إن إرساله أظهر من أن يشك فيه عاقل ويخفى على ذي رأي وإنما الكلام فيمن آمن به ومن كفر فلذلك قال :

76 - { قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون } على وجه المقابلة ووضعوا { آمنتم به } موضع { أرسل به } ردا لما جعلوه معلوما مسلما

77 - { فعقروا الناقة } فنحروها أسند إلى جميعهم فعل بعضهم للملابسة أو لأنه كان برضاهم { وعتوا عن أمر ربهم } واستكبروا عن امتثاله وهو ما بلغهم صالح عليه الصلاة و السلام بقوله : { فذروها } { وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين }

78 - { فأخذتهم الرجفة } الزلزلة { فأصبحوا في دارهم جاثمين } خامدين ميتين روي : أنهم بعد عاد عمروا بلادهم وخلفوهم وكثروا وعمروا أعمارا طوالا لا تفي بها الأبنية فنحتوا البيوت من الجبال وكانوا في خصب وسعة فعتوا وأفسدوا في الأرض وعبدوا الأصنام فبعث الله إليهم صالحا من أشرافهم فأنذرهم فسألوه آية فقال أية آية تريدون قالوا : اخرج معنا إلى عيدنا فتدعو إلهك وندعو آلهتنا فمن استجيب له اتبع فخرج معهم فدعوا أصنامهم فلم تجبهم ثم أشار سيدهم جندع بن عمروا إلى صخرة منفردة يقال لها الكاثبة وقال له اخرج من هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء إن فعلت صدقناك فأخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن فعلت ذلك لتؤمنن فقالوا : نعم فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا وهم ينظرون ثم نتجت ولدا مثلها في العظم فآمن به جندع في جماعة ومنع الباقين من الإيمان ذؤاب بن عمرو والحباب صاحب أوثانهم ورباب بن صغر كاهنهم فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر وترد الماء غبا فما ترفع رأسها من البئر حتى تشرب كل ما فيها ثم تتفحج فيحلبون ما شاؤوا حتى تمتلئ أوانيهم فيشربون ويدخرون وكانت تصيف بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم إلى بطنه وتشتو ببطنه فتهرب مواشيهم إلى ظهره فشق ذلك عليهم وزينت عقرها لهم عنيزة أم غنم وصدقة بنت المختار فعقروها واقتسموا لحمها فرقي سقيها جبلا اسمه قارة فرغا ثلاثا فقال صالح لهم أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب فلم يقدروا عليه إذ انفجرت الصخرة بعد رغائه فدخلها فقال لهم صالح : تصبح وجوهكم عدا مصفرة وبعد عد محمرة واليوم الثالث مسودة ثم يصبحكم العذاب فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه فأنجاه الله إلى أرض فلسطين ولما كان ضحوة اليوم الرابع تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم فهلكوا

79 - { فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين } ظاهره أن توليه عنهم كان بعد أن أبصرهم جاثمين ولعله خاطبهم به بعد هلاكهم كما خاطب رسول الله صلى الله عليه و سلم أهل قليب بدر وقال : ( إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا أو ذكر ذلك على سبيل التحسر عليهم

80 - { ولوطا } أي وأرسلنا لوطا { إذ قال لقومه } وقت قوله لهم أو واذكر لوطا وإذ بدل منه { أتأتون الفاحشة } توبيخ وتقريع على تلك الفعلة المتمادية في القبح { ما سبقكم بها من أحد من العالمين } ما فعلها قبلكم أحد قط والباء للتعدية ومن الأولى لتأكيد النفي والاستغراق والثانية للتبعيض والجملة استئناف مقرر للإنكار كأنه وبخهم أولا بإتيان الفاحشة ثم باختراعها فإنه أسوأ

81 - { إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء } بيان لقوله : { أتأتون الفاحشة } وهو أبلغ في الإنكار والتوبيخ وقرأ نافع و حفص { إنكم } على الإخبار المستأنف وشهوة مفعول له أو مصدر في موقع الحال وفي التقييد بها وصفهم بالبهيمية الصرفة وتنبيه على أن العاقل ينبغي أن يكون الداعي له إلى المباشرة طلب الولد وبقاء النوع لا قضاء الوطر { بل أنتم قوم مسرفون } إضراب عن الإنكار إلى الإخبار عن حالهم التي أدت بهم إلى ارتكاب أمثالها وهي اعتياد الإسراف في كل شيء أو عن الإنكار عليها إلى الذم على جميع معايبهم أو عن محذوف مثل لا عذر لكم فيه بل أنتم قوم عادتكم الإسراف

82 - { وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم } أي ما جاؤوا بما يكون جوابا عن كلامه ولكنهم قابلوا نصحه بالأمر بإخراجه فيمن معه من المؤمنين من قريتهم والاستهزاء بهم فقالوا : { إنهم أناس يتطهرون } أي من الفواحش

83 - { فأنجيناه وأهله } أي من آمن به { إلا امرأته } استثناء من أهله فإنها كانت تسر الكفر { كانت من الغابرين } من الذين بقوا في ديارهم فهلكوا والتذكير لتغليب الذكور

84 - { وأمطرنا عليهم مطرا } أي نوعا من المطر عجيبا وهو مبين بقوله : { وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل } { فانظر كيف كان عاقبة المجرمين } روي : أن لوط بن هاران بن تارح لما هجر مع عمه إبراهيم عليه السلام إلى الشام نزل بالأردن فأرسله الله إلى أهل سدوم ليدعوهم إلى الله وينهاهم عما اخترعوه من الفاحشة فلم ينتهوا عنها فأمطر الله عليهم الحجارة فهلكوا وقيل خسف بالمقيمين منهم وأمطرت الحجارة على مسافريهم

85 - { وإلى مدين أخاهم شعيبا } أي وأرسلنا إليهم وهم أولاد مدين بن إبراهيم خليل الله شعيب بن ميكائيل بن بسجر بن مدين وكان يقال له خطيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لحسن مراجعته قومه { قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم } يريد المعجزة التي كانت له وليس في القرآن أنها ما هي وما روي من محاربة عصا موسى عليه الصلاة و السلام التنين وولادة الغنم التي دفعها إليه الدرع خاصة وكانت الموعودة له من أولادها ووقوع عصا آدم على يده في المرات السبع متأخرة عن هذه المقاولة ويحتمل أن تكون كرامة لموسى عليه السلام أو إرهاصا لنبوته { فأوفوا الكيل } أي آلة الكيل على الإضمار أو إطلاق الكيل على المكيال كالعيش على المعاش لقوله : { والميزان } كما قال في سورة ( هود ) { أوفوا المكيال والميزان } أو الكيل ووزن الميزان ويجوز أن يكون الميزان مصدرا كالميعاد { ولا تبخسوا الناس أشياءهم } ولا تنقصوهم حقوقهم وإنما قال أشياءهم للتعميم تنبيها على أنهم كانوا يبخسون الجليل والحقير والقليل والكثير وقيل كانوا مكاسين لا يدعون شيئا إلا مكسوه { ولا تفسدوا في الأرض } بالكفر والحيف { بعد إصلاحها } بعدما أصلح أمرها أو أهلها الأنبياء وأتباعهم بالشرائع او أصلحوا فيها والإضافة إليها كالإضافة في { بل مكر الليل والنهار } { ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين } إشارة إلى العمل بما أمرهم به ونهاهم عنه ومعنى الخيرية إما الزيادة مطلقا أو الإنسانية وحسن الأحدوثة وجمع المال

86 - { ولا تقعدوا بكل صراط توعدون } بكل طريق من طرق الدين كالشيطان وصراط الحق و إن كان واحدا لكنه يتشعب إلى معارف وحدود وأحكام وكانوا إذا رأوا أحدا يسعى في شيء منها منعوه وقيل كانوا يجلسون على المراصد فيقولون لمن يريد شعبيا إنه كذاب فلا يفتننك عن دينك ويوعدون لمن آمن به وقيل كانوا يقطعون الطريق { وتصدون عن سبيل الله } يعني الذي قعدوا عليه فوضع الظاهر موضع المضمر بيانا لكل صراط ودلالة على عظم ما يصدون عنه وتقبيحا لما كانوا عليه أو الإيمان بالله { من آمن به } أي بالله أو بكل صراط على الأول ومن مفعول تصدون على إعمال الأقرب ولو كان مفعول توعدون لقال وتصدونهم وتوعدون بما عطف عليه في موقع الحال من الضمير في تقعدوا { وتبغونها عوجا } وتطلبون لسبيل الله عوجا بإلقاء الشبه أو وصفها للناس أنها معوجة { واذكروا إذ كنتم قليلا } عددكم أو عددكم { فكثركم } بالبركة في النسل أو المال { وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين } من الأمم قبلكم فاعتبروا بهم

87 - { وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا } فتربصوا { حتى يحكم الله بيننا } أي بين الفريقين بنصر المحقين على المبطلين فهو وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين { وهو خير الحاكمين } إذ لا معقب لحكمه ولا حيف فيه

88 - { قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا } أي ليكونن أحد الأمرين إما إخراجكم من القرية أو عودكم في الكفر وشعيب عليه الصلاة السلام لم يكن في ملتهم قط لأن الأنبياء لا يجوز عليهم الكفر مطلقا لكن غلبوا الجماعة على الواحد فخوطب هو وقومه بخطابهم وعلى ذلك أجرى الجواب في قوله { قال أو لو كنا كارهين } أي كيف نعود فيها ونحن كارهون لها أو أتعيدوننا في حال كراهتنا

89 - { قد افترينا على الله كذبا } قد اختلقنا عليه { إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها } شرط جوابه محذوف دليله : { قد افترينا } وهو بمعنى المستقبل لأنه لم يقع لكنه جعل كالواقع للمبالغة وأدخل عليه قد لتقريبه من الحال أي قد افترينا الآن إن هممنا بالعود بعد الخلاص منها حيث نزعم أن لله تعالى ندا وأنه تبين لنا أن ما كنا عليه باطل وما أنتم عليه حق وقيل لأنه جواب قسم وتقديره : والله لقد افترينا { وما يكون لنا } وما يصح لنا { أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا } خذلاننا وارتدادنا وفيه دليل على أن الكفر بمشيئة الله
وقيل أراد به حسم طمعهم في العود بالتعليق على ما لا يكون { وسع ربنا كل شيء علما } أي أحاط علمه بكل شيء مما كان وما يكون منا ومنكم { على الله توكلنا } في أن يثبتنا على الإيمان وخلصنا من الأشرار { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق } احكم بيننا وبينهم والفتاح القاضي والفتاحة الحكومة أو أظهر أمرنا حتى ينكشف ما بيننا وبينهم ويتميز المحق من المبطل من فتح المشكل إذ بينه { وأنت خير الفاتحين } على المعنيين

90 - { وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا } وتركتم دينكم { إنكم إذا لخاسرون } لاستبدالكم ضلالته بهداكم أو لفوات ما يحصل لكم بالبخس والتطفيف وهو ساد مسد جواب الشرط والقسم الموطأ باللام

91 - { فأخذتهم الرجفة } الزلزلة وفي سورة الحجر { فأخذتهم الصيحة } ولعلها كانت من مباديها { فأصبحوا في دارهم جاثمين } أي في مدينتهم

92 - { الذين كذبوا شعيبا } مبتدأ خبره { كأن لم يغنوا فيها } أي استؤصلوا كأن لم يقيموا بها والمغنى المنزل { الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين } دينا ودنيا لا الذين صدقوه واتبعوه كما زعموا فإنهم الرابحون في الدارين وللتنبيه على هذا والمبالغة فيه كرر الموصول واستأنف بالجملتين وأتى بهما اسميتين

93 - { فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم } قاله تأسفا بهم لشدة حزنه عليهم ثم أنكر على نفس فقال { فكيف آسى على قوم كافرين } ليسوا أهل حزن لاستحقاقهم ما نزل عليهم بكفرهم أو قاله اعتذارا عن عدم شدة حزنه عليهم والمعنى لقد بالغت في الإبلاغ والإنذار وبذلت وسعي في النصح والإشفاق فلم تصدقوا قولي فكيف آسى عليكم وقرء { فكيف آسى } بإمالتين

94 - { وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء } بالبؤس والضر { لعلهم يضرعون } حتى يتضرعوا ويتذللوا

95 - { ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة } أي أعطيناهم بدل ما كانوا فيه من البلاء والشدة السلامة والسعة ابتلاء لهم بالأمرين { حتى عفوا } كثروا عددا وعددا يقال عفا النبات إذا كثر ومنه إعفاء اللحى { وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء } كفرانا لنعمة الله ونسيانا لذكره واعتقادا بأنه من عادة الدهر يعاقب في الناي بين الضراء والسراء وقد مس آباءنا منه مثل ما مسنا { فأخذناهم بغتة } فجأة { وهم لا يشعرون } بنزول العذاب

96 - { ولو أن أهل القرى } يعني القرى المدلول عليها بقوله : { وما أرسلنا في قرية من نبي } وقيل مكة وما حولها { آمنوا واتقوا } مكان كفرهم وعصيانهم { لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } لوسعنا عليهم الخير ليسرناه لهم من كل جانب وقيل المراد المطر والنبات وقرأ ابن عامر ( لفتحنا ) بالتشديد { ولكن كذبوا } الرسل { فأخذناهم بما كانوا يكسبون } من الكفر والمعاصي

97 - { أفأمن أهل القرى } عطف على قوله : { فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون } وما بينهما اعتراض والمعنى : أبعد ذلك أمن أهل القرى { أن يأتيهم بأسنا بياتا } تبييتا أو وقت بيات أو مبيتا أو مبيتين وهو في الأصل مصدر بمعنى البيتوتة ويجيء بمعنى التبييت كالسلام بمعنى التسليم { وهم نائمون } حل من ضميرهم البارز أو المستتر في بياتا

98 - { أو أمن أهل القرى } وقرأ ابن كثي و نافع و ابن عامر أو بالسكون على الترديد { أن يأتيهم بأسنا ضحى } ضحوة النهار وهو في الأصل ضوء الشمس إذا ارتفعت : { وهم يلعبون } يلهون من فرط الغفلة أو يشتغلون بما لا ينفعهم

99 - { أفأمنوا مكر الله } تكرير لقوله : { أفأمن أهل القرى } و { مكر الله } استعارة لاستدراج العبد وأخذه من حيث لا يحتسب { فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون } الذين خسروا بالكفر وترك النظر والاعتبار

100 - { أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها } أي مخلفون من خلا قبلهم ويرثون ديارهم وإنما عدي يهد باللام لأنه بمعنى يبين { أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم } أن الشأن لو نشاء أصبناهم بجزاء ذنوبهم كما أصبنا من قبلهم وهو فاعل يهد ومن قرأه بالنون جعله مفعولا { ونطبع على قلوبهم } عطف على ما دل عليه أو لم يهد أي يغفلون عن الهداية أو منقطع عنه بمعنى ونحن نطبع ولا يجوز عطفه على أصبناهم على أنه بمعنى وطبعنا لأنه في سياقه جواب لولا فضائه إلى نفي الطبع عنهم { فهم لا يسمعون } سماع تفهم واعتبار

101 - { تلك القرى } يعني قرى الأمم المار ذكرهم { نقص عليك من أنبائها } حل إن جعل { القرى } خبرا وتكون إفادته بالتقييد بها وخبر إن جعلت صفة ويجوز أن يكونا خبرين { من } للتبعيض أي نقص بعض أنبائها ولها أنباء غيرها لا نقصها { ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات } بالمعجزات { فما كانوا ليؤمنوا } عند مجيئهم بها { بما كذبوا من قبل } بما كذبوه من قبل الرسل بل كانوا مستمرين على التكذيب أو فما كانوا ليؤمنوا مدة عمرهم بما كذبوا ب أولا حين جاءتهم الرسل ولم تؤثر فيهم قط دعوتهم المتطاولة والآيات المتتابعة واللام لتأكيد النفي والدلالة على أنهم ما صلحوا للإيمان لمنافاته لحالهم في التصميم على الكفر والطبع على قلوبهم { كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين } فلا بلين شكيمتهم بالآيات والنذر

102 - { وما وجدنا لأكثرهم } لأكثر الناس والآية اعتراض أو لأكثر الأمم المذكورين { من عهد } من وفاء عهد فإن أكثرهم نقضوا ما عهد الله إليهم في الإيمان والتقوى بإنزال الآيات ونصب الحجج أو ما عهدوا إليه حين كانوا في ضرر مخافة مثل { لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين } { وإن وجدنا أكثرهم } أي علمناهم { لفاسقين } من وجدت زيدا ذا الحفاظ لدخول أن المخففة واللام الفارقة وذلك لا يسوغ إلا في المبتدأ والخبر والأفعال الداخلة عليهما وعند الكوفيين إن للنفي واللام بمعنى إلا

103 - { ثم بعثنا من بعدهم موسى } الضمير للرسل في قوله : { ولقد جاءتهم رسلهم } أو للأمم ز { بآياتنا } يعنى المعجزات { إلى فرعون وملئه فظلموا بها } بأن كفروا بها مكان الإيمان الذي نهو من حقها لوضوحها ولهذا المعنى وضع ظلموا موضع كفروا وفرعون لقب لمن ملك مصر ككسرى لمن ملك فارس وكان اسمه قابوس وقيل الوليد بن مصعب بن الريان { فانظر كيف كان عاقبة المفسدين }

104 - { وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين } إليك وقوله : { حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق } لعله جواب لتكذيبه إياه في دعوى الرسالة وإنما لم يذكر لدلالة قوله { فظلموا بها } عليه وكان أصله { حقيق على أن لا أقول } كما قرأ نافع فقلب لا منا لإلباس كقوله : ( وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر ) أو لأن ما لزمك فقد لزمته أو للإغرق في الوصف بالصدق والمعنى أنه حق واجب على القول الحق أن أكون أنا قائله لا يرضى إلا بمثلي ناطقا به أو ضمن حقيق بمعنى حريص أو وضع على مكان الباء وقرئ { حقيق على أن لا أقول } بدون { على }

105 - { قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل } فخلهم حتى يرجعوا معي إلى الأرض المقدسة التي هي وطن آبائهم وكان قد استعبدهم واستخدمهم في الأعمال

106 - { قال إن كنت جئت بآية } من عند من أرسلك { فأت بها } فأحضرها عندي ليثبت بها صدقك { إن كنت من الصادقين } في الدعوى

107 - { فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين } ظاهر أمره لا يشك في أنه ثعبان وهو الحية العظيمة روي : انه لما ألقاها صارت ثعبانا أشعر فاغرا فاه بين لحييه ثمانون ذراعا وضع لحيه الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر ثم توجه نحو فرعون فهرب منه وأحدث وانهزم الناس مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون ألفا وصاح فرعون يا موسى أنشدك بالذي أرسلك خذه وأنا أومن بك وأرسل معك بني إسرائيل فأخذه فعاد عصا

108 - { ونزع يده } من جيبه أو من تحت إبطه { فإذا هي بيضاء للناظرين } أي بيضاء بياضا خارجا عن العادة تجتمع عليها النظارة أو بيضاء للنظار لا أنها كانت بيضاء في جبلتها روي : أنه عليه السلام كان آدم شديد الأدمة فأدخل يده في جيبه أو تحت إبطه ثم مزعها فإذا هي بيضاء نورانية غلب شعاعها شعاع الشمس

109 - { قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم } قيل قاله هو وإشراف قومه على سبيل التشاور في أمره فحكى عنه في سورة الشعراء وعنهم ها هنا

110 - { يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون } تشيرون في أن نفعل

111 - { قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين }

112 - { يأتوك بكل ساحر عليم } كأنه اتفقت عليه آراؤهم فأشاروا به على فرعون والإرجاء التأخير أي أخر أمره وأصله أرجئه كنا قرأ أبو عمروا و أبو بكر و يعقوب من أرجأت وكذلك ( أرجئوه ) على قراءة ابن كثير على الأصل في الضمير أو { أرجه } من أرجيت كما قرأ نافع في رواية ورش و إسماعيل و الكسائي وأما قراءته في رواية قالون { أرجه } بحذف الياء فللاكتفاء بالكسرة عنها وأما قراءة حمزة و عاصم و حفص { أرجه } يسكون الهاء المفصل بالمتصل وجعل جه كابل في إسكان وسطه وأما قراءة ابن عامر برواية ابن ذكوان ( أرجئه ) بالهمزة وكسر الهاء فلا يرتضيه النحاة فإن الهاء لا تكسر إلا إذا كان قبلها كسرة أو ياء ساكنة ووجهه أن الهمزة لما كانت تقلب ياء أجريت مجراها وقرأ حمزة و الكسائي ( بكل سحار ) فيه وفي ( يونس ) ويؤيده اتفاقهم عليه في ( الشعراء )

113 - { وجاء السحرة فرعون } بعد ما أرسل الشرطة في طلبهم { قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين } استأنف به كأنه جواب سائل قال : ما قالوا إذا جاؤوا ؟ وقرأ ابن كثير و نافع و حفص عن عاصم { إن لنا لأجرا } على الإخبار ويجاب الأجر كأنهم قالوا لا بد لنا من أجر والتنكير للتعظيم

114 - { قال نعم } إن لكم لأجرا { وإنكم لمن المقربين } عطف على ما سد مسده { نعم } وزيادة على الجواب لتحريضهم

115 - { قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين } خيروا موسى مراعاة للأدب أو إظهارا للجلادة ولكن كانت رغبتهم في أن يلقوا قبله فنبهوا عليها بتغيير النظم إلى ما هو أبلغ وتعريف الخبر وتوسيط الفصل أو تأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل فلذلك :

116 - { قال بل ألقوا } كرما وتسامحا أو ازدراء بهم ووثوقا على شأنه { فلما ألقوا سحروا أعين الناس } بأن خيلوا إليها ما الحقيقة بخلافه { واسترهبوهم } وأرهبوهم إرهابا شديدا كأنهم طلبوا رهبتهم { وجاؤوا بسحر عظيم } في فنه روي أنهم ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا كأنها حيات ملأت الوادي وركب بعضها بعضا

117 - { وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك } فألقاها فصارت حية { فإذا هي تلقف ما يأفكون } أي ما يزورونه من الإفك وهو الصرف وقلب الشيء عن وجهه ويجوز أن تكون ما مصدرة وهي مع الفعل بمعنى المفعول روي : أنها لما تلقفت حبالهم وعصيهم وابتلعتها بأسرها أقبلت على الحاضرين فهربوا وازدحموا حتى هلك جمع عظيم ثم أخذها موسى فصارت عصا كما كانت فقال السحرة : لو كان هذا سحرا لبقيت حبالنا وعصينا وقرأ حفص عن عاصم { تلقف } ها هنا وفي ( طه ) و ( الشعراء )

118 - { فوقع الحق } فثبت لظهور أمره { وبطل ما كانوا يعملون } من السحر والمعارضة

119 - { فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين } أي صاروا أذلاء مبهوتين أو رجعوا إلى المدينة أذلاء مقهورين والضمير لفرعون وقومه

120 - { وألقي السحرة ساجدين } جعلهم ملقين على وجوههم تنبيها على أن الحق بهرهم واضطرهم إلى السجود بحيث لم يبق لهم تمالك أو أن الله ألهمهم ذلك وحملهم عليه حتى ينكسر فرعون بالذين أراد بهم كسر موسى وينقلب الأمر عليه أو مبالغة في سرعة خرورهم وشدته

121 - { قالوا آمنا برب العالمين }

122 - { رب موسى وهارون } أبدلوا الثاني من الأول لئلا يتوهم أنهم أرادوا به فرعون

123 - { قال فرعون آمنتم به } بالله أولا بموسى والاستفهام فيه للإنكار وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وروح عن يعقوب وهشام بتحقيق الهمزتين على الأصل
وقرأ حفص { آمنتم به } على الإخبار وقرأ قنبل { قال فرعون } { آمنتم } يبدل في حال الوصل من همزة الاستفهام بهمزة ومدة مطولة في تقدير ألفين في طه على الخبر بهمزة وألف وقرأ في الشعراء على الاستفهام بهمزة ومدة مطولة في تقدير ألفين وقرأ الباقون بتحقيق الهمزة الأولى وتليين الثانية { قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه } أي إن هذا الصنيع لحيلة احتلتموها أنتم وموسى { في المدينة } في مصر قبل أن تخرجوا للميعاد { لتخرجوا منها أهلها } يعني القبط وتخلص لكم ولبني إسرائيل { فسوف تعلمون } عاقبة ما فعلتم وهو تهديد مجمل تفصيله :

124 - { لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف } من كل شق طرفا ز { ثم لأصلبنكم أجمعين } تفضيحا لكم وتنكيلا لأمثالكم قيل إنه أول من سن ذلك فشرعه الله للقطاع تعظيما لجرمهم ولذلك سماه محاربة لله ورسوله ولكن على التعاقب لفرط رحمته

125 - { قالوا إنا إلى ربنا منقلبون } بالموت لا محالة فلا نبالي بوعيدك أو إنا منقلبون إلى ربنا وثوابه إن فعلت بنا ذلك كأنهم استطابوه شغفا على لقاء الله أو مصيرنا ومصيرك إلى ربنا فيحكم بيننا

126 - { وما تنقم منا } وما تنكر منا { إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا } وهو خير الأعمال وأصل المناقب ليس مما يتأتى لنا العدول عنه طلبا لمرضاتك ثم فزعوا إلى الله سبحانه وتعالى فقالوا : { ربنا أفرغ علينا صبرا } أفض علينا صبرا يغمرنا كما يفرغ الماء او صب علينا ما يطهرنا من الآثام وهو الصبر على وعيد فرعون { وتوفنا مسلمين } ثابتين على الإسلام قيل إنه فعل بهم ما أوعدهم به وقيل إ ه لم يقدر عليهم لقوله تعالى : { أنتما ومن اتبعكما الغالبون }

127 - { وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض } بتغيير الناس عليك ودعوتهم إلى مخالفتك { ويذرك } عطف على يفسدوا أو دواب الاستفهام بالواو كقول الحطيئة :
( ألم أك جاركم ويكون بيني ... وبينكم المودة والإخاء )
على معنى أيكون منك ترك موسى ويكون منه تركه إياك وقرئ بالرفع على أنه عطف على أنذر أو استئناف أو حال وقرئ بالسكون كأنه قيل : يفسدوا ويذرك كقوله تعالى : { فأصدق وأكن } { وآلهتك } معبوداتك قيل كان يعبد الكواكب وقيل صنع لقومه أصناما وأمرهم أن يعبدوها تقربا إليه ولذلك قال : { أنا ربكم الأعلى } وقرئ ( إلاهتك ) أي عبادتك { قال } فرعون { سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم } كما كنا نفعل من قبل ليعلم أنا على ما كنا عليه من القهر والغلبة ولا يتوهم أنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكنا على يده وقرأ ابن كثير و نافع ( سنقتل ) بالتخفيف { وإنا فوقهم قاهرون } غالبون وهم مقهورون تحت أيدينا

128 - { قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا } لما سمعوا قول فرعون وتضجروا منه تسكينا لهم { إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده } تسلية لهم وتقرير للأمر بالاستعانة بالله والتثبيت في الأمر { والعاقبة للمتقين } وعد لهم بالنصرة وتذكير لما وعدهم من إهلاك القبط وتوريثهم ديارهم وتحقيق له وقرئ { العاقبة } بالنصب عطف على اسم إن وللام في { الأرض } تحتمل العهد والجنس

129 - { قالوا } أي بنو إسرائيل { أوذينا من قبل أن تأتينا } بالرسالة بقتل الأبناء { ومن بعد ما جئتنا } بإعادته { قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض } تصريحا لما كنى عنه أولا لما رأى أنهم لم يتسلوا بذلك ولعله أتى بفعل الطمع لعدم جزمه بأنهم المستخلفون بأعيانهم أو أولادهم وقد روي أن مصر إنما فتح لهم فيزمن داود عليه السلام { فينظر كيف تعملون } في ما تعملون من شكر وكفران وطاعة وعصيان فيجازيكم على حسب ما يوجد منكم

130 - { ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين } بالجدوب لقلة الأمطار والمياه والسنة غلبت على عام القحط لكثرة ما يذكر عنه ويؤرخ به ثم اشتق منها فقيل أسنت القوم إذا قحطوا { ونقص من الثمرات } بكثرة العاهات { لعلهم يذكرون } لكي يتنبهوا على أن ذلك بشؤم كفرهم ومعاصيهم فيتعظوا او ترق قلوبهم بالشدائد فيفزعوا إلى الله ويرغبوا فيما عنده

131 - { فإذا جاءتهم الحسنة } من الخصب والسعة { قالوا لنا هذه } لأجلنا ونحن مستحقوها { وإن تصبهم سيئة } جدب وبلاء { يطيروا بموسى ومن معه } يتشاءمون بهم ويقولوا : ما أصابتنا إلا بشؤمهم وهذا إغراق في وصفهم بالغباوة والقساوة فإن الشدائد ترقق القلوب وتذلل العرائك وتزيل التماسك سيما بعد مشاهدة الآيات وهم لم تؤثر فيهم بل زادوا عندها عتوا وإنهماكا في الغي وإنما عرف الحسنة وذكرها مع أداة التحقيق لكثرة وقوعها وتعلق الإرادة بإحداثها بالذات ونكر السيئة وأتى بها مع حرف الشك لندورها وعدم القصد إلا بالتبع { ألا إنما طائرهم عند الله } أي سبب خيرهم وشرهم عنده وهو حكمته ومشيئته او سبب شؤمهم عند الله وهو أعمالهم المكتوبة عنده فإنها التي ساقت ما يسوؤهم وقرئ ( إنما طيرهم ) وهو اسم الجمع وقيل هو جمع { ولكن أكثرهم لا يعلمون } أن ما يصيبهم من الله تعالى أو من شؤم أعمالهم

132 - { وقالوا مهما } أصلها ما الشرطية ضمت إليها ما المزيدة للتأكيد ثم قلبت ألفها هاء استثقالا للتكرير وقيل مركبة من مه الذي يصوت به الكاف وما الجزائية ومحلها الرفع على الابتداء أو النصب بفعل يفسره { تأتنا به } أي أيما شيء تحضرنا تأتنا به { من آية } بيان لمهما وإنما سموها آية على زعم موسى لا لاعتقادهم ولذلك قالوا : { لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين } أي لتسحر بها أعيننا وتشبه والضمير في به وبها لمهما ذكره قبل التبيين باعتبار اللفظ وأنه بعده باعتبار المعنى

133 - { فأرسلنا عليهم الطوفان } ماء طاف بهم وغشي أماكنهم وحروثهم من مطر أو سيل وقيل الجدري وقيل الموتان وقيل الطاعون { والجراد والقمل } قيل هو كبار القردان وقيل أولا
الجراد قبل نبات أجنحتها { والضفادع والدم } روي : أنهم مطروا ثمانية أيام في ظلمة شديدة لا يقدر أحد أن يخرج من بيته ودخل الماء بيوتهم حتى قاموا فيه إلى تراقيهم وكانت بيوت بني إسرائيل مشتبكة ببيوتهم فلم يدخل فيها قطرة وركد على أراضيهم فمنعهم من الحرث والتصرف فيها ودام ذلك عليهم أسبوعا فقالوا لموسى : ادع لنا ربك يكشف عنا ونحن نؤمن بك فدعا الله فكشف عنهم ونبت لهم من الكلأ والزرع ما لم يعهد مثله ولم يؤمنوا فبعث الله عليهم الجراد فأكلت زروعهم وثمارهم ثم أخذت تأكل الأبواب والسقوف والثياب ففزعوا إليه ثانيا فدعا وخرج إلى الصحراء وأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجعت إلى النواحي التي جاءت منها فلم يؤمنوا فسلط الله عليهم القمل فأكل ما أبقاه الجراد وكان يقع في أطعمتهم ويدخل بين أثوابهم وجلودهم فيمصها ففزعوا إليه فرفع عنهم فقالوا : قد تحققنا الآن أنك ساحر ثم أرسل الله عليهم الضفادع بحيث لا يكشف ثوب ولا طعام إلا وجدت فيه وكانت تمتلئ منها مضاجعهم وتثب إلى قدورهم وهي تغلي وأفواههم عند التكلم ففزعوا إليه وتضرعوا فأخذ عليهم العهود ودعا فكشف الله عنهم ثم نقضوا العهود ثم أرسل عليهم الدم فصارت مياههم دما حتى كان يجتمع القبطي مع الإسرائيلي فيصير دما في فيه وقيل سلط الله عليهم الرعاف { آيات } نصب على الحال { مفصلات } مبينات لا تشكل على عاقل أنها آيات الله ونقمته عليهم أو مفصلات لامتحان أحوالهم إذ كان بين كل اثنتين منها شهر وكان امتداد كل واحدة أسبوعا وقيل إن موسى لبث فيهم بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات على مهل { فاستكبروا } عن الإيمان ز { وكانوا قوما مجرمين }

134 - { ولما وقع عليهم الرجز } يعني العذاب المفصل أو الطاعون الذي أرسله الله عليهم بعد ذلك { قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك } بعهده عندك وهو النبوة أو بالذي عهده إليك أن تدعوه به فيجيبك كما أجابك في آياتك وهو صلة لا دع أو حال من الضمير فيه بمعنى ادع الله متوسلا إليه بما عهد عنك أو متعلق بفعل محذوف دل عليه التماسهم مثل أسعفنا إلى ما نطلب منك بحق ما عهد عندك أو قسم مجاب بقوله { لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل } أي أقسمنا بعهد الله عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن ولنرسلن

135 - { فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه } إلى حد من الزمان هم بالغوه فمعذبون فيه أو مهلكون وهو وقت الغرق أو الموت وقيل إلى أجل عينوه لإيمانهم { إذا هم ينكثون } جواب لما أي فلما كشفنا عنهم فاجؤوا النكث من غير تأمل وتوقف فيه

136 - { فانتقمنا منهم } فأردنا الانتقام منهم { فأغرقناهم في اليم } أي البحر الذي لا يدرك قعره وقيل لجته { بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين } أي كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بالآيات وعدم فكرهم فيها حتى صاروا كالغافلين عنها وقيل الضمير للنقمة المدلول عليها بقوله : { فانتقمنا منهم }

137 - { وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون } بالاستبعاد وذبح الأبناء من مستضعفيهم { مشارق الأرض ومغاربها } يعني أرض الشام ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة وتمكنوا في نواحيها { التي باركنا فيها } بالخصب وسعة العيش { وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل } ومضت عليهم واتصلت بالإنجاز عدته إياهم بالنصرة والتمكين وهو قوله تعالى : { ونريد أن نمن } إلى قوله { ما كانوا يحذرون } وقرئ ( كلمات ربك ) لتعدد المواعيد { بما صبروا } بسبب صبرهم على الشدائد { ودمرنا } وخربنا { ما كان يصنع فرعون وقومه } من القصور والعمارات { وما كانوا يعرشون } من الجنات أو ما كانوا يرفعون من البنيان كصرح هامان وقرأ ابن عامر و أبو بكر هنا وفي ( النحل ) { يعرشون } بالضم وهذا آخر قصة فرعون وقومه

138 - وقوله : { وجاوزنا ببني إسرائيل البحر } وما بعده ذكر ما أحدثه بنو إسرائيل من الأمور الشنيعة بعد أن من الله عليهم بالنعم الجسام وأراهم من الآيات العظام تسلية لرسول الله صلى الله عليه و سلم مما رأى منهم وإيقاظا للمؤمنين حتى لا يغفلوا عن محاسبة أنفسهم ومراقبة أحوالهم روي : أن موسى عليه الصلاة و السلام عبر بهم يوم عاشوراء بعد مهلك فرعون وقومه فصاموه شكرا { فأتوا على قوم } فمروا عليهم { يعكفون على أصنام لهم } يقيمون على عبادتها قيل كانت تماثيل بقر وذلك أول شأن العجل والقوم كانوا من العمالقة الذين أمر موسى بقتالهم وقيل من لخم وقرأ حمزة و الكسائي ( يعكفون ) بالكسر { قالوا يا موسى اجعل لنا إلها } مثالا نعبده { كما لهم آلهة } يعبدونها وما كافة للكاف { قال إنكم قوم تجهلون } وصفهم بالجهل المطلق وأكده لبعد ما صدر عنهم بعد ما رأوا من الآيات الكبرى عن العقل

139 - { إن هؤلاء } إشارة إلى القوم { متبر } مكسر مدمر { ما هم فيه } يعني أن الله يهدم دينهم الذي هم عليه ويحطم أصنامهم وجعلها رضاضا { وباطل } مضمحل ز { ما كانوا يعملون } من عبادتها وإن قصدوا بها التقرب إلى الله تعالى وإنما بالغ في هذا الكلام بإيقاع { هؤلاء } اسم { إن } والإخبار عما هم فيه بالتبار وعما فعلوا بالبطلان ن وتقديم الخبرين في الجملتين الواقعتين خبرا لأن للتنبيه على أن الدمار لاحق لما هم فيه لا محالة وأن الإحباط الكلي لازب لما مضى عنهم تنفيرا وتحذيرا عما طلبوا

140 - { قال أغير الله أبغيكم إلها } أطلب لكم معبودا { وهو فضلكم على العالمين } والحال أنه خصكم بنعم لم يعطها غيركم وفيه تنبيه على سوء معاملتهم حيث قابلوا تخصيص الله إياهم من أمثالهم لما لم يستحقوه تفضلا بأن قصدوا أن يشركوا به أخس شيء من مخلوقاته

141 - { وإذ أنجيناكم من آل فرعون } واذكروا صنيعه معكم في هذا الوقت وقرأ ابن عامر ( أنجاكم ) { يسومونكم سوء العذاب } استئناف لبيان ما أنجاهم منه أو حال من المخاطبين أو من آل فرعون أو منهما { يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم } بدل منه مبين { وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم } في الإنجاء أو العذاب نعمة أو محنة عظيمة

142 - { وواعدنا موسى ثلاثين ليلة } ذا القعدة وقرأ أبو عمرو و يعقوب ( ووعدنا ) { وأتممناها بعشر } من ذي الحجة { فتم ميقات ربه أربعين ليلة } بالغا أربعين روي : أنه عليه الصلاة و السلام وعد بني إسرائيل بمصر أن يأتيهم بعد مهلك فرعون بكتاب من الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون فلما هلك فرعون سأل ربه فأمره الله بصوم ثلاثين فلما أتم أنكر خلوف فيه فتسوك فقالت الملائكة كنا نشم منك رائحة المسك فأفسدته بالسواك فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشرا وقيل أمره بأن يتخلى ثلاثين بالصوم والعبادة ثم أنزل عليه التوراة في العشر وكلمه فيها { وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي } كن خليفتي فيهم { وأصلح } ما يجب أن يصلح من أمورهم أو كن مصلحا { ولا تتبع سبيل المفسدين } ولا تتبع من سلك الإفساد ولا تطع من دعاك إليه

143 - { ولما جاء موسى لميقاتنا } لوقتنا الذي وقتناه واللام للاختصاص أي اختص مجيئه لميقاتنا { وكلمه ربه } من غير وسيط كما يكلم الملائكة وفيما روي : أن موسى عليه الصلاة و السلام كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة تنبيه على أن سماع كلامه القديم ليس من جنس كلام المحدثين { قال رب أرني أنظر إليك } أرني نفسك بأن تمكنني من رؤيتك أو تتجلى لي فأنظر إليك وأراك وهو دليل على أن رؤيته تعالى جائزة في الجملة لأن طلب المستحيل من الأنبياء محال وخصوصا ما يقتضي الجهل بالله ولذلك رده بقوله تعالى : { لن تراني } دون لن أرى أو لن أريك أو لن تنظر إلي تنبيها على أنه قاصر عن رؤيته لتوقفها على معد في الرائي لم يوجد فيه بعد وجعل السؤال لتبكيت قومه الذين قالوا : { أرنا الله جهرة } خطأ إذ لو كانت الرؤية ممتنعة لوجب أن يجهلهم ويزيح شبهتهم كما فعل بهم حين قالوا : { اجعل لنا إلها } ولا يتبع سبيلهم كما قال لأخيه { ولا تتبع سبيل المفسدين } والاستدلال بالجواب على استحالتها أشد خطأ إذ لا يدل الإخبار عن عدم رؤيته إياه على أن لا يراه أبدا وأن لا يراه غيره أصلا فضلا عن أن يدل على استحالتها ودعوى الضرورة فيه مكابرة أو جهالة بحقيقة الرؤية { قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني } استدراك يريد أن يبين به أنه لا يطيقه وفي تعليق الرؤية بالاستقرار أيضا دليل على الجواز ضرورة أن المعلق على الممكن ممكن والجبل قيل هو جبل زبير { فلما تجلى ربه للجبل } ظهر له عظمته وتصدى له اقتداره وأمره وقيل أعطى له حياة ورؤية حتى رآه { جعله دكا } مدكوكا مفتتا والدك والق أخوان كالشك والشق وقرأ حمزة و الكسائي ( دكاء ) أي أرضا مستوية ومنه ناقة دكاء التي لا سنام لها وقرئ { دكا } أي قطعا جمع دكاء { وخر موسى صعقا } مغشيا عليه من هول ما رأى { فلما أفاق قال } تعظيما لما رأى { سبحانك تبت إليك } من الجراءة والإقدام على السؤال من غير إذن { وأنا أول المؤمنين } مر تفسيره وقيل معناه أنا أول من آمن بأنك لا ترى في الدنيا

144 - { قال يا موسى إني اصطفيتك } اخترتك { على الناس } أي الموجودين في زمانك وهارون وإن كان نبيا كان مأمورا باتباعه ولم يكن كليما ولا صاحب شرع { برسالاتي } يعني أسفار التوراة وقرأ ابن كثير و نافع برسالتي ) { وبكلامي } وبتكليمي إياك { فخذ ما آتيتك } أعطيتك من الرسالة { وكن من الشاكرين } على النعمة فيه روي أن سؤال الرؤية كان يوم عرفة وإعطاء التوراة كان يوم النحر

145 - { وكتبنا له في الألواح من كل شيء } مما يحتاجون إليه من أمر الدين { موعظة وتفصيلا لكل شيء } بدل من الجار والمجرور أي وكتبنا له كل شيء من المواعظ وتفصيل الأحكام واختلف في أن الألواح كانت عشرة أو سبعة وكانت من زمرد أو زبرجد أو ياقوت أحمر أو صخرة صماء لينها الله لموسى فقطعها بيده وسقفها بأصابعه وكان فيها التوراة أو غيرها { فخذها } على إضمار القول عطفا على كتبنا أو بدل من قوله : { فخذ ما آتيتك } والهاء للألواح أو لكل شيء فإنه بمعنى الأشياء أو للرسالات { بقوة } بجد وعزيمة { وأمر قومك يأخذوا بأحسنها } أي بأحسن ما فيها كالصبر والعفو بالإضافة إلى الانتصار والاقتصاص على طريقة الندب والحث على الأفضل كقوله تعالى : { واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } أو بواجباتها فإن الواجب أحسن من غيره ويجوز أن براد بالأحسن البالغ في الحسن مطلقا بالإضافة وهو المأمور به كقولهم الصيف أحر من الشتاء { سأريكم دار الفاسقين } دار فرعون وقومه بمصر خاوية على عروشها أو منازل عاد وثمود وأضرابهم لتعتبروا فلا تفسقوا أو دارهم في الآخرة وهي جهنم وقرئ سأوريكم بمعنى سأبين لكم من أوريت الزند وسأورثكم ويؤيده قوله : { وأورثنا القوم }

146 - { سأصرف عن آياتي } المنصوبة في الآفاق والأنفس { الذين يتكبرون في الأرض } بالطبع على قلوبهم فلا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها وقيل سأصرفهم عن ابطالها وإن اجتهدوا كما فعل فرعون فعاد عليه بإعلائها أو بإهلاكهم { بغير الحق } صلة يتكبرون أي يتكبرون بما ليس بحق وهو دينهم الباطل أو حال من فاعله { وإن يروا كل آية } منزلة أو معجزة { لا يؤمنوا بها } لعنادهم واختلال عقولهم بسبب انهماكهم في الهوى والتقليد وهو يؤيد الوجه الأول { وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا } لاستيلاء الشيطنة عليهم وقرأ حمزة و الكسائي ( الرشد ) بفتحتين وقرئ ( الرشاد ) وثلاثتها لغات كالسقم والسقم والسقام { وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين } أي ذلك الصرف بسبب تكذيبهم وعدم تدبرهم للآيات ويجوز أن ينصب ذلك على المصدر أي سأصرف ذلك الصرف بسببهما

147 - { والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة } أي ولقائهم الجار الآخرة أو ما وعد الله في الدار الآخرة { حبطت أعمالهم } لا ينتفعون بها { هل يجزون إلا ما كانوا يعملون } إلا جزاء أعمالهم

148 - { واتخذ قوم موسى من بعده } من بعد ذهابه للميقات { من حليهم } التي استعاروا من القبط حين هموا بالخروج من مصر وإضافتها ليهم لأنها كانت في أيديهم أو ملكوها بعد هلاكهم وهو جمع حلي كثدي وثدي وقرأ حمزة و الكسائي بالكسر بالاتباع كدلي و يعقوب على الإفراد { عجلا جسدا } بدنا ذا لحم ودم أو جسدا من الذهب خاليا من الروح ونصبه على البدل { له خوار } صوت البقر روي أن السامري لما صاغ العجل ألقى في فمه من تراب أثر فرس جبريل فصار حيا وقيل صاغه بنوع مات الحيل فتدخل الريح جوفه وتصوت وإنما نسب الاتخاذ إليهم وهو فعله إما لأنهم رضوا به أو لأن المراد اتخاذهم إياه إلها وقرئ ( جؤار ) أي صياح { ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا } تقريع على فرط ضلالتهم وإخلالهم بالنظر والمعنى ألم يروا حين اتخذوا إلها أنه لا يقدر على كلام ولا على إرشاد سبيل كآحاد البشر حتى حسبوا أنه خالق الأجسام والقوى والقدر { اتخذوه } تكرير للذم أي اتخذوه إلها { وكانوا ظالمين } واضعين الأشياء في غير مواضعها فلم يكن اتخاذ العجل بدعا منهم

149 - { ولما سقط في أيديهم } كناية عن اشتداد ندمهم فإن النادم المتحسر يعض يده غما فتصير يده مسقوطا فيها وقرئ ( سقط ) على بناء الفعل للفاعل بمعنى وقع العض فيها وقيل معناه سقط الندم في أنفسهم { ورأوا } وعلموا { أنهم قد ضلوا } باتخاذ العجل { قالوا لئن لم يرحمنا ربنا } بإنزال التوراة { ويغفر لنا } بالتجاوز عن الحطيئة { لنكونن من الخاسرين } وقرأهما حمزة و الكسائي بالتاء و { ربنا } على النداء

150 - { ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا } شديد الغضب وقيل حزينا { قال بئسما خلفتموني من بعدي } فعلتم بعدي حيث عندتم العجل والخطاب للعبدة أو أقمتم مقامي فلم تكفوا العبدة والخطاب لهارون والمؤمنين معه ! وما نكرة موصوفة تفسر المستكن في بئس والمخصوص بالذم محذوف تقديره بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم ومعنى من بعدي من بعد انطلاقي أو من بعد ما رأيتم مني من التوحيد والتنزيه والحمل عليه والكف عما ينافيه { أعجلتم أمر ربكم } أتركتموه غير تام كأنه ضمن عجل معنى سبق فعدى تعديته أو أعجلتم وعد ربكم الذي وعدنيه من الأربعين وقدرتم موتي وغيرتم بعدي كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم { وألقى الألواح } طرحها من شدة الغضب وفرط الضجر حمية للدين روي : أن التوراة كانت سبعة أسباع في سبعة ألواح فلما ألقاها انكسرت فرفع ستة أسباعها وكان فيها تفصيل كل شيء وبقي سبع كان فيه المواعظ والأحكام { وأخذ برأس أخيه } بشعر رأسه { يجره إليه } توهما بأنه قصر في كفهم وهارون كان أكبر منه بثلاث سنين وكان حمولا لينا ولذلك كان أحب إلى بني إسرائيل { قال ابن أم } ذكر الأم ليرققه عليه وكانا من أب وأم وقرأ ابن عامر و حمزة و
الكسائي و أبو بكر عن عاصم هنا وفي ( طه ) { يا ابن أم } بالكسر وأصله يا ابن أمي فحذفت الياء اكتفاء بالكسرة تخفيفا كالمنادى المضاف إلى الياء والباقون بالفتح زيادة في التخفيف لطوله أو تشبيها بخمسة عشر { إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني } إزاحة لتوهم التقصير في حقه والمعنى بذلت وسعي في كفهم حتى قهروني واستضعفوني وقاربوا قتلي { فلا تشمت بي الأعداء } فلا تفعل بي ما يشمتون بي لأحله { ولا تجعلني مع القوم الظالمين } معدودا في عدادهم بالمؤاخذة أو نسبة التقصير

151 - { قال رب اغفر لي } بما صنعت بأخي { ولأخي } إن فرط في كفهم ضمه إلى نفسه في الاستغفار برضية له ودفعا للشماتة عنه { وأدخلنا في رحمتك } بمزيد الإنعام علينا { وأنت أرحم الراحمين } فأنت أرحم بنا منا على أنفسنا

152 - { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم } وهو ما أمرهم به من قتل أنفسهم { وذلة في الحياة الدنيا } وهي خروجهم من ديارهم وقيل الجزية { وكذلك نجزي المفترين } على الله ولا فرية أعظم من فريتهم وهي قولهم هذا إلهكم وإله موسى ولعله لم يفتر مثلها أحد قبلهم ولا بعدهم

153 - { والذين عملوا السيئات } من الكفر والمعاصي { ثم تابوا من بعدها } من بعد السيئات { وآمنوا } واشتغلوا بالإيمان وما هو مقتضاه من الأعمال الصالحة { إن ربك من بعدها } من بعد التوبة { لغفور رحيم } وإن عظم الذنب كجريمة عبدة العجل وكثر كجرائم بني إسرائيل

154 - { ولما سكت } سكن وقد قرئ به { عن موسى الغضب } باعتذار هارون أو بتوبتهم وفي هذا الكلام مبالغة وبلاغة من حيث إنه جعل الغضب الحامل له على ما فعل كالأمر به والمغري عليه حتى عبر عن سكونه بالسكوت وقرئ { سكت } و ( أسكت ) على أن المسكت هو الله أو أخوه أو الذين تابوا { أخذ الألواح } التي ألقاها { وفي نسختها } وفيما نسخ فيها أي كتب فعلة بمعنى مفعول كالخطبة وقيل فيما نسخ منها من الألواح المنكسرة { هدى } بيان للحق { ورحمة } إرشاد إلى الصلاح والخير { للذين هم لربهم يرهبون } دخلت اللام على المفعول لضعف الفعل بالتأخير أو حذف المفعول واللام للتعليل والتقدير يرهبون معاصي الله لربهم

155 - { واختار موسى قومه } أي من قومه فحذف الجار وأوصل الفعل إليه { سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة } روي أنه تعالى أمره أن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل فاختار من كل سبط ستة فزاد اثنان فقال : ليتخلف منكم رجلان فتشاجروا فقال : إن لمن قعد أجر من خرج فقعد كالب ويوشع وذهب مع الباقين فلما دنوا من الجبل غشيه غمام فدخل موسى بهم الغمام وخروا سجدا فسمعوه تعالى يكلم موسى يأمره وينهاه ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه وقالوا : { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } فأخذتهم الرجفة أي الصاعقة أو رجفة الجبل فصعقوا منها { قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي } تمنى هلاكهم وهلاكه قبل أن يرى ما رأى أو بسبب آخر او عنى به أنك قدرت على إهلاكهم قبل ذلك بحمل فرعون على إهلاكهم وبإغراقهم في البحر وغيرهما فترحمت عليهم بالإنقاذ منها فإن ترحمت عليهم مرة أخرى لم يبعد من عميم إحسانك { أتهلكنا بما فعل السفهاء منا } من العناد والتجاسر على طلب الرؤية وكان ذلك قاله بعضهم وقيل المراد بما فعل السفهاء عبادة العجل والسبعون اختارهم موسى لميقات التوبة عنها فغشيتهم هيبة قلقوا منها ورجفوا حتى كادت تبين مفاصلهم وأشرفوا على الهلاك فخاف عليهم موسى فبكى ودعا فكشفها الله عنهم { إن هي إلا فتنتك } ابتلاؤك حين أسمعتهم كلامك حتى طمعوا في الرؤية أو أوجدت في العجل خوارا فزاغوا به { تضل بها من تشاء } ضلاله بالتجاوز عن حده أو باتباع المخايل { وتهدي من تشاء } هداه فيقوى بها إيمانه { أنت ولينا } القائم بأمرنا { فاغفر لنا } بمغفرة ما قارفنا { وارحمنا وأنت خير الغافرين } تغفر السيئة وتبدلها بالحسنة

156 - { واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة } حسن معيشة وتوفيق طاعة { وفي الآخرة } الجنة { إنا هدنا إليك } تبنا إليك من عدا يهود إذا رجع وقرئ بالكسر من هاده يهيده إذ أماله ويحتمل أن يكون مبينا للفاعل وللمفعول بمعنى أملنا أنفسنا وأملنا إليك ويجوز أن يكون المضموم أيضا مبنيا للمفعول منه على لغة من يقول عود المريض { قال عذابي أصيب به من أشاء } تعذيبه { ورحمتي وسعت كل شيء } في الدنيا المؤمن والكافر بل المكلف وغيره { فسأكتبها } فسأثبتها في الآخرة او فسأكتبها كتبة خاصة منكم يا بني إسرائيل { للذين يتقون } الكفر والمعاصي { ويؤتون الزكاة } خصها بالذكر لإنافتها ولأنها كانت أشق عليهم { والذين هم بآياتنا يؤمنون } فلا يكفرون بشيء منها

157 - { الذين يتبعون الرسول النبي } مبتدأ خبره يأمرهم أو خبر مبتدأ تقديره هم الذين أو بدل من الذين يتقون بدل البعض أو الكل والمراد من آمن منهم بمحمد صلى الله عليه و سلم وإنما سماه رسولا بالإضافة إلى الله تعالى ونبيا بالإضافة إلى العباد { الأمي } الذي لا يكتب ولا يقرأ وصفه به تنبيها على أن كمال علمه مع حاله إحدى معجزاته { الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل } اسما وصفة { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات } مما حرم عليهم كالشحوم { ويحرم عليهم الخبائث } كالدم ولحم الخنزير أو كالربا والرشوة { ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } ويخفف عنهم ما كلفوا به من التكاليف الشاقة كتعيين القصاص في العمد والخطأ وقطع الأعضاء الخاطئة وقرض موضع النجاسة وأصل الإصر الثقل الذي يأصر صاحبه أي يحبسه من الحراك لثقله وقرأ ابن عامر ( آصارهم ) { فالذين آمنوا به وعزروه } وعظموه بالتقوية وقرئ بالتخفيف وأصله المنع ومنه التعزير { ونصروه } لي { واتبعوا النور الذي أنزل معه } أي مع نبوته يعني القرآن وإنما سماه نورا لأنه بإعجازه ظاهر أمره مظهر غيره أو لأنه كاشف الحقائق مظهر لها ويجوز أن يكون معه متعلقا باتبعوا أي واتبعوا النور المنزل مع اتباع النبي يكون إشارة إلى اتباع الكتاب والسنة { أولئك هم المفلحون } الفائزون بالرحمة الأبدية ومضمون الآية جواب دعاء موسى صلى الله عليه و سلم

158 - { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم } الخطاب عام كان رسول الله صلى الله عليه و سلم مبعوثا إلى كافة الثقلين وسائر الرسل إلى أقوامهم { جميعا } حال من إليكم { الذي له ملك السموات والأرض } صفة لله وإن حيل بينهما بما هو متعلق المضاف إليه لأنه كالتقدم عليه أو مدح منصوب أو مرفوع أو مبتدأ خبره { لا إله إلا هو } وهو على الوجوه الأول بيان لما قبله فإن من ملك العالم كان هو الإله لا غيره وفي : { يحيي ويميت } مزيد تقرير لاختصاصه بالألوهية { فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته } ما أنزل عليه وعلى سائر الرسل من كتبه ووحيه وقرئ ( وكلمته ) على إرادة الجنس أو القرآن أو عيسى تعريضا لليهود وتنبيها على أن من لم يؤمن به لم يعتبر إيمانه وإنما عدل عن التكلم إلى الغيبة لإجراء هذه الصفات الداعية إلى الإيمان به والاتباع له { واتبعوه لعلكم تهتدون } جعل رجاء الاهتداء أثر الأمرين تنبيها على أن من صدقه ولم يتابعه بالتزام شرعه فهو يعد في خطط الضلالة

159 - { ومن قوم موسى } يعنى من بني إسرائيل { أمة يهدون بالحق } يهدون الناس محقين أو بكلمة الحق { وبه } بالحق ز { يعدلون } بينهم في الحكم والمراد بها الثابتون على الإيمان القائمون بالحق من أهل زمانه اتبع ذكرهم ذك أضدادهم على ما هو عادة القرآن تنبيها على أن تعارض الخير والشر وتزاحم أهل الحق والباطل أمر مستمر وقيل مؤمنو أهل الكتاب وقيل قوم وراء الصين رآهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة المعراج فآمنوا به

160 - { وقطعناهم } وصيرناهم قطعا متميزا بعضهم عن بعض { اثنتي عشرة } مفعول ثان لقطع فإنه متضمن معنى صير أو حال وتأنيثه للخل على الأمة أو القطعة { أسباطا } بدل منه ولذلك جمع أو تمييز له على أن كل واحد من اثنتي عشرة أسباط فكأنه قيل : اثنتي عشرة قبيلة وقرئ بكسر الشين وإسكانها { أمما } على الأول بدل بعد بدل او نعت أسباط وعلى الثاني بدل من أسباط { وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه } في التيه { أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست } أي فضرب فانبجست وحذفه للإيماء على أن موسى صلى الله عليه و سلم لم يتوقف في الامتثال وأن ضربه لم يكن مؤثرا يتوقف عليه الفعل في ذاته { منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس } كل سبط { مشربهم وظللنا عليهم الغمام } ليقيهم حر الشمس { وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا } أي وقلنا لهم كلوا { من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } سبق تفسيره في سورة ( البقرة )

161 - { وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية } بإضمار اذكروا لقرية بيت المقدس { وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا } مثل ما في سورة ( البقرة ) معنى غير أن قوله { فكلوا } فيها بالفاء أفاد تسبب سكناهم للأكل منها ولم يتعرض له ها هنا اكتفاء بذكره ثمة أو بدلالة الحال عليه وأما تقديم قوله قولوا على وادخلوا فلا أثر له في المعنى لأنه لا يوجب الترتيب وكذا الواو العاطفة بينهما { نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين } وعد بالغفران والزيادة عليه بالإثابة وإنما أخرج الثاني مخرج الاستئناف للدلالة على أنه تفضل محض ليس في مقابلة ما أمروا به وقرأ نافع و ابن عامر و يعقوب 0تغفر ) بالتاء والبناء للمفعول و { خطيئاتكم } بالجمع والرفع غير ابن عامر فإنه وحد وقرأ أبو عمرو ( خطاياكم )

162 - { فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون } مضى تفسيره فيها

163 - { واسألهم } للتقرير والتقريع بقديم كفرهم وعصيانهم والإعلام بما هو من علومهم التي لا تعلم إلا بتعليم أو وحي ليكون لك ذلك معجزة عليهم { عن القرية } عن خبرها وما وقع بأهلها { التي كانت حاضرة البحر } قريبة منه وهي آيلة قرية بين مدين والطور على شاطئ البحر وقيل مدين وقيل طبرية { إذ يعدون في السبت } يتجاوزون حدود الله بالصيد يوم السبت و { إذ } ظرف ل { كانت } أو { حاضرة } أو للمضاف المحذوف أو بدل منه بدل اشتمال { إذ تأتيهم حيتانهم } ظرف ل { يعدون } أو بدل بعد بدل وقرئ { يعدون } وأصله يعتدون ويعدون من الإعداد أي يعدون آلات الصيد يوم السبت وقد نهوا أن يشتغلوا فيه بغير العبادة { يوم سبتهم شرعا } يوم تعظيمهم أمر السبت مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها بالتجرد للعبادة وقيل اسم للوم والإضافة لاختصاصهم بإحكام فيه ن ويؤيد الأول إن قرئ يوم إسباتهم وقوله : { ويوم لا يسبتون لا تأتيهم } وقرئ { لا يسبتون } من أسبت و { لا يسبتون } على البناء للمفعول بمعنى لا يدخلون في السبت و { شرعا } حال من الحيتان ومعناه ظاهرة على وجه الماء من شرع علينا إذا دنا وأشرف { كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون } مثل ذلك البلاء الشديد نبلوهم بسبب فسقهم وقيل كذلك متصل بما قبله أي لا تأتيهم مثل إتيانهم يوم السبت ن والباء متلق ب { يعدون }

164 - { وإذ قالت } عطف على { إذ يعدون } { أمة منهم } جماعة من أهل القرية يعني صلحاءهم الذين اجتهدوا في موعظتهم حتى أيسوا من اتعاظهم { لم تعظون قوما الله مهلكهم } مخترمهم { أو معذبهم عذابا شديدا } في الآخرة لتماديهم في العصيان قالوه مبالغة في أن الوعظ لا ينفع فيهم أو سؤالا عن علة الوعظ ونفعه وكأنه تقاول بينهم أو قول من ارعوى عن الوعظ لمن لم يرعو منهم وقيل المراد طائفة من الفرقة الهالكة أجابوا به وعاظهم ردا عليهم وتهكما بهم { قالوا معذرة إلى ربكم } جواب للسؤال أي موعظتنا إنهاء عذر الله حتى لا ننسب إلى تفريط في النهي عن المنكر وقرأ حفص { معذرة } بالنصب على المصدر أو العلة أي اعتذرنا به معذرة ووعظناهم معذرة { ولعلهم يتقون } إذ اليأس لا يحصل إلا بالهلاك

165 - { فلما نسوا } تركوا ترك الناسي { ما ذكروا به } ما ذكرهم به صلحاؤهم { أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا } بالاعتداء ومخالفة أمر الله ز { بعذاب بئيس } شديد فعيل من بؤس يبؤس بؤسا إذا اشتد وقرأ أبو بكر ( بيئس ) على فيعل كضيغم وابن عامر ( بئس ) بكسر الباء وسكون الهمزة على أنه بئس كحذر كما قرئ به فخفف عينه بنقل حركتها إلى الفاء ككبد في كبد وقرا نافع ( بيس ) كريس على قلب الهمزة ثم إدغامها و ( بيس ) بالتخفيف كهين وبائس كفاعل { بما كانوا يفسقون } بسبب فسقهم

166 - { فلما عتوا عن ما نهوا عنه } تكبرا عن ترك ما نهوا عنه كقوله تعالى : { وعتوا عن أمر ربهم } { قلنا لهم كونوا قردة خاسئين } كقوله : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } والظاهر يقتضي أن الله تعالى عذبهم أولا بعذاب شديد فعتوا بعد ذلك فمسخهم ويجوز أن تكون الآية الثانية تقريرا وتفصيلا للأولى روي : أن الناهين لما أيسوا عن اتعاظ المعتدين كرهوا مساكنتهم فقسموا القرية بجدار فيه باب مطروق فأصبحوا يوما ولم يخرج إليهم أحد من المعتدين فقالوا : إن لهم شأنا فدخلوا عليهم فإذا هم قردة فلم يعرفوا أنسبائهم ولكن القردة تعرفهم فجعلت تأتي أنسبائهم وتشم ثيابهم وتدور باكية حولهم ثم ماتوا بعد ثلاث وعن مجاهد مسخت قلوبهم لا أبدانهم

167 - { وإذ تأذن ربك } أي أعلم تفعل من الإيذان بمعناه كالتوعد والإيعاد أو عزم لأن العازم على الشيء يؤذن نفسه بفعله فأجرى مجرى فعل القسم { علم الله } و { شهد الله } ولذلك أجيب بجوابه وهو : { ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة } والمعنى وإذ أوجب ربك على نفسه ليسلطن على اليهود { من يسومهم سوء العذاب } كالإذلال وضرب الجزية ن بعث الله عليهم بعدد سليمان عليه السلام بختنصر فخرب ديارهم وقتل مقاتليهم وسبى نساءهم وذراريهم وضرب الجزية على من بقي منهم وكانوا يؤدونها إلى المجوس حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه و سلم ففعل ما فعل ثم ضرب عليهم الجزية فلا تزال مضروبة إلى آخر الدهر { إن ربك لسريع العقاب } عاقبهم في الدنيا { وإنه لغفور رحيم } لمن تاب وآمن

168 - { وقطعناهم في الأرض أمما } وفرقناهم فيها بحيث لا يكاد يخلو قطر منهم تتمة لأدبارهم حتى لا يكون لهم شوكة قط و { أمما } مفعول ثان أوحال { ومنهم دون ذلك } تقديره ومنهم أناس دون ذلك أي منحطون عن الصلاح وهم كفرتهم وفسقتهم { وبلوناهم بالحسنات والسيئات } بالنعم والنقم { لعلهم يرجعون } ينهون فيرجعون عما كانوا عليه

169 - { فخلف من بعدهم } من بعد المذكورين { خلف } بدل سوء مصدر نعت به ولذلك يقع على الواحد والجمع وقيل جمع وهو شائع في { ورثوا الكتاب } والتوراة من أسلافهم يقرؤونها ويقفون على ما فيها { يأخذون عرض هذا الأدنى } حطام هذا الشيء الأدنى يعني الدنيا وهو من الدنو أو الدناءة وهو ما كانوا يأخذون من الرشا في الحكومة وعلى تحرف الكلم والجملة حال من الواو { ويقولون سيغفر لنا } لا يؤاخذنا الله بذلك ويتجاوز عنه وهو يحتمل العطف والحال والفعل مسند إلى الجار والمجرور أو مصدر يأخذون { وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه } حال من الضمير في { لنا } أي : يرجون المغفرة مصرين على الذنب عائدين إلى مثله غير تائبين عنه { ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب } أي في الكتاب { أن لا يقولوا على الله إلا الحق } عطف بيان للميثاق أو متعلق به أي بأن يقولوا والمراد توبيخهم على البت بالمغفرة مع عدم التوبة والدلالة على أنه افتراء على الله وخروج عن ميثاق الكتاب { ودرسوا ما فيه } عطف على { ألم يؤخذ } من حيث المعنى فإنه تقرير أو على { ورثوا } وهو اعتراض { والدار الآخرة خير للذين يتقون } مما يأخذ هؤلاء { أفلا تعقلون } فيعلموا ذلك ولا يستبدلوا الأدنى الدنيء المؤدي إلى العقاب بالنعيم المخلد وقرأ نافع و ابن عامر و حفص و يعقوب بالتاء على التلوين

170 - { والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة } عطف على الذين { يتقون } وقوله : { أفلا تعقلون } اعترض أو مبتدأ خبره : { إنا لا نضيع أجر المصلحين } على تقدير منهم أو وضع الظاهر موضع المضمر تنبيها على أن الإصلاح كالمانع من التضييع وقرأ أبو بكر { يمسكون } بالتخفيف وإفراد الإقامة لإنافتها على سائر أنواع التمسكات

171 - { وإذ نتقنا الجبل فوقهم } أي قلعناه ورفعناه فرقهم وأصل النتق الجذب { كأنه ظلة } سقيفة وهي ما أظلك { وظنوا } وتيقنوا { أنه واقع بهم } ساقط عليهم لأن الجبل لا يثبت في الجو ولأنهم كانوا يوعدون به وإنما أطلق الظن لأنه لم يقع متعلقة وذلك أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لثقلها فرفع الله الطور فوقهم وقيل لهم إن قبلتم ما فيها ليقعن عليكم { خذوا } على إضمار القول أي وقلنا خذوا أو قائلين خذوا { ما آتيناكم } من الكتاب { بقوة } بجد وعزم على تحمل مشاقه وهو حال من الواو { واذكروا ما فيه } بالعمل به ولا تتركوه كالمنسي { لعلكم تتقون } قبائح الأعمال ورذائل الأخلاق

172 - { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } أي أخرج من أصلابهم نسلهم على ما يتوالدون قرنا بعد قرن و { من ظهورهم } بدل { من بني آدم } بدل البعض وقرا نافع و أبو عمرو و ابن عامر و يعقوب ( ذرياتهم ) { و أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا } أي ونصب لهم دلائل ربوبيته وركب في عقولهم ما يدعوهم إلى الإقرار بها حتى صاروا بمنزلة من قبل لهم : { قالوا بلى } فنزل تمكينهم من العلم بها وتمكنوا منه بمنزلة الأشهاد والاعتراف على طريقة التمثيل ويدل عليه قوله : { أن تقولوا يوم القيامة } أي كراهة أن تقولوا { إنا كنا عن هذا غافلين } لم ننبه عليه بدليل

173 - { أو تقولوا } عطف على { أن تقولوا } وقرأ أبو عمرو كليهما بالياء لأن أول الكلام على الغيبة { إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم } فاقتدينا بهم لأن التقليد عند قيام الدليل والتمكن من العلم به لا يصلح عذرا { أفتهلكنا بما فعل المبطلون } يعني آباءهم المبطلين بتأسيس الشرك وقيل لما خلق الله آدم أخرج من ظهره ذرية كالذر وأحياهم وجعل لهم العقل والنطق وألهمهم ذلك لحديث رواه عمر رضي الله تعالى عنه وقد حققت الكلام فيه في شرحي لكتاب المصابيح والمقصود من إيراد هذا الكلام ها هنا إلزام اليهود بمقتضى الميثاق العام بعد ما ألزمهم بالميثاق المخصوص بهم والاحتجاج عليهم بالحجج السمعية والعقلية ومنعهم عن التقليد وحملهم على النظر والاستدلال كما قال :

174 - { وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون } أي عن التقليد واتباع الباطل

175 - { واتل عليهم } أي على اليهود { نبأ الذي آتيناه آياتنا } هو أحد علماء بني إسرائيل أو أمية بن أبي الصلت فإنه كان قد قرأ الكتب وعلم أن الله تعالى مرسل رسولا في ذلك الزمان ورجا أن يكون هو فلما بعث محمد عليه السلام حسده وكفر به أو بلعم بن باعوراء من الكنعانيين أوتي علم بعض كتب الله { فانسلخ منها } من الآيات بأن كفر بها وأعرض عنها { فأتبعه الشيطان } حتى لحقه وقيل استتبعه { فكان من الغاوين } فصار من الضالين روي أن قومه سألوه أن يدعو علي موسى ومن معه فقال : كيف أدعو على من معه الملائكة فألحوا حتى دعا عليهم فبقوا في التيه

176 - { ولو شئنا لرفعناه } إلى منازل الأبرار من العلماء { بها } بسبب تلك الآيات وملازمتها { ولكنه أخلد إلى الأرض } مال إلى الدنيا أو إلى السفالة { واتبع هواه } في إيثار الدنيا واسترضاء قومه وأعرض عن مقتضى الآيات وإنما علق رفعه بمشيئة الله تعالى ثم استدرك عنه بفعل العبد تنبيها على أن المشيئة سبب لفعله الموجب لرفعه وان عدمه دليل عدمها دلالة انتفاء المسبب على انتفاء سببه وأن السبب الحقيقي هو المشيئة وأن ما نشاهده من الأسباب وسائط معتبرة في حصول المسبب من حيث أن المشيئة تعلقت به كذلك وكان من حقه أن يقول ولكنه أعرض عنها فأوقع موقعه { أخلد إلى الأرض واتبع هواه } مبالغة وتنبيها على ما حمله عليه وأن حب الدنيا رأس كل خطيئة { فمثله } فصفته التي هي مثل في الخسة { كمثل الكلب } كصفته في أخس أمواله وهو { إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث } أي يلهث دائما سواء حمل عليه بالزجر والطرد أو ترك ولم يتعرض له بخلاف سائر الحيوانات لضعف فؤاده واللهث إدلاع اللسان من التنفس الشديد والشرطية في موضع الحال والمعنى لاهثا في الحالتين والتمثيل واقع موقع لازم التركيب الذي هو نفي الرفع ووضع المنزلة للمبالغة والبيان وقيل لما دعا على موسى صلى الله عليه و سلم خرج لسانه فوقع على صدره وجعل يلهث كالكلب { ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص } القصة المذكورة على اليهود فإنها نحو قصصهم { لعلهم يتفكرون } تفكرا يؤدي بهم إلى الاتعاظ

177 - { ساء مثلا القوم } أي مثل القوم وقرئ { ساء مثلا القوم } على حذف المخصوص بالذم { الذين كذبوا بآياتنا } بعد قيام الحجة عليهم وعلمهم بها { وأنفسهم كانوا يظلمون } إما أن يكون دخلا في الصلة معطوفا عنها بمعنى : وما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم فإن وباله لا يتخطاها ولذلك عدم المفعول

178 - { من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون } تصريح بأن الهدى والضلال من الله و أن هداية الله تختص ببعض دون بعض وأنها مستلزمة للاهتداء والإفراد في الأول والجمع في الثاني باعتبار اللفظ والمعنى تنبيه على أن المهتدين كواحد لاتحاد طريقهم بخلاف الضالين والاقتصار في الإخبار عمن هداه الله بالمهتدي تعظيم لشأن الاهتداء وتنبيه على أنه في نفسه كمال جسيم ونفع عظيم لو لم يحصل له فيره لكفاه وأنه المستلزم للفوز بالنعم الآجلة والعنوان لها

179 - { ولقد ذرأنا } خلقنا { لجهنم كثيرا من الجن والإنس } يعني المصرين على الكفر في علمه تعالى { لهم قلوب لا يفقهون بها } إذ لا يلقونها إلى معرفة الحق والنظر في دلائله { ولهم أعين لا يبصرون بها } أي لا ينظرون إلى ما خلق الله نظر اعتبار { ولهم آذان لا يسمعون بها } الآيات والمواعظ سماع تأمل وتذكر ز { أولئك كالأنعام } في عدم الفقه والإبصار للاعتبار والاستماع للتدبر او في أن مشاعرهم وقواهم متوجهة إلى أسباب التعيش مقصورة عليها { بل هم أضل } فإنها تدرك ما يمكن لها أن تدرك من المنافع المضار ن وتجتهد في جلبها ودفعها غاية جهدها وهم ليسوا كذلك بل أكثرهم يعلم أنه معاند فيقدم على النار { أولئك هم الغافلون } الكاملون في الغفلة

180 - { ولله الأسماء الحسنى } لأنها دالة على معان هي أحسن المعاني والمراد بها الألفاظ وقيل الصفات { فادعوه بها } فسموه بتلك الأسماء { وذروا الذين يلحدون في أسمائه } واتركوا تسمية الزائغين فيها الذين يسمونه بما لا توقيف فيه إذ ربما يوهم معنى فاسدا كقولهم يا أبا المكارم يا أبيض الوجه أو لا تبالوا بإنكارهم ما سمى به نفسه كقولهم : ما نعرف إلا رحمان اليمامة أو وذروهم وإلحادهم فيها بإطلاقها على الأصنام واشتقاق أسمائها منها كاللات من ( الله ) والعزى من ( العزيز ) ولا توافقوهم عليه أو أعرضوا عنهم فإن الله مجازيهم كما قال : { سيجزون ما كانوا يعملون } وقرأ حمزة هنا وفي ( فصلت ) { يلحدون } بالفتح يقال : لحد وألحد إذا مال عن القصد

181 - { وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } ذكر ذلك بعد ما بين أنه خلق للنار طائفة ضالين ملحدين عن الحق للدلالة على أنه خلق أيضا للجنة هادين بالحق عادلين في الأمر واستدل به على صحة الإجماع لأن المراد منه أن في كل قرن طائفة بهذه الصفة لقوله عليه الصلاة و السلام [ لا تزال من أمتي طائفة على الحق إلى أن يأتي أمر الله ] إذ لو اختص بعهد الرسول أو غيره لم يكن فائدة فإنه معلوم

182 - { والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم } سنستدنيهم إلى الهلاك قليلا قليلا وأصل الاستدراج الاستصعاد أو الاستنزال درجة بعد درجة { من حيث لا يعلمون } ما نريد بهم وذلك أن تتواتر عليهم النعم فيظنوا أنها لطف من الله تعالى بهم فيزدادوا بطرا وإنهماكا في الغي حتى يحق عليهم كلمة العذاب

183 - { وأملي لهم } وأمهلهم عطف على { سنستدرجهم } { إن كيدي متين } إن أخذي شديد وإنما سماه كيدا لأن ظاهره إحسان وباطنه خذلان

184 - { أولم يتفكروا ما بصاحبهم } يعني محمدا صلى الله عليه و سلم { من جنة } من جنون روي : أنه صلى الله عليه و سلم صعد على الصفا فدعاهم فخذا فخذا يحذرهم بأس الله تعالى فقال قائلهم إن صاحبكم لمجنون بات يهوت إلى الصباح ن فنزلت { إن هو إلا نذير مبين } موضح إنذاره بحيث لا يخفى على ناظر

185 - { أولم ينظروا } نظر استدلال { في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء } مما يقع عليه اسم الشيء من الأجناس التي لا يمكن حصرها ليدلهم على كمال قدرة صانعها ووحدة مبدعها وعظم شان مالكها ومتولي أمرها ليظهر صحة ما يدعوهم إليه { وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم } عطف على ملكوت وأن مصدرية أو مخففة من الثقيلة ن واسمها ضمير الشأن وكذا اسم يكون والمعنى : أو لم ينظروا في اقتراب آجالهم وتوقع حلولها فيسارعوا إلى طلب الحق والتوجه إلى ما ينجيهم قبل مغافصة الموت ونزول العذاب { فبأي حديث بعده } أي بعد القرآن { يؤمنون } إذا لم يؤمنوا به وهو النهاية في البيان كأنه إخبار عنهم بالطبع والتصميم على الكفر بعد إلزام الحجة والإرشاد إلى النظر وقيل هو متعلق بقوله : عسى أن يكون كأنه قيل لعل أجلهم قد اقترب فما بالهم لا يبادرون الإيمان بالقرآن وماذا ينتظرون بعد وضوحه فإن لم يؤمنوا به فبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا به وقوله :

186 - { من يضلل الله فلا هادي له } كالتقرير والتعليل له { ونذرهم في طغيانهم } بالرفع على الاستئناف وقرأ أبو عمرو و عاصم و يعقوب بالياء لقوله { من يضلل الله } وحمزة و الكسائي به وبالجزم عطفا على محل { فلا هادي له } كأنه قيل : لا يهده أحد غيره { ونذرهم } { يعمهون } حال من هم

187 - { يسألونك عن الساعة } أي عن القيامة و هي من الأسماء الغالبة وإطلاقها عليها أما لوقوعها بغتة او لسرعة حسابها أو لأنها على طولها عند الله كساعة { أيان مرساها } متى إرساؤها أي إثباتها و استقرارها ورسو الشيء ثباته واستقراره ومنه رسا الجبل وأرسى السفينة واشتقاق { أيان } من أي معناه أي وقت وهو من أويت إليه لأن البعض أوى إلى الكل { قل إنما علمها عند ربي } استأثر به لم يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا { لا يجليها لوقتها } لا يظهر أمرها في وقتها { إلا هو } والمعنى أن الخفاء بها مستمر على غيره إلى وقت وقوعها وللام للتأقيت كاللام في قوله : { أقم الصلاة لدلوك الشمس } { ثقلت في السموات والأرض } عظمت على أهلها من الملائكة والثقلين لهولها وكأنه إشارة إلى الحكمة في إخفائها { لا تأتيكم إلا بغتة } إلا فجأة على غفلة كما قال عليه الصلاة و السلام : [ إن الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقوم سلعته في سوقه والرجل يخفض ميزانه ويرفعه ] { يسألونك كأنك حفي عنها } عالم بها فعيل من حفى عن الشيء إذا سأل عنه ن فإن من بالغ في السؤال عن الشيء والبحث عنه استحكم علمه فيه ولذلك عدي بعن وقيل هي صلة { يسألونك } وقيل هو من الحفاوة بمعنى الشفقة فإن قريشا قالوا له : إن بيننا وبينك قرابة فقل لنا متى الساعة والمعنى يسألونك عنها كأنك حفي تتحفى بهم فتحضهم لأجل قرابتهم بتعليم وقتها وقيل معناه كأنك بالسؤال عنها تحبه من حفى بالشيء إذا فرح أن تكثره لأنه من الغيب الذي استأثر الله بعلمه { قل إنما علمها عند الله } كرره لتكرير يسألونك لما أنيط به من هذه الزيادة وللمبالغة { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } أن علمها عند الله لم يؤته أحدا من خلقه

188 - { قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا } جلب نفع ولا دفع ضر وهو إظهار للعبودية والتبري من ادعاء العلم بالغيوب { إلا ما شاء الله } من ذلك فيلهمني إياه ويوفقني له { ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء } ولو كنت أعلمه لخالفت حالي ما هو عليه من استكثار المنافع واجتناب المضار حتى لا يمسني سوء { إن أنا إلا نذير وبشير } ما أنا إلا عبد مرسل للإنذار والبشارة { لقوم يؤمنون } فإنهم المنتفعون بهما ويجوز أن يكون متعلقا بال { بشير } ومتعلق أل { نذير } محذوف

189 - { هو الذي خلقكم من نفس واحدة } هو آدم { وجعل منها } من جسدها من ضلع من أضلاعها أو من جنسها كقوله : { جعل لكم من أنفسكم أزواجا } { زوجها } حواء ز { ليسكن إليها } ليستأنس بها ويطمئن إليها اطمئنان الشيء إلى جزئه أو جنسه وإنما ذكر الضمير ذهابا إلى المعنى ليناسب { فلما تغشاها } أي جامعها { حملت حملا خفيفا } خف عليها ولم يلق منه ما تلقى منه الحوامل غالبا من الأذى أو محمولا خفيفا وهو النطفة { فمرت به } فاستمرت به أي قامت وقعدت وقرئ { فمرت } بالتخفيف و فاستمرت به و فمارت من المور وهو المجيء والذهاب أو من المرية أي فظنت الحمل وارتابت منه { فلما أثقلت } صارت ذات ثقل بكبر الولد في بطنها وقرئ على البناء للمفعول أي أثقلها حملها { دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا } ولدا سويا قد صلح بدنه { لنكونن من الشاكرين } لك على هذه النعمة المجددة

190 - { فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما } أي جعل أولادهما له شركاء فيما آتى أولادهما فسموه عبد العزى وعبد مناف على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ويدل عليه قوله : { فتعالى الله عما يشركون }

191 - { أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون } يعني الأصنام وقيل : لما حملت حواء أتاهما إبليس في صورة رجل فقال لها : ما يدريك ما في بطنك لعله بهيمة أو كلب وما يدريك من أين يخرج فخافت من ذلك وذكرته لآدم فهما منه ثم عاد إليها وقال : إني من الله بمنزلة فإن دعوت الله أن يجعله خلقا مثلك ويسهل عليك خروجه تسميه عبد الحرث وكان اسمه حارثا بين الملائكة فتقبلت فلما ولدت سمياه عبد الحرث وأمثال ذلك لا تليق بالأنبياء ويحتمل أن يكون الخطاب في { خلقكم } لآل قصي من قريش فإنهم خلقوا من نفس قصي وكان زوج من جنسه عربية قرشية وطلبا من الله الولد فأعطاهما أربعة بنين فسمياهم : عبد مناف وعبد شمس وعبد قصي عبد الدار ويكون الضمير في { يشركون } لهما ولأعقابهما المقتدين بهما وقرأ نافع و أبو بكر ( شركا ) أي شركة بأن أشركا فيه غيره أو ذوي شرك وهم الشركاء وهم ضمير الأصنام جيء به على تسميتهم إياها آلهة

192 - { ولا يستطيعون لهم نصرا } أي لعبدتهم { ولا أنفسهم ينصرون } فيدفعون عنها ما يعتريها

193 - { وإن تدعوهم } أي المشركين { إلى الهدى } إلى الإسلام { لا يتبعوكم } وقرأ نافع بالتخفيف وفتح الباء وقيل الخطاب للمشركين وهم ضمير الأصنام أي ك إن تدعوهم إلى أن يهدوكم لا يتبعوكم إلى مرادكم ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله { سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون } وإنما لم يقل أم صمتم للمبالغة في عدم إفادة الدعاء من حيث إنه مسوى بالثبات على الصمات أو لأنهم ما كانوا يدعونها لحوائجهم فكأنه قيل : سواء عليكم إحداثكم دعاءهم واستمراركم على الصمات عن دعائهم

194 - { إن الذين تدعون من دون الله } أي تعبدونهم وتسمونهم آلهة { عباد أمثالكم } من حيث إنه مملوكة مسخرة { فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين } أنهم آلهة ويحتمل أنهم لما نحتوها بصور الأناسي قال لهم : إن قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء أمثالكم فلا يستحقون عبادتكم كما لا يستحق بعضكم عبادة بعض ثم عاد عليه بالنقض فقال :

195 - { ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها } وقرئ { إن الذين } بتخفيف { أن } ونصب { عباد } على أنها نافية عملت عمل ما الحجازية ولم يثبت مثله و { يبطشون } بالصم ها هنا وفي ( القصص ) والدخان ) { قل ادعوا شركاءكم } واستعينوا بهم في عداوتي { ثم كيدون } فبالغوا فيما تقدرون عليه من مكر وهي أنتم وشركاؤكم { فلا تنظرون } فلا تمهلون فإني لا أبالي بكم لوثوقي على ولاية الله تعالى وحفظه

196 - { إن وليي الله الذي نزل الكتاب } القرآن { وهو يتولى الصالحين } أي ومن عادته تعالى أن يتولى الصالحين من عباده فضلا عن أنبيائه

197 - { والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون } من تمام التعليل لعدم مبالاته بهم

198 - { وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون } يشبهون الناظرين إليك لأنهم صوروا بصورة من ينظر إليك إلى من يواجهه

199 - { خذ العفو } أي خذ ما عفا لك من أفعال الناس وتسهل ولا تطلب ما يشق عليهم من العفو الذي هو ضد الجهد أو { خذ العفو } عن المذنبين أو الفضل وما يسهل من صدقاتهم وذلك قبل وجوب الزكاة { وأمر بالعرف } المعروف المستحسن من الأفعال { وأعرض عن الجاهلين } فلا تمارهم ولا تكافئهم بمثل أفعالهم وهذه الآية جامعة لمكارم الأخلاق آمرة للرسول باستجماعها

200 - { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ } ينخسنك منه نخس أي وسوسة تحملك على خلاف ما أمرت به كاعتراء غضب وفكر والنزغ والنسغ والنخس الغرز شبه وسوسة إغراء لهم على المعاصي وإزعاجا بغرز السائق ما يسوقه { فاستعذ بالله إنه سميع } يسمع استعاذتك { عليم } يعلم ما فيه صلاح أمرك فيحملك عليه أو { سميع } بأقوال من آذاك عليهم بأفعاله فيجازيه عليها مغنيا إياك عن الانتقام ومشايعة الشيطان

201 - { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان } لمة منه وهو اسم فاعل من طاف يطوف كأنها طافت بهم ودارت حولهم فلم تقدر أن تؤثر فيهم أومن طاف به الخيال يطيف طيفا وقرأ ابن كثير و أبو عمرو و الكسائي و يعقوب ( طيف ) على أنه مصدر أو تخفيف ( طيف ) كلين وهين والمراد بالشيطان الجنس ولذلك جمع ضميره { تذكروا } ما أمر الله به ونهى عنه { فإذا هم مبصرون } بسبب التذكر مواقع الخطأ ومكايد الشيطان فيتحرزون عنها ولا يتبعونه فيها والآية تأكيد وتقرير لما قبلها وكذا قوله :

202 - { وإخوانهم يمدونهم } أي وإخوان الشياطين الذين لم يتقوا بمدهم الشياطين { في الغي } بالتزيين والحمل عليه ن وقرئ { يمدونهم } من أمد ويمادونهم كأنهم يعينونهم بالتسهيل والإغراء وهؤلاء يعينونهم بالاتباع والامتثال { ثم لا يقصرون } ثم لا يمسكون عن إغوائهم حتى يردوهم ويجوز أن يكون الضمير للإخوان أي لا يكفون عن الغي ولا يقصرون كالمتقين ويجوز أن يراد بال { إخوان } الشياطين ويرجع الضمير إلى { الجاهلين } فيكون الخبر جاريا على ما هو له

203 - { وإذا لم تأتهم بآية } من القرآن أو مما اقترحوه { قالوا لولا اجتبيتها } هلا جمعتها تقولا من نفسك كسائر ما تقرؤه أو هلا طلبتها من الله { قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي } لست بمختلق للآيات أو لست بمقترح لها { هذا بصائر من ربكم } هذا القرآن بصائر للقلوب بها يبصر الحق ويدرك الصواب { وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } سبق تفسيره

204 - { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } نزلت في الصلاة كانوا يتكلمون فيها فأمروا باستماع قراءة الإمام والإنصات له وظاهر اللفظ تقتضي وجوبهما حيث يقرأ القرآن مطلقا وعامة العلماء على استحبابهما خارج الصلاة واحتج به من لا يرى وجوب القراءة على المأموم وهو ضعيف

205 - { واذكر ربك في نفسك } عام في الأذكار من القراءة والدعاء وغيرهما أو أمر للمأموم بالقراءة سرا بعد فراغ الإمام عن قراءته كما هو مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه { تضرعا وخيفة } متضرعا وخائفا { ودون الجهر من القول } ومتكلما كلاما فرق السر ودون الجهر فإنه أدخل في الخشوع والإخلاص { بالغدو والآصال } بأوقات العدو والعشيات وقرئ ( والإيصال ) وهو مصدر آصل إذا دخل في الأصيل وهو مطابق للغدو { ولا تكن من الغافلين } عن ذكر الله

206 - { إن الذين عند ربك } يعني ملائكة الملأ الأعلى { لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه } وينزهونه { وله يسجدون } ويخصون بالعبادة والتذلل لا يشركون به غيره وهو تعريض بمن عداهم من المكلفين ولذلك شرع السجود لقراءته وعن النبي صلى اله عليه وسلم : [ إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي فيقول : يا ويله أمر هذا بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار ] وعنه صلى الله عليه و سلم : [ من قرأ سورة الأعراف جعل الله يوم القيامة بينه وبين إبليس سترا وكان آدم شفيعا له يوم القيامة ]

سورة الأنفال
بسم الله الرحمن الرحيم
1 - { يسألونك عن الأنفال } أي الغنائم يعني حكمها وإنما سميت الغنيمة نفلا لأنها عطية من الله وفضل كما سمي به ما يشرطه الإمام لمقتحم خطر عطية له وزيادة على سهمه { قل الأنفال لله والرسول } أي أمرها مختص بهما يقسمها الرسول على ما يأمره الله به وسبب نزوله اختلاف المسلمين في غنائم بدر أنها كيف تقسم ومن يقسم المهاجرون منهم أو الأنصار وقيل شرط رسول الله صلى الله عليه و سلم لمن كان له غناء أن ينفله فتسارع شبانهم حتى قتلوا سبعين وأسروا سبعين ثم طلبوا نفلهم - وكان المال قليلا - فقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات كنا ردءا لكم وفئة تنحازون إلينا فنزلت فقسمها رسول الله صلى الله عليه و سلم بينهم على السواء ن ولهذا قيل لا يلزم الإمام أن يفي بما وعد وهو قول الشافعي رضي الله عنه و [ عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال : لما كان يوم بدر قتل أخي عمير فقتلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه فأتيت به رسول الله صلى الله عليه و سلم واستوهبته منه فقال : ليس هذا لي ولا لك اطرحه في القبض فطرحته وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي فما جاوزت إلا قليلا حتى نزلت سورة الأنفال فقال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : سألتني السيف وليس لي وأنه قد صار لي فاذهب فخذه ] وقرئ ( يسألونك علنفال ) بحذف الهمزة والفاء حركتها على اللام وإدغام نون عن فيها ويسألونك الأنفال أي يسألك الشبان ما شرطت لهم { فاتقوا الله } في الاختلاف والمشاجرة { وأصلحوا ذات بينكم } الحال التي بينكم بالمواساة والمساعدة فيما رزقكم الله وتسليم أمره إلى الله والرسول { وأطيعوا الله ورسوله } فيه { إن كنتم مؤمنين } فإن الإيمان يقتضي ذلك أو إن كنتم كاملي الإيمان فإن كمال الإيمان بهذه الثلاثة : طاعة الأوامر ن والاتقاء عن المعاصي وإصلاح ذات البين بالعدل والإحسان

2 - { إنما المؤمنون } أي الكاملون في الإيمان { الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } فزعت لذكره استعظاما له وتهيبا من جلاله ؟ وقيل هو الرجل يهم بمعصية فيقال له اتق الله فينزع عنها خوفا من عقابه وقرئ { وجلت } بالفتح وهي لغة وفرقت أي خافت { وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا } لزيادة المؤمن به أو لاطمئنان النفس ورسوخ اليقين بتظاهر الأدلة أو بالعمل بموجبها وهو قول من قال الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية بناء على أن العمل داخل فيه { وعلى ربهم يتوكلون } يفوضون إليه أمورهم ولا يخشون ولا يرجون إلا إياه

3 - { الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون }

4 - { أولئك هم المؤمنون حقا } لأنهم حققوا إيمانهم بأن ضموا إليه مكارم أعمال القلوب من الخشية والإخلاص
والتوكل ومحاسن أفعل الجوارح التي هي العيار عليها من الصلاة والصدقة { حقا } صفة مصدر محذوف أو
مصدر مؤكد كقوله : { وعد الله حقا } { لهم درجات عند ربهم } كرامة وعلو منزلة وقيل درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم { ومغفرة } لما فرط منهم { ورزق كريم } اعد لهم في الجنة لا ينقطع عدده ولا ينتهي أمده

5 - { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق } خبر مبتدأ محذوف تقديره : [ هذه الحال في كراهتم إياها كحال إخراجك للحرب في كراهتم له وهي كراهة ما رأيت من تنفيل الغزاة أو صفة مصدر الفعل المقدر في قوله : { لله والرسول } أي الأنفال ثبتت لله والرسول صلى الله عليه و سلم مع كراهتهم ثباتا مثل ثبات إخراجك ربك من بيتك يعني المدينة لأنها مهاجره ومسكنه أو بيته فيها مع كراهتهم { وإن فريقا من المؤمنين لكارهون } في موقع الحال أي أخرجك في حال كراهتهم وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام وفيها تجارة عظيمة ومعها أربعون راكبا منهم أبو سفيان وعمرو بن العاص ومخرمة بن نوفل وعمرو بن هشام فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبر المسلمين فأعجبهم تلقيها لكثرة المال وقلة الرجال فلما خرجوا بلغ الخبر أهل مكة فنادى أبو جهل فوق الكعبة يا أهل مكة النجاء النجاء على كل صعب وذلول عيركم أموالكم إن أصابها محمد لن تفلحوا بعدها أبدا وقد رأت قبل ذلك بثلاث عاتكة بنت عبد المطلب أن ملكا نزل من السماء فأخذ صخرة من الجبل ثم حلق بها فلم يبق بيت في مكة إلا أصابه شيء منهم فحدثت بها العباس وبلغ ذلك أبا جهل فقال : ما نرضى رجالهم أن يتنبؤوا حتى تتنبأ نساؤهم فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة ومضى بهم إلى بدر وهو ماء كانت العرب تجتمع عليه لسوقهم يوما في السنة ] [ وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم بوادي ذفران فنزل عليه جبريل عليه السلام بالوعد بإحدى الطائفتين إما العير وإما قريش فستشار فيه أصحابه فقال بعضهم : هلا ذكرت لنا القتال حتى نتأهب له إنما خرجنا للعير فردد عليهم وقال إن العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل فقالوا : يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو فغضب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقام أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وقالا فأحسنا ثم قام سعد بن عبادة فقال : انظر أمرك فامض فيه فوالله لو سرت إلى عدن أبين ما تخلف عنك رجل من الأنصار ثم قال مقداد بن عمرو : امض لما أمرك الله فأنا معك حيثما أحببت لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى { اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : ( أشيروا علي أيها الناس ) وهو يريد الأنصار لأنهم كانوا ( عددهم ) وقد شرطوا حين بايعوه بالعقبة أنهم برآء من ذمامه حتى يصل إلى ديارهم فتخوف أن لا يروا نصرته إلا على عدو دهمه بالمدينة فقام سعد بن معاذ فقال كلأنك تريدنا يا رسول الله فقال : أجل قال : آمنا بك وصدعناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فووالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا وإنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله تعالى فنشطه قوله ثم قال : ( سيروا على بركة الله تعالى وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم ) ] [ وقيل إنه عليه الصلاة و السلام لما فرغ من بجر قيل له : عليك بالعير فناداه العباس وهو في وثاقه لا يصلح فقال : لأن وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك فكره بعضهم قوله ]

6 - { يجادلونك في الحق } في إيثارك الجهاد بإظهار الحق لإيثارهم تلقي العير عليه { بعد ما تبين } لهم أنهم ينصرون أينما توجهوا بإعلام الرسول عليه الصلاة و السلام { كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون } أي يكرهون القتال كراهة من يساق إلى الموت وهو يشاهد أسبابه وكان ذلك لقلة عددهم وعدم تأهبهم إذ روي أنهم كانوا رجالة وما كان فيهم إلا فارسان وفيه إيماء إلى أن مجادلتهم إنما كانت لفرط فزعهم ورعبهم

7 - { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين } على إضمار اذكر وإحدى ثاني مفعولي { يعدكم } وقد أبدل منها { أنها لكم } بدل الاشتمال { وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم } يعني العير فإنه لم يكن فيها إلا أربعون فارسا ولذلك يتمنونها ويكرهون ملاقاة النفير لكثرة عددهم وعددهم والشوكة الحدة مستعارة من واحدة الشوك : { ويريد الله أن يحق الحق } أي يثبته ( بكلمته ) { ويقطع دابر الكافرين } ويستأصلهم والمعنى : أنكم تريدون أن تصيبوا مالا ولا تلقوا مكروها والله يريد إعلاء الدين وإظهار الحق وما يحصل لكم فوز الدارين

8 - { ليحق الحق ويبطل الباطل } أي فعل ما فعل وليس بتكرير لأن الأول لبيان المراد وما بينه وبين مرادهم من التفاوت والثاني لبيان الداعي إلى حمل الرسول على اختيار ذات الشوكة ونصرة عليها { ولو كره المجرمون } ذلك

9 - { إذ تستغيثون ربكم } بدل من { إذ يعدكم } أو متعلق بقوله { ليحق } بقوله { ليحق الحق } أو على إضماراذكر واستغاثتهم أنهم لما علموا أن لا محيص عن القتال أخذوا يقولون : أي رب انصرنا على عدوك أغثنا يا غياث المستغيثين وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه عليه السلام [ نظر إلى المشركين وهم ألف وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة فاستقبل القبلة ومد يديه يدعو : ( اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ) فما زال كذلك حتى سقط رداؤه فقال أبو بكر يا نبي الله : كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك ] { فاستجاب لكم أني ممدكم } بأني ممدكم فحذف الجار وسلط عليه الفعل وقرأ أبو عمرو بالكسر على إرادة القول أو إجراء استجاب مجرى قال لأن الاستجابة من القول { بألف من الملائكة مردفين } متبعين المؤمنين أو بعضهم بعضا من أردفته أنا إذا جئت بعده أو متبعين تعضهم بعض المؤمنين نأو أنفسهم المؤمنين من أردفته إياه فردفه وقرأ نافع و يعقوب ( مردفين ) بفتح الدال أي متبعين بمعنى أنهم كانوا مقدمة الجيش أو ساقتهم وقرئ { مردفين } بكسر الراء وضمها وأصله مرتدفين بمعنى مترادفين فأدغمت التاء في الدال فالتقى ساكنان فحركت الراء بالكسر على الأصل أو بالضم على الاتباع وقرئ ( بآلاف ) ليوافق ما في سورة ( آل عمران ) ووجه التوفيق بينه وبين المشهور أن المراد بالألف الذين كانوا على المقدمة أو الساقة أو وجوههم وأعيانهم أو من قاتل منهم واختلف في مقاتلتهم وقد روي أخبار تدل عليها

10 - { وما جعله الله } أي الإمداد { إلا بشرى } إلا بشرة لكم بالنصر { ولتطمئن به قلوبكم } فيزول ما بها من الوجل لقلتكم وذلتكم { وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم } وإمداد الملائكة وكثرة العدد والأهب ونحوهما وسائط لا تأثير لها فلا تحسبوا النصر منها ولا تيأسوا منه بفقدها

11 - { إذ يغشيكم النعاس } بدل ثان من { إذ يعدكم } لإظهار نعمة ثالثة أو متعلق بالنصر أو بما في عند الله معنى الفعل أو يجعل أو بإضمار اذكر وقرأ نافع بالتخفيف من أغشيته الشيء إذا غشيته إياه والفاعل على القراءتين هو الله تعالى وقرأ ابن كثير و أبو عمر ( يغشاكم النعاس ) بالرفع { أمنة منه } أمنا من الله وهو مفعول له باعتبار المعنى فأن قوله { يغشيكم النعاس } متضمن معنى تنعسون و ( يغشاكم ) بمعناه وال { أمنة } فعل لفاعله ويجوزأن يراد بها الإيمان فيكون فعل المغشي وأن تجعل على القراءة الأخيرة فعل النعاس على المجاز لأنها لأصحابه أو لأنه كان من حقه أن لا يغشاكم لشدة الخوف فلما غشيهم فكأنه حصلت له أمنة من الله لولاها لم يغشهم كقوله :
( يهاب النوم أن يغشى عيونا ... تهابك فهو نفار شرود )
وقرئ { أمنة } كرحمة وهي لغة { وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به } من الحدث والجنابة { ويذهب عنكم رجز الشيطان } يعني الجنابة لأنها من تخييله أو وسوسته وتخويفه إياهم من العطش روي أنهم نزلوا في كثيب أغفر تسوخ فيه الأقدام على غير ماء وناموا فاحتلم أكثرهم وقد غلب المشركون على الماء فوسوس إليهم الشيطان وقال : كيف تنصرون وقد غلبتم على الماء وانتم تصلون محدثين مجنبين وتزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله فأشفقوا فأنزل الله المطر فمطروا ليلا حتى جرى الوادي واتخذوا الحياض على عدوته وسقوا الركاب واغتسلوا وتوضؤوا وتلبد الرمل الذي بينهم وبين العدو حتى ثبتت عليه الأقدام وزالت الوسوسة { وليربط على قلوبكم } بالوثوق على لطف الله بهم { ويثبت به الأقدام } أي بالمطر حتى لا تسوخ في الرمل أو بالربط على القلوب حتى تثبت في المعركة

12 - { إذ يوحي ربك } بدل ثالث أو متعلق بتثبت { إلى الملائكة أني معكم } في إعانتهم وتثبيتهم وهو مفعول { يوحي } وقرئ بالكسر على إرادة القول أو إجراء الوحي مجراه { فثبتوا الذين آمنوا } بالبشارة أو بتكثير سوادهم أو بمحاربة أعدائهم فيكون قوله : { سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } كالتفسير لقوله { أني معكم فثبتوا } وفيه دليل على أ هم قاتلوا ومن منع ذلك جعل الخطاب فيه مع المؤمنين إما على تغيير الخطاب أو على أن قوله : { سألقي } إلى قوله : { كل بنان } تلقين للملائكة ما يثبتون المؤمنين به كأنه قال قولوا لهم قولي هذا { فاضربوا فوق الأعناق } أعليها التي هي المذابح أو الرؤوس { واضربوا منهم كل بنان } أصابع أي جزوا رقابهم واقطعوا أطرافهم

13 - { ذلك } إشارة إلى الضرب أو الأمر به والخطاب للرسول أو لكل أحد من المخاطبين قبل { بأنهم شاقوا الله ورسوله } بسبب مشاقتهم لهما واشتقاقه من الشق لأن كلا من المتعادين في شق خلاف شق الآخر كالمعاداة من العدوة والمخاصمة من الخصم وهو الجانب { ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب } تقرير للتعليل أو وعيد بما أعد لهم في الآخرة بعد ما حاق بهم في الدنيا

14 - { ذلكم } الخطاب فيه مع الكفرة على طريقة الالتفات ومحله الرفع أي : الأمر ذلكم أو ذلكم واقع أو نصب بفعل دل عليه { فذوقوه } أو غيره مثل باشروا أو عليكم فتكون الفاء عاطفة { وأن للكافرين عذاب النار } عطف على ذلكم أو نصب على المفعول معه والمعنى ذوقوا ما عجل لكم مع ما اجل لكم في الآخرة ووضع الظاهر فيه موضع الضمير للدلالة على أن الكفر سبب العذاب الآجل أو الجمع بينهما وقرئ { وإن } بالكسر على الاستئناف

15 - { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا } كثيرا يرى لكثرتهم كأنهم يزحفون ن وهو مصدر زحف الصبي إذا دب على مقعده قليلا قليلا سمي به وجمع على زحوف وانتصابه على الحال { فلا تولوهم الأدبار } بالانهزام فضلا أن يكونوا مثلكم أو أقل منكم والأظهر أنها محكمة مخصوصة بقوله : { حرض المؤمنين على القتال } الآية ويجوز أن ينتصب زحفا حالا من الفاعل والمفعول أي : إذا لقيتموهم متزحفين يدبون إليكم وتدبون إليهم فلا تنهزموا أو من الفاعل وحده ويكون إشعارا بما سيكون منهم يوم حنين حين تولوا وهم اثنا عشر ألفا

16 - { ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال } يريد الكر بعد الفر وتغرير العدو فإنه من مكايد الحرب { أو متحيزا إلى فئة } أو منحازا إلى فئة أخرى من المسلين على القرب ليستعين بهم ومنهم من لم يعتبر القرب لما روي ابن عمر رضي الله عنهما : [ أنه كان في سرية بعثهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ففروا إلى المدينة فقلت يا رسول الله نحن الفرارون فقال : ( بل أنتم العكارون وأنا فئتكم ) ] وانتصاب متحرفا ومتحيزا على الحال وإلا لغو لا عمل لها أو الاستثناء من المولين أي إلا رجلا متحرفا أو متحيزا ووزن متحير متفيعل لا متفعل وإلا لكان متحوزا لأنه منحاز يحوز { فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير } هذا إذا لم يزد العدو على الضعف لقوله : { الآن خفف الله عنكم } الآية ن وقيل الآية مخصوصة بأهل بيته والحاضرين معه في الحرب

17 - { فلم تقتلوهم } بقوتكم { ولكن الله قتلهم } بنصركم وتسليطكم عليهم وإلقاء الرعب في قلوبهم روي [ أنه لما طلعت قريش من العقنقل قال عليه الصلاة و السلام هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك اللهم إني أسألك ما وعدتني فأتاه جبريل عليه السلام وقال له : خذ قبضة من تراب فارمهم بها فلما التقى الجمعان تناول كفا من الحصباء فرمى بها وفي وجوههم وقال ( شاهت الوجوه ) فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم ثم لما انصرفوا أقبلوا على التفاخر فيقول الرجل قتلت وأسرت فنزلت ] والفاء جواب شرط محذوف تقديره : إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم { وما رميت } يا محمد رميا توصله إلى أعينهم ولم تقدر عليه { إذ رميت } أن إذ أتيت بصورة الرمي { ولكن الله رمى } أتى بما هو غاية الرمي فأوصلها إلى أعينهم جميعا حتى انهزموا وتمكنتم من قطع دابرها وقد عرفت أن اللفظ يطلق على المسمى وعلى ما هو كما له والمقصود منه وقيل معناه ما رميت بالرعب إذ رميت بالحصباء ولكن الله رمى بالرعب في قلوبهم ز وقيل إنه نزل في طعنة طعن بها أبي بن خلف يوم أحد ولم يخرج منه دم فجعل يخور حتى مات أو رمية سهم رماه يوم خبر نحو الحصن فأصاب كنانة بن أبي الحقيقي على فراشه والجمهور على الأول وقرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي { ولكن } بالتخفيف ورفع ما بعده في المرضعين { وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا } ولينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة وشاهدة الآيات فعل ما فعل { إن الله سميع } لاستغاثتهم ودعائهم { عليم } بنياتهم وبأحوالهم

18 - { ذلكم } إشارة إلى البلاء الحسن أو القتل أو الرمي ومحله الرفع أي المقصود أو الأمر ذلكم وقوله : { وأن الله موهن كيد الكافرين } معطوف عليه أي المقصود إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين وإبطال حيلهم وقرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو { موهن } بالتشديد وحفص { موهن كيد } بالإضافة والتخفيف

19 - { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم وذلك أنهم حين أرادوا الخروج تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا : اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين { وإن تنتهوا } عن الكفر ومعاداة الرسول { فهو خير لكم } لتصمنه سلامة الدارين وخير المنزلين { وإن تعودوا } لمحاربته { نعد } لنصرته عليكم { ولن تغني } ولن تدفع { عنكم فئتكم } جماعتكم { شيئا } من الإغناء أو المضار { ولو كثرت } فئتكم { وأن الله مع المؤمنين } بالنصر ولمعونة وقرأ نافع و ابن عامر و حفص { وأن } بالفتح على تقدير ولأن الله مع المؤمنين كان ذلك وقيل الآية خطاب للمؤمنين والمعنى : إن تستنصروا فقد جاءكم النثر وإن تنتهوا عن التكاسل في القتال والرغبة عما يستأثره الرسول فهو خير لكم وإن تعودوا إليه نعد عليكم بالإنكار أو تهييج العدو ولن تغني حينئذ كثرتكم إذا لم يكن الله معكم بالنصر فإنه مع الكاملين في إيمانهم ويؤيد ذلك :

20 - { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه } أي ولا تتولوا عن الرسول فإن المراد من الآية الأمر بطاعته والنهي عن الإعراض عنه وذكر طاعة الله للتوطئة والتنبيه على أن طاعة الله في طاعة الرسو لقوله تعالى { من يطع الرسول فقد أطاع الله } وقيل الضمير للجهاد أو للأمر الذي دل عليه الطاعة { وأنتم تسمعون } القرآن والمواعظ سماع فهم وتصديق

21 - { ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا } كالكفرة والمنافقين الذين ادعو السماع { وهم لا يسمعون } سماعا ينتفعون به فكأنهم لا يسمعون رأسا

22 - { إن شر الدواب عند الله } شر ما يدب على الأرض أو شر البهائم { الصم } عن الحق { البكم الذين لا يعقلون } إياه عدهم من البهائم ثم جعلهم شرها لإبطالهم ما ميزوا به وفضلوا لأجله

23 - { ولو علم الله فيهم خيرا } سعادة كتبت لهم أو انتفاعا بالآيات { لأسمعهم } سماع تفهم { ولو أسمعهم } وقد علم أن لا خير فيهم { لتولوا } ولم ينتفعوا به أو ارتدوا بعد التصديق والقبول { وهم معرضون } لعنادهم وقيل كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه و سلم أحيي لنا قصيا فإنه كان شيخا مباركا حتى يشهد لك ونؤمن بك والمعنى لأسمعهم كلام قصي

24 - { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول } بالطاعة { إذا دعاكم } وحد الضمير فيه لما سبق ولأن دعوة الله تسمع من الرسول وروي [ أنه عليه الصلاة و السلام مر على أبي وهو يصلي فدعاه فعجل في صلاته ثم جاء فقال : ما منعك عن إجابتي قال : كنت أصلي قال : ( ألم تخبر فيما أوحي إلي ) { استجيبوا لله وللرسول } ] واختلف فيه فقيل هذا لأن إجابته لا تقطع الصلاة فإن الصلاة أيضا لمله وظاهر الحدي يناسب الأول { لما يحييكم } من العلوم الدينية فإنها حياة القلب والجهل موته قال :
( لا تعجبن الجهول حلته ... فذاك ميت وثوبه كفن )
أو مما يورثكم الحياة الأبدية في النعيم الدائم من العقائد والأعمال أو من الجهاد فإنه سبب بقائكم إذ لو تركوا لغلبهم العدو وقتلهم أو الشهادة لقوله تعالى : { بل أحياء عند ربهم يرزقون } { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } تمثيل لغاية قربه من العبد كقوله تعالى : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } وتنبيه على أنه مطلع على مكنونات القلوب مما عسى يغفل عنه صاحبها أو حث على المبادرة إلى إخلاص القلوب وتصفيتها قبل أن يحول الله بينه وبين قلبه بالموت أو غيره نأو تصوير وتخييل لتملكه على العبد قلبه فيفسخ عزائمه ويغير مقاصده ويحول بينه وبين الكفر إن أرد سعادته وبينه وبين الإيمان إن قضى شقاوته وقرئ ( بين المر ) بالتشديد على حذف الهمزة وإلقاء حركتها على الراء وإجراء الوصل الوقف على لغة من يشدد فيه { وأنه إليه تحشرون } فيجازيكم بأعمالكم

25 - { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } اتقوا ذنبا يعمكم أثره كإقرار المنكر بين أظهركم والمداهنة في الأمر بالمعروف وافتراق الكلمة وظهور البدع والتكاسل في الجهاد على أن قوله لا تصيبن إما جواب الأمر على معنى أن إصابتكم لا تصيب الظالمين منكم خاصة بل تعمكم وفيه أن جواب الشرط متردد فلا يليق به النون المؤكدة لكنه لما تصمن معنى النهي ساغ فيه كقوله تعالى : { ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم } وأما صفة ل { لفتنة } ولا للنفي وفيه شذوذ لأن النون لا تدخل المنفي في غير القسم أو لنهي على إرادة القول كقوله :
( حتى إذا جن الظلام واختلط ... جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط )
وإما جواب قسم محذوف كقراءة من قرأ لتصيبن وإن اختلفا في المعنى ويحتمل أن يكون نهيا بعد الأمر باتقاء الذنب عن التعرض للظلم لأن وباله يصيب الظالم خاصة ويعود عليه ومن في منكم على الوجوه الأول للتبعيض وعلى الأخيرين للتبيين وفائدته على الظلم منكم أقبح من غيركم { واعلموا أن الله شديد العقاب }

26 - { واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض } أرض مكة يستضعفكم قريش والخطاب للمهاجرين وقيل للعرب كافة فإنهم كانوا أذلاء في أيدي فارس والروم { تخافون أن يتخطفكم الناس } كفار قريش أو من عداهم فإنهم كانوا جميعا معادين لهم مضادين لهم { فآواكم } إلى المدينة أو جعل لكم مأوى تتحصنون به عن أعاديكم { وأيدكم بنصره } على الكفار أم بمظاهرة الأنصار ن أو بإمداد الملائكة يوم بدر { ورزقكم من الطيبات } من الغنائم { لعلكم تشكرون } هذه النعم

27 - { يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول } بتعطيل الفرائض والسنن أو بأن تضمروا خلاف ما تظهرون ن أو بالغلول في المغانم وروي : [ أنه عليه الصلاة و السلام حاصر بني قريظة إحدى وعشرين ليلة فسألوه الصلح كما صالح إخوانهم بين النضير على سعد بن معاذ فأبوا وقالوا : أرسل إلينا أبا لبابة وكان مناصحا لهم لأن عياله وماله في أيديهم فبعثه إليهم فقالوا ما ترى هل ننزل على حكم سعد بن معاذ فأشار إلى حلقه أنه الذبح قال أبو لبابة : فما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله فنزلت فشد نفسه على سارية في المسجد وقال : والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علي فمكث سبعة أيام حتى خر مغشيا عليه ثم تاب الله عليه فقيل له : قد تيب عليك فحل نفسك فقال : لا والله لا أحلها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه و سلم هو الذي يحلني فجاءه فحله بيده فقال إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي فقال عليه الصلاة و السلام يجزيك الثلث أن تتصدق به ) ] وأصل الخون النقص كما أن أصل الوفاء التمام واستعماله في ضد الأمانة لتضمنه إياه { وتخونوا أماناتكم } فيما بينكم وهو مجزوم بالعطف على الأول أو منصوب على الجواب الواو { وأنتم تعلمون } أنكم تخونون أو أنتم علماء تميزون الحسن من القبيح { واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة } لأنهم سبب الوقوع في الإثم أو العقاب او محنة من الله تعالى ليبلوكم فيهم فلا يحملنكم حبهم على الخيانة كأبي لبابة { وأن الله عنده أجر عظيم } لمن آثر رضا الله عليهم وراعى حدوده فيهم فأنيطوا هممكم بما يؤديكم إليه

28 - { واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة } لأنهم سبب الوقوع في الإثم أو العقاب أو محنة من الله تعالى ليبلوكم فيهم فلا يحملنكم حبهم على الخيانة كأبي لبابة { وأن الله عنده أجر عظيم } لمن آثر رضا الله عليهم وراعى حدوده فيهم فأنيطوا هممكم بما يؤديكم إليه

29 - { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا } هداية في قلوبكم تفرقون بهابين الحق والباطل أو نصرا يفرق بين المحق والمبطل بإعزاز المؤمنين وإذلال الكافرين أو مخرجا من الشبهات أو نجاة عما تحذرون في الدارين أو ظهورا يشهر أمركم ويبث صيتكم من قولهم بت أفعل كذا حتى سطع الفرقان أي الصبح { ويكفر عنكم سيئاتكم } وسترها { ويغفر لكم } بالتجاوز والعفو عنكم وقيل السيئات الصغائر والذنوب الكبائر وقيل المراد ما تقدم وما تأخر لأنها في أهل بدر وقد غفرهما الله تعالى لهم { والله ذو الفضل العظيم } تنبيه على أن ما وعده لهم على التقوى تفضل منه وإحسان وأنه ليس مما يوجب تقواهم عليه كالسيد إذا وعد عبده إنعاما على عمل

30 - { وإذ يمكر بك الذين كفروا } تذكار لما مكر قريش به حين كان بمكة ليشكر نعمة الله في خلاصه من مكرهم واستيلائه عليهم والمعنى واذكر إذ يمكرون بك { ليثبتوك } بالوثاق أو الحبس او الإثخان بالجرح من قولهم ضربه حتى أثبته لا حراك به ولا براح وقرئ { ليثبتوك } بالتشديد ( وليبيتوك ) من البيات ( وليقيدوك ) { أو يقتلوك } بسيوفهم { أو يخرجوك } من مكة وذلك أنهم لما سمعوا بإسلام الأنصار ومبايعتهم فرقوا واجتمعوا في دار الندوة متشاورين في أمره فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ وقال : أنا من نجد سمعت اجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن تعدموا منى رأيا ونصحا فقال أبو البحتري : رأيي أن تحبسون في بيت وتسدوا منافذه غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه منها حتى يموت ن فقال الشيخ بئس الرأي يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من أيديكم فقال هشام بن عمر ورأيي أن تحملوه على جمل فتخرجوه من أرضكم فلا يضركم ما صنع فقال بئس الرأي يفسد قوما غيركم ويقاتلكم بهم فقال أبو جهل أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاما وتعطوه سيفا صارما فيضربوه ضربة واحدة فيتفرق دمه في القبائل فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم فإذا طلبوا العقل عقلناه فقال صدق هذا الفتى فتفرقوا على رأيه فأتى جبريل النبي عليهما السلام وأخبره الخبر وأمره بالهجرة فبيت عليا رضي الله تعالى عنه في مضجعه وخرج مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه إلى الغار { ويمكرون ويمكر الله } برد مكرهم عليهم أو بمجازاتهم عليه أو بمعاملة الماكرين معهم بأن أخرجهم إلى بدر وقلل المسلمين في أعينهم حتى حملوا عليهم فقتلوا { والله خير الماكرين } إذ لا يؤبه مكرهم دون مكره وإسناد أمثال هذا ما يحسن للمزاوجة ولا يجوز إطلاقها ابتداء لما فيه من إيهام الذم

31 - { وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا } هو قول النضر بن الحارث ن وإسناده إلى الجميع إسناد ما فعله رئس القوم إليهم فإنه كان قاصهم أو قول الذين ائتمروا في أمره عليه الصلاة السلام وهذا غاية مكابرتهم وفرط عنادهم إذ لو استطاعوا ذلك فما منعهم أن يشاؤوا وقد تحداهم وقرعهم بالعجز عشر سنين ثم قارعهم بالسيف فلم يعارضوا سورة مع أنفتهم وفرط استنكافهم أن يغلبوا خصوصا في باب البيان ز { إن هذا إلا أساطير الأولين } ما سطره الأولون من القصص

32 - { وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } هذا أيضا من كلام ذلك القائل أبلغ في الجحود روي [ أنه لما قال النضر إن هذا إلا أساطير الأولين قال له النبي صلى الله عليه و سلم : ويلك إنه كلام الله فقال ذلك ] والمعنى إن كان هذا حقا منزلا فأمطر الحجارة علينا عقوبة على إنكاره أو ائتنا بعذاب أليم سواه والمراد منه التهكم وإظهار اليقين والجزم التام على كونه باطلا وقرئ { الحق } بالرفع على أن { هو } مبتدأ غير فصل وفائدة التعريف فيه الدلالة على أن المعلق به كونه حقا بالوجه الذي يدعيه النبي صلى الله عليه و سلم وهو تنزيله لا الحق مطلقا لتجويزهم أن يكون مطابقا للواقع غير منزل كأساطير الأولين

33 - { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } بيان لما كان الموجب لإمهالهم والتوقف في إجابة دعائهم واللام لتأكيد النفي والدلالة على أن تعذيبهم عذاب استئصال والنبي صلى الله عليه و سلم أظهرهم خارج عن عادته غير مستقيم في قضائه والمراد باستغفارهم إما استغفار من بقي فيهم من المؤمنين أو قولهم اللهم غفرانك أو فرصة على معنى لو استغفروا لم يعذبوا كقوله : { وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون }

34 - { وما لهم أن لا يعذبهم الله } وما لهم مما يمنع تعذبيهم متى زال ذلك وكيف لا يعذبون { وهم يصدون عن المسجد الحرام } وحالهم ذلك ومن صدهم عنه إلجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم والمؤمنين إلى الهجرة وإحصارهم عام الحديبية { وما كانوا أولياءه } مستحقين ولاية أمره مع شركهم وهو رد لما كانوا يقولون نحن ولاة البيت والحرم فنصد من نشاء وندخل من نشاء { إن أولياؤه إلا المتقون } من الشرك الذين لا يعبدون فيه غيره وقيل الضميران لله { ولكن أكثرهم لا يعلمون } أن لا ولاية لهم عليه كأنه نبه بالأكثر أن منهم من يعلم ويعاند أو أراد به الكل كما يراد بالقلة العدم

35 - { وما كان صلاتهم عند البيت } أي دعاءهم أو ما يسمونه صلاة او ما يضعون موضعها { إلا مكاء } صفيرا فعلا من مكا يمكو إذا صفر وقرئ بالقصر كالبكا { وتصدية } تصفيفا تفعله من الصدا أو من الصد على إبدال أحد حرفي التضعيف بالياء
وقرئ { صلاتهم } بالنصب على أنه الخبر المقدم ومساق الكلام لتقرير استحقاقهم العذاب أو عدم ولايتهم للمسجد فإنها لا تليق بمن هذه صلاته روي : أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال والنساء مشبكين بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون وقيل : كانوا يفعلون ذلك إذا أراد النبي صلى الله عليه و سلم أن يصلي يخلطون عليه ويرون أنهم يصلون أيضا { فذوقوا العذاب } يعني القتل والأسر يوم بدر وقيل عذاب الآخرة واللام يحتمل أن تكون للعهد والمعهود : { ائتنا بعذاب } { بما كنتم تكفرون } اعتقادا وعملا

36 - { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله } نزلت في المطعمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلا من قريش يطعم كل واحد منهم كل يوم عشر جزر أو في أبي سفيان استأجر ليوم أحد ألفين من العرب سوى من استجاش من العرب وأنفق عليهم أربعين أوقية أو في أصحاب العير فإنه لما أصيبت قريش ببدر قيل لهم أعينوا بهذا المال على حرب محمد لعلنا ندرك منه ثأرنا ففعلوا والمراد ب { سبيل الله } دينه واتباع رسوله { فسينفقونها } بتمامها ولعل الأول إخبار عن إنفاقهم في تلك الحال وهو إنفاق بدر والثاني إخبار عن إنفاقهم فيما يستقبل وهو حد ويحتمل أن يراد بهما واحد على أن مساق الأول لبيان غرض الإنفاق ومساق الثاني لبيان عاقبته وإنه لم يقع بعد { ثم تكون عليهم حسرة } ندما وغما لفواتها من غير مقصود جعل ذاتها تصير حسرة وهي عاقبة أنفاقها مبالغة { ثم يغلبون } آخر الأمر وأن كان الحرب بينهم سجالا قبل ذلك { والذين كفروا } أي الذين ثبتوا على الكفر منهم إذا أسلم بعضهم { إلى جهنم يحشرون } يساقون

37 - { ليميز الله الخبيث من الطيب } الكافر من المؤمن أو الفساد من الصلاح واللام متعلقة ب { يحشرون } أو { يغلبون } أو ما أنفقه المشركون في عداوة رسول الله صلى الله عليه و سلم مما أنفقه المسلمون في نصرته وللام متعلقة بقوله { ثم تكون عليهم حسرة } وقرأ حمزة و الكسائي و يعقوب { ليميز } من التمييز وهو أبلغ من الميز { ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا } فيجمعه ويضم بعضه إلى بعض حتى يتراكبوا لفرط ازدحامهم أو يضم إلى الكافر ما أنفقه ليزيد به عذابه كمال الكانزين { فيجعله في جهنم } كله { أولئك } إشارة إلى الخبيث لأنه مقدر بالفريق الخبيث أو إلى المنفقين { هم الخاسرون } الكاملون في الخسران لأنهم خسروا أنفسهم وأموالهم

38 - { قل للذين كفروا } يعني أبا سفيان وأصحابه والمعنى قل لأجلهم { إن ينتهوا } عن معاداة الرسول صلى الله عليه و سلم بالدخول في الإسلام { يغفر لهم ما قد سلف } من ذنوبهم وقرئ بالتاء والكاف على أنه خاطبهم و { يغفر } على البناء للفاعل وهو الله تعالى { وإن يعودوا } إلى قتاله { فقد مضت سنة الأولين } الذين تحزبوا على الأنبياء بالتدمير كما جرى على أهل بدر فليتوقعوا مثل ذلك

39 - { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } لا يوجد فيهم شرك { ويكون الدين كله لله } وتضمحل عنهم الأديان الباطلة { فإن انتهوا } عن الكفر { فإن الله بما يعملون بصير } فيجازيهم على انتهائهم عنه وإسلامهم وعن يعقوب بالتاء على معنى فإن الله بما تعملون من الجهاد والدعوة إلى الإسلام والإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان بصير فيجازيكم ويكون تعليقه بانتهائهم دلالة على أنه كما يستدعي إثابتهم للمباشرة يستدعي إثابة مقاتليهم للتسبب

40 - { وإن تولوا } ولم ينتهوا { فاعلموا أن الله مولاكم } ناصركم فثقوا به ولا تبالوا بمعاداتهم { نعم المولى } لا يضيع من تولاه { ونعم النصير } لا يغلب من نصره

41 - { واعلموا أنما غنمتم } أي الذي أخذتموه من الكفار قهرا { من شيء } مما يقع عليه اسم الشيء حتى الخيط { فأن لله خمسه } مبتدأ خبره محذوف أي : فثابت أن لله خمسه وقرئ فإن بالكسر والجمهور على أن ذكر الله للتعظيم كما في قوله { والله ورسوله أحق أن يرضوه } وأن المراد قسم الخمس على الخمسة المعطوفين : { وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } فكأنه قال : فأن لله خمسه يصرف إلى هؤلاء الأخصين به وحكمه بعد باق غير أن سهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه يصرف إلى ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين كما فعله الشيخان رضي الله تعالى عنهما وقيل إلى الإمام وقيل إلى الأصناف الأربعة وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه سقط سهمه وسهم ذوي القربى بوفاته وصار الكل مصروفا إلى الثلاثة الباقية وعن مالك رضي الله تعالى عنه الأمر فيه مفوض إلى رأي الإمام يصرفه إلى ما يراه أهم وذهب أبو العالية إلى ظاهر الآية فقال يقسم ستة أقسام ويصرف سهم الله إلى الكعبة لما روي أن عليه الصلاة و السلام [ كان يأخذ قبضة منه فيجعلها للكعبة ثم يقسم ما بقي على خمسة ] وقيل سنهم الله لبيت المال وقيل هو مضموم إلى يهم الرسول صلى الله عليه و سلم وذوو القربى : بنو هاشم وبنو المطلب لما روي أنه عليه الصلاة و السلام [ قسم سهم ذوي القربى عليهما فقال له عثمان وجبير بن مطعم رضي الله عنهما : هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله منهم أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وحرمتنا و أنما نحن وهم بمنزلة واحدة فقال عليه الصلاة و السلام ( إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام وشبك بين أصابعه ) ] وقيل بنو هاشم وحدهم وقيل جميع قريش الغني والفقير فيه سواء وقيل هو مخصوص بفقرائهم كسهم ابن السبيل وقيل الخمس كله لهم والمراد باليتامى والمساكين وابن السبيل من كان منهم والعطف للتخصيص والآية نزلت ببدر وقيل الخمس كان في غزوة بين قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة { إن كنتم آمنتم بالله } متعلق بمحذوف دل عليه { واعلموا } بالأخماس الأربعة الباقية فإن العلم العملي إذا أمر به لم يرد منه العلم المجرد لأنه مقصود بالعرض والمقصود بالذات هو العمل { وما أنزلنا على عبدنا } محمد صلى الله عليه و سلم من الآيات والملائكة والنصر وقرئ { عبدنا } بضمتين أي الرسول صلى الله عليه و سلم والمؤمنين { يوم الفرقان } يوم بدر فإنه فرق فيه بين الحق والباطل { يوم التقى الجمعان } المسلمون والكافرون { والله على كل شيء قدير } فيقدر على نصر القليل على الكثير والإمداد بالملائكة

42 - { إذ أنتم بالعدوة الدنيا } بدل من { يوم الفرقان } والعدوة بالحركات الثلاث شط الوادي وقد قرئ بها والمشهور الضم والكسر وهو قراءة ابن كثير و أبي عمرو و يعقوب { وهم بالعدوة القصوى } البعدى من المدينة تأنيث الأقصى وكان قياسه قلب الواو ياء كالدنيا والعليا تفرقة بين الاسم والصفة فجاء على الأصل كالقود وهو أكثر استعمالا من القصيا { والركب } أي العير أو قواها { أسفل منكم } في مكان أسفل من مكانكم يعني الساحل وهو منصوب على الظرف واقع موقع الخبر والجملة حلا من الظرف قبله وفائدتها الدلالة على قوة العدو واستظهارهم بالركب وحرصهم على المقاتلة عنها وتوطين نفوسهم على أن لا يخلوا مراكزهم ويبذلوا منتهى جهدهم وضعف شأن المسلمين والتياث أمرهم واستبعاد غلبتهم عادة وكذا ذكر مراكز الفريقين فإن العدوة الدنيا كانت رخوة تسوخ فيها الأرجل ولا يمشي فيها إلا بتعب ولم يكن بها ماء بخلاف العدوة القصوى وكذا قوله : { ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد } أي لو تواعدتم أنتم وهم القتال ثم علمتم حالكم وحالهم لاختلفتم أنتم في الميعاد هيبة منهم ويأسا من الظفر عليهم ليتحققوا أن ما اتفق لهم من الفتح ليس إلا صنعا من الله تعالى خارقا للعادة فيزدادوا إيمانا وشكرا { ولكن } جمع بينكم على هذه الحال من غير ميعاد { ليقضي الله أمرا كان مفعولا } حقيقا بأن يفعل وهو نصر أوليائه وقهر أعداءه وقوله : { ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة } بدل منه أو متعلق بقوله مفعولا والمعنى : ليموت من يموت عن بينة عاينها ويعيش من يعيش عن حجة شاهدها لئلا يكون له حجة ومعذرة فإن وقعة بدر من الآيات الواضحة أو ليصدر كفر من كفر وإيمان من آمن عن وضوح بينة على استعارة الهلاك والحياة للكفر والإسلام والمراد بمن هلك ومن حي المشارف للهلاك والحياة أو من هذا حاله في علم الله وقضائه وقرئ ( ليهلك ) بالفتح وقرأ ابن كثير و نافع و أبو بكر و يعقوب من ( حيي ) بفك الإدغام للحل على المستقبل { وإن الله لسميع عليم } بكفر من كفر وعقابه وإيمان من آمن وثوابه ولعل الجمع بين الوصفين لاشتمال الأمرين علة القول والاعتقاد

43 - { إذ يريكهم الله في منامك قليلا } مقدر باذكر أو بدل ثان من يوم الفرقان أو متعلق بعليم أي يعلم المصالح إذ يقللهم في عينك في رؤياك وهو أن تخبر به أصحابك فيكون تثبيتا لهم وتشجيعا على عدوهم { ولو أراكهم كثيرا لفشلتم } لجبنتم { ولتنازعتم في الأمر } في أمر القتال وتفرقت آراؤكم بين الثبات والفرار { ولكن الله سلم } أنعم بالسلامة من الفشل والتنازع { إنه عليم بذات الصدور } يعلم ما سيكون فيها وما يغير أحوالها

44 - { وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا } الضميران مفعولا يرى و { قليلا } حال من الثاني ن وإنما قللهم في أعين المسلمين حتى قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه لمن إلى جنبه أتراهم سبعين فقال أراهم مائة تثبيتا لهم وتصديقا لرؤيا الرسول الله صلى الله عليه و سلم { ويقللكم في أعينهم } حتى قال أبو جهل ك إن محمدا وأصحابه أكلة جزور وقللهم في أعينهم قبل التحام القتال ليجترءوا عليهم ولا يستعدوا لهم ثم كثرهم حتى يرونهم مثليهم لتفجأهم الكثرة فتبهتهم وتكسر قلوبهم وهذا من عظائم آيات تلك الوقعة فإن البصر وإن كان قد يرى الكثير قليلا والقليل كثيرا لكن لا على هذا الوجه ولا إلى هذا الحد وإنما يتصور ذلك صد الله الأبصار عن إبصار تعض دون بعض مع التساوي في الشروط { ليقضي الله أمرا كان مفعولا } كرره لاختلاف الفعل المعلل به أو لأن المراد بالأمر ثمة الاكتفاء على الوجه المحكي وهاهنا إعزاز الإسلام وأهله وإذلال الإشراك وحزبه { وإلى الله ترجع الأمور }

45 - { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة } حاربتم جماعة ولم يصفها لأن المؤمنين ما كانوا يلقون إلا الكفار واللقاء مما غلب في القتال { فاثبتوا } للقائهم { واذكروا الله كثيرا } في مواطن الحرب داعين له مستظهرين بذكره مترقبين لنصره { لعلكم تفلحون } تظهرون بمرادكم من النصرة والمثوبة وفيه تنبيه على أن العبد ينبغي أن لا يشغله شيء عن ذكر الله وأن يلتجئ إليه عند الشدائد ويقبل عليه بشراشره فارغ البال واثقا بأن لطفه لا ينفك عنه في شيء من الأحوال

46 - { وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا } باختلاف الآراء كما فعلتم ببدر أو أحد { فتفشلوا } جواب النهي وقيل عطف عليه ولذلك قرئ : { وتذهب ريحكم } بالجزم والريح مستعارة للدولة من حيث إنها في تمشي أمرها ونفاذه مشبهة بها في هبوبها ونفوذها وقيل المراد بها الحقيقة فإن النصرة لا تكون إلا بريح يبعثها الله وفي الحديث [ نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور ] { واصبروا إن الله مع الصابرين } بالكلاءة والنصرة

47 - { ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم } يعني أهل مكة حين خرجوا منها لحماية العير { بطرا } فخرا وأشرا { ورئاء الناس } ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة وذلك أنهم لما بلغوا الجحفة وافاهم رسول أبي سفيان أن ارجعوا فقد سلمت عيركم فقال أبو جهل : لا والله حتى نقدم بدرا ونشرب فيها الخمور وتعزف عليها القيان ونطعم بها من حضرنا من العرب فوافوها ولكن سقوا كأس المنايا وناحت عليهم النوائح فنهى المؤمنين أن يكونا أمثالهم بطرين مرائين وأمرهم بأن يكونوا أهل تقوى وإخلاص من حيث إن النهي عن الشيء أمر بضده { ويصدون عن سبيل الله } معطوف على بطرا إن جعل مصدرا في موضع الحال وكذا إن جعل مفعولا له لكن على تأويل المصدر { والله بما يعملون محيط } فيجازيكم عليه

48 - { وإذ زين لهم الشيطان } مقدر باذكر { أعمالهم } في معاداة الرسول صلى الله عليه و سلم وغيرها بأن وسوس إليهم { وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم } مقالة نفسانية والمعنى أنه ألقى في روعهم وخيل إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون لكثرة عددهم وعددهم وأوهمهم أن اتباعهم إيان فيما يظنون أنها قربات مجير لهم حتى قالوا : اللهم انصر أحدى الفئتين وأفضل الدينين ولكم خبر لا غالب أو صفته وليس صلته وإلا لا تنصب كقولك : لا ضاربا زيدا عندنا { فلما تراءت الفئتان } أي تلاقى الفريقان { نكص على عقبيه } رجع القهقرى أي بطل كيده وعاد ما خيل إليهم أنه مجيرهم سبب هلاكهم { وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله } أي تبرأ منهم وخاف عليهم و أيس من حالهم لما رأى إمداد الله المسلمين بالملائكة وقيل : لما أجمعت قريش على المسير ذكرت ما بينهم وبين كنانة من الإحنة وكاد ذلك يثنيهم فتمثل لهم إبليس بصورة سراقة بن مالك الكناني وقال لا غالب لكم اليوم وإني مجيركم من بني كنانة فلما رأى الملائكة تنزل نكص وكان يده في يد الحارث بن هشام فقال له : إلى أين أتخذلنا في هذه الحالة فقال إني أرى ما لا ترون ودفع صدر الحارث وانطلق وانهزموا فلما بلغوا مكة قالوا هزم الناس سراقة فبلغه ذلك فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم فلما أسلموا علموا أنه الشيطان وعلى هذا يحتمل أن يكون معنى قوله : { إني أخاف الله } إني أخافه أن يصيبني مكروها من الملائكة أو يهلكني ويكون الوقت هو الوقت الموعودإذ رأى فيه ما لم يرقبله والأول ما قاله الحسن واختاره ابن بحر
{ والله شديد العقاب } يجوز أن يكون من كلامه وأن يكون مستأنفا

49 - { إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض } والذين لم يطمئنوا إلى الإيمان بعد وبقي في قلوبهم شبهة وقيل هم المشركون وقيل المنافقون والعطف لتغاير الوصفين { غر هؤلاء } يعنون المؤمنين { دينهم } حتى تعرضوا لما لا يدي لهم به فخرجوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشرة إلى زهاء ألف { ومن يتوكل على الله } جواب لهم { فإن الله عزيز } غالب لا يذل من استجار به وإن قل { حكيم } يفعل بحكمته البالغة ما يستبعده العقل ويعجز عن إدراكه

50 - { ولو ترى } ولو رأيت فإن لو تجعل المضارع ماضيا عكس إن { إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة } ببدر وإذ ظرف ترى والمفعول محذوف أي ولو ترى الكفرة أو حالهم حينئذ والملائكة فاعل يتوفى ويدل عليه قراءة ابن عامر بالتاء ويجوز أن يكون الفاعل ضمير الله عز و جل وهو مبتدأ خبره { يضربون وجوههم } والجملة حال من الذين كفروا واستغني فيه الضمير عن الواو وهو على الأول حال منهم أو من الملائكة أو منهما لاستماله على الضميرين { وأدبارهم } ظهورهم أو أستاههم ولعل المراد تعميم الضرب أي يضربون ما أقبل منهم وما أدبر { وذوقوا عذاب الحريق } عطف على يضربون بإضمار القول أي يقولون ذوقوا بشارة لهم بعذاب الآخرة وقيل كانت معهم مقامع من حديد كلما ضربوا التهبت النار منها وجواب { لو } محذوف لتقطيع الأمر وتهويله

51 - { ذلك } الضرب والعذاب { بما قدمت أيديكم } بسبب ما كسبتم من الكفر والمعاصي وهو خبر لذلك { وأن الله ليس بظلام للعبيد } عطف على ما ) للدلالة على أن سببيته بانضمامه إليه إذ لولاه لأمكن أن يعذبهم بغير ذنوبهم لا أن لا يعذبهم بذنوبهم فإن ترك التعذيب من مستحقه ليس بظلم شرعا ولا عقلا حتى ينتهض نفي الظلم سببا للتعذيب وظلام التكثير لأجل العبيد

52 - { كدأب آل فرعون } أي دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون وهو عملهم وطريقهم الذي دأبوا فيه أي داموا عليه { والذين من قبلهم } من قبل آل فرعون { كفروا بآيات الله } تفسير لدأبهم { فأخذهم الله بذنوبهم } كما أخذ هؤلاء { إن الله قوي شديد العقاب } لا يغلبه في دفعه شيء

53 - { ذلك } إشارة إلى ما حل بهم { بأن الله } بسبب أن الله { لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم } مبدلا إياها بالنقمة { حتى يغيروا ما بأنفسهم } يبدلوا ما بهم من الحال إلى حال أسوأ كتغيير قريش حالهم في صلة الرحم والكف عن تعرض الآيات والرسل بمعاداة الرسول عليه الصلاة و السلام ومن تبعه منهم والسعي في إراقة دمائهم والتكذيب بالآيات والاستهزاء بها إلى غير ذلك مما أحدثوه بعد المبعث وليس السبب عدم تغيير الله ما أنعم عليهم حتى يغيروا حالهم بل ما هو المفهوم له وهو جري عادته على تغييره متى يغيروا حالهم وأصل يك يكون فحذفت الحركة للجزم ثم الواو لالتقاء الساكنين ثم النون لشبهه بالحروف اللينة تخفيفا { وأن الله سميع } لما يقولون { عليم } بما يفعلون

54 - { كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون } تكرير للتأكيد ولما نيط به من الدلالة على كفران النعم بقوله : { بآيات ربهم } وبيان ما أخذ به آل فرعون وقيل الأول لتشبيه الكفر والأخذ به والثاني لتشبيه التغيير في النعمة بسبب تغييرهم ما بأنفسهم { وكل } من الفرق المكذبة او من غرقى القبط وقتلى قريش { كانوا ظالمين } أنفسهم بالكفر والمعاصي

55 - { إن شر الدواب عند الله الذين كفروا } أصروا على الكفر ورسخوا فيه { فهم لا يؤمنون } فلا يتوقع منهم إيمان ولعله إخبار عن قوم مطبوعين على الكفر بأنهم لا يؤمنون والفاء للعطف والتنبيه على أن تحقق المعطوف عليه يستدعي تحقق المعطوف وقوله :

56 - { الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة } بدل من الذين كفروا بدل البعض للبيان والتخصيص وهم يهود قريظة عاهدهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أو لا يمالئوا عليه فأعانوا المشركين بالسلاح وقالوا : نسينا ثم عاهدهم فنكثوا و مالؤوهم عليه يوم الخندق وركب كعب بن الأشرف إلى مكة فحالفهم ومن لتضمين المعاهدة معنى الأخذ والمراد بالمرة مرة العاهدة او المحاربة { وهم لا يتقون } سبة الغدر ومغبته أو لا يتقون الله فيه أو نصره للمؤمنين وتسليطه إياهم عليهم

57 - { فإما تثقفنهم } فإما تصادفنهم وتظفرن بهم { في الحرب فشرد بهم } ففرق عن مناصبتك ونكل عنها بقتلهم والنكاية فيهم { من خلفهم } من وراءهم من الكفرة والتشريد تفريق على اضطراب وقرئ ( فشرد ) بالذال المعجمة وكأنه مقلوب شذر و { من خلفهم } والمعنى واحد فإنه إذا شرد من ورائهم فقد فعل التشريد في الوراء { لعلهم يذكرون } لعل المشدين يتعظون

58 - { وإما تخافن من قوم } معاهدين { خيانة } نقض عهد بأمارات تلوح لك { فانبذ إليهم } فاطرح إليهم عهدهم { على سواء } على عدل وطريق قصد في العداوة ولا تناجزهم الحرب فإنه يكون خيانة منك او على سواء في الخوف أو العلم بنقض العهد وهو في موضع الحال من النابذ على الوجه الأول أي ثابتا على طريق سوي أو منه أو من المنبوذ إليهم أو منهما على غيره وقوله { إن الله لا يحب الخائنين } تعليل للأمر بالنبذ والنهي عن مناجزة القتال المدلول عليه بالحال على طريقة الاستئناف

59 - { ولا تحسبن } خطاب للنبي صلى الله عليه و سلم وقوله : { الذين كفروا سبقوا } مفعولاه وقرأ ابن عامر و حمزة و حفص بالياء على أن الفاعل ضمير أحد أو { من خلفهم } أو { الذين كفروا } والمفعول الأول أنفسهم فحذف للتكرار أو على تقدير أن { سبقوا } وهو ضعيف لأن المصدرية كالموصول فلا تحذف أو على إيقاع الفعل على { إنهم لا يعجزون } بالفتح على قراءة ابن عامر وأن { لا } صلة { سبقوا } حال بمعنى سابقين أي مفلتين والأظهر أنه تعليل للنهي أي : لا تحسبهم سبقوا ففلتوا لأنهم لا يفوتون الله او لا يجدون طالبهم عاجزا عن إدراكهم وكذا إن كسرت إن إلا أنه تعليل على سبيل الاستئناف ولعل الآية إزاحة لما يحذر بممن نبذ العهد وإيقاظ العدو وقيل نزلت فيمن أفلت من فل المشركين

60 - { وأعدوا } أيها المؤمنون { لهم } لناقضي العهد أو الكفار { ما استطعتم من قوة } من كل ما يتقوى به في الحرب وعن عقبة بن عامر سمعته عليه الصلاة السلام يقول على المنبر [ ألا إن القوة الرمي قالها ثلاثا ] ولعله عليه الصلاة و السلام خصه بالذكر لأنه أقواه { ومن رباط الخيل } اسم للخيل التي تربط في سبيل الله فعال بمعنى مفعول أو مصدر سمي به يقال ربط ربطا ورباطا ورابط مرابطة ورباطا ن او جمع ربيط كفصيل وفصال وقرئ ( ربط الخيل ) بضم الباء وسكونها جمع رباط عطفها على القوة كعطف جبريل و ميكائيل على الملائكة { ترهبون به } تخوفون به وعن يعقوب { ترهبون } بالتشديد والضمير ل { ما استطعتم } أو للإعداد { عدو الله وعدوكم } يعني كفار مكة { وآخرين من دونهم } من غيرهم من الكفرة قيل هم اليهود وقيل المنافقون وقيل الفرس { لا تعلمونهم } لا تعريفونهم بأعيانهم { الله يعلمهم } يعرفهم { وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم } جزاؤه { وأنتم لا تظلمون } بتضييع العمل أو نقص الثواب

61 - { وإن جنحوا } مالوا ومنه الجناح وقد يعدى باللام وإلى { للسلم } للصلح أو للاستسلام وقرأ أبو بكر بالكسر { فاجنح لها } وعاهد معهم وتأنيث الضمير لحل السلم على نقيضها فيه قال :
( السلم تأخذ منها ما رضيت به ... والحرب يكفيك من أنفاسها جرع )
وقرئ ( فاجنح ) بالضم { وتوكل على الله } ولا تخف من إبطانهم خداعا فيه فإن الله يعصمك من مكرهم ويحيقه بهم { إنه هو السميع } لأقولهم { العليم } بيناتهم والآية مخصوصة بأهل الكتاب لاتصالها بقصتهم وقيل عامة نسختها آية السيف

62 - { وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله } فإن محسبك الله وكافيك قال جرير :
( إني وجدت من المكارم حسبكم ... أن تلبسوا حر الثياب وتشبعوا )
{ هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين } جميعا

63 - { وألف بين قلوبهم } مع ما فيهم من العصبية والضغينة في أدنى شيء والتهالك على الانتقام بحيث لا يكاد يأتلف فيهم قلبان حتى صاروا كنفس واحدة وهذا من معجزاته صلى الله عليه و سلم وبيانه : { لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم } أي تناهي عداوتهم إلى حد لو أنفق منفق في إصلاح ذات بينهم ما في الأرض من الأموال لم يقدر على الألفة والإصلاح { ولكن الله ألف بينهم } بقدرته البالغة فإنه المالك للقلوب يقلبها كيف يشاء { إنه عزيز } تام القدرة والغلبة لا يعصى عليه ما يريده { حكيم } يعلم أنه كيف ينبغي أن يفعل ما يريده وقيل الآية في الأوس والخزرج كان بينهم محن لا أمد لها ووقائع هلكت فيها سادا تهم فأنساهم الله ذلك وألف بينهم بالإسلام حتى تصافوا وصاروا أنصارا

64 - { يا أيها النبي حسبك الله } كافيك { ومن اتبعك من المؤمنين } أما في محل النصب على المفعول معه كقوله :
( إذا كانت الهيجاء واشتجر القنا ... فحسبك والضحاك سيف مهند )
أو الجر عطفا على المكني عند الكوفيين أو الرفع عطفا على اسم الله تعالى أي كفاك الله والمؤمنون والآية نزلت بالبيداء في غزوة بدرن وقيل [ أسلم مع النبي صلى الله عليه و سلم ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة ثم اسلم عمر رضي الله عنه فنزلت ] ولذلك قال أبن عباس رضي الله تعالى عنهما نزلت في إسلامه

65 - { يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال } بالغ في حثهم عليه وأصله الحرض وهو أن ينهكه المرض حتى يشفى على الموت وقرئ ( حرص ) من الحرص { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا } شرط في معنى الأمر بمصابرة الواحد للعشرة والوعد بأنهم إن صبروا غلبوا بعون الله وتأييده وقرأ ابن كثير و نافع و ابن عامر تكن بالتاء في الآيتين ووافقهم البصريان في { وإن يكن منكم مائة } { بأنهم قوم لا يفقهون } بسبب أنهم جهلة بالله واليوم الآخر لا يثبتون ثبات المؤمنين رجاء الثواب وعوالي الدرجات قتلوا أو قتلوا ولا يستحقون من الله إلا الهوان ولخذلان

66 - { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله } لما أوجب على الواحد مقاومة العشرة والثبات لهم وثقل ذلك عليهم خفف عنهم بمقاومة الواحد الاثنين وقيل كان فيهم قلة فأمروا بذلك ثم لما كثروا خفف عنهم وتكرير المعنى الواحد بذكر الأعداد المتناسبة للدلالة على أن حكم القليل والكثير واحد والضعف ضعف البدن وقيل ضعف البصيرة وكانوا متفاوتين فيها وفيه لغتان الفتح وهو قراءة عاصم وحمزة والضم وهو قراءة الباقين { والله مع الصابرين } بالنصر والمعونة فكيف لا يغلبون

67 - { ما كان لنبي } وقرئ ( للنبي ) على العهد { أن يكون له أسرى } وقرأ البصريان بالتاء { حتى يثخن في الأرض } يكثر القتل ويبالغ فيه حتى يذل الكفر ويقل حزبه ويعز الإسلام ويستولي أهله من أثخنه المرض إذا أثقله وأصله الثخانة وقرئ { يثخن } بالتشديد للمبالغة { تريدون عرض الدنيا } حطامها بأخذكم الفداء { والله يريد الآخرة } يريد لكم ثواب الآخرة أو سبب نيل ثواب الآخرة من إعزاز دينه وقمع أعدائه وقرئ بجر ( الآخرة ) على إضمار المضاف كقوله :
( أكل امرىء تحسبين امرأ ... ونار توقد بالليل نارا )
{ والله عزيز } يغلب أولياءه على أعدائه { حكيم } يعلم ما يليق بكل حال ويخصه بها كما أمر بالإثخان ومنع عن الافتداء حين كانت الشوكة للمشركين وخير بينه وبين المن لما تحولت الحال وصارت الغلبة للمؤمنين روي أنه عليه السلام [ أتى يوم بدر بسبعين أسيرا فيهم العباس وعقيل بن أبي طالب فاستشار فيهم فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه : قومك وأهلك استبقهم لعل الله يتوب عليهم وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك وقال عمر رضي الله تعالى عنه : اضرب أعناقهم فإنهم أئمة الكفر وإن الله أغناك عن الفداء مكني من فلان - لنسيب له - ومكن عليا وحمزة من أخويهما فنضرب أعناقهم فلم يهو ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال : إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللين وإن الله ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال : { فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم } ومثلك يا عمر مثل نوح قال : { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا } فخير أصحابه فأخذوا الفداء فنزلت فدخل عمر رضي الله تعالى عنه على رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا هو وأبو بكر يبكيان فقال : يا رسول الله أخبرني إن أجد بكاء بكيت وإلا تباكيت فقال : ابك على أصحابك في أخذهم الفداء ولقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة ] والآية دليل على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يجتهدون وأنه قد يكون خطأ ولكن لا يقرون عليه

68 - { لولا كتاب من الله سبق } لو لا حكم من الله سبق إثباته في اللوح المحفوظ وهو أن لا يعاقب المخطئ في اجتهاده أو أن لا يعذب أهل بدر أو قوما بما لم يصرح لهم بالنهي عنه أو أن الفدية التي أخذوها ستحل لهم { لمسكم } لنالكم { فيما أخذتم } من الفداء { عذاب عظيم } روي أنه عليه الصلاة و السلام قال : [ لو نزل العذاب لما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ ] وذلك لأنه أيضا أشار بالإثخان

69 - { فكلوا مما غنمتم } من الفدية فإنها من جملة الغنائم وقيل أمسكوا عن الغنائم فنزلت والفاء للتسبب والسبب محذوف تقديره : أبحت لكم الغنائم فكلوا وبنحوه تشبث من زعم أن الأمر الوارد بعد الحظر للإباحة { حلالا } حال من المغنوم أو صفة للمصدر أي أكلا حلالا وفائدته إزاحة ما وقع في نفوسهم منه بسبب تلك المعاتبة أو حرمتها على الأولين ولذلك وصفة بقوله : { طيبا واتقوا الله } في مخالفته { إن الله غفور } غفر لكم ذنبكم { رحيم } أباح لكم ما أخذتم

70 - { يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى } وقرأ أبو عمرو ( من الأسارى ) { إن يعلم الله في قلوبكم خيرا } إيمانا وإخلاصا { يؤتكم خيرا مما أخذ منكم } من الفداء روي أنها [ نزلت في العباس رضي الله عنه كلفه رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يفدي نفسه وابني أخويه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث فقال : يا محمد تركتني أتكفف قريشا ما بقيت فقال : أين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك وقلت لها : إني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل وقثم فقال العباس : وما يدريك قال : أخبرني به ربي تعالى قال : فأشهد أنك صادق أن لا إله إلا الله وأنك رسوله والله لم يطلع عليه أحد إلا الله ولقد دفعته إليها في سواد الليل قال العباس فأبدلني الله خيرا من ذلك لي الآن عشرون عبدا إن أدناهم ليضرب في عشرين ألفا وأعطاني زمزم ما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربكم ] يعني الموعود بقوله : { ويغفر لكم والله غفور رحيم }

71 - { وإن يريدوا } يعني الأسرى { خيانتك } نقض ما عاهدوك { فقد خانوا الله } بالكفر ونقض ميثاقه المأخوذ بالعقل { من قبل فأمكن منهم } أي فأمكنك منهم كما فعل يوم بدر فان أعادوا الخيانة فسيمكنك منهم { والله عليم حكيم }

72 - { إن الذين آمنوا وهاجروا } هم المهاجرون هجروا أوطانهم حبا لله ولرسوله { وجاهدوا بأموالهم } فصرفوها في الكراع والسلاح وأنفقوها على المحاويج { وأنفسهم في سبيل الله } بمباشرة القتال { والذين آووا ونصروا } هم الأنصار آووا المهاجرين إلى ديارهم ونصروهم على أعدائهم { أولئك بعضهم أولياء بعض } في الميراث وكان المهاجرين والأنصار يتوارثون بالهجرة والنصرة دون الأقارب حتى نسخ بقوله : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض } أو بالنصرة والمظاهرة { والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا } أي من توليهم في الميراث وقرأ حمزة { ولايتهم } بالكسر تشبيها لها بالعمل والصناعة كالكتابة والإمارة كأنه بتوليه صاحبه يزاول عملا { وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر } فواجب عليكم أن تنصروهم على المشركين { إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق } عهد فإنه لا يقض عهدهم لنصرهم عليهم { والله بما تعملون بصير }

73 - { والذين كفروا بعضهم أولياء بعض } في الميراث أو المؤازرة وهو بمفهومه بدل على منع التوارث أو المؤازرة بينهم وبين المسلمين { إلا تفعلوه } إلا تفعلوا ما أمرتم به من التواصل بينكم وتولي بعضكم لبعض حتى في التوارث وقطع العلائق بينكم وبين الكفار { تكن فتنة في الأرض } تحصل فتنة فيها عظيمة وهي ضعف الإيمان وظهور الكفر { وفساد كبير } في الدين وقرئ كثير

74 - { والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا } لما قسم المؤمنين ثلاثة أقسام بين أن الكاملين في الإيمان منهم هم الذين حققوا إيمانهم بتحصيل مقتضاه من الهجرة والجهاد وبذل المال ونصرة الحق ووعد لهم الموعد الكريم فقال { لهم مغفرة ورزق كريم } لا تبعة له ولا منة فيه ثم ألحق بهم في الأمرين من سيلحق بهن ويتسم بسمتهم فقال :

75 - { والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم } أي من جملتكم أيها المهاجرون والأنصار { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض } في التوارث من الأجانب { في كتاب الله } في حكمه أو في اللوح أو في القرآن واستدل به على توريث ذوي الأرحام { إن الله بكل شيء عليم } من المواريث والحكمة في إناطتها بنسبة الإسلام والمظاهرة أولا واعتبار القرابة ثانيا عن النبي صلى الله عليه و سلم [ من قرأ سورة الأنفال وبراءة فأنا شفيع له يوم القيامة وشاهد أنه بريء من النفاق وأعطي حسنات بعدد كل منافق ومنافقة وكان العرش وحملته يستغفرون له أيام حياته ]

سورة التوبة
وقيل إلا آيتين من قوله : { لقد جاءكم رسول } وهي آخر ما نزل ولها أسماء أخرى ( التوبة ) و ( المقشقشة ) و ( البحوث ) و ( المبعثرة ) و ( المنقرة ) و ( المثيرة ) و ( الحافرة ) و ( المخزية ) و ( الفاضحة ) و ( المنكلة ) و ( المشرجة ) و ( المدمدمة ) و ( سورة العذاب ) لما فيها من التوبة للمؤمنين والقشقشة من النفاق وهي التبري منه والبحث عن حال المنافقين وإثارتها والحفر عنهم وما يخزيهم وفضحهم وينكلهم ويشردهم ويدمدم عليهم
وآيها مائة وثلاثون وقيل تسع وعشرون وإنما تركت التسمية فيها لأنها نزلت لرفع الأمان وبسم الله أمان وقيل كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا نزلت عليه سورة أو آية بين موضعها وتوفي ولم يبين موضعها وكانت قصتها تشابه قصة الأنفال وتناسبها لأن في الأنفال ذكر العهود وفي براءة نبذها فضمت إليها وقيل لما اختلفت الصحابة في أنهما سورة واحدة هي سابعة السبع الطوال أو سورتان تركت بينهم فرجة ولم تكتب بسم الله
1 - { براءة من الله ورسوله } أي هذه براءة ومن ابتدائية متعلقة بمحذوف تقديره وأصله { من الله ورسوله } ويجوز أن تكون { براءة } مبتدأ لمخصصها بصفتها والخبر { إلى الذين عاهدتم من المشركين } وقرئ بنصبها على اسمعوا براءة والمعنى : أن الله ورسوله برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين وإنما علقت البراءة بالله ورسوله والمعاهدة بالمسلمين للدلالة على أنه يجب عليهم نبذ عهود المشركين إليهم وأن كانت صادرة بإذن الله تعالى واتفاق الرسول فإنهما برئا منها وذلك أنهم عاهدوا مشركي العرب فنكثوا إلا أناسا منهم بنو ضمرة وبنو كنانة فأمرهم بنبذ العهد إلى الناكثين وأمهل المشركين أربعة أشهر ليسيروا أين شاءوا فقال :

2 - { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } شوال وذي القعدة وذي الحجة ولمحرم لأنها نزلت في شوال وقيل هي عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وعشر من ربيع الآخر لأن التبليغ كان يوم النحر لما روي أنها [ لما نزلت أرسل رسول الله صلى الله عليه و سلم عليا رضي الله عنه راكب العضباء ليقرأها على أهل الموسم وكان قد بعث أبا بكر رضي الله تعالى عنه أميرا على الموسم فقيل له : لو بعثت بها إلى أبي بكر فقال : لا يؤدي عني إلا رجل مني فلما دنا علي رضي الله تعالى عنه سمع أبو بكر الرغاء فوقف وقال : هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما لحقه قال : أمير أو مأمور قال مأمور فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر رضي الله تعالى عنه وحدثهم عن مناسكهم وقام علي رضي الله عنه يوم النحر عند جمرة العقبة فقال : أنها الناس إني رسول الله إليكم فقالوا بماذا فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية ثم قال : أمرت بأربع : أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده ] ولعل قوله صلى الله عليه و سلم [ لا يؤدي عني إلا رجل مني ] ليس على العموم [ فإنه صلى الله عليه و سلم بعث لأن يؤدي عنه كثير لم يكونوا من عترته ] بل هو مخصوص بالعهود فإن عادة العرب أن لا يتولى العهد ونقضه على القبيلة إلا رجل منها ويدل عليه أنه في بعض الروايات [ لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي ] { واعلموا أنكم غير معجزي الله } لا تفوتونه وإن أمهلكم { وأن الله مخزي الكافرين } بالقتل والأسر في الدنيا والعذاب في الآخرة

3 - { وأذان من الله ورسوله إلى الناس } أي إعلام فعال بمعنى الإفعال كالأمان والعطاء ورفعه كرفع { براءة } على الوجهين { يوم الحج الأكبر } يوم العيد لأن فيه تمام الحج معظم أفعاله ولأن الإعلام كان فيه ولما روي [ أنه صلى الله عليه و سلم وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال هذا يوم الحج الأكبر ] وقيل يوم عرفة لقوله صلى الله عليه و سلم [ الحج عرفة ] ووصف الحج بالأكبر لأن العمرة تسمى الحج الأصغر أو لأن المراد بالحج ما يقع في ذلك اليوم من أعماله فإنه أكبر من باقي الأعمال أو لن ذلك الحج اجتمع فيه المسلمون والمشركون ووافق عيده أعياد أهل الكتاب أو لأنه ظهر فيه عز المسلمين وذل المشركين { أن الله } أي بأن الله { بريء من المشركين } أي من عهودهم { ورسوله } عطف على المستكن في { بريء } أو على محل { إن } واسمها في قراءة من كسرها إجراء للأذان مجرى القول وقرئ بالنصب عطفا على اسم إن أو لأن الواو بمعنى مع ولا تكرير فيه فإن قوله { براءة من الله } أخبار بثبوت البراءة وهذه إخبار بوجوب الإعلام بذلك ولذلك علقه بالناس ولم يخصه بالمعاهدين { فإن تبتم } من الكفر والغدر { فهو } فالتوب { خير لكم وإن توليتم } عن التوبة أو تبتم على التولي عن الإسلام والوفاء { فاعلموا أنكم غير معجزي الله } لا تفوتونه طلبا ولا تعجزونه هربا في الدنيا { وبشر الذين كفروا بعذاب أليم } في الآخرة

4 - { إلا الذين عاهدتم من المشركين } استثناء من المشركين أو استدراك فكأنه قيل لهم بعد أن أمروا بنبذ العهد إلى الناكثين ولكن الذين عاهدوا منهم { ثم لم ينقصوكم شيئا } من شروط العهد ولم ينكثوه أو لم يقتلوا منكم ولم يضروكم قط { ولم يظاهروا عليكم أحدا } من أعدائكم { فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم } إلى تمام مدتههم ولا تجروهم مجرى الناكثين { إن الله يحب المتقين } تعليل وتنبيه على أن إتمام عهدهم من باب التقوى

5 - { فإذا انسلخ } انقضى وأصل الانسلاخ خروج الشيء مما لابسه من سلخ الشاة { الأشهر الحرم } التي أبيح للناكثين أن يسيحوا فيها وقيل هي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم وهذا مخل بالنظم مخالف للإجماع فإنه يقتضي بقاء حرمة الأشهر الحرم إذ ليش فيما نزل بعد ما ينسخها { فاقتلوا المشركين } الناكثين ز { حيث وجدتموهم } من حل أو حرم { وخذوهم } واسروهم ن والأخيذ الأسير ز { و احصروهم } واحبسوهم أو حيلوا بينهم وبين المسجد الحرام { واقعدوا لهم كل مرصد } كل ممر لئلا يتبسطوا في البلاد وانتصابه على الظرف { فإن تابوا } عن الشرك بالإيمان { وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة } تصديقا لتوبتهم وإيمانهم { فخلوا سبيلهم } فدعوهم ولا تتعرضوا لهم بشيء من ذلك وفيه دليل على أن تارك الصلاة ومانع الزكاة لا يخلى سبيله { إن الله غفور رحيم } تعليل للأمر أي فخلوهم لأن الله غفور رحيم غفر لهم ما قد سلف وعدلهم الثواب بالتوبة

6 - { وإن أحد من المشركين } المأمور بالتعرض لهم { استجارك } استأمنك وطلب منك جوارك { فأجره } فأمنه { حتى يسمع كلام الله } ويتدبره ويطلع على حقيقة الأمر { ثم أبلغه مأمنه } موضع أمنه إن لم يسلم ن وأحد رفع بفعل يفسره ما بعده لا بالابتداء لأن إن من عوامل الفعل { ذلك } الأمن أو الأمر { بأنهم قوم لا يعلمون } ما الإيمان وما حقيقة ما تدعوهم إليه فلا بد من أمانهم ريثما يسمعون ويتدبرون

7 - { كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله } استفهام بمعنى الإنكار والاستبعاد لن يكون لهم عهد ولا ينكثوه مع وغرة صدورهم أولأن يفي الله ورسوله بالعهد وهم نكثوه وخبر يكون كيف وقدم للاستفهام أو للمشركين أو عند الله وهو على الأولين صفة لل { عهد } إو ظرف له أول { يكون } و { كيف } على الأخيرين حال من ال { عهد } و { للمشركين } إن لم يكن خبرا فتبيين { إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام } هم المستثنون قبل ومحله النصب على الاستثناء او الجر على البدل أو الرفع على أن الاستثناء منقطع أي : ولكن الذين عاهدتم منهم عند المسجد الحرام { فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم } أي فتربصوا أمرهم فإن استقاموا على العهد فاستقيموا على الوفاء وهو كقوله { فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم } غير أنه مطلق وهذا مقيد وما تحتمل الشرطية والمصدرية { إن الله يحب المتقين } سبق بيانه

8 - { كيف } تكرار لاستبعاد ثباتهم على العهد أو بقاء حكمه مع التنبيه على العلة وحذف الفعل للعلم به كما في قوله :
( وخبرتماني أنما الموت بالقرى ... فكيف وهاتا هضبة و قليب )
أي فكيف مات { وإن يظهروا عليكم } أي وحالهم أنهم إن يظفروا بكم { لا يرقبوا فيكم } لا يراعوا فيكم { إلا } حلفا وقيل قرابة قال حسان :
( لعمرك إن الك من قريش ... كإل السقب من رأل النعام )
وقيل ربوبية ولعله اشتق للحلف من الإل وهو الجؤار لأنهم كانوا إذا تحالفوا رفعوا به أصواتهم وشهروه ثم استعير للقرابة لأنها تعقد بين الأقارب ما لا يعقده الحلف ثم للربوبية والتربية وقيل اشتقاقه من ألل الشيء إذا حدده أو من آل البرق إذا لمع وقيل إنه عبري بمعنى الإله لأنه قرئ إيلا كجبرئل وجبرئيل { ولا ذمة } عهدا أو حقا يعاب على إغفاله { يرضونكم بأفواههم } استئناف لبيان حالهم المنافية لثباتهم على العهد المؤدية إلى عدم مراقبتهم عند الظفر ولا يجوز جعله حالا من فاعل لا يرقبوا فإنهم بعد ظهورهم لا يرضون ولأن المراد إثبات إرضائهم المؤمنين بوعد الإيمان والطاعة والوفاء بالعهد في الحال واستبطان الكفر والمعاداة بحيث إن ظفروا لم يبقوا عليهم والحالية تنافيه { وتأبى قلوبهم } ما تتفوه به أفواههم ز { وأكثرهم فاسقون } متمردون لا عقيدة تزعهم ولا مروءة تردعهم وتخصيص الأكثر لما في بعض الكفرة من التفادي عن الغدر والتعفف عما يجر إلى أحدوثة السوء

8 - { اشتروا بآيات الله } استبدلوا بالقرآن { ثمنا قليلا } عرضا يسيرا وهو اتباع الأهواء والشهوات { فصدوا عن سبيله } دينه الموصل إليه أو سبيل بيته بحصر الحجاج العمار والفاء للدلالة على أن اشتراءهم أداهم إلى الصد { إنهم ساء ما كانوا يعملون } عملهم هذا او ما دل عليه قوله

10 - { لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة } فهو تفسير لا تكرير وقيل الأول عام في الناقضين وهذا خاص بالذين اشتروا وهم اليهود أو الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان وأطعمهم { وأولئك هم المعتدون } في الشرارة

11 - { فإن تابوا } عن الكفر { وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين } فهم إخوانكم في الدين لهم مالكم وعليهم ما عليكم { ونفصل الآيات لقوم يعلمون } اعتراض للحث على تأمل ما فصل من أحكام المعاهدين أو خصال التائبين

12 - { وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم } وإن نكثوا ما بايعوا عليه من الإيمان أو الوفاء بالعهود { وطعنوا في دينكم } بصريح التكذيب وقبيح الأحكام { فقاتلوا أئمة الكفر } أي فقاتلوهم فوضع أئمة الكفر موضع الضمير للدلالة على أنهم صاروا بذلك ذوي الرئاسة والتقدم في الكفر أحقاء بالقتل وقيل المراد بالأئمة رؤساء المشركين فالتخصيص إما لأن قتلهم أهم وهم أحق به أو للمنع من مراقبتهم وقرأ عاصم و ابن عامر و حمزة و الكسائي وروح عن يعقوب أئمة بتحقيق الهمزتين على الأصل والتصريح بالياء لحن { إنهم لا أيمان لهم } أي لا أيمان لهم على الحقيقة وإلا لما طعنوا ولم ينكثوا وفيه دليل على أن الذمي إذا طعن في الإسلام فقد نكث عهده واستشهد به الحنفية على أن يمين الكافر ليست يمينا وهو ضعيف لأن المراد نفي الوثوق عليها لا أنها ليست بأيمان لقوله تعالى : { وإن نكثوا أيمانهم } وقرأ ابن عامر لا أيمان لهم بمعنى لا أمان أو لا إسلام وتشبث به من لم يقبل توبة المرتد وهو ضعيف لجواز أن يكون بمعنى لا يؤمنون على الإخبار عن قوم معينين أو ليس لهم إيمان فيراقبوا لأجله { لعلهم ينتهون } متعلق ب ( قاتلوا ) أي ليكن غرضكم في المقاتلة أن ينتهوا عما هم عليه لا إيصال الأذية بهم كما هو طريقة المؤذين

13 - { ألا تقاتلون قوما } تحرض على القتال لأن الهمزة دخلت على النفي لإنكار فأفادت المبالغة في الفعل { نكثوا أيمانهم } التي حلفوها مع الرسول عليه السلام والمؤمنين على أن لا يعاونوا عليهم فعانوا بني بكر على خزاعة { وهموا بإخراج الرسول } حين تشاوروا في أمره بدار الندوة على ما مر ذكره قوله : { وإذ يمكر بك الذين كفروا } وقيل هم اليهود نكثوا عهد الرسول وهموا بإخراجه من المدينة { وهم بدؤوكم أول مرة } بالمعاداة والمقاتلة لأنه عليه الصلاة و السلام بدأهم بالدعوة وإلزام الحجة بالكتاب والتحدي به فعدلوا عن معارضته إلى المعاداة والمقاتلة فما يمنعكم أن تعارضوهم و تصادموهم { أتخشونهم } أتتركون قتالهم خشية أن ينالكم مكروه منهم { فالله أحق أن تخشوه } فقاتلوا أعداءكم ولا تتركوا أمره { إن كنتم مؤمنين } فإن قضية الإيمان أن لا يخشى إلا منه

14 - { قاتلوهم } أمر بالقتال بعد بيان موجبه والتوبيخ على تركه والتوعد عليه { يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم } وعد لهم إن قاتلوا بالنصر عليهم والتمكن من قتلهم وإذلالهم { ويشف صدور قوم مؤمنين } يعنى بني خزاعة وقيل [ بطونا من اليمن وسبأ قدموا مكة فأسلموا فلقوا من أهلها أذى شديدا فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أبشروا فإن الفرج قريب ]

15 - { ويذهب غيظ قلوبهم } لما لقوا منهم وقد أوفى الله بما وعدهم والآية من المعجزات { ويتوب الله على من يشاء } ابتداء إخبار بأن بعضهم يتوب عن كفره وقد كان ذلك أيضا وقرئ { ويتوب } بالنصب على إضمار أن على أنه من جملة ما أجيب به الأمر فإن القتال كما تسبب لتعذيب قوم تسبب لتوبة قوم آخرين { والله عليم } بما كان وما سيكون { حكيم } لا يفعل ولا يحكم إلا على وفق الحكمة

16 - { أم حسبتم } خطاب للمؤمنين حين كره بعضهم القتال وقيل للمنافقين و { أم } منقطعة ومعنى الهمزة فيها التوبيخ على الحسبان { أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم } ولم يتبين المخلص منكم وهم الذين جاهدوا من غيرهم نفى العلم وأراد نفي المعلوم للمبالغة فإنه كالبرهان عليه من حيث إن تعلق العلم به مستلزم لوقوعه { ولم يتخذوا } عطف على { جاهدوا } داخل في الصلة { من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة } بطانة يوالونهم ويفشون إليهم أسرارهم وما في { لما } من معنى التوقع منبه على أن تبين ذلك متوقع { والله خبير بما تعملون } يعلم غرضكم منه وهو كالمزيج لما يتوهم من ظاهر قوله : { ولما يعلم الله }

17 - { ما كان للمشركين } ما صح لهم { أن يعمروا مساجد الله } شيئا من المساجد فضلا عن المسجد الحرام وقيل هو المراد وإنما جمع لأنه قبلة المساجد وإمامها فعامره كعامر الجميع ويدل عليه قراءة ابن كثير و أبي عمرو و يعقوب بالتوحيد { شاهدين على أنفسهم بالكفر } بإظهار الشرك وتكذيب الرسول وهو حال من الواو والمعنى ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين عمارة بيتت الله وعبادة غيره روي ( أنه لما أسر العباس عيره المسلمون بالشرك وقطيعة الرحم وأغلظ له علي رضي الله تعالى عنه في القول فقال : ما بالكم تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحجيج ونفك العاني ) فنزلت { أولئك حبطت أعمالهم } التي يفتخرون بها بما قارنها من الشرك { وفي النار هم خالدون } لأجله

18 - { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة } أي إنا تستقيم عمارتها لهؤلاء الجامعين للكمالات العلمية والعملية ومن عمارته تزيينها بالفرش وتنويرها بالسرج وإدامة العبادة والذكر ودروس العلم فيها وصيانتها مما لم تبن له كحديث الدنيا وعن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ قال الله تعالى إن بيوتي في أرضي المساجد وإن زواري فيها عمارها فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي فحق على المزور أن يكرم زائره ] وإنما لم يذكر الإيمان الرسول صلى الله عليه و سلم لما علم أن الإيمان بالله قرينة وتمامه الإيمان به ولدلالة قوله وأقام الصلاة وآتى الزكاة عليه { ولم يخش إلا الله } أي في أبواب الدين فإن الخشية عن المحاذير جبلية لا يكاد العقل يتمالك عنها { فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } ذكره بصيغة التوقع قطعا لأطماع المشركين في الاهتداء والانتفاع بأعمالهم وتوبيخا لهم بالقطع بأنهم مهتدون فإن هؤلاء مع كمالهم إذا كان اهتداؤهم دائرا بين عسى ولعل فما ظنك بأضداد هم ومنعا للمؤمنين أن يغتروا بأحوالهم ويتكلوا عليها

19 - { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله } السقاية والعمارة مصدر أسقى وعمر فلا يشبهان بالجثث بل لا بد من إضمار تقديره أجعلتم أهل سقاية الحاج كمن آمن أو أجعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن ويؤيد الأول قراءة من قرأ - سقاة الحاج وعمرة المسجد ) والمعنى إنكار أن يشبه المشركون وأعمالهم المحبطة بالمؤمنين وأعمالهم المثبتة ثم قرر ذلك بقوله : { لا يستون عند الله } وبين عدم تساويهم بقوله : { والله لا يهدي القوم الظالمين } أي الكفرة ظلمة بالشرك ومعاداة الرسول عليه الصلاة و السلام منهمكون في الضلالة فكيف يساوون الذين هداهم الله ووفقهم للحق والصواب وقيل المراد بالظالمين الذين يسوون بينهم وبين المؤمنين

20 - { الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله } أعلى رتبة وأكثر كرامة ممن لم تستجمع فيه هذه الصفات أو من أهل السقاية والعمارة عندكم { وأولئك هم الفائزون } بالثواب ونيل الحسنى عند الله دونكم

21 - { يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها } في الجنات { نعيم مقيم } دائم وقرأ حمزة { يبشرهم } بالتخفيف وتنكير المبشر به إشعار بأنه وراء التعيين والتعريف

22 - { خالدين فيها أبدا } أكد الخلود بالتأبيد لأنه قد يستعمل للمكث الطويل { إن الله عنده أجر عظيم } يستحقر دونه ما استوجبوه لأجله أو نعيم الدنيا

23 - { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء } نزلت في المهاجرين فإنهم لما أمروا بالهجرة قالوا : إن هاجرنا قطعنا آباءنا وأبنائنا وعشائرنا وذهبت تجاراتنا وبقينا ضائعين وقيل نزلت نهيا عن موالاة التسعة الذين ارتدوا ولحقوا بمكة والمعنى لا تتخذوهم أولياء يمنعونكم عن الإيمان ويصدونكم عن الطاعة لقوله { إن استحبوا الكفر على الإيمان } إن اختاروه وحرصوا عليه { ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون } بوضعهم الموالاة في غير موضعها

24 - { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم } أقرباؤكم مأخوذ من العشرة وقيل من العشرة فإن العشيرة جماعة ترجع إلى عقد كعقد العشرة وقرأ أبو بكر ( وعشيراتكم ) وقرئ ( عشائركم ) { وأموال اقترفتموها } اكتسبتموها { وتجارة تخشون كسادها } فوات وقت نفاقها { ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله } الحب الاختياري دون الطبيعي فإنه لا يدخل تحت التكليف في التحفظ عنه { فتربصوا حتى يأتي الله بأمره } جواب ووعيد والأمر عقوبة عاجلة أو آجله وقيل فتح مكة { والله لا يهدي القوم الفاسقين } لا يرشدهم وفي الآية تشديد عظمي وقل من يتخلص منه

25 - { لقد نصركم الله في مواطن كثيرة } يعني مواطن الحرب وهي مواقفها { ويوم حنين } وموطن يوم حنين ويجوز أن يقدر في أيام مواطن أو يفسر الموطن بالوقت كمقتل الحسين ولا يمنع إبدال قوله : { إذ أعجبتكم كثرتكم } منه أن يعطف على موضع في { مواطن } فإنه لا يقتضي تشاركهما فيما أضيف إليه المعطوف حتى يقتضي كثرتهم وإعجابها إياهم في جميع المواطن و { حنين } واد بين مكة والطائف حارب فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم والمسلمون وكانوا اثني عشر ألفا العشرة الذين حضروا فتح مكة وألفان انضموا إليهم من الطلقاء هوازن وثقيفا وكانوا أربعة آلاف فلما التقوا قال النبي صلى الله عليه و سلم أو أبو بكر رضي الله تعالى عنه أو غيره من المسلمين : لن تغلب اليوم من قلة إعجابا بكثرتهم واقتتلوا قتالا شديدا فأدرك المسلمين إعجابهم واعتمادهم على كثرتهم فانهزموا حتى بلغ فلهم مكة وبقي رسول الله صلى الله عليه و سلم في مركزه ليس معه إلا عمه العباس آخذا بلجامه وابن عمه أبو سفيان بن الحارث وناهيك بهذا شهادة على تناهي شجاعته فقال للعباس - وكان صيتا صح بالناس فنادى : يا عباد الله يا أصحاب الشجرة يا أصحاب سورة البقرة فكروا عنقا واحدا يقولون لبيك لبيك ونزلت الملائكة فاتقوا مع المشركين فقال صلى الله عليه و سلم هذا حين حمي الوطيس ثم أخذ كفا من تراب فرماهم ثم قال : انهزموا ورب الكعبة فانهزموا { فلم تغن عنكم } أي الكثرة { شيئا } من الإغناء أومن أمر العدو { وضاقت عليكم الأرض بما رحبت } برحبها أي بسعتها لا تجدون فيها مفرا تطمئن إليه نفوسكم من شدة الرعب أو لا تثبتون فيها كمن لا يسعه مكانه { ثم وليتم } الكفار ظهوركم { مدبرين } منهزمين و الإدبار الذهاب إلى خلف خلاف الإقبال

26 - { ثم أنزل الله سكينته } رحمته التي سكنوا بها وأمنوا { على رسوله وعلى المؤمنين } الذين انهزموا وإعادة الجار للتنبيه على اختلاف حاليهما وقيل هم الذين ثبتوا مع الرسول عليه الصلاة و السلام ولم يفروا { وأنزل جنودا لم تروها } بأعينكم أي الملائكة وكانوا خمسة آلاف أو ثمانية أو ستة عشر على اختلاف الأقوال { وعذب الذين كفروا } بالقتل والأسر والسبي { وذلك جزاء الكافرين } أي ما فعل بهم جزاء كفرهم في الدنيا

27 - { ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء } منهم بالتوفيق للإسلام { والله غفور رحيم } يتجاوز عنهم ويتفضل عليهم [ روي ( أن ناسا جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وأسلموا وقالوا : يا رسول الله أنت خير الناس و أبرهم وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا - وقد سبي يومئذ ستة آلاف نفس وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى - فقال صلى الله عليه و سلم : اختاروا إما سباياكم وإما أموالكم ؟ فقالوا ما كنا نعدل بالأحساب شيئا فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال : إن هؤلاء جاءوا مسلمين وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئا فمن كان بيده سبي وطابت نفسه أن يرده فشأنه ومن لا فليعطنا وليكن قرضا علينا حتى نصيب شيئا فنعطيه مكانه فقالوا : رضينا وسلمنا فقال : إني لا أدري لعل فيكم من لا يرضى فمروا عرفاءكم فليرفعوا إلينا فرفعوا أنهم قد رضوا ]

28 - { يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس } لخبث باطنهم أو لأنه يجب أن يجتنب عنهم كما يجتنب عن الأنجاس أو لأنهم لا يتطهرون ولا يتجنبون عن النجاسات فهم ملابسون لها غالبا وفيه دليل على أن ما الغالب نجاسته نجس وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن أعيانهم نجسة كالكلاب وقرئ ( نجس ) بالسكون وكسر النون وهو ككبد في كبد وأكثر ما جاء تابعا لرجس { فلا يقربوا المسجد الحرام } لنجاستهم وإنما نهى عن الاقتراب للمبالغة أو للمنع عن دخول الحرم وقيل المراد به النهي عن الحج والعمرة لا عن الدخول مطلقا وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى وقاس مالك سائر المساجد على المسجد الحرام في المنع وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالفروع { بعد عامهم هذا } يعني سنة ( براءة ) وهي التاسعة وقيل سنة حجة الوداع { وإن خفتم عيلة } فقرا بسبب منعهم من الحرم وانقطاع ما كان لكم من قدومهم من المكاسب والأرفاق { فسوف يغنيكم الله من فضله } من عطائه أو تفضله بوجه آخ وقد أنجز وعده بأن أرسل السماء عليهم مدرارا ووفق أهل تبالة وجرش فأسلموا وامتاروا لهم ثم فتح عليهم البلاد والغنائم وتوجه إليهم الناس من أقطار الأرض وقرئ ( عائلة ) على أنها مصدر كالعافية أوحال { إن شاء } قيده بالمشيئة لتنقطع الآمال إلى الله تعالى ولينبه على أنه تعالى متفضل في ذلك وأن الغنى الموعود يكون لبعض دون بعض وفي عام دون عام { إن الله عليم } بأحوالكم { حكيم } فيما يعطي ويمنع

29 - { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } أي لا يؤمنون بهما على ما ينبغي كما بيناه في ( أول البقرة ) فإن إيمانهم كلا إيمان { ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله } ما ثبت تحريمه بالكتاب والسنة وقيل رسوله هو الذي يزعمون اتباعه والمعنى أنهم يخالفون أصل دينهم المنسوخ اعتقادا وعملا { ولا يدينون دين الحق } الثابت الذي هو ناسخ سائر الأديان ومبطلها { من الذين أوتوا الكتاب } بيان للذين لا يؤمنون { حتى يعطوا الجزية } ما تقرر عليهم أن يعطوه مشتق من جزي دينه إذا قضاه { عن يد } حال من الضمير أي عن يد مؤاتيه بمعنى منقادين أو عن يدهم بمعنى مسلمين بأيديهم غير باعثين بأيدي غيرهم ولذلك منع من التوكيل فيه أو عن غنى ولذلك قيل : لا تؤخذ من الفقير أو عن يد قاهرة عليهم بمعنى عاجزين أذلاء أو من الجزية بمعنى نقدا مسلمة عن يد إلى يد أو عن إنعام عليهم فإن إبقاءهم بالجزية نعمة عظيمة { وهم صاغرون } أذلاء وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : تؤخذ الجزية من الذمي وتوجأ عنقه ومفهوم الآية يقتضي تخصيص الجزية بأهل الكتاب ويؤيده أن عمر رضي الله تعالى عنه [ أنه صلى الله عليه و سلم أخذها من مجوس هجر وأنه قال : سنوا بهم سنة
أهل الكتاب ] وذلك لأنهم لهم شبهة كتاب فألحقوا بالكتابيين وأما سائر الكفرة فلا تؤخذ منهم الجزية عندنا وعند أبي حنفية رحمه الله تعالى تؤخذ منهم إلا مشركي العرب لما روي الزهري أنه صلى الله عليه و سلم صالح عبدة الأوثان إلا من كان من العرب وعند مالك رحمه الله تعالى تؤخذ من كل كافر إلا المرتد وأقلها في كل سنة دينار سواء فيه الغني والفقير وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى على الغني ثمانية وأربعون درهما وعلى المتوسط نصفها وعلى الفقير الكسوب ربعها ولا شيء على الفقير غير الكسوب

30 - { وقالت اليهود عزير ابن الله } إنما قاله بعضهم من متقدميهم أو ممن كانوا بالمدينة وإنما قالوا ذلك لأنه لم يبق فيهم بعد وقعة بختنصر من يحفظ التوراة وهو لما أحياه الله بعد مائة عام أملى عليهم التوراة حفظا فتعجبوا من ذلك وقالوا : ما هذا إلا أنه ابن الله والدليل على أن هذا القول كان فيهم أن الآية قرئت عليهم فلم يكذبوا مع تهالكهم على التكذيب وقرأ عاصم و الكسائي و يعقوب ( عزيز ) بالتنوين على أنه عربي مخبر عنه بابن غير موصوف به وحذفه نفي القراءة الأخرى إما لمنع صرفه للعجمة والتعريف أو لالتقاء الساكنين تشبيها للنون بحروف اللين أو لأن الابن وصف والخبر محذوف مثل معبودنا أو صاحبنا وهو مزيف لأنه يؤدي إلى تسليم النسب وإنكار الخبر المقدر { وقالت النصارى المسيح ابن الله } هو أيضا قول بعضهم وإنما قالوه استحالة لأن يكون ولد بلا أب أو لأن يفعل ما فعله من إبراء الأكمة والأبرص وإحياء الموتى من لم يكن إلها { ذلك قولهم بأفواههم } إما تأكيد لنسبة هذا القول إليهم ونفي للتجوز عنها أو إشعار بأنه قول مجرد عن برهان وتحقيق مماثل للمهمل الذي يوجد في الأفواه ولا يوجد مفهومه في الأعيان { يضاهئون قول الذين كفروا } أي يضاهي قولهم قول الذين كفروا فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه { من قبل } أي من قبلهم والمراد قدماؤهم على معنى أن الكفر قديم فيهم أو المشركون الذين قالوا الملائكة بنات الله أو اليهود على أن الضمير للنصارى والمضاهاة المشابهة والهمز لغة فيه وقرأ به عاصم ومنه قولهم امرأة ضهيا على فعيل للتي شابهت الرجال في أنها لا تحيض { قاتلهم الله } دعاء عليهم بالإهلاك فإن من قاتله الله هلك أو تعجب من شناعة قولهم { أنى يؤفكون } كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل

31 - { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } بان أطاعوهم في تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم الله أو بالسجود لهم { والمسيح ابن مريم } بأن جعلوه ابنا لله { وما أمروا } أي وما أمر المتخذون أو المتخذون أربابا فيكون كالدليل على بطلان الاتخاذ { إلا ليعبدوا } ليطيعوا { إلها واحدا } وهو الله تعالى وأما طاعة الرسول وسائر من أمر الله بطاعته فهو في الحقيقة طاعة لله { لا إله إلا هو } صفة ثانية أو استئناف مقرر للتوحيد { سبحانه عما يشركون } تنزيه له عن أن يكون له شريك

32 - { يريدون أن يطفئوا } يخمدوا { نور الله } حجته الدالة على وحدانيته تقدسه عن الولد أو القرآن أو نبوة محمد صلى الله عليه و سلم { بأفواههم } بشركهم أو بتكذيبهم { ويأبى الله } أي لا يرضى { إلا أن يتم نوره } بإعلاء التوحيد وإعزاز الإسلام وقيل إنه تمثيل لحالهم في طلبهم إبطال نبوة محمد صلى الله عليه و سلم بالتكذيب بحال من يطلب إطفاء نور عظيم منبث في الآفاق يريد الله أن يزيده بنفخه وإنما صح الاستثناء المفرغ والفعل موجب لأنه في معنى النفي { ولو كره الكافرون } محذوف الجواب لدلالة ما قبله عليه

33 - { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله } كالبيان لقوله : { ويأبى الله إلا أن يتم نوره } ولذلك كرر { ولو كره المشركون } غير أنه وضع المشركون موضع الكافرون للدلالة على أنهم ضموا الكفر بالرسول إلى الشرك بالله والضمير في { ليظهره } للدين الحق أو للرسول عليه الصلاة و السلام واللام في { الدين } للجنس أي على سائر الأديان فينسخها او على أهلها فيخذلهم

34 - { يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل } يأخذنها بالرشا في الأحكام سمي أخذ المال أكلا لأنه الغرض الأعظم منه { ويصدون عن سبيل الله } دينه { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله } يجوز أن يراد به الكثير من الأحبار والرهبان فيكون مبالغة في وصفهم بالحرص على المال والضن به وأن يراد به المسلمون الذين يجمعون المال ويقتنونه ولا يؤدون حقه ويكون اقترانه بالمرتشين من أهل الكتاب للغليظ ويدل عليه أنه لما نزل كبر على المسلمين فذكر عمر رضي الله تعالى عنه لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم ] وقوله عليه الصلاة السلام : [ ما أدي زكاته فليس بكنز ] أي بكنز أوعد عليه فان الوعيد على الكنز مع عدم الإنفاق فيما أمر الله أن يفق فيه وأما قوله صلى الله عليه و سلم [ من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها ] ونحوه فالمراد منها ما لم يؤد حقها لقوله عليه الصلاة و السلام فيما أورده الشيخان مرويا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه [ ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره ] { فبشرهم بعذاب أليم } هو الكي بهما

35 - { يوم يحمى عليها في نار جهنم } أي يوم توقد النار ذات حمى شديد عليها وأصله تحمى بالنار فجعل الإحماء للنار مبالغة ثم حذفت النار وأسند الفعل إلى الجار والمجرور تنبيها على المقصود فانتقل من صيغة التأنيث إلى صيغة التذكير وإنما قال { عليها } والمذكور شيئان لآن المراد بهما دنانير ودراهم كثيرة كما قال علي رضي الله تعالى عنه : أربعة آلاف وما دونها وما فوقها كنز وكذا قوله تعالى : { ولا ينفقونها } وقيل الضمير فيهما للكنوز أو للأموال فإن الحكم عام وتخصيصهما بالذكر لأنهما قانون التمول او للفضة وتخصيصها لقربها ودلالة حكمها على أن الذهب أولى بهذا الحكم { فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم } لأن جمعهم إمساكهم إيان كان لطلب الوجاهة بالغنى والتنعم بالمطاعم الشهية والملابس البهية أو لأنهم ازوروا عن السائل وأعرضوا عنه وولوه ظهورهم أو لأنها أشرف الأعضاء الظاهرة فإنها المشتملة على الأعضاء الرئيسية التي هي الدماغ والقلب والكبد أو لأنها أصول الجهات الأربع التي هي مقاديم البدن ومآخيره وجنباه { هذا ما كنزتم } على إرادة القول { لأنفسكم } لمنفعتها وكان عين مضرتها وسبب تعذيبها { فذوقوا ما كنتم تكنزون } أي وبال كنزكم أو ما تكنزونه وقرئ { تكنزون } بضم النون

36 - { إن عدة الشهور } أي مبلغ عددها { عند الله } معمول عدة لأنها مصدر { اثنا عشر شهرا في كتاب الله } في اللوح المحفوظ أو في حكمه وهو صفة لاثني عشر وقوله : { يوم خلق السموات والأرض } متعلق بما فيه من معنى الثبوت أو بالكتاب إن جعل مصرا والمعنى : أن هذا أمر ثابت في نفس الأمر مذ خلق الله الأجرام والأزمنة { منها أربعة حرم } واحد فرد وهو رجب وثلاثة سرد ذو القعدة وذو الحجة والمحرم { ذلك الدين القيم } أي تحريم الأشهر الأربعة هو الدين القويم دين إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام والعرب ورثوه منهما { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } بهتك حرمتها وارتكاب حرامها والجمهور على أن حرمة المقاتلة فيها منسوخة وأولو الظلم بارتكاب المعاصي فيهن فإنه أعظم وزرا كارتكابها في الحرم وحال الإحرام وعن عطاء أنه لا يحل للناس أن يغزوا في الحرم وفي الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا ويؤيد الأول ما روي [ أنه عليه الصلاة و السلام حاصر الطائف وغزا هوازن بحنين في شوال وذي القعدة ] { وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة } جميعا وهو مصدر كف عن الشيء فإن الجميع مكفوف عن الزيادة وقع موقع الحال { واعلموا أن الله مع المتقين } بشارة وضمان لهم بالنصرة بسبب تقواه

37 - { إنما النسيء } أي تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر كانوا إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا مكانه شهرا آخر حتى رفضوا خصوص الأشهر واعتبروا مجرد العدد وعن نافع برواية ورش ( إنما النسي ) بقلب الهمزة ياء وإدغام الياء فيها وقرئ ( النسي ) بحذفها والنسء والنساء وثلاثتها مصادر نسأه إذا أخره { زيادة في الكفر } لأنه تحريم ما أحله الله وتحليل ما حرمه الله فهو كفر آخر ضموه إلى كفرهم { يضل به الذين كفروا } ضلالا زائدا وقرأ حمزة و الكسائي و حفص { يضل } على البناء للمفعول وعن يعقوب { يضل } على أن الفعل لله تعالى { يحلونه عاما } يحلون المنسي من الأشهر الحرم سنة ويحرمون مكانه شهرا آخر { ويحرمونه عاما } فيتركونه على حرمته قيل : أول من أحدث ذلك جنادة بن عوف الكناني كان يقوم على جمل في الموسم فينادي : إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه ثم ينادي في القبائل إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه والجملتان تفسير للضلال أوحال { ليواطئوا عدة ما حرم الله } أي ليوافقوا عدة الأربعة المحرمة واللام متعلقة بيحرمونه أو بما دل عليه مجموع الفعلين { فيحلوا ما حرم الله } بمواطأة العدة وحدها من غير مراعاة الوقت { زين لهم سوء أعمالهم } وقرء على البناء للفاعل وهو الله تعالى والمعنى خذلهم وأضلهم حتى حسبوا قبيح أعمالهم حسنا { والله لا يهدي القوم الكافرين } هداية موصلة إلى الاهتداء

38 - { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم } تباطأتم وقرئ ( تثاقلتم ) على الأصل و ( أثاقلتم ) على الاستفهام للتوبيخ { إلى الأرض } متعلق به كأنه ضمن معنى الإخلاد والميل فعدي بإلى وكان ذلك في غزوة تبوك أمروا بها بعد رجوعهم من الطائف في وقت عسرة وقيظ مع بعد الشقة وكثرة العدو فشق عليهم { أرضيتم بالحياة الدنيا } وغرورها { من الآخرة } بدل الآخرة ونعيمها { فما متاع الحياة الدنيا } فما التمتع بها { في الآخرة } في جنب الآخرة { إلا قليل } مستحقر

39 - { إلا تنفروا } إن لا تنفروا إلى ما استنفرتم إليه { يعذبكم عذابا أليما } بالإهلاك بسبب فظيع كقحط وظهور عدو { ويستبدل قوما غيركم } ويستبدل بكم آخرين مطيعين كأهل اليمن وأبناء فارس { ولا تضروه شيئا } إذ لا يقدح تثاقلكم في نصر دينه شيئا فإنه الغني عن كل شيء وفي كل أمر وقيل الضمير للرسول صلى الله عليه و سلم أي ولا تضروه فإن الله سبحانه وتعالى وعد له بالعصمة والنصرة ووعده حق { والله على كل شيء قدير } فيقدر على التبديل وتغيير الأسباب والنصرة بلا مدد كما قال

40 - { إلا تنصروه فقد نصره الله } أي إن لم تنصروه فسينصره الله كما نصره : { إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين } ولم يكن معه إلا رجل واحد فحذف الجزاء وأقيم ما هو كالدليل عليه مقامه أو إن لم تنصروه فقد أوجب الله له النصر حتى نصره في مثل ذلك الوقت فلن يخذله في غيره وإسناد الإخراج إلى الكفرة لأن همهم بإخراجه أو قتله تسبب لإذن الله له بالخروج وقرئ { ثاني اثنين } بالسكون على لغة من يجري المنقوص مجرى المقصور في الإعراب ونصبه على الحال { إذ هما في الغار } بدل من إذ أخرجه بدل البعض إذ المراد به زمان متسع والغار نقب في أعلى ثور وهو جبل في يمنى مكة على مسيرة ساعة مكثا فيه ثلاثا { إذ يقول } بدل ثان أو ظرف لثاني { لصاحبه } وهو أبو بكر رضي الله تعالى عنه { لا تحزن إن الله معنا } بالعصمة والمعونة [ روي ( أن المشركين طلعوا فوق الغار فأشفق أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) فأعماهم الله عن الغار فجعلوا يترددون حوله فلم يروه ] وقيل لما دخلا الغار بعث الله حمامتين فباضتا في أسفله والعنكبوت فنسجت عليه { فأنزل الله سكينته } أمنته التي تسكن عندها القلوب { عليه } على النبي صلى الله عليه و سلم أو على صاحبه وهو الأزهر لأنه كان منزعجا { وأيده بجنود لم تروها } يعني الملائكة أنزلهم ليحرسوه في الغار أو ليعينوه على العدو يوم بدر والأحزاب وحنين فتكون الجملة معطوفة على قوله { نصره الله } { وجعل كلمة الذين كفروا السفلى } يعني الشرك أو دعوة الكفر { وكلمة الله هي العليا } يعني التوحيد أو دعوا الإسلام والمعنى وجعل ذلك بتخليص الرسول صلى الله عليه و سلم عن أيدي الكفار إلى المدينة فإنه المبدأ له أو بتأييده إياه بالملائكة في هذا المواطن أو بحفظه ونصره له حيث حضر وقرأ يعقوب { وكلمة الله } بالنصب عطفا على كلمة { الذين } والرفع أبلغ لما فيه من الأشعار بأن { كلمة الله } عالية في نفسها وإن فاق غيرها فلا ثبات لتفوقه ولا اعتبار ولذلك وسط الفصل { والله عزيز حكيم } في أمره وتدبيره

41 - { انفروا خفافا } لنشاطكم له { وثقالا } عنه لمشقته عليكم أو لقلة عيالكم ولكثرتها أو ركبانا ومشاة أو خفافا وثقالا من السلاح أو صحاحا ومراضا ولذلك لما قال ابن مكتوم لرسول الله صلى الله عليه و سلم : أعلي أن أنفر قال ( نعم ) حتى نزل { ليس على الأعمى حرج } { وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله } بما أمكن لكم منهما كليهما أو أحدهما { ذلكم خير لكم } من تركه { إن كنتم تعلمون } الخير علمتم أنه خير أو إن كنتم تعلمون أنه خير إذ إخبار الله تعالى به صدق فبادروا إليه

42 - { لو كان عرضا } أي لو كان ما دعوا إليه نفعا دنيويا { قريبا } سهل المأخذ { وسفرا قاصدا } متوسطا { لاتبعوك } لوافقوك { ولكن بعدت عليهم الشقة } أي المسافة التي تقطع بمشقة وقرئ بكسر العين والشين { وسيحلفون بالله } أي المتخلفون إذا رجعت من تبوك معتذرين { لو استطعنا } يقولون أو كان لنا استطاعة العدة أو البدن وقرئ { لو استطعنا } بضم الواو تشبيها لها بواو الضمير في قوله : { اشتروا الضلالة } { لخرجنا معكم } ساد مسد جوابي القسم والشرط وهذا من المعجزات لأنه إخبار عما وقع قبل وقوعه { يهلكون أنفسهم } بإيقاعها في العذاب وهو بدل من سيحلفون لأن الحلف الكاذب إيقاع للنفس في الهلاك أو حال من فاعله { والله يعلم إنهم لكاذبون } في ذاك لأنهم كانوا مستطيعين الخروج

43 - { عفا الله عنك } كناية عن خطئه في الإذن فأن العفو من رواد فه { لم أذنت لهم } بيان لما كني عنه بالعفو ومعاتبة عليه والمعنى لأي شيء أذنت لهم في القعود حين استأذنوك واعتلوا بأكاذيب وهلا توقفت { حتى يتبين لك الذين صدقوا } في الاعتذار { وتعلم الكاذبين } فيه قيل إنما فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئين لم يؤمر بهما أخذه للفداء وإذنه للمنافقين فعاتبه الله عليهما

44 - { لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم } أي ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا فإن الخلص منهم يبادرون إليه ولا يتوقفون على الإذن فيه فضلا أن يستأذنوك في التخلف عنه أو أن يستأذنوك في التخلف كراهة أن يجاهدوا { والله عليم بالمتقين } شهادة لهم بالتقوى وعدة لهم بثوابه

45 - { إنما يستأذنك } في التخلف { الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر } تخصيص الإيمان بالله عز و جل واليوم الآخر في الموضعين للإشعار بأن الباعث على الجهاد والوازع عنه الإيمان وعد الإيمان بهما { وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون } يتحيرون

46 - { ولو أرادوا الخروج لأعدوا له } للخروج { عدة } أهبة وقرئ عده بحذف التاء عند الإضافة كقوله :
( إن الخليط أجدوا البين فانجردوا ... وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا )
وعده بكسر العين بالإضافة وعدة بغيرها { ولكن كره الله انبعاثهم } استدراك عن مفهوم قوله : { ولو أرادوا الخروج } كأنه قال ما خرجوا ولكن تثبطوا لأنه تعالى كره انبعاثها أي نهوضهم للخروج { فثبطهم } فحسبهم بالجبن والكسل { وقيل اقعدوا مع القاعدين } تمثيل لإلقاء الله كراهة الخروج في قلوبهم أو وسوسة الشيطان بالأمر بالقعود أو حكاية قول بعضهم لبعض أو إذن لرسول عليه السلام لهم والقاعدين يحتمل المعذورين وغيرهم وعلى الوجهين لا يخلو عن ذم

47 - { لو خرجوا فيكم ما زادوكم } بخروجهم شيئا { إلا خبالا } فسادا وشرا ولا يستلزم ذلك أن يكون لهم خبال حتى لو خرجوا زادوه لأن الزيادة باعتبار أعم العام الذي وقع منه الاستثناء ولأجل هذا التوهم جعل الاستثناء منقطعا وليس كذلك لأنه لا يكون مفرغا { ولأوضعوا خلالكم } ولأسرعوا ركائبهم بينكم بالنميمة والتضريب أو الهزيمة والتخذيل من وضع البعير وضعا إذا أسرع { يبغونكم الفتنة } يريدون أن يفتنوكم بإيقاع الخلاف فيما بينكم أو الرعب في قلوبكم والجملة حال من الضمير في ( أوضعوا ) { وفيكم سماعون لهم } ضعفة يسمعون قولهم ويطيعونهم أو نمامون يسمعونه حديثكم للنقل إليهم { والله عليم بالظالمين } فيعلم ضمائرهم وما يتأتى منهم

48 - { لقد ابتغوا الفتنة } تشتيت أمرك وتفريق أصحابك { من قبل } يعنى يوم أحد فإن ابن أبي وأصحابه كما تخلفوا عن تبوك بعدما خرجوا مع الرسول صلى الله عليه و سلم إلى ذي جدة أسفل من ثنية الوداع انصرفوا يوم أحد { وقلبوا لك الأمور } ودبروا لك المكايد والحيل ودوروا الآراء في إبطال أمرك { حتى جاء الحق } بالنصر والتأييد الإلهي { وظهر أمر الله } وعلا دينه { وهم كارهون } أي على رغم منهم والآيتان لتسلية الرسول صلى الله عليه و سلم والمؤمنين على تخلفهم وبيان ما ثبطهم الله لأجله وكره انبعاثهم له وهتك أستارهم وكشف أسرارهم وإزاحة اعتذارهم تداركا لما فوت الرسول صلى الله عليه و سلم بالمبادرة إلى الأذن ولذلك عوتب عليه

49 - { ومنهم من يقول ائذن لي } في القعود { ولا تفتني } ولا توقعني في الفتنة أي في العصيان والمخلفة بأن لا تأذن لي وفيه إشعار بأنه لا محالة متخلف أذن له أم لم يأذن او في الفتنة بسبب ضياع المال والعيال إذ لا كافل لهم بعدي أو في الفتنة بنساء الروم لما روي : أن جد بن قيس قال : قد عملت الأنصار أني مولع بالنساء فلا تفتني ببنات الأصفر ولكني أعينك بمالي فاتركني { ألا في الفتنة سقطوا } أي إن الفتنة هي التي سقطوا فيها وهي فتنة التخلف أو ظهور النفاق لا ما احترزوا عنه { وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } جامعة لهم يوم القيامة أو الآن لأن إحاطة أسبابها بهم كوجودها

50 - { إن تصبك } في بعض غزواتك { حسنة } ظفر وغنيمة { تسؤهم } لفرط حسدهم { وإن تصبك } في بعضها { مصيبة } كسر أو شدة كما أصاب يوم أحد { يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل } تبجحوا بانصرافهم واستحمدوا رأيهم في التخلف { ويتولوا } عن متحدثهم بذلك ومجتمعهم له أو عن الرسول صلى الله عليه و سلم { وهم فرحون } مسرورون

51 - { قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا } إلا ما احتصنا بإثباته و إيجابه من النصرة او الشهادة أو ما كتب لأجلنا في اللوح المحفوظ لا يتغير بموافقتكم ولا بمخالفتكم وقرئ ( هل يصيبنا ) وهو من فيعل لا من فعل لأنه من بنات الواو لقولهم صاب السهم يصوب واشتقاقه من الصواب لأنه وقوع الشيء فيما قصد به وقيل من الصواب { هو مولانا } ناصرنا ومتولي أمورنا { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } لأن حقهم أن لا يتوكلوا على غيره

52 - { قل هل تربصون بنا } تنتظرون بنا { إلا إحدى الحسنيين } إلا إحدى العاقبتين اللتين كل منهما حسنى العواقب : النصرة والشهادة { ونحن نتربص بكم } أيضا إحدى السوأيين { أن يصيبكم الله بعذاب من عنده } بقارعة من السماء { أو بأيدينا } أو بعذاب بأيدنيا وهو القتل على الكفر { فتربصوا } ما هو عاقبتنا { إنا معكم متربصون } ما هو عاقبتكم

53 - { قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم } أمر في معنى الخبر أي لن يتقبل منكم نفقاتكم أنفقتم طوعا أو كرها وفائدته المبالغة في تساوي الإنفاقين في عدم القبول كأنهم أمروا بأن يمتحنوا فينفقوا وينظروا هل يتقبل منهم وهو جواب قول جد بن قيس وأعينك بمالي ونفي التقبل يحتمل أمرين أن لا يؤخذ منهم وأن لا يثابوا عليه وقوله : { إنكم كنتم قوما فاسقين } تعليل له على سبيل الاستئناف وما بعده بيان وتقرير له

54 - { وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله } أي وما منعهم قبول نفقاتهم إلا كفرهم وقرأ حمزة و الكسائي ( أن يقبل ) بالياء لأن تأنيث النفقات غير حقيقي وقرئ ( يقبل ) على أن الفعل لله { ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى } متثاقلين { ولا ينفقون إلا وهم كارهون } لأنهم لا يرجون بهما ثوابا ولا يخافون على تركهما عقابا

55 - { فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم } فإن ذلك استدراج ووبال لهم كما قال { إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا } بسبب ما يكابدون لجمعها وحفظها من المتاعب وما يرون فيها من الشدائد والمصائب { وتزهق أنفسهم وهم كافرون } فيموتوا كافرين مستغلين بالتمتع عن النظر في العاقبة فيكون ذلك استدراجا لهم وأصل الزهوق الخروج بصعوبة

56 - { ويحلفون بالله إنهم لمنكم } إنهم لمن جملة المسلمين { وما هم منكم } لكفر قلوبهم { ولكنهم قوم يفرقون } يخافون منكم أن تفعلوا بهم ما تفعلون بالمشركين فيظهرون الإسلام تقية

57 - { لو يجدون ملجأ } حصنا يلجؤون إليه { أو مغارات } غيرانا { أو مدخلا } نفقا ينجحرون فيه مفتعل من الدخول وقرأ يعقوب { مدخلا } من مدخل وقرئ { مدخلا } أي مكانا يدخلون فيه أنفسهم و ( مندخلا ) من تدخل و اندخل { لولوا إليه } لأقبلوا نحوه { وهم يجمحون } يسرعون إسراعا لا يردهم شيء كالفرس الجموح وقرئ ( يجمزون ) ومنه الجمازة

58 - { ومنهم من يلمزك } يعيبك وقرأ يعقوب ( يلمزك ) بالضم و ابن كثير ( يلامزك ) { في الصدقات } في قسمها { فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون } قيل إنها نزلت في أبي الجواظ المنافق فقال : ألا ترون إلى صاحبكم إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم ويزعم أنه يعدل وقيل في ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقسم غنائم حنين فاستعطف قلوب أهل مكة بتوفير الغنائم عليهم فقال : اعدل يا رسول الله فقال : ( ويلك إن لم أعدل فمن يعدل ) ] و { إذا } للمفاجأة نائب مناب الفاء الجزائية

59 - { ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله } ما أعطاهم الرسول من الغنيمة أو الصدقة وذكر الله للتعظيم وللتنبيه على أن ما فعله الرسول عليه الصلاة و السلام كان بأمره { وقالوا حسبنا الله } كفانا فضله { سيؤتينا الله من فضله } صدقة أو غنيمة أخرى { ورسوله } فيؤتينا أكثر مما آتانا { إنا إلى الله راغبون } في أن يغنينا من فضله والآية بأسرها في حيز الشرط والجواب بمحذوف تقديره { خيرا لهم } ثم بين مصارف الصدقات تصويبا وتحقيقا لما فعله الرسول صلى الله عليه و سلم فقال :

60 - { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } أي الزكوات لهؤلاء المعدودين دون غيرهم وهو دليل على أن المراد باللمز لمزهم في قسم الزكوات دون الغنائم والفقير من لا مال له ولا كسب يقع موقعا من حاجته من الفقار كأنه أصيب فقاره والمسكين من له مال أو كسب لا يكفيه من السكون كأن العجز أسكنه ويدل عليه قوله تعالى : { أما السفينة فكانت لمساكين } وأنه صلى الله عليه و سلم كان يسأل المسكنة ويتعوذ من الفقر وقيل بالعكس لقوله تعالى : { مسكينا ذا متربة } { والعاملين عليه } الساعين في تحصيلها وجمعها { والمؤلفة قلوبهم } قوم أسلموا ونيتهم ضعيفة فيه فيستأنف قلوبهم أو أشراف قد يترتب بإعطائهم ومراعاتهم إسلام نظرائهم وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه و سلم عيينة بن حصن والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس لذلك وقيل أشراف يستأنفون على أن يسلموا فإن النبي صلى الله عليه و سلم كان يعطيهم والأصح أنه كان يعطيهم من خمس الخمس الذي كان خاص ماله وقد عد منهم من يؤلف قلبه بشيء منها على قتال الكفار ومانعي الزكاة وقيل كان سهم المؤلفة لتكثير سواد الإسلام فلما أعزه الله وأكثر أهله سقط { وفي الرقاب } وللصرف في فك الرقاب بأن يعاون المكاتب بشيء منها على أداء النجوم
وقيل بأن تبتاع الرقاب فتعتق وبه قال مالك و أحمد أو بأن يفدي الأسارى
والعدول عن اللام إلى { في } للدلالة على أن الاستحقاق للجهة لا للرقاب وقيل للإيذان بأنهم أحق بها { والغارمين } والمديونين لأنفسهم في غير معصية ومن غير إسراف إذا لم يكن لهم وفاء أو لإصلاح ذات البين وإن كانوا أغنياء [ لقوله صلى الله عليه و سلم لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : لغاز في سبيل الله أو لغارم او لرجل اشتراها بماله أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني أو لعامل عليها ] { وفي سبيل الله } وللصرف في الجهاد بالإنفاق على المتطوعة وابتياع الكراع والسلاح وقيل وفي بناء القناطر والمصانع { وابن السبيل } المسافر المنقطع عن ماله { فريضة من الله } مصدر لما دل عليه الآية الكريمة أي فرض لهم الله الصدقات فريضة او حال من الضمير المستكن في { للفقراء } وقرئ بالرفع على تلك { فريضة } { والله عليم حكيم } يضع الأشياء في مواضعها وظاهر الآية يقتضي تخصيص استحقاق الزكاة بالأصناف الثمانية ووجوب الصرف إلى كل صنف وجد منهم ومراعاة التسوية بينهم قضية للاشتراك وإليه ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه وعن عمر وحذيفة وابن عباس من وغيرهم من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين جواز صرفها إلى صنف واحد وبه قال الأئمة الثلاثة واختاره بعض أصحابنا وبه كان يفتي شيخي ووالدي رحمهما الله تعالى على أن الآية بيان أن الصدقة لا تخرج منهم لا إيجاب قسمها عليهم

61 - { ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن } يسمع كل ما يقال له ويصدقه سمي بالجارحة للمبالغة كأنه من فرط استماعه9 صار جملته آلة السماع كما سمي الجاسوس عينا لذلك او اشتق له فعل من أذن أذنا إذا استمع كأنف وشلل روي أنهم قالوا محمد أذن سامعه نقول ما شئنا ثم نأتيه فيصدقنا بما نقول { قل أذن خير لكم } تصديق لهم بأنه أذن ولكن لا على الوجه الذي ذموا به بل من حيث أنه يسمع الخير ويقبله ثم فسر ذلك بقوله : { يؤمن بالله } يصدق به لما قام عنده من الأدلة { ويؤمن للمؤمنين } ويصدقهم لما علم من خلوصهم وللام مزيدة للتفرقة بين إيمانا لتصديق فإنه بمعنى التسليم وإيمان الأمان { ورحمة } أي وهو رحمة { للذين آمنوا منكم } لمن أظهر الإيمان بحيث يقبله ولا يكشف سره وفيه تنبيه على أنه ليس يقبل قولكم جهلا بحالكم بل رفقا بكم وترحما عليكم وقرأ حمزة { ورحمة } بالجر عطفا على { خير } وقيل بالنصب على أنها علة فعل دل عليه { أذن خير } أي يأذن لكم رحمة وقرأ نافع { أذن } بالتخفيف فيهما وقرئ { أذن خير } على أن { خير } صفة له أو خبر ثان { والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم } بإيذائه

62 - { يحلفون بالله لكم } على معاذيركم فيما قالوا أو تخلفوا { ليرضوكم } لترضوا عنهم والخطاب للمؤمنين { والله ورسوله أحق أن يرضوه } أحق بالإرضاء بالطاعة والوفاق وتوحيد الضمير لتلازم الرضائين أو لن الكلام في إيذاء الرسول صلى الله عليه و سلم وإرضائه أو لأن التقدير والله أحق أن يرضوه الرسول كذلك { إن كانوا مؤمنين } صدقا

63 - { ألم يعلموا أنه } أن الشأن وقرئ بالتاء { من يحادد الله ورسوله } يشاقق مفاعلة من الحد { فإن له نار جهنم خالدين فيها } في حذف الخبر أي فحق أن له أو على تكرير أن للتأكيد ويحتمل أن يكون معطوفا على أنه ويكون الجواب محذوفا تقديره من يحادد الله ورسوله يهلك وقرئ { فإن } بالكسر { ذلك الخزي العظيم } يعني الهلاك الدائم

64 - { يحذر المنافقون أن تنزل عليهم } على المؤمنين { سورة تنبئهم بما في قلوبهم } وتهتك عليهم أستارهم ويجوز أن يكون الضمائر للمنافقين فإن النازل فيهم كالنازل عليهم من حيث إنه مقروء ومحتج به عليهم وذلك يدل على ترددهم أيضا في كفرهم وأنهم لم يكونوا على بت في أمر الرسول صلى الله عليه و سلم بشيء وقيل إنه خبر في معنى الأمر وقيل كانوا يقولونه فيما بينهم استهزاء لقوله : { قل استهزئوا إن الله مخرج } مبرز أو مظهر { ما تحذرون } أي ما تحذرونه من إنزال السورة فيكم أو ما تحذرون إظهاره من مساويكم

65 - { ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب } روي : [ أن ركب المنافقين مروا على رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة تبوك فقالوا : انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتح قصور الشام وحصونه هيهات هيهات فأخبر الله تعالى به نبيه فدعاهم فقال : ( قلتم كذا وكذا ) فقالوا لا والله ما منا في شيء من أمرك وأمر أصحابك ولكن كنا في شيء مما يخوض فيه الركب ليقصر بعضنا على بعض السفر ] { قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون } توبيخا على استهزائهم بمن لا يصح الاستهزاء به وإلزاما للحجة عليهم ولا تعبأ باعتذارهم الكاذب

66 - { لا تعتذروا } لا تشتغلوا باعتذاراتكم فإنها معلومة الكذب { قد كفرتم } قد أظهرتم الفر بإيذاء الرسول صلى الله عليه و سلم والطعن فيه { بعد إيمانكم } بعد إظهاركم الإيمان { إن نعف عن طائفة منكم } لتوبتهم وإخلاصهم أو لتجنبهم عن الإيذاء والاستهزاء { نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين } مصريه على النفاق أو مقدمين على الإيذاء والاستهزاء وقرأ عاصم بالنون فيهما وقرئ بالياء وبناء الفاعل فيهما وهو الله ( وإن تعف ) بالتاء والبناء على المفعول ذهابا إلى المعنى كأنه قال : أن ترحم طائفة

67 - { المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض } أي متشابهة في النفاق والبعد عن الإيمان كأبعاض الشيء الواحد وقيل إنه تكذيب لهم في حلفهم بالله إنهم لمنكم وتقرير لقولهم وما هم منكم وما بعده كالدليل عليه فإنه يدل على مضادة حالهم لحال المؤمنين وهو قوله : { يأمرون بالمنكر } بالكفر والمعاصي { وينهون عن المعروف } عن الإيمان والطاعة { ويقبضون أيديهم } عن المبار وقبض اليد كناية عن الشح { نسوا الله } غفلوا عن ذكر الله وتركوا طاعته { فنسيهم } فتركهم من لطفه وفضله { إن المنافقين هم الفاسقون } الكاملون في التمرد والفسوق عن دائرة الخير

68 - { وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها } مقدرين الخلود { هي حسبهم } عقابا وجزاء وفيه دليل على عظم عذابها { ولعنهم الله } أبعدهم من رحمته وأهانهم { ولهم عذاب مقيم } لا ينقطع والمراد به ما وعدوه أو ما يقاسونه من تعب النفاق

69 - { كالذين من قبلكم } أي أنتم مثل الذين أو فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم { كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا } بيان لتشبيههم بهم وتمثيل حالهم بحالهم { فاستمتعوا بخلاقهم } نصيبهم من ملاذ الدنيا واشتقاقه من الخلف بمعنى التقدير فإنه ما قدر لصاحبه { فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم } ذم الأولين باستمتاعهم بحظوظهم المخدجة من الشهوات الفانية والتهائهم بها عن النظر في العاقبة والسعي في تحصيل اللذائذ الحقيقية تمهيدا لذم المخاطبين بمشابهتهم واقتفاء أثرهم { وخضتم } ودخلتم في الباطل { كالذي خاضوا } كالذين خاضوا أو كالفوج الذي خاضوا او كالخوض الذي خاضوه { أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } لم يستحقوا عليها ثوابا في الدارين { وأولئك هم الخاسرون } الذين خسروا الدنيا والآخرة

70 - { ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح } أغرقوا بالطوفان { وعاد } أهلكوا بالريح { وثمود } اهلكوا بالرجفة { وقوم إبراهيم } أهلك نمرود ببعوض وأهلك أصحابه { وأصحاب مدين } وأهل مدين وهم قوم شعيب أهلكوا بالنار يوم الظلة { والمؤتفكات } قريات قوم لوط ائتفكت بهم أي انقلبت بهم فصار عاليها سافلها وأمطروا حجارة من سجيل وقيل قريات المكذبين المتمردين و ائتفاكهن انقلاب أحوالهن من الخير إلى الشر { أتتهم رسلهم } يعني الكل { بالبينات فما كان الله ليظلمهم } أي لم يك من عادته ما يشابه ظلم الناس كالعقوبة بلا جرم { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } حيث عرضوها للعقاب بالكفر والتكذيب

71 - { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } في مقابلة قوله المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض { يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله } في سائر الأمور { أولئك سيرحمهم الله } لا محالة فإن السين مؤكدة للوقوع { إن الله عزيز } غالب على كل شيء لا يمتنع عليه ما يريده { حكيم } يضع الأشياء مواضعها

72 - { وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة } تستطيبها النفس أو يطيب فيها العيش وفي الحديث أنها قصور من اللؤلؤ والزبرجد والياقوت الأحمر { في جنات عدن } إقامة وخلود [ وعنه عليه الصلاة و السلام عدن دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر لا يسكنها غير ثلاثة النبيون والصديقون والشهداء يقول الله تعالى : طوبى لمن دخلك ] ومرجع العطف فيها يحتمل أن يكون إلى تعدد الموعود لكل واحد أو للجميع على سبيل التوزيع أو إلى تغاير وصفه فكأنه وصفه أولا بأنه من جنس ما هو أبهى الأماكن التي يعرفونها لتميل إليه طباعهم أول ما يقرع أسماعهم ثم وصفه بأنه محفوف بطيب العيش معرى عن شوائب الكدورات التي لا تخلو عن شيء منها أماكن الدنيا وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ثم وصفه بأنه جار إقامة وثبات في جوار عليين لا يعتريهم فيها فناء ولا تغير ثم وعدهم بما هو أكبر من ذلك فقال { ورضوان من الله أكبر } لأنه المبدأ لكل سعادة وكرامة والمؤدي إلى نيل الوصول والفوز باللقاء [ وعنه صلى الله عليه و سلم إن الله تعالى يقول لأهل الجنة هل رضيتم فيقولون : وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول : أنا أعطيكم أفضل من ذلك ن فيقولون : وأي شيء من ذلك فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا ] { ذلك } أي الرضوان أو جميع ما تقدم { هو الفوز العظيم } الذي تستحقر دونه الدنيا وما فيها

73 - { يا أيها النبي جاهد الكفار } بالسيف { والمنافقين } بإلزام الحجة وإقامة الحدود { واغلظ عليهم } في ذلك ولا تحابهم { ومأواهم جهنم وبئس المصير } مصيرهم

74 - { يحلفون بالله ما قالوا } [ روي أنه صلى الله عليه و سلم أقام في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن ويعيب المتخلفين فقال الجلاس بن سو يد : لئن كان ما يقول محمد لإخواننا حقا لنحن شر من الحمير فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستحضره فحلف بالله ما قاله فنزلت فتاب الجلاس وحسنت توبته ] { ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم } وأظهروا الكفر بعد إظهار الإسلام { وهموا بما لم ينالوا } من فتك الرسول وهو أن خمسة عشر منهم توافقوا عند مرجعه من تبوك أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذ تسنم العقبة بالليل فأخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وقعقعة السلام فقال إليكم إليكم يا أعداء الله فهربوا أو إخراجه وإخراج المؤمنين من المدينة أو بأن يتوجوا عبدالله بن أبي وإن لم يرض رسول الله صلى الله عليه و سلم { وما نقموا } وما أنكروا أو ما وجدوا ما يورث نقمتهم { إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله } فإن أكثر أهل المدينة كانوا محاويج في ضنك من العيش فما قدمهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أثروا بالغنائم وقتل للجلاس مولى فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بديته اثني عشر ألفا فاستغنى والاستثناء مفرغ من أعم المفاعيل أو العلل { فإن يتوبوا يك خيرا لهم } وهو الذي حمل الجلاس على التوبة والضمير في { يك } للتوب { وإن يتولوا } بالإصرار على النفاق { يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة } بالقتل والنار { وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير } فينجيهم من العذاب

75 - { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن و لنكونن من الصالحين } [ نزلت في ثعلبة بن حاطب أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : ادع الله أن يرزقني مالا فقال عليه الصلاة و السلام : يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه فراجعه وقال : والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله لأعطين كل ذي حق حقه فدعا له فاتخذ غنما فنمت كما ينمى الدود حتى ضاقت بها المدينة فنزل واد وانقطع عن الجماعة و الجمعة فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقيل كثر ماله حتى لا يسعه واد فقال : يا ويح ثعلبة فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم مصدقين لأخذ الصدقات فاستقبلهما الناس بصدقاتهم ومرا بثعلبة فسألاه الصدقة و أقرآه الكتاب الذي فيه الفرائض فقال : ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية فارجعا حتى أرى رأيي فنزلت فجاء ثعلبة بالصدقة فقال النبي صلى الله عليه و سلم : إن الله منعني أن أقبل منك فجعل يحثو التراب على رأسه فقال هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني فقبض رسول الله صلى الله عليه و سلم فجاء بها إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فلم يقبلها ثم جاء بها إلى عمر رضي الله تعالى عنه في خلافته فلم يقبلها وهلك في زمان عثمان رضي الله تعالى عنه ]

76 - { فلما آتاهم من فضله بخلوا به } منعوا حق الله منه { وتولوا } عن طاعة الله { وهم معرضون } وهم قوم عادتهم الإعراض عنها

77 - { فأعقبهم نفاقا في قلوبهم } أي فجعل الله عاقبة فعلهم ذلك نفاقا وسوء اعتقاد في قلوبهم ويجوز أن يكون الضمير للبخل والمعنى فأورثهم البخل نفاقا متمكنا في قلوبهم { إلى يوم يلقونه } يلقون الله بالموت أو يلقون عملهم أي جزاءه وهو يوم القيامة { بما أخلفوا الله ما وعدوه } بسبب إخلافهم ما وعدوه من التصدق والصلاح { وبما كانوا يكذبون } وبكونهم كاذبين فيه فإن خلف الوعد متضمن لكذب مستقبح من الوجهين أو المقال مطلقا وقرئ { يكذبون } بالتشديد

78 - { ألم يعلموا } أي المنافقون أومن عاهد الله وقرئ بالتاء على الالتفات { أن الله يعلم سرهم } ما أسروه في أنفسهم من النفاق أو العزم على الإخلاف { ونجواهم } وما يتنادون به فيما بينهم من المطاعن أو تسمية الزكاة جزية { وأن الله علام الغيوب } فلا يخفى عليه ذلك

79 - { الذين يلمزون } ذم مرفوع أو منصوب أو بدل من الضمير فيسررهم وقرئ ( يلمزون ) بالضم { المطوعين } المتطوعين { من المؤمنين في الصدقات } روي : [ أنه صلى الله عليه و سلم حث على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف جررهم وقال كان لي ثمانية آلاف فأقرضت ربي أربعة وأمسكت لعيالي أربعة فقال رسول الله صلى عليه وسلم ( بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت ) فبارك الله له حتى صولحت إحدى امرأتيه عن نصف الثمن على ثمانين ألف درهم ] وتصدق عاصم بن عدي بمائة وسق من تمر [ وجاء أبو عقيل الأنصاري بصاع تمر فقال بت ليلتي أجر بالجرير على صاعين فتركت صاعا لعيالي وجئت بصاع فأمره رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ينثره على الصدقات فلمزهم المنافقون و قالوا : ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياء ولقد كان الله ورسوله لغنيين عن صاع أبي عقيل ولكنه أحب أن يذكر بنفسه ليعطى من الصدقات فنزلت ] : { والذين لا يجدون إلا جهدهم } إلا طاقتهم وقرئ بالفتح وهو مصدر جهد في الأمر إذا بالغ فيه { فيسخرون منهم } يستهزئون بهم { سخر الله منهم } جازاهم على سخريتهم كقوله تعالى : { الله يستهزئ بهم } { ولهم عذاب أليم } على كفرهم

80 - { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم } يريد به التساوي بين الأمرين في عدم الإفادة لهم كما نص عليه بقوله : { إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم } [ روي أن عبدالله بن عبدالله بن أبي وكان من المخلصين سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم في مرض أبيه أن يستغفر له ففعل عليه الصلاة و السلام فنزلت فقال عليه الصلاة و السلام : لأزيدن علي السبعين فنزلت ] : { سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم } وذلك لأنه عليه الصلاة و السلام فهم من السبعين العدد المخصوص لأنه الأصل فجوز أن يكون ذلك حدا يخالفه حكم ما وراءه فبين له أن المراد به التكثير دون التحديد وقد شاع استعمال السبعين والسبعين والسبعمائة ونحوها في التكثير لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد فكأنه العدد بأسره { ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله } إشارة إلى أن اليأس من المغفرة وعدم قبول استغفارك ليس لبخل منا ولا قصور فيك بل لعدم قابليتهم بسبب الكفر الصارف عنها { والله لا يهدي القوم الفاسقين } المتمردين في كفرهم وهو كالدليل على الحكم السابق فإن مغفرة الكافر بالإقلاع عن الكفر والإرشاد إلى الحق والمنهمك في كفره المطبوع عليه لا ينقلع ولا يهتدي والتنبيه على عذر الرسول في استغفاره وهو عدم يأسه من إيمانهم ما لم يعلم أنهم مطبوعون على الضلالة والممنوع هو الاستغفار بعد العلم لقوله تعالى : { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم }

81 - { فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله } بقعودهم عن الغزو خلفه يقال أقام خلاف الحي أي بعدهم ويجوز أن يكون بمعنى المخالفة فيكون انتصابه على العلة أو الحال { وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله } إيثارا للدعة والخفض على طاعة الله وفيه تعريض بالمؤمنين الذين آثروا عليها تحصيل رضاه ببذل الأموال والمهج { وقالوا لا تنفروا في الحر } أي قال بعضهم لبعض أو قالوه للمؤمنين تثبيطا { قل نار جهنم أشد حرا } وقد آثرتموها بهذه المخالفة { لو كانوا يفقهون } أن مآبهم إليها أو أنها كيف هي ما اختاروها بإيثار الدعة على الطاعة

82 - { فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون } إخبار عما يؤول إليه حالهم في الدنيا والآخرة أخرجه على صيغة الأمر للدلالة على أنه حتم واجب ويجوز أن يكون الضحك والبكاء كنايتين عن السرور والغم والمراد من القلة العدم

83 - { فإن رجعك الله إلى طائفة منهم } فإن ردك إلى المدينة وفيها طائفة من المتخلفين يعني منافقيهم فإن كلهم لم يكونوا منافقين أو من بقي منهم وكان المتخلفون اثني عشر رجلا { فاستأذنوك للخروج } إلى غزوة أخرى بعد تبوك { فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا } إخبار في معنى النهي للمبالغة { إنكم رضيتم بالقعود أول مرة } تعليل له وكان إسقاطهم عن ديوان الغزاة عقوبة لهم على تخلفهم و { أول مرة } هي الخرجة إلى غزوة تبوك { فاقعدوا مع الخالفين } أي تخلفهم لعدم لياقتهم للجهاد كالنساء والصبيان وقرئ مع ( الخلفين ) على قصر { الخالفين }

84 - { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا } روي : [ أن عبدالله بن أبي دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم في مرضه فلما دخل عليه سأله أن يستغفر له ويكفنه في شعاره الذي يلي جسده ويصلي عليه فلما مات أرسل قميصه ليكفن فيه وذهب ليصلي عليه فنزلت ] وقيل صلى عليه ثم نزلت وإنما لم ينه عن التكفين في قميصه ونهى عن الصلاة عليه لأن الضن بالقميص كان مخلا بالكرم ولأنه كان مكافأة لا لباسه العباس قميصه حين أسر ببدر والمراد من الصلاة الدعاء للميت والاستغفار له وهو ممنوع في حق الكافر ولذلك رتب النهي على قوله : { مات أبدا } يعني الموت على الكفر فإن إحياء الكافر للتعذيب دون التمتع فكأنه لم يحي { ولا تقم على قبره } ولا تقف عند قبره للدفن أو الزيادة { إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون } تعليل للنهي أو لتأبيد الموت

85 - { فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون } تكرير للتأكيد والأمر حقيق به فإن الأبصار طامحة إلى الأموال والأولاد والنفوس مغتبطة عليها ويجوز أن تكون هذه في فريق غير الأول

86 - { وإذا أنزلت سورة } من القرآن ويجوز أن يراد بها بعضها { أن آمنوا بالله } بان آمنوا بالله ويجوز أن تكون أن المفسرة { وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم } ذوو الفضل والسعة { وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين } الذين قعدوا لعذر

87 - { رضوا بأن يكونوا مع الخوالف } مع النساء جمع خالفه وقد يقال الخالفة للذي لا خير فيه { وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون } ما في الجهاد وموافقة الرسول من السعادة وما في التخلف عنه من الشقاوة

88 - { لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم } أي إن تخلف هؤلاء ولم يجاهدوا فقد جاهد من هو خير منهم { وأولئك لهم الخيرات } منافع الدارين النصر والغنيمة في الدنيا والجنة والكرمة في الآخرة وقيل الحور لقوله تعالى : { فيهن خيرات حسان } وهي جمع خيرة تخفيف خيرة { وأولئك هم المفلحون } الفائزون بالمطالب

89 - { أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم } بيان لما لهم من الخيرات الأخروية

90 - { وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم } يعني أسدا وغطفان استأذنوا في التخلف معتذرين بالجهد وكثرة العيال وقيل هم رهط عامر بن الطفيل قالوا إن غزونا معك أغارت طيء على أهلينا ومواشينا و المعذر إما من عذر في الأمر إذا قصر فيه موهما أن له عذرا ولا عذر له أو من اعتذر إذا مهد العذر بإدغام التاء في الذال ونقل حركتها إلى العين ويجوز كسر العين لالتقاء الساكنين وضمهما للاتباع لكن لم يقرأ بهما وقرأ يعقوب { المعذرون } من أعذر إذا اجتهد في العذر وقرئ { المعذرون } بتشديد العين والذال على أنه من تعذر بمعنى اعتذر وهو لحن إذ التاء لا تدغم في العين وقد اختلف في أنهم كانوا معتذرين بالتصنع أو بالصحة فيكون قوله : { وقعد الذين كذبوا الله ورسوله } في غيرهم وهم منافقو الأعراب كذبوا الله ورسوله في إدعاء الإيمان وإن كانوا هم الأولين فكذبهم بالاعتذار { سيصيب الذين كفروا منهم } من الأعراب أو من المعذرين فإن منهم من اعتذر لكسله لا لكفره { عذاب أليم } بالقتل والنار

91 - { ليس على الضعفاء ولا على المرضى } كالهرمى والزمنى { ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون } لفقرهم كجهينة ومزينة وبني عذرة { حرج } إثم في التأخر { إذا نصحوا لله ورسوله } بالإيمان والطاعة في السر والعلانية كنا يفعل الموالي الناصح أو بما قدروا عليه فعلا أو قولا يعود على الإسلام والمسلمين بالصلاح { ما على المحسنين من سبيل } أي ليس عليهم جناح ولا إلى معاتبتهم سبيل وإنما وضع المحسنين موضع الضمير للدلالة على أنهم منخرطون في سلك المحسنين غير معاتبين لذلك { والله غفور رحيم } لهم أو للمسيء فكيف للمحسن

92 - { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم } عطف على { الضعفاء } أو على { المحسنين } وهم البكاؤون سبعة من الأنصار : [ معقل بن يسار وصخر بن خنساء وعبد الله بن كعب وسالم بن عمير وثعلبة بن غنمة وعبد الله بن مغفل وعلية بن زيد أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم وقالوا : قد نذرنا الخروج فاحملنا على الخفاف المرعوقة والنعال المخصوفة نغز معك فقال عليه السلام : لا أجد ما أحملكم عليه فتولوا وهم يبكون ] وقيل هم بنو مقرن معقل وسويد والنعمان وقيل أبو موسى وأصحابه { قلت لا أجد ما أحملكم عليه } حال من الكاف في { أتوك } بإضمار قد { تولوا } جواب إذا { وأعينهم تفيض } تسيل { من الدمع } أي دمعا فإن من للبيان وهي مع المجرور في محل النصب علا التمييز وهو أبلغ من يفيض دمعها لأنه يدل على أن العين صارت دمعا فياضا { حزنا } نصب على العلة أو الحال أو المصدر لفعل دل عليه ما قبله { أن لا يجدوا } لئلا يجدوا متعلق ب { حزنا } أوب { تفيض } { ما ينفقون } في مغزاهم

93 - { إنما السبيل } بالمعاتبة { على الذين يستأذنونك وهم أغنياء } واجدون الأهبة { رضوا بأن يكونوا مع الخوالف } استئناف لبيان ما هو السبب لاستئذانهم من غير عذر وهو رضاهم بالدناءة والانتظام في جملة الخوالف إيثارا للدعة { وطبع الله على قلوبهم } حتى غفلوا عن وخامة العاقبة { فهم لا يعلمون } مغبته

94 - { يعتذرون إليكم } في التخلف { إذا رجعتم إليهم } من هذه السفرة { قل لا تعتذروا } بالمعاذير الكاذبة لأنه : { لن نؤمن لكم } لن يصدقكم لأنه : { قد نبأنا الله من أخباركم } أعلمنا بالوحي إلى نبيه بعض أخباركم وهو ما في ضمائركم من الشر والفساد { وسيرى الله عملكم ورسوله } أتتوبون عن الكفر أم تثبتون عليه فكأنه استتابة وإمهال للتوبة { ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة } أي إليه فوضع الوصف موضع الضمير للدلالة على أنه مطلع على سرهم وعلنهم لا يفوت عن علمه شيء من ضمائرهم وأعمالهم { فينبئكم بما كنتم تعملون } بالتوبيخ والعقاب عليه

95 - { سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم } فلا تعاتبوهم { فأعرضوا عنهم } ولا توبخوهم { إنهم رجس } لا ينفع فيهم التأنيب فإن المقصود منه التطهير بالحمل على الإنابة وهؤلاء أرجاس لا تقبل التطهير فهو علة الإعراض وترك المعاتبة { و مأواهم جهنم } من تمام التعليل ثان والمعنى : أن النار كفتهم عتابا فلا تتكلفوا عتابهم { جزاء بما كانوا يكسبون } يجوز أن يكون مصدرا وأن يكون علة

96 - { يحلفون لكم لترضوا عنهم } بحلفهم فتستديموا عليهم ما كنتم تفعلون بهم { فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين } أي فإن رضاكم لا يستلزم رضا الله ورضاكم وحدكم لا ينفعهم إذا كانوا في سخط الله وبصدد عقابه وإن أمكنهم أن يلبسوا عليكم لا يمكنهم أن يلبسوا على الله فلا يهتك سترهم ولا ينزل الهوان بهم والمقصود من الآية النهي عن الرضا عنهم والاغترار بمعاذيرهم بعد الأمر بالأعراض وعدم الالتفات نحوهم

97 - { الأعراب } أهل البدو { أشد كفرا ونفاقا } من أهل الحضر لتوحشهم وقساوتهم وعدم مخالطتهم لأهل العلم وقلة استماعهم للكتاب والسنة { وأجدر أن لا يعلموا } وأحق بأن لا يعلموا { حدود ما أنزل الله على رسوله } من الشرائع فرائضها وسنتها { والله عليم } بعلم حال كل أحد من أهل الوبر والمدر { حكيم } فيما يصيب به مسيئهم ومحسنهم عقابا وثوابا

98 - { ومن الأعراب من يتخذ } بعد { ما ينفق } يصرفه في سبيل الله ويتصدق به { مغرما } غرامة وخسرانا إذ لا يحتسبه قربة عند الله ولا يرجو عليه ثوابا وإنما ينفق رياء أو تقية { ويتربص بكم الدوائر } دوائر الزمان ونوبه لينقلب الأمر عليكم فيتخلص من الإنفاق { عليهم دائرة السوء } اعتراض بالدعاء علهم بنحو ما يتربصون أو الإخبار عن وقوع ما يتربصون عليهم والدائرة في الأصل مصدر أو اسم فاعل من دار يدور سمي به عقبة الزمان و { السوء } بالفتح مصدر أضيف إليه للمبالغة كقولك رجل صدق وقرأ ابن كثير و أبو عمرو { السوء } هنا وفي الفتح بضم السين { والله سميع } لما يقولون عند الإنفاق { عليم } بما يضمرون

99 - { ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله } سبب { قربات } وهي ثاني مفعولي { يتخذ } وعند الله صفتها أو ظرف ل { يتخذ } { وصلوات الرسول } وسبب صلواته لأنه صلى الله عليه و سلم كان يدعو للمتصدقين ويستغفر لهم ولذلك سن المصدق عليه أن يدعو للمتصدق عند أخذ صدقته لكن ليس له أن يصلي عليه كما قال صلى الله عليه و سلم [ اللهم صل على آل أبي أوفي ] لأنه منصبه فله أن يتفضل به على غيره { ألا إنها قربة لهم } شهادة من الله بصحة معتقدهم وتصديق لرجائهم على الاستئناف مع حرف التنبيه وإن المحققة للنسبة والضمير لنفقتهم وقرأ ورش { قربة } بضم الراء { سيدخلهم الله في رحمته } وعدلهم بإحاطة الرحمة عليهم والسين لتحقيقه وقوله : { إن الله غفور رحيم } لتقريره وقيل الأولى في أسد وغطفان وبني تميم والثانية في عبد الله ذي البجادين وقومه

100 - { والسابقون الأولون من المهاجرين } هم الذين صلوا إلى القبلتين أو الذين شهدوا بدرا والذين أسلموا قبل الهجرة { والأنصار } أهل بيعة العقبة الأولى وكانوا سبعة وأهل بيعة العقبة الثانية وكانوا سبعين والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير وقرئ عطفا على { والسابقون } { والذين اتبعوهم بإحسان } اللاحقون بالسابقين من القبيلتين أو من اتبعوهم بالإيمان والطاعة إلى يوم القيامة { رضي الله عنهم } بقبول طاعتهم وارتضاء أعمالهم { ورضوا عنه } بما نالوا من نعمه الدينية والدنيوية { وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار } وقرأ ابن كثير ( من تحتها الأنهار ) كما في سائر المواضع { خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم }

101 - { وممن حولكم } أي وممن حول بلدتكم يعني المدينة { من الأعراب منافقون } هم جهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار كانوا نازلين حولها { ومن أهل المدينة } عطف على { وممن حولكم } أو خبر لمحذوف ضفته { مردوا على النفاق } ونظيره في حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه قوله :
( أنا ابن جلا وطلاع الثنايا )
وعلى الأول صفة للمنافقين فصل بينها وبينه بالمعطوف على الخير أو كلام مبتدأ لبيان تمررنهم وتمهرهم في النفاق { لا تعلمهم } لا تعرفهم بأعيانهم وهو تقرير لمهارتهم فيه و تنوقهم في تحامي مواقع التهم إلى حد أخفى عليك حالهم مع كمال فطنتك وصدق فراستك { نحن نعلمهم } ونطلع على أسرارهم إن قدروا أن يلبسوا عليك لم يقدروا أن يلبسوا علينا { سنعذبهم مرتين } بالفضيحة والقتل أو بأحدهما وعذاب القبر أو بأخذ الزكاة ونهك الأبدان { ثم يردون إلى عذاب عظيم } إلى عذاب النار

102 - { وآخرون اعترفوا بذنوبهم } ولم يعتذروا عن تخلفهم بالمعاذير الكاذبة وهم [ طائفة من المتخلفين أوثقوا أنفسهم على سواري المسجد لما بلغهم ما نزل في المتخلفين فقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم فدخل المسجد على عادته فصلى ركعتين فرآهم فسأل عنهم فذك له أنهم أقسموا أن لا يحلوا أنفسهم حتى تحلهم فقال : وأنا أقسم أن لا احلهم حتى أومر فيهم فنزلت فأطلقهم ] { خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا } خلطوا الفعل الصالح الذي هو إظهار الندم والاعتراف بالذنب بآخر سيئ هو التخلف وموافقة أهل النفاق والواو إما بمعنى الباء كما في قولهم بعت الشاء شاة ودرهما أو للدلالة على أن كل واحد منهما مخلوط بالآخر { عسى الله أن يتوب عليهم } أن يقبل توبتهم وهي مدلول عليها بقوله { اعترفوا بذنوبهم } { إن الله غفور رحيم } يتجاوز عن التائب ويتفضل عليه

103 - { خذ من أموالهم صدقة } روي : [ أنهم لما أطلقوا قالوا يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفتنا فتصدق بها وطهرنا فقال : ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا ]
فنزلت { تطهرهم } من الذنوب أو حب المال المؤدي بهم إلى مثله وقرئ { تطهرهم } من أطهره بمعنى طهره و { تطهرهم } بالجزم جوابا للأمر { وتزكيهم بها } وتنمي بها حسناتهم وترفعهم إلى منازل المخلصين { وصل عليهم } واعطف عليهم بالدعاء والاستغفار لهم { إن صلاتك سكن لهم } تسكن إليها نفوسهم وتطمئن بها قلوبهم وجمعها لتعدد المدعو لهم وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالتوحيد { والله سميع } لاعترافهم { عليم } بندامتهم

104 - { ألم يعلموا } الضمير إما للمتوب عليهم والمراد أن يمكن في قلوبهم قبول توبتهم والاعتداد بصدقاتهم أو لغيرهم والمراد به التحضيض عليهما { أن الله هو يقبل التوبة عن عباده } إذا صحت وتعديته ب { عن } لتضمنه معنى التجاوز { ويأخذ الصدقات } يقبلها قبول من يأخذ شيئا ليؤدي بدله { وأن الله هو التواب الرحيم } وأن من شأنه قبول توبة التائبين والتفضل عليهم

105 - { وقل اعملوا } ما شئتم { فسيرى الله عملكم } فإنه لا يخفى عليه خيرا كان أو شرا { ورسوله والمؤمنون } فإنه تعالى لا يخفى عنهم كما رأيتم وتبين لكم { وستردون إلى عالم الغيب والشهادة } بالموت { فينبئكم بما كنتم تعملون } بالمجازاة عليه

106 - { وآخرون } من المتخلفين { مرجون } مؤخرون أي موقوف أمرهم من أرجأته إذا أخرته وقرأ نافع و حمزة و الكسائي و حفص { مرجون } بالواو وهما لغتان { لأمر الله } في شأنهم { إما يعذبهم } إن أصروا على النفاق { وإما يتوب عليهم } إن تابوا والترديد للعباد وفيه دليل على أن كلا الأمرين بإرادة الله تعالى { والله عليم } بأحوالهم { حكيم } فيما يفعل بهم وقرئ ( والله غفور رحيم ) والمراد بهؤلاء كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع أمر الرسول صلى الله عليه و سلم أصحابه أن لا يسلموا عليهم ولا يكلموهم فلما رأوا ذلك أخلصوا نياتهم وفوضوا أمرهم إلى الله فرحمهم الله تعالى

107 - { والذين اتخذوا مسجدا } عطف على { وآخرون مرجون } أو مبتدأ خبره محذوف أي و فيمن وصفنا الذين اتخذوا أو منصوب على الاختصاص وقرأ نافع و ابن عامر بغير الواو { ضرارا } مضارة للمؤمنين وروي : [ ( إن بني عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يأتهم فأتاهم فصلى فيه فحسدتهم إخوانهم بنو غنم بن عوف فبنوا مسجدا على قصد أن يؤمهم فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام فلما أتموه أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : إنا قد بنينا مسجدا لذي الحاجة والعلة والليلة المطيرة والشاتية فصل فيه حتى نتخذه مصلى فأخذ ثوبه ليقوم معهم فنزلت فدعا بمالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن والوحشي فقال لهم : انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه ففعل واتخذ مكانه كناسة ] { وكفرا } وتقوية للكفر الذي يضمرونه { وتفريقا بين المؤمنين } يردي الذي كانوا يجتمعون للصلاة في مسجد قباء { وإرصادا } ترقبا { لمن حارب الله ورسوله من قبل } يعني الراهب فإنه قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم يوم أحد : لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين حتى انهزم مع هوازن وهرب إلى الشام ليأتي من قيصر بجنود يحارب بهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ن ومات بقنسرين وحيدا وقيل كان يجمع الجيوش يوم الأحزاب فلما انهزموا خرج إلى الشام و { من قبل } متعلق ب { حارب } أوب { اتخذوا } أي اتخذوا مسجدا من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف لما روي أنه بنى قبيل غزوة تبوك فسألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يأتيه فقال : أنا على جناح سفر وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه فلما قفل كرر عليه فنزلت { وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى } ما أردنا ببنائه إلا الخصلة الحسنى أو الإرداة وهي الصلاة والذكر والتوسعة على المصلين { والله يشهد إنهم لكاذبون } في حلفهم

108 - { لا تقم فيه أبدا } للصلاة { لمسجد أسس على التقوى } يعني مسجد قباء أسسه رسول الله صلى الله عليه و سلم وصلى فيه أيام مقامه بقباء من الاثنين إلى الجمعة لأنه أوفق للقصة أو مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم لقول أبي سعيد رضي الله عنه [ سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عنه فقال هو مسجدكم هذا مسجد المدينة ] { من أول يوم } من أيام وجوده ومن يعم الزمان والمكان كقوله :
( لمن الديار بقنة الحجر ... أقوين من حجج ومن دهر )
{ أحق أن تقوم فيه } أولي بأن تصلي فيه { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } من المعاصي والخصال المذمومة طلبا لمرضاة الله سبحانه وتعالى وقيل من الجنابة فلا ينامون عليها { والله يحب المطهرين } يرضى عنهم ويدنيهم من جنابه تعالى إدناء المحب حبيبه قيل لما نزلت مشى رسول الله صلى الله عليه و سلم ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء فإذا الأنصار جلوس فقال عليه الصلاة و السلام : أمؤمنون أنتم ؟ فسكتوا فأعادها فقال عمر : إنهم مؤمنون وأنا معهم فقال عليه الصلاة و السلام : أترضون بالقضاء ؟ قالوا : نعم قال عليه الصلاة و السلام : أتصبرون على البلاء ؟ قالوا : نعم قال : أتشكرون في الرخاء ؟ قالوا : نعم فقال صلى الله عليه و سلم : أنتم مؤمنون ورب الكعبة فجلس ثم قال : يا معشر الأنصار إن الله عز و جل قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط ؟ فقالوا : يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء فتلا النبي : { فيه رجال يحبون أن يتطهروا }

109 - { أفمن أسس بنيانه } بنيان دينه { على تقوى من الله ورضوان خير } على قاعدة محكمة هو التقوى من الله وطلب مرضاته بالطاعة { أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار } على قاعدة هي أضعف القواعد وأرخاها { فانهار به في نار جهنم } فأدى به لخوره وقلة استمساكه إلى السقوط في النار وإنما وضع شفا الجرف وهو ما جرفه الوادي الهائر في مقابلة التقوى تمثيلا لما بنوا عليه أمر دينهم في البطلان وسرعة الانطماس ثم رشحه بانهياره به في النار ووضعه في مقابلة الرضوان تنبيها على أن تأسيس ذلك على أمر يحفظه من النار ويوصله إلى رضوان الله ومقتضياته التي الجنة أدناها وتأسيس هذا على ما هم بسببه على صدد الوقوع في النار ساعة فساعة ثم إن مصيرهم إلى النار لا محالة وقرأ نافع و ابن عامر { أسس } على البناء للمفعول وقرئ ( أساس بنيانه ) و { أسس بنيانه } على الإضافة و { أسس } و ( أساس ) بالفتح والمد و ( إساس ) بالكسر وثلاثتها جمع أس و { تقوى } بالتنوين على أن الألف لإلحاق لا للتأنيث كتترى وقرأ ابن عامر و حمزة و أبو بكر { جرف } بالتخفيف { والله لا يهدي القوم الظالمين } إلى لا ما فيه صلاحهم ونجاحهم

110 - { لا يزال بنيانهم الذي بنوا } بناؤهم الذي بنوه مصدر أريد به المفعول وليس بجمع ولذلك قد تدخله التاء ووصف بالمفرد وأخبر عنه بقوله : { ريبة في قلوبهم } أي شكا ونفاقا والمعنى أن بناءهم هذا لا يزال سبب شكهم وتزايد نفاقهم فإنه حملهم على ذلك نثن لما هدمه الرسول صلى الله عليه و سلم رسخ ذلك في قلوبهم وأزداد بحيث لا يزول وسمه عن قلوبهم { إلا أن تقطع قلوبهم } قطعا بحيث لا يبقى لها قابلية الإدراك وهو في غاية المبالغة والاستثناء من أعم الأزمنة وقيل المراد بالتقطع ما هو كائن بالقتل أو في القبر أو في النار وقيل التقطع بالتوبة ندما وأسفا وقرأ يعقوب ( إلى ) بحرف الإنتهاء و { تقطع } بمعنى تتقطع وهو قراءة ابن عامر و حمزة و حفص وقرئ ( يقطع ) بالياء و { تقطع } بالتخفيف و { تقطع قلوبهم } على خطاب الرسول أو كل مخاطب ولو قطعت على البناء للفاعل والمفعول { والله عليم } بيناتهم { حكيم } فيما أمر بهدم بنيانهم

111 - { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } تمثيل لإثابة الله إياهم الجنة على بذل أنفسهم وأمولهم في سبيله { يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون } استئناف ما لأجله الشراء وقيل { يقاتلون } في معنى الأمر وقرأ حمزة و الكسائي بتقديم المبني للمفعول وقد عرفت أن الواو لا توجب الترتيب وأن فعل البعض قد يسند إلى الكل { وعدا عليه حقا } مصدر مؤكد لما دل عليه الشراء فإنه في معنى الوعد { في التوراة والإنجيل والقرآن } مذكورا فيهما كما أثبت في القرآن { ومن أوفى بعهده من الله } مبالغة في الإنجاز وتقرير لكونه حقا { فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به } فافرحوا به غاية الفرح فإنه أوجب لكم عظائم المطالب كما قال : { وذلك هو الفوز العظيم }

=

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ماذا يأمرنا به الله تعالي في سورة الانسان؟

لأوامر العملية في القرآن من سورة الإنسان إلى سورة الغاشية   الأوامر العملية في سورة الإنسان ﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْ...